تفسير كورنثوس الأولى 2 – الأصحاح الثاني – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير كورنثوس الأولى 2 - الأصحاح الثاني – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير كورنثوس الأولى 2 – الأصحاح الثاني – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير كورنثوس الأولى 2 – الأصحاح الثاني – القمص تادرس يعقوب ملطي
الإصحاح الثاني
سرّ الحكمة المكتومة
تحدث الرسول بولس في الاصحاح الأول عن موضوع وحدة الكنيسة، بدأ بالكشف عن المرض ثم تحدث عن المسيح الواحد، المصلوب من أجل الكل، وباسمه نلنا العماد، مقدمًا صليبه لنا كي نختبر قوة اللَّه وحكمة اللَّه, فيه يتمتع جميع المؤمنين بالحكمة والبر والقداسة والفداء. الآن يكشف الرسول عن عمل الروح القدس، روح المسيح الذي يوحدنا معه في حياتنا اليومية. إنه يهبنا معرفة الصليب، ويقدم لنا القوة لمواجهة الضيقات والاضطهادات والمخاوف. ويعطينا برهان الروح والقوة، وخبرة سرّ مجدنا الأبدي، ويعلن لنا عن أسرار اللَّه، ويمتعنا بالتمييز الروحي وفكر المسيح.
في هذا الاصحاح يوضح لهم الرسول بولس كيف بدأ معهم الخدمة. ذكَّرهم بمنهجه الإنجيلي الذي استخدمه، وقد حوى هذا المنهج ثلاثة جوانب:
الجانب السلبي: وهو عدم استخدامه سمو الكلام أو الحكمة البشرية.
الجانب الإيجابي: تتحقق الشهادة للَّه بإعلانٍ إلهيٍ.
النهاية: ركّز على شخص المسيح المصلوب حتى يتمتع المؤمنون بكنز الحكمة الحقيقية السماوية التي تفوق كل حكمة بشرية في هذا العالم، وبقوة اللَّه عِوض الانشغال بالحوارات العقلية الجافة. بالصليب يتجلى الرب فيهم ويتمجد في الكل.
يمثل الإصحاح رحلة النفس المؤمنة تحت قيادة الروح القدس الذي يعبر بها إلى فكر اللَّه قبل الدهور الخاص بخلاصنا، وينطلق بها إلى الأمجاد الأبدية الخاصة بمجدنا.
- الصليب وبرهان الروح 1-4
- قوة اللَّه والحكمة الكاملة 5-6.
- سرّ الحكمة المكتومة 7-8.
- سرّ المجد الأبدي 9-12.
- الإنسان الروحي 13-15.
- لنا فكر المسيح 16.
1- الصليب وبرهان الروح
“وأنا لما أتيت إليكم أيها الاخوة،
أتيت ليس بسمو الكلام أو الحكمة مناديًا لكم بشهادة اللَّه” [1].
يكمل الرسول بولس حديثه عن سرّ الوحدة الكنسية وارتباطها بالصليب أو بحكمة اللَّه التي يراها اليهود عثرة واليونانيون جهالة. الآن يؤكد الرسول انه لم يأتِ إليهم كخطيبٍ بليغٍ ولا كفيلسوفٍ ماهرٍ، ولم يُظهر حكمة بشرية بألفاظٍ براقةٍ. فقد تربى في مدرسة جديدة هي مدرسة الحكمة الإلهية المكتومة، بروح التواضع والمخافة الإلهية. حمله روح اللَّه إلى الأمجاد التي لا يُعبر عنها، ويكشف له الإلهيات الفائقة. رفعه من إنسان جسداني وطبيعي إلى إنسان روحي يحمل فكر المسيح.
يؤكد لهم أنه إذ جاء إليهم يكرز بالإنجيل لم يستخدم البلاغة وسمو الكلام مثل فلاسفتهم، إنما قدم لهم الحق الإلهي في بساطة. كأنه يقول لهم: “وأنا أيها الاخوة كجاهلٍ وضعيفٍ ومحتقرٍ استخدمني اللَّه لمجد اسمه. جئت أتحدث في بساطة لكي يكون حديثي متناغمًا مع خطة اللَّه الخلاصية”.
في طرسوس درس الرسول بولس كتابات الفلاسفة، وحسب أن الفكر الهيليني هيأ الطريق للخلاص لكنه فشل في تجديد العالم، حيث يحتاج الأمر إلى عمل إلهي.
تمتع الرسول بولس بالثقافة اليونانية (الهيلينية) التي اهتم بها بعض اليهود في طرسوس والإسكندرية، كما تمتع بالجنسية الرومانية بالميلاد التي حفظته من استخدام العنف معه وهو يكرز بين الأمم، ودرس الشريعة الموسوية والتقليد اليهودي في أورشليم. وتفاعل الثلاثة معًا في حياة الرسول بولس لخدمة الكرازة، لكن ما يشغل قلب الرسول بولس وفكره هو التمتع بخدمة الكرازة بالقوة الإلهية العاملة للخلاص خلال صليب رب المجد يسوع.
- لم يتهيأ أحد للمعركة مثل روح بولس، أو بالأحرى أقول ليس روحه (إذ لم يكن هو نفسه مخترع هذه الأمور)، بل لا يوجد ما يعادل النعمة العاملة فيه الغالبة لكل شيء[1].
القديس يوحنا الذهبي الفم
“شهادة اللَّه“: جاءت في بعض النسخ القديمة “سرّ اللَّه”. يُدعى الإنجيل “شهادة المسيح”؛ هنا يقصد الشهادة التي يحملها الإنجيل من نحو خطة اللَّه الخلاصية بالصليب لا بالبلاغة اللغوية.
- ما يدعوه بولس هنا شهادة هو اللَّه الكلمة المتجسد، المخفي عن كل الدهور مع اللَّه. يقوم الهراطقة بدور متهور ومتهاون في هذه الأمور. إنهم يكرزون بتعاليمهم الشريرة ببلاغة عظيمة، سالكين بحكمة العالم. إنهم ينزعون عن صليب المسيح قوته[2].
أمبروسياستر
“لأني لم اعزم أن أعرف شيئًا بينكم
إلا يسوع المسيح وإياه مصلوبًا” [2].
وجد الرسول بولس في صليب يسوع المسيح شبعه الداخلي، وأدرك أنه ينبوع الحكمة وكل سعادة. لهذا فإن موضوع كرازته هو أن يتعرف الكل على الصليب.
إنه لا يهدف إلى تقديم معرفة أخرى ولا إلى الكرازة بأمرٍ آخر، أو اكتشاف أسرارٍ أخرى، فقد أُبتلع كل قلبه وفكره وأحاسيسه بشخص المسيح المصلوب. فالمسيح هو جوهر الكرازة، وصليبه هو العَلَمْ الذي يدعو الكل ليحتموا تحت ظله. هكذا بروح اللَّه القدوس دخل سرّ الحكمة الأزلية، فعرف سرّ الصليب الذي كان في خطة اللَّه حتى قبل السقوط، وانطلق به إلى الأبدية ليرى الأمجاد التي أعدها المصلوب لمؤمنيه.
