تفسير انجيل مرقس 14 الأصحاح الرابع عشر – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير انجيل مرقس 14 الأصحاح الرابع عشر - القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير انجيل مرقس 14 الأصحاح الرابع عشر – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير انجيل مرقس 14 الأصحاح الرابع عشر – القمص تادرس يعقوب ملطي
الباب الخامس
آلام السيد المسيح وقيامته
ص 14_ ص 16
الأصحاح الرابع عشر
الإعداد للصليب
في الأصحاح السابق جلس السيد المسيح على جبل الزيتون ليعلن لأربعة من تلاميذه علامات المنتهى، ساحبًا قلوبهم إلى سماواته، مؤكدًا لهم أنه يرعى مختاريه بالرغم مما يجتازونه من ضيقات خاصة في أواخر الدهور. وجاء الأصحاح الذي بين أيدينا يقدم لنا صورة للبشرية التي لا تطيق السيد المسيح فتريد أن تطرده. اجتمع رؤساء الكهنة مع الكتبة يطلبون قتله لكنهم خافوا الشعب؛ ووجد يهوذا التلميذ الفرصة سانحة لتسليم سيده من أجل قليل من الفضة. هكذا بينما يفتح السيد سماواته مشتاقًا أن يجمع الكل فيها، إذا بالقيادات الدينية حتى بين تلاميذه من يسلمه للموت.
لكن وسط هذه الصورة المؤلمة وُجدت امرأة محبة تسكب الطيب كثير الثمن على رأس السيد ليمتلئ بيت سمعان الأبرص برائحته الذكية، ومع هذا لم تسلم هذه المرأة من النقد اللاذع.
على أي الأحوال إذ اقترب الفصح كانت الأمور تجري نحو الصليب لذبح الفصح الحقيقي، القادر أن يعبر بنا خلال آلامه وموته إلى قوة قيامته:
- تدبير رؤساء الكهنة والكتبة قتله 1- 2.
- كسر قارورة الطيب 3-9.
- خيانة يهوذا 10-11.
- وليمة الفصح 12-16.
- إعلان عن الخيانة 17-21.
- تأسيس الأفخارستيا 22-26.
- إعلان عن شك التلاميذ فيه 27-31.
- ذهابه إلى جثيسيماني 32-42.
- القبض عليه 43-52.
10.محاكمته دينيًا 53-65.
11.إنكار بطرس 66-72.
- تدبير رؤساء الكهنة والكتبة قتله
“وكان الفصح وأيام الفطير بعد يومين،
وكان رؤساء الكهنة والكتبة يطلبون كيف يمسكونه بمكر ويقتلونه.
لكنهم قالوا ليس في العيد، لئلا يكون شغب في الشعب” [1-2].
يميز العهد القديم بين عيد الفصح وعيد الفطير، فكان خروف الفصح يُذبح في اليوم الرابع عشر من الشهر الأول في المساء، ويبدأ عيد الفطير في الخامس عشر لمدة أسبوع. لكن ارتبط العيدان معًا في ذهن اليهود وكأنهما صارا عيدًا واحدًا، لهذا يُستخدم تعبير “عيد الفطير” ليشمل الفصح أيضًا، كما يطلق اسم “الفصح” على عيد الفطير أيضًا.
لقد اتفق رؤساء الكهنة والكتبة على تدبير خطة لقتل السيد المسيح بعد العيد خوفًا من الجماهير، ولم يدركوا أن السيد المسيح قد جاء فصحًا عن العالم، بل هو الفصح الحقيقي ذُبح في العيد. كان رب المجد يتمم خطته الخلاصية بفرح وسرور مستهينًا بالخزي ليقبل كل نفس إليه، وكان قادة الفكر اليهودي يتممون خطتهم للخلاص منه وطرده لا من أورشليم، بل من الأرض كلها، بقتله!
مساكين هم رؤساء الكهنة والكتبة، فقد التهبت قلوبهم بالحسد، فلم ينشغلوا بالإعداد الروحي لعيد الفصح. إذ كان يليق بهم أن يرشوا الكتاب المقدس بالدم وأيضًا قوائم أفكارهم، ويضعوا الخيط القرمزي على باب صلواتهم ويربطوه على قلوبهم، فيدركوا أن السيد المسيح الذي ظهر في أيامهم هو الفصح الحقيقي.
خلال حسدهم الشرير لم يتعرفوا على الحمل الحقيقي، ولا فهموا الذبيحة الرمزية التي بين أيديهم بكل أسرارها، هذه التي أدركها الآباء وعاشوها. ففي نص منسوب للقديس جيروم جاء [لقد رُمز لآلام المسيح وخلاص الشعب من الجحيم بذبيحة الحمل وعبور الشعب البحر منطلقين من مصر. لقد افتقدنا (في عيد الفصح) حين كان القمر في كماله إذ لم يكن في المسيح أي نصيب للظلمة. لنأكل جسد الحمل الذي بلا عيب، هذا الذي ينزع خطايا العالم، لنأكله في بيت واحد، أي في الكنيسة الجامعة المرشوشة بالحب والحاملة سلاح الفضيلة.]
كان رؤساء الكهنة والكتبة يدبرون قتله ولم يدركوا أنهم حتى في شرهم يتممون خطة السيد المسيح الذي حدد بنفسه يوم آلامه ليصلب في عيد الفصح!
- كسر قارورة الطيب
“وفيما هو في بيت عنيا في بيت سمعان الأبرص وهو متكئ
جاءت امرأة معها قارورة طيب نادرين خالص كثير الثمن،
فكسرت القارورة وسكبته على رأسه” [3].
كان السيد في بيت عنيا، أي في بيت العناء أو الألم، عيناه تنظران إلى الصليب بسرور، كقول الرسول بولس: “الذي من أجل السرور الموضوع أمامه احتمل الصليب مستهينًا بالخزي” (عب 12: 2). وكان يرى التحركات الضخمة والسريعة بين جميع القيادات اليهودية المتضاربة، تعمل معًا لأول مرة بهدف واحد، هو الخلاص منه! وسط هذا الجو المّر وُجدت امرأة استطاعت أن تلتقي به في بيت سمعان الأبرص لتقدم حبها الخالص وإيمانها الحيّ العملي، لتتقبل من السيد مديحًا ومجدًا أبديًا!
التقت بالسيد في بيت سمعان الأبرص، وقد دُعي هكذا لأنه كان أبرصًا وطهره السيد، وقد حمل هذا الاسم تذكارًا لما كان عليه ليمجد السيد المسيح الذي طهّره.
ولعل بيت سمعان الأبرص يشير إلى الكنيسة التي ضمت في داخلها من الشعوب والأمم أولئك الذين سبقوا فتنجسوا ببرص الخطية وقد طهرههم السيد بدمه المبارك! في هذه الكنيسة توجد امرأة، لم يذكر الإنجيلي اسمها ولا مركزها إذ هي تشير إلى كل نفس صادقة في لقائها مع السيد.
تشير قارورة الطيب الناردين الخالص كثير الثمن إلى الحب الداخلي، حب النفس لمخلصها، هذا الذي رائحته تملا الكنيسة كلها وترتفع إلى السماوات عينها، إن كسرت القارورة، أي احتمل الإنسان الألم وقبل الموت اليومي من أجل المصلوب.
إن كان اسم السيد المسيح دهن مهراق (1: 2)، فاحت رائحته الذكية حين أُهرق دمه مجتازًا المعصرة وحده، فإن الكنيسة بدورها تقدم حياتها مبذولة كقارورة طيب منكسرة لتعلن رائحة محبتها الداخلية.
أما عن سكب الطيب على رأس السيد، ففي نص منسوب للقديس جيروم قيل أن المرأة سكبت الطيب من القدمين حتى بلغت الرأس، لكن الإنجيلي حسبها سكبته على رأسه. ولعل ذلك يشير إلى نظرة السيد المسيح إلى أعمال المحبة أنها جميعًا تقدم لحسابه. فما قدمه للفقراء والمساكين والمرضى والمسجونين والمتضايقين والحزانى من أعمال محبة إنما يتقبله السيد المسيح نفسه كرأسٍ الكل. بمعنى آخر نحن نسكب الطيب على الأعضاء فيُنسب هذا العمل إلى الرأس، ويحسبنا سكبناه عليه.
لم يطق يهوذا محب الفضة هذا العمل الكنسي المفرح، إذ كان يود أن يُقدم ثمن القارورة له ليضعه في الخزانة لحساب الفقراء فينهبه. لهذا أثار تبرمًا وسط المحيطين به، إذ يقول الإنجيلي: “وكان قوم مغتاظين في أنفسهم، فقالوا: لماذا كان تلف الطيب هذا؟ لأنه كان يمكن أن يُباع هذا بأكثر من ثلاث مئة دينار ويعطى للفقراء وكانوا يؤنبونها” [5].
لم يهتم يهوذا أنه يفقد حياته كلها وخلاصه الأبدي، لكنه أثار نفوس التلاميذ لأجل ما يراه فقدانًا بالنسبة لأكثر من ثلاثمائة دينار!
في نص منسوب للقديس جيروم ورد التفسير للقصة بمفهوم رمزي، إذ قيل:
[سمعان الأبرص يعني العالم الذي كان دنسًا (أبرصًا بعدم الإيمان) لكنه تحوّل إلى الإِيمان. المرأة بقارورة الطيب إيمان الكنيسة القائلة: “أفاح نارديني رائحته“ (نش 1: 12). دُعي ناردين خالص بكونه الإِيمان الثمين. البيت الذي امتلأ من رائحته هو السماء والأرض. أما كسر القارورة فهو كسر الشهوات الجسدية عند الرأس الذي به تشكّل الجسد كله، فقد تنازل الرأس وأخلى ذاته حتى يستطيع الخاطيء أن يبلغ إليه. هكذا انطلقت المرأة من القدمين إلى الرأس، ونزلت من الرأس إلى القدمين، أي بلغت بالإِيمان إلى المسيح وأعضائه.]
لقد حسب يهوذا هذا الطيب خسارة، لأن يساوي أكثر من ثلاثمائة دينار، ولم يدرك أن ما قد حسبه خسارة هو ربح في عيني الرب الذي يشتاق أن يتقبل من كل إنسان ذات الطيب. فان رقم 300 يشير إلى تقديس الإنسان تقديسًا كاملاً خلال الطاعة لوصية الله في الداخل والخارج فإن كان رقم 300 هو محصلة (10×10×3)، فإن رقم 10 الأولى تشير إلى طاعة الوصية (الوصايا العشر)، ورقم 10 الثاني يشير إلى تقديس الحواس الخفية (خمسة حواس) والظاهرة، ورقم 3 يشير إلى تقديس النفس والجسد والروح بالتمتع بالحياة المقامة التي في المسيح يسوع الذي قام في اليوم الثالث، كما يشير رقم 3 إلى تقديس النفس والجسد والروح خلال الإيمان بالثالوث القدوس.
