تفسير انجيل مرقس 8 الأصحاح الثامن – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير انجيل مرقس 8 الأصحاح الثامن – القمص تادرس يعقوب ملطي
الأصحاح الثامن
المسيح المشبع
جاءت الأصحاحات 8-10 تحمل أسئلة كثيرة، منها أسئلة قدمها السيد نفسه، وبعضها التلاميذ، وأحيانًا الشعب أو المقاومون له. كلها كشفت بالأكثر عن شخص السيد المسيح العامل لحساب البشرية موضوع حبه.
في هذا الأصحاح كشفت الأسئلة عن شخصه كمصدر شبع حقيقي للنفس.
- سؤال حول الخبز 1-10.
- سؤال حول الآية 11-12.
- حوار حول الخمير 13-21.
- سؤال حول البصيرة 22-26.
- سؤال حول شخص المسيح 27-30.
- إعلانه عن الصليب 31-33.
- إعلانه عن شركة الصليب 34-38.
- سؤال حول الخبز
سبق فبارك الرب الخبز والسمكتين لإشباع خمسة آلاف رجلٍ ماعدا الرجال والنساء (6: 34-44)، إذ تحنن الرب عليهم عندما رآهم كخرافٍ بلا راعٍ، وقد أطال الحديث معهم في موضع خلاء. وأراد التلاميذ أن يصرفهم السيد ليبتاعوا خبزًا، فلم يرد أن يصرفهم جائعين. وها قد سنحت فرصة أخرى فيها بقت الجموع ثلاثة أيام مع السيد وليس لهم ما يأكلونه، وقد رفض السيد أيضًا أن يصرفهم صائمين لئلا يخوروا في الطريق، “لأن قومًا منهم جاءوا من بعيد” [3].
في شفائه المرضى وإخراج الشياطين لم يقدر الإنجيليون أن يحصروا عدد الأشفية والآيات التي صنعها، حتى قال الإنجيلي يوحنا: “وأشياء أُخر كثيرة صنعها يسوع إن كتبت واحدة واحدة، فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة” (يو 21: 25). أما في أمر إشباع الجموع فعلى ما يظن لم يمارسه سوى مرتين حتى لا يلتف الجمع حوله من أجل الخبز المادي، فتنحرف نظرتهم إلى الزمنيات عوض الشبع الروحي. أما عدم تجاهله هذا الإشباع، إنما ليكشف أنه أيضًا يهتم بالجسد، ولكن ليس على حساب الروحيات.
سبق لنا دراسة هاتين المعجزتين خاصة ما حملتاه من جوانب رمزية راجع تفسير مت 14: 14-21؛ 15: 32-38، لذا أكتفي هنا بإبراز النقاط التالية:
أولاً: لا نستطيع تجاهل التشابه الشديد بين معجزتي إشباع الجموع الواردتين في الأصحاحين 6 و 8 وما لازمهما من ظروف متقاربة للغاية[1]:
أ. إشباع 5000 رجلٍ (6: 35-44). أ. إشباع الـ4000 (8: 1-9).
ب. عبور البحيرة (6: 45-52). ب. عبور البحيرة (8: 10).
ج. عبورهم إلى جنيسارت (6: 53-56). ج. عبورهم إلى دلمانوثة (8: 10).
د. حواره بعدها مع الفريسيين عن د. حواره بعدها مع الفريسيين عن
الأيدي الدنسة (7: 1-23). الآية من السماء (8: 11).
ه. حواره مع الفينيقية عن خبز ه. حواره مع التلاميذ عن خمير
البنين (7: 24-30). الفريسيين (8: 13-21).
و. شفاء الأصم الأعقد (7: 31-37). و. شفاء الأعمى (8: 22-26).
هذا التشابه الشديد في الظروف المحيطة بالمعجزتين يربط بينهما رباطًا وثيقًا كما رأينا في دراستنا لإنجيل معلمنا متى البشير[2] بكون الأولى تعلن عن شخص المسيّا مشبع اليهود أو أصحاب الناموس، والثانية عن ذات المسيّا المشبع أيضًا للأمم، وأن المعجزتين تحملان ذات المعنى والمفهوم. أما تشابه الأحداث الملازمة لهما واللاحقة لهما، فلا يمكن أن يكون محض صدفة، إنما تعني مفهومًا روحيًا يمس حياتنا، يمكننا أن نلخصه في الآتي:
أ. في المعجزتين إذ شبعت الجموع دخل السيد المسيح السفينة ومعه تلاميذه ليعبروا البحيرة إلى الشاطيء الآخر. كأن غاية إشباعه لنفوسنا أن نتذوق العبور أو الخروج بالمسيح يسوع خلال صليبه المحيي (السفينة) لينطلق قلبنا من برية هذا العالم، مجتازًا أمواجه وتياراته، ليدخل إلى الحياة الأخرى ويتمتع بالأبدية، هذا الخروج لن يتحقق خارج السيد المسيح رأس الكنيسة وقائدها.
ب. إذ شبعت الجموع قام الفريسيون في المرتين يحاورونه تارة عن الأيدي الدنسة وأخرى يطلبون آية من السماء. وكأنه بينما ينشغل السيد المسيح بإشباعنا داخليًا والانطلاق بنا إلى أحضان أبيه خلال ثبوتنا فيه، يبذل عدو الخير كل جهده لإثارتنا في مناقشات غبية تفسر نقاوة القلب الداخلي. يريد العدو أن يسحبنا من الشبع الداخلي إلى الغسلات المظهرية أو الآيات المثيرة للخارج.