- إنه الكلمة المتجسد الذي تمم سرّ خلاصنا. هو الذي حررنا وخلصنا. إننا نؤمن به ذاك الذي هو مخلصنا بالصليب وبقيامته[3].
ماريوس فيكتوريانوس
- أتيت إليكم لا ببلاغة وحكمة، ولا نطقت بشيء سوي أن “المسيح قد صُلب”[4].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- ينطق بولس بهذا لأنه يتحدث عن أولئك العاجزين عن أن يبصروا التعاليم السامية جدًا عن لاهوت المسيح[5].
القديس أغسطينوس
“وأنا كنت عندكم في ضعفٍ وخوفٍ ورعدةٍ كثيرةٍ” [3].
لعل ضعف الرسول وخوفه ورعدته كان بسبب شعوره في البداية بمقاومة البعض له وفشله في الخدمة. “فقال الرب لبولس في رؤيا في اللَّه: لا تخف بل تكلم ولا تسكت لأني أنا معك، ولا يقع بك أحد ليؤذيك، لأن لي شعبًا كثيرًا في هذه المدينة” (أع 18: 9-10). هكذا يقدم لنا الرسول صورة حية للخادم الذي يدرك ضعفه وعجزه وخوفه ورعدته، فيقبل عمل روح اللَّه القدوس الذي يهبه قوة ويسنده فينجح بالنعمة الإلهية.
- هذا أيضًا موضوع آخر، وهو أن المؤمنين ليسوا فقط غير متعلمين ولا أن المتحدث غير متعلم… ولكن مع هذا الأمور توجد أيضا مقاومة أخرى ومخاطر وخطط ومخاوف يومية لكي تصطاده. فإن كلمة “ضعف” بالنسبة له في مواضع كثيرة يقصد بها الاضطهادات. “ضعفي الذي في جسدي لم يزدروا به” (غلا 4: 14). “إن كان يجب الافتخار فسأفتخر بأمور ضعفي” (2 كو 11: 30)…
بالحق أنه بسبب إحساسه بالتصميم حتى وهو خائف من الموت والضرب لم يخطئ بسبب الخوف. لذلك فإن الذين يدعون بأن بولس لم يكن خائفًا من الضرب ليس فقط لا يكرمونه بل وينزعون عظمته. فإن كان بلا خوف فأي احتمال أو ضبط للنفس كان له عندما احتمل المخاطر؟…
من جانبي إني أعجب به من هذا الجانب، فإنه وهو في خوفٍ، وليس في خوفٍ بل وفي رعبٍ وسط مخاطره يجري هكذا لكي يحفظ إكليله ولا يستسلم بسبب أي مخاطرٍ، وذلك للعمل في العالم، في كل موضعٍ، سواء بالبحر أو الأرض غارسًا الإنجيل…
بماذا تقول، هل يخاف بولس من المخاطر؟ كان يخاف ويرتعب منها جدًا، فمع كونه بولس إلا أنه إنسان. لكن هذا ليس اتهام ضد بولس بل هو ضعف الطبيعة البشرية[6].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- بالكرازة بالمسيح ظهر بولس كغبي للحكمة البشرية وبهذا أثار ضده الكراهية والاضطهاد[7].
أمبروسياستر
ولعله يقصد أنه كان في خوف ورعدة ليس من الناس، ولكن من أجل الناس، فكان قلبه يحترق مع كل متعثرٍ، ويضعف مع كل ضعيفٍ. هذا ما اختبره أهل كورنثوس أثناء حضرة الرسول بولس التي استمرت على الأقل سنة ونصف (أع 18: 11).
اتسم الرسول بولس بروح التواضع والوداعة، خاصة عند الكرازة حتى اتهمه بعض الكورنثوسيين بالضعف: “الرسائل ثقيلة وقوية وأما حضور الجسد فضعيف والكلام حقير” (2 كو 10:10). يبدو أن صوت الرسول كان خافتًا، وجسمه قليلاً، وملامحه غير جذابة، هذا بجانب عدم استخدامه للبلاغة أو الفلسفة. ومع هذا كانت الوثنية تتحطم أمامه، والقلوب تلتهب بحب السماء. فكان اللَّه مُعلنًا في عمله، وأما إمكانياته البشرية فلا تشغل المستمعون إليه. بضعفه وخوفه ورعدته تجلى مسيحنا المصلوب الحامل ضعفنا ليعلن قوته، إذ “اختار اللَّه ضعفاء العالم يخزى الأقوياء” (1 كو 1: 27).
“وكلامي وكرازتي لم يكونا بكلام الحكمة الإنسانية المقنع،
بل ببرهان الروح والقوة” [4].
كانت كلمات الرسول بولس ممسوحة بالروح تجتذب القلوب، وفى نفس الوقت تحمل قوة. هذا ما نلمسه من الرجل الأعرج في لستره: “هذا كان يسمع بولس يتكلم فشخص إليه” (أع 14: 9) وإذ شفاه “فالجموع لما رأوا ما فعل بولس رفعوا صوتهم بلغة ليكأونية قائلين إن الآلهة تشبهوا بالناس ونزلوا إلينا، فكانوا يدعون برنابا زفس وبولس هرمس إذ كان هو متقدم في الكلام” (أٍع 14: 11،12). تأثر الكل بروح القوة، فأراد كاهن زفس أن يذبح له حتى مزق الرسولان ثيابهما وبالجهد منعا الجماهير من أن يذبحوا لهما.
قدم الرسول بولس الكرازة بالسيد المسيح المصلوب القائم من الأموات ليس في ثوبٍ فسلفيٍ براق، وإنما في بساطة اللغة والكشف عن الحقائق الإلهية والتدبير السماوي، كما سلمه له الروح القدس القادر أن يخترق قلوب الناس ويعمل فيها لقبول الكلمة. بهذا استطاع أن يقول: “إن إنجيلنا لم يصر لكم بالكلام فقط بل بالقوة أيضًا وبالروح القدس، وبيقينٍ شديدٍ كما تعرفون أي رجالٍ كنا بينكم من أجلكم” (1تس1:5).
“كلامي وكرازتي“، لعله يقصد بالكلام التعاليم التي نادى بها والأفكار الإيمانية الخاصة بإنجيل الحق، أما الكرازة فتحمل معنى الشهادة لهذا الإيمان ليس بالكلام فحسب وإنما بالعمل والسلوك. هذا ما أعلنه الروح القدس بقوةٍ خلال تجديد النفوس والقلوب، فتمتع المؤمنون بالقداسة والطهارة والحب، الأمور التي تعجز فلسفات العالم أن تحققها.
ولعله قصد بالكلام الأحاديث الخاصة في اللقاءات الفردية أو العائلية، وبالكرازة الأحاديث العامة.