على أي الأحوال إن كانت هذه المرأة قد انتقدها الناس لكنها تمتعت بمديح الرب نفسه الذي أعلن ارتباط قصتها بالكرازة بإنجيله في العالم كله!
أخيرًا فان قصة سكب الطيب على السيد المسيح وردت في الأناجيل الأربعة (مت 26: 6؛ مر 14: 3؛ لو 7: 21؛ يو 12: 3). وواضح من الأناجيل أن سكب الطيب تكرر أكثر من مرة، وقد اختلفت الآراء في تحديد شخصيات هؤلاء النسوة اللواتي سكبن الطيب، غير أن الرأي السائد هو:
أولاً: المرأة المذكورة في إنجيل يوحنا هي مريم أخت لعازر.
ثانيًا: المرأة المذكورة في إنجيل لوقا هي خاطئة قامت بهذا العمل إثناء خدمة السيد.
ثالثًا: المرأة المذكورة في إنجيلي متى ومرقس سكبت الطيب في أيام البصخة، يرى البعض أنها غير الخاطئة، ويرى آخرون أنها هي بعينها الخاطئة سكبته وهي خاطئة تطلب بدموع المغفرة وأخرى تقدمه طيب حب وشكر أثناء البصخة، بل ويرى آخرون أنها مريم أخت لعازر ومرثا.
- خيانة يهوذا
“ثم أن يهوذا الإسخريوطى واحدًا من الإثنى عشر
مضى إلى رؤساء الكهنة ليسلمه إليهم.
ولما سمعوا فرحوا ووعدوه أن يعطوه فضة،
وكان يطلب كيف يسلمه في فرصة موافقة” [10-11].
إن كانت الكنيسة تضم امرأة بسيطة تكسر القارورة لتسكب الطيب ناردين كثير الثمن على رأس السيد فيمتلئ البيت من رائحته الذكية، فإنه يختفي حتى من بين التلاميذ من يسلمه في أيدي الأعداء. فالكنيسة تضم في داخلها قديسين هم أعضاء حقيقيون في جسد المسيح، كما تضم من لهم اسم المسيح في الخارج أما قلوبهم فمنحلة عنه تمامًا. هؤلاء بالحقيقة ليسوا أعضاء بل هم مفروزون منها حتى ولو لم يفرزهم أحد!
والعجيب أن الخائن يحمل اسم يهوذا، وهو اسم ذات السبط الذي خرج منه السيد المسيح بالجسد، فبينما يقدم لنا يهوذا الأسد الخارج ليحطم عدو الخير الأسد الذي يجول زائرًا يلتمس من يبتلعه (1 بط 5: 8)، إذا بالشيطان يقتنص تلميذًا يحمل ذات الاسم ليكون أداة لتسليم الرب.
إن كان اسم “يهوذا” معناه “يحمد” أو “يعترف”، فإن يهوذا هذا يمثل الذين يحملون اسم المسيح، كهنة أو شعبًا، يحمدون الرب بلسانهم ويعترفون بالإيمان بشفاههم أما قلوبهم وأعمالهم فأداة للتحطيم. إنهم كعدو الخير الذي قيل أنه يؤمن ويرتعب (يع 2: 19)، لكنه لا يحمل في قلبه حبًا بل عداوة وبغضة. مثل هؤلاء أخطر من الأعداء الخارجين، فإنه ما كان يمكن لرؤساء الكهنة أن يقبضوا على السيد بدون يهوذا! أقول هذا لكي نحذر لا الآخرين بل أنفسنا، فإنه لا يستطيع عدو الخير الخارجي (إبليس) أن يأسر مسيحنا الداخلي أو يصلبه ويشهر به ما لم نسلمه نحن له. لهذا يحذرنا السيد المسيح: “أعداء الإنسان أهل بيته“ (مت 10: 36)، أي حياته الداخلية وإرادته الشريرة.
حين يفسد “يهوذنا” أي “إيماننا” بانحلاله عن الحب، يُسلم القلب للعدو، ويصلب السيد المسيح مرة أخرى ويشَّهر به… أما ثمن هذا فقليل من الفضة الغاشة يعده بها العدو.
يا للعجب يسلم القلب الخائن مسيحه، كلمة الله، الفضة المصفاة سبع مرات (مز 12: 6) مقابل فضة غاشة من أيدٍ شريرة! يُقدم السماوي أسيرًا، لينعم بقليل من الأرضيات يعود فيتركها ويشنق نفسه!
فيما يلي بعض تعليقات الآباء على قصة خيانة يهوذا:
- لماذا تخبرني عنه “الإسخريوطي”؟… لأنه يوجد تلميذ آخر يدعى يهوذا الغيور، أخ يعقوب، خشي (الإنجيلي) لئلا يحدث خلط بينهما، فميّز الواحد عن الآخر. لكنه لم يقل عنه “يهوذا الخائن” حتى يعلمنا إلا نندد بأحد، بل نتجنب اتهام الآخرين. على أي الأحوال بقوله “واحد من الإثني عشر” أبرز بشاعة جريمة الخائن، إذ وجد سبعون آخرون لم يمتثل أحدهم به ولا اشترك معه في تصرف كهذا. أما هؤلاء الإثنا عشر الذين اختارهم السيد كانوا الجماعة الملوكية خرج منها هذا الخائن الشرير.
- يا للجنون! نعم فإن محبة المال التي للخائن وطمعه جلبا كل هذا الشر.
محبة المال تستولي على النفوس التي تتقبلها، وتقودها إلى كل طريق عندما تقيدها، وتنسى النفوس كل شيء وتجعل أذهانها في حالة جنون!
لقد أُسر يهوذا مجنون محبة المال هذا، فنسى المحادثات ومائدة المسيح وتلمذته وتحذيرات المسيح وتأكيداته[1].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- كان واحدًا من الإثنى عشر في العدد، في الاستحقاق حسب الجسد لا الروح!
ذهب إلى رئيس الكهنة بعد أن خرج ودخله الشيطان. كل كائن يتحد بمثاله!
- لقد وعد أن يخون السيد كما سبق فقال الشيطان لسيده: “لك أعطي هذا السلطان“ (لو 4: 6)…
هم وعدوه بالمال، فخسروا حياتهم التي خسرها هو أيضًا باستلامه المال[2].
نص منسوب للقديس جيروم
- يقول: “واحد من الاثني عشر“. هذا أمر غاية في الأهمية إذ يوضح خطية الخيانة بأكثر جلاء، فإن الذي كرّمه مساويًا إياه بالبقية وزينه بالكرامات الرسولية، وجعله محبوبًا، وضمه للمائدة المقدسة… صار طريقًا ووسيلة لقتل المسيح[3].
القديس كيرلس الكبير
- وليمة الفصح
كما اهتم السيد المسيح بدخوله أورشليم، فأرسل تلميذين يحضران له الأتان والجحش، نجده هنا في اليوم الأول من الفطير، إذ كانوا يذبحون الفصح أرسل اثنين من تلاميذه إلى المدينة، فيلاقيهما إنسان حامل جرة ماء، غالبًا هو القديس مرقس كما جاء في التقليد القبطي، يتبعاه وحيثما يدخل يطلبان رب البيت أن يريهما العلية التي يعداها ليأكل السيد الفصح مع تلاميذه. هذه العلية الكبيرة هي علية القديسة مريم والدة القديس مرقس، وقد صارت أول كنيسة مسيحية في العالم، حيث أقام فيها السيد المسيح بنفسه سرّ الإفخارستيا، وفيها كان يجتمع التلاميذ، وقد حّل علليهم الروح القدس في يوم الخمسين في ذات الموضع.
يلاحظ في النص الذي بين أيدينا الآتي:
أولاً: اهتم التلاميذ بالتمتع بوليمة الفصح مع معلمهم، إذ قالوا له: “أين تريد أن نمضي ونعد الفصح؟” [12]. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [بينما كان يهوذا يخطط كيف يسلمه، كان بقية التلاميذ يهتمون بإعداد الفصح.] وقد كشف لنا هذا السؤال ليس فقط أن السيد لم يكن له مسكن يقيم فيه ليعد فيه الفصح بل حتى تلاميذه لم يكن لهم مساكن يستقرون فيها، بل وجدوا استقرارهم وراحتهم في معلمهم ربنا يسوع المسيح.
لم يستأذن التلاميذ المعلم لكي يذهب كل واحدٍ إلى عائلته يشترك معها في وليمة الفصح، إنما أدركوا أنهم قد صاروا به عائلة واحدة حتى وإن كانوا من أسباط متنوعة، يلتقون معًا فيه لينعموا بالفصح الواحد؛ هكذا ارتبطوا في وحدة حقه أساسها الاتحاد مع مخلصهم بالحب، رفعتهم إلى ما هو أعظم من وحدة الرباط الدموي.
في سؤال التلاميذ أيضًا تسليم كامل للمخلص، يسألونه في كل صغيرة وكبيرة، ليست لهم شهوة أن يذهبوا إلى موضع معين يقترحونه عليه، لكن شهوتهم الوحيدة أن يوجدوا معه على الدوام.
ثانيًا: أرسل السيد اثنين من تلاميذه ليعدوا الفصح، هما بطرس ويوحنا (لو 22: 8). فإن كان رقم 2 يشير إلى الحب، فإننا لا نستطيع أن نقدم للسيد المسيح قلبنا عُلية يقيم فيها ذبيحة صليبه بدون الحب. هذا وإن كان بطرس يمثل الإيمان ويوحنا يمثل المحبة فإن السيد أرسل الإيمان العامل بالمحبة ليهيئ كل قلب بسيط كعلية يجتمع فيها بنفسه مع تلاميذه، يقيم فيها مذبحة الخفي، ويتقدم هو كرئيس يعلن صليبه ويؤسس فيها ملكوته الروحي.