ج. بعد المعجزة الأولى تحدث مع الفينيقية عن خبز البنين الذي كان يود أن يتمسك به أصحاب الناموس كبنين لكنهم رفضوه فقُدم للأمم الغرباء، وبعد المعجزة الثانية حدث تلاميذه عن خمير الفريسيين محذرًا إياهم لئلا يأكلوا منه، طالبًا أن ينعموا به هو شخصيًا، الخبز الواحد النازل من السماء!
د. بعد المعجزة الأولى شفى السيد المسيح الرجل الأصم الأعقد، أما بعد الثانية فشفى الأعمى. وكأن السيد مشبع النفوس قد جاء ليفتح أذاننا الروحية لسماع كلمته، ولساننا لتمجيده، وأعيننا لمعاينة بهاء مجده.
ثانيًا: ما هو الخبز الذي قدمه السيد للجموع بعد أن مكثوا معه ثلاثة أيام ولم يكن لهم ما يأكلونه [2] إلا جسده المقدس القائم من بين الأموات في اليوم الثالث؟ فمن يقبل معه آلامه ويحمل صليبه ويُدفن معه يكون كصائمٍ عن العالم بلا طعام يسلمه الرب جسده طعامًا محييًا، الجسد القائم من الأموات!
يرى بعض الآباء أن هذا الخبز يشير إلى كلمة الله أو كلمة الكرازة بالإنجيل التي قُدمت للبشرية الجائعة، فيقول القديس أغسطينوس: [ما تأكلونه أنتم آكل منه أنا أيضًا، وما تعيشون عليه أعيش أنا أيضًا عليه، إذ لنا في السماء مخزن مشترك منه تأتي كلمة الله… أنتم تعلمون أن وليمة الله غالبًا ما نسمع عنها أنها خاصة بالقلب لا بالبطن[3].] ويقول البابا غريغوريوس (الكبير): [لم يرد أن يصرفهم صائمين لئلا يخوروا في الطريق، إذ يليق بمن يستمع الكرازة أن يجد كلمة تعزية، لئلا بسبب جوعهم وحرمانهم من طعام الحق يسقطون تحت ثقل متاعب الحياة[4].]
إن كان هذا الخبز يشير إلى كلمة الكرازة، فإن بعض الدارسين يرون في رقم 7 (سبع خبزات) إشارة إلى السبعين رسولاً الذين قاموا بالكرازة بين الأمم، وإلى السبعة شمامسة[5] (أع 6: 3) ، غير أن كثير من الآباء يرون في رقم 7 إشارة إلى أعمال الروح القدس في كنيسة المسيح، وكأن هذا الخبز الذي هو كلمة الكرازة هو عطية الروح القدس للمؤمنين في كنيسة المسيح. بمعنى آخر الروح القدس العامل في الكنيسة خاصة خلال الأسرار السبعة يقدم لنا كلمة الله حية وفعّاله وعملية في حياتنا لتدخل بنا إلى الكمال.
يقول القديس أغسطينوس: [السبع خبزات تعني أعمال الروح القدس السبعة، والأربعة آلاف رجل هي الكنيسة المؤسسة على الأناجيل الأربعة، والسبعة سلال من الفضلات هي كمال الكنيسة، فإنه بهذا الرقم يُرمز للكمال دائمًا[6].] ويقول الأب ثيؤفلاكتيوس: [رقم 7 يشير إلى الروح القدس الذي يكمل كل شيء، إذ تكمل حياتنا خلال السبعة أيام[7].]
ويرى القديس أمبروسيوس[8] أن هذا الطعام يشير إلى القوة التي يمنحها لمؤمنيه، فإن كان في وصيته يطالبنا بالمثابرة والجهاد، لكنه هو الذي يهبنا القوة حتى لا نخور في الطريق. إنه يبعث بقوته للجميع. يوزع للكل ولا يتجاهل أحدًا، فإن امتنع إنسان عن بسط يديه لينال قوة الروح الداخلي خار في طريق جهاده.
ثالثًا: أحصى عدد الرجال، لكنه لم يحرم النساء ولا الأطفال من الطعام، وكما يقول القديس أغسطينوس: [دع هؤلاء يأكلون، ليأكل الأطفال فينمون ولا يصيرون بعد أطفالاً، ولينصلح من هو مدللون كالنساء فيصيرون محصنين[9].] هذا ويرى البعض أن العدد الوارد هنا (4000) يشمل الكل وليس الرجال فقط كما في المعجزة السابقة.
رابعًا: بالنسبة للسلال السبع التي جمعها التلاميذ وقد امتلأت من الفضلات علامة البركة المسيحانية، فهي تشير إلى الكنائس السبع (رؤ 1: 12-20)، وقد حلّ في وسطها ابن الإنسان ينيرها ويشبعها خلال كلمة الإنجيل عاملاً بروحه القدوس فيها.
هذا ويلاحظ أن كلمة “سلال” هنا جاء باليونانية “Spyris” بينما في المعجزة الأولى استخدمت الكلمة اليونانية “Kophinos” والتي ترجمت “قفة”. فإن كانت القصة التي بين أيدينا تشير إلى شبع الأمم بالمسيا المخلص بينما القصة السابقة تشير إلى شبع اليهود به، فإن كلمة Spyris تعني سلة عادية أو سلة سمك يستخدمها الكل أما كلمة Kophinoi فهي تمثل نوعًا من السلال خاص بالشعب اليهودي يستخدمه فقراؤهم في روما[10]. لنفس السبب في المعجزة التي بين أيدينا عدد السلال سبع إشارة إلى كمال الكرازة في العالم كله، أما في المعجزة السابقة فعددهم 12 إشارة إلى الاثنى عشر سبطًا.