- القول بأن الإنجيل يُكرز به بدون حكمة لا يُقلل من شأنه، بل هذه هي عظمة الإنجيل الكبرى، والآية الأكثر جلاء بأنه إلهي ومن السماء. فالبرهان بالحكمة الخاصة بالكلمات البشرية أضعف، بالحوار بأن له مهارات بلاغية عظمى… البرهان بالأعمال والآيات أكثر قوة منه بالكلمات…
إذ يرى أنه توجد عجائب خادعة، كتلك التي يفعلها العرافون فإنه ينزع هذا التشكك أيضًا. إذ لم يقل فقط “القوة” بل يقول أولا “برهان الروح” ثم “والقوة، فيعني أن الأمور التي صنعت روحية. فإنه ليس الأمر فيه احتقار أن الإنجيل لم يُعلن بواسطة الحكمة، بل بالأحرى هذا زينة عظمي للغاية. فإنه إذ يحدث هذا فهو علامة واضحة علي أنه إلهي، تمتد جذوره في الأعالي، وأنها من السماء. لذلك يضيف أيضًا: “لكي لا يكون إيمانكم بحكمة الناس بل بقوة اللَّه” [5]. فإن الدليل بالأعمال والآيات أعظم من الكلمات[8].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- لو أن الأسفار المقدسة اجتذبت الناس للإيمان لأنها مكتوبة بفن البلاغة ومهارة فلسفية لكان إيماننا قائمًا بلاشك على فن الكلمات والحكمة البشرية أكثر منه على قوة اللَّه[9].
العلامة أوريجينوس
2- قوة اللَّه والحكمة الكاملة
“لكي لا يكون إيمانكم بحكمة الناس،
بل بقوة اللَّه” [5].
يبدأ الرسول حديثه هنا بتأكيد أن الحكمة التي اتسم بها حقيقية وفعالة، حتى أن العالم رفضها، مقدما مثالاً عمليًا لذلك, فقد ذكرهم بمجيئه إليهم في ضعفٍ ورعدةٍ ولم يستخدم أسلوب الفلاسفة، مع ذلك جذب الروح القدس كثيرين إلى الحق الإنجيلي, نجاح الرسول في كورنثوس برهان قوي علي إمكانية الحكمة الإلهية في العمل في حياة الناس.
يؤكد الرسول أن إيمانهم يقوم علي استنارة نفوسهم وتمتعهم باللقاء مع اللَّه، ليس فيه شيء بشري. فالمسيحي الحقيقي يحمل شهادة لقوة الإنجيل وحكمته في أعماقه، خلال خبرته وتجديد طبيعته، الأمر الذي لن يقدر كائن ما أن يفعله سوى اللَّه نفسه. يشهد المؤمن أن رجاءه وأفراحه وسلامه وتقديسه واشتياقه للعبادة وتمتعه بأسرار الكتاب المقدس وحبه للَّه والناس والتهاب قلبه بالسماويات وشركته مع الملائكة هذه كلها تتحقق بقوة اللَّه العامل فيه.
- الحكمة البشرية تجحد الصليب، أما الإيمان فيُعلن قوة اللَّه. الحكمة لم تفشل في إعلان الأمور التي يبحث عنها البشر ولكنها أيضًا تشجعهم على التشامخ من أجل ما بلغوه. أما الإيمان فليس فقط يقدم لهم الحق، وإنما يشجعهم أيضًا على تمجيد اللَّه[10].
القديس يوحنا الذهبي الفم
“لكننا نتكلم بحكمة بين الكاملين،
ولكن بحكمة ليست من هذا الدهر،
ولا من عظماء هذا الدهر الذين يبطلون” [6].
يرى البعض إن الرسول بولس وهو يتحدث عن الحكمة في ذهنه أربعة أنواع:
حكمة الأمم، أو الفلسفة اليونانية، وتدعى في العبرية yewaniyt أوchokmaah، يرذلها اليهود، ويحسبون من يلتصق بها تحل عليه اللعنة، ومن يعلم ابنه الحكمة اليونانية يسقط تحت اللعنة[11].
حكمة اليهود الخاصة بالكتبة والفريسيين الذين ظنوا في صلب المسيح تحقيقًا للحكمة (1 كو 2:8).
حكمة هذا الدهر بالعبرية aioonos وباليونانية toutou، وهى الحكمة التي استقاها اليهود من كتابات معلميهم، خاصة بالحياة الزمنية، يميزونها عن حكمة الدهر الآتي، أي الخاصة بأيام المسيا. فحكمة هذا الدهر تنطبق إما على حال الأمم المنهمكين في فلسفات نظرية أو حالة اليهود الذين فسروا كلمة اللَّه بطريقة حرفية أفسدت المفاهيم الروحية السماوية.
حكمة الإنجيل: وهى تمس خلاصنا ومجدنا الأبدي.
لم يأتِ الرسول بولس إليهم بسمو الحكمة البشرية سواء حكمة الأمم أو حكمة اليهود أو حكمة هذا الدهر، بل فتح لهم كنوز الحكمة العلوية الحقيقية التي هي حكمة الإنجيل، التي يدركها الكاملون، هؤلاء الذين صاروا ناضجين في معرفة اللَّه والذين استناروا بروح اللَّه القدوس. لقد صاروا حكماء وكاملين بالحق الذي تمتعوا به.
فيقصد بالحكمة هنا ليس فقط التعرف على خطة اللَّه الخلاصية بل والتمتع بها، أي المعرفة الإختبارية الحية. هذه التي يختبرها الكاملون الذين يسعون نحو الأبدية. وكما يقول الرسول بولس عن المجاهدين الذين يسعون نحو جعالة دعوة اللَّه العليا في المسيح يسوع: “فليفتكر هذا جميع الكاملين منا، وإن افتكرتم شيئا بخلافه فاللَّه سيعلن لكم هذا أيضًا” (في 3: 15).
الحكمة التي يقدمها الرسول مختلفة تمامًا عن حكمة عظماء هذا الدهر، فهي ليست حكمة سياسية ولا حكمة الفلاسفة ولا حكمة الحرفيين في دراستهم للشريعة، بل حكمة سماوية خفية مكتومة، تُقدم للراغبين في الحياة المقدسة في الرب، لا لطالبي المجد الزمني.
عظماء هذا الدهر لا يريدون التفكير في حقيقة حالهم، انهم أشبه بالخاطئ الذي لا يرغب في الانشغال بما وراء الزمن. انهم يرفضون حكمة اللَّه التي تقودهم إلى الرجاء في المجد الأبدي.
بقوله “يبطلون” يشير الرسول إلي فاعلية الحكمة الباطلة، فإن خططها حتمًا تبطل وتنتهي. ومن يتمسك بالباطل يصير هو نفسه باطلاً، حيث تنتهي حياته وأمجاده عند القبر ولا يتمتع بالمجد الأبدي بل يسقط تحت دينونة مهلكة.
