تفسير كورنثوس الأولى 9 – الأصحاح التاسع – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير كورنثوس الأولى 9 – الأصحاح التاسع – القمص تادرس يعقوب ملطي
الإصحاح التاسع
تنازلات الرسول
يطالب القديس بولس المؤمنين الأقوياء أن يحتملوا من أجل الضعفاء حتى يتأسسوا في نعمة الله. هذا هو عمل الحب الإلهي في قلوبهم، إذ يهبهم أن يقدموا تنازلات من أجل خلاص اخوتهم.
في هذا الإصحاح يؤكد الرسول بولس حقيقيتين تمسان خدمته:
الأولى: يؤكد صدق رسوليته ضد الذين ينكرونها، وذلك ليس طلبًا للمجد، بل من أجل بنيان الشعب، موضحًا أن ما يشغله هو خلاص الغير حتى في دفاعه عن نفسه. إذ هاجمت بعض الفرق الرسول بولس في رسوليته بحجة أنه لم يَرَ السيد المسيح حين كان على الأرض، ولم يختره بين الإثني عشر تلميذًا أو السبعين رسولاً، لذلك أكد رسوليته وحريته في قبول الخدمة الرسولية [1]. يجيب عليهم انه قد رأى الرب وهو في طريقه إلى دمشق؛ وأنه قد خدم، وهم ختم رسالته في الرب [2]. وأنهم هم مخدوميه الأخصاء بالنسبة له.
والثانية: اعتاد الرسول ألا يقدم وصايا ما لم يختبرها في حياته. إنه كارز عملي، يقدم نفسه مثالاً حيًا لمخدوميه من جهة تنازلاته عن حقوقه الرسولية لأجل خلاص اخوته. فمع صدق رسوليته تنازل عن كثير من حقوقه.
- من حقه أن يأكل من الإنجيل [4]، لكنه رفض لكي لا يعثر أحدًا، فإنه وحده مع برنابا كانا يشتغلان ليعيشا ولا يسببا ثقلاً على الخدمة [6].
- من حقه أن يجول بأخت زوجة كباقي الرسل وأخوة الرب (أولاد خالته) [5]، أي يتزوج ويعيش معها كأخت تشاركه أسفاره. لكنه رفض لكي يتفرغ للخدمة تمامًا ويتحرك بأكثر سرعة لحساب ملكوت الله.
- من حقه أن يمارس حريته، لكنه بكامل حريته اختار التنازل عن حريته، فاختار أن يكون ليس ملكًا لنفسه بل للكل كي ينعموا بحرية مجد أولاد الله. يكون عبدًا لا لشخصٍ ما أو لعائلةٍ ما وإنما للجميع لكي يربح الكثيرين للمسيح [19].
- من حقه أن يسلك كمن هو قوي لكنه صار ضعيفًا ليربح الضعفاء، وصار للكل كل شيء ليُخلص على كل حالٍ قومًا (22:9).
1- صدق رسوليته 1-2.
2- حقه أن يأكل من الإنجيل 3-14.
3- تنازلاته من أجل الإنجيل 15-18.
4- اهتمامه بخلاص الجميع 19-23.
5- اهتمامه بخلاصه 24-27.
1 – صدق رسوليته
أعلن السيد المسيح أنه ليس نبي بلا كرامة إلا في وطنه (مت 13: 57). ووجد الرسول بولس مقاومة من الكنيسة التي أنشأها في كورنثوس، لا من الذين في الخارج، بل من الذين قبلوا الإيمان بواسطته. لذا يليق بالخادم الحقيقي ألا ينتظر كرامة أو مديحًا ممن يخدمهم ويبذل نفسه من أجلهم بل يتوقع أن يجد مقاومة ورفضًا.
“ألست أنا رسولاً؟
ألست أنا حرًا؟
أما رأيت يسوع المسيح ربنا؟
ألستم أنتم عملي في الرب؟” [1]
بقوله: “أما رأيت يسوع المسيح ربنا؟” يؤكد صدق رسوليته. فإنه وإن كان لم ينعم ببركة التلمذة للسيد المسيح أثناء حياته علي الأرض، ولا سمع تعاليمه، ولا رآه في صلبه وبعد قيامته مباشرة حتى صعوده، لكن القائم من الأموات ظهر له، فصار شاهدًا لقيامته. هذه الشهادة أساسية في العمل الرسولي (أع 1: 22).
هنا يؤكد بولس الرسول صدق رسوليته بالآتي:
- “ألست أنا رسولاً؟”، إذ اختاره السيد المسيح ودعاه للعمل الرسولي بعد صعوده إلى السماء.
- “ألست أنا حرا؟” فمن جانب السيد المسيح هو دعاه، ومن جانب بولس فبكامل حريته قبل هذا العمل الفائق.
- “أما رأيت يسوع المسيح ربنا؟”، صار شاهدًا للقيامة، إذ ظهر له وهو في طريقه إلي دمشق (أع 9: 7، 17 ؛ 22: 17)
- ألستم أنتم عملي في الرب؟” عمل الله فيهم خلال خدمته شهادة عملية حية لصدق رسوليته. فإن قبولهم للإيمان وتوبتهم الصادقة وحياتهم الجديدة، هذه كلها لم يكن ممكنًا أن تتحقق إلا بالله الذي أرسل بولس للكرازة.
يبدو أن الشك قد تسرب إلي بعض الاخوة بخصوص رسوليته للأسباب التالية:
- انه لم يرَ السيد المسيح فلا يقدر أن يكون تلميذا
- لم يطلب هو وبرنابا من الكنائس أن تمدهما باحتياجاتهما الضرورية كسائر الرسل.
- التزم مع برنابا بالعمل حتى يعيشا.
- “ألست أنا رسولاً؟ ألست أنا حرًا؟” [1]، بمعنى “أليس لي سلطان على نفسي؟ هل يوجد من يحكم علّي ويحرمني من (حقوقي)؟”… بلى، ولا هذا يمجد رسوليتى، إذ يقول في هذا: “ألم أرَ يسوع المسيح ربنا؟ فإنه “آخر الكل، كأنه للسقط ظهر لي أنا” (1 كو 15: 8). هذه ليست بالكرامة الهينة، فقد قيل: “إن أنبياء وأبرارًا كثيرين اشتهوا أن يروا ما أنتم ترون ولم يروا” (مت 13: 17)، وقيل: “ستأتي أيام فيها تشتهون أن تروا يومًا واحدًا من هذه الأيام” ( لو 17: 22)[1].
القديس يوحنا الذهبي الفم
“إن كنت لست رسولاً إلى آخرين فإنما أنا إليكم رسول،
لأنكم أنتم ختم رسالتي في الرب” [2].
كأنه يقول: “كنت أتوقع أن يتشكك آخرون في رسوليتي، أما وقد أنشأت كنيسة المسيح في كورنثوس، وصرتم ختم رسالتي في الرب، فما يليق بكم أن تجحدوا رسوليتي. لو لم أكن رسولاً ما كان يمكنني أن أكسبكم لحساب ملكوت الله”.
إن كان “الختم” هو شكل معين يُنحت علي حجر أو علي خاتم تُختم به الرسائل لتأكيد صدق مصدرها ( يو 3: 33)، فإنهم ختمه الخاص الذي به يؤكد صدق رسالته. كلما أشار إليهم تأكد السامعون عمل الرسولية الواضح.
وبقوله: “في الرب” يؤكد أنه نال رسوليتة كهبة أو نعمة من قبل الرب، وأيضًا قبولهم الإيمان علي يديه هو بفضل نعمة الله.
- يقول بولس أنه إن كان أحد يريد أن يختبر أعماله فليتطلع إلى الكورنثوسيين فإنهم شاهد كاف لأتعابه[2].
ثيؤدورت أسقف قورش
- إذ كان له أن يتحدث عن خدمته في العالم كله وبين الأمم المتبربرة، في البحار والبرّ، فإنه لم يشر إلي شيء من هذا كله، وإنما حمل هذه النقطة (خدمته في كورنثوس) لابراز الهبة، أنه نال أكثر مما يحتاج. وكأنه يقول: “لماذا أطلب أكثر ما دام ما لدي فيه الكفاية لتحقيق هدفي الحاضر؟ لست أتحدث لكي تلاحظوا ما أنجزته إلى مناطق أخرى، بل الإنجازات التي أنتم شهود لها. لست أطلب شهادة من المناطق الأخرى. أما بالنسبة لكم فمن حقي أن أطلب. ومع هذا فإنه وإن كان من حقي أن أخذ منكم إذ أنا معلمكم لم أخذ[3].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- أنكر المؤمنون الذين من أصل يهودي الذين استمروا في حفظ ناموس موسى أن بولس رسول، لأنه علم بأنه لا ضرورة بعد للختان وحفظ السبت… أما بالنسبة للكورنثوسيين فكان بولس رسولاً إذ رأوا علامات قوة الله فيه[4].
أمبروسياستر
2- حقه أن يأكل من الإنجيل
بعد أن أكد رسوليته أوضح حقوقه كرسول، وكيف تنازل عنها بإرادته من أجل محبته لخلاص البشرية.
“هذا هو احتجاجي عند الذين يفحصونني” [3].
يتحدث الرسول بولس كمتهمٍ في محكمة يسمع الاتهامات الموجهة ضده ويجيب عليها بكل صراحةٍ وفي حبٍ، وقد أقامهم قضاة ليحكموا بصدق رسوليته.
“ألعلنا ليس لنا سلطان أن نأكل ونشرب؟” [4]
كلمة “سلطان” هنا معناها “حق”، فانه حق رسولي له أن يأكل ويشرب من خلال خدمته علي حساب الكنائس التي يكرز فيها. لم يطلب الكماليات ولا الغنى، إنما يطلب حد الكفاف وهو الأكل والشرب لكي يعيش ويخدم.
- التزم الرسول أن يقدم برهانًا على ذلك، مشيرًا إلي أنه ترك حتى الأمور المسموح بها، حتى لا يوجد عثرة لأحد، مع أن لا يوجد قانون يلزمه بهذا… فإن كان قد فعل أكثر مما يطلبه الناموس حتى لا يتعثروا وامتنع عما هو مسموح به من أجل بنيان الغير، فماذا يستحق هؤلاء الذين لم يمتنعوا عن ذبائح الأوثان، حيث بذلك يهلك كثيرون؟ الأمر الذي يلزم للشخص أن يتركه بغض النظر عن عثرة الآخرين فيه، لأنها “مائدة شياطين”؟[5]
- إذ يظهر لكم أني قد امتنعت عن الأشياء المسموح في بها، فليس من العدالة أن تتشككوا فيَّ كمخادعٍ أو من يعمل لأجل الربح[6].
القديس يوحنا الذهبي الفم
“ألعلنا ليس لنا سلطان أن نجول بأخت زوجة كباقي الرسل واخوة الرب وصفا؟” [5]
يري القديس إكليمنضس السكندري أن الرسل كانوا يجولون ومعهم نساؤهم اللواتي كن يشاركونهم الإيمان، ليس كزوجات بل كأخوات، حتى يخدمن ربات البيوت، حتى يدخل تعليم الرب إلي حياة النساء دون أية تشكك.
- ركز الرسل على الكرازة بدون تشتيت، فأخذوا زوجاتهم معهم كأخوات مسيحيات أكثر منهن زوجات، ليكن زملاء لهم في خدمة نساء البيوت حتى يُبلغ إليهن الإنجيل بدون عائق[7].
القديس إكليمنضس السكندري
“أم أنا وبرنابا وحدنا ليس لنا سلطان أن لا نشتغل؟” [6]
كان كلا من الرسولين بولس وبرنابا يعملان بإرادتهما لكي لا يعتازا إلي أحد. كان يمارسان حرفة مثل صنع الخيام (أع 18: 3؛ 20: 34؛ 2 تس 3: 8).