- سؤال حول الآية
“فخرج الفريسيون وابتدأوا يحاورونه، طالبين منه آية من السماء لكي يجربوه. فتنهد بروحه، وقال: لماذا يطلب هذا الجيل آية؟ الحق أقول لكم لن تُعطي هذا الجيل آية” [11-12].
بعد إشباع الخمسة آلاف رجل على يدي التلاميذ عوض أن ينشغل الفريسيون بهذا العمل الفائق ليروا فيه تحقيقًا للنبوات، إذ جاء المسيا ووهب تلاميذه أن يقدموا بركته للجماهير فتشبع، رأوا في أيديهم أنها دنسة لأنها لم تتطهر بالماء قبل الأكل حسب تقاليد اليهود. الأيدي التي تمتعت بعطية الله لتقدم ما يشبع الجماهير وتجمع بالبركة فضلات كثيرة كانت في أعينهم دنسة، والآن إذ أكد لهم أنه المسيا مشتهى الأمم ومتمم النبوات بإشباع أربعة آلاف أخرى عوض أن يعيدوا النظر فيما فعلوه ازدادوا جهالة، إذ طلبوا منه آية من السماء لكي يجربوه. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لم يطلبوا آية لكي يؤمنوا وإنما لكي يمسكوه، فلو كان المقاومون مستعدين لقبول الإيمان لصنع لهم آية[11].]
لقد أراد السيد المسيح أن يدخل بهم إلى السماء عينها، مقدمًا نفسه المن الحقيقي النازل من السماء الواهب حياة أبدية (يو 6)، لكنهم لم يطلبوا الشبع، بل طلبوا علامة منظورة في الطبيعة للجدال والمقاومة. وهم في هذا لم يستطيعوا أن يميزوا بين مجيء السيد المسيح الأول لتقديم الخلاص للعالم كله خلال محبته الفائقة، وبين مجيئه الثاني ليدين العالم. فعلامة مجيئه الأول هي بسط يديه بالحب واللطف نحو كل نفس خاصة على الصليب، أما علامة مجيئه الثاني للدينونة فهي تزعزع قوات السماء، والشمس والقمر لا يعطيان ضوءهما الخ.
لقد تنهد السيد بروحه، وقال: “لماذا يطلب هذا الجيل آية؟” كأنه في مرارة يرى في هذا الجيل الذي كان يجب أن يكون كارزًا بالإنجيل ومعلمًا للعالم عن الخلاص بالصليب، قد تحول عن رسالته إلى تجربة الرب، كآبائهم الذين جربوا الرب. يقول موسى النبي: “ودعا اسم الموضع مسّة ومريبة من أجل مخاصمة بني إسرائيل ومن أجل تجربتهم للرب، قائلين: أفي وسطنا الرب أم لا؟” (خر 17: 7). ويقول المرتل: “فلا تقسوا قلوبكم كما في مريبة، مثل يوم مسة في البرية، حيث جربني آباؤكم، اختبروني، أبصروا أيضًا فعلي، أربعين سنة مقت ذلك الجيل” (مز 95: 8-10).
- حوار حول الخمير
“ثم تركهم ودخل أيضًا السفينة ومضى إلى العبر، ونسوا أن يأخذ خبزًا، ولم يكن معهم في السفينة إلا رغيف واحد، وأوصاهم قائلاً: أنظروا وتحرزوا من خمير الفريسيين وخمير هيرودس” [13-15].
أولاً: كشف لنا الإنجيلي عن شوق التلاميذ لتبعيته، فمع أنهم جمعوا سبع سلال من الكسر، لكنهم إذ رأوه يدخل السفينة نسوا أن يأخذوا معهم خبزًا، إذ شغلهم السيد الرب عن الاهتمام حتى بالضروريات كالخبز. محبتهم للرب سحبت قلوبهم عن كل ما هو أرضي. لذلك يقول القديس يوحنا سابا: [من ذاق حلاوة ثمار شجرة الحياة، ويريد أن يجري نحو ثمار (محبة) العالم النتنة؟[12]]، كما يقول: [الذين لم يجربوا لذة محبة الله هم مساكين وتعساء، فالله يعطي لمحبيه طيبًاK وبه يسكرهم ويلذذهم[13].]
ثانيًا: قال الإنجيلي “ولم يكن معهم في السفينة إلا رغيف واحد“، لكي يعلن أنه حتى التلاميذ لم يكونوا قد انفتحت أعينهم خلال معجزة إشباع الجموع ليدركوا أن في وسطهم “خبز الحياة” (يو 6: 51) الذي يشبع الكنيسة كلها ويهبها وحدانية الروح، كقول الرسول: “فإننا نحن الكثيرين خبز واحد جسد واحد لأننا نشترك في الخبز الواحد“ (1 كو 10: 17). كان التلاميذ في حاجة إلى تعليم السيد المسيح لينزع عنهم خمير الفريسيين وخمير هيرودس، فتنفتح أعينهم لمعاينة الرغيف الواحد السري، يسوع المسيح ربنا.
ثالثًا: إذ كان التلاميذ لم يزالوا غير قادرين على إدراك مفهوم الطعام الروحي والتعرف على السيد المسيح خبز الحياة، لذلك عندما سألهم أن يتحرزوا من خمير الفريسيين وخمير هيرودس ارتبكوا، قدم لهم سبعة أسئلة تكشف عن جراحاتهم، وتدخل بهم إلى الفهم الروحي، بالرغم من أنه لم يقدم لهم الإجابة، وهي:
أ. لماذا تفكرون أن ليس عندكم خبز؟ [17]، ليكشف أنه العارف بأفكارهم التي لم تكن بعد قادرة أن تنطلق فوق المادة.