- الاسم الذي أعطاه للإنجيل هو “حكمة” بكونه وسيلة الخلاص، الذي يتحقق بالصليب.
“الكاملون” هم “الذين يؤمنون”. إذ هم بالحقيقة كاملون، هؤلاء الذين يعرفون أن كل الأمور البشرية عاجزة تمامًا، متطلعين إليها وهم مقتنعون بأن مثل هذه لن تنفع شيئًا،هكذا هم المؤمنون الحقيقيون…
بقوله “عظماء الدهر” هنا يعني الفلاسفة وأصحاب البلاغة. هذه النوعية متسلطة، غالبًا ما يصيروا قادة الشعب. يدعوهم “عظماء الدهر” لأن سلطانهم لن يمتد بعد العالم الحاضر[12].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- عندما يتحدث بولس عن حكمة عظماء هذا الدهر يبدو أنه كان يتحدث لا عن حكمة واحدة مشتركة بينهم، بل عن أنواعٍ مختلفة من الحكمة خاصة بكل واحدٍ منهم[13].
العلامة أوريجينوس
- الكاملون هم الذين يكرزون بالصليب بكونه الحكمة، إذ يشهدون عن قوة اللَّه العاملة. إنهم يعرفون أن الأعمال تنطق بصوتٍ عالٍ أعظم من الكلمات. حكمتهم ليس من هذا الدهر بل من الدهر الآتي، حينما يُعلن حق اللَّه للذين ينكرونه الآن[14].
أمبروسياستر
3- سرّ الحكمة المكتومة
“بل نتكلم بحكمة اللَّه في سرّ،
الحكمة المكتومة التي سبق اللَّه فعينها قبل الدهور لمجدنا” [7].
لا يفتخر المؤمن بالجهل، ولا يحسب الجهالة فضيلة، لكنه وهو يتطلع إلى جمال حكمة اللَّه العجيبة ويتذوق عمله الخلاصي، تشبع نفسه فتدوس عسل العالم. يختبر الحكمة الأبدية فلا ينشغل بالحكمة الزمنية. حكمة اللَّه لا تُقارن بحكمة العالم، فاللَّه في حبه وبحكمته يشرق بنوره علينا، فندرك إننا مرضى نحتاج إلى الطبيب السماوي، ونعانى من تفليسة تحتاج إلي واهب الغنى. حكمة اللَّه لا تقوم على التغطية لكنها وهى تكشف الضعف تهب قوة، وهى تعلن حالة الموت تقدم لنا قوة القيامة. أما الحكمة البشرية فكثيرًا ما تقوم علي التغطية للمواقف دون إمكانية تقديم الحلول الإيجابية القوية.
مصدر الحكمة التي قدمها الرسول هو اللَّه نفسه، التي ترجع إلى ما قبل الدهور حيث تدبير اللَّه الأزلي لخلاصنا، وتمتد إلى ما بعد الدهور حيث تدخل بنا إلى شركة المجد السماوي.
حكمة اللَّه تعمل لتقيم من الإنسان قديسًا ممجدًا. تعمل في حياته الزمنية لكي تحمله إلي ما فوق الزمن، فيحيا في هذا العالم محتميًا بقوة اللَّه وفى العالم الآتي متهللاً بالمجد الفائق.
لم يقل الرسول: “بل تكلم في جهل” بل “تكلم بحكمة اللَّه” فالرسول وهو يتحدث عن عدم اتكاله على الحكمة البشرية يعلن التزام المؤمنين خاصة الخدام أن يتسلموا حكمة اللَّه، وهي أعظم وأقوى وأكثر جاذبية من كل حكمة بشرية.
لم يقل الرسل إن كرازتهم كانت سرية ولا أن تعليمهم لا يُدرك بالعقل، إنما يشير إلى حقيقة هذه الحكمة إنها كانت “مخفية في سرّ” عن البشرية حتى جاء الزمان اللائق لإعلانها بالإنجيل، وهى حكمة تفوق الإدراك البشري لكنها لا تناقضه.
بقوله “لمجدنا” يشير إلى المجد الذي يناله المؤمن حيث يتمتع بالبنوة للَّه وسكنى الروح القدس فيه كعربون للمجد الأبدي الُمعد لنا في السماء (2 كو 4: 17).
- بالحكمة يقصد بولس الصليب وكل تدبير الخلاص[15].
ثيؤدور أسقف المصيصة
- كيف يدعوها (الحكمة) سرًا؟ لأنه ليس ملاك ولا رئيس ملائكة ولا أية قوة أخري عرفها قبل تحقيقها عمليًا. لهذا يقول: “لكي يعرف الآن عند الرؤساء والسلاطين في السماويات بواسطة الكنيسة بحكمة اللَّه المتنوعة” (أف 3: 10)…
مع أن غير المؤمنين يسمعون إلا أنه يبدو كأنهم غير سامعين، أما المؤمنون فإذ لهم المهارة بواسطة الروح القدس، يحملون معني الأمور المخزنة فيها. هذا عينه ما يعنيه بولس عندما قال أنه حتى الآن الكلمة التي يكرز بها سرّ، تشير الكلمة أيضًا إلي أن الإنجيل يضاد كل ما هو متوقع. لا يود الكتاب المقدس أن يدعو ما يحدث فوق كل رجاء وفوق كل فكر البشر غير هذا الاسم: “سرّ”…
لذلك فإن ما هو فوق كل الأشياء سرّ، يُكرز به في كل مكان، لكنه لا يعرفه الذين ليس لهم فكر سليم، ولا يُعلن خلال الحكمة بل بواسطة الروح القدس، وإذ يصعب جدًا قبوله دعي سرّا، بمعني انه ليس أحد من القوات العليا يتعلم هذا قبلاً منا، وليس كثيرون الآن يعرفونه.
- يعتبر خلاصنا مجده، كما يدعوه غناه (أف 3:8)، مع أنه بذاته غني في الصلاح ولا يحتاج إلي شيء ليصير غنيًا.
يقول “سبق فعينها” [7]، مشيرًا إلى العناية الخاصة بنا… فانه لو لم يحبنا لما سبق أن عين لنا غنانا[16].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- يشهد بولس أنه مُرسل ليُعلن عن حكمة خفية لم يعرفها عظماء هذا العالم، ولذلك يُنعتون بُالغباء. حكمة اللَّه مخفية لأنها ليست في كلمات بل في قوة. يستحيل إبرازها بتعبيرات بشرية، وإنما يُعتقد بها بقوة الروح. سبق اللَّه فرأى خطايا العالم المقبلة ولذلك شرع هذه الحكمة بطريقة مربكة للذين يريدون يحولون حكمته إلى غباوتهم، وأيضًا لكي يمجدنا نحن الذين نؤمن به[17].
أمبروسياستر
- لا يقصد بولس أنه يتحدث الآن في أسرار وغومض، وإنما الرسالة التي يكرز بها كانت قبلاً مخفية[18].