ثالثًا: لم يخبرهما السيد المسيح عن اسم صاحب العلية، إذ كان معروفًا لهم، ألا وهو والد القديس مرقس الرسول. لكنه اكتفى بتقديم علامة، قائلاً: “اذهبا إلى المدينة فيلاقيكما إنسان حامل جرة ماء. اتبعاه. وحيثما يدخل فقولا لرب البيت: إن المعلم يقول أين المنزل حيث آكل الفصح مع تلاميذي” [13-14]. فلماذا اكتفى السيد بتقديم هذه العلامة:
أ. يرى القديس كيرلس الكبير أن الشيطان قد دخل قلب يهوذا وكانت جريمة قتل مخلصنا المسيح قد ثارت فيه، لذلك أخفى السيد اسم صاحب العلية حتى لا يخطط يهوذا لتسليم السيد وهو في العلية[4].
ب. يقدم القديس كيرلس الكبير تفسيرًا آخر، بقوله: [ربما تكلم بهذا ليعني سرًا ضروريًا: وهو حيث يوجد الماء في المعمودية المقدسة يقيم المسيح. كيف وبأي وسيلة؟ بكونها تحررنا من كل نجاسة ، فنغتسل بها من أدناس الخطية، فنصير هيكل الله المقدس ونشاركه طبيعته الإلهية بواسطة شركة الروح القدس. فلكي يستريح المسيح فينا ويقطن داخلنا لنتقبل المياه المخلصة، معترفين بالإيمان الذي يبرر الأشرار، ويرفعنا إلى أعلى حتى نحسب نحن “علية”. فإن الذين يسكنهم المسيح بالإيمان لهم فكر عالٍ مرتفع، لا يرغبون في الزحف على التراب، أقول ويرفضون البقاء على الأرض طالبين على الدوام السمو في الفضيلة. قيل: “أقوياء الله برتفعون على الأرض”، “لأن ليس لنا هنا مدينة باقية لكننا نطلب العتيدة“ (عب 13: 14)، فبينما يسيرون على الأرض إذا بأفكارهم تستقر في العلويات، ويكون مسكنهم في السماويات (في 3: 20)[5].]
يتحدث الأب ثيؤفلاكتيوس عن جرة الماء هذه فيقول: [من يعتمد يحمل جرة ماء، ومن يحمل معمودية علية يستريح إن عاش بتعقل، ينال راحة كمن يدخل في بيت.]
لكي ننعم بفصح المسيح يلزمنا أن ننعم بمياه المعمودية فترفعنا إلى علية الروح عوض الحرف القائل، وكما يقول الآب ثيؤفلاكتيوس: [رب البيت هو العقل الذي يشير إلى العلية الكبيرة أي إلى الأفكار العلوية، التي بالرغم من علوها لكنها لا تحمل كبرياءً ولا مجدًا باطلاً، بل تعد وتُهيأ خلال التواضع. هناك، في فكر كهذا يُعد فصح المسيح بواسطة بطرس ويوحنا أي خلال العمل والتأمل.]
أيضًا يقول القديس أمبروسيوس [ليت الرب يسمح لي أنا أيضًا أن أحمل جرة الماء كما فعل رب البيت صاحب العلية المفروشة! ماذا أقول عن الماء؟ كان “روح الرب يرف على وجه المياه“ (تك 1: 2). أيتها المياه التي علت فوق الكون الذي تدنس بالدم البشري وكنتِ رمزًا للمعمودية العلوية! أيتها المياه التي وُهبت أن يكون لها سرّ المسيح فتغسل الكل!… أنت تبتدئين ثم تكملين الأسرار، فيكِ البداية وأيضًا النهاية[6]!]
رابعًا: يكمل السيد حديثه قائلاً: “فهو يريكما علية كبيرة مفروشة مُعدة، هناك أعد لنا” [15]. يقول القديس أمبروسيوس: [العلية المفروشة تشير إلى عظم استحقاق صاحبها، حتى أن الرب نفسه مع تلاميذه يستطيعون أن يستريحوا فيها، أو تشير إلى زينة فضائله العالية[7].]
- إعلانه عن الخيانة
“ولما كان المساء جاء مع الاثني عشر.
وفيما هم متكئون يأكلون قال يسوع:
الحق أقول لكم أن واحدًا منكم يسلمني، الآكل معي.
فابتدأوا يحزنون ويقولون له واحدًا فواحدًا. هل أنا؟ وآخر هل أنا.
فأجاب وقال لهم: هو واحد من الاثني عشر الذي يغمس معي في الصحفة.
إن ابن الإنسان ماضٍ كما هو مكتوب عنه،
ولكن ويل لذلك الرجل الذي به يُسلم ابن الإنسان.
كان خير لذلك الرجل لو لم يولد” [17-21].
إذ سبق فأعلن السيد المسيح أكثر من مرة عن تسليمه وموته وقيامته ليسند تلاميذه عندما يواجهون الأحداث نراه الآن يعلن عن “الخيانة” ليعطي مسلمه فرصة التوبة والرجوع إن أراد. حقًا لقد سبق الكتاب فأنبأ عن الخائن، لكن لم يلزم الله يهوذا أن يخون، ولا يمكن له أن يحتج بأن فيه تحققت النبوة عن الخيانة، فإن سابق معرفة الله للأمر لا تلزمه بالتنفيذ ولا تعفيه من المسئولية. ولو أن قلب يهوذا تحرك بالتوبة لتمت أحداث الصليب بطريقة أو أخرى يخططها الرب دون هلاك يهوذا.
في إعلان السيد المسيح عن الخيانة لم يذكر اسم الخائن حتى لا يحرج مشاعره وأحاسيسه لعله يرجع عن رأيه، وفي نفس الوقت أعطى علامة عندما ابتدأ التلاميذ يحزنون حتى لا يسقطوا في اليأس. كان السيد لطيفًا ورقيقًا حتى مع الخائن، لكنه أيضًا حازمًا وصريحًا معه، مستخدمًا كل أسلوب للحث على التوبة. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [واضح أنه لم يعلن عنه صراحة حتى لا يجعله في عارٍ أشد، وفي نفس الوقت لم يصمت تمامًا لئلا يظن أن أمره غير مكشوف، فيسرع بالأكثر لعمل الخيانة بجسارة[8].]
إذ أعلن السيد عن هذه الخيانة المُرة ابتدأ كل تلميذ يسأل المعلم: هل أنا؟ فمع ثقتهم في أنفسهم أنهم لن يخونوا السيد، لكن ثقتهم في كلمات الرب أعظم من ثقتهم في أنفسهم، فتشكك كل واحد في نفسه وخشي لئلا يسقط في هذا العمل الشرير.
قدم لهم السيد الإشارة “الذي يغمس في الصحفة”، ثم أعلن في حزم عن مصير هذا الخائن المسكين. يقول القديس كيرلس الكبير: [وبُخ يهوذا الخائن الذي كان يأكل معه بالكلمات التي قالها المسيح… لعله في فقدانه التام للحس، أو بالحري إذ امتلأ بكبرياء إبليس، حسب أنه قادر على خداع المسيح بالرغم من كونه الله. ولكن كما قلت كان مقتنعًا بكونه شريرًا تمامًا ومبغضًا لله وخائنًا ومع ذلك فمن قبيل اللطف انضم إلى المائدة وحُسب كأنه مستحق للطف الإلهي حتى النهاية، بهذا صارت دينونة أعظم. فقد قال المسيح في موضع آخر خلال المرتل: “لأنه ليس عدوي يعيرني فأحتمل، ليس مبغضي تعظّم علىّ فأختبئ منه، بل أنت إنسان عديلي أليفي وصديقي، الذي معه كانت تحلو لنا العشرة إلى بيت الله كنا نذهب في الجمهور (اتفاق)“ (مز 55: 12-14)” [9].]
- تأسيس الإفخارستيا
كانت أحداث الصلب تجري حول السيد المسيح، هذه التي أعلن عنها بكونها طريق الخلاص الذي يقدمه السيد نفسه، فقد قدم لكنيسته عبر الأجيال جسده المصلوب القائم من الأموات ودمه المبذول عفرانًا للخطايا. قدم لكنيسته ذبيحة الصليب الواحدة غير المتكررة خلال سرّ الإفخارستيا، مائدة الرب واهبة الحياة.
“وفيما هم يأكلون أخذ يسوع خبزًا وبارك وكسر وأعطاهم،
وقال: خذوا كلوا هذا هو جسدي.
ثم أخذ الكأس وشكر وأعطاهم فشربوا منها كلهم.
وقال لهم: هذا هو دمي الذي للعهد الجديد،
الذي يسفك من أجل كثيرين” [22-24].
ماذا يعني بقوله فيما يأكلون إلا أنه بعدما أكلوا الفصح اليهودي قدم الفصح الجديد، وقد سبق الرمز المرموز إليه. قدم أولاً الفصح الناموسي حتى لا يُحسب كسرًا للناموس، ثم انطلق بهم إلى الفصح الحق: جسده ودمه المبذولين من أجل العالم كله!
يقول الأب ميليتو من ساردس: [وتحقق سرّ الفصح في جسد الرب… فقد أُقتيد كحمل، وذبح كشاه، مخلصًا إيانا من عبودية العالم (مصر)، ومحررنا من عبودية الشيطان كما من فرعون خاتمًا نفوسنا بروحه، وأعضاءنا الجسدية بدمه… إنه ذاك الواحد الذي خلصنا من العبودية إلى الحرية ومن الظلمة إلى النور، ومن الموت إلى الحياة ومن الطغيان إلى الملكوت الأبدي… إنه ذاك الذي هو (الفصح) عبور خلاصنا… هو الحمل الصامت الذي أخذ من القطيع وأُقتيد للذبح في المساء، ودُفن بالليل… من أجل ذلك كان عيد الفطير مرًا، كما يقول كتابكم المقدس: تأكلون فطيرًا بأعشاب مرة، مّرة لكم هي المسامير التي استخدمت، مّر هو اللسان الذي جدف، مّرة هي الشهادة الباطلة التي نطقتم بها ضده[10].]
قدم السيد جسده ودمه المبذولين لتلاميذه معلنًا لهم أنه مُقبل على الصليب بإرادته، وبخطته الإلهية ليهب مؤمنيه غفران الخطايا والإتحاد معه… هذه العطية هبة قائمة عبر العصور تتمتع بها كنيسة المسيح، وتتقبلها من يدّي المخلص نفسه. في هذا يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [حتى الآن المسيح الملاصق لنا الذي أعد المائدة هو بنفسه يقدسها. فإنه ليس إنسان يحول القرابين إلى جسده ودمه، بل المسيح نفسه الذي صُلب عنا. ينطق الكاهن بالكلمات، لكن التقديس يتم بقوة الله ونعمته. بالكلمة التي نطق بها: “هذا هو جسدي” تتقدس القرابين[11].]
ويقول القديس أمبروسيوس: [المسيح هو بعينه الذي يعلن خلال الكاهن هذا هو جسدي[12].]