ب. ألا تشعرون بعد ولا تفهمون؟ [17]، ليثيرهم للدخول إلى الأعماق، وإدراك من هو الذي في وسطهم، وما هي غاية أعماله.
ج. أحتى الآن قلوبكم غليظة؟ [17]، ليعلن عن حاجتهم إلى تجديد القلب تمامًا ليحمله في داخله ويدرك أسرار ملكوته.
د ، ه . ألكم أعين ولا تبصرون، ولكم آذان ولا تسمعون؟ [18]، فإنه يذكرهم بما قاله إرميا النبي عن الشعب قديمًا: “الذين لهم أعين ولا يبصرون، ولهم آذان ولا يسمعون“ (إر5: 21)، فإذ لهم الحواس الجسدية دون الروحية لا ينعمون بالإدراكات السماوية. وكأنه يدفعهم لطلب إمكانيات العهد الجديد للتمتع خلال الإنسان الجديد بالإدراكات السماوية.
و، ز. “ولا تذكرون، حين كسرت الأرغفة الخمسة للخمسة الآلاف كم قفة مملوءة كسرًا رفعتم؟ قالوا اثنتي عشر. وحين السبعة للأربعة الآلاف كم سل كسر مملوءًا رفعتم؟ قالوا سبعة. فقال لهم كيف لا تفهمون؟” إنه يثيرهم لتذكار أعماله التي تمت بين أيديهم التي تعلن – خلال العهد القديم – أسرار ملكوت الله، وتذكرهم بالرموز والنبوات التي تتحقق الآن قدامهم. وأيضًا يسألهم أن يمعنوا النظر في معجزتي إشباع الجموع ليفهموا أنه “خبز السماء” المشبع للنفوس.
رابعًا: يفسر لنا الإنجيليان متى (16: 12)، ولوقا (12: 1) خمير الفريسيين والصدوقيين أنه رياؤهم، إذ تتطلع اليهود إلى الخمير كرمزٍ للقوة المفسدة (1 كو 5: 6-8؛ غل 5: 9)، أما خمير هيرودس فيعني مكره، إذ دعاه السيد المسيح ثعلبًا. وقد اشترك الفريسيون مع هيرودس وأتباعه في مقاومة السيد المسيح تحت ستار الحق من أجل حفاظهم على مراكزهم الاجتماعية ومكاسبهم الظاهرة. وكأن السيد يحذر أتباعه من الرياء والمكر حتى يمكنهم إدراك الحق ببصيرة روحية سماوية.
سبق لنا الحديث عن خمر الرياء في دراستنا لإنجيل متى[14]، لذا أكتفي هنا بعرض مقتطفات للقديس كيرلس الكبير: [الرياء أمر مكروه لدى الله، وممقوت من الناس، لا يجلب مكافأة، ولا يصلح قط في خلاص النفس بل بالحري يهلكها. إن كان أحد يهرب بالرياء لئلا يُكتشف أمره فإلى حين، لكنه لا يدم طويلاً إذ ينفضح الأمر ويجلب له عارًا، فيكون كالنساء قبيحات المنظر عندما تُنزع عنهن الزينة الخارجية القائمة على وسائل صناعية. الرياء إذن غريب عن القديسين!
ليس شيء يُقال أو يُعمل يختفي عن عيني اللاهوت، إذ قيل: “ليس مكتوب لن يُستعلن ولا خفي لا يُعرف“ (لو 12: 2). فإن كانت كلماتنا وأعمالنا تظهر في يوم الدينونة يكون الرياء تعبًا باطلاً. يليق بنا بالحري أن نتزكى كعابدين حقيقيين نخدم الله بملامح صادقة وصريحة[15].]
4.سؤال حول البصيرة
بعد أن أشبع الجموع بخمس خبزات وقليل من صغار السمك معلنًا أنه هو سرّ شبع الكنيسة الحقيقي، يشبعها بسكناه فيها، وبعمل وصيته داخلها، وموهبة روحه القدوس، نجده الآن يفتح عيني أعمى في بيت صيدا ليؤكد أنه هو “سرّ الاستنارة الحقيقي”.
يقول الإنجيلي: وجاء إلى بيت صيدا، فقدموا له أعمى، وطلبوا إليه أن يلمسه. فأخذ بيد الأعمى وأخرجه إلى خارج القرية، وتفل في عينيه، ووضع يديه عليه، وسأله هل أبصر شيئًا. فتطلع وقال: أبصر الناس كأشجار يمشون. ثم وضع يديه أيضًا على عينيه، وجعله يتطلع، فعاد صحيحًا، وأبصر كل إنسان جليًا. فأرسله إلى بيته قائلاً: لا تدخل القرية، ولا تقل لأحد في القرية” [22-26].
أولاً: عُرفت بيت صيدا بعدم إيمانها حتى صارت ممثلة روحيًا في شخص هذا الأعمى، الأمر الذي كشفه حديث السيد عنها: “ويل لك يا بيت صيدا، لأنه لو صُنعت في صور وصيدا القوات المصنوعة فيكما لتابتا قديمًا في المسوح والرماد“ (مت 11: 21). هذا وأن “بيت صيدا” تعني “بيت الوادي”، فترمز للعالم وادي الدموع، أصاب البشرية بالعمى الروحي وأفقدها الاستنارة الداخلية.
من هم الذين قدموا الأعمى إلا آباء وأنبياء العهد القديم الذين قدموا للسيد المسيح العالم وقد أصابه العمى، قدموه خلال النبوات والرموز لينعم العالم به كمخلص ويقبل عمله فيه واهبًا إياه روح الاستنارة. وقد اشترك مع رجال العهد القديم التلاميذ والرسل الذين كرزوا في العالم الأممي وقدموه للسيد ليفتح بصيرته.