“من تجند قط بنفقة نفسه؟
ومن يغرس كرمًا ومن ثمره لا يأكل؟
أو من يرعى رعية ومن لبن الرعية لا يأكل؟” [7]
أكمل الرسول حديثه مقدمًا أمثلة من الواقع العملي ليدافع فيها عن نفسه، فالجندي الروماني يتوقع أن ينال أجرة ومئونة من الطعام مقابل خدمته للوطن لكي يعيش، والزارع والراعي للغنم يتوقعان عائدًا يعيشا به مقابل أتعابهما.
يشبه الرسول نفسه كجندي لا يتوقف عن الجهاد كما في معركة الخدمة، وكغارس كرم يُسر بالثمر، وكراعٍ يترفق بالقطيع العاقل. ومع هذا لم يأخذ أجرة كجندي، ولا انتظر ثمر الكرم، ولا طلب لبن القطيع! انه لم يطلب حتى الضروريات “نفقة نفسه“! لقد تعدي ما هو طبيعي ومعقول من أجل محبته للخدمة.
تشبه الكنيسة كجيش بألوية (نش 6: 4) وككرمة (نش 5)، وأيضا كقطيعٍ عاقل ( يو 21: 15 – 17).
غالبًا ما تكون أجرة رعاة الغنم في الشرق ليست مبلغًا من المال بل نسبة من اللبن الذي من القطيع. يقوم الألبانيون برعاية القطيع ملك الأتراك، فيعيشون في أكواخ فقيرة للغاية وينالون عُشر الناتج من اللبن كأجرة لهم يعيشون به. والرعاة أيضا في أثيوبيا لا يأخذون أجرة مادية بل نصيبًا من اللبن والزبدة الناتجة عن البقر.
الخادم الحقيقي هو جندي روحي (2 تي 2:3) وكرام ( 1كو 3: 6-8) وراع (1 بط 5:2،4).
- أسألكم أن تتأملوا كيف اختار أمثلة مناسبة لتحقيق هدفه. فقد بدأ أولا بالأمور التي يصحبها الخطر أي الجندية والجيوش والحروب. فإن الرسولية هي شيء من هذا القبيل، بل بالأحرى أكثر منها خطورة. فإن حربهم ليست مع أناسٍ بل ومع الشياطين، ضد رئيس هذه الكائنات…
“ومن يغرس كرما ومن ثمره لا يأكل؟” فكما أشار المثال السابق إلي مخاطره هكذا يبرز هنا أتعابه ومشاقه الكثيرة واهتمامه.
يضيف أيضا مثالاً ثالثًا، قائلاً: “أو من يرعى رعية ومن لبن الرعية لا يأكل؟” فإنه يستعرض هنا الاهتمام العظيم الذي يظهره المعلم نحو من يرعاهم[8].
- لقد أظهر نوعية الكاهن وماذا يجب أن يكون عليه. إذ يلزمه أن يحمل شجاعة الجندي، واجتهاد الفلاح، واهتمام الراعي، وفوق هذا كله ألا يطلب شيئا أكثر من الضروريات[9].
القديس يوحنا الذهبي الفم
“ألعلي أتكلم بهذا كإنسان؟
أم ليس الناموس أيضًا يقول هذا؟” [8]
“أتكلم بهذا كإنسانٍ” تحدث أولاً بالمنطق البشري، ثم أكمل بالمنطق الإلهي أو ناموس الله [15].
كأنه يقول: “العلي انطق بهذا من عندي دون اللجوء إلي القانون الإلهي؟ أليس ما يبدو عدلاً ومقبولاً يسنده السلطان الإلهي نفسه؟”
إذ كانت الاعتراضات صادرة بالأكثر من الذين هم من أصل يهودي في الكنيسة بكورنثوس لجأ إلي ناموس موسي نفسه، فقد اعتاد الرسول أن يلجأ إلي العهد القديم حينما يتحدث مع اليهود.
“فإنه مكتوب في ناموس موسى: لا تكم ثورًا دارسًا.
ألعل الله تهمه الثيران؟” [9]
بعد أن لجأ إلي أمثلة من الواقع العملي اليومي، والقوانين العامة المقبولة علي مستوي كل البشر، التجأ إلي الناموس، فالشريعة تطالب بأن يتمتع خادم الله بما يكفل له حياته.
“العل الله تهمه الثيران؟” لقد اهتمت الشريعة بتقديم ما فيه راحة الثيران (تث 25: 4)، أفلا تهتم بالأولى بالإنسان الذي من أجله خُلقت الثيران، والذي تُقدم كذبائح من أجل تطهيره؟!
لقد أعطاه الناموس حق التمتع بالبركات الزمنية بقوله: “لا تكم ثورًا دارسًا“، فشبه نفسه بالثور الذي يدرس، ومع ذلك لم يذق شيئًا مما يدرسه!
لا يعني هذا أن الرسول ينكر اهتمام الله بالثيران، لكنه إذ وضع هذا المبدأ اهتمامًا بالحيوانات أفليس بالأولى تطبيقه علي الإنسان، خاصة في خدمته لله؟
- “ألعل الله تهمه الثيران؟” (1 كو 9: 9) أخبرني، ألا يهتم الله بالثيران؟ حسنًا إنه يهتم بها، لكن بأن يسن قانونًا خاصًا بهذا. لهذا لو لم يكن بهذا يلمح إلي أمرٍ هام، مدربًا اليهود على عمل الرحمة في حالات البهائم، وبذلك يشجعهم أن يفعلوا هذا مع المعلمين أيضًا، لما كان أعطى اهتمامًا عظيمًا حتى يسن شريعة تمنعهم من أن يكموا فم الثور[10].
القديس يوحنا الذهبي الفم
“أم يقول مطلقا من أجلنا،
أنه من أجلنا مكتوب،
لأنه ينبغي للحراث أن يحرث على رجاء،
وللدارس على الرجاء،
أن يكون شريكًا في رجائه” [10].
ما جاء في الناموس لم يكن من أجل إنسانٍ معين، فلم يكن في ذهن موسى شخص الرسول بولس أو غيره إنما ما سجله هو من قبل الله لأجل كل بشر، لكي يعمل الكل بروح الرجاء حتى يحصدوا ثمر تعبهم ويفرحوا بنجاح تعبهم.
“إن كنا نحن قد زرعنا لكم الروحيات
أفعظيم إن حصدنا منكم الجسديات؟” [11]
لقد بذل الرسول حياته كل يوم لكي يزرع لهم الروحيات ويتمتعوا بالخلاص الإلهي، فهل كثير عليه أن ينال قوت جسده؟ زرع الرسول فيهم بذار الإنجيل ووهبهم فرح الرجاء في السماويات. زرع فيهم ما هو أعظم من كل ما في العالم، إذ قدم لهم الحياة المقامة عوض الموت، وعمل في حياتهم كطبيب وكرام وراع ومحام… لأجل مجدهم الأبدي، فكيف لا يتفرغ لهذا العمل العظيم تاركًا الاهتمام بالاحتياجات الضرورية لحياته اليومية للكنيسة؟ إنه يعمل لحساب كل فرد كما لبنيان الجماعة كلها لذا لاق به التفرغ الكامل لهذه الرسالة البناءة.
- يقول: ليت التلميذ لا يحتفظ بشيء لنفسه، بل يكون كل ما لديه عام للجميع، لأن ما يعطيه أفضل مما يأخذه، كما أن السماويات أفضل من الأرضيات[11].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- يؤكد بولس الحقيقة بأن زملاءه الرسل لم يخطئوا بأي حال عندما لم ينشغلوا بالعمل اليدوي من أجل ضرورات المعيشة، وإنما كما وجه الرب أن يعيشوا من الإنجيل، قبلوا ذلك. فلم يدفعوا شيئًا مقابل القوت الجسدي لأولئك الذين تمتعوا بالقوت الروحي دون أن يُطلب منهم شيئًا[12].
القديس أغسطينوس
“إن كان آخرون شركاء في السلطان عليكم،
أفلسنا نحن بالأولى؟
لكننا لم نستعمل هذا السلطان،
بل نتحمل كل شيء لئلا نجعل عائقا لإنجيل المسيح” [12].
يقصد بالآخرين هنا الرسل الحقيقيين، وريما يقصد الرسل الكذبة (2 كو 11: 13). لقد نال شركاؤه في الرسولية هذا الحق، وكان هو أولى منهم، لأنه هو الذي أسس الكنيسة في كورنثوس، لكنه خشي أن يأخذ شيئًا فيعيق إنجيل المسيح.
يتحدث عن المعلمين في كورنثوس “الآخرين“، فإنهم إذ يعيشون في وسطهم تلتزم الكنيسة بكل احتياجاتهم. هؤلاء دخلوا علي تعب الرسول بولس الذي احتمل الميتات كل النهار لأجلهم، وقبل الفقر والجوع والعطش والعري بل والاتهامات الباطلة لأجل إقامة هذه الكنيسة. فهو أولى منهم في تمتعه بحقه هذا، ومع ذلك فمن أجل إنجيل المسيح يتنازل عن حقه، حتى يستطيع أن يجتذب قلوب وأفكار الكل إلي الإنجيل.
وضوح الهدف لدي معلمنا بولس الرسول جعله يقبل الآلام ليس فقط بدون شكوى أو تذمر، بل بفرحٍ وسرورٍ كعلامة حب حقيقي لتحقيق رسالة السيد المسيح به.
- إنه أمر شرعي (أن يعيش الكارزون من الإنجيل)، وقد أظهر ذلك بطرق كثيرة: من حياة الرسل، ومن الحياة اليومية، من الجندي والفلاح والراعي، ومن شريعة موسى، ومن الطبيعة عينها. فإننا نزرع فيكم الروحيات، ومما أنتم أنفسكم تفعلونه مع الآخرين.
وضع هذه الأمور وتنازل عنها فلئلا يبدو أنه يُخجّل الرسل الذين يأخذون… أو لئلا يظنّوا أنه يود أن يأخذ لنفسه لذلك يصحح الآن الوضع[13].
القديس يوحنا ذهبي الفم
“ألستم تعلمون أن الذين يعملون في الأشياء المقدسة من الهيكل يأكلون؟
الذين يلازمون المذبح يشاركون المذبح؟” [13].
“هكذا أيضًا أمر الرب:
أن الذين ينادون بالإنجيل من الإنجيل يعيشون” [14].
لئلا يظنوا انه يعتمد علي شريعة موسى في العهد القديم التي يظن البعض إنها قد أبطلت قدم أيضًا وصية إلهية علي فم الرب نفسه فقال: “هكذا أيضا أمر الرب” [14]
ولئلا يظنوا أنه يهين شركاءه في الخدمة لأنهم ينالون الضروريات خلال خدمتهم أكد أن التقليدين القديم والجديد يعطياهم هذا الحق بقوله: “ألستم تعلمون أن الذين يعملون في الأشياء المقدسة من الهيكل يأكلون؟! الذين يلازمون المذبح يشاركون المذبح، هكذا أيضًا أمر الرب أن الذين ينادون بالإنجيل من الإنجيل يعيشون”.
- حتى المسيح أمر بأن الذين يكرزون بالإنجيل من الإنجيل يعيشون (1 كو 9: 13، 14). لكنه يقول: “لم أرد ذلك بل عملت، وليس فقط عملت، وإنما بكل اجتهاد”[14].
- يقول: “يأكل“، و”يعيش“، لا أن يجعل منها تجارة، ولا أن يجمع كنوزًا، يقول أن الأجير مستحق أجرته[15].
القديس يوحنا ذهبي الفم
- “ولا أكلنا خبزًا مجانًا من أحد“… هكذا يتقدم رسول الأمم في كل مرة خطوة جديدة في التوبيخ. فكارز الإنجيل يقول إنه لم يأكل خبزًا مجانًا من أحد، مع أنه يعلم أن الرب أوصى: “أن الذين ينادون بالإنجيل، من الإنجيل يعيشون” (1 كو 14:9)، وأيضًا “الفاعل مستحق أجرته” (مت 10:11).