- كان السرّ مخفيًا، لكنه كان معدًا قبل العالم[19].
ثيؤدورت أسقف قورش
“التي لم يعلمها أحد من عظماء هذا الدهر،
لأن لو عرفوا لما صلبوا رب المجد” [8].
إن كان الرسول قد تمتع بالحكمة السماوية ليقدمها للمؤمنين، فإن عظماء هذا الدهر من الرومانيين واليهود واليونانيين يجهلونها. ولعله قصد هنا الوالي الروماني والقادة المدنيين وقادة اليهود من رئيس الكهنة والكتبة والفريسيين والناموسيين الخ. هؤلاء هم عظماء هذا الدهر الذين لو عرفوا الحكمة الإلهية وأدركوا شخص المسيا لما صلبوا رب المجد. لم يعرفوا الحق فأصابهم العمى وسلكوا في جهالة.
يرى البعض أن هذا ينطبق على هيرودس وبيلاطس لكن لا ينطبق بنفس الطريقة على رئيسي الكهنة والكتبة، إذ عرفوا يسوع أنه المسيح. إنهم مثل العاملين في الكرم القائلين: “هذا هو الوارث، هلمّ نقتله، فيصير لنا الكرم” (مت 38:21). ويرى آخرون أن قادة اليهود لم يدركوا حقيقة شخص المسيح ولا حكمة خطته ولا فهموا رسالته، فأُغلقت أعينهم عن فهم نبوات العهد القديم، ورفضوا شخص يسوع، ولم يقبلوه أنه هو المسيا، لذا صلبوه في جهلٍ. لقد كان كل ما يشغلهم هو الخلاص من الأعداء الظاهرين والتمتع بالمجد الزمني. كانوا يطلبون مسيحًا حسب فكرهم البشري الطبيعي.
صلبوا “رب المجد” أو “ملك المجد” الذي انشد له السمائيون في مزمور 24: 7-9 يطلبون من الأبواب الدهرية أن ترتفع لكي يدخل إلى عرشه. هذا اللقب: “رب المجد” الذي دعي به السيد المسيح خاص بيهوه (أع 7: 2).
- بخصوص الكلمات: “لو عرفوا” يبدو لي إنها قيلت هنا ليست بخصوص شخص المسيح، وإنما فقط بخصوص التدبير المخفي وراء هذا الحدث. وكأنه يقول، لم يعرفوا ما يعنيه “الموت” و”الصليب”… إذ لم يعرفوا أن الصليب يشرق هكذا ببهاء، وأنه يحقق خلاص العالم، والمصالحة بين اللَّه والناس، وأن مدينتهم تؤخذ منهم، وانهم يصيرون في أبأس حال.
بقوله “الحكمة” يقصد كلاً من المسيح والصليب والإنجيل… فإذ يري (الرسول) أن الصليب الذي حُسب موضوع عارٍ كان مجدًا عظيمًا. ولكن كانت هناك حاجة إلي حكمة عظيمة لا ليعرفوا اللَّه فقط بل ويدركوا أيضًا هذه الخطة الإلهية[20].
- ماذا إذن؟ هل غفرت خطيتهم بخصوص الصليب؟ بالفعل تم ذلك، إذ قال: “اغفر لهم” (يو 23: 34).
إن تابوا تُغفر لهم. فإنه حتى ذاك الذي وجه ضربات بلا حصر ضد اسطفانوس واضطهد الكنيسة، بولس نفسه صار قائدًا للكنيسة[21].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- ظن اليهود أنه يُمكن أن يُغلب فسخروا به وعلقوه علي الشجرة قائلين: “إن كان ابن اللَّه فلينزل عن الصليب ونحن نؤمن به” (مت 27:42). رأوا جانبًا منه، ولم يعرفوا الجانب الآخر. “لأن لو عرفوا لما صلبوا رب المجد“[22].
- ما هو ظاهر فيه أُحتقر، وما هو مخفي فيه لم يُعرف، “لأن لو عرفوا لما صلبوا رب المجد“[23].
القديس أغسطينوس
- غفر اللَّه لبيلاطس وهيرودس وقيافا والبقية من أجل جهلهم أثناء الصلب، ولكن بعد أن قام المسيح وصعد إلى السماء وحلّ الروح القدس وصنع الرسل عجائب سلّمهم للعقوبة، إذ قاوموا في عدم إيمان[24].
ثيؤدورت أسقف قورش
- عظماء هذا الدهر ليسوا هم العظماء بين اليهود الرومانيين بل كل قوة روحية تقيم نفسها ضد اللَّه.
لا يمكن لعظماء اليهود أن يُحسبوا عظماء هذا الدهر لأنهم كانوا خاضعين للرومان. ولم يصلب الرومان يسوع، لأن بيلاطس نفسه قال أنه لم يجد عليه علة.
العظماء الذين صلبوه هم الشياطين. لقد عرفوا أن يسوع هو المسيا، لكن لم يعرفوا أنه ابن اللَّه، ولذلك يمكن القول أنهم صلبوه في جهل[25].
أمبروسياستر
- ولكن لو لم يحكم على المسيح بالموت، لما مات الموت. لقد انهزم الشيطان بنصرته ذاتها، إذ فرح عندما أغوى الإنسان الأول، وطرده إلى الموت. بإغوائه الإنسان الأول قتل نفسه (تك 1:3-19). وبقتله الإنسان الأخير فلت الأول من شباكه[26].
القديس أغسطينوس
أما عن نسبة الصلب لرب المجد، فالكتاب المقدس استخدم تبادل الألقاب بين لاهوت السيد المسيح وناسوته Communicato idiomatum، فتُنسب كل أعمال وكلمات السيد للأقنوم الواحد، كلمة اللَّه المتجسد.
- إذ أخذ نفسًا وجسد إنسان لم تحدث إضافة إلى عدد الأقانيم، إذ بقي الثالوث كما هو قبلاً. وذلك كما أنه في كل إنسان فيما عدا ذاك الذي وحده أخذ اتحادُا اقنوميًا فإن النفس والجسد يمثلان شخصًا واحدًا، هكذا في المسيح الكلمة ونفسه البشرية وجسده يمثلون شخصًا واحدًا. وكما أن اسم “الفيلسوف” كمثال يُعطي لإنسان بالتأكيد بخصوص نفسه وحدها، إلا أنه لا يُحسب سخافة، بل هو أمر عادي ولائق في اللغة، أن نقول بأن الفيلسوف قتل، الفيلسوف مات، الفيلسوف دفن، مع أن هذه الأحداث جميعها تسقط علي جسده وليس علي العنصر الخاص به كفيلسوف, هكذا بنفس الطريقة اسم اللَّه أو ابن اللَّه أو رب المجد، أو أي اسم آخر يعطي للمسيح بكونه الكلمة، ومع هذا فإنه من الصواب القول بان اللَّه صُلب، إذ لا مجال للتساؤل في انه احتمل هذا الموت في طبيعته البشرية وليس في تلك التي بها هو رب المجد[27].