إذ سلمهم السيد هذا السرّ العظيم قال لهم: “الحق أقول لكم أني لا أشرب بعد من نتاج الكرمة إلى ذلك اليوم حينما أشربه جديدًا في ملكوت الله” [25]. وقد سبق لنا تفسير هذه العبارة في دراستنا لسفر اللاويين (10: 9) حيث رأينا السيد يشرب نتاج الكرمة أي يفرح حين يكمل المختارون في ملكوت الله.
يختم الإنجيلي حديثه عن سرّ الإفخارستيا بقوله:
“ثم سبحوا وخرجوا إلى جبل الزيتون” [26].
إذ قدم السيد المسيح جسده ودمه مبذولين عن خلاص الآخرين، ذبيحة حب فريدة، سبح مع تلاميذه ربما بتسابيح الفصح المفرحة، معلنًا أن العلية قد امتلأت فرحًا وحمدًا لله. أقول إن عليتنا الداخلية تمتلئ بالفرح الإلهي وبالتسابيح الفائقة إن قبلت في داخلها مسيحها المصلوب، وإن حملت سماته فيها. بمعنى آخر كلما قدم حياته الداخلية مبذولة بالحب من أجل الآخرين في المسيح يسوع، امتلأت حياته تسبيحًا لا بالفم واللسان فحسب، وإنما تتحول كل أعضاء جسده وأحاسيسه وأعماق نفسه إلى قيثارة في يدي الروح القدس، ينشد عليها ربنا يسوع نفسه تسابيح فصحه وصليبه، يتقبلها الآب سيمفونية سماوية مبهجة. وعلى العكس كلما تقوقع الإنسان حول ذاته يطلب ما لنفسه. مهما حفظ من تسابيح ونطق بترانيم يملأ الضيق نفسه ويحطم اليأس رجاءه.
الآن إذ قدم السيد جسده ودمه المبذولين لتلاميذه ليحملوا حياته المبذولة فيهم ويسلكوا حاملين صليبه، وهبهم أن يسبحوا بفرحه ويبتهجوا بخلاصه، ثم انطلق بهم “إلى جبل الزيتون”.
لعله أخرجهم إلى جبل الزيتون، الجبل الذي قلنا قبلاً قد ارتبط بالمسيا، إذ هو ممسوح لا بزيت بل بروحه القدوس لخلاصنا. حملهم إلى جبل ليشاركوه عمله، خاصة في أمور ثلاثة:
أولاً: في بكائه على أورشليم وتنهده من أجلها حين جلس على جبل الزيتون متطلعًا إلى المدينة وهو يقول “يا أورشليم، يا أورشليم، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها ولم تريدوا”. إنه يطلبنا أن نجلس معه نتأمل البشرية الساقطة لنئن بالدموع من أجل كل نفس لعلها ترجع وتقبل احتضان الرب بصليبه.
ثانيًا: في جبل الزيتون في ضيعة جثسيماني [32] دخل السيد كما في لقاء مع الآب يتسلم كأس الصليب من يديه مع مرارته الشديدة. وكأن السيد يريدنا لا أن نقف عند التنهدات والصرخات، وإنما يلزم أن نحني رؤوسنا معه لنحمل صليبنا العملي من يدي الآب، فيكون لنا دورنا الإيجابي في خدمة الملكوت خلال الصليب.
ثالثًا: على جبل الزيتون جلس السيد المسيح مع بعض تلاميذه حين أروه الأبنية العظيمة التي للهيكل (مت 24: 13) فأعلن لهم أنه لا يُترك حجر على حجر إلا وينقض، محدثًا إياهم عن علامات مجيئه، وكأنه أراد أن يسحب قلوبهم من الخدمة الظاهرية إلى خدمة اللقاء مع ربنا يسوع. وبالفعل على ذات الجبل أخذ تلاميذه، وهناك باركهم وصعد، وجاء الملاك يبشرهم أنه كما صعد هكذا من المشارق أيضًا يعود من المشارق.
نستطيع أن نقول أن خروجنا مع ربنا يسوع المسيح على جبل الزيتون، إنما لكي نمارس معه محبته لشعبه، ونمد يدنا للعمل الإيجابي لحساب ملكوته، ونترقب على الدوام هدم هيكل إنساننا القديم والتمتع بالهيكل الأبدي، أو حلول السيد المسيح المستمر حتى يأتي على السحاب ليحمل الكنيسة كلها معه عروسًا له.
- إعلانه عن شك التلاميذ فيه
إذ قدم السيد المسيح جسده ودمه المبذولين لتلاميذه وأعلن لهم عن موته وعن خيانة واحدٍ منهم له لم يخلق جوًا من الكآبة والضيق، بل فتح ألسنتهم للتسبيح معه، وكأنه يستقبل أحداث آلامه وصلبه بفرح. وها هو ينطلق بهم إلى البستان معه ليحمل بمفرده كأس الآلام عن البشرية كلها. وقبل وصوله إلى ضيعة جثسيماني صارح تلاميذه: “كلكم تشكون في هذه الليلة” [27].
يصعب جدًا أن نسجل ما آلت إليه نفسية تلاميذه بعد هذا الإعلان الإلهي، فإنه خبر كفيل بتحطيمهم تمامًا، لكن السيد المسيح لم يتركهم يسترسلون في أفكارهم حتى لا ينهاروا تحت ثقل اليأس، لكنه قدم لهم عونًا، فمن جانب أبرز لهم شدة الموقف حيث تنبأ عنهم زكريا النبي (13: 7) “لأنه مكتوب إني أضرب الراعي فتتبدد الرعية“، كما كشف لهم عن رجوعهم إليه وعن لقائهم مرة أخرى بعد قيامته: “لكن بعد قيامي أسبقكم إلى الجليل” [28]. لقد أعلن لهم أن ما يحدث هو بتدبيرٍ إلهيٍ، فمن جهة يضرب الآب الابن الذي حمل خطايانا وقبل الموت في جسده عوضًا عنا، يضربه بسقوطه تحت الحكم الذي كان ضدنا، فلا يحتمل التلاميذ هذا المنظر، لكنه يقوم فيجتذب مؤمنيه في الجليل.
يقول الأب ثيؤفلاكتيوس: [يقول الآب: “أضرب الراعي” إذ سمح له أن يُضرب. وقد دُعى التلاميذ رعية (غنمًا) بسبب براءتهم، وأنهم لا يرتكبون جريمة. وأخيرًا يعزيهم بقوله: “بعد قيامي أسبقكم إلى الجليل”.]
في إنجيل معلمنا لوقا (22: 31) أبرز السيد شدة الحرب التي تواجه التلاميذ وهم لا يدرون، إذ قال “سمعان، سمعان، هوذا الشيطان طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة، ولكني طلبت من أجلك لكي لا يفنى إيمانك”. أما بطرس فحسب أنه قادر أن يثبت إن شك الجميع في المعلم، إذ قال: “وإن شك الجميع فأنا لا أشك. فقال له يسوع: الحق أقول لك أنك في هذه الليلة قبل أن يصيح الديك مرتين تنكرني ثلاث مرات. فقال له بأكثر تشديد: ولو اضطررت أن أموت معك لا أنكرك. وهكذا قال أيضًا الجميع” [29-31].
بلا شك ظن بطرس الرسول في محبته الشديدة للرب وغيرته أنه قادر أن يقف معه حتى الموت، ولكن ما لم يعرفه بطرس عن نفسه يعرفه الرب عنه. فإن بطرس مع محبته وغيرته ضعيف، ويحتاج لا أن يشهد عن نفسه أنه قوي، بل في تواضع يطلب معونة الله كي تسنده. يقول القديس كيرلس الكبير: [قدم بطرس في حرارة غيرته إقرارًا بالثبات والاحتمال حتى النهاية، قائلاً أنه يقابل أهوال الموت بشجاعة ولا يبالي بالقيود، لكنه في هذا أخطأ عن الصواب. كان يليق به إذ أخبره المخلص أنه سيضعف شاكًا فيه ألا يعترض هكذا علانية، إذ لا يكذب “الحق”، بل بالحري كان يليق أن يطلب منه القوة لينزع هذا الألم أو يخلصه سريعًا من السقطة… ليتنا إذن لا نفكر في أنفسنا بطريقة متكبرة حتى أن رأينا في أنفسنا أننا نتميز بالفضائل، بل بالحري لنقدم للمسيح تسابيح الشكر، لأنه يخلصنا ويهبنا حتى الرغبة للعمل الصالح[13].]
أما بالنسبة لصياح الديك فلم يذكر الإنجيلي متى عدد مرات صياحه، إنما ذكر الإنجيل مرقس أنه قبل أن يصيح الديك مرتين ينكره بطرس ثلاث مرات. لذلك يرى كثير من الدارسين أن بطرس أنكر مرة ثم صاح الديك، وأنكر مرتين أخريين فصاح الديك للمرة الثانية.
ما هو هذا الديك الذي صاح مرتين؟ ولماذا أنكر بطرس ثلاث مرات؟ لعل الديك يشير إلى الروح القدس الذي “يبكت العالم على الخطية” (يو 16: 8)، صاح في العهد القديم ولم يستجب أحد لصيحته، وصاح في العهد الجديد فبكت شعوبًا وأممًا لترجع إلى الرب الذي أنكرته. أما إنكار بطرس ثلاث مرات فعلامة ما فعله العالم بالله، إذ جحده ثلاث مرات، أي جحود بالفكر كما بالقول والعمل، جحودًا عن إصرار ومعرفة، ومع ذلك يستطيع الروح القدس أن يرده عن جحوده، ويلتقي به مع نظرات السيد المسيح، فينسحق القلب في الداخل ليبكي الإنسان مع بطرس بكاءً مرًا.
في نص منسوب للقديس جيروم: [من هو هذا الديك الذي يبشر بقدوم النهار إلا الروح القدس، فبصوته في النبوة وفي الرسل قمنا من إنكارنا لله الثلاثي، نبكي بمرارة على سقوطنا، إذ فكرنا شرًا في الرب، وتحدثنا بالشر على أقربائنا، وفعلنا شرًا لأنفسنا![14]]
إن كنا قد جحدنا الرب ثلاث مرات بالفكر والقول والعمل، جحدناه ثلاث مرات إذ أخطأنا في حقه الإلهي وحق أقربائنا وحق أنفسنا، ليت روح الله يصيح في آذاننا مرتين بإعلاناته لنا خلال الأنبياء والرسل حاملاً إيانا ربنا يسوع المصلوب، نبكي على خطايانا ونعلن صدق توبتنا وشوقنا للرجوع إليه والثبات فيه أبديًا!