مادام كارز الإنجيل وهو يقوم بعملٍ على هذا القدر من السمو والروحانية لم يرد أن يستغل وصية الرب بأن يأكل خبزه مجانًا، كم بالأحرى يعوزنا بالحق ليس فقط أن نكرز بالكلمة بل وإلى جانب هذا لا نداوي أية نفوس سوى نفوسنا (بالاهتمام بالعمل بغير كسل لكي لا يعيش الراهب بتعب الآخرين).
كيف تجرؤ أن تأكل خبزك مجانًا في حين أن “الإناء المختار”، وهو مقيد باهتمامه بالإنجيل وعمله في الكرازة، لم يجسر أن يأكل خبزه دون أن يشتغل بيديه…، فيقول: “بل كنا نشتغل بتعبٍ وكدٍّ ليلاً ونهارًا لكي لا نثقل على أحد منكم” (2 تس 8:3)؟!
هكذا فإنه حتى هذه النقطة يمتنع عن التوبيخ ولا يُكثر منه، لأنه لم يقتصر على أن يقول: “ولا أكلنا خبزنا مجانًا من أحد منكم“، ذلك لأنه كان من المحتمل أن يظن البعض أنه كان يتزود من دخلٍ خاصٍ به ومن مالٍ ادخره، أو عن طريق أشخاصٍ آخرين، دون الاستعانة بعطاياهم أو بما يجمعون. فهو يقول: “لكن كنا نشتغل بتعب وكدّ ليلاً ونهارًا”.
يعني أنه كان يتزود من شغل يديه. ويستطرد الرسول قائلاً إنه لم يفعل ذلك بدافعٍ من الرغبة في الاستمتاع بضرب من ضروب الرياضة البدنية، بل تحت ضغط من الحاجة إلى التزود بالطعام. وأن هذا كان يكلفه الكثير من الكدّ والتعب، ذلك لأنه ليس طوال النهار بأكمله، بل وأيضًا أثناء الليل، وهو الوقت المكرس لراحة البدن، يواصل العمل بيديه ليوفر لنفسه الطعام[16].
القديس يوحنا كاسيان
3- تنازلاته من أجل الإنجيل
“أما أنا فلم استعمل شيئًا من هذا،
ولا كتبت هذا لكي يصير فيّ هكذا،
لأنه خير لي أن أموت من أن يعطل أحد فخري” [15].
لقد قدم أمثلة كثيرة لتأكيد حقه في إعالة الكنيسة له: الجندي والكرام والراعي والحارث والكاهن مقدم الذبيحة في العهد القديم.
فضل الرسول بولس خلاص اخوته عن حياته، فإنه يشتهي أن يموت ولا تتعطل خدمة الكرازة. بذله لذاته متشبهًا بالسيد المسيح يهبه سعادة داخلية أفضل من نوال حتى ضروريات الحياة. بالحب الحقيقي لا يطلب ما لنفسه بل ما هو لله وما هو للآخرين. هذه هي الضرورة الموضوعة علي أعماقه الداخلية والتي لا يقف أمامها أي معطل.
إذن الطبيعة نفسها والشريعة والإنجيل يعطونه حق الإعالة، لكن حبه للكرازة منعه، “لأنه خير لي أن أموت من أن يعطل أحد فخري“.
لم يرد أن ينل شيئا لئلا يفهم البعض أنه يخدم كأجير، يعمل في كرم الرب لكي يأكل ويعيش، الأمر الذي قد يشكك البعض فلا يهتموا بخلاص نفوسهم.
لم يستخدم هذا الحق في الماضي، ولا كتب ذلك لكي يطالب بحقه في المستقبل حين يعود إليهم ليفتقدهم.
- بمعنى أن أمورًا كثيرة تعطيني الحق (في أن أكل من الإنجيل): الجندي والفلاح والراعي والرسل والناموس والأشياء التي فعلناها لكم وما فعلتموه أنتم مع الآخرين، والكهنة، وأمر المسيح، هذا كله لا يدفعني أن أُبطل القانون الذي وضعته لنفسي حتى أقبل شيئًا. لست أتكلم فقط عن الماضي (مع أنه يمكنني ذلك، فقد احتملت الكثير في الماضي في هذا الأمر) ومع ذلك فإني أتحدث عن المستقبل بخصوصي فإنني أفضل أن أموت جوعًا ولا يحرمني أحد من إكليلي[17].
- لئلا يقول أحد: “حقًا لقد فعل هذا لكن ليس ببهجة إنما في حزن وضيق” أراد أن يظهر فيض فرحه وعِظم غيرته، فدعا هذا الأمر “مجدًا” (فخرًا)[18].
القديس يوحنا ذهبي الفم
- لقد نال الرسول بولس فخرًا ومجدًا في خدمته، لكنه يؤمن أنه مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ، لذا يود أن يعطى أكثر منه أن يأخذ، وفى نفس الوقت لا يريد أن يعطل أحد فخره في المسيح يسوع. ربما يسأل أحد: كيف وهو يقول “مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ” (أع 20: 34، 35) ويقول “حاجاتي وحاجات الذين معي خدمتها هاتان اليدان” (أع 20:34)، وعندما كتب آلي أهل كورنثوس: ” لأنه خير لي أن أموت من أن يعطل أحد فخري” [15]، سمح لمجده أن يبطل! كيف؟ بأنه تقبل (العطاء)… يقول: “سلبت كنائس أخرى، آخذا أجرة لأجل خدمتكم” (2 كو 11: 8). هنا يُظهر أنه أخذ. بحق أخذ بولس، إذ قدم عملاً عظيما كهذا، وذلك إن كان بالحق قد أخذ، أما الذين لا يعملون فكيف يأخذون؟[19]
القديس يوحنا الذهبي الفم
- أظهر أن هذه الممارسة مسموح بها، لكنها ليست أمرًا لئلا يظن التلميذ الذي نال شيئا من الجزاء من أجل احتياجاته الشخصية من الذين يكرز لهم أنه يخطئ. أما التوقف عن هذه الممارسة فهو أمر ممدوح كما يظهر بوضوح في حياة الرسول… الذي أعلن: “لم أستعمل شيئًا من هذا”… لديه الحق، لكنه لم يلزم زملائه بأمرٍ ما[20].
القديس أغسطينوس
- إنه من الأفضل لى أن أموت ولا يُسلب بعض اخوتى أو ينخدع الأطفال الصغار والرضع في المسيح[21].
العلامة أوريجينوس
“لأنه إن كنت أبشر فليس لي فخر،
إذ الضرورة موضوعة عليّ،
فويل لي أن كنت لا أبشر” [16].
أنه يكرز بإرادته الحرة من أجل المجد الأبدي، هذا هو موضوع افتخاره. لهذا فهو لا يطلب حقه بل ومستعد لقبول كل تعبٍ وألمٍ وبذلٍ حتى لحياته من اجل الكرازة. من هنا يجد ضرورة تلزمه للعمل، لا ضرورة للحياة الزمنية، ولكن ضرورة الحب الداخلي لخلاص اخوته، وتمتعه بشركة المجد الأبدي.
لعله يقصد بالضرورة موضوعه عليه أنه لم يفرح بالكرازة كعملٍ أو وظيفةٍ، لكن الدعوة العجيبة التي قُدمت له من السماوي، دعوة شخصية ألزمته بالعمل (أع 9: 6). انه يعمل في طاعة لمن دعاه شخصيًا لخدمته. لم يلزمه الرب بل بالعمل لكن الدعوة مع حرية إرادته حملت إلزامًا داخليًا في القلب. إلزام ضميره بالعمل الكرازي واعلان الحق الإنجيلي، فقد دفعته العناية الإلهية لهذا الطريق ليصير سفيرًا للسيد المسيح.
لم يبشر الرسول عن ضرورة، أي عن احتياج مادي، وإنما طوعًا مترقبًا المكافأة السماوية. إن لم يبشر يشعر بالويل أو الحياة البائسة، ليس لأنه لا يجد عونًا ماديًا لحياته اليومية، إنما لأن ضميره يوبخه، وأعماقه تدينه، وقلبه يئن متوجعًا في داخله. كيف لا يكون بائسًا إن رفض دعوى الله له للعمل الفائق المجيد؟!
كان الرسول مضطهدًا للسيد المسيح، والآن اكتشف الحق الإلهي، فتحول قلبه للشهادة له، مشتهيًا أن يشارك مسيحه فقره وعريه وآلامه وأيضًا رفضه من خاصته.
إذ يمارس كرازته طوعًا عن حبٍ، وليس من أجل الأجرة الزمنية، فإنه ينال مكافأة سماوية. إما إن مارسها كرهًا خشية ألا ينال ما يعوله في العالم، أو خشية عقوبة إلهية، فيفقد الأجر السماوي.
إذن الخدمة ضرورية ولازمة لكن هذا الالتزام ينبع من القلب خلال بذل ذاتي، وهذا هو بالحق الحب الحقيقي وسرّ فرحي!
- عظيمة وعجيبة هي كرامة الرسول، الأمر الذي يوضحه الرسول على الدوام. فهو لا ينسب الكرامة لنفسه بل إذ وهبت له صار تحت الضرورة أن يمارسها. فعندما يتحدث عن نفسه يقول: “المدعو” وأنه “بمشيئة الله صار رسولاً“، ويقول في موضع آخر: “الضرورة موضوعة عليّ” (1كو 9: 16)[22].
- هو نفسه يقول: “ويل لي إن كنت لا أبشر” [16]. كمثال لقد تقبل نعمة الرسولية؛ ولهذا السبب فإنه “ويل له” لأنه يتقبلها (إن لم يعمل بها)، أما أنتم فأحرار من هذا الخطر[23].
- لن أكف عن القيام بواجبي مهما تكن الأسباب، فقد وُجدت هنا من أجل هذا العمل[24].
القديس يوحنا ذهبي الفم
- يفعل الخادم المُرسل بواسطة الرب ما يجب عمله حتى ولو لم يرد، لأنه إن لم يفعل ذلك فإنه سيعانى بسبب ذلك. كرز موسى لفرعون، مع أنه لم يرد ذلك (خر 4: 10 ؛ 5: 1) والتزم يونان بالكرازة لأهل نينوى (يونان 1: 1- 3: 4) [25].
أمبروسياستر
“فإنه إن كنت أفعل هذا طوعًا فلي اجر،
ولكن إن كان كرهًا فقد استؤمنت على وكالة” [17].
قلبه في العمل الإنجيلي، فإنه يحبه. تكمن أجرته في حبه للإنجيل، فيكرز دون نفقة علي حساب المخدومين، بل يعمل بيديه حتى لا يحتاج.
- أي شيء يعادل الكرازة،؟ فإنها تجعل البشر مشابهين للملائكة. ومع ذلك يمارسها شخص كأمرٍ صادرٍ عليه ودين ملتزم به، وآخر يمارسها طوعًا بهذا يصير أفضل من ذاك[26].
- انظروا هنا أيضًا حكمته، إذ لم يقل: “إن كانت ليست بإرادتي” لا تكون لي مكافأة، وإنما يقول: “فقد استؤمنت على وكالة“، موضحًا أنه حتى في هذه الحالة ينال مكافأة، ولكن بكونه قد تمم ما أُمر به، وليس كمن يعمل عملاً خاصًا به في سخاء مقدمًا بفيض تحقيق الوصية[27].
القديس يوحنا ذهبي الفم
- مع أنى خادم غير نافع، إلا أنى تسلمت من الرب أمرًا أن أوزع مكيال قمح لخدام سيدي (لو12: 42) (من الوكالة) [28].
- الحقيقة هي أن بولس إذ صار حُرا بالكامل صار بالضرورة رسولاً. يمكن أن تكون حرًا من الزنا لكنك عبد للغضب، حرًا من الطمع لكنك عبد للكبرياء، حرًا من خطية ما ولكنك عبد لأخرى[29].
العلامة أوريجينوس
- بالتأكيد من الأفضل أن نستحق المكافأة عن أن نخدم كوكلاء. ليتنا لا نرتبط بنير العبودية بل نخدم بحب الروح[30].
القديس أمبروسيوس
- كان بولس حُرًا من كل اتهام بشرى، لأنه كرز بالإنجيل دون نوال مديح عن ذلك ولا طلب شيئا من أحد إلا خلاصهم[31].
أمبروسياستر
- هكذا أيضا الطوباوي بولس صار كل شيء لكل البشر، لا لكي يقتنى نفعا ما بل بفقدانه جزءً قد يربح الكل[32].
القديس كيرلس الكبير
- كيف يلزم أن نكرز بالإنجيل؟ واضح أننا نكرز به بطريقة تكون فيها المكافأة هي الإنجيل نفسه، وملكوت الله. بهذا يكرز بالإنجيل طوعًا لا عن ضرورة: “فإنه إن كنت أفعل هذا طوعًا فلي أجر، ولكن إن كان كرهًا فقد استوفيت على وكالة” [17]. إن كان كرها بسبب العوز الي هذه الأمور الضرورية للحياة الزمنية أكرز بالإنجيل فإن الآخرين سينالون مكافأة الإنجيل خلالي، هؤلاء الذين يحبون الإنجيل نفسه عندما أكرز به ولا أنال ذلك حيث أني لا أحب الإنجيل في ذاته بل أطلب الأجرة في أمور زمنية. هذه خطية أن يخدم إنسان الإنجيل ليس كابن بل كعبد أُستؤمن على أمانة[33].
- ينبغي ألا نبشر بالإنجيل بقصد الحصول على الطعام، لكننا نأكل لكي نستطيع التبشير بالإنجيل. فإن كنا نبشر بالإنجيل لكي نحصل على الطعام، يكون التبشير بالإنجيل في نظرنا أقل أهمية من الطعام، وبذلك تنصب سعادتنا في الطعام، ويصير التبشير ضرورة لازمة لتحقيق سعادتنا (في الأكل). وهذا ما نهانا عنه الرسول عندما قال إنه بسماح من الرب يجوز للذين يبشرون بالإنجيل أن يعيشوا من الإنجيل. ومع ذلك فلم يستخدم لنفسه هذا السلطان. والسبب في ذلك أن كثيرين كانوا يرغبون في الحصول على فرصة لبيع الإنجيل، وقد أراد أن يضيع عليهم هذه الفرصة، لذلك كان يعمل بيديه، قائلاً: “لأقطع فرصة الذين يريدون فرصةً” (2 كو 12:11). لقد استقبح البشارة بالإنجيل كضرورة (أي كرهًا، لنوال الطعام) بقوله: “أَلستم تعلمون أن الذين يعملون في الأشياء المقدَّسة من الهيكل يأكلون. الذين يلازمون المذبح يشاركون المذبح. هكذا أيضًا أَمَرَ الربُّ أن الذين ينادون بالإنجيل من الإنجيل يعيشون. أمَّا أنا فلم أستعمل شيئًا من هذا” (1 كو 13:9-15). من ثم فقد أظهر أنه يجوز الأكل من الإنجيل، ولكنه ليس كأمرٍ إجباري، وإلا يكون في عدم أكله من الإنجيل قد خالف وصية الله، لذلك أردف قائلاً: “ولا كتبت هذا لكي يصير فيَّ هكذا. لأنهُ خير لي أن أموت من أن يعطّل أحد فخري“.
يقول: “إن كنت أبشر فليس لي فخر“، أي إن كنت أبشر بالإنجيل لنوال هذه الضروريات فإني أكون قد جعلت هدف الإنجيل هو الحصول على الأكل والشرب والملبس. ولكن لماذا “ليس لي فخر“؟ “إذ الضرورة موضوعة عليَّ“. أي في هذه الحالة ينبغي لي التبشير كوسيلة للحصول على وسائل العيش، أو لأنني أطلب ثمارًا زمنية من التبشير بالأمور الأبدية، فيكون التبشير ضروريًا وليس طوعًا “فويل لي إن كنت لا أبشر“.
ولكن ما هو الهدف في تبشيره؟… إنه بقصد نوال جزاء الإنجيل نفسه والحصول على ملكوت الله، وبذلك يبشر به طوعًا لا كرهًا. فهو يقول “فإن كنت أفعل هذا طوعًا فلي أجر. ولكن إن كان كرهًا فقد استؤمنت على وكالة” أي إن كنت أبشر كرهًا للحصول على الأشياء الضرورية للحياة، فسينال بواسطتي الآخرون جزاء الإنجيل، هؤلاء الذين أحبوا الإنجيل في ذاته بواسطة تبشيري، وأكون أنا قد حُرمت من هذا الجزاء لأنني لا أحب الإنجيل لذاته بل للحصول على الأشياء الزائلة.
فمن يخدم الإنجيل كعبدٍ وليس كابنٍ يكون قد أخطأ في الوكالة التي استؤمن عليها، لأنه يكون كما لو أعطى الآخرين ما قد حرم نفسه منه، فلا يكون شريكًا في ملكوت السموات بل يطرد خارجًا، لكنه يأخذ الطعام كأجرة للعبودية البائسة. ومع هذا فهو يدعو نفسه وكيلاً في عبارة أخرى.
لكن الخادم الذي يحسب نفسه في عداد الأبناء يكون في قدرته أن يهب بالإيمان الذين يشاركونه في ذلك الملكوت الذي له نصيب فيه. أما إذا حُسب عبدًا فيقول: “ولكن إن كان كرهًا فقد استؤمنت على وكالة” أي يعطي الآخرين دون أن يأخذ نصيبًا معهم[34].
القديس أغسطينوس
“فما هو أجري
إذ وأنا أبشر أجعل إنجيل المسيح بلا نفقة
حتى لم استعمل سلطاني في الإنجيل” [18].
إذ يتخلى الرسول عن حقوقه تتطلع عيناه إلي أجر أعظم، مكافأة علي مستوي أبدي سماوي. ليس هناك وجه مقارنة بين تنازلاته الزمنية ومجده العتيد أن يناله. هذا ما دفعه إلي عدم إفساد عمله الرسولي، لذا لم يطالب بحقوقه ولم يشتهيها، بل يجد سعادته في التخلي عنها. وإذ خشي أن يعامل الشعب كل الرسل والخدام هكذا فيرفضون تقديم احتياجاتهم الزمنية، لذا أكد: “لم استعمل سلطاني (حقي) في الإنجيل“. إنه حق يتنازل عليه بصفة شخصية، لكنه ليس مبدأ عامًا يسير عليه الشعب. فمن الأفضل للشعب أن يساهم ومن الأفضل للخدام أن يتنازلوا.
إذًا ما هي مكافآت الخدمة؟
- نستنير هنا وننير الآخرين بنور الروح القدس فنصير كواكب منيرة في السماء (دا 30:12).
- في الخدمة نتألم مع مسيحنا المصلوب فنتمجد أيضًا معه (2 تي 12:2).
- إذ نخدم هنا ننال سلطانًا في مجيئه (لو17:19-19).
- نربح النفوس هنا فنتهلل في حضرته (1 تس 19:2، 20).
- نرعى قطيع السيد المسيح فنتزكى أمام رئيس الرعاة في ظهوره (1 بط 4:5).
4- اهتمامه بخلاص الجميع
“فإني إذ كنت حرًا من الجميع
استعبدت نفسي للجميع
لأربح الأكثرين” [19].
يعلن الرسول بولس أنه ليس فقط يتنازل عن حقوقه الخاصة باحتياجاته الزمنية، لكنه وهو حر يتنازل عن حريته بإرادته ليسلك كعبدٍ عند سادته. يخدمهم ويهتم بما فيه نفعهم كعبدٍ لا يعمل لحساب نفسه بل لحساب ممتلكيه، كمن لا حق له في أجرة أو مكافأة. يطيعهم حتى فيما يبدو غير معقولٍ أو مقبولٍ.
لم يكن الرسول بولس ملتزمًا ولا مدينًا لأحد، لكنه حسب نفسه ملكًا لكل أحدٍ، كأنه عبد للجماعة كلها، ملك للجميع.
يؤكد الرسول حريته، فقد ولد حرًا، يحمل الجنسية الرومانية بالمولد، لم يُستعبد لأحد قط. وبكامل حريته يشتاق أن يكون عبدًا لكل أحدٍ لكي يربحه الكل ابناء لله يتمتعون بحرية مجد أولاد الله. مسرته كعبدٍ أن يبعث السرور في سادته بأن يقتنيهم ابناء لسيد الكل ومحرر الجميع.
يتشبه الرسول بولس بسيده الذي افتقر لكي بفقره يغنينا، وصار عبدًا مصلوبًا لكي يهبنا بروحه القدوس البنوة لله. هكذا كل تنازل حتى عن الحرية فيه لذة الشركة مع المخلص الذي بالحق ترك كل شيء ليهبنا ما له.
- مرة أخرى يقدم درجة أخرى أكثر تقدمًا… فيقول: “ليس فقط لم أخذ ولم استخدم حقي هذا، وإنما جعلت من نفسي عبدًا، في عبودية متعددة وجامعة للكل[35].
- إذ فعل كل هذه الأمور بكامل حريته وغيرته وحبه للمسيح كانت له رغبة لا تشبع من جهة خلاص البشرية. لذلك اعتاد أيضًا أن يجتاز الحدود المرسومة في كل شيءٍ ليسمو حتى فوق السماء عينها[36].
القديس يوحنا ذهبي الفم
- كان مديناً لليهود والأمم بالمحبة من قلبٍ طاهرٍ وضميرٍ صالحٍ وإيمانٍ بلا رياء (ا تي 1: 5)، لهذا صار كل شيءٍ لكل البشر لكي يربح الكل [19]، لا بمهارة المخادع، بل بحب من هو مملوء بالحنو. بمعنى أنه ليس بالتظاهر بأنه يفعل كل الشرور التي يفعلها الآخرون، بل باستخدام أقصى المتاعب التي بها يخدم بكل حنو، مقدمًا العلاج للشرور التي يمارسها الغير، حاسبا ما هم فيه كأنه فيه هو. يحسب نفسه مريضًا، لا بأن يتظاهر بأن لديه حمى بل يحسب في ذهنه المتعاطف بالحق معهم ما يلزم أن يُفعل به لو كان هو في وضع المريض[37].
القديس أغسطينوس
“فصرت لليهود كيهودي، لأربح اليهود،
وللذين تحت الناموس كأني تحت الناموس،
لأربح الذين تحت الناموس” [20].
يبدأ بفئة اليهود أولاً لأنه يشعر بالالتزام بخدمة بني شعبه في كل بلدٍ مع أنه رسول الأمم، ومن جانب آخر فإن اليهود كانوا يمثلون غالبية في الثورة ضد الرسول بولس إذ يتهمونه بالتحرر من الناموس وتجاهل قوانينه.
صار لكل فئة كواحدٍ منهم يلتزم ببعض عادتهم وسلوكهم بضميرٍ صالحٍ مادامت في الرب، ولا يقاومهم. فحيث لا يوجد خطر علي خلاصهم لا يهاجمهم (راجع أع 16: 3، 18:21:21- 26، 23: 1-6).
بقوله: “تحت الناموس” غالبًا ما يقصد اليهود الذين يعيشون في اليهودية الذين يلتزمون بتنفيذ الناموس أكثر من اليهود الذين يعيشون وسط الأمم.
هل بقوله: “صرت لليهود” وللذين “تحت الناموس” فيه تكرار لأن اليهود هم تحت الناموس؟ بقوله صرت لليهود يتحدث عنهم كأمة ووطن، فقد كان بجنسيته يهوديًا، لكن ليس بالضروري كل يهودي تحت الناموس، كاليهودي الذي يقبل الإيمان بالسيد المسيح فيتحرر من الناموس مع بقائه حسب جنسه يهوديًا.