القديس أغسطينوس
- والكلمة صار جسدًا. هنا بولس العجيب للغاية إذ يحث الذين يستمعون إليه علي التواضع يتحدث عن يسوع المسيح الذي وهو صورة اللَّه أخلى ذاته ليحمل شكل عبد، وتواضع حتى الموت، موت الصليب. مرة أخري في عبارة أخرى يدعو المصلوب “رب المجد“. “لأن لو عرفوا لما صلبوا رب المجد“. حقا إنه يتحدث بأكثر صراحة من هذا عن ذات الطبيعة الجوهرية بواسطة اسم “الرب” إذ يقول “الآن الرب هو الروح” (2 كو 3: 17). إذن فالكلمة الذي كان في البدء، وهو الروح، هو الرب، ورب المجد[28].
- النفخات الخاصة بالعبد الذي فيه تُنسب للرب، والكرامات الخاصة بالرب أحاطت بالعبد، حتى انه خلال الالتصاق والاتحاد بين الطبائع تجعل سمات الواحدة تنسب للأخرى. لقد قبل الرب جلدات العبد، بينما تمجد العبد بكرامة الرب. لهذا قيل عن الصليب انه “صليب رب المجد”، ولهذا يعترف كل لسان إن يسوع هو الرب لمجد اللَّه الآب[29].
- تمجدت الطبيعة البشرية إذ أخذها له، ولم تفسد الطبيعة الإلهية بتنازله، بل جعلت العنصر البشري يخضع للآلام بينما بقوته الإلهية تتحقق قيامة المتألم. هكذا لا ينسب إلى اللاهوت خبرة الموت ذاك الذي صارت له شركة في طبيعتنا الممكنة باتحاده بالناسوت، بينما في نفس الوقت الأسماء المجيدة الإلهية تُنسب للإنسان، حتى أن ذاك الذي ظهر علي الصليب يُدعي “رب المجد” حيث تُنقل الأسماء المجيدة من اللاهوت إلى الناسوت خلال اتحاد طبيعتهما بالطبيعة الأقل[30].
القديس غريغوريوس أسقف نيصص
4- سرّ المجد الأبدي
“بل كما هو مكتوب ما لم ترَ عين،
ولم تسمع أذن،
ولم يخطر على بال إنسان
ما أعده اللَّه للذين يحبونه” [9].
الحياة الأبدية وأمجادها وخلودها أمور أعلنها الإنجيل (2 تي 1: 10)، هذه التي لا تستطيع الحواس أن تتلمسها ولا اللغة البشرية بكل بلاغتها أن تتحدث عنها، ولا الفكر البشرى أن يتخيلها. إنها فوق كل حكمة أو إمكانية بشرية.
- ما يناله أولئك السالكون في الحياة الصالحة من أمور صالحة مذكورة في الأناجيل لا يمكن وصفها بدقةٍ. إذ كيف يمكن ذلك للأشياء التي لم ترها عين ولم تسمع بها أذن ولم تخطر علي قلب إنسان؟[31]
القديس غريغوريوس أسقف نيصص
- أسألكم حبوا اللَّه محبة صادقة، ليس خوفا من جهنم بل رغبة في الملكوت، وبالأكثر من أجل الأمور المقبلة عندما “يطأ أعداءه تحت قدميه” (1 كو 15: 25). فلا يوجد بعد مقاوم. عندما يرى الأبرار الأمور المباركة التي لم ترها عين ولم تسمع بها أذن ولم تخطر علي قلب إنسانٍ[32].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- رجاؤنا أيها الاخوة ليس في الأمور الحاضرة ولا في هذا العالم، ولا في السعادة التي أعمت الناس فنسوا اللَّه… فلم نصر مسيحيين من أجل بركات الزمان الحاضر. وإنما من أجل ما وعد به اللَّه، ولم ندركه بعد. فقد قيل عن هذا الصلاح “ما لم تره عين…[33].
- عطاياه عظيمة للغاية، لكننا ننال ما هو أقل، لأن إمكانياتنا ضيقة في قبولها. لذلك قيل لنا: “كونوا أنتم أيضا متسعين، لا تكونوا تحت نيرٍ مع غير المؤمنين” (2 تي 6: 13، 14). فإنه بالنسبة لبساطة إيماننا وثبات رجائنا واتقاد رغبتنا، بأكثر اتساع نتقبل ما يُقدم لنا بفيض عظيم هذا الذي “لم تره عين“، لأنه ليس له لون، ولم تسمع به أذن، إذ ليس لها صوت، ولم يصعد إلي قلب إنسان بل قلب الإنسان يصعد إليه[34].
- سنرى اللَّه، سنحيا ونكون في آمان وسلام، فلا نعاني من جوعٍ وعطشٍ، ولا نسقط في قلقٍ، ولا يضغط علينا نوم. كل هذه ماذا تكون بالنسبة للسعادة برؤية اللَّه؟ فإن اللَّه لا يُمكن أن يعلن عنه الآن كما هو، لكننا سنراه.
الصلاح الذي سنراه “ما لم تره عين وما لم تسمع به أذن” هو الرحوم الذي ستعاينه. هذا ما سيراه المؤمنون، سيراه أولئك الذين ينعمون بالنصيب الصالح في قيامة الجسد، إذ كانت لهم الطاعة في قيامة القلب[35].
القديس أغسطينوس
- يُعلن لنا الكتاب المقدس أن الخيرات المقبلة لا يمكن إدراكها وليس لها شبيه هنا[36].
مار اسحق السرياني
- من هذا يمكننا أن ننال فكرة عن مدى عظمة السمو والجمال والبهاء التي للجسد الروحي.
لا يظن أحد أن اللَّه يتحيز فيُعلن السرّ للبعض ويسمح للآخرين أن يهلكوا في الجهالة. بالأحرى يلزم معرفة أنه هذا سابق معرفة تتحقق بقوته (الإلهية). لقد أعد اللَّه الأمور اللائقة لكل شخص حسب استحقاقاته، إذ سبق فعرف ما سيختاره كل أحد قبل أن يحدث[37].
سيفريان أسقف جبالة
“فأعلنه اللَّه لنا نحن بروحه،
لأن الروح يفحص كل شيء حتى أعماق اللَّه” [10].
أعلن اللَّه عن حكمته بالإنجيل، فأعدنا للتمتع بالمجد الأبدي والسعادة السماوية. يعلن أسراره المفرحة وأعماله المجيدة لمؤمنيه الذين ينتظرونه. وكما قيل: “لم ترَ عين إلهًا غيرك يصنع لمن ينتظره” (إش 34: 4)، “ويقال في ذلك اليوم: “هوذا إلهنا انتظرناه فخلصنا. هذا هو الرب انتظرناه؟ نبتهج ونفرح بخلاصه” (إش 25: 9).
يعلن اللَّه عن حكمته بروحه القدوس، الروح الذي أعلن كلمة اللَّه فتمتعنا بالكتاب المقدس، إذ تحدث رجال اللَّه قديمًا مسوقين بالروح القدس (2 بط 1: 21). وتحدث الرسل في العهد الجديد بذات الروح القدس. هذا الروح الذي ليس كروح الإنسان المحدود الذي يعرف أعماق الإنسان، بل الروح الإلهي الذي يعرف أعماق اللَّه. معرفته غير محدودة، يكشف الأسرار الإلهية الخفية. الروح القدس هذا الذي أعلن الخطوط العريضة للحق السماوي خلال الأنبياء قدم الحق كاملاً خلال الرسل والإنجيليين.
- لا يحتاج الروح القدس إلى تعليم بالكلام، فبكونه اللَّه يقول الرسول انه “يفحص كل شيء حتى أعماق اللَّه”[38].
القديس غريغوريوس أسقف نيصص
- الذين لهم الروح يطلبون أعماق اللَّه، أي الأسرار الخفية التي تحول بالنبوة[39].
القديس إكليمنضس السكندري
- الروح وحده يقدر أن يفحص كل شيء تعجز النفس البشرية عنه. هذا هو السبب الذي لأجله نحن في حاجة أن نتقوى بالروح ما دام يخترق حتى أعماق اللَّه[40].
العلامة أوريجينوس
- يعلن اللَّه هذه الأمور بروحه لمؤمنيه، لأن الأمور الخاصة باللَّه لا يمكن معرفتها بدون روحه، فروح اللَّه يعرف كل ما يخصه[41].
- يعلمنا روح اللَّه ما يعرفه بالطبيعة لا ما تعلمه. لذلك يعلمنا سرّ المسيح، فإنه وهو روح اللَّه هو أيضًا روح المسيح[42].
أمبروسياستر
- من ينال إعلان الروح يتقبل أيضًا فهم الروح[43].
ثيؤدورت أسقف قورش
“لأن منْ من الناس يعرف أمور الإنسان إلا روح الإنسان الذي فيه؟
هكذا أيضًا أمور اللَّه لا يعرفها أحد إلا روح اللَّه” [11].
لا يستطيع إنسان أن يدخل إلى أعماق إنسان آخر ويدرك أفكاره وخططه الخفية ومقاصده وما يدور في ذهنه، ولا يعرف أحد شيئًا من هذه سوى الإنسان نفسه، هكذا لا يعرف ما للَّه سوى روح اللَّه الذي يعلن هذه الأسرار للرسل المهتمين بتحقيق خطة اللَّه من جهة خلاص العالم0
- بتوزيع ثروتهم بين الفقراء، هكذا يخزنوها في أكثر الأماكن أمانًا في كنز السماء. إن وُجد عائق يمنعك من صنع هذا بسبب التزامات أسرتك، فأنت تعرف نفسك أي حساب تقدمه للَّه عن استخدامك لغناك فإنه لا يستطيع أحد أن يعرف ما يجتاز داخل إنسان إلا روح الإنسان الذي فيه. يليق بنا ألا نحكم في شئ قبل الوقت حتى يأتي الرب الذي سينير خفايا الظلام ويظهر آراء القلوب، وحينئذ يكون المدح لك من اللَّه (2 كو 4: 5) [44].
القديس أغسطينوس
“ونحن لم نأخذ روح العالم،
بل الروح الذي من اللَّه،
لنعرف الأشياء الموهوبة لنا من اللَّه” [12].
لم نأخذ روح العالم، أي لم نتسلم من العالم فكره وفلسفته في المعرفة. نظرتنا إلى الحق لا تقوم على نظريات فلسفية متغيرة لكنها عطية روح اللَّه واهب الحق.
ما ينطق به الرسول لم يتعلمه بحكمة بشرية بل هو عطية الروح القدس للكنيسة. إنها لا تتقبل إيمانها بروح العالم بل بروح اللَّه، لهذا لم يغَّلف كرازته بثوب بشري براق، بل يقدمها في بساطة حسبما تسلمت الكنيسة من اللَّه. البلاغة والفلسفة والحكمة البشرية تعجز عن تقديم ما يخص اللَّه، لكن روح اللَّه وحده قادر أن يقدم ما يخص اللَّه.
يتحدث الرسول عن نفسه وعن بقية الرسل الحقيقيين أنهم قبلوا روح اللَّه الذي به يعرفون ما للَّه، خلال هذه المعرفة يكرزون بالمسيح المصلوب. إنهم لم يقبلوا روح العالم الذي للمعلمين اليهود، هؤلاء الذين يطلبون مملكة زمنية ومسيحًا أرضيًا، مفسرين ما ورد في العهد القديم بطريقة مادية زمنية.
- روح العالم هو ذاك يقتنيه أناس متباينون. إنه لا يعرف الحق، وإنما يمكنه أن يستخدم الحدس (التخمين)، لهذا فهو يخدع الآخرين، كما هو نفسه ينخدع بالمظاهر[45].
أمبروسياستر
- يظهر بولس بقوله هذا أن الروح القدس ليس مخلوقًا بل له طبيعته الإلهية[46].
ثيؤدورت أسقف قورش
5- الإنسان الروحي
“التي نتكلم بها أيضًا،
لا بأقوال تعلمها حكمة إنسانية،
بل بما يعلمه الروح القدس،
قارنين الروحيات بالروحيات” [13].
“قارنين الروحيات بالروحيات” كثيرا ما ينشغل الدارسون بتقديم الإيمان خلال مقارنته بالعلم أو باستخدام النظريات الفلسفية. الحاجة إلى الكشف عن الروحيات بالروحيات، فما ورد في العهد الجديد هو تحقيق لنبوات العهد القديم التي نطق بها رجال اللَّه مسوقين بالروح القدس. وكل عبارة في الكتاب المقدس تكشفها أسفار الكتاب, نتعرف على الأسرار الروحية بإعلانات الروح ولغة الروح.
لا يستطيع الجسدانيون أن يفهموا الروحيات، إذ يقول الرسول يهوذا: “هؤلاء هم المعتزلون بأنفسهم نفسانيون لا روح لهم” (يه 19). الذين لا يتمتعون بتقديس الروح لا يمكنهم إدراك الروحيات. فإن الفهم الروحي تحطم بفساد الخطية وصارت الحاجة ملزمة أن يتقدس الإنسان بروح الرب فيتهيأ ذهنه وقلبه وكل أعماقه لإدراك الروحيات والتجاوب معها. فالإنسان الجسداني يحمل أعينا ضعيفة عاجزة عن رؤية أشعة شمس البرّ والتمتع بجمالها. لذا لا يقبل النور بل يود أن يعيش في جهالة الظلمة.
كأنه يقول: لا نعود نستخدم لغة اليهود أو الأمم حين نتحدث عن اللَّه والإلهيات، إنما نستخدم لغة روح اللَّه، فننطق بالروحيات، لغة البساطة والوضوح والصراحة.
بقوله “قارنين الروحيات بالروحيات” يعني أيضًا أنه لا يستطيع أن ينطق بالأمور الروحية إلا ذاك الذي صار روحيًا. فالأمور الروحية تحتاج إلى أناس روحيين (1 كو 2: 6، 9-10، 14-15، 3: 1).
- بعض الحقائق الروحية غير واضحة وتحتاج إلى تفسير، لكن هذا يمكن تحقيقه فقط بمقارنتها بأمور روحية أخرى. كمثالٍ عندما أقول أن المسيح قام من الأموات، أقارن ذلك بخلاص يونان من بطن الحوت (يونان 10:2). وعندما أقول أنه وُلد من عذراء أقارن ذلك بالحبل الذي يتم للعواقر مثل سارة ورفقة وغيرهما (تك1:21-7؛ 21:25) [47].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- هذا لا يعني أن بولس لم تكن لديه أية حكمة بشرية، وإنما يكرز بحكمة الروح[48].
ثيؤدورت أسقف قورش
“ولكن الإنسان الطبيعي لا يقبل ما لروح اللَّه،
لأنه عنده جهالة،
ولا يقدر أن يعرفه،
لأنه إنما يحكم فيه روحيًا” [14].
لكي يستطيع الإنسان الطبيعي أن يحكم يلزمه أن يعرف فكر الرب. ومن يقدر أن يعرف ذلك؟ تُفهم الكلمات هنا هكذا: “هل يقدر الإنسان الطبيعي أن يعرف فكر الرب؟ أو “من يدرك فكر ألا يلزمه أن يعلم به؟
ماذا يعنى الإنسان الطبيعي؟
يرى البعض أن الإنسان الطبيعي هو مقابل الإنسان الروحي. فالأخير يقوده الروح القدس فيقدس جسده وفكره ونفسه وروحه وكل طاقاته حتى يبدو كأنه كله روح. أما الإنسان الطبيعي فتحكمه الغرائز الطبيعية والشهوات الحيوانية.ويرى بعض الكتاب اليونانيين أن الإنسان الطبيعي يشترك مع الحيوانات في الانحصار في المحسوسات دون أن يسمو ليحيا بالفكر المرتفع والضمير الحي. يدعوه البعض “الإنسان الحيواني“.
يرى البعض أن كلمة “طبيعي” تشير هنا إلي الجسد قبل القيامة، والروحي إلى “الجسد القائم من الأموات” كما جاء في 1 كو 15: 44 “يُزرع جسمًا حيوانيًا وُيقام جسمًا روحانيًا”. فالإنسان طبيعي هو المحصور في ملذات الجسد الترابي، أما الروحاني فهو الذي يجد لذته في المجد الأبدي.
يرى كثيرون أن الإنسان الطبيعي هو ذاك الذي يجعل نفسه الحيوانية animal soul (psuche) تحكم في روحه، فلا يقودها روح اللَّه ا(يه 19). مثل هذا الإنسان لا يحي الروح جسده، فيكون غريبًا عن الإلهيات.
الإنسان الجسداني هو الإعلان العملي للإنسان الطبيعي، يقوده عدو الخير فيحمل حكمة “أرضية نفسانية شيطانية” (يع 3: 15).
يرى البعض انه يعني الإنسان الذي لا يتعدى عقله وقلبه وأعماقه الأمور الطبيعية، فيحبس حتى عواطفه ومشاعره في الشهوات الحيوانية. مثل هذا الإنسان لا يقدر أن يدرك قيمة الروحيات، فهو ينكرها بل ويقاومها. السماء بالنسبة له وهم وخيال.
لا يستطيع الإنسان الطبيعي أن يدرك الروحيات كما أن الأذان البشرية لا تقدر أن تسمع موجات الراديو العالية، ولا يستطيع الأصم أن يحكم في مسابقات الموسيقى، ولا الأعمى أن يميز الألوان.
- أعطانا اللَّه عقلاً لكي نتعلم ونتقبل عونًا منه، لا أن يكون العقل مكتفيًا بذاته. الأعين جميلة ونافعة، لكنها إن أرادت أن ترى بدون نورٍ يصير جمالها بلا نفع، بل وقد يصير ضارًا. هكذا إذ تختار نفسي أن ترى بدون الروح تصير في خطر… الإنسان الطبيعي ينسب كل شيء إلى البراهين العقلية، حاسبًا أنه ليس في حاجة إلي عون علوي، هذه علامة الغباوة التامة. فإن اللَّه منحنا العقل لكي نتعلم ونقبل العون منه، لا أن نحسبه مكتفيًا بذاته. فالأعين جميلة ونافعة لكن إن اختارت أن ترى بدون النور فجمالها لا ينفع شيئا، ولا إمكانياتها الطبيعية، وأيضًا أن اختارت أن ترى بدون الروح تصير عائقًا لنفسهًا[49].
- كما أنه لا يقدر إنسان أن يتعلم الأمور السماوية بهذه الأعين، هكذا لا تقدر النفس التي لا يسندها الروح. ولماذا أتحدث عن الأمور السماوية؟ فإنها لا تقدر حتى أن تقبل الأمور الأرضية كلها. فإننا عندما نتطلع من بعيد إلي برج مربع نظن أنه دائري. هذا هو خداع النظر، هكذا نرى أن الإنسان الذي بفهمه وحده يفحص الأمور البعيدة يبلغ إلي نتائج سخيفة.
إذا يقول: “عنده جهالة” [14]. هذا لا يتحقق من طبيعة الأشياء نفسها، وإنما من ضعفه، إذ هو عاجز عن أن يتقبل عظمتها خلال أعين نفسه[50].
- تبدو الظلمة مناسبة للعين المريضة أكثر من النور، لذلك يفضلون الذهاب إلي حجرة بها ظل. هذا هو أيضًا الحال بالنسبة للحكمة الروحية. تبدو الحكمة التي من اللَّه جهالة للذين هم في الخارج، مع أن حكمتهم هم التي بالحق جهالة ويحسبونها حكمة. ذلك مثل شخص ذو خبرة في الإبحار ويعد بأنه يعبر البحر الذي بلا حدود بدون مركب، ويجاهد أن يبرهن عقلانيًا أن هذا الأمر ممكن، وشخص آخر يجهل كل هذه الأمور ويعهد بنفسه لدى قائد المركب والبحارة والسفينة، فيسير في أمان. ما يبدو انه جهالة لهذا الإنسان هو أحكم من حكمة الأول[51].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- الإنسان الحيواني لا يعرف ما لروح اللَّه لأن عنده جهالة. يقول بعد ذلك بقليل لأناسٍ من هذا النوع، أي لأناسٍ حيوانيين (جسديين): “وأنا أيها الاخوة لم أستطيع أن أكلمكