تفسير كورنثوس الأولى 15 – الأصحاح الخامس عشر – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير كورنثوس الأولى 15 – الأصحاح الخامس عشر – القمص تادرس يعقوب ملطي
الباب الخامس
مشاكل أخروية
(القيامة من الأموات)
15
الإصحاح الخامس عشر
القيامة من الأموات
يرى البعض أن هذا الإصحاح هو أهم جزء في الرسالة، بل ويحسبونه من أهم ما كتبه الرسول بولس، حيث قدم لنا مقالاً يجيب علي تساؤلات الكثيرين بخصوص الحق الانجيلي الرئيسي، وهو التمتع بالقيامة من الأموات خلال المسيح بكر الراقدين. إنه يرفع نظرتنا لأنفسنا من كائنات ضعيفة تعيش في العالم حيث تبدو بعض الخلائق الأخرى كالحيوانات أكثر منا قوة لنرى أنفسنا في المسيح أجمل خليقة اللَّه في المسكونة، نتحدى الموت لنبقى معه في مجده أبديًا.
يرتبط تقديس الكنيسة ككل وكأعضاء في كل جوانب الحياة بالفكر الإنقضائي أو الأخروي، حيث ننتظر قيامة الأموات واللقاء مع ربنا. لهذا جاء ختام قانون الإيمان يؤكد ترقبنا بيقين القيامة من الأموات. فإن غاية إيماننا هو أن نقوم ونوجد مع إلهنا أبديًا. إيماننا بالقيامة من الأموات يتحدى الزمن والقبر، بل والطبيعة، لننال ما هو فائق للطبيعة.
إذ أنكر بعض الكورنثوسيين قيامة الجسد وتساءل البعض عن مدى إمكانية تحقيقها قدّم لنا الرسول قيامة السيد المسيح كتأكيد وباكورة لقيامتنا من الأموات، باكورة الحصاد بين الموتى، واشتراك الجسد مع النفس في المجد الأبدي. كما أجاب في هذا الإصحاح على أربعة أسئلة هامة:
- هل من قيامة للأموات؟ [ 1- 34]
- بأي جسد نقوم؟ [ 35 – 51]
- ما هو موقف الأحياء الذين لم يموتوا عند مجيء الرب؟ [ 51- 54]
- ما هو دورنا العملي خلال رجائنا في القيامة؟ [55- 58 ]
جاء تعليم الرسول عن القيامة يحمل اتجاهات إيجابية قوية منها:
أولاً: قدم التعليم بروح متهللة بالمسيح القائم من الأموات مع فرحٍ شديدٍ بروح النصرة على آخر عدو وهو الموت.
ثانيًا: أبرز أن القيامة أمر فائق للعقل لكنه تعليم مقبول، وعلى العكس إنكارها لن يقبله المنطق البشري السليم، إذ يجعل من الإنسان أشبه بحيوانٍ يعيش إلى حين لينتهي إلى الأبد.
ثالثًا: أكد الرسول أن القيامة تقوم على تدبير ونظام إلهي دقيق، فالمسيح بكر الراقدين، والمؤمنون الأبرار بعده، ويُعاقب إبليس وجنوده أبديًا لتكون النهاية. هذا ومن جانب آخر فإنه لكل مؤمنٍ مجده المتميز قدر ما تجاوب مع نعمة اللَّه الفائقة.
لقد أجاب الرسول في رسائله على السؤالين التاليين:
ماذا لو لم يقم المسيح؟
- يكون الكتاب باطلاً [4].
- لا كفارة لخطايانا [17].
- لا رجاء بعد القبر [18-19].
- ليست قوة إلهية في الحياة (غلا 20:2، في10:3، كو 1:3).
- ليس لنا مخلص حيّ (أع 30:5-31).
- لا يُعلن عن المسيح ابن اللَّه بقوة (رو4:1).
- لا رأس للكنيسة (مت18:16؛ أف22:1؛ 20:2).
ماذا لو لم توجد القيامة من الأموات؟
- ما قام المسيح [13].
- نبقى في خطايانا [17]. بدون القيامة لا يوجد دليل على قبول اللَّه الآب لذبيحة المسيح فدية عن خطايانا.
- يكون إيماننا باطلاً [14]. بدون القيامة لا موضع للإيمان ولا للرجاء.
- تكون كرازتنا باطلة [14]. بدون القيامة لا موضع للإنجيل بالكلية لأننا بهذا نعبد مسيحًا ميتًا. بدونها لا توجد أخبار سارة.
- نصير شهود زور للَّه [15].
- لا رجاء للأموات [18].
- نحيا في بؤسٍ [19].
- قيامة المسيح وقانون الإيمان 1-11.
- قيامة المسيح أساس قيامتنا 12-19.
- قيامة المسيح ضمان لقيامتنا 20.
- قيامة المسيح علاج إلهي لسقوطنا 21-23.
- القيامة وتحدي الموت 24-26.
- وضعنا الأبدي 27-28.
- قيامة المسيح والدوافع الجديدة 29-34.
- الجسد المُقام 35- 44.
- نلبس صورة السماوي 45- 50.
- البوق الأخير 51- 58.
1. قيامة المسيح وقانون الإيمان
إذ يعالج الرسول بولس موضوع القيامة من الأموات لا يرى في القيامة عنصرًا هامًا فحسب من عناصر قانون إيماننا، إنما هو عصب الإيمان. فإن غاية الإنجيل هو التمتع بالقيامة التي تحققت بموت المسيح من أجل خطايانا، ليعلن أنه أعظم من خطايانا وأقوى من الموت، واهبًا إيانا القيامة بقيامته. هذا هو إنجيل خلاصنا وقيامتنا ومجدنا السماوي.
لقد أنكر بعض الكورنثوسيين القيامة من الأموات، ربما ظنوا أن الحديث عنها إنما حديث رمزي، كما فعل هيمينايس وفيليتس، فقالا: “إن القيامة قد صارت” (2 تي 18:2). وكما نادى بعض الهراطقة بأنها ليست إلا تغييرًا في طريقة الحياة. ولعل البعض أنكرها تمامًا لأنه لا يمكن للعقل أن يقبلها ولا للعلم أن يجد تبريرًا لإمكانية حدوثها. كانت القيامة من الأموات حجر عثرة للفلاسفة القدامى، ولا زالت بالنسبة للحركات الفكرية المعاصرة، مثل أصحاب الفكر الإنساني Humanist.
لقد سمح اللَّه بوجود هذه الفئة من منكري القيامة لكي يقدم لنا الرسول صورة حيّة لأهمية الإيمان بالقيامة من الأموات على أساس حيّ، وشهادة صادقة تسند الأجيال المتتالية.
“وأعرفكم أيها الاخوة بالإنجيل الذي بشرتكم به،
وقبلتموه، وتقومون فيه” [1].
- عندما دعا بولس الكورنثوسيين المسيحيين اخوته (أيها الاخوة) يضع الأساس لأهم براهينه المتوالية. فإننا صرنا اخوة خلال عمل المسيح في حياته على الأرض وموته. بعد هذا كله ما هو الإنجيل إلا رسالة أن اللَّه صار إنسانًا، وصلب وقام؟ هذا هو ما أعلنه الملاك جبرائيل للعذراء مريم (لو 1 : 26- 38)، وما كرّز به الأنبياء للعالم، وما أعلنه كل الرسل حقيقة[1].
القديس يوحنا الذهبى الفم
ما يقدمه لهم الرسول ليس بالتعليم الجديد إنما يذكرهم بما سبق أن بشرهم به وقبلوه، إذ هو الذي أسس الكنيسة هناك (أع 18: 1). يؤكد لهم الرسول بولس أن ما يقدمه لهم هو ذات الإنجيل الذي استلمه وسلّمه إليهم سابقًا. فكرازته تقوم على كلمة اللَّه التي لا تتغير، الحق الأبدي. هذا هو الأساس الثابت الذي يقومون فيه، إن نُزع عنهم فقدوا ثباتهم وسقطوا. الإيمان بالقيامة من الأموات هو أساس المسيحية، إن تشكك أحد فيها سقط كل بنيان نفسه وإيمانه باللَّه ورجاؤه في السماء. لقد قدم لهم “الإنجيل” كبشارةٍ مفرحةٍ، بدأت بمجيء المسيح الأول ليقدم الخلاص وتكمل بمجيئه الأخير وقيامتنا لننعم بثمر عمله الخلاصي أبديًا.
- لم يكن الكورنثوسيون يحتاجون أن يتعلموا هذا التعليم إذ سبق فعرفوه، إنما كانوا محتاجين إلى التذكرة به، وتصحيح أخطاء فهمهم له[2].
القديس يوحنا الذهبى الفم
الإنجيل الذي يكرز به الرسول بولس هو: “مات المسيح عن خطايانا، ودُفن، وقام في اليوم الثالث”.
“وتقومون فيه” إن كان موضوع إنجيلنا أو كرازتنا هو التمتع بالقيامة من الأموات، فإننا إن ثبتنا فيه نقوم فيه ولا نسقط، ويصير قيامنا في الإنجيل عربون القيامة الأبدية. بقوله “تقومون فيه” يظهر الرسول دهشته كيف بعد أن قبلوا هذا التعليم وعلي أساسه قامت كنيستهم ورجاؤهم ونموهم الروحي عادوا ينكرونه. أنهم يهدمون كل ما قد بناه الرسول وغيره، بل وما جاهدوا من أجله وما تمتعوا به من نعم إلهية وبركات.
“وبه أيضًا تخلصون
إن كنتم تذكرون أي كلام بشرتكم به
إلا إذا كنتم قد آمنتم عبثًا” [2].
لم يقل “خلصتم” بل “تخلصون“، وكأن الخلاص هو عمل حاضر ومستمر نتمتع به مادُمنا نتذكر إيماننا المستقيم، ونمارسه عمليًا.
- يُظهر بولس لأهل كورنثوس أنهم إذ انحرفوا عن تعليمه، خاصة الإيمان بقيامة الأموات الذي عليه يتأسس تعليمه، فإنهم سيخسرون كل ما آمنوا به[3].
الأب أمبروسياستر
- قيامة الجسد هي كل موضوع رسالة إنجيلنا. بدونها تصير كل أعمال صلواتنا وأصوامنا بلا معنى[4].
بيلاجيوس
“فإنني سلمت إليكم في الأول ما قبلته أنا أيضًا
أن المسيح مات من أجل خطايانا حسب الكتب” [3].
لم يقل الرسول: “ما قد علمتكم إياه” و”قد تعلمته” بل قال “سلمتكم” و”ما قبلته“، فإن تعليم القيامة بل وكل المسيحية ليست مجرد مجموعة تعاليم عقلية نقتنع بها أو نؤمن بها لكنها حياة نستلمها ونقبلها بقلوبنا وعقولنا ومشاعرنا مترجمة في كلماتنا وسلوكنا.
- تطلع كيف يدعوهم هم أنفسهم ليكونوا شهودًا عن الأمور التي ينطق بها. لم يقل: “ما سمعتموه” وإنما “ما تسلمتموه” طالبًا منهم نوعًا من هذه الأمور كوديعة تسلّموها، مظهرًا أنه ليس فقط خلال الكلمة وإنما أيضًا بالأعمال والآيات والعجائب التي تسلّموها، وأنه يلزمهم أن يحفظوها في آمان[5].
القديس يوحنا الذهبي الفم
يلاحظ القديس يوحنا الذهبي الفم أن الرسول لم يقل “ما قد تعلّمته” بل “ما قد تسلّمته” مؤكدًا أمرين: الأول أنه لا يتحدث بشيء من عنده، والثاني أن ما نتعلمه أو نعلمه إنما يصوّر خلال العمل لا الكلمات المجرّدة. لقد أكد الرسول أن مصدر التعليم هو المسيح نفسه وليس من إنسان[6].
ما قد تسلمه الرسول وأودعه لديهم هو أن المسيح أُسلم لأجل معاصينا وقام لأجل تبريرنا (رو 25:4). فقد قدم نفسه ذبيحة لغفران خطايانا، وأعلن الآب بالقيامة قبولها ورضاءه عنا. هكذا موت المسيح على الصليب وقيامته هما جوهر الحق الإنجيلي.
“حسب الكتب”:
إذ أوضح الرسول أن القيامة من الأموات هو عصب إيماننا أكد حقيقة القيامة بتأكيد أن موت السيد المسيح وقيامته من الأموات تحقيق لما ورد من نبوات العهد القديم [1- 4]، ومن شهادة شهود العيان [5 – 11]. هذه الحقيقة سبق فتنبأ عنها رجال العهد القديم وقدم لنا العهد القديم رموزًا لها مثل يونان في جوف الحوت (مت4:12) وذبح اسحق (عب 19:11)، فجاء إنجيلنا متناغمًا ومكملاً لما ورد من نبوات ورموز وظلال للحق الإنجيلي. فبقوله “حسب الكتب” يوضح أن موت المسيح كذبيحة كفارية وقيامته من أجل تبريرنا ليس بالأمر الجديد، إنما اشتهاه رجال العهد القديم وترقبوه بشوقٍ شديدٍ وتنبأوا عنه ( راجع مز22؛ إش 53 ؛ دا 9: 26؛ زك 12: 10؛ مز 16؛ لو 24: 26، 46).