في سفر الأعمال (16: 3) التزم الرسول بولس أن يختن تيموثاوس تلميذه لكي يربح اليهود الذين لم يؤمنوا بعد، ولا يتعثروا فيه ككاسرٍ للناموس.
- لم يقل “صرت لليهودي يهوديًا” بل “كيهودي“، وذلك بتدبير حكيم. ماذا تقول؟ هل مبشر العالم الذي تلامس مع السماوات عينها وأضاء ببهاء هكذا في النعمة ينزل بكليته إلى هذه الدرجة؟ نعم، هذا هو الصعود. فلا تنظروا إلى نزوله، بل صعوده، إذ ينحني إلى أسفل ويُقيمه إليه[38].
- متى صار تحت الناموس؟ عندما حلق رأسه وقدّم ذبيحة. لقد حدثت هذه الأمور ليس لأن فكره قد تغيّر، وإنما لأن حبه قد أنزله. وذلك لكي يجلب إلى الإيمان أولئك الذين هم بالحق يهود. صار هو هكذا ليس بالحقيقة يهوديًا بل أظهر نفسه هكذا فقط وليس بالفعل ولا بأعمال صادرة عن عقله! حتى يحرر أولئك الذين يمارسونها ويرتفع بهم من الانحطاط[39].
- لم يحاور اليهود من الأناجيل بل من الأنبياء، لهذا يقول: “صرت لليهود كيهودي[40]“
القديس يوحنا ذهبي الفم
- لم يتظاهر بولس بما هو ليس عليه، إنما أظهر حُنوًا[41].
- الشخص الذي يهتم برعاية مريض يصير بمعنى ما هو نفسه مريضًا، لا بالتظاهر بأن لديه حمى بل بالتفكير متعاطفا كيف يود أن يعامله الغير لو كان هو نفسه مريضًا[42].
- عندما يقول الرسول: “فصرت لليهود كيهودي لأربح اليهود. وللذين تحت الناموس كأني تحت الناموس لأربح الذين تحت الناموس. وللذين بلا ناموسٍ كأني بلا ناموس. مع أني لست بلا ناموس لله بل تحت ناموسٍ للمسيح لأربح الذين بلا ناموسٍ. صرت للضعفاءِ كضعيفٍ لأربح الضعفاءَ. صرت للكلّ كلَّ شيءٍ لأخلّص على حالٍ قومًا” (1 كو 20:9-22). فبلا شك لا يفعل هذا تصنعًا كما قد يحسب البعض، مبررين بذلك تصنعهم الممقوت.
فهو يفعل هذا حبًا فيهم، متأثرًا بضعفات الآخرين حاسبًا إياهم ضعفًا له. وقد سبق أن وضع هذه القاعدة “فإني إذا كنت حرًّا من الجميع استعبدت نفسي للجميع لأربح الأكثرين” (1 كو 19:9). وتظهر محبته وشفقته على الضعفاء كما لو كانت ضعفاتهم ضعفاته هو. وليس تصنعًا منه. يقول: “فإنكم إنما دُعِيتم للحريَّة أيُّها الاخوة. غير أنهُ لا تصيّروا الحرَّية فرصة للجسد بل بالمحبة اخدموا بعضكم بعضًا” (غلا 13:5)[43].
القديس أغسطينوس
- هل صار بولس كل شيء لكل البشر في المظهر فحسب متملقا إياهم؟ لا! كان رجل آلام، وباهتمام شديد اهتم بهم وتعاطف مع جميعهم. كلنا يوجد فينا ما هو مشترك مع كل أحد. هذا التعاطف مع الآخر هو ما احتضنه بولس في تعامله مع كل شخص بعينه[44].
أمبروسياستر
“وللذين بلا ناموس كأني بلا ناموس،
مع أني لست بلا ناموس لله،
بل تحت ناموس للمسيح،
لأربح الذين بلا ناموس” [21].
ربما يقصد هنا فئتين: أ. جماعة الصدوقيين الذين لا يبالون بالطقوس اليهودية، فظهر بينهم كمن لا يهتم بالطقوس فيقبلوا الإيمان ويصدقوا القيامة الأخيرة.
ب. الأمم الذين لا يلتزمون بناموس موسى مثل الشرائع الخاصة بالتطهيرات والختان الخ. فكان يتحدث معهم بلغتهم كواحدٍ منهم يعرف شعراءهم وعقائدهم.
“ناموس المسيح” لم يشعر قط بأنه يسلك بلا ناموس الحب الملزم. فالحياة في المسيح يسوع لها التزاماته وقوانينها، لكي يحمل المؤمن شركة سمات المسيح من حب وقداسة وطول أناة وطاعة الخ. الحياة في المسيح لها نظامها الدقيق الروحي والمبهج بكونها عربونًا للحياة السماوية الدقيقة. ناموس المسيح الذي نلتزم به هو ناموس الحب، به نكمل الناموس ( رو 13: 8؛ 6: 2).
- يقول البعض أنه يشير هنا إلى حديثه مع أهل أثينا بخصوص ما هو منقوش على المذبح، لهذا يقول: “وللذين بلا ناموس كأني بلا ناموس”[45]… لئلا يظن أحد أن الأمر فيه تغيير في فكره أضاف: “مع أني لست بلا ناموس لله بل تحت ناموس للمسيح“. بمعنى: “حاشا أن أكون بلا ناموس، أنا لست تحت الناموس لكن لي ناموس أكثر سموًا من القديم، هو ناموس الروح والنعمة”، لهذا يضيف: “للمسيح”[46].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- فعل هذا عن عفوٍ وليس عن كذب. فإنه صار لكل واحد كأنه مثله لكي يعينه عندما تغلب المراحم العظيمة، فيرغب كل واحدٍ له كما كان في نفس البؤس الذي فيه. هكذا صار مثل الغير لا بخداعه بل بوضع نفسه في موضع الغير[47].
القديس أغسطينوس
“صرت للضعفاء كضعيف لأربح الضعفاء،
صرت للكل كل شيء لأخلص على كل حال قوما” [22].
“وهذا أنا أفعله لأجل الإنجيل لأكون شريكًا فيه” [23].
يقصد بالضعفاء غير المسيحيين وأيضا المسيحيين ضعفاء الضمائر. فالرسول صاحب الضمير القوي يترفق بالضعفاء من المؤمنين وغير المؤمنين لكي يربحهم للمسيح عوض أن يكون عثرة لهم (1 كو 8: 8، رو 14:1).
يقصد بالضعفاء أولئك الذين يتشككون بسرعة، خاصة في التعامل مع المقدسات.
علامة حبه أنه يتشكل مع كل أحد لا ليخدعه بل ليربحه للإيمان، فصار لليهودي كيهودي، وللذين تحت الناموس كأنه تحت الناموس، حتى الذين بلا ناموس كأنه بلا ناموس، وللضعفاء كضعيف، وللكل كل شيء، ليخلّص على كل حال قومًا. هذا أسلوب أب يتنازل ليعامل أطفاله كطفلٍ وسطهم حتى يحملهم إلى النضوج. “التشكل” هنا لا يعني الرياء أو الكذب أو الخداع، وإنما بدافع الحب يتنازل عن إرادته الخاصة وطريقه ومسراته ومكاسبه لكي يكسب الكل فيحملوا إرادة المسيح ويقبلوه طريقًا لهم وعله مسرتهم ومكسبهم الأبدي.
كان الرسول أبعد ما يكون عن أن ينتقد الذين تحت الناموس أو بلا ناموس أو الضعفاء. إنه لم يحتقرهم، ولا دخل معهم في مجادلات فكرية نظرية، لكنه انحني بالحب لكي يحملهم في قلبه ويقدمهم لمحب كل البشرية ومخلص الجميع.
- يمكن تفسير ذلك بطريقة صحيحة، وهي أنه ليس بالكذب بل بالتعاطف الذي جعله قادرًا أن يحولهم إلى الإيمان خلال محبته العظيمة حيث حسب نفسه كأنه هو الذي يعاني من الشر الذي يود أن يشفيهم منه[48].
القديس أغسطينوس
- في كل موضع يصير المخلص هو الكل للكل. فللجائع يصير لهم خبزًا، وللعطشان ماءً، وللموتى القيامة، وللمرضى طبيبًا ، وللخطاة خلاصًا[49].
القديس كيرلس الأورشليمي
- صار (السيد المسيح) كل شيءٍ لكل البشر لكي يقدم خلاصًا للكل. بولس إذ يقتدي به عاش كمن هو خارج الناموس مع أنه قد بقى فهمًا بالناموس. بذل حياته لأجل نفع أولئك الذين يريدهم أن يغلبوا. بإرادته صار ضعيفًا للضعفاء ليقويهم[50].
القديس أمبروسيوس
- صار بولس ضعيفًا بامتناعه عن الأشياء التي قد تعثر الضعفاء[51].
أمبروسياستر
- من كان ناضجًا في الإيمان مثل الرسول بولس يمكنه وحده أن يقول هذا. لن يقدر الخاطي أن ينطق بهذا[52].
- السبب الذي لأجله تركض (الكنيسة) مع الفتيات نحوه هو أن الشخص الكامل دائمًا يصير كل شيء لكل البشر لكي يربح الكل [22][53].
العلامة أوريجينوس
- إن كان بولس يحفظ هذه الأسرار بنظام فيتظاهر كيهودي ليكسب اليهود، فلماذا لم يشترك مع الأمم في الذبائح الوثنية مادام بالنسبة لهم كان كمن هو بلا ناموس لكي يكسبهم هم أيضًا؟
تفسير ذلك أنه اشترك في الذبائح اليهودية لأنه يهودي بالميلاد، وعندما قال هذا كله قصد ليس أنه تظاهر أن يكون ما هو ليس عليه إنما شعر بحنوٍ صادق أن يقدم لهم عونًا كهذا كما لو كان مقدمًا له لو أنه منشغل في خطأهم.
هنا لم يستخدم مهارة المخادع بل التعاطف وحنو المخلص. في نفس العبارة يضع الرسول المبدأ بطريقة عامة: “صرت للضعفاء كضعيف لأربح الضعفاء. صرت للكل كل شيء لأخلص على كل حال قومًا” [22]. الجزء الأخير من العبارة يقودنا لفهم السابق بأن يظهر نفسه كشخصٍ يشفق على ضعف الآخرين كما لو كان ضعفه هو. فعندما يقول: “من يضعف وأنا لا أضعف؟” (2 كو 11: 29) لم يرد أن يتظاهر بأنه يعاني من ذات ضعف الغير، بل بالأحرى أنه يظهر ذلك بالتعاطف معه[54].
القديس أغسطينوس
- هكذا فلتفعلوا أنتم أيضًا ولا تحسبوا أنفسكم أفضل من غيركم حتى تتواضعوا، فمن أجل خلاص أخيكم تتنازلوا عن كرامتكم. فإن هذا ليس فيه سقوط بل هو تنازل. فمن يسقط يرتمي منبطحًا ويصعب قيامه، أما من يتنازل فيقوم حاملاً الكثير من المنافع. كما تنازل بولس أيضًا وحده، لكنه صعد ومعه العالم كله، فلم يكن يعمل في جزءٍ من العالم، بل كان يطلب أن يقتني كل الذين خلصوا خلال عمله[55].
القديس يوحنا الذهبي الفم
5- اهتمامه بخلاصه
“ألستم تعلمون أن الذين يركضون في الميدان،
جميعهم يركضون،
ولكن واحدًا يأخذ الجعالة،
هكذا اركضوا لكي تنالوا” [24].
إذ كان ذهن أهل كورنثوس مشغولاً بالمباريات الرياضية استخدم الرسول بولس من يركض في السباق ومن يلاكم ليوضح حاجة المسيحي أن يكون في ظروف صحية لائقة به من خدمة الله.
كان في اليونان أربعة أنواع من دورات الألعاب الرياضية:
- Delphic أو Pythian.
- Isthmian أو الكورنثوسي.
- Nemean.
- Olympic الأولمبية.
في هذه المناسبات يجتمع الناس من كل أنحاء اليونان وتًعتبر فترة الدورة فترة احتفال شعبي مملوء بالمباهج.
يُحتفل بالألعاب الكورنثوسية أو اسيثموس Isthmian games في مكان ضيق بالبرزخ Isthmus في كورنثوس شمال المدينة، وهي بلا شك الألعاب التي يشر إليها الرسول عند حديثه في هذه الرسالة.
الألعاب الـ Nemean كان يحتفل بها فيNemaea بمدينة ارجوليس Argolis أنشأها Argivesتكريما لـ Archemorus الذي مات بلدغة ثعبان، وقام بتجديدها هيرقليس Herclues. وهي تضم سباق خيل وسباق مشي وملاكمة ووثب وجري الخ. وكان المنتصر يًكافأ بإكليل من شجر الزيتون، بعد ذلك إكليل من البقدونس الأخضر. وكان الاحتفال بها يتم كل ثلاث سنوات، ويرى البعض أنها كانت كل خمس سنوات.
الألعاب الـ Pythian يُحتفل بها كل أربع سنوات في Delphi بـ Phocisعند سفح جبلParnassus، وكانت هذه الألعاب تجتذب الكثيرين حتى من خارج اليونان.
أما الدورات الأولمبية فكانت تمارس في أولمبيا، مدينة إيليس Elis علي الشاطئ الجنوبي من نهر الفياس Alphias في غرب Peloponnesus.
يرى بعض الدارسين أن استخدام تشبيه الألعاب الرياضية يتناسب مع تاريخ الرسالة واعتزاز أهل كورنثوس بها، مما يؤكد أن الرسالة أصيلة تعود إلى عصر الرسول وموجهة فعلاً لشعب كورنثوس.
كانت مدارس الرياضة أحد ملامح مدن اليونان الرئيسية، وكان كل طالبٍ يقسم بأنه يتدرب في إحدى هذه المدارس لمدة عشرة شهور علي الأقل، وأنه لن يكسر القوانين التي تعلمها فيها (2 تي 2: 5).
كان المشترك في هذه الألعاب يعيش بنظامٍ دقيقٍ للطعام ويمتنع عن شرب الخمر والأطعمة الشهية، ويتدرب علي احتمال الحر والبرد ويلتزم بنظام صعب.
فالمصارع يدرب نفسه ويضبط جسده لكي يبلغ أعلى مستوى في السباق. وواحد فقط يقدر أن ينال الجائزة، غالبًا ما كانت إكليل من النباتات يوضع على رأس المنتصر. إنه إكليل يفنى. أما المؤمنون فإنهم إذ يدربون أنفسهم في سباق الحياة، فيستطيع كل واحد منهم أن ينال إكليل النصرة الذي لا ينحل.
يدرب الملاكم نفسه حتى متى واجه خصمه في حلقة الملاكمة يستطيع أن يوجه الضربة حسنًا. وإن فشل في التدريب الحسن سيضرب بذراعيه يمُنة ويُسرى كمن يضرب الهواء. عندئذ يصير هدفًا صائبًا من خصمه. هكذا يلزم أن يدرك المؤمن قيمة جسده لهذا لم يرد الرسول أن يكون كمن يضرب الهواء.
كان المشتركون في الألعاب والمسابقات يلتزمون بكامل حريتهم بالامتناع عن بعضهم الأطعمة حتى يتهيئوا للمعركة. فبالأولي من أجل الإكليل السماوي إن يمتنع المؤمن عن أكل ما ذبح للأوثان بكامل حريته واختياره.
أيضُا تنازلات الرسول السابقة ليست بلا هدف، فإن الراكضين في ميدان الرياضة يتعبون جدًا لينال واحد فقط المكافأة؛ أما في ميدان الروح فينزل الكل إلى الميدان ويشتاق الله أن يهب الكل المكافأة [24].
هنا يشير الرسول إلي سباق الجري قصير المدى [24] وحلقة الملاكمة [26، 27]. وكانت السرعة في الجري تحسب أحد الهبات العظمي في حياة الإنسان. عندما رثي داود النبي شاول الملك وابنه ناثان قال عنهم: “أخف من النسور، وأشد من الأسود”.
- يشير الرسول إلى حرية إرادتنا بالقول: “هكذا اركضوا لكي تنالوا” (1كو24:9)، ويشهد يوحنا المعمدان عن ضعفها بقوله: “لا يقدر إنسان أن يأخذ شيئًا إن لم يكن قد أُعطِي من السماءِ” (يو27:3)[56]
الأب شيريمون
- النعمة دائمًا مستعدة! إنها تطلب الذين يقبلونها بكل ترحيب. هكذا إذ يرى سيدنا نفسًا ساهرة وملتهبة حبًا يسكب عليها غناه بفيض وغزارةٍ تفوق كل طلبته[57].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- في الواقع الحديث هنا عن ميداننا لأجل نوال مكافأة عملنا السماوي، وينصحنا بولس أن نزيد سرعتنا. يقول: اركضوا لكي تنالوا. فإنه هو نفسه في حركة سريعة أراد يبلغ ما هو أمامه ناسيًا ما هو وراء. كان بالحق مصارعًا سريع الحركة يلاحظ بكل دقةٍ مقاومة المضاد له. إنه مًسلّح بطريقة حسنة في آمان في كل خطوة يخطوها، لن يوجّه سلاحه الذي في يده ضد ظل فارغ، إنما يهاجم عدوّه بضرباته الحيّة التي يصوّبها على جسمه[58].
- كلما ازدادت مجهوداتكم من أجل التقوى تزداد نفوسكم عظمة خلال الأتعاب والمجهودات في الأمور التي يحثنا الرب عليها[59].
القديس غريغوريوس أسقف نيصص
- ليركض بالحب ويجرى مع أناسٍ صالحين لكي ينال عطايا أفضل متطلعًا دومًا الي كلمات الرسول: “اركضوا لكي تنالوا” [24][60].
الأب فاليريان
- يمسحكم سيدكم يسوع المسيح بروحه ويُحضركم إلى الميدان.
إنه يصمم لفترة طويلة قبل يوم المباراة لكي يأخذكم من طريق الحياة السهل إلى نظام أكثر خشونة في الحياة حتى تزداد قوتكم.
يُعزل المصارعون لتداريب أقسى حتى تنمو قوتهم الجسمانية.
إنهم يحفظون من الحياة المترفة والأطباق الشهية والمشروبات المبهجة.
إنهم يحثون على الخضوع لأتعاب قاسية…
كلما تدربوا بمجهودات شاقة كان رجاؤهم في النصرة أعظم[61].
العلامة ترتليان
“وكل من يجاهد يضبط نفسه في كل شيء،
أما أولئك فلكي يأخذوا إكليلاُ يفنى،
وأما نحن فإكليلاً لا يفنى” [25].
يُمنح الفائز في الألعاب الأولمبية إكليلاً من الزيتون، والـ Delphi إكليلاُ من التفاح، والكورنثوسية إكليلاُ من الصنوبر، والـ Nemean إكليلاُ من البقدونس.
ينال الفائزون الإكليل في آخر الدورة في احتفالٍ مهيب مع تهاني الكثيرين وفي جوٍ من الفرح الشديد. وكان الكل يشتاقون أن يروا الفائزين ويهيئونهم. كان الأقرباء والأصدقاء يحملونهم علي أكتافهم لكي يراهم الجميع، ويسكبون دموع الفرح، وكانت الجماهير تهتف وتصفق لهم وتلقي الورود عليهم وكثيرون يزحمون أبواب المدينة وهم قادمون للاشتراك في مواكب النصرة. كما كانت الدولة تقدم لهم هبات مالية وتعفيهم من الضرائب.
يقول سيشترون أن الفائز في الألعاب الأولمبية ليس بأقل من المنتصر في روما[62].
لاعبوا الرياضة يترقبون إكليلاً زمنيًا، أما العاملون بالروح فينالون إكليلاً أبديًا لا يفنى [25].
- هنا الإكليل لا يُحد بشخصٍ واحد وحده، وستكون المكافأة تفوق كل الأتعاب. لذلك يتحدث هكذا لكي يخجلهم: “أما أولئك فلكي يأخذوا إكليلاً يفنى وأما نحن فإكليلاً لا يفنى” [25][63].
القديس يوحنا ذهبي الفم
- سبق فتنبأ الأنبياء عن المعركة، وانشغل بها الرب، واستمر فيها الرسل[64].
الشهيد كبريانوس
- أنت مصارع ، تعال لتثابر مع منافسيك لا برأسك بل بذراعيك[65].
القديس أمبروسيوس
- عندما ندخل طريق الرب لنبتعد عن بطلان هذه الحياة الحاضرة وننتعش بالرجاء في الحياة العتيدة، دون أن نركز قلوبنا على الأشياء الحاضرة بل تتهلل بالعلويات[66].
القديس أغسطينوس
- “إن كان أحد يجاهد لا يكلل إن لم يجاهد قانونيًا” (2 تي 5:2). الإنسان المشتاق إلي إطفاء الرغبات الجسدية للطبيعة لابد أن يسرع وينتصر علي الشرور الخارجية عن طبيعتنا. وإذا أردنا اختبار قوة قول بولس الرسول لابد أولاً أن نتعلّم قوانين الجهاد في العالم وقواعده حتى نستطيع من خلال تلك القواعد التعرّف علي ما قاله الرسول بولس عن الفائز بإكليلٍ يفنى (1 كو 25:9)، فعلي المتسابق أن يعدَّ نفسه لإكليل المجد الزمني القابل للفناء[67].
القديس يوحنا كاسيان
يرى البعض أن الجهاد القانوني الذي به ننعم بالغلبة هو ذاك الي فيه يتكئ المؤمن على صدر الله، طالبًا نعمته ومعونته بروح العمل والجهاد.
- لا نقدر أن نجري في طريق الله إلا محمولين على أجنحة الروح[68].
- ليس أقوى من الذي يتمتع بالعون الإلهي، كما أنه ليس أضعف من الذي يُحرم منه[69].
- لنكن أقوى من الجميع، متمثلين ببولس وبطرس ويعقوب ويوحنا، فإنه إن غاب عنا عون الله لا نقدر أن نقاوم أتفه إغراء[70].
القديس يوحنا ذهبي الفم
- ليس لمن يشاء ولا لمن يسعى بل من الله ينال رحمة حتى ننال ما نرجوه ونبلغ إلى ما نشتهيه. عيسو لم يكن يشاء ولم يسعَ وكان يمكنه أن ينال عون الله الذي إذ ندعوه يهبنا القوة لكي نريد ونعمل[71].
القديس أغسطينوس
“إذا أنا اركض هكذا
كأنه ليس عن غير يقين
هكذا أضارب كأني لا اضرب الهواء” [26].
في لعبة Sciamachia يضرب المصارع بيده في الهواء كما لو كان عدوه أمامه. العدو الحقيقي هو إبليس الذي يقاومنا خاصة خلال شهوات الجسد.
اللاعبون يصارعون بلا يقين، فقد يضرب أحد يده كما في الهواء [26] ولا يصيب المصارع معه، أما الروحيون فيصارعون في يقين نعمة الله العاملة فيهم.
من عادة الملاكمين أن يدخلوا الحلبة وقبل بدء الصراع يمارسون الملاكمة في الهواء لتمرين أيديهم أو كنوعٍ من الاستعراض أمام الجماهير. كان هذا يدعي “skiamachia” أو “Sciamachia” أي معركة زائفة أو معركة في الهواء. وقد جاء النص يحمل أيضا معني الضربات التي لا تحقق هدفها إذ يضرب الملاكم في الهواء عندما يفلت منافسه من أمام الضربة. ولعل الرسول بقصد هنا أن صراعه ليس عن تهور ولا بدون خبرة، إنما يعرف كيف يضرب تحت قيادة روح الله القدوس لينال النصرة الأكيدة. روح الله يهب قدرة وحكمة فلا نفشل قط في جهادنا.
“عن غير يقين“: لها معان أخرى، فهي تعني الجهالة. فالرسول في سباقه يتحرك ليس في جهالة، إنما عن إدراك لقوانين السباق، ومعرفة للحياة الأبدية والطريق الذي يقود إليها، ويتلمس قوتها.
“بدون مراقبة” تعني أن الرسول يعلم أن كل أعين المشاهدين تتركز علي الذين في السباق تترقب النتيجة، يشتهي الاخوة الكذبة أن يروه قد عرج في الطريق ولم يكمل السباق، ويتمني اليهود والأمم المقاومون للإنجيل أن يروه ساقطًا.
أما الكنيسة الحقيقية فتتطلع إليه في شغف لترى إكليله، وأخيرًا تتطلع إليه عينا الله المترفقتان به، اللتان تسندانه في صراعه.
- ماذا تعني “ليس عن غير يقين” [26]؟
يقول: تطلّعوا إلى بعض العلامات، فإنه لا أعمل جزافًا ولا باطلاً كما تفعلون أنتم؛ فإنه أية منفعة لكم من دخولكم هياكل الوثن؟… لا شيء!
لست هكذا أنا، بل كل ما أفعله هو من أجل خلاص قريبي!
سواء أنني قد فقت بطرس في تنازلي عن قبولي (مكافأة) فذلك لكي لا يتعثّروا، أو تنازلت أكثر من الكل باستخدام الختان وحلقت رأسي، فهذا الأمر لا يحطمني. فإن هذا أفعله “ليس عن غير يقين“، أما أنتم فلماذا تأكلون في هياكل الأوثان، أخبروني؟ بلى، لا تقدرون أن تقدموا علّة واحدة لهذا. فإن “الطعام لا يقدمنا إلى الله، لأننا إن أكلنا لا نزيد، وإن لم نأكل لا ننقص” (1كو 8:8). واضح أنكم تركضون اعتباطًا، فإن هذا فيه “غير يقين”[72].
- “هكذا أضارب كأني لا أضرب الهواء” [26]. يقول هذا مرة أخرى مشيرًا أنه كان يعمل ليس اعتباطًا ولا باطلاً. فإنه يوجد من أضربه وهو الشيطان. وأما أنتم فلا تضربونه بل ببساطة تبددون قوتكم باطلاً[73].
القديس يوحنا ذهبي الفم
- يقصد بولس أنه يحارب ليس بكلماته المجردة بل بأعماله[74].
أمبروسياستر
- (لا تخف من محاربات الشيطان)
إننا نعتقد أنهم يتعهدون هذا الصراع بقوة، لكن في مناضلتهم يكون لديهم نوع من القلق والحزن، خاصة حين يقفون أمام مناضلين أقوياء أي أمام رجال قدّيسين كاملين، وإلا فإنه لا يكون نضالاً ونزاعًا بل هو مجرد تغرير بالبشر، لأن طرفًا قوي والآخر ضعيف.
(فالحرب الروحية شديدة) وإلا فأين يكون موضوع كلمات الرسول القائل: “فإن مصارعتنا ليست مع دمٍ ولحمٍ بل مع الرؤَساءِ مع السلاطين مع ولاة العالم علي ظلمة هذا الدهر مع أجناد الشرّ الروحيَّة في السماويَّات” (أف 12:6)، وأيضًا “هكذا أُضارِب كأني لا أضرب الهواءَ” (1 كو 26:9)، وأيضًا “قد جاهدت الجهاد الحسن” (2 تي 7:4)؟!
إذ يتحدث عن حرب وصراع ومعركة، يلزم أن توجد قوة وجهاد في كِلا الطرفين، وأن يكون كلاهما مُعدًّا إما أن يضجر ويخجل من الفشل أو يبتهج بالنصرة.
لو أن أحد الجانبين يحارب بيسر مع ضمان (النصرة) على الثاني الذي يناضل بقوة عظيمة لما دعيت معركة أو صراع أو نزاع بل يكون نوعًا من الهجوم المجحف غير العادل[75].
الأب سيرينوس
- مثل مصارع يأتي أخيرًا إلى الميدان. يرفع عينيه إلى السماء… يهذب جسده حتى لا ينهزم في المصارعة. يدهنه بزيت الرحمة. يمارس كل يوم استعراضات الفضيلة… يركض بيقين لبلوغ غاية الجولة. يوجه ضرباته ويصوب السهام بذراعيه ولكن ليس نحو الفراغ… الأرض هي ميدان التدريب للإنسان والسماء هي إكليله[76].
- مثل مصارع صالح عرف بولس كيف يوجه اللطمات على القوات المضادة ، بل ويضربهم إذ يجددون الهجمات[77].
القديس أمبروسيوس
- لتركض في هذا العالم فتنال (المكافأة) في العالم العتيد[78].
القديس جيروم
- هل تود أن تسمع ما يقوله مناضل حقيقي للمسيح يجاهد حسب قواعد المعركة وقوانينها؟ “إذًا أنا أركض هكذا، كأنه ليس عن غير يقين. هكذا أضارب كأني لا أضرب الهواء، بل أقمع جسدي واستعبده حتى بعد ما كرزت للآخرين لا أصير أنا نفسي مرفوضًا” (1كو26:9، 27). أترى كيف جعل الجزء الأساسي من النضال معتمدًا عليه، أي علي جسده، كما علي أكثر الأسس تأكيدًا، وجعل نتيجة المعركة مترتبة علي طهارة الجسد وقمع جسده. “إذًا أنا أركض هكذا كمن ليس عن غير يقين“.
إنه لا يركض عن غير يقين، لأنه فيما هو متطلع إلى أورشليم السمائية يجد علامة موضوعة أمامه يركض إليها قلبه بلا انحراف. إنه لا يركض عن غير يقين، لأنه “ينسى ما هو وراء ويمتد إلي ما هو قدام، ساعيًا نحو الغرض لأجل جعالة دعوة الله العليا في المسيح يسوع” (في 13:3، 14). وقد أعلن بثقة، مثبتًا نظره نحو الغرض، ومسرعًا لإدراكه بكل سرعة، قائلاً: “قد جاهدت الجهاد الحسن، أكملت السعي، حفظت الإيمان” (2 تي 7:4).
ولأنه يعلم أنه سعى نحو رائحة دهن المسيح باستقامة قلب ولم يكل، وانتصر في المعركة الروحية بطهارة الجسد، ختم حديثه بجسارة قائلاً: “وأخيرًا قد وُضع لي إكليل البر الذي يهبه لي في ذلك اليوم الديان العادل”. ولكي يفتح أمامنا باب الرجاء أيضًا لاقتناء مثل هذه المكافأة إذا ما رغبنا أن نحاكيه في مسيرة جهاده أضاف:
“وليس لي فقط بل لجميع الذين يحبون ظهوره أيضًا” (2 تي 8:4)، معلنًا أننا سنكون شركاءه في الإكليل يوم الدينونة إذا كنا نحب ظهوره أيضًا. ليس أنه يظهر لنا بغير إرادتنا، بل يظهر لنا يوميًا في النفوس المقدسة، إن كنا ننال النصرة في المعركة بطهارة الجسد. عن هذا الظهور يقول السيد في الإنجيل: “ويحبه أبي وإليه نأتي وعنده نصنع منزلاً” (يو 23:14). وأيضًا: “هأنذا واقف على الباب وأقرع، إن سمع أحد صوتي وفتح الباب أدخل إليه وأتعشى معه وهو معي” (رؤ 20:3) [79].
القديس يوحنا كاسيان
- يشير الهواء هنا إلى قوات الشر[80].
ثيؤدور أسقف المصيصة
“بل اقمع جسدي واستعبده
حتى بعدما كرزت للآخرين
لا أصير أنا نفسي مرفوضًا” [27].
يعرف الرسول بولس عدوه إبليس خير معرفة، وهو قادر بالسيد المسيح ان يضربه لا في الهواء بل بالصليب يحطمه.
المصارعون يبذلون كل الجهد وهم في غير يقين، إذ واحد فقط ينال المكافأة، أما في الجهاد الروحي فإن كل من يجاهد بالرب حتمًا ينال إكليلاً سماويًا في يقين من جهة مواعيد الله الصادقة.
لئلا يظن السامعون أن الرسول يفتخر متكبرًا بسبب تنازلاته لأجل الخدمة وصراعه، يؤكد حرصه الدائم لئلا يهلك بالرغم من نجاح خدمته: “اقمع جسدي وأستعبده حتى بعدما كرزت للآخرين لا أصير أنا نفسي مرفوضٍا” [27]… انه لا يدخل معهم في منافسةٍ بل يجاهد حتى مع جسده!
إن كان هكذا يخشى الرسول هلاك نفسه بعد هذا الجهاد الطويل إذ كسب آلاف النفوس للسيد المسيح، فكم بالأكثر يليق بالمؤمنين خاصة الكهنة بكل درجاتهم الكهنوتية والخدام أن يجاهدوا لأجل خلاص أنفسهم وخلاص اخوتهم؟! نجاح الرسول بولس بتأسيسه كنائس جديدة وكسبه للنفوس ونشره للإنجيل ليس شهادة أكيدة لخلاصه، بل يلزمه الجهاد بنعمة الله حتى النفس الأخير. إنه يقدم نفسه مثلاً لنا حتى لا ننخدع ونتهاون معتمدين علي نجاح خدمتنا السابقة أو الحاضرة. فما أخطر أن نقود الآخرين إلي الحياة الأبدية بينما ننحدر نحن نحو الهاوية في موت أبدي!
إن لم تضبط النفس والجسد بروح الله القدوس، حتما يستعبد الجسد النفس. فالجسد خادم صالح للنفس وأن صار سيدًا لها يصير عنيفًا.
- أنظر إلى الرسول بولس، ألا يبدو أنه ينتقم للشهيد إسطفانوس في شخصه عندما يقول: “هكذا أُضارِب كأني لا أضرب الهواءَ. بل أقمع جسدي وأستعبدهُ” (1 كو26:9، 27)، لأنه حينما كان يضطهد إسطفانوس وغيره من الشهداء كان يستعبد أجسادهم ويذلها، وكأنه انتقم لهم في ذاته باستعباده لجسده وقمعه له[81].
القديس أغسطينوس
- الذي يخضع جسده لخدمة الله يضع السراج على المنارة، فيكون التبشير بالحق في مرتبة أعلى وخدمة الجسد في مرتبة أدنى. ومع هذا فإن التعاليم تزداد وضوحًا بصورة محسوسة باستخدام الحواس الجسدية، أي عندما تُسخر الحواس المختلفة (اللسان والفكر وأعضاء الجسد) في التعليم، لذلك يضع الرسول سراجه على المنارة عندما يقول هكذا: “أُضارِب كأني لا أضرب الهواءَ. بل أقمع جسدي وأستعبدهُ حتى بعدما كرزت للآخرين لا أصير أنا نفسي مرفوضًا“[82].
القديس أغسطينوس
كثيرًا ما تحدث القديس يوحنا الذهبي الفم عن حرصه الشديد على خلاص نفسه وسط انشغاله بالخدمة وكثيرًا ما حذر الأساقفة من تجاهلهم ذلك[83].
قبل الالتقاء بالسيد المسيح كان شاول (بولس الرسول) يتكل علي ماضيه كفريسيٍ بارٍ في عيني نفسه وأعين الشعب، بل ويظن أنه بار في عيني الله. أما وقد أختبر الحياة الجديدة المقامة فصار ما يشغله الحاضر، فيسأل نفسه إن كان يسلك الآن كإنسان الله المتمتع بحياة المسيح المقامة، كحياة حاضرة.
- إن كان بولس يخشى هذا وقد علّم هكذا كثيرين، وخشي ذلك بعد كرازته وصيرورته ملاكًا وصار قائدًا للعالم كله، فماذا يمكننا نحن أن نقول؟ يقول: “لا تظنّوا أنكم لأنكم قد آمنتم هذا يكفي لخلاصكم. إن كان بالنسبة لي لا الكرازة والتعليم ولا كسب أشخاصٍ بلا عدد يكفي للخلاص ما لم أظهر سلوكًا غير معيب، فماذا بالنسبة لكم؟[84]
القديس يوحنا ذهبي الفم
- تتغنّى العروس” “غضبوا عليّ، جعلوني ناطورة الكروم، أما كرمي فلم أنطره” (نش6:1). طبق هذا على بولس أو على أي قديس آخر يهتم بخلاص كل البشر، فترون كيف أنه يحفظ كروم الآخرين بينما إن لم يحفظ كرمه، أية خسارة تلحق به وهو يربح الآخرين.
كيف؟ فمع كون بولس حرًا استعبد نفسه للكل لكي يربح الكل، إذ يصير ضعيفًا للضعفاء، ويهوديًا لليهود، وكمن تحت الناموس لمن هم تحن الناموس وهكذا في كلمة، يمكنه أن يقول: “أما كرمي فلم أنطره” (نش 6:1)[85].
العلامة أوريجينوس
- عندما تضعون طاقتكم وغيرتكم موضع العمل، فإن كل ما تفعلونه سواء من جهاد في الصلاة أو الصوم أو العطاء والتوزيع للفقراء أو العفو عمن يؤذيكم كما أعطانا الله من أجل المسيح؛ أو بضبط العادات الرديئة وتهذيب الجسد وإخضاعه [27]… هذا هو عمل السالكين الطريق المستقيم، الذين يرفعون “أعينهم نحو الرب، لأنه يخلص أقدامهم من الشبكة ” (مز 25: 2)[86].
القديس أغسطينوس
- صلوا بكل وسيلة حتى “بعدما كرزت للآخرين لا أصير أنا نفسي مرفوضًا” [27]. وعندما تفتخرون لا تفتخروا بي بل بالرب.
فإنني مهما حرصت على نظام بيتي فأنا إنسان وأعيش بين الناس.
لست أتظاهر بأن بيتي أفضل من فلك نوح الذي وُجد فيه ثمانية أشخاص بينهم شخص هالك (يافث تك 9: 27).
ولا أفضل من بيت ابراهيم فقد قيل: “أطرد هذه الجارية وابنها” (تك 9: 27).
ولا أفضل من بيت اسحق فقد قيل عن ابنيه: “أحببت يعقوب وأبغضت عيسو” (ملا 1: 2).
ولا أفضل من بيت يعقوب نفسه حيث وُجد فيه رأوبين الذي دنس مضطجع أبيه (تك 49: 4).
ولا أفضل من بيت داود الذي فيه أحد أبنائه سلك بغباوة مع أخته(2 صم 13: 4)، وآخر ثار ضد أبٍ كهذا مملوء حنوا مقدسًا.
ولست أفضل من أصدقاء بولس الرسول الذي ما كان يقول: “من الخارج ومن الداخل مخاوف” لو أنه كان لا يعيش إلا مع أناس صالحين، ولما قال عند حديثه عن قداسة تموثاوس واخلاصه: “لأنه ليس لي أحد آخر نظير نفسي يهتم بأحوالكم بإخلاص، إذ الجميع يطلبون ما هو لأنفسهم”…
كان مع الاثنى عشر الصالحين الذين مع يسوع يهوذا اللص والخائن.
وأخيرا لست أفضل من السماء فقد سقط منها ملائكة[87].
القديس أغسطينوس
- من يريد أن يكون معلمًا يلزمه أولاً أن يعلم نفسه. فكما أن من لم يصر جنديًا صالحًا لا يقدر أن يكون قائدًا، هكذا أيضًا بالنسبة للمعلم لذلك يقول: “حتى بعدما كرزت للآخرين لا أصير أنا نفسي مرفوضا”.[88]
القديس يوحنا الذهبي الفم
- لتكن نفوسنا هي الآمرة وأجسادنا الخاضعة، عندئذ يأتي المسيح حالا ويجعل مسكنه فينا[89].
القديس جيروم
- لكي نقمع الجسد نصوم ونتجنب كل أنواع الترف. يظهر بولس أنه يقمع جسده حتى لا يفقد المكافأة التي يكرز بها للآخرين[90].
أمبروسياستر
- بولس يؤدب ما هو له وليس ذاته، فإن ما يخصه( الجسد) شيء وذاته شيء آخر. أنه يؤدب ما له حتى إذ يصلحه يبلغ إماتة الشهوات الجسدية[91].
القديس أغسطينوس
- حررنا يا محب البشر من الخطر الذي يشير إليه بولس، أنه وهو يبشر للآخرين يصير هو نفسه باطلاً.
أنت بالحق تعرف من نحن.
أنت تعرف طبيعة العدو الذي يضغط علينا. ففي معركتنا غير المتكافئة وضعفنا وموتنا نطلبك، فإن لجلالك المجد متى عُلب الأسد الزائر بقطيع ضعيف[92].
كاسيودورس
لقد وضع الرسول في هذا الإصحاح المبادئ التالية:
- وهبه الله الحق أن تعوله الكنيسة إن أراد ذلك (7-10، 13).
- من العدل أن يأكل علي حساب الكنيسة (11).
- أنه مبدأ إلهي أن من يخدم الإنجيل فمن الإنجيل يأكل.
- اختار الرسول أن يعول نفسه بنفسه حتى لا يضر أحدا (12،15)
- الضرورة موضوعه عليه أن يكرز بالإنجيل (16).
- رفضه الجزاء الأرضي يكلله في السماء (17- 18)
- مبدأه في الحياة لا أن يحصل علي مال، بل أن يتمتع بخلاص النفوس مع بذل من جانبه (19–22)، مهما كلفه الثمن.
- انه في حالة مصارعة تنتهي بنوال إكليل سماوي لا يفنى (24-27)
في اختصار الإصحاح كله يدور حول “بذل الذات من أجل بنيان النفوس”.
من وحي 1 كو9
حررني بروح الحب الفائق
فاستعبد نفسي للكل لأربح الكثيرين!
- ألست أنا ابنًا لك؟
هب لي مجد حرية أبنائك،
حتى بالحب Hستعبد نفسي للكل،
فأربح لأبي السماوي الكثيرين.
- هب لي روح الجندية التي لا تعرف الخنوع.
هب لي روح الرعاية فاهتم بكل قطيعك.
هب لي روح الأمانة فأعمل في كرمك.
نعم يا أيها القائد، والراعي الصالح والأمين،
هب لي كابن لك أن أعمل بروحك،
وأسلك بما يليق بك وبي!
- لأعمل بروح الحب والحرية،
لا أطلب ما لنفسي بل ما لمجد اخوتي.
لأمت ولا يعطل أمر ما خدمتي لك ولهم!
مجدهم الأبدي هو مجدي وفخري.
حريتهم الحقة هي سلامي وفرحي.
- من يضعف ولا أضعف معه؟!
إن انحني أحد للناموس، سأنحني معه،
لكي بروحك أدخل به إلى ناموسك الروحي.
إن كان أحد بلا ناموس،
سأظهر له كمن هو بلا ناموس مع أن ناموسك هو حياتي،
فأنطلق به إلى ناموس الحرية والمجد.
بك أصير مع كل أحد كل شيء،
حتى أقتنيه لك، ويقتنيك له!
- هذا هو جهادي، وهذا هو صراعي،
فإني لن أكف عن أن أركض كل أيام غربتي،
حتى بالحب ينال الكل إكليلاً لا يفنى.
لن أعطي جسدي راحة حتى يتدرب على الجهاد.
فيستريح، ويتمجد مع نفسي في يوم لقائي معك!
[1] In 1 Corinth., hom. 21:2.
[2] PG 82:294.
[3] In 1 Corinth., hom. 21:2.
[4] CSEL 81:97.
[5] In 1 Corinth., hom. 21:1.
[6] In 1 Corinth., hom. 21:3.
[7] Stromata 3:53:3.
[8] In 1 Corinth., hom. 21:4.
[9] In 1 Corinth., hom. 21:4.
[10] In 1 Corinth., hom. 21:5.
[11] In Galat., hom., 6.
[12] The Work of Monks 7.
[13] In 1 Cor. Hom. 21:7.
[14] In 1 Thess., hom. 3.
[15] In 1 Cor. Hom. 22:1
[16] Institutions 10:8.
[17] In 1 Cor. Hom. 22:2.
[18] In 1 Cor. Hom. 22:2.
[19] In Philip., hom 15.
[20] On Lying 15:30.
[21] In Genesis, hom. 4:6.
[22] In 1 Tim., hom.1.
[23] In Ephes., hom. 11.
[24] In 1 Cor. PG 61:354.
[25] CSEL 81:102
[26] In 1 Cor. Hom. 22:3.
[27] In 1 Cor. Hom. 22L3.
[28] In Genesis, hom. 10.
[29] Commentary on 1 Cor. 3:43:1-5.
[30] Letters to Priests 47.
[31] CSEL 81:103.
[32] Letter 76.
[33] Our Lord’s Sermon on the Mount, 2:16.
[34] Sermon on the Amount 2:55.
[35] In 1 Cor. Hom. 22:4
[36] In 1 Cor. Hom. 22:4.
[37] Ep. 82:27.
[38] In 1 Cor. Hom. 22:5
[39] In 1 Cor. Hom. 22:5.
[40] In Titus, hom. 3.
[41] Letter to Jerome 82.
[42] Letter to Jerome 75.
[43] Sermon on the Amount 2:65.
[44] CSEL 81:103.
[45] In 1 Cor. Hom. 22:5.
[46] In 1 Cor. Hom. 22:5.
[47] On Lying 12.
[48] On Lying 21.
[49] Sermon on the Paralytic 10.
[50] Letters to Priests 54.
[51] CSEL 81:105.
[52] Commentary on 1 Cor. 3: 43:49-50.
[53] The Song of Songs, Comm., Book 1:4. (ACW)
[54] Ep.40:6.
[55] In 1 Cor. Hom. 22:6.
[56] Cassian: Conferences 12:10.
[57] In Gen PG 53: 76, 77>
[58] Beatitude, sermon 2. (ACW)
[59] On the Christian Mode of Life.
[60] Homilies (Frs of the Church), 13.
[61] To the Martyrs 3:3.
[62] Anachar iii,448.
[63] In 1 Cor. Hom. 23:1
[64] Letter 10:4.
[65] Six Days of Creation 6.
[66] Sermon 263 Fathers of Church 38:396.
[67] Institutions 5:12.
[68] In Gen PG 53:228; In Mat. PG 57:30.
[69] In Paralyt. PG 51:51..
[70]In Mat. PG 57: 303.
[71] To Simplician 10.
[72] In 1 Cor. Hom. 23:2.
[73] In 1 Cor. Hom. 23:2.
[74] CSEL 81:106
[75] Cassian: Conferences 7:21.
[76] Letters to Priests 49.
[77] Paradise 12:56.
[78] Against the Palagians1.
[79] Institutions 5:17.
[80] Pauline Commentary from the Greek Church.
[81] Sermon on the Amount 1:22:77.
[82] Sermon on the Amount 1:6:17.
[83] In 2 Thess. PG 62: 498.
راجع للمؤلف: القديس يوحنا الذهبي الفم ، 1980, 186- 188.
[84] In 1 Cor. Hom. 23:2.
[85] The Song of Songs, Hom. 1:7. (ACW)
[86] Ep. 48:1.
[87] Ep. 78:8.
[88] In 1 Tim., hom. 5.
[89] Homily 9 Fathers of Church 48:67.
[90] CSEL 81:106-107.
[91] Against Julian 24.
[92] Cassiodorus: Explanation of the Psalms, Prayer ACW 53:468-69.