ثانيًا: “فأخذ بيد الأعمى وأخرجه إلى خارج قريته” [23].
إذ يمسك السيد المسيح بأيدينا، فإن أول عمل يقوم له في حياتنا هو أن ينطلق بنا إلى خارج قريتنا. يحملنا بصليبه إلى خارج “الأنا”، فلا نحيا بعد لحساب ذواتنا، بل لحساب ذاك الذي أحبنا ومات لأجلنا، نحيا بالصليب غير متوقعين حول الذات، بل ننطلق بالحب لنستقبل الله وخليقته في أعماقنا بقلب متسع يضم الكل فيه. لعل هذا هو ما قصده الرسول بولس حين قال: “مع المسيح صلبت، فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيّ” (غل 2: 20)، وأيضًا: “كما أنا أيضًا أرضي الجميع في كل شيء غير طالب ما يوافق نفسي بل الكثيرين لكي يخلصوا“ (1 كو 10: 33).
ولعل خروج الأعمى بيد السيد المسيح إلى خارج قريته يمثل دعوة إلهية لخروجنا معه إلى أورشليم نحمل عار الصليب (عب 13: 13).
ثالثًا: عند شفاء الأعمى استخدم السيد التفل في عينه، ووضع يديه عليه، بالعمل الأول أشار إلى الحكمة الخارجة من فيه، وبالثاني أشار إلى حاجته لليد الإلهية أو الإمكانيات الربانية للعمل، وكأن استنارة البصيرة الداخلية لا تقوم على الحكمة مجردة عن العمل، ولا على العمل المجرد عن المعرفة أو الحكمة الإلهية. استنارتنا الداخلية تقوم على التمتع بالشركة العملية مع الله في المسيح يسوع، فننعم بمعرفته ونسلك بروحه. بمعنى آخر إيماننا ليس فكرًا عقلانيًا نعتنقه، ولا سلوكًا أخلاقيًا نمارسه، إنما هو حياة متكاملة تنبعث عن الإيمان الحيّ العامل بالمحبة، لا فصل فيها بين إيمان وأعمال!
رابعًا: سأله السيد المسيح إن كان يبصر شيئًا، لا لكي يكشف للسيد عما يراه، إذ يعرف الرب كل شيء، إنما ليحثه على الإيمان، كما سبق فسأل الله آدم: أين أنت؟ لا ليعرف موضعه، إنما ليحثه على التوبة.
من أجل ضعف إيمانه لم تكن رؤيته كاملة، فاحتاج إلى سؤال الرب ليعينه، وقد أجاب أنه يرى الناس كأشجار يمشون [24]. إنه يرى لكن ليس بروح التمييز، لذلك وضع الرب يديه عليه مرة أخرى، ووهبه هذه العطية ليرى كل إنسان جليًا.
لعل رؤيته للناس كأشجارٍ تعني ما أصابه من إحباط ويأس، فقد حسب الكل أشجارًا عالية تتحرك نحو السماء لتقدم ثمارًا إلهيًا أما هو ففي عيني نفسه يبدو عاجزًا في وسطهم يحتاج إلى من يسنده ويملأه رجاءً، فيصير مغروسًا في بيت الرب، شجرة زيتون خضراء مثمرة (مز 52: 8).
خامسًا: إذ أبصر الناس جليًا أرسله إلى بيته، وكأنه أراد له أن يعود فيتأمل قلبه ليكتشف في داخله ملكوت السماوات. وكما يقول القديس يوحنا سابا: [طوبى لمن كنزه داخله، ومن خارجه لا يتغذى! طوبى لمن شمسه تشرق داخله، ولا يدع الآخرين يبصرونها! طوبى لمن سمعه مسدود عن نغمات اللهو، لكنه ينصت لسماع الحركات النورانية التي للسمائيين! طوبى لمن استنشاقه عبير الروح القدس وتمتزج رائحة جسده بذلك! طوبى لمن اصطبغت نفسه بحلاوة الله وأيضًا عظامه اقتنت منه دسمًا[16]!]
سادسًا: أخيرًا سأله السيد أن يصمت معلنًا له أن ما فعله كان من أجل المحبة، وليس عن حب للمديح أو طلب مجد من الناس.
- سؤال حول شخص المسيح
إن كان قد سأل الأعمى عما يراه ليحثه على طلب المزيد والتمتع باستنارة عينيه بصورة أكمل، الآن في الطريق بين قرى قيصرية فيلبس سأل تلاميذه ليهبهم استنارة إيمانية ليدركوا شخصه هو، فينعموا به، ويروه بعيني الإيمان المستنيرتين.
“سأل تلاميذه قائلاً لهم: من يقول الناس إني أنا.
فأجابوا: يوحنا المعمدان، وآخرون إيليا، وآخرون واحد من الأنبياء.
فقال لهم: وأنتم من تقولون إني أنا؟
فأجاب بطرس وقال له: أنت المسيح.
فإنتهرهم كي لا يقولوا لأحد عنه” [27-30].
لقد سألهم لكي يكشف لهم عن شخصه ويدفعهم للاعتراف به بعد إدراكهم له بإعلان إلهي، فيمجدوه أكثر من العامة. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لقد قادهم إلى مشاعر أسمى وأفكار أعلى بخصوص شخصه حتى لا يكونوا كبقية الجموع[17].] لذلك يعلق القديس جيروم على قول السيد: “وأنتم من تقولون إني أنا؟” بقوله أن التلاميذ لم يعودوا بعد من الناس لكنهم صاروا به آلهة، [كأنه يقول لهم أنهم كبشر قد فكروا في أمور بشرية وأنتم كآلهة من تقولون إني أنا[18]؟]
لقد رأينا في دراستنا للأصحاح السادس (14-16) أن هيرودس قال عنه أنه يوحنا المعمدان خلال ضميره المعذب، وآخرون قالوا أنه إيليا خلال شوقهم لمجيء الملكوت المسيحاني كملكوت زمني مادي، وآخرون قالوا أنه أحد الأنبياء بسبب مرارة أنفسهم لغياب الأنبياء عنهم ثلاثة قرون. جاءت هذه الأقوال خلال مشاعر بشرية بحتة، أما بطرس فأدرك سره خلال إعلان إلهي، قائلاً: “أنت هو المسيح ابن الله الحيّ“ (مت 16: 16-17).
فيما يلي مقتطفات من تعليق القديس أمبروسيوس عن هذا الموقف:
[يمكننا اعتبار شهادة الجموع له بلا نفع، فقد ظنه البعض إيليا قد قام مؤمنون بمجيئه، وآخرون آمنوا بقيامة يوحنا عالمين أن رأسه قد قطعت، وآخرون أنه واحد من الأنبياء القدامى.
البحث في ذلك (أي في شخص المسيح) أمر يفوق قدرتنا، لكنه يتناسب مع فكر شخص كبولس وحكمته، هذا الذي يكفيه أن يعرف المسيح وإياه مصلوبًا (1 كو 2: 2)، لأنه أية معرفة يشتاق إليها أكثر من أنه المسيح؟ ففي هذا الاسم “المسيح” يتجلى اللاهوت ويُعلن التجسد وأيضًا الآلام.
لقد عرفه بقية التلاميذ، لكن بطرس وحده قال: “مسيح الله” (لو 9: 20)، إذ يشمل هذا الاسم كل شيء، ويعّبر عن طبيعته، ويحوي كل الفضائل.
هل نثير تساؤلات حول كيفية ميلاد الرب بينما يقول بولس أنه لا يعرف شيئًا إلا المسيح وإياه مصلوبًا، ويعترف بطرس أنه مسيح الله! نحن بعيون الضعف البشري نبحث هكذا: متى وكيف وما هي عظمته، أما بولس فيرى في هذه التساؤلات هدمًا لا بناء، لذا لا يريد أن يعرف إلا يسوع المسيح.
عرف بطرس أن في “ابن الله” يكمن كل شيء، فقد دفع الآب كل شيء في يده (يو 3: 35)… لذا فيه الأزلية والعظمة التي للآب.
إني قبلت الإيمان بأنه المسيح ابن الله (مت 16: 16) فلا يجوز لي أن أعرف كيف وُلد، لكن لا يجوز لي أيضًا أن أجهل حقيقة ميلاده.
لتؤمن إذن كما آمن بطرس، فتطوّب أنت أيضًا وتتأهل لسماع الكلمات: “إن لحمًا ودمًا لم يعلن لك لكن أبي الذي في السماوات” (مت 16: 17). فاللحم والدم لا يقبلان إلا الأرضيات، أما من ينطق بأسرار الروح فلا يعتمد على تعاليم اللحم والدم بل على الإعلان الإلهي.
ليتك لا تعتمد على اللحم والدم لتأخذ منهما أوامرك، فتصير أنت نفسك لحمًا ودمًا، وإنما من يلتصق بالرب يكون معه روحًا واحدًا (1 كو 6: 17). يقول الله: لا يدين روحي في الجسد بعد لأن كل تصورات قلبه شريرة (تك 6: 3).
ليسمح الرب ألا يكون السامعون لحمًا ودمًا، بل يكونوا متغربين عن شهوة اللحم والدم، فيردد كل واحد منهم: “لا أخاف، ماذا يصنعه بي الإنسان (أي اللحم والدم)؟” (مز 56: 5).
من يغلب الجسد يصير من أعمدة الكنيسة؛ إن لم يستطع أن يبلغ إلى بطرس فإنه يتمثل به ويتمتع بعطايا الله إذ هي كثيرة، يرد لنا مالا تركناه بل ما هو له.
يحق لنا أن نتساءل: لماذا لم يرَ فيه الجموع إلا إيليا أو إرميا أو يوحنا المعمدان؟
ربما رأيت فيه إيليا لأنه أُختطف إلى السماء؛ لكن المسيح ليس كإيليا إذ لم يُختطف إليها بل جاء منها. الأول أُختطف إلى السماء، أما الثاني فلا يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله (في 2: 6). الأول انتقم بالنار التي طلبها (1 مل 18: 38) والثاني أحب خلاص المسيئين إليه لا هلاكهم.
لماذا اعتقدوا أنه إرميا؟ ربما لأنه تقدس من الرحم (إر 1: 4)، لكن المسيح ليس كإرميا. الأول تقدس، أما الثاني فهو يقّدس، الأول بدأ بميلاده أما الثاني فهو قدوس القديسين.
لماذا ظنه الشعب يوحنا؟ ربما لأن يوحنا عرف الرب وهو في بطن أمه، لكن المسيح ليس كيوحنا. يوحنا سجد وهو بعد في الرحم، والثاني هو المسجود له. الأول عمّد بالماء، وأما المسيح فبالروح. الأول نادى بالتوبة والثاني غفر الخطايا[19].]
أخيرًا فقد “انتهرهم كي لا يقولوا لأحد عنه” [30]، أما علة انتهاره لهم، فهو لكي يتم المكتوب عنه ويتحقق صلبه، فلو عرفوا رب المجد لما صلبوه. ويقدم لنا القديس أمبروسيوس تعليلاً آخر وهو أنه أراد الكرازة به بكونه المسيح بعد صلبه وقيامته، فيعرفوه المسيح المصلوب عنهم القائم من الأموات، إذ يقول: [منع التلاميذ من الكرازة به كابن الله ليبشروا به بعد ذلك مصلوبًا. هذه هي روعة الإيمان أن نفهم حقيقة صليب المسيح!… فصليب المسيح وحده نافع لي، لأن “به صلب العالم لي وأنا للعالم” (غل 6: 14). إن كان العالم قد صلب لي فأعرف أنه قد مات فلا أحبه، أعرف الفساد الذي يسري في العالم فأتجنبه كرائحة نتنة، أهرب منه كما من الطاعون وأخرج منه قبل أن يؤذيني[20].]
- إعلانه عن الصلب
يرى بعض الدارسين أن إنجيل معلمنا مرقس يمكن تقسيمه إلى جزئين رئيسيين متكاملين، القسم الأول يبدأ بالسفر حتى ما قبل سؤال السيد المسيح تلاميذه عما يقول الناس عنه، والثاني يبدأ بهذا السؤال حتى نهاية السفر. القسم الأول يعلن عن شخص السيد المسيح العامل والمعلم الذي يخدم البشرية بالحب والحنان وقد رافقه ظل الصليب، أما القسم الثاني فتبدأ المرحلة العملية لحمل الصليب، يبدأها بالكشف عن ذاته بالقدر الذي يسندهم حتى يتم الصليب، فيتمجد بحبه العملي، وعندئذ يكشف لهم بهاء مجده خلال قيامته وظهوراته وصعوده خاصة بإرسال روحه القدوس الذي يخبرهم بكل شيء.
الحديث السابق، حديث خاص بين السيد وتلاميذه كان مقدمة لإعلان صليبه، إذ يقول الإنجيلي:
“وابتدأ يعلمهم أن ابن الإنسان ينبغي أن يتألم كثيرًا،
ويرفض من الشيوخ ورؤساء الكهنة ويُقتل،
وبعد ثلاثة أيام يقوم.
وقال القول علانية،
فأخذه بطرس إليه وابتدأ ينتهره.
فالتفت وأبصر تلاميذه،
فانتهر بطرس قائلاً:
اذهب عني يا شيطان،
لأنك لا تهتم بما لله، لكن بما للناس” [31-33].
إن كان بطرس الرسول استطاع بإعلان إلهي أن يتعرف على “يسوع” أنه المسيح، وهو في الطريق في قرى قيصرية فيلبس [27]، حيث مركز عبادة البعل والعبادات الوثنية الإغريقية مع السلطة الرومانية، لكن مع هذا لم يكن ممكنًا لبطرس أن يتفهم المسيح كفادٍ يُصلب عن البشرية ويقوم ليقيمها معه، إذ كان الفكر اليهودي يرفض هذا تمامًا، لهذا أسرع السيد المسيح يصحح المفهوم.
يمكننا تلخيص الاعتقاد اليهودي بخصوص مجيء المسيا في النقاط التالية:
أ. يسبق مجيء المسيح حلول ضيقة شديدة على العالم يسبب له خرابًا، كما تحل الحروب في العالم والإضطرابات وسفك للدماء… هذه كلها أشبه بالمخاض الذي يحل بالمرأة عندما تلد طفلاً.
ب. وسط هذا الخراب الذي يمس حياة الإنسان والحيوان والطير حتى الأسماك يظهر إيليا النبي ليهيئ الطريق للمسيح. ويعتبر مجيء إيليا أمرًا أساسيًا، حتى أن اليهود في احتفالهم للفصح كانوا يتركون كرسيًا خاليًا يسمونه “كرسي إيليا”، إذ يتوقعون دخوله في أحد أعياد الفصح فجأة.
ج. يظهر المسيا نفسه، ليس مولودًا من بشر، لكنه يأتي رجلاً جبارًا يقدم من السماء في كمال الرجولة والنضج ليخلص شعبه.
د. بمجيئه يهيج الملوك ضده ويقومون بثورة عليه، ويدبرون حربًا ينهزمون فيها ويظهر فيها المسيح كأعظم غالب في البشرية يبيد أعداءه.
ه. إذ تُعلن غلبته على الأمم يقوم بتجديد أورشليم وتطهيرها، أو تنزل أورشليم جديدة بأعمدة جديدة؛ فيها يجتمع اليهود من كل العالم كسادة للبشرية، إذ تنحني البقية الباقية من الأمم لهم في مذلة، ويعيش اليهود بفرح شديد، حتى أن موتاهم يقومون ليشاركوهم هذا الفرح الجديد. بهذا يرى اليهود بفكرهم المادي المتعصب أنه يحل السلام والبرّ الأبديان في العالم.
هذا الفكر اليهودي لن يقبل مطلقًا سرّ الصليب ولا انفتاح باب الإيمان للأمم، لهذا انتهر بطرس سيده عندما تحدث عن الألم والصليب.
يعلق القديس أمبروسيوس على كلمات السيد المسيح لتلاميذه بخصوص آلامه وصلبه وقيامته، قائلاً: [لقد عرف مقدار الجهد الذي يحتاج إليه التلاميذ ليؤمنوا بآلامه وقيامته، لذلك استحسن أن يقوم بنفسه بتأكيد آلامه وقيامته لهم، وليكون ذلك بداية وسببًا لميلاد الإيمان فيهم[21].]
ويلاحظ هنا أن الإنجيلي يخبرنا بأن السيد علّم تلاميذه التزامه أن يتألم كثيرًا ويرفض ويقتل وبعد ثلاثة أيام يقوم، لكنه لم يقل لنا تفاصيل الحديث، كيف أكدّ لهم السيد الحاجة إلى الألم والصلب والقيامة. هل حدثهم عن رموز العهد القديم ونبواته، أم قدم لهم الفهم اللاهوتي لعمله الخلاصي؟
على أي الأحوال كشف لهم السيد المسيح أنه لم يكن ممكنًا أن يتحقق الصلاح بموت أحدٍ إلا ابن الإنسان، القادر أن يقتل الموت نفسه ويقوم. يقول القديس أمبروسيوس: [لم يبلغ أحد إلى العظمة التي تؤهله لرفع خطايا العالم كله، لا أخنوخ ولا إبراهيم ولا إسحق الذي قدم نفسه للموت لكنه لا يقدر أن يغفر الخطايا. من هو ذاك الذي بموته تموت كل الخطايا؟
لا يمكن لأحد من الشعب ولا من القيادات أن يقوم بهذا، إنما اختار الآب الابن، ابن الله الذي هو فوق الجميع، أن يقدم نفسه عن الجميع. وكان هو نفسه يحب أن يموت، إذ هو أقوى من الموت، وقادر أن يخلص الآخرين. الذي قام من بين الأموات بلا عون، غلب الموت دون مساندة من إنسانٍ أو خليقةٍ، قام غالبًا الموت، نازعًا الشهوات، إذ لم يعرف قيود الموت.]
- إعلانه عن شركة الصليب
انتهر السيد المسيح بطرس، لأنه لم يقبل صلب السيد، بل دعاه هو وإخوته لشركة الصليب معه، إذ قال لهم: “من أراد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني. فإن من أراد أن يخلص نفسه يهلكه، ومن يهلك نفسه من أجلي ومن أجل الإنجيل فهو يخلصها. لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟ أو ماذا يعطي الإنسان فداء عن نفسه؟ لأن من استحى بي وبكلامي في هذا الجيل الفاسق الخاطيء فإن ابن الإنسان يستحي به متى جاء بمجد أبيه مع الملائكة القديسين” [34-38].
أولاً: سألهم أن يحملوا معه الصليب بإنكار ذواتهم… وإنكار الذات إنما يعني أن لا يتعاطف الإنسان مع ذاته، فلا يرتبك لمستقبله ولا يخشى المرض أو الضيق أو الموت، إنما يكون جاحدًا لنفسه عنيفًا مع الأنا، غير مترف في ملذات جسده. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم [لم يقل “يعتزل الإنسان ذاته” بل ما هو أكثر “ينكر نفسه”، كما لو كان ليس هناك ما يربطه بذاته، فإنه يواجه الخطر ويتطلع إليه كما لو أن الذي يواجهه آخر غيره، هذا بالحقيقة هو اعتزال الإنسان ذاته… أما إنكار الإنسان ذاته فقد أظهره بقوله “يحمل صليبه”، ويعني به أنه يقبل حتى الموت المشين.]
إننا ننكر أنفسنا متى تجنبنا ما هو قديم فينا مجاهدين لننال على الدوام ما هو جديد حتى نبلغ إلى قياس قامة ملء المسيح (أف 4: 13).
يقول القديس أغسطينوس: [إن كان الإنسان بحبه لذاته يصير مفقودًا، فبالتأكيد بإنكاره ذاته يوجد!… لينسحب الإنسان من ذاته لا لأمور زمنية وإنما لكي يلتصق بالله[22].]
ثانيًا: إذ حث تلاميذه على إنكار الذات وحمل الصليب قدم لهم المكافأة، فمن يعترف به بحياته وحمله الصليب يتقبل عند مجيء السيد المسيح الأخير شركة أمجاده، أما من يستحي بصليبه هنا يرفض وصيته في هذا العالم فسيستحي منه ابن الإنسان في يوم مجده العظيم، ويحسبه كمن هو غير معروف لديه، وكما يقول القديس جيروم: [الله لا يعرف الشرير، إنما يعرف البار[23].]
وقد قال السيد المسيح في وصفه لمجيئه الأخير: “متى جاء بمجد أبيه مع الملائكة القديسين” وكما يقول القديس أمبروسيوس: [ليظهر أن عظمة الآب ومجده هما ذات عظمة الابن ومجده… تأتي الملائكة في خضوع، أما هو فيأتي ممجدًا! هم يأتون كتابعين، أما هو فيجلس على عرشه! هم يقفون، وهو يجلس! إن استعرنا لغة المعاملات اليومية من الحياة البشرية نقول أنه القاضي وهم العاملون في المحكمة.]
[1] Jerome Biblical Commentary, p 35.
[2] الإنجيل بحسب متى، 1983، ص 331-335.
[3] Ser. on N.T. 45: 1, 2.
[4] Mor 1: 9.
[5] Nineham, p 207.
[6] Ser. on N.T. 45: 2.
[7] Catena Aurea.
[8] In Luc. 6: 73.
[9] Ser. on N.T. 45: 3.
[10] Nineham, p 207-8, Jerome Bib. Comm. p 39.
[11] In Matt. Hom., 53.
[12] رسالة 33.
[13] رسالة 6.
[14] الإنجيل بحسب متى، 1983، ص353-355.
[15] In Luc, Ser 86.
[16] رسالة 34.
[17] In Matt. hom 54.
[18] الإنجيل بحسب متى، 1983، ص 355.
[19] In Luc 9.
[20] In Luc 9.
[21] In Luc 9.
[22] Ser. on N.T. 46: 1,2.
[23] On Ps hom 1.