- ذهابه إلى جثسيماني
إذ أعلن السيد المسيح لتلاميذه عن كل شيء انطلق بهم إلى البستان يحمل كأس الألم، إذ يقول الإنجيلي:
“وجاءوا إلى ضيعة اسمها جثسيماني،
فقال لتلاميذه: اجلسوا ههنا حتى أصلي.
ثم أخذ معه بطرس ويعقوب ويوحنا،
وابتدأ يدهش ويكتئب.
فقال لهم: نفس حزينة جدًا حتى الموت.
امكثوا هنا واسهروا” [32-34].
“جثسيماني” كلمة أرامية تعني “معصرة الزيت” (مت 26: 36)، كانت بستانًا فيه أشجار الزيتون ومعصرة لعصره، يقع البستان شرق أورشليم على السفح الغربي من جبل الزيتون (لو 22: 39) وبينه وبين أورشليم وادي قدرون (يو 18: 1)، “وكان يهوذا مسلمه يعرف الموضع، لأن يسوع اجتمع هناك كثيرًا مع تلاميذه” (يو 18: 2؛ لو 22: 39).
إن كانت البشرية قد فقدت سرّ حياتها وبهجتها وسلامها خلال عصيان آدم الأول في البستان، ففي البستان دخل آدم الثاني كما إلى معصرة زيت (جثيسماني)، ليعتصر بالألم من أجل البشرية، ويرد بطاعته للآب حتى الموت ما سبق ففقدته.
أخذ معه تلاميذه الثلاثة الذين كانوا معه في لحظات التجلي، حتى إذ يروه يدهش ويكتئب، ودموعه تتقاطر كالدم، يدركوا حقيقة تأنسه ودخوله تحت الآلام دون أن يتعثروا، فقد رأوه في تجليه ومجده.
دخل بتلاميذه إلى البستان ليقدم نفسه مثلاً حيًا عمليًا عن حياة الصلاة والسهر خلال الضيق، لذلك قال لهم: “اجلسوا ههنا حتى أصلي”، كما أوصاهم “امكثوا هنا واسهروا”. كما علمنا مجابهة الموت بلا خوف، والتسليم الكامل بين يدي الآب السماوي، إذ يقول الإنجيلي:
“ثم تقدم قليلاً، وخرّ على الأرض،
وكان يصلي لكي تعبر عنه الساعة إن أمكن.
وقال: يا أبّا الآب كل شيء مستطاع لك،
فأعبر عني هذه الكأس،
ولكن ليكن لا ما أريد أنا بل ما تريد أنت” [35-36].
كتب القديس يوحنا الذهبي الفم مقالاً عن “إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس” سبق لي ترجمته ونشره[15]، جاء فيه:
أولاً: لا يمكن القول بأن السيد المسيح كان يجهل إن كان ممكنًا أن تعبر عنه الكأس أم لا، بقوله “إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس”. [المعرفة الخاصة بآلامه ليست أعظم من المعرفة الخاصة بجوهر طبيعته، الأمر الذي هو وحده يعرفه تمام المعرفة وبدقة، إذ يقول “كما أن الآب يعرفني وأنا أعرف الآب“ (يو 10: 15). ولماذا أتكلم عن ابن الله الوحيد، فإنه حتى الأنبياء يبدو أنهم لم يجهلوا هذه الحقيقة (أي آلام المسيح وصلبه) بل عرفوها بوضوح، وقد سبق أن أعلنوا عنها قبلاً مؤكدين حدوثها تأكيدًا قاطعًا.]
ثانيًا: لا يمكن فهم هذا القول: “إن أمكن أن تعبر عني هذه الكأس” بمعنى الرغبة في الهروب من الصليب. [لقد دعا (بطرس) ذاك الذي وُهب إعلانًا من الآب وقد طوّبه ووهبه مفاتيح ملكوت السماوات، دعاه “شيطانًا”، ودعاه “معثرة”، واتهمه أنه لا يهتم بما لله… هذا كله لأنه قال له: “حاشاك يا رب لا يكون هذا لك” أي لا يكون لك أن تصلب. فكيف إذن لا يرغب في الصليب، هذا الذي وبخ التلميذ وصبّ عليه هذا القدح إذ دعاه شيطانًا بعدما كان قد مدحه، وذلك لأنه طلب منه أن يتجنب الصليب؟ كيف لا يرغب في الصليب ذاك الذي رسم صورة للراعي الصالح معلنًا إياها كبرهان خاص بصلاحه، وهي بذله لنفسه من أجل خرافه، إذ يقول “أنا هو الراعي الصالح والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف“ (يو 10: 11)… انظر كيف يُعجب منه بسبب إعلانه هذا “أنه يبذل نفسه”، قائلاً: “الذي كان في صورة الله لم يُحسب خلسة أن يكون معادلاً لله، لكنه أخلى نفسه، آخذًا صورة عبد، صائرًا في شبه الناس، فإذ وُجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه، وأطاع حتى الموت موت الصليب” (في 2: 6-8)؟ وقد تكلم عن نفسه مرة أخرى فقال… “لهذا يحبني الآب لأني أضع نفسي لآخذها أيضًا” (يو 10: 17)… وكيف يقول الرسول بولس مرة أخرى: “واسلكوا في المحبة كما أحبنا المسيح أيضًا، وأسلم نفسه لأجلنا” (أف 5: 2)؟. وعندما اقترب السيد المسيح من الصلب قال بنفسه: “أيها الآب قد أتت الساعة، مجد ابنك” (يو 17: 10). لقد تكلم هنا عن الصليب كمجد، فكيف يستعفي عنه، وها هو يستعجله؟]
ثالثًا: أن هذه العبارة قد سجلها لنا الإنجيلي لتأكيد تجسده ودخوله فعلاً تحت الآلام. [لهذا السبب أيضًا كانت قطرات العرق تتدفق منه، وظهر ملاك ليقويه، وكان يسوع حزينًا ومغتمًا، إذ قبل أن ينطق بتلك الكلمات (ليس كما أريد أنا، بل كما تريد أنت) قال: “نفسي حزينة جدًا حتى الموت“. فإنه بعد هذا كله قام الشيطان بتكلم على فم كل من مرقيون الذي من بنطس وفالنتينوس وماني الذي من فارس وهراطقة كثيرين، محاولين إنكار تعاليم التجسد، ناطقين بكلمات شيطانية، مدعين انه لم يأخذ جسدًا حقيقيًا، ولا التحف به إنما كان له جسد خيالي وهمي… لقد أعلن المشاعر البشرية الحقيقية بوضوح، تأكيدًا لحقيقة تجسده وتأنسه.]
رابعًا: بجانب تأكيده للتجسد قدم لنا نفسه مثالاً عمليًا بهذا التصرف الحكيم. [هناك اعتبار آخر لا يقل عنه أهمية… وهو أن السيد المسيح جاء على الأرض، راغبًا في تعليم البشرية الفضائل، لا بالكلام فقط وإنما بالأعمال أيضًا. وهذه هي أفضل وسيلة للتدريس… إنه يقول: “من عمل وعلّم فهذا يُدعى عظيمًا في ملكوت السموات” (مت 5: 19)… لقد أوصى (تلاميذه) أن يصلوا: “لا تدخلنا في تجربة”، معلمًا إياهم هذه الوصية عينها بوضعها في صورة عملية، قائلاً: “يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس”. هكذا يعلم كل القديسين ألا يثبتوا بأنفسهم في المخاطر، غير ملقين أنفسهم بأنفسهم فيها… فماذا؟ حتى يعلمنا تواضع الفكر، وينزع عنا حب المجد الباطل… صلى كمن يعلم الصلاة، ولكي نطلب ألا ندخل في تجربة” ولكن إن لم يسمح الله بهذا، نطلب منه أن يصنع ما يحسن في عينيه، لذلك قال: “ولكن ليس كما أنا أريد بل كما تريد أنت”، ليس لأن إرادة الابن غير إرادة الآب، إنما لكي يعلم البشر أن يقمعوا إرادتهم في إرادة الله ولو كانوا في ضيق أو اضطراب، حتى وإن أحدق بهم الخطر، ولو لم يكونوا راغبين في الانتقال من الحياة الحاضرة.]
يحدثنا القديس أمبروسيوس عن سرّ حزن السيد المسيح القائل: “نفسي حزينة جدًا حتى الموت” [34] هكذا: [إني أعجب هنا بحنان الرب وعظمته، فلو لم تكن له مشاعري لنقصت إحساناته… سمح أن يتعب لضعفاتي! حمل حزني ليهبني سعادته! نزل حتى ألم الموت، ثم بدأ يرجعنا للحياة ثانية، وتألم لينتصر على الحزن. قيل عنه أنه رجل أوجاع ومختبر الحزن (إش 53: 3). لقد أراد أن يعلمنا، فقد سبق فعلمنا يوسف ألا نخاف السجن، وفي المسيح نتعلم كيف نغلب الموت… إنك تتألم يا رب لا بسبب جراحاتك، لا بسبب قوتك بل بسبب ضعفاتنا (إش 53: 4). نراك فريسة للألم، لكنك تتألم لأجلي، صرت ضعيفًا من أجل خطايانا (إش 53: 5). هذا الضعف ليس من طبعك لكنك أخذته لأجلي… ربما أيضًا حزن، لأنه منذ سقوط آدم كان خلاصنا الوحيد للخروج من هذا العالم هو بالضرورة “الموت”، ولما كان الله لم يخلق الموت ولا يشاء موت الخاطي مثلما يرجع وتحيا نفسه، يعز عليه أن يحتمل ما لم يخلقه[16].]
يكمل القديس أمبروسيوس تعليقه على حزن السيد المسيح مؤكدًا لن يدخل إلى لاهوته بل إلى النفس البشرية بكونه ابن الله المتأنس له نفس بشرية تشاركنا مشاعرنا. [في موضع آخر يقول: “الآن نفسي قد اضطربت“. إنه اضطراب النفس البشرية لأن اللاهوت غير قابل للألم… فالرب ليس حزينًا (باللاهوت) لكن نفسه حزينة. الحكمة ذاته ليس حزينًا (حسب اللاهوت) ولا الطبيعة الإلهية بل النفس. كان حزينًا لا بسبب الألم إنما بسبب تبديدنا، لذا قال: “اضْرِب الراعي فتتبدد خراف الرعية“ (مت 26: 35)… كان أيضًا حزينًا من أجل مضطهديه، فقد كان عارفًا أنه يفدي بالآلام خطاياهم… وقد قال: “يا أبتاه اغفر لهم، لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون” (لو 23: 34).]
يقدم لنا الأب ثيؤفلاكتيوس تعليلاً لحزن السيد بقوله: [يفهم البعض ذلك كما لو كان قد قال: إنني حزين ليس لأني أموت، وإنما لأن اليهود الذين هم من وطني يصلبونني، فيحرمون من ملكوت الله.]
يعلق أيضًا القديس أغسطينوس على حزن السيد المسيح بقوله: [ربما نطق السيد بهذه الكلمات لما تحويه من سرّ في داخلها، مظهرًا أنه قد وضع على عاتقه أن يتألم حسب جسده، أي حسب الكنيسة، التي صار لها رأس الزاوية والتي تأتي إليه بعض أعضائها من العبرانيين، والآخر من الأمم[17]]، وقد دلل القديس على ذلك بحديثه مع الآب قائلاً “يا أبّا الآب” [36]، فإن كلمة أبا Abba ترمز لليهود في علاقتهم بالله، وكلمة “الآب” ترمز للأمم في علاقتهم أيضًا بالله، إذ هو أب لليهود كما للأمم.
“ثم جاء ووجدهم نيامًا، فقال لبطرس:
يا سمعان أنت نائم، أما قدرت أن تسهر ساعة واحدة؟
اسهروا وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة.
أما الروح فنشيط وأما الجسد فضعيف.
ومضى أيضًا وصلى قائلاً ذلك الكلام بعينه.
ثم رجع ووجدهم أيضًا نيامًا، إذ كانت أعينهم ثقيلة،
فلم يعلموا بماذا يجيبون.
ثم جاء ثالثة وقال: ناموا الآن واستريحوا، يكفي، قد أتت الساعة.
هوذا ابن الإنسان يُسلم إلى أيدي الخطاة.
قوموا لنذهب، هوذا الذي يسلمني قد اقترب” [37-42].
ويلاحظ في هذا النص الإنجيلي الآتي:
أولاً: سبق فأوصاهم السيد أن يسهروا ويصلوا، لكنهم لم يستطيعوا، ففي كل مرة يرجع إليهم السيد يجدهم نيامًا، بل “كانت أعينهم ثقيلة”… وفي المرة الأخيرة قال لهم: “ناموا الآن واستريحوا”.
السهر الذي طلبه السيد من تلاميذه ليس مجرد الامتناع عن النوم، وإنما يعني اليقظة الروحية والفهم الداخلي وإدراك أسرار الفداء. فقد مثّل التلاميذ البشرية التي لم تكن قادرة على السهر وإدراك أسرار العمل الإلهي، بالرغم من إرساله الرموز والنبوات لإيقاظها. لقد نام التلاميذ بعمق حتى كانت أعينهم ثقيلة رمزًا لحالة عدم الإيمان أو الجحود التي أصابت البشرية دون أن يتوقف الرب عن ممارسته أعمال محبته، وكما يقول الرسول: “ونحن أعداء صولحنا مع الله بموت ابنه“ (رو 5: 10).
أما قوله في المرة الثالثة: “ناموا الآن واستريحوا”، فلا يعني نوم الخمول والتراخي، إنما يعني التسليم الكامل في يدّي الله والراحة الداخلية، كما نام القديس بطرس الرسول في السجن (أع 12: 7)، وكما قيل: “يعطي حبيبه نومًا“ (مز 127: 2). وفي المرة الثالثة، إشارة إلى قيامته في اليوم الثالث، ننام نحن ونستريح إذ لا نخاف بعد الموت مادام الرب مات وقام لأجلنا.
ثانيًا: يسألهم السيد المسيح: “صلوا لئلا تدخلوا في تجربة”، فالمسيحي مهما بلغت قامته الروحية في تواضع لا يشتهي الدخول في تجربة، بل يسأل الرب ألا يسمح له بالدخول فيها، حتى متى حلت به التجربة استطاع بالرب ألا يسقط فيها، بل يرتفع فوقها، لا يفكر فيها، بل ينشغل بالمخلص نفسه!
ثالثًا: يقول “أما الروح فنشيط، وأما الجسد فضعيف”. فإن كانت أرواحهم قوية مستعدة أن تشهد له حتى الموت، لكن بسبب ضعف الجسد ينهارون، ما لم يسندهم الرب نفسه. يقول القديس جيروم: [بينما روحي قوية تقودني للحياة، إذ بجسدي ضعيف يسحبني للموت[18].]
في عتاب يقول لبطرس: “يا سمعان، أنت نائم، أما قدرت أن تسهر ساعة واحدة؟” وكأنه يقول له: أين هي غيرتك الشديدة ومحبتك الملتهبة ووعدك “ولو اضطررت أن أموت معك لا أنكرك“؟ إنك بسبب ضعف الجسد لم تستطع أن تقاوم النوم بل صارت عيناك ثقيلتين، فكيف تحتمل الموت لأجلي؟
- القبض عليه
إذ دخل السيد المسيح إلى البستان ليتسلم كأس الألم من أجل البشرية كلها أعلن لتلاميذه: “قد أتت الساعة، هوذا ابن الإنسان يُسلم إلى أيدي الخطاة. قوموا لنذهب، هوذا الذي يسلمني قد اقترب” [41-42].
خرج إلى البستان حتى يسلم نفسه بالطاعة للقيود، فيفك الرباطات التي قيدت البشرية خلال عصيان آدم. في البستان جاء السيد إلى تلاميذه ثلاث مرات فيجدهم نيامًا، وكأنهم يمثلون البشرية الساقطة تحت ثقل الخطية بالفكر والقول والعمل أيضًا. من أجل هذه البشرية يتقدم السيد ليسلم نفسه للأشرار فينام على الصليب عوضًا عنهم! يقول القديس أغسطينوس: [قبضوا على ذاك الذي يمكنهم أن يتحرروا من ربطهم. ولعله كان من بينهم من استهزأ به، لكن منهم أيضًا من خلص بواسطته، هؤلاء يقولون: “قد حللت ربطي” (مز 116: 16).]
“وللوقت فيما هو يتكلم أقبل يهوذا واحد من الإثني عشر،
ومعه جمع كثير بسيوف وعصى من عند رؤساء الكهنة والكتبة والشيوخ.
وكان مسلمه قد أعطاهم علامة قائلاً:
الذي أقبله هوهو، امسكوه وامضوا به بحرص.
فجاء للوقت وتقدم إليه قائلاً: يا سيدي يا سيدي، وقبَّله.
فألقوا أيديهم عليه وامسكوه.
فأستل واحد من الحاضرين السيف وضرب عبد رئيس الكهنة، فقطع أذنه” [43-47].
مرة أخرى إذ يتحدث عن يهوذا يؤكد أنه من الاثني عشر ليعلن عن بشاعة جريمته وتجاسره، خاصة وأنه جعل من “القبلة” علامة لتسليمه.
حقًا حينما سأل النبي بروح النبوة المسيّا المجروح: “ما هذه الجروح في يدك؟” (زك 13: 6)، أجاب في مرارة: “هي التي جرحت بها في بيت أحبائي“ (زك 13: 6).
يعلق القديس أمبروسيوس على عتاب السيد المسيح لتميذه: “يا يهوذا، أبقبلة تُسلم ابن الإنسان؟” (لو 22: 48)، قائلاً: [تعبير رائع عن القوة الإلهية، درس عظيم في الفضيلة! لقد كشف الخيانة ومع ذلك لم يبخل عنه بطول أناته عليه.
لقد أظهرت يا رب من هو الذي يسلمك وكشفت سره وأعلنت عمن يُسلّم أنه “ابن الإنسان“، وكأنك تقول: لأجلك أيها الخائن أخذت أنا هذا الجسد الذي تسلمه!… كأنه يعاتب الخائن في مشاعر كلها حنان: “يا يهوذا أبقبلة تسلم ابن الإنسان؟“ بمعني آخر: أتجرحني بعربون الحب؟ أتسفك دمي بعلامة الحب، وتسلمني للموت بعلامة السلام؟ وأنت الخادم تسلم سيدك، وأنت التلميذ تسلم معلمك وتخون جابلك؟ حقًا ينطبق هذا القول عن الخائن: “غاشة هي قبلات العدو“ (أم 27: 6)… وتقبل المسيح هذه القبلة لا عن رياء إنما ليظهر أنه لا يهرب من الخائن، فيزداد هلاك الخائن بعدم رفض السيد علامات الحب منه، فقد قيل: “ومع مبغضي السلام كنت صاحب السلام“ (مز 119: 6)[19].
في نص منسوب للقديس جيروم [أعطى يهوذا قبلة كعلامة، بغش مميت، كما قدم قايين تقدمة غاشة بغيضة.]
يعلق القديس كيرلس الكبير على تصرف يهوذا هذا بقوله:
[كثيرة هي الآلام (الخطايا) ومرة تلك التي تثير حربًا ضد نفس الإنسان، وتدخل معها في صراع لا يُحتمل، لتهوي بها إلى ممارسة أعمال دنيئة، أما أشر هذه الآلام فهي محبة المال، أصل كل الشرور، التي سقط في فخاخها العنيفة التلميذ الخائن، حتى قبل أن يصير خادمًا لغش الشيطان، ويكون أداة في أيدي رؤساء مجمع اليهود الأشرار في هياجهم ضد المسيح…
من أجل الدراهم التي بلا ثمن كّف عن أن يكون مع المسيح وفقد رجاؤه في الله وكرامته والأكاليل والحياة والمجد المعد لتابعي المسيح الحقيقيين وحقه أن يملك معه…
لقد أعطى لهؤلاء القتلة علامة، قائلاً: “الذي أقبله هو”. لقد نسي تمامًا مجد المسيح، وفي غباوته الكاملة ظن أنه يبقى متسترًا عندما يُقدم قبلة التي هي علامة الحب، بينما يحمل في قلبه خداعًا مرًا وشريرًا. فإنه حين كان في صحبة المسيح مخلصنا مع بقية الرسل في رحلاته، غالبًا ما سمعه يسبق فيخبرهم بالأمور المقبلة بكونه الله العالم بكل شيء، وقد سبق فأخبره عن عمل خيانته، إذ قال للرسل القديسين: “الحق أقول لكم إن واحدًا منكم يسلمني”. كيف إذن تبقى نيته مخفية؟ لا، بل كانت الحية في داخله تصارع الله، كان مسكنًا للشيطان، إذ قال أحد الإنجيليين أنه إذ كان متكئًا على المائدة مع بقية التلاميذ وأعطاه المخلص لقمة غمسها في الصحفة “دخله الشيطان[20]“.]
قدم يهوذا قبلة مملوءة غشًا أمام الجمع الكثير حاملي السيوف والعصي، وكأنه بيوسف الذي باعه إخوته للغرباء… وقد حاول بطرس أن يدافع عن سيده فاستل سيفًا وضرب عبد رئيس الكهنة، فقطع أذنه… لكن السيد انتهره على ما ارتكبه، ولم يترك العبد في آلامه بل شفاه.
يقول القديس كيرلس الكبير [لا يريدنا أن نستخدم سيوفًا في مقاومة أعدائنا، بل بالحري نستخدم الحب مع التعقل، فنغلب مقاومينا بقوة. ويقدم لنا بولس تعليمًا مشابهًا بقوله: “هادمين ظنونًا وكل علو يرتفع ضد معرفة الله ومستأسرين كل فكر إلى طاعة المسيح“ (2 كو 10: 5). لأن الحرب من أجل الحق روحية، والسلاح اللائق بالقديسين هو عقلي ومملوء بمحبة الله. يليق بنا أن نلبس درع البرّ وخوذة الخلاص، وترس الإيمان وسيف الروح الذي هو كلمة الله (أف 6: 14-17)[21].]
ويقدم لنا القديس أمبروسيوس بعض التعليقات على قطع أذن العبد نذكر منها:
[ضرب بطرس عبد رئيس الكهنة، لكن الرب شفى الجراحات الدامية وأحل محلّها الأسرار الإلهية.
جُرح عبد رئيس هذا العالم وخادم قوات هذا الدهر… جُرح في أذنه لأنه لم ينصت لصوت الحكمة…
قطع بطرس الأذن ليعلم أن من ليس له الأذن الروحية لا يستحق أن تكون له حتى الأذن الملموسة. وقد أرجع الرب له الأذن مؤكدًا ما قاله إشعياء أن الشفاء ممكن بالتوبة حتى للذين جرحوا الرب في آلامه (إش 6: 10)…
لماذا قطع بطرس الأذن؟ لأنه أخذ مفاتيح ملكوت السماوات، هو يقطع وهو يحّل! أخذ سلطان الربط والحل، فيقطع أذن من يسمع رديًا بسيف روحي، يقطع الأذن الداخلية عن الفهم الخاطئ…
كثيرون يظنون أن لهم الآذان وهم بلا آذان. ففي الكنيسة يكون للجميع آذان، أما خارجها فلا يكون لهم[22].]
يكمل الإنجيلي حديثه عن القبض على السيد المسيح، هكذا:
“فأجاب يسوع وقال لهم:
كأنه على لص خرجتم بسيوف وعصى لتأخذوني.
كل يوم كنت معكم في الهيكل أعلّم ولم تمسكوني،
ولكن لكي تكمل الكتب.
فتركه الجميع وهربوا.
وتبعه شاب لابسًا إزارًا على عريه فأمسكه الشبان.
فترك الإزار وهرب عريانًا” [48-52].
يرى القديس كيرلس الكبير أن في قوله هذا يؤكد لهم أنه كان يسهل عليهم بالأولى أن يمسكوه في الهيكل حين كان يُعَلِم كل يوم، لكنهم لم يفعلوا هذا إذ لم يكن بعد قد سمح لهم، فإن كان يسلم نفسه لهم الآن إنما بإرادته في الوقت الذي اختاره مناسبًا للصلب، لهذا قال لهم: “ولكن هذه ساعتكم وسلطان الظلمة“ [بمعنى أنكم قد منحتم وقتًا قصيرًا (ساعة) فيه يكون لكم سلطان عليّ. ولكن كيف أُعطي لكم هذا السلطان؟ وبأية وسيلة؟ بإرادة الآب المتفقة مع إرادتي. لقد أردت أن أخضع نفسي لآلامي من أجل خلاص العالم وحياته.
لكم ساعة ضدي، قليلة جدًا ومحدودة، هي ما بين أحداث الصليب الثمين والقيامة من بين الأموات. وهذا هو السلطان الذي أُعطى للظلمة، لكن “الظلمة” هو اسم الشيطان بكونه ليلاً دامسًا وظلمة، فيقول عنه الطوباوي بولس: “إله هذا الدهر قد أعمى أذهان غير المؤمنين لئلا تضيء لهم إنارة إنجيل مجد المسيح“ (2 كو4: 4). إذن أُعطى للشيطان ولليهود السلطان أن يثوروا ضد المسيح، لكنهم حفروا لأنفسهم حفرة الهلاك[23].]
أما الشاب الذي هرب عريانًا فهو القديس مرقس كاتب الإنجيل جاء في نص منسوب للقديس جيروم: [كما ترك يوسف ثوبه وهرب عريانًا من المرأة الزانية، ليت من يريد الهروب من أيدي الأشرار ينزع من فكرة كل شيء ويهرب وراء المسيح.]
- محاكمته دينيًا
إذ سلم السيد المسيح نفسه بين يدّي هؤلاء الثائرين ضده، اقتادوه إلى بيت رئيس الكهنة قيافا ليُحكم عليه دينيًا أنه مستوجب الموت.
كان قيافا رئيس كهنة ذلك العام، ويروي عنه يوسيفوس أنه اشترى هذا المركز من الحاكم الروماني، إذ كان هذا المنصب حسب الشريعة يتمتع به الشخص مدى الحياة إلا أن الدولة الرومانية في ذلك الوقت كانت تنصب رئيس الكهنة أو تعزله حسبما تشاء، وقد تنبأ عن عمل السيد المسيح الخلاصي وهو لا يدرى ، إذ يقول الإنجيلي يوحنا: “فقال لهم واحد منهم وهو قيافا، كان رئيسًا للكهنة في تلك السنة: أنتم لستم تعرفون شيئًا، ولا تفكرون أنه خير لنا أن يموت إنسان واحد عن الشعب ولا تهلك الأمة كلها.
ولم يقل هذا من نفسه، بل إذ كان رئيسًا للكهنة في تلك السنة، تنبأ أن يسوع مزمع أن يموت عن الأمة، وليس عن الأمة فقط بل ليجمع أبناء الله المتفرقين إلى واحد“ (يو 11: 49-52). أما النبوة الثانية فلم تكن بالكلام بل بالتصرف إذ يقول الإنجيلي: “فمزق رئيس الكهنة ثيابه وقال: ما حاجتنا بعد إلى شهود؟” [63]… فقد أعلن نهاية الكهنوت اللاوي أو الموسوي بتمزيق ثيابه كرئيس كهنة! بينما لم يستطع حتى الجند الرومان أن يمزقوا ثوب المسيح في لحظات الصلب، مزق رئيس الكهنة اليهودي الأفود، ما كان يجب حسب الناموس ألا تمزق… فحكم لا على نفسه فقط بل وعلى نهاية الكهنوت اللاوي ككل!
بتمزيق ثيابه أعلن قيافا اشمئزازه من كلمات السيد المسيح التي حسبها تجديفًا، فحكم عليه الجميع أنه مستوجب الموت [64]، غير أنه لم يكن لهم أو لرئيسهم قوة التنفيذ، فأخذوا السيد إلى الحاكم الروماني (يو 18: 28) ليأمر بصلبه. هذا وقد اشترك قيافا بعد قيامة السيد المسيح في الحكم على القديسين بطرس ويوحنا (أع 4: 6)، وقد طرده الرومان من وظيفته عام 36م.
“فمضوا بيسوع إلى رئيس الكهنة،
فإجتمع معه جميع رؤساء الكهنة والشيوخ والكتبة.
وكان بطرس قد تبعه من بعيد إلى داخل رئيس الكهنة،
وكان جالسًا بين الخدام يستدفئ عند النار” [53-54].
كان يليق بدار رئيس الكهنة أن يكون كنيسة مقدسة تشهد للسيد المسيح أمام العالم، تسحب كل نفس للاقتراب إلى كلمة الله بلهيب الروح القدس الناري لتشبع من سرّ الحياة، لكنه خلال الحسد ومحبة العالم تحول داره إلى موضع للحكم على السيد المسيح بالموت. وعوض أن تقترب فيه النفوس إلى المسيّا المخلص بقي بطرس بعيدًا عن مخلصه. وعوض نار الروح القدس أُشعلت نار الشهوة الشريرة يستدفئ بها عبيد هذا العالم وخدامه.
إن كنا في مياه المعمودية قد صرنا جميعًا كهنة وملوكًا، نحمل الكهنوت العلماني أو العام الذي به يكون لنا ملء الدالة للوقوف أمام الآب في ابنه، ونقدم ذبائح الحمد والتسبيح في قلوبنا كما على مذبح الرب الداخلي. لقد تمتعنا بالروح القدس الناري بسرّ المسحة المقدسة “الميرون”، فليتنا لا نسلم دارنا الداخلي لعدو الخير، وعِوَض تجلي الرب فيه يُحكم عليه كما بالصليب ثانية، وعوض النار السماوية المقدسة تشتعل نيران الخطية القاتلة (هو 7: 4). بهذا يصير بطرسنا الداخلي بعيدًا عن الرب، يجالس خدام هذا العالم، ويستدفئ بنارهم الشريرة، فينكر سيده مرة ومرات بقسمٍ!
بحث رئيس الكهنة وكل المجمع عن شهود ضد يسوع ليحكموا عليه بالموت، لكن شهادتهم لم تتفق معًا [55-56]، كأنهم بامرأة فوطيفار التي اشتهت أن تسلم يوسف للموت بشهادة زور.
وُجه للسيد المسيح إتهامان هما:
الاتهام الأول: “نحن سمعناه يقول إني أنقض هذا الهيكل المصنوع بالأيادي وفي ثلاثة أيام أبني آخر غير مصنوع بأيادٍ” [58]. هذا الاتهام في حقيقته يحمل شهادة زور، فإنه لم يقل “إني انقض هذا الهيكل”، بل قال “انقضوا“، كما لم يقل: “هذا الهيكل مصنوع بالأيادي” بل “هذا الهيكل” إذ كان يتحدث عن هيكل جسده. لقد فهموا الكلمات بغير معناها الحقيقي، لكن هذه الشهادة على أي الأحوال بالرغم من بطلانها أكدت حديثه عن موته وقيامته في اليوم الثالث، فصارت ركيزة حية للكرازة بعد قيامته.
الاتهام الثاني: حين أجاب السيد على رئيس الكهنة الذي سأله: “أأنت المسيح ابن المبارك؟” [61]، “قال يسوع: أنا هو، وسوف تبصرون ابن الإنسان جالسًا عن يمين القوة، وآتيًا في سحاب”، لم يحتمل رئيس الكهنة الإجابة فمزق ثيابه، وقال: “ما حاجتنا بعد إلى شهود؟ قد سمعتم بالتجاديف” [63-64].
كان الاتهام الأول معتمدًا على شهادة زور، أما الاتهام الثاني فاعتمد على جهل مطبق وعدم إدراك لكلمات السيد المسيح نفسه. تعثر المجمع بالشهادة الأولى الخاصة بهدم هيكل جسده وقيامته، ولم يحتمل أن يسمع عن مجد ابن الله في السماء ومجيئه الأخير، وحسبوا هذا تجديفًا يستوجب الموت. لعلهم بالاتهام الأول حسبوه محطمًا للناموس، إذ يريد نقض الهيكل، مقللاً من شأنه، بقوله أنه مصنوع بالأيادي، وبالاتهام الثاني حسبوه مجدفًا.
يقول الإنجيلي: “أما هو فكان ساكتًا، ولم يجب بشيء” [61]. ويقول القديس أغسطينوس إنه كان صامتًا أثناء محاكمته في أكثر من موقف، تارة أمام رئيس الكهنة، وأخرى أمام بيلاطس، وثالثة أمام هيرودس. ففيه يتحقق القول: “لم يفتح فاه، كشاه تـُساق إلى الذبح“ (إش 53: 7)، كما يقول: شُبّه بالحمل حتى يُحسب في صمته بارًا غير مذنب. لذلك إذ اجتاز المحاكمة لم يفتح فاه، وقد فعل هذا كحمل، بمعنى أنه لم يكن شخصيًا ذي ضمير شرير ارتكب خطايا، بل في وداعته قُدم ذبيحته عن خطايا الآخرين[24].
لقد ثار رئيس الكهنة وغضب بسبب صمت السيد، قائلاً: “أما تجيب بشيء؟ ماذا يشهد به هؤلاء عليك؟ [60]، غير أن السيد لم يهدف بصمته أن يُثير أحدًا، إنما صمت لأنه يعرف أنهم لا ينتفعون بكلماته، بل يطلبون فيها فرصة يمسكونها عليه، فصمت لعلهم يراجعون أنفسهم فيما يفعلون. في صمته صمت من أجل الحب، وحينما تحدث تكلم بكلمات قليلة معلنًا حقيقة شخصه حتى لا يكون لهم عذر فيما يصنعونه. بمعنى آخر إن صمت أو تكلم يفعل ذلك بدافع الحب لا المقاومة أو الانتقام.
سأله رئيس الكهنة: “أأنت المسيح ابن المبارك؟” بمعنى “أأنت ابن الله؟” فأجاب السيد ملقبًا نفسه “ابن الإنسان”، معلنًا أنه ابن المبارك المتأنس، مؤكدًا أن تأنسه لا يفصله عن الآب، ولا ينزع عمله الإلهي كديان يأتي في سحاب السماء، ويظهر جالسًا عن يمين القوة، أي يمين الآب.
أخيرًا إذ حكم الجميع أنه مستوجب الموت بقى في الدار حتى الصباح يحتمل الإهانات، إذ يقول الإنجيلي: “فابتدأ قوم يبصقون عليه، ويغطون وجهه ويلكمونه، ويقولون له تنبأ، وكان الخدام يلطمونه” [65]. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [إني أفخر بهذه الأمور، ليس فقط أنه أقام آلاف الموتى، وإنما احتمل هذه الآلام[25].] ويقول القديس كيرلس الكبير: [هذا الذي هو نسمة كل الأرواح المقدسة في السماوات يُحتقر كواحدٍ منا، محتملاً اللطمات بصبرٍ، خاضعًا لسخرية الأشرار، مقدمًا نفسه لنا في كمال طول الأناة، أو بالحري معلنًا وداعته الإلهية العظيمة التي لا تُقارن… لقد سخروا به كمن هو إنسان جاهل مع أنه واهب كل المعرفة، وناظر للخفيات فينا[26].]
- إنكار بطرس
يروي لنا الإنجيلي مرقس كيف تحقق قول الرب لبطرس: “قبل أن يصيح الديك مرتين، تنكرني ثلاث مرات”:
أ. في الدار أسفل أنكر بطرس أمام أحد جواري رئيس الكهنة بينما كان يستدفئ.
ب. أنكر للمرة الأولى خارج الدهليز، وصاح الديك، ثم أنكر للمرة الثانية أمام الحاضرين حين أكدت الجارية أنه منهم.
ج. إذ قال له الحاضرون: “حقًا أنت منهم لأنك جليلي أيضًا، ولغتك تشبه لغتهم” أنكر للمرة الثالثة، حيث ابتدأ يلعن ويحلف أني لا أعرف هذا الرجل الذي تقولون عنه، ثم صاح الديك للمرة الثانية فتذكر كلمات السيد المسيح وبكى.
ويلاحظ في هذه الأحداث التالي:
أولاً: يعلق القديس أمبروسيوس على الموضع الذي فيه أنكر بطرس والظروف المحيطة به، فيقول:
[تبعه بطرس من بعيد فأنكره، ولما اتحد بالرب يسوع واقترب منه جدًا لم ينكره…
كان في دار رئيس الكهنة نار متقدة واقترب بطرس يستدفئ، فقد فترت حرارة الروح في بطرس لأن الرب كان سجينًا…
أين أنكر بطرس؟ لم ينكره على الجبل ولا في الهيكل ولا في البيت وإنما في دار اليهود، في منزل رئيس الكهنة، في الموضع الذي لا يوجد فيه الحق حيث سُجن يسوع!…
لنتأمل في حال بطرس وهو يخطئ، فقد كان باردًا، ربما ليس بسبب الطقس، لكن لأن الجو (الروحي) كان باردًا في هذا الموضع الذي لا يعترف بالرب يسوع، الموضع الذي لا يرى فيه إنسان نورًا… كان البرد يمس الروح لا الجسد لذلك وقف بطرس يصطلي إذ كان قلبه يرتعش[27].]
ليت بطرس الداخلي لا يدخل بعد مثل هذا الدار، ليعيش بروح بارد غير ملتهب بالروح الإلهي، فيطلب نارًا من العالم للدفء، لئلا يجحد سيده، ويفقد قلبنا الملكوت الأبدي.
ثانيًا: يقول الإنجيلي أن بطرس كان في الدار أسفل حين أنكر في المرة الأولى، ولم يستطع أن يعترف أمام جارية، بينما حينما ارتفع فيما بعد على السطح (أع 10: 11) انفتحت عيناه لتنظر رؤيا إلهية وينطلق لا ليشهد أمام جارية بل يكرز بين الأمميين (كرنيليوس وأهل بيته). بمعنى آخر حين يكون بطرس في الدار أسفل يطلب الزمنيات ويستدفئ بنار محبة العالم أو شهوة الجسد، لكنه حين يكون مرتفعًا كما على السطح يرى العلويات ويلتهب بنار الروح القدس.
ثالثًا: رأينا أن صياح الديك للمرة الثانية الذي ذكرّ بطرس بكلمات سيده فبكى نادمًا، يشير إلى عمل الروح القدس في العهد الجديد “الذي يبكت العالم على خطية“ (يو 16: 8)، والذي يذكرنا بكل ما قاله لنا السيد (يو 14: 26).
غير أن معلمنا لوقا البشير يقدم لنا سببًا آخر لتوبة بطرس، إذ يقول: “وفي الحال بينما هو يتكلم صاح الديك، فالتفت الرب ونظر إلى بطرس، فتذكر بطرس كلام الرب“ (لو 22: 60-61)، فإن كان صياح الديك يشير إلى عمل الروح القدس لتبكيت القلب وتذكيره بكلمات الرب، فإن التفات السيد المسيح ونظره إلى بطرس يدفع إلى التوبة المملوءة رجاء!
في هذا يقول القديس أمبروسيوس: [حسنة هي الدموع التي تغسل الخطية! من يلتفت إليهم الرب وينظر يبكون، فإن بطرس أنكر أولاً ولم يبكِ، لأن الرب لم يلتفت ولا نظر إليه. أنكر للمرة الثانية ومع هذا لم يبكِ… وفي المرة الثالثة أنكر أيضًا وإذ التفت إليه يسوع ونظره عندئذ بكى بمرارة… لا نستطيع القول بأنه (مجرد) التفت إليه بعينيه الجسديتين ونظر إليه في عتاب منظور واضح، إنما تحقق هذا داخليًا في الذهن والإرادة… تلامس معه الرب برحمته في صمت وسرية، فذكره بنعمته الداخلية، مفتقدًا بطرس وحاثًا إياه، مقدمًا له دموعًا ظاهرة تعبر عن مشاعر الإنسان الداخلي. أنظر بأية طريقة الله حاضر بمعونته ليسندنا في الإرادة والعمل، يعمل فينا أن نريد وأن نعمل[28].]
كما يقول في موضع آخر: [أنظر إلينا يا ربنا يسوع لنعرف البكاء على خطايانا[29].]
[1] De Prod. Jud. hom 1.
[2] Catena Aurea.
[3] In Luc. Ser. 148.
[4] In Luc. Ser. 141.
[5] In Luc. Ser. 141.
[6] In Luc. 22: 7-13.
[7] In Luc. 22: 7-13.
[8] In Pord. Jud. hom `e.
[9] In Luc. Ser. 142.
[10] A. Hamman: The Paschal Mystery, 1969, p 26-39.
[11] Cf. Catena Aurea.
[12] De Myster. 9.
[13] In Luc. Ser. 144.
[14] Cf. Catena Aurea.
[15] الحب الإلهي، 1967، ص367-392.
[16] In Luc 22: 39-53.
[17] القديس أغسطينوس: اتفاق البشائر 3: 4. [راجع أيضًا أقوال بعض الآباء مثل القديس كيرلس الكبير في سرّ حزن السيدالمسيح، في كتابنا: الإنجيل بحسب متى، ص536-537.]
[18] Ep 133: 10.
[19] In Luc 22:39-53.
[20] In Luc Ser. 148.
[21] In Luc Ser. 148.
[22] In Luc 22: 39-53.
[23] In Luc Ser. 148.
[24] In loan. tr 116:4.
[25] In Matt. hom 85.
[26] In Luc. hom 150.
[27] In Luc 22: 54-62.
[28] On the Grace of Christ 49.
[29] In Luc 22: 54-62.