- قال إشعياء: “سيق كغنم للذبحٍ” (إش 53 : 7) وهكذا. ويضيف سفر الرؤيا (13: 8) أنه ذُبح قبل تأسيس العالم (بإرادته)، وفي التثنية (28: 66) “وترى حياتك معلقة قدامك ولا تؤمن”. هذه كتبت بأسلوب المستقبل حتى لا يحتج الأشرار بأنها لا تنطبق على المسيح[7].
الأب أمبروسياستر
- شرور الخطاة ليست أعظم من برّ ذاك الذي مات من أجلها. الخطايا التي اُرتكبت ليست أعظم من العدالة التي تحققت عندما سلم حياته من أجلنا[8].
القديس كيرلس الأورشليمي
- قدم حياته مقابل حياة الكل. مات واحد عن الجميع، لكي ما نحيا لله مقدسين، ونتمتع بالحياة خلال دمه، ونتبرر كعطيةٍ ننعم بها بنعمته[9].
القديس كيرلس السكندري
- لم يقل فقط “مات المسيح” مع أن هذا القول فيه كفاية ليُعلن عن القيامة، لكنه أضاف “المسيح مات من أجل خطايانا“[10].
القديس يوحنا الذهبي الفم
“وأنه دفن، وأنه قام في اليوم الثالث حسب الكتب” [4].
دفن السيد المسيح في القبر، ولم يكن القبر بالنسبة له موضعًا للفساد بل كان طريقًا للحياة (أع 2: 26- 28).
يشير هوشع النبي إلى قيامة السيد المسيح في اليوم الثالث (هو 6 : 2).
- “دُفن”: هذا لتأكيد أن المسيح مات الموت البشري حقيقة. ويشير إلينا مرة أخرى إلى الكتب المقدسة كبرهان على ذلك… يرسلك بولس إلى الأسفار المقدسة لكي تتعلم أنه ليس بدون سببٍ ولا مصادفة حدثت هذه الأمور. إذ كيف يمكن أن تكون الأمور هكذا بينما يصفها كثير من الأنبياء ويشيرون إليها مقدمًا؟ عندما يتحدث الكتاب المقدس عن موت ربنا لا يوجد موضع في يشير فيه إلى الخطية إنما هو موت الجسد وحده ودفنه وقيامته[11].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- يذكرنا بولس أن نعترف بطريقة الموت والقيامة ليس بطريقة حرفية، بل بكل دقة حسب شهادة الكتب المقدسة، حتى يكون فهمنا لموته مطابقًا لفهم الرسل… لقد فعل هذا حتى لا نكون بلا عون، تلطمنا رياح الحوارات الباطلة وتتسلل إلينا الآراء الخاطئة غير اللائقة خفية[12].
القديس هيلارى أسقف بواتييه
شهادة شهود العيان
بعد أن قدم شهادة الأنبياء وأحداث العهد القديم، الآن يُقدم شهادة شهود عيان كثيرين لقيامة المسيح أو للمسيح القائم من بين الأموات. يقدم خمسة ظهورات سبقت ظهور السيد المسيح له شخصيًا.
- لبطرس الرسول (صفا).
- للإثني عشر رسولاً.
- لخمسة آلاف شخصٍ دفعة واحدة.
- ليعقوب الرسول على انفراد.
- لكل الرسل عند صعوده.
- أخيرًا ظهر له آخر الكل.
- إذ يشير إلى البرهان من الأسفار المقدسة يضيف براهين من الأحداث كشهادةٍ عن القيامة، وذلك بعد أن أشار إلى شهادة الأنبياء ذكر الرسل ومؤمنين آخرين[13].
القديس يوحنا الذهبي الفم
“وأنه ظهر لصفا ثم للاثني عشر” [5].
أشار إلى التلاميذ بالإثني عشر، وقد جاءت في بعض الترجمات كالسريانية والسلافونية والفولجاتا وفي بعض كتابات الآباء “الإحدى عشر”.
تعبير “الإثني عشر” لا يعني العدد رقم 12، إنما يحمل إشارة إلى التلاميذ كجماعة معًا، وقد دعوا هكذا حتى بعد خيانة يهوذا، حيث اختير فيما بعد الثاني عشر، وكان شاهدًا لقيامة السيد المسيح. غالبًا ما كان متياس الذي اختير فيما بعد عوض يهوذا الأسخريوطي حاضرًا معهم (أع 1: 22- 23).
لم يشر الرسول إلى كل شهود العيان للقيامة، لكنه اكتفي بمن يثق فيهم الكورنثوسيون، وكان أغلبهم لازالوا أحياء حتى يمكن التحقق منهم بما رأوه. بدأ بالقديس بطرس الرسول ثم بالاثني عشر تلميذًا، ولم يذكر المريمات حتى القديسة مريم والدة الإله لأنهم سوف لا يلتقون بهن.
- يخبرنا الكتاب المقدس أنه ظهر أولاً لمريم (مر 16 : 9). ولكن عندما ظهر للرجال ظهر أولاً للذين طلب منهم بالأكثر أن يروه. ولكن أي الرسل يعنى هنا؟ لأن متياس لم يكن بعد قد أضيف إلى الرقم إلا بعد الصعود. على أي الأحوال يبدو أن المسيح ظهر حتى بعد صعوده إلى السماء. لم يحدد بولس الوقت وإنما يسجل الخبرة[14].
القديس يوحنا الذهبي الفم
“وبعد ذلك ظهر دفعة واحدة لأكثر من خمس مئة أخٍ أكثرهم باقٍ إلى الآن،
ولكن بعضهم قد رقدوا” [6].
في مت 28: 10 طلب السيد المسيح القائم من الأموات أن يذهب تلاميذه إلى الجليل هناك يرونه، ولم يشر أحد من الإنجيليين إلى هذا اللقاء. هناك في الجليل قضى أغلب فترة خدمته العلنية، وهناك اختار أغلب تلاميذه.
غالبًا ما حدث هذا علي جبل تابور في الجليل كما جاء في التقليد الكنسي، حيث تحققت أكثر ظهوراته العلنية كوعده السابق (مت 26: 32؛ 28: 7، 10، 16). وقد عيّن هذا الموضع بعيدًا عن أورشليم حتى يمكن للمؤمنين أن يجتمعوا هناك في أكثر أمانٍ. إذ لم يكن ممكنًا لمثل هذا العدد أن يجتمع معًا للقاء معه في العاصمة بعد أحداث الصلب.
- لم تسجل الأناجيل هذا، لكن بولس عرف ذلك معتمدًا عليهم[15].
أمبروسياستر
تعبير “قد رقدوا” يشير إلى موت القديسين، فمن جانب يستقبلون الموت كراحةٍ مؤقتةٍ تدخل بهم إلى الراحة الأبدية. يموتون وهم في سلامٍ عميقٍ وهدوءٍ كمن يدخلون إلى أسرتهم ليناموا ويستريحوا. ويحمل هذا التعبير الرجاء في القيامة، وكأنها استيقاظ من النوم (يو11: 11 ؛ 1 كو 11: 30).
- لم يقل بولس أن بعضهم قد ماتوا بل رقدوا، بهذا يؤكد حقيقة القيامة[16].
القديس يوحنا الذهبي الفم
“وبعد ذلك ظهر ليعقوب
ثم للرسل أجمعين” [7].
لم يذكر الرسول أين تم هذا الظهور ولا ما هي مناسبته، لكنه واضح أنه يتحدث عن يعقوب وكان لا يزال حيًّا. ويعقوب الأصغر، أخ الرب (غلا 1: 19). جاء في الإنجيل بحسب العبرانيين المزيف أن يعقوب أقسم ألا يأكل خبزًا منذ اللحظة التي شرب فيها كأس الرب (في خميس العهد) حتى يراه قائمًا من الأموات.
عند كتابة الرسالة كان يعقوب الآخر قد رقد (أع 12: 1). أما علة ذكره ليعقوب فهو لأنه سمع الشهادة بقيامة الرب من شفتيه، إذ يقول الرسول أنه لم يرَ أحدًا آخر من التلاميذ بعد عودته من العربية سوي يعقوب (غلا 1: 19).
- “بعد ذلك ظهر ليعقوب“، أظن أنه أخ الرب. فقد قيل أن الرب نفسه سامه وأقامه أسقفًا في أورشليم أولاً[17].
القديس يوحنا الذهبي الفم
أما قوله: “للرسل أجمعين” ربما يقصد هنا السبعين رسولاً (لو 10) بجانب الإثني عشر تلميذًا. ربما يشير إلى لقائه معهم عند بحر الجليل (يو21: 14). غالبًا ما كان يظهر لهم في الأربعين يومًا من قيامته إلى صعوده وهم مجتمعون معًا.
- الرسل المشار إليهم هنا يشملون السبعين بجوار الإثني عشر[18].
القديس يوحنا الذهبي الفم
“وآخر الكل كأنه للسقط ظهر لي أنا” [8].
- “ظهر لصفا ثم للإثني عشر” فإن كنت لا تصدق شهادة واحد لديك اثنا عشر شاهدًا. “وبعد ذلك ظهر دفعة واحدة لأكثر من خمسمائة أخ“. فإن كانوا لا يصدقون الاثني عشر فليصغوا للخمسمائة شخص. “وبعد ذلك ظهر ليعقوب” أخيه وأول أسقف (ناظر) لهذه الايبارشية (أورشليم). حيث جدير بالملاحظة أن الأسقف نال هذه الميزة أن يرى المسيح القائم من الأموات مع بقية الرسل، فلا تكون غير مصدق. ربما تقول أن أخاه شاهد لا يُوثق فيه، لذلك أكمل “ظهر لي“. ولكن من أنا؟ أنا بولس عدوه. أنا كنت قبلاً مضطهدًا، والآن أكرز بالأخبار السارة للقيامة[19].
القديس كيرلس الأورشليمى
- لم يقل للاثنى عشر وحدهم بل وأيضًا لبقية الرسل.
يتكلم بكل هذه الأمور كمن ينطق بتواضعٍ…
فلو أنه قال: “يلزمكم أن تصدقوني أن المسيح قام من الأموات، إذ رأيته، وأنا أكثر من الكل أهلاً للثقة، إذ تعبت أكثر منهم جميعًا”، لصدّ السامعون آذانهم.
لكنه الآن إذ عالج المواضيع والاتهامات، ثم نزع عنهم كل ما يزعجهم بخصوص هذا الأمر هيأ الطريق لكي يؤمنوا بشهادته[20].
القديس يوحنا الذهبي الفم
وجد الرسول كعادته فرصة ليمارس تواضعه، فحسب نفسه كالجنين الميّت في لحظات لقائه مع القائم من بين الأموات. لم يكن قد هيّأ نفسه للإيمان بل حتى تلك اللحظات كان يقاوِم ويضطهِد ويفتري. دُعي إلى العمل في وقت لم يكن يتوقعه وبطريقة لم تخطر على ذهنه، فحسب نفسه كالسقط الذي كان يلزم الخلاص منه، لكن القائم من الأموات وهبه الحياة الجديدة والميلاد الجديد. دعي نفسه “السقط” ربما لأن السقط يحدث فجأة بطريقة غير متوقعة وقبل زمن الولادة، هكذا تم تحوله إلى الإيمان المسيحي فجأة في طريقه إلى دمشق علي غير موعد وبلا توقع منه أو من الكنيسة أو من اليهود.
أورد لقاءه مع المسيح القائم من الأموات الذي تم بعد صعوده لتأكيد أن الذي رآه التلاميذ والرسل بعد قيامته لم يكن خيالاً ولا رؤى بل رأوا شخصه الحقيقي، وهو بنفسه بعد صعوده بذات الجسد الذي قام به ظهر لبولس الرسول وتحدث معه. ظهوره له لم يكن رؤيا في حلم، بل رؤية حقيقية لشخص المخلّص الصاعد إلى السماوات.
- يعنى بولس بـ “السقط” (قبل الموعد) أنه وُلد مرة ثانية بعد الزمن، إذ تسلم رسوليته من المسيح بعد صعود الأخير إلى السماء[21].
أمبروسياستر
- يقارن بولس نفسه هنا بجنينٍ قد أُجهض حيث يحسبه البعض كأنه لم يُولد كاملاً[22].
ثيؤدورت أسقف قورش
- “وآخر الكل كأنه للسقط ظهر لي أنا“. هذا بالأحرى تعبير فيه تواضع أكثر من أي شيء آخر. فإنه ليس لأنه هو الأقل ظهر له بعد الكل. فإن كان قد دعاه في الآخر، لكنه ظهر له بطريقة أبرع مما ظهر بها لمن سبقوه، نعم أبرع من الكل[23].
- كان بولس هو الآخر، ولكن ليس الأقل، كان أكثر بهاء من كثيرين سبقوه، حقًا أعظم من الكل[24].
القديس يوحنا الذهبي الفم
لأني أصغر الرسل،
أنا الذي لست أهلاً لأن أدعى رسولاً،
لأني اضطهدت كنيسة اللَّه [9].
حسب نفسه آخر الرسل وأصغرهم. في أعماقه كان يشعر أنه ليس أهلاً لهذه الدعوة، ولا لهذا اللقب. وفي نفس الوقت لا يتجاهل عطايا اللَّه له ومواهبه التي تمتع بها من يدي مخلصه وجهاده وأتعابه وآلامه من أجل الخدمة، بهذا “لم أنقص شيئًا عن فائقي الرسل” (2 كو 5:11). بمعنى آخر كان الرسول يذكر على الدوام ماضيه حتى يسلك بروح التواضع، ولا ينسى إحسانات اللَّه معه حتى يقدم ذبيحة شكر دائمة. وكأنه في كل يوم يقدم ذبيحة القلب المنسحق الذي لا يرذله اللَّه، المرتبطة بذبيحة الشكر الدائم التي تفتح أمامه أبواب السماء لينال بغير كيلٍ.
حسب نفسه ليس أهلاً أن يُدعي رسولاً لأنه كان مضطهدًا خطيرًا ضد كنيسة اللَّه، أي كنيسة المسيح، الأمر الذي لم يفعله قط أحد من الرسل.
مع أن اضطهاده للكنيسة كان عن جهلٍ منه، وقد غفر اللَّه له ذلك واختاره رسولاً، لكن كان الرسول يجد صعوبة شديدة أن يغفر لنفسه ما قد ارتكبه.
يشير الرسول إلى جريمته التي لم يستطع أن ينساها، إذ كان يضطهد كنيسة اللَّه. فهو ليس أهلاً أن يُدعي رسولاً ليس عن عجزٍ في سماته كرسول، ولا في إمكانية الشهادة له، وإنما من أجل هذه الجريمة الكبرى التي ارتكبها، فإنه لا يفارقه قط الشعور بالذنب عن الماضي. وقد سمح له اللَّه بذلك لكي يُولد فيه روح التواضع والشعور بعدم الاستحقاق. إشارته إلى ذلك تعطي قوة لشهادته الشخصية، فهو المقاوم للحق الانجيلي والمُضطهد لشخص المسيح في كنيسته، ما كان يمكنه أن يتحول للشهادة دون أن يتيقن من قيامة السيد وصعوده إلى السماء!
- دعا نفسه السقط” [8]، بعد أعمال صالحة عظيمة هكذا فإنه يتواضع ويدعو نفسه “آخر الكل“. هذا بحق تصرف معتدل عظيم وفائق. لم يقل ظهر لي أنا أصغر كل القديسين، بل “أصغر الرسل“. فإن هذا التعبير أقل قوة من الذي أمامنا. جاءت كلماته “الذي لست أهلاً لأن أُدعى رسولاً” [9]. هنا يقول أنه أقل حتى من آخر كل القديسين. يقول: بالنسبة لي الذي هو أقل من آخر كل القديسين أُعطيت نعمة. أية نعمة؟ أن أكرز بين الأمم عن غنى المسيح الذي لا يوصف[25].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- فإن بولس يعني “الأقل“. بولس ليس إلا الصغير. الآن يفتخر بهذا الاسم مقدمًا درسًا لنا في التواضع عندما يقول: “أنا أصغر الرسل“[26].
القديس أغسطينوس
- بولس هو الأصغر لأنه كان الآخر من جهة الزمن، وليس لأنه كان أقل بأية طريقة عن الآخرين.
أمبروسياستر
- ذاك الذي احتمل السجن والجراحات والضربات والذي اصطاد بشباك رسائله العالم، الذي دُعى بواسطة صوت سماوي، يتواضع قائلاً: “أنا أصغر الرسل، لست أهلا لأن أدعى رسولاً“[27].
- يقول بولس هذا: “لست أهلاً” لأنه كان متواضعًا، وكان بالحقيقة يشعر بهذا في نفسه. لقد غُفر له عن اضطهاده للكنيسة، لكن ما فعله هو عار لن ينساه. لقد تعلم من ذلك عظمة نعمة اللَّه نحوه[28].
- أنتم الذين تهبون حياتكم من أجل المسيح كيف تضيعون الكنيسة التي لأجلها قدم المسيح حياته؟ اسمع ما يقوله بولس: “لست أهلاً لأن أُدعى رسولاً، لأنني اضطهدت كنيسة اللَّه وكنت أخرّبها” (غلا 13:1). هذا الضرر ليس بأقل مما نالته من أيدي الأعداء، بل أعظم منه بكثير[29].
- كيف إذن لا تعرفون يا من أنتم مملوءون غيرة على ناموس آبائكم، الذين تربيتم عند قدمي غمالائيل، بينما الذين كانوا يقضون أيامهم عند البحيرات والأنهار بل والعشارون أنفسهم قد قبلوا الإنجيل، وأنتم الذين تدرسون الناموس تضطهدونه؟ لهذا السبب أيضًا دان الرسول نفسه قائلاً: “لست أهلا” أن أُدعى رسولاً” [9]. إنه يعترف بجهله الذي أثمر عدم إيمان[30].
القديس يوحنا الذهبي الفم
“ولكن بنعمة اللَّه أنا ما أنا،
ونعمته المعطاة لي لم تكن باطلة،
بل أنا تعبت أكثر منهم جميعهم،
ولكن لا أنا، بل نعمة اللَّه التي معي” [10].
لا يجحد الرسول عطايا اللَّه له، فما هو عليه إنما فعلته النعمة الإلهية فيه. نحن كلا شيء، لكن اللَّه بنعمته جعلنا هكذا أبناء اللَّه مملوءين غيرة مقدسة، ملتهبين بالروح، عاملين بروح القوة لا الفشل. نال الرسول نعمة الرسولية ليس خلال حكمته ولا بتخطيطٍ من عنده، إنما كهبة مجانية من خلال النعمة الإلهية التي رافقته ووهبته إمكانية العمل الرسولي.
تكراره “نعمة اللَّه” في نفس العبارة يؤكد مدى انشغاله بها. فإنه ليس من موضوعٍ يشغل ذهن الرسول بولس في كل كتاباته مثل “نعمة اللَّه“، العلة الوحيدة لتحوله المعجزي الفائق للفكر، التي قدمت له خلاص اللَّه المجاني العجيب، وجددت طبيعته، ووهبته النمو المستمر، وسندته في احتمال الأتعاب والآلام من أجل اللَّه أكثر من جميع الرسل. الآن إذ يشير إلى نفسه وإلي الرسل كان لابد الإشارة إلى نعمة اللَّه التي لها كل الفضل فيما هو عليه.
إذ وُهبت له النعمة الإلهية قَبِلَ صلب الأنا تمامًا، فيقول “لا أنا“، لتعمل النعمة التي معه وفيه، تهبه إرادة جديدة قوية وإمكانية عمل فائقة.
نعمة اللَّه لم تسلبه دوره الحي للجهاد، فقد كان أكثر اجتهادًا من غيره في الكرازة واحتمال المشقات المستمرة والتجاوب العملي معها. هذا ما تكشفه سجلات حياته. هذه الحقيقة لا تدفعه إلى الكبرياء والاعتداد بنفسه، فإنه دومًا يذكر ماضيه السيء، لا ليحطم نفسيته، وإنما لكي بالتواضع يعمل بأكثر قوة، ولكي يحول كل نجاح في حياته إلى تسبحة شكر للَّه.
- يقول بولس كل هذا ليظهر أنه بالرغم من عظمة خطاياه وعدم استحقاقه فإن نعمة اللَّه لم تُوهب له باطلاً.
أمبروسياستر
- “تعبت أكثر من جميعهم” (1 كو 15: 10): الذي يقضى زمانه في نعومة وكل ترفٍ بسبب ترف الحياة، والذي يرتدي الأرجوان والكتان الناعم، ويقيم حفلات كل يوم ببذخٍ (لو 16 : 19)، والذي يهرب من التعب اللازم للفضيلة، فإنه لن يتعب في هذه الحياة ولا يعيش في المستقبل، بل سيجد الحياة بعيدة عنه عندما يتعذب في نار الأتون[31].
القديس باسيليوس
- بسرور وبعيني الإيمان يتطلع الكل في مدينة اللَّه إلى هذا الرجل العظيم بولس، هذا المصارع للمسيح، الذي مسحه المسيح وعلّمه. معه سُمر على الصليب، وخلاله تمجد. صار هذا الإنسان منظرًا للعالم، للملائكة والبشر. دخل في جهاد قانوني إلى مسرح هذا العالم واستمر إلى النهاية، فنال اكليل دعوته السماوية[32].
القديس أغسطينوس
- إن كان بولس متواضعًا هكذا فلماذا يذكر أتعابه؟ التزم أن يفعل ذلك لكي يبرر حقه في الشهادة الموثوق فيها كمعلم[33].
- بولس معروف لديكم، هذا الذي تعب كثيرًا، وتمتع بنصرات كثيرة هكذا في المعركة ضد الشيطان. كان جسمانيَا يعبر خلال العالم المعروف؛ دار في الأرض والمحيط والجو، كان يدور حول العالم كما لو كان له أجنحة. لقد رُجم وضُرب وقُتل. احتمل كل شيء من أجل اسم اللَّه، ودُعي بصوت سماوي من الأعالي… إننا نعرف ونفهم أنه يقول بأن النعمة التي ننالها لم تجده غير مهتم[34].
- بعد صعود الرب إلى السماء دُعي بولس، فإنه مثل بقية الرسل الذين لم ينتظروا دعوة ثانية إنما للحال تركوا الشباك وكل ما لديهم وتبعوه، هكذا هذا الإنسان عند دعوته الأولى تحرك بكل نشاطٍ، وإذ اعتمد دخل في معركة مع اليهود في كل موضع. في هذا الأمر فاق بقية الرسل بقوة إذ يقول: “أنا تعبت أكثر منهم جميعهم” (1 كو 15: 10)[35].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- “نعمة اللَّه التي معي” (1 كو 15: 10): هذا هو المجد الكامل والتام في اللَّه، لا أن يمجد الإنسان بره الذاتي بل يحسب نفسه أنه ينقصه البرّ الحقيقي، وأن يتبرر بالإيمان بالمسيح وحده. تمجد بولس باحتقاره لبره الذاتي. إذ كان يطلب البرّ بالإيمان الذي للَّه بالمسيح طلب فقط أن يعرفه وقوة قيامته وشركة آلامه، إذ حُسب مشابهًا لموته لكي ينال القيامة من الأموات… إن اللَّه هو الذي يهب فاعلية لأتعابنا[36].
القديس باسيليوس الكبير
- هل رأيتم كيف حصد من فيض بركة اللَّه وكيف ساهم بسخاء من جانبه بغيرته وحماسه وإيمانه وشجاعته وصبره وسمو فكره وإرادته التي لا تخور؟ لهذا استحق عونًا من فوق بقياس أوسع[37].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- انظروا مرة أخرى إلى تواضعه الزائد؟ ينسب الضعفات إلى نفسه، وأما الصالحات فلا ينسب منها شيئًا لنفسه بل يشير إلى كل الصالحات للَّه…، قائلاً: “لا أنا بل نعمة اللَّه التي معي” (1 كو 15: 10)، أي أمرٍ أكثر عجبًا من مثل هذه النفس؟ فإنه في أمورٍ كثيرة يضغط على نفسه، ناطقًا بكلمة واحدة (كرزت) وحتى هذه التي يدعوها كرازته، مع ذلك يجد طرقًا كثيرة في الأمور السابقة واللاحقة ليستخدم هذا التعبير السامي، إذ جاء إليها عن ضرورة[38].
- عندما نسمع هذه الأمور لنفضح ضعفاتنا، ولا ننطق بشيء عن أمورنا الحسنة… ليته بهذا لا يسقط أحد في اليأس عندما يخطئ، ولا يعتد أحد بنفسه وهو في الفضيلة، بل ليخف الأول بالأكثر والثاني فليتقدم في الفضيلة. فإنه لن يثبت أحد متكاسل في الفضيلة، ولا يبقى أحد مجتهد ضعيفًا في الهروب من الشر[39].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- لم يعمل بولس لينال نعمة، وإنما نال النعمة لكي يجاهد[40].
- كيف إذن يمكن إتمام وصية اللَّه ولو بصعوبة بدون عونه، حيث أنه ما لم يبنِ الرب باطلاً يتعب البنّاء[41].
القديس أغسطينوس
- قد بلغ معلم الأمم درجة الرسولية بنعمة اللَّه إذ يقول: “بنعمة اللَّه أنا ما أنا”، وفي نفس الوقت يعلن أنه قد وافق النعمة الإلهية قائلاً: “ونعمتهُ المعطاة لي لم تكن باطلةً بل أنا تعبت أكثر من جميعهم” (1 كو10:15). فعندما يقول: “أنا تعبت” يظهر جهاد إرادته، وعندما يقول: “ولكن لا أنا بل نعمة اللَّه” يشير إلى قيمة الحماية الإلهية. وعندما يقول: “التي معي” يؤكد تعاون النعمة معه عندما لا يكون في كسلٍ أو إهمالٍ بل عاملاً ومجاهدًا[42].
الأب شيريمون
“فسواء أنا أم أولئك هكذا نكرز وهكذا أمنتم” [11].
يؤكد لهم الرسول أنه ليس وحده الذي كرز بذات الإنجيل في كل وقت وفي كل مكان، إنما هو ذات الإنجيل الذي كرز به سائر الرسل. الكل قدّموا ذات الحق، ذات القصة، كرزوا بصلب السيد المسيح وموته وقيامته. الكل لهم ذات الإيمان الذي به يعيشون وفيه يموتون. هذا هو الإيمان الرسولي الذي كرز به الرسل وقبله المؤمنون. فمن يكرز بغير هذا لا يمارس العمل الرسولي.
الموضوع الرئيسي هو تثبيت الحق الإنجيلي الخاصة بقيامة المسيح من الأموات، أما من الذي يُبشر به فهو أمر ثانوي، لأن الجميع يبشرون بذات الحق.
- لم بتوقع بولس من الكورنثوسيين أن يختاروا بينه وبين غيره من الرسل. لقد برر سلطانه كمعلمٍ، وفي نفس الوقت ثبت الآخرين أيضًا. لا يوجد فرق بينهم، حيث أن سلطانهم واحد…
- يقول: “ممن تتعلّمون؟ فلتختاروا ذلك وتعلّموا، فإنه لا يوجد اختلاف بيننا”. لم يقل: “إن لم تصدّقوني صدّقوهم”، بل وهو يحسب نفسه أهلاً للثقة ويقول أن ما نطق به فيه الكفاية يؤكد نفس الأمر بالنسبة لهم أنفسهم. فإن اختلاف الأشخاص لا موضع له، سلطانهم متساوي. وفي رسالته إلى أهل غلاطية… أوضح أنه هو فيه الكفاية إذ يقول: “لم يشيروا عليّ بشيء” (غلا 6:2)، ومع ذلك سار في اتفاق معهم.
- حسنًا يقول: “نكرز” مشيرًا إلى جرأته العظيمة في الكلام. فإننا لسنا نتكلم سرًا ولا في زاوية بل ننطق بصوتٍ واضحٍ أكثر من البوق.
لم يقل “كرزنا” بل إلى الآن “نكرز“، “وهكذا آمنتم” لم يقل هنا “تؤمنون” بل “آمنتم”. فإنهم إذ اهتزّوا في الفكر يعود بهم إلى الأزمنة السابقة مضيفًا شهادتهم هم أنفسهم[43].
القديس يوحنا الذهبي الفم
2. قيامة المسيح أساس قيامتنا
بعد أن أكد قيامة المسيح كتحقيقٍ لما ورد في الكتب وخلال شهود العيان الآن يؤكد القيامة خلال إبراز عدم قبول التعليم المناقض للإيمان بالقيامة موضحًا خطورة هذا التعليم:
أولاً: عدم الإيمان بالقيامة يستلزم إنكار قيامة المسيح [13].
ثانيًا: إنكار قيامة المسيح يجعل كرازتنا باطلة وإيماننا بلا نفعٍ [14].
ثالثًا: هذا التعليم يحمل اتهامًا ضد الرسل كشهود زور وأشرار، إذ يكرزون بالقيامة [15].
رابعًا: بدون قيامة المسيح يغلق الكورنثوسيون أبواب الرجاء في نوال غفران خطاياهم [16-17].
خامسًا: بدون القيامة يُحسب كل أصدقائنا القديسين مفقودين [18].
سادسًا: بدونها يكون المؤمنون أشقى جميع الناس [19].
سابعًا: بدونها يكون الإيمان بالمعمودية باطلاً، لأنها تصير دفنًا مع المسيح دون قيامة [29].
ثامنًا: يصير احتمال أتعاب الكرازة والاستشهاد بلا فائدة [30 – 32].
“ولكن إن كان المسيح يكرز به أنه قام من الأموات،
فكيف يقول قوم بينكم أن ليس قيامة أموات؟” [12]
إن كنا نحن جميعًا (الرسل) نكرز بالقيامة كشهود عيانٍ لها، فكيف يتجاسر بعض الكورنثوسيين وينكرون القيامة من الأموات؟ حديث الرسول يوضح أن أهل كورنثوس كانوا يدركون بالأدلة القاطعة قيامة السيد المسيح، لكن قومًا منهم كانوا كانوا يظنون أن القيامة من الأموات أمر مستحيل. هؤلاء القوم إما أنهم من أصل يهودي لازالوا يكنون شيئًا من الالتزام بالاحتفاظ بفكر الصدوقيين منكري القيامة، أو من الأمم تأثروا ببعض الفلسفات الغنوصية التي أفسدت تعاليمهم.
- يقيم بولس برهانه عن قيامة الأموات على حقيقة قيامة المسيح. الحقيقة الأخيرة تعطى ضمانًا للحقيقة السابقة[44].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- أي جُرم خطير ألا نؤمن بقيامة الأموات، فإنه إن كنا لا نقوم، باطلاً مات المسيح ولم يقم. وإن كان لم يقم من أجلنا فإنه لم يقم نهائيًا، فإنه ليس من سبب لأجله يلزمه أن يقوم من أجل نفسه[45].
القديس أمبروسيوس
“فإن لم تكن قيامة أموات فلا يكون المسيح قد قام” [13].
إذ شاركنا كلمة اللَّه المتجسد في اللحم والدم، وقد وعد بإقامة البشرية من الأموات بقيامته، فإنه إن كان الأموات لا يقومون يكون المسيح أيضًا لم يقم.
إن لم تكن توجد قيامة عامة للأموات بالتبعية لا يمكن أن توجد قيامة للمسيح، إذ تكون بلا معنى ما لم تقدم لنا إمكانية القيامة. فما يتمتع به الرأس يناله بقية الجسم. قيامتنا مرتبطة بقيامته، لا تنفصل عنها (1 كو 15: 20، 22 ؛ يو 14: 19).
- تعتمد الواحدة عن الأخرى، فإما تؤمن بالاثنين أو ترفضهما[46].
بيلاجيوس
- ليس لأنه ما قد حدث محتاج إلى برهان، وإنما لكي يظهر أن الاثنين مستحقان الإيمان بهما على قدم المساواة[47].
القديس يوحنا الذهبي الفم
“وإن لم يكن المسيح قد قام،
فباطلة كرازتنا، وباطل أيضًا إيمانكم” [14].
بإنكار قيامة المسيح يصير كل التعليم باطلاً بلا نفع ولا لزوم للإيمان.
كلمة “باطل” هنا معناها “فارغ” أو “غير حقيقي”، أو “بلا نفع”.
- يريد بولس القول هنا أنه بالمنطق إن كان المسيح لم يقم فهذا يجحد الحقائق التاريخية. عوض هذا يقول أمرًا بالحقيقة هو أكثر ارتباطًا بالكورنثوسيين ومرعب لهم. فإنه إن كان المسيح لم يقم من بين الأموات تكون كرازة بولس بلا نفع ويكون إيمانهم بلا معنى[48].
القديس يوحنا الذهبي الفم
“ونوجد نحن أيضًا شهود زور للَّه،
لأننا شهدنا من جهة اللَّه أنه أقام المسيح،
وهو لم يقمه إن كان الموتى لا يقومون” [15].
إذ شهد الرسول ومن معه بقيامة المسيح فإن رفض قيامة الأموات هو توجيه اتهام ضد الرسل إنهم شهود زور للَّه. وإن كان الرسل يشهدون زورًا، فهل يمكن أن يتفق الخمسمائة علي شهادة زور في حدث رأوه كلهم معًا دفعةً واحدةً؟ ولو أن هذا صحيح ألم يوجد بينهم شخص واحد يكشف عن تزوير شهادتهم؟ لهذا فإن الشهادة لقيامة المسيح حقيقة ثابتة لا يمكن جحدها.
“لأنه إن كان الموتى لا يقومون فلا يكون المسيح قد قام” [16].
“وان لم يكن المسيح قد قام،
فباطل إيمانكم،
أنتم بعد في خطاياكم” [17].
- انظروا عظمة سرّ التدبير؟ فإنه هكذا إن كان بعد الموت لم يكن قادرًا على إزالة الخطية، فإنه لم تنحل الخطية ولا طُرد الموت ولا زالت اللعنة عنهم! لا تكون كرازتنا باطلة فحسب، بل ويكون إيمانكم باطلاً[49].
- إن كان هذا عمل غير معقول، وإن اللَّه لم يقمه كما تقولون فإن هذا يتبعه أمور أخرى غير معقولة… لكن إن كان لم يقم فإنه لم يذبح. وإن كان لم يُذبح فالخطية لم تُنزع. وإن كانت لم تنُزع فأنتم في الخطية. وإن كنتم في الخطية تكون كرازتنا باطلة. وإن كانت كرازتنا باطلة يكون إيمانكم باطلاً بأنكم قد تصالحتم. بجانب هذا يبقى الموت خالدًا إن لم يكن قد أزاله. لأنه إن كان قد أُمسك في الموت ولم ينزع عنه آلامه فقط يزيله عن الآخرين ما دام هو ممسك فيه؟ لذلك أضاف: “إذًا الذين رقدوا في المسيح أيضًا هلكوا” [18] [50].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- إن كان الصليب هو فكرة خاطئة، فالقيامة أيضًا فكرة مضللة، وإن كان المسيح لم يقم فإننا نبقى في خطايانا. إن كان الصليب تضليلاً، فإن الصعود أيضًا تضليل، وأخيرًا يصير كل شيء بلا قيمة[51].
القديس كيرلس الأورشليمي
“اذَا الذين رقدوا في المسيح أيضًا هلكوا” [18].
بهذا كل الذين استشهدوا أو ماتوا وهم في الإيمان بالمسيح يسوع قد هلكوا، لأن رجاءهم لا أساس له، وإيمانهم لا يقوم علي الحق. أجسامهم تنحل في الأرض ولا يتحقق وعد السيد المسيح أنهم يقومون في اليوم الأخير (يو 5:25، 28-29؛ 11: 25-26).
عندما يتحدث عن المسيح يقول: “مات” ليؤكد الرسول حقيقة آلامه وصلبه وموته، وعندما يتحدث عن المؤمنين يقول: “رقدوا في المسيح” ليؤكد أنهم خلال شركتهم معه كأعضاء جسده صار لهم رجاء القيامة، فهم أشبه بالراقدين حتى يستيقظوا. بالنسبة للسيد المسيح قد تحققت القيامة فعلاً لذا لم يخجل من القول بأن المسيح قد مات، إذ صار موته مجيدًا بقيامته، أما بالنسبة لنا فستتحقق قيامة أجسادنا خلال الرجاء، لهذا يستخدم تعبير “الرقاد” لتطمئن نفوسنا.
أما قوله “هلكوا” فيشير إلى نفوسهم التي فُقدت في شقاء العالم غير المنظور.
من الصعب أن يقبل الإنسان عدم قيامة الأموات عندما يرقد أحد أقربائه أو أصدقائه ويكون مقدسًا للرب، لأنه بهذا يكون قد حسبه مفقودًا إلى الأبد. من يقدر أن يقبل تعليمًا يحمل هذه النتيجة المرة؟!
- “رقدوا“: يقول بولس ذلك لأنه بهذا لن يصغي الكورنثوسيون بعد إلى الأنبياء الكذبة عندما يتحققون أن موتاهم قد فعلوا هذا (رقدوا)، هؤلاء الذين يحبونهم، يؤخذون منهم[52].
أمبروسياستر
“إن كان لنا في هذه الحياة فقط رجاء في المسيح،
فإننا أشقى جميع الناس” [19].
إن كان رجاؤنا في المسيح يقف عند الحياة الحاضرة نكون مخدوعين لأننا نحتمل آلامًا أكثر من غيرنا؛ ونمارس الإماتة اليومية، ونُضطهد.
إن كان الوثنيون بلا رجاء (أف 2: 12؛ ا تس 4: 13) فإننا نصير نحن أكثر بؤسًا منهم، لأننا لا نتمتع أيضًا بالملذات الحاضرة (كو 4: 9). رجاؤنا ليس في انفصال النفس عن الجسد وإنما اتحاد النفس بالجسد القائم من الأموات.
ظن بعض الدارسين أن الرسول يتحدث هنا عن الرسل، لكن واضح أن حديثه يشمل كل المؤمنين الصادقين في إيمانهم وجهادهم. فمن جهة لم تكن العبارات السابقة خاصة بالرسل وحدهم، ومن جهة أخرى فإن جميع المؤمنين الحقيقيين مدعوون لحمل الصليب والدخول من الباب الضيق والطريق الكرب لمشاركة المسيح آلامه وصلبه.
إن كان المسيحي الحقيقي يشعر أنه أسعد كائن علي وجه الأرض إنما خلال اتحاده بالمسيح القائم من الأموات، وخلال انفتاح أبواب السماء أمامه مترجيًا كمال المجد أبديًا. بدون القيامة من الأموات يصير أكثر الناس بؤسًا، لأنه يحتمل آلامًا مرَّة، ويدخل طريقًا ضيقًا ينتهي بالانحدار في القبر بلا عودة. يتعرض هنا للاضطهادات ويحرم جسمه من الملذات بإرادته لأنه ينعم بعربون المسرات السماوية.
- قال بولس هذا ليس لأن الرجاء في المسيح شقاوة، وإنما لأن المسيح يعد حياة أخرى للذين يترجونه. فإن هذه الحياة معرضة للخطية، أما الحياة العلوية فمحفوظة مكافأة لنا[53].
القديس أمبروسيوس
- واضح أنه لنا رجاء في المسيح في هذه الحياة وفي الحياة الأخرى. لا يحرم المسيح خدامه بل يهبهم نعمة، وفي المستقبل سيقطنون في مجدٍ أبديٍ.
أمبروسياستر
- إن كان الجسم لا يقوم تبقى النفس غير مكللة بدون هذا التطويب الذي في السماء. وإن كان الأمر هكذا فإننا لا نتمتع بشيء بالمرة، وإذ لا ننعم بشيء عندئذ تكون مكافأتنا في الحاضر… قال هذه الأمور ليؤكد تعليم قيامة الجسد، ويحثهم أن يهتموا بالحياة الخالدة حتى لا يظنوا أن كل اهتماماتهم تنتهي مع العالم الحاضر… وإنما تعتمد على القيامة. هنا شهادة واضحة أن مقاله لا يخص القيامة من الخطايا بل قيامة الأجسام، والقيامة من الحياة الحاضرة إلى العتيدة[54].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- لذلك لا يكون الرجاء في المسيح لأجل هذه الحياة وحدها حيث يمكن للشر أن يسود أكثر من الصلاح، والذين يفعلون الشر هم أكثر سعادة، والذين يمارسون الحياة المملوءة جرائم أكثر غنى[55].
مكسيموس أسقف تورين
3. قيامة المسيح ضمان لقيامتنا
بعد أن عدد الرسول نتائج عدم الإيمان بقيامة السيد المسيح وبالتالي عدم قيامتنا من الأموات، وذكر أن هذا يُفسد الكرازة ويحطم الإنجيل وينسب للرسل أنهم شهود زور للَّه، ويغلق أبواب الرجاء في السماء ويحول الحياة المسيحية إلى شقاء مرير يصرخ بروح القوة: “الآن قد قام المسيح من الأموات وصار باكورة الراقدين“. إنها حقيقة لا يُشك فيها! أمر لا يحتاج إلى برهان! فتحت لنا أبواب الرجاء، وحولت حياتنا إلى فرحٍ مجيٍد لا يُنطق به!
“ولكن الآن قد قام المسيح من الأموات،
وصار باكورة الراقدين” [20].
تؤكد البكور وجود المحصول، وتؤكد قيامة المسيح تحقيق قيامتنا. يليق بدعوة قيامة المسيح بكرًا لقيامتنا، لأنه حسب الطقس اليهودي كان الفصح أولاً، واليوم الذي يليه هو السبت العظيم، وفي اليوم التالي تُقدم البكور. هكذا مسيحنا هو فصحنا الذي صلب، واليوم التالي لصلبه هو السبت، ثم تقُدم البكور في يوم الأحد، اليوم الأول من الأسبوع حيث قام البكر من الأموات.
يمتاز البكر بأنه السابق للكل، وأفضل الكل، والمكرس للَّه، وبه يتقدس المحصول كله. من جهة الزمن لم يكن السيد المسيح هو أول القائمين من الأموات، فقد قام الميت الذي لمس عظام أليشع النبي، وأقام السيد المسيح الصبية ابنة يايرس، والشاب وحيد أمه الأرملة، ولعازر أخ مريم ومرثا، لكن جميعهم قاموا إلى حين وماتوا. أما المخلص فقام بسلطانه كبكرٍ فائقٍ لا يعود يموت. إنه السنبلة الأولى الناضجة التي يمسك بها الكاهن ويلوح إعلانًا عن أنها مكرسة للَّه، بها يتقدس كل الحصاد.
- يقول بولس ذلك من أجل الأنبياء الكذبة الذين يدعون أن المسيح لم يُولد قط، وبهذا لم يكن ممكنًا أنه يُصلب. القيامة من بين الأموات تبرهن أن المسيح كان إنسانًا وبالتالي قادر ببره أن يستحق القيامة من الأموات.
أمبروسياستر
- ذاق الموت من أجل الكل. وإن كان بالطبيعة هو نفسه الحياة، وهو القيامة، فقد حوّط جسمه بالموت. بقوته القادرة وطاء الموت في جسمه ليصير البكر بين الأموات وبكر الذين رقدوا…
إن كانت القيامة من الأموات يُقال أنها تتم خلال إنسانٍ، والإنسان الذي نعرفه خلالها هو الكلمة المولود من اللَّه، خلاله تحطمت قوة الموت[56].
- لم يتألم الكلمة بالطبيعة بكونه اللَّه، لكن آلام جسمه هي حسب تدبيره. فإنه بأية طريقة يكون هو بكر كل الخليقة خلاله يأتي الرئاسات والقوات والكراسى والسلاطين، الذي يجتمع الكل معا، وبأية طريقة يصير البكر بين الأموات والبكر للراقدين ما لم يكن هو الكلمة، بكونه اللَّه، الذي صنع جسمه مولودًا كي يتألم؟[57]
القديس كيرلس الكبير
4. قيامة المسيح علاج إلهي لسقوطنا
“فإنه إذ الموت بإنسانٍ،
بإنسانٍ أيضًا قيامة الأموات” [21].
يقصد بالإنسان هنا آدم، بعصيانه دخل الموت إلى العالم، أو حلّ بالطبيعة البشرية. لذا كان لزامًا أن يتحقق علاج هذا الأمر بنفس الطريق، خلال إنسان قادر أن يمحو هذا العصيان، ويجدد الطبيعة البشرية، ويدخل بها إلى القيامة أو الخلود. هكذا أدخل الإنسان الفساد إلى العالم، وشفى الإنسان هذا الفساد.
جاءت القيامة بإنسانٍ آخر، هو الكلمة الإلهي المتأنس الذي في سلطانه أن يهب القيامة للموتى، ويرد للبشرية سلامتها وكرامتها وسلطانها، فلا تعود تموت بعد القيامة.
في آدم لم يتحقق الموت فورًا لأنه لم يكن كل نسله قد ولدوا لكنه حلّ بالطبع البشري، وصار له سلطان على كل البشرية القادمة. الآن في المسيح يسوع نالت البشرية بالإيمان سلطانًا فلا يقوى عليها الموت بل صار طريقًا للعبور حتى يتمتع الثابتون فيه بالقيامة المجيدة.
بسقوط آدم حلّ الموت الروحي أيضًا علي الطبيعة البشرية وبقيامة المسيح تحل القيامة الأولى أو الروحية بالمؤمنين به والمتحدين معه، الحاملين برَّه. فتتحقق قيامتنا بسبب اتحادنا به؛ وليس لنا فضل فيها.
صار المسيح واحدًا منا، حمل ناسوتنا حتى كما بإنسانٍ سقطنا تحت الموت بإنسانٍ صارت لنا القيامة. إذ جلب بكرنا الأول علينا لعنة الموت جلب الثاني لنا مجد القيامة.
- بواسطة ذبيحة جسده وضع حدًا للناموس الذي ضدنا، وأقام بداية جديدة للحياة، بالرجاء في القيامة التي يهبنا إياها. فإنه حيث بإنسانٍ قد ملك الموت على البشر، لهذا بكلمة اللَّه، الذي صار إنسانًا تحقق هلاك الموت وقيامة الحياة[58].
البابا أثناسيوس الرسولي
- لو أن رحلة الرب في الجسد لم تحدث، ما كان المخلص قد دفع للموت ثمنًا. ما كان يحطم سلطان الموت بقوته. لو أن الجسد الذي خضع للموت هو شيء والجسد الذي أخذه الرب شيء آخر، عندئذ ما كان يمكن للموت أن يبطل من ممارسة أعماله، وما كانت آلام الإله المتجسد لها نفع؛ نحن الذين مُتنا في آدم ما كان يمكننا أن نحيا في المسيح[59].
القديس باسيليوس الكبير
- نحن نعرفه أنه بكر الذين استراحوا، بكر الأموات. دون أي نقاش البكر هو من ذات سمات وطبيعة بقية الثمار… لهذا كما أن بكر الموت كان في آدم هكذا بكر القيامة هو في المسيح[60].
القديس أمبروسيوس
- ذاق الموت في جسده من أجل كل إنسان، هذا الذي كان يمكن أن يحتمل الموت دون أن يفقد كونه الحياة. لهذا مع كونه قد قيل أنه تألم في جسده إلا أنه لم يقبل الألم في طبيعة لاهوته بل في جسده القابل للألم[61].
القديس كيرلس الكبير
- الطبيعة البشرية نفسها التي انحطت يلزمها هي نفسها أن تقتني النصرة، لأنه بهذه الوسيلة يُنزع العار[62].
القديس يوحنا الذهبي الفم
“لأنه كما في آدم يموت الجميع،
هكذا في المسيح سيحيا الجميع” [22].
جاء الموت بآدم وتحقق الخلود بالمسيح. كما خضع الكل بالطبيعة للموت بواسطة آدم، فبالنعمة ينالون القيامة بالمسيح يسوع.
- إن كان آدم هو رمز للمسيح، فإن نوم آدم هو رمز لموت المسيح، وبالجرح في جنب المسيح يرمز للكنيسة أم كل حيٍ الحقيقية[63].
العلامة ترتليان
- لا يدخل بشري إلى الموت إلا خلال آدم، ولا يدخل أحد إلى الحياة إلا خلال المسيح. هذا هو معنى تكرار تعبير “الجميع” فإنه كما أن كل البشر ينتسبون لآدم خلال ميلادهم الأول أو الجسدي، هكذا كل البشر الذين ينتمون للمسيح يأتون إلى الميلاد الثاني أي الروحى. لهذا يقول “الجميع” في كلا الموضعين، فإنه كما أن كل الذين يموتون يموتون فقط في آدم، هكذا كل الذين يحيون لن يحيوا إلا في المسيح[64].
- بوجهٍ عام نقول أن الكل يدخلون بيتًا ما خلال بابٍ واحدٍ، ليس لأن كل الجنس البشري يدخل ذاك البيت، وإنما لأنه لا يدخل أحد إلا من هذا الباب. بنفس المعنى كما أن الكل يموت في آدم هكذا كل الذين يحيون فسيحيون في المسيح… فإنه لا يوجد اسم آخر تحت السماء بجانب الوسيط الواحد بين اللَّه والبشر الإنسان يسوع المسيح، به يمكن أن نخلص[65].
- هذا لا يعنى أن كل الذين يموتون في آدم سيصيرون أعضاء المسيح، حيث أن الغالبية ستُعاقب في الأبدية بموتٍ ثانٍ.
يستخدم الرسول كلمة “جميع” في العبارتين لأنه لا يموت أحد في جسد طبيعي إلا آدم، هكذا لا يصير أحد حيًا مرة أخرى في جسد روحي إلا في المسيح[66].
- بالحقيقة جلب الإنسان الموت لنفسه كما لابن الإنسان، أما ابن الإنسان فبموته وقيامته جلب الحياة للإنسان[67].
القديس أغسطينوس
- إن تحدثنا بدقة ليس كل أحد يموت، فإن اخنوخ وإيليا كمثال لم يموتا. وسيوجد أشخاص أحياء في المجيء الثاني للمخلص.
سفيريان أسقف جبالة
- مات آدم لأنه أخطأ، ومات المسيح الذي بلا خطية، غالبًا الموت الذي جاء من الخطية. ويقوم كل أحدٍ، البار والشرير، على السواء في المسيح، لكن غير المؤمنين يُسلمون للعقوبة، بالرغم من ظهورهم أنهم قاموا من الأموات، إذ هم يقبلون أجسادهم لكي يتحملوا عقوبةً أبديةً بسبب عدم إيمانهم[68].
أمبروسياستر
- لاحظ كيف أنه يؤكد “واحد” و”واحد”، أي آدم والمسيح، الأول للدينونة والثاني للتبرير… واضح أنه يتكلم عن قيامة الأبرار حيث تكون الحياة الأبدية، وليس قيامة الأشرار حيث يكون الموت الأبدي. هؤلاء الذين سيحيون هم مقابل الآخرين الذين سوف ينزلون إلى جهنم[69].
- كما أن الذي يُولد من الأول يموت، هكذا من يؤمن بالمسيح يحيا، بشرط أن يرتدي ثوب العرس، ويُدعى ليبقى لا أن يُطرد[70].
- بهذه الطريقة نتجدد بخصوص ما فقده آدم، أي في روح عقولنا، أما بخصوص الجسد الذي يُزرع جسدًا طبيعيًا فسيقوم جسدًا روحيًا. عندما نتجدد ننعم بحالة أفضل لم ينلها بعد آدم[71].
القديس أغسطينوس
“ولكن كل واحد في رتبته:
المسيح باكورة
ثم الذين للمسيح في مجيئه” [23].
يشير الرسول إلى ثلاث رتب: الأولى المسيح الذي قام بسلطانه كبكرٍ للأموات، ثم الذين للمسيح يقومون لينالوا الخلود والمكافأة الأبدية عند مجيئه الأخير في يوم الدينونة، وأخيرًا تتحقق النهاية حين تُعلن هزيمة عدو الخير، إبليس وجنوده.
قام السيد المسيح أولاً باكورة الراقدين، ثم تقوم البشرية كلها في يوم الدينونة، لكن يبدو أن المؤمنين يقومون معًا كعروسٍ واحدةٍ مقدسةٍ مفرزةٍ من الأشرار، ويقوم الأشرار أيضًا لكنهم يرون مجد الأبرار وفرحهم في لقائهم بالرب، أما هم فيُحرمون منه، بل وينالون عقوبةً أبديةً. لذا جاءت أمثلة السيد المسيح عن القيامة دائما تبدأ بمكافأة الأبرار يليها عقوبة الأشرار.
ففي القيامة يقوم الكل في لحظة في طرف عين، لكن كل واحدٍ في رتبته ينال مكافأته، أما إبليس وجنوده والذين قبلوا البنوة له فهم آخر الكل.
جاءت الكلمة العبرية المترجمة “رتبته” كاصطلاح يُستخدم عادة في التنظيم العسكري وفرق الجيش. كأن الرسول يتطلع إلى موكب القيامة كموكبٍ عسكريٍ تمتع بالغلبة علي العدو، وها هو يدخل عاصمة الدولة وتستقبلهم الجماهير بالأغاني والتهليل. هكذا يدخل قائد الموكب السيد المسيح الغالب لإبليس ومملكته ووراءه جنوده الغالبون كل حسب درجته في الإيمان العملي وتمتعه بالنصرات.
إذ هو باكورة الراقدين فتح أبواب الرجاء أمام الموتى لكي يقوموا. صار الموتى أشبه بالمحصول اليهودي الذي يتبارك ويُحسب كله تقدمة مقبولة لدى اللَّه بتقديم البكور. تأكدت الكنيسة كلها خلال رأسها القائم من الأموات أنها تتمتع بالقيامة معه. إذ قام الرأس سيحضر معه كل الراقدين (ا تس 14:4). هكذا صارت قيامته عربونًا لقيامتنا إن كنا نؤمن به ونتحد معه.
- بالرغم من أن الكل أدرجوا في داخل إيمانٍ واحدٍ، واغتسلوا في معموديةٍ واحدةٍ، لكن عملية النضوج في الإيمان ليست واحدة للكل، بل كل واحدٍ حسب رتبته[72].
العلامة أوريجينوس
- ثمرة الرحمة الإلهية عامة للكل، ولكن رتبة الاستحقاق تختلف[73].
القديس أمبروسيوس
- ليس لأن الكل سيقومون من الأموات تظنون أن الجميع يتمتعون بذات المزايا، حيث أنه في العقوبة لا يعاني الكل نفس الألم، بل سيكون الاختلاف عظيمًا، وبالأكثر سيكون الاختلاف أكبر جدًا بين الخطاة والأبرار عندما ينفصلون عن بعضهم البعض[74].
- أحبائي، انظروا كيف نُكرم! فإن البعض في غير تعقلٍ وبجحودٍ يقولون: “لماذا وُهبنا حرية الإرادة؟ ولكن كيف في كل الأمور التي أشرنا إليها يمكننا أن نمتثل باللَّه لو لم تكن لنا حرية الإرادة؟ إني أدين ملائكة، وهكذا أنتم بذاك الذي هو البكر [53]. أنا أجلس على العرش الملوكي، وأنتم تجلسون معي فيه الذي هو البكر. لقد قيل: “أقامنا معًا وأجلسنا معًا في السمويات في المسيح يسوع” (أف 6:2). به ذاك الذي هو البكر يكرمكم الشاروبيم والسيرافيم وكل الطغمات السمائية والرئاسات والقوات والعروش والسلاطين. لا تحطوا من قيمة جسدكم الذي سينعم بكرامات عظيمة حيث ترتعب القوات غير المتجسدة![75]
القديس يوحنا الذهبي الفم
5. القيامة وتحدي الموت
“وبعد ذلك النهاية متى سُلم الملك للَّه الآب،
متى أُبطل كل رياسة وكل سلطان وكل قوة” [24].
أعلنت قيامته مملكته بسلطانها في السماء وعلى الأرض (مت 18:28)؛ صار له اسم فوق كل اسم حتى تسجد له كل ركبة ويعترف كل لسان أنه رب (في9:2-11). يمسك القائم من الأموات بزمام المملكة حتى يُبطل القوات المقاومة، ويخضع أعداءه تحت قدميه [25]، وينحل آخر عدو وهو الموت [26].
ربما يتساءل البعض: أليس الكلمة الإلهي هو رب وملك وصاحب سلطان حتى قبل تجسده؟ نجيب أنه بتجسده وصلبه وقيامته أقامنا ملوكًا وأصحاب سلطان. لقد ملك بالقيامة، إذ جعلنا نحن أعضاء جسده ملوكًا، وحطّم العدو تحت قدميه لأنه وهبنا روح النصرة والغلبة، وأبطل الموت لأننا فيه ننال القيامة. بقيامته أُعلن مُلكه كرب الأحياء والأموات (رو 9:14)، ويحضر شعبه بأمان إلى مجده، ويحطم تحت أقدامهم العدو وبهذا تتحقق النهاية [24].
ربما تطلع الرسول بولس إلى النظام الروماني حيث كان الملوك والولاة متى انتهت مدة ملكهم أو ولايتهم يسلمون أمور الحكم في يدي الإمبراطور. هكذا مع الفارق فإن رئيس أو والي هذا العالم الشرير مع كل قوات الظلمة وجنود الشر الروحية تُنزع عنهم كل سلطة، وتنتهي مملكتهم لتُعلن كمال مملكة اللَّه السماوية. لا يعني هذا أن النهاية تأتي بعد القيامة، إنما بحدوث القيامة تتحقق نهاية العالم في ذات اللحظة.
كلمة “نهاية” تشير إلى وضع حدٍ للشيء أو تحقيق نهاية غايته. فالنهاية هنا تشير إلى تحقيق كمال عمل الخلاص حيث يتمتع المؤمنون بالمجد، ويلتصق كل المؤمنين باللَّه كأبناء وأصدقاء وأعضاء في جسد المسيح الممجد. أيضًا النهاية هنا تعني نهاية الحياة البشرية علي الأرض، ونهاية ممالك هذا العالم.
كلمة “الآب” تُستخدم أحيانا لتشير إلى الأقنوم الأول، وتارة تشير إلى اللاهوت بكونه اللَّه هو محتضن الكل وضابط الكل والمعتني بالجميع.
- عندما يسلم المسيح الملكوت للَّه الآب فإن الكائنات الحية إذ كانوا قبلاً جزءً من ملكوت المسيح يُسلمون مع كل الملكوت لحكم الآب، حتى إذ يصير اللَّه الكل في الكل فيهم أيضًا إذ هم جزء من الكل ينالون اللَّه في أنفسهم إذ هو في الكل[76].
العلامة أوريجينوس
- بالنسبة لنا فإن نهاية كل ما نفعله وإليها نسرع هو الحياة المطلوبة في العالم العتيد[77].
القديس باسيليوس
- أي حكم (وقوة) يحطمه المسيح؟ هل ذلك الذي للملائكة؟ قطعا لا! هل الذي للمؤمنين؟ لا. إذن ما هو الحكم الذي يحطمه؟ إنه الخاص بالشياطين الذي يقول عنه أن مصارعتنا ليست مع لحمٍ ودمٍ بل مع الرؤساء مع قوات الظلمة في هذا الزمان الحاضر[78].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- فصل 14: كيف نالت قوات الشر الروحية ألقاب القوات والرئاسات؟
لأنها تحكم وتسيطر على أممٍ مختلفة، ولها تأثيرها على أرواح أقل منها، وعلى شياطين، وقد شهدت الأناجيل عن وجود “لجيئون”.
فما كان يمكن دعوتهم أرباب ما لم يوجد من يمارسون عليهم الربوبية،
ولا يدعون قوات وسلاطين ما لم يكن لهم من يمارسون عليهم هذا السلطان.
فالفريسيون في تجديفهم على السيد المسيح قالوا: “ببعلزبول رئيس الشياطين يخرج الشياطين” (لو 15:11)، كما دُعيت الشياطين: “ولاة العالم على ظلمة” (أف 12:6)، ودُعي أحدهم: “رئيس هذا العالم” (يو 30:14). ويتحدث الطوباوي بولس عن هؤلاء الرئاسات والقوات كيف يبطل سلطانهم على هذا العالم حين يخضع الكل للسيد المسيح فيقول: “متى سُلم المُلك للَّه الآب متى أبطل كل رياسة وكل سلطان وكل قوة” (1 كو 24:15)[79].
الأب سيرينوس
“لأنه يجب أن يملك،
حتى يضع جميع الأعداء تحت قدميه” [25].
يملك السيد المسيح على كنيسته الممجدة، جسده في السماء. ويكون ملكه إلى الأبد (رؤ 15:11)، يملك على بيت يعقوب أبديًا ولا يكون لملكه نهاية (لو 33:1)، ملكه أبدي لا يزول (دا 14:7؛ مي 7:4).
“لأنه يجب“، لأن الكتاب المقدس سبق فأخبر عنه كحقيقة لابد أن تتحقق. وبقوله “يجب أن يملك” يشير إلى استمرار ملكه.
تطلع المرتل إلى المسيّا ليري ذلك اليوم المفرح الذي فيه يجلس الابن الوحيد الجنس بكنيسته المقدسة الغالبة عن يمين العظمة، وتنحل كل قوات الأعداء وتسقط تحت قدميه (مز 110: 1). إنه واحد مع الآب، إنما ما يتحقق في ذلك اليوم لكنيسته، جسده المقدس، يُحسب له. بينما ينهار العالم ويسقط إبليس وكل جنوده يملك السيد المسيح ملك الملوك ويقيم من شعبه ملوكًا وكهنةً للَّه أبيه (رؤ 1: 6).
- هل سيحكم الرب فقط حتى يضع كل أعدائه تحت قدميه، عندئذ يتوقف عن الحكم؟ واضح أن هذا يعني أنه سيبدأ بالحكم الحقيقي بكامل معنى الكلمة[80].
القديس جيروم
- خطأك يقوم من عدم فهمك بأن “حتى” لا تعنى دومًا نوعًا من التعبير عما يحدث فيما بعد بل تأكيد ما يحدث حتى ذلك الوقت دون انكار ما يحدث بعد. كمثال منفرد ماذا يعني القول: “ها أنا معكم دائمًا حتى انقضاء الدهر”؟ هل يعني أنه لا يعود بعد ذلك يكون هكذا؟[81]
القديس غريغوريوس النزنيزي
- يقول البعض أنه عندما يخضع أعداءه تحت قدميه لا يعود بعد ملكًا، قول شرير وغبي. فإن كان هو ملك قبل نهاية هزيمة أعدائه النهائية، ألا يليق بالأكثر أن يكون ملكًا عندما يسود بالكامل عليهم؟[82]
القديس كيرلس الأورشليمي
- إنه يملك إلى الأبد. على أي الأحوال بخصوص الحرب الثائرة تحت قيادته ضد الشيطان فإنه من الواضح أن هذه المعركة مستمرة حتى يضع كل أعدائه تحت قدميه. أما بعد ذلك فلا توجد معركة، حيث نتمتع بالسلام الكامل[83].
- “اجلس عن يميني حتى أضع أعداءَك موطِئًا لقدميك” (مز 1:110)، لأن جلوسه عن اليمين لا يبطل وضع أعدائه تحت قدميه. أو ما قاله الرسول: “لأنه يجب أن يملك حتى يضع جميع الأعداءِ تحت قدميه” (1 كو 25:15)، فإنه حتى عندما يُوضعون حتى قدميه لا يتوقف عن أن يملك، إنما يُفهم ذلك أنه يملك أبديًا، فيبقون دومًا تحت قدميه[84].
القديس أغسطينوس
“آخر عدو يبطل هو الموت” [26].
لقد هزم السيد المسيح الموت بموته المحيي علي الصليب، لكن يتحقق بطلانه تمامًا بقيامة كل المؤمنين وتمتعهم بالملكوت الأبدي.
الأعداء الآخرون يبطلون قبل النهاية، حيث تتحطم عداوة القلب البشري للَّه بالكرازة بالإنجيل، وينكسر قضيب ملك إبليس ويُنزع عنه. سيملك اللَّه روحيًا في كل موضع، ويصير الكل خاضعًا له. ستنتهي مملكة الخطية وطغيانها.
بقيامته قدم لنا القيامة من الأموات فصرنا في أمان، بعيدًا عن أية مخاوف. لا نعود بعد نخشى أي عدو، ولا نعود نموت بعد.
- يُفهم هلاك آخر عدو بهذه الطريقة. ليس أن تهلك المادة التي خلقها اللَّه بل الغاية المعادية والإرادة المضادة التي لم تصدر عن اللَّه بل من ذاتها سوف تنتهي. إنها تهلك لا بمعنى أنه لا يكون للعدو وجود بعد، ولا يكون بعد موت… يليق بنا ألا نفكر هكذا، على أي الأحوال لا يحدث كل هذا فجأة، ولكن بالتدريج وبدرجات، خلال الأجيال غير المحدودة وبلا قياس، متطلعين إلى أن الإصلاح والتصحيح يتحققان ببطءٍ وبطريقة منفصلة في كل شخص فرد[85].
العلامة أوريجينوس
- أن تحارب حسنًا، هذا هو حالنا الآن ونحن نقاوم ضد الموت، الأمر سيختلف عندما لا يكون بعد عدو، سيكون هذا الحال عندما يبطل الموت، آخر عدو.
- تبدأ الحياة الجديدة الآن بالإيمان، وتستمر بالرجاء، ثم تبلغ النهاية عندما يُبتلع الموت بالنصرة، عندما يهلك هذا العدو أخيرًا، عندما نتغير ونصير مثل الملائكة…
الآن نحن نسود على الخوف بالإيمان، لكن ستتحقق السيادة بالحب بالرؤيا[86].
القديس أغسطينوس
- كيف هو “الآخر” بعد الشيطان وبعد كل الأمور الأخرى؟ جاءت مشورة الشيطان أولاً، ثم عصياننا وعندئذ الموت. نظريًا الموت قد بُطل الآن، عمليًا سيتم فيما بعد! وضع الموت آخر الكل لهذا السبب، إذ فيه يعلن النصرة على البقية، كما أنه يسهل على غير المؤمن قبوله. عندما يحطم الشيطان الذي جلب الموت، يضع بالأكثر نهاية لعمله[87].
القديس يوحنا الذهبي الفم
6. وضعنا الأبدي
“لأنه أخضع كل شيء تحت قدميه،
ولكن حينما يقول إن كل شيء قد أخضع
فواضح أنه غير الذي أخضع له الكل” [27].
كوسيط لدى الآب يتقدم ليُخضع الكل له، ذاك الذي جلس مع أبيه على عرشه (رؤ 12:3). جلس ليمارس وساطته الإلهية الملوكية، ويُحسب هذا مكافأة له عن تقديم نفسه كفارة عن الإنسان بذبيحة الصليب (في 6:2–12).
بصعوده إلى السماء صار رأسًا على كل شيء لحساب كنيسته، له سلطان أن يحكم ويحمي الكنيسة من كل أعدائها، وفي النهاية يحقق الخلاص الكامل للمؤمنين به إذ يشاركونه مجده.
إذ يقول “كل شيء” يحوي أيضًا الموت (أف 1: 22؛ في 3: 21؛ عب 2: 8؛ 1 بط 3: 22). بقوله “أخضع” يتحدث بلغة اليقين كحقيقةٍ لا توجد فيها أي احتمال آخر.
لقد وضع كل شيء تحت قدميه خلال وعده له وخطته الإلهية إذ أقامه رأسًا لكل شيء (مت 28: 18؛ يو17: 2 ؛ أف 1: 20 – 22). وقد وُجد هذا في مزمور 8: 6 بخصوص الإنسان، حيث أُعطي للطبيعة البشرية أن يكون لها سلطان علي كل شيء، وهذا لن يتحقق لها إلا بالمسيح يسوع ربنا.
لماذا قال: “غير الذي أُخضع له الكل؟” ليتجنب إمكانية إثارة اعتراضات تافهة، لئلا يفهم البعض “كل شيء” بما فيه الآب يخضع له، وذلك كما كان عند الأمم حيث يعتقدون أن جوبتر يُروي عنه أنه استبعد والده من عرشه ومن السماء. لكي تمنع الظن بأن بولس في حديثه عن سلطان الابن قد بالغ فيه حتى صار أعظم من الآب. فإن كان الابن قد تجسد وخضع كابن الإنسان للآب، فبعد القيامة واتمام عمل المسيح الشفاعي تظهر مساواة الآب والابن بوضوح كما قبل التجسد.
- سيعلم المسيح الرب نفسه أولئك القادرين على قبوله في سمة الحكمة، فإنه بعد تدريبهم الأولى في فضائله المقدسة يملك معهم حتى يحل الزمن حيث يخضعهم للآب الذي يُخضع كل شيء له. عندما يصيرون قادرين على قبول اللَّه يصير اللَّه بالنسبة لهم الكل في الكل[88].
- بهذه الحقيقة يعلمنا المسيح فن السيادة[89].
العلامة أوريجينوس
- يجعل خضوعك خضوعه هو، وبسبب صراعك ضد الفضيلة يدعو نفسه خاضعًا… يدعو نفسه عاريًا إن كان أحد منكم عاريًا… متى كان واحد في السجن يقول أنه هو نفسه مسجون. فقد حمل هو نفسه ضعفاتنا، وحمل ثقل أمراضنا. أحد ضعفاتنا هو عدم الخضوع، هذا أيضًا حمله. لذلك فإنه حتى المصائب التي تحل بنا يحسبها الرب له، واضعًا آلامنا عليه، وذلك لشركته معنا[90].
القديس باسيليوس
- الخطوة الأولى في السّر هي أن كل الأشياء تخضع له، وعندئذ هو نفسه يخضع لذاك الذي يُخضع كل شيء له. كما نُخضع أنفسنا لمجد جسده الذي يملك، فإن الرب نفسه في ذات السرّ يُخضع نفسه في مجد جسده لذاك الذي يُخضع كل الأشياء له. نحن نخضع لمجد جسده لكي ما نقتني المجد الذي يملكه في الجسد، حيث نصير مشابهين لجسده[91].
القديس هيلاري أسقف بواتييه
- (في الرد على أتباع أريوس وأتباع أونوميوس)
لا يتحدث الرسول عن المسيح في لاهوته بل في ناسوته، حيث أن كل المناقشة هي عن قيامة الجسد. إنه في ناسوته يخضع حيث تخضع كل البشرية للاهوت[92].
ثيؤدورت أسقف قورش
- يكتب بولس لليونانيين الذين قبلوا الإيمان، فإنهم قد عبدوا (قبلاً) زيوس الذي ثار ضد أبيه لكي يمسك بزمام المملكة. خشي بولس أنهم يتخيلون ذلك في علاقة المسيح بأبيه.
أوكيمينوس Oecumenius
اللَّه الكل في الكل
“ومتى أخضع له الكل،
فحينئذ الابن نفسه أيضًا سيخضع للذي أخضع له الكل”،
“كي يكون اللَّه الكل في الكل” [28].
أولاً: خضوع الابن كرأس الكنيسة:
ماذا يعني يخضع الابن، ويصير اللَّه هو الكل في الكل. صار كلمة اللَّه المتجسد الذي هو واحد مع أبيه ومساوٍ له في ذات الجوهر إنسانًا، لكي يكون وسيطًا بين اللَّه والناس. الآن إذ انتهي دور الوساطة فلا يعود يشفع عن أناسٍ جدد كإنسانٍ يخضع للآب، فهو رأس الكنيسة. خضوع الابن هنا ليس كخضوع الخليقة، إنما خضوع ذاك الذي هو واحد معه ومساوٍ له في ذات الجوهر. فالابن الذي قام بدور الوسيط وقدم نفسه ذبيحة حب عن البشرية وصار رأسًا للكنيسة يعلن خضوعه للآب كتكريمٍ متبادل فيما بينهما. فالابن يكرم الآب، كما أن الآب يكرم الابن. والكل يكرمون الابن كما يكرمون الآب (يو 5: 22- 23 ؛ عب 1: 6).
خضوع الاقنوم الثاني للأقنوم الأول ليس كمن هو أقل منه، إنما إذ قبل أن يتجسد ويموت ثم يقوم كرأس وبكر الراقدين يخضع للآب باسم الكنيسة كلها ولحسابها. هذا لا يعني انفصال اللاهوت عن الناسوت، فإنه مع إشراق بهاء اللاهوت الكامل علي الناسوت يخضع الابن.
- لماذا يتحدث بولس عن خضوع الابن للآب عندما انتهى من الحديث عن خضوع كل شىء للمسيح؟
يتحدث الرسول بطريقة عندما يتكلم عن اللاهوت وحده، وبطريقة أخرى عندما يتكلم عن التدبير الإلهي. كمثال إذ وضع النص الخاص بتجسد ربنا لا يعود يخشى بولس من الحديث عن أعماله المتواضعة الكثيرة، فإن هذه ليست غير لائقة بالمسيح المتجسد، حتى وإن بدت واضحة أنها لا يمكن أن تنطبق على اللَّه.
في النص الحالي عن أي الأمرين يتحدث؟
إذ أشار إلى موت المسيح وقيامته، وكلاهما لا ينطبقان على اللَّه فمن الواضح أنه يتحدث عن التدبير الإلهي للتجسد، الذي فيه خضع الابن للآب بإرادته. ولكن لاحظ أنه قدم تصحيحًا بقوله أن الذي أخضع كل شيء له قد استثنى نفسه من هذا الكل. هذا يعني أنه يذكرنا بأن المسيح الكلمة هو اللَّه الحقيقى[93].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- بهذا فإنه قد أكمل العمل الذي أعطي له، وهو أن يكون اللَّه الكل في الكل[94].
العلامة أوريجينوس
- إنه يود أن تُفهم رؤية شكله ( كمتجسد) عندما كل الخليقة معًا مع ذاك الشكل الذي به صار ابن اللَّه الإنسان يخضع للَّه. بهذا الشكل الابن نفسه يخضع لذاك الذي أخضع كل الاشياء له، فيكون اللَّه هو الكل في الكل[95].
القديس أغسطينوس
ثانيًا: الخضوع لا يقلل من شأن الابن
- لم يفقد الابن شيئًا عندما يمنح الكل، كما أنه لم يفقد شيئًا عندما يتسلم الآب المُلك، ولا الآب يفقد شيئًا عندما يعطى ما له للابن[96].
القديس أمبروسيوس
- خضوع المسيح للآب ليس كخضوعنا نحن للابن، فإن خضوعنا هو اعتماد عليه وليس اتحاد المتساويين.
أمبروسياستر
- كما أن الابن يُخضع الكل للآب، هكذا يفعل الآب للابن، واحد بعمله والآخر بمسرته[97].
القديس غريغوريوس النزنيزي
ثالثًا: قيل هذا بسببنا
مادمنا في العالم لا نبلغ الكمال كما ينبغي لهذا، يُقال حتى القديسون لا يدركون بالكامل أن اللَّه هو الكل في الكل. أو بمعني أدق لا يتحقق فيهم هذا بالكامل ماداموا في الجسد في هذا العالم، حتى متى حلت القيامة يتحقق فيهم هذا، فيشعر كل واحدٍ منهم أن اللَّه هو الكل بالنسبة له!
هنا لا يقول: “يصير الآب هو الكل في الكل”، لأنه إذ يتمتع المؤمنون بالمكافأة الأبدية لا يعودوا يتطلعوا إلى كل أقنوم بأن له عمل خاص، فإن الآب الذي وضع خطة الخلاص والابن الذي قدم حياته ذبيحة حب لخلاصنا، والروح القدس الذي وهبنا الشركة لكي نتمتع بالاتحاد مع اللَّه ونحمل أيقونة الكلمة المتجسد… الآن كل هذه الأعمال الإلهية قد تحققت، فنقف لنري اللَّه “الثالوث القدوس”.
- مادمت أنا غير خاضع للآب، لا يُقال أنه هو خاضع للآب. ليس أنه هو محتاج أن يخضع أمام الآب، وإنما من أجلي إذ لم يتم بعد عمله هذا لذلك قيل أنه لم يخضع بعد، “لأننا نحن جسد المسيح وأعضاؤه” (1 كو 12 : 27) [98].
- مثل هؤلاء (الهراطقة) لا يفهمون أن خضوع المسيح للآب يعلن عن طوباوية كمالنا ويظهر تكليل المجد الذي للعمل الذي يتعهد به[99].
العلامة أوريجينوس
- سيصير اللَّه الكل في الكل في كل شخص بطريقة بها أن كل شيء مما يشعر به الفكر العاقل أو يفهمه أو يفكر فيه سيصير للَّه. عندما يتطهر من كل سحابة الشر، لا يعود الفكر يشعر بشيء آخر غير اللَّه أو بجانب اللَّه. هذا الفكر يفكر في اللَّه ويرى اللَّه ويقتنى اللَّه، فيصير اللَّه هو وسيلة كل حركاته وقياسه. بهذا يصير اللَّه هو الكل في الكل[100].
العلامة أوريجينوس
- يصير اللَّه الكل في الكل عندما لا نعود بعد نكون مثل الآن نحمل كمًا من الدوافع والعواطف، مع قليل أو لا شيء من اللَّه فينا، بل نكون بالكامل مثل اللَّه، فنفسح المجال للَّه، وله وحده.
هذا هو النضوج الذي نسرع اليه[101].
القديس غريغوريوس النزنيزى
- يصير اللَّه كل شيء في الكل، فلا تكون فقط الحكمة في سليمان، ووداعة الروح في داود، والغيرة في إيليا وفينحاس، والإيمان في إبراهيم، والحب الكامل في بطرس، وغيرة الكرازة في الإناء المختار (بولس) وفضيلتان أو ثلاثة في آخرين… بل يكون اللَّه بالكامل في الكل. كل عدد القديسين سيتمجدون في كل خورس الفضائل، ويكون اللَّه كل شيء في الكل[102].
القديس جيروم
- سيسكن شعب اللَّه في هذا البيت أبديًا مع إلههم وفي إلههم، واللَّه يسكن مع شعبه وفي شعبه، فيملأ اللَّه شعبه، ويمتلئ شعبه به، حتى يصير اللَّه الكل في الكل، اللَّه نفسه هو مكافأتهم في السلام كما كان هو قوتهم في المعركة![103]
القديس أغسطينوس
- “لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض”. هذا هو ملكوت اللَّه، حيث لا تنتصر إرادة على مشيئة اللَّه، سواء في السماء أو على الأرض، عند ما يكون اللَّه هو موجه الكل إلى النهاية، وهو الحي، وهو العامل، وهو المالك، وهو كل شيء، حتى كما يقول الرسول: “يكون اللَّه هو الكل في الكل”[104].
الأب بطرس خريسولوجوس
- اللَّه واهب الفضيلة وسيكون هو نفسه مكافأتها، فإنه ليس أعظم ولا أفضل من أن يعد اللَّه بإعطائه ذاته. ماذا تعني كلمته بالنبي: “أكون لكم إلهًا وتكونون لي شعبًا” (لا 12:26) إلا أكون لكم كفايتكم، أصير أنا الكل لما يشتهيه الإنسان بطريقة مكرمة، حياته وصحته وقوته وغناه ومجده وكرامته وسلامه وكل الأشياء؟
هذا هو التفسير السليم لقول الرسول: إن اللَّه يكون الكل في الكل [28]. سيكون نهاية كل رغباتنا التي ستُرى بلا نهاية، ويُحب بلا حدود ويُسبّح بلا ملل. هذا التدفق للحب والخدمة ستكون الحياة الأبدية عينها المقدّمة للكل[105].
- سيعيد لك جسدك حتى كمال عدد شعرك، ويقيمك مع الملائكة إلى الأبد حيث لا تحتاج بعد إلى يده المؤدبة، إنما تمتلكك مراحمه الفائقة. فإن اللَّه سيكون “الكل في الكل“، فلا نعود نتذوق بعد عدم السعادة. سيكون إلهنا نفسه راعينا؛ إلهنا ذاته كأسنا، إلهنا هو مجدنا، إلهنا يصير غنانا. أي شيء بعد تحتاج إليه؟ هو وحده يصير كل شيء بالنسبة لك[106].
- في السماء لا يكون لنا خبرة الاحتياج، بهذا نكون سعداء. سنكون مكتفين وذلك باللَّه. سيكون بالنسبة لنا كل الأشياء التي نتطلع هنا إليها أنها ذات قيمة عظيمة[107].
القديس أغسطينوس
- كما يقول الرسول أن اللَّه سيكون “الكل في الكل“. يبدو لي أن هذا النطق يؤكد بوضوح الفكرة التي وصلنا إليها، إذ تعني أن اللَّه سيكون عوض كل الأشياء، الكل في الكل. بينما حياتنا الحاضرة تحمل أنشطة متنوعة في أشكال كثيرة، والأشياء التي نرتبط بها متعددة مثل الزمن والهواء والموقع والطعام والشراب وأشعة الشمس وضروريات الحياة الأخرى. مع كثرتها لكن ليس شيء منها هو اللَّه… أما الحالة المطوّبة التي نترجّاها فإنها لا تعتاز إلى شيء من كل هذا، فسيكون الكائن الإلهي هو الكل، وعوض الكل بالنسبة لنا، مقدمًا نفسه ليشبع كل احتياجاتنا. واضح أيضًا من الكتاب المقدس أن اللَّه يصير لمن يستحق ذلك الحقيقة والمسكن والملبس والطعام والشراب والنور والغنى والسلطة وسيكون الكل في الكل. يبدو لي أن الكتاب المقدس يعلمنا هنا زوال الشر تمامًا. فإنه إذ يكون اللَّه في كل الأشياء، فواضح أن الشر لا يعود يرتبط بها. فإنه إذا افترض أحد وجود الشر، كيف يؤمن بأن اللَّه يصير الكل في الكل؟[108]
القديس غريغوريوس أسقف نيصص
- يلزمنا ألا ننسحب من جهادنا في السهر بسبب اليأس الخطير لأن “الآن ملكوت اللَّه يُغصَب والغاصبون يختطفونهُ” (مت12:11). فلا يمكن نوال فضيلة بغير جهادٍ، ولا يمكن ضبط العقل بغير حزن قلبي عميق، لأن “الإنسان مولود للمشقَّة” (أي 7:5). ومن أجل الوصول “إلى إنسان كامل، إلى قياس قامة مِلْءِ المسيح” (أف 13:4). يلزمنا أن نكون علي الدوام في جهاد عظيم مع عناية لانهائية. لا يمكن لأي إنسان أن يصل إلى ملء هذا القياس إنما من يأخذ هذا القياس في اعتباره مقدمًا، ويتدرب عليه من الآن، ويتذوقه هنا في العالم، تكون له علامة العضوية الثمينة للمسيح، ويملك وهو في هذا الجسد على عربون هذا الاتحاد الكامل بجسد المسيح، ويكون له اشتياق وعطش إلى أمرٍ واحدٍ جاعلاً ليس فقط أعماله بل وأفكاره متجهة إلى أمرٍ واحدٍ وهو أن يحفظ الآن وعلى الدوام عربون الحياة المقبلة الطوباوية التي للقديسين، أي أن “يكون اللَّه الكل في الكل” (1 كو28:15)[109].
الأب سيرينوس
- رغب ربنا في أن يؤسس هذه (الخلوة الروحية)، تاركًا لنا مثالاً… فإذ هو ينبوع القداسة الذي لا يُنتهك، وليس محتاجًا إلى عون خارجي، ولا إلى مساعدة الوحدة (الخلوة)، لأن كمال نقاوته لا يمكن أن تتأثر بالجماهير، ولا تتلوث من مخالطته للبشر، بل هو الذي يقدس ويطهر الأمور الدنسة، ومع ذلك نجده يعتزل في الجبل وحده للصلاة. باعتزاله يعلمنا أننا إن رغبنا في الاقتراب من اللَّه بمحبة صادرة عن قلب نقي بلا دنس، يلزمنا أن ننسحب من كل اضطرابات الجموع، حتى تتدرب نفوسنا، ونحن بعد في الجسد، على تذوق السعادة الموعود بها للقديسين، وهي أن “يكون اللَّه هو الكل في الكل” (1 كو 28:15) [110].
الأب اسحق
- إننا لا نرى أن المسيح نفسه صنع بعد الكل في الكل (1 كو 28:15) كما يقول بولس الرسول حتى نكتشف المسيح شيئًا فشيئًا في الكل، لأنه قيل عنه: “ومنه أنتم بالمسيح يسوع الذي صار لنا حكمة من اللَّه وبرًا وقداسةً وفداء” (1 كو 30:1). بالتالي نجد فيه الحكمة، ومرة أخرى البرّ، وأخرى القداسة، ومرة أخرى الحنان، وأخرى الوداعة، وأخرى التواضع أو طول الأناة. فالمسيح (المُعلن في قديسيه) في وقتنا الحاضر مُقسَّم عضوًا بعضوٍ بين الآباء القديسين، لكن حينما يوجد الجميع في وحدة الإيمان والفضيلة يكون “إنسانًا كاملاً” (أف 13:4)، مكمِّلاً جسده الواحد بأوصال واختصاصات كل أعضائه. وسيأتي الوقت حينما يكون اللَّه هو “الكل في الكل”، لأن اللَّه الآن “في الكل” – كما سبق أن ذكرنا – بواسطة الفضائل، لكنه ليس الكل في الكل لأنهم ليسوا في ملء كمالهم[111].
القديس يوحنا كاسيان
الثالوث القدوس هو الكل في الكل
بقوله “اللَّه الكل في الكل” يعلن أن الثالوث القدوس هو الكل في الكل، فقد قيل عن المسيح أنه الكل في الكل (كو 3: 11؛ زك 14: 9). يري كثير من الدارسين أن تعبير “يكون اللَّه الكل في الكل” لا يشير إلى الآب وحده بل اللاهوت الخاص بالثالوث القدوس دون الإشارة إلى أقنومية كل واحدٍ منهم.
[1] In 2 Corinth. Hom. 38:2.
[2] In 2 Corinth. Hom. 38:2.
[3] CSEL 81:164.
[4] PL 30:763
[5] On 1 Cor., hom. 38:2.
[6] CF. In 1 Cor., hom 38:2.
[7] CSEL 81:164-65.
[8] Catechesis 13.
[9] Letter 41:11.
[10] In 1 Cor., hom 38:2.
[11] In 1 Cor., hom 38:4.
[12] Trinity 10:67.
[13] In 1 Cor., hom 38:5.
[14] In 2 Corinth. Hom. 38:5.
[15] CSEL 81:166.
[16] In 2 Corinth. Hom. 38:5.
[17] In 1 Cor., hom 38:5.
[18] In 2 Corinth. Hom. 38:5.
[19] Lect. Catechesis 14:22.
[20] In 1 Cor., hom 38:6.
[21] CSEL 81:167.
[22] Comm. On 1 Cor., 266.
[23] In 1 Cor., hom 38:5.
[24] In 2 Corinth. Hom. 38:5.
[25] In Ephes., hom. 7.
[26] Sermons on New Testament Lessons, 27:3.
[27] On Repentance 5:29.
[28] In 2 Corinth. Hom. 38:6.
[29] In Ephes., hom. 11.
[30] In Titus, hom. 3.
[31] Unto the End 19:5.
[32] City of God 14:9.
[33] In 2 Corinth. Hom. 38:7.
[34] Concerning Almsgiving and the Ten Virgins 3:22.
[35] In Galat., hom. 1.
[36] On Humility, 20.
[37] Baptismal Instructions, 4:10.
[38] In 1 Cor., hom 38:7.
[39] In 1 Cor., hom 38:8.
[40] Proceeding of Pelagius, 14:36.
[41] Letter from Alypius and Augustine to Paulinius, 186.
[42] Cassian: Conferences 13:12.
[43] In 1 Cor., hom 39:1.
[44] On 1 Cor. Hom., 39:2.
[45] On His Brother Satyrus, 2:103.
[46] Comm. On 1 Cor., 15.
[47] In 1 Cor., hom 39:2.
[48] In 1 Cor., hom 39:3.
[49] In 1 Cor., hom 39:3.
[50] In 1 Cor., hom 39:3.
[51] Catechetical Lectures, 13.
[52] CSEL 81:170.
[53] On His Brother Satyrus, 2:124.
[54] In 1 Cor., hom 39:4.
[55] Maximus of Turin: Sermons 96:1.
[56] Letter 17:11.
[57] Letter 50:14.
[58] On the Incarnation, 10.
[59] Letters, 261, to the Citizens of Sozoplis.
[60] On His Brother Satyrus, 2:91.
[61] Letter 55:34.
[62] On 1 Cor. Hom., 39:5.
[63] On the Soul 43:10.
[64] To Jerome 167:21.
[65] Against Julian 24.
[66] City of God 13:23.
[67] To Honoratus 140:9.
[68] CSEL 81:171.
[69] To Hilarius 157.
[70] Sermons on New Testament Lessons, 40:7.
[71] The Literal Meaning of Genesis (ACW), 6:27:37.
[72] In Genesis, hom. 2.
[73] On His Brother Satyrus 2:92.
[74] In 1 Cor., hom 39:5.
[75] In 1 Tim., hom. 15.
[76] De Principiis 1:8.
[77] On Ps. 48, hom. 19.
[78] On 1 Cor., hom 39:6.
[79] Cassian: Conferences 8:14.
[80] Against Helvidius 6.
[81] Theological Orations 30, On the Son, 4.
[82] Catechetical Lectures 15 :29.
[83] Question 69 :8.
[84] Sermon on the Mount 1:11:30.
[85] De Principiis 3 :6 :5.
[86] Letter to Janarius. 55.
[87] In 1 Cor., hom 39:6, 8.
[88] De Principiis 3 :6:9.
[89] De Principiis 3 :5 :6.
[90] An apology to the Caesareans, Letter 8.
[91] Trinity 11:36.
[92] Comm. On 1 Cor. 271-72.
[93] On 1 Cor., hom 39 :7.
[94] In Levticus 7 :6.
[95] The Trinity 1 :12 :28.
[96] The Holy Spirit 1:3:49.
[97] Theological Orations, 4 On the Son 30 :5.
[98] In Levticus 7 :4.
[99] De Principiis 3 :5 :7.
[100] De Principiis 3 :6 :3.
[101] Theological Orations, 4 On the Son 30 :7.
[102] Against the Pelagians, 18.
[103] City of God 17 :12
[104] Fr. Peter Chrysologus: Selescted Sermons (Frs. of the Church), 67.
[105] City of God 20:30.
[106] Sermons on New Testament Lessons, 5:4.
[107] Easter Sermons 255 :8.
[108] On the Soul and the Resurrection.
[109] Cassian: Conferences 7:6.
[110] Cassian: Conferences 10:6.
[111] Institutions 5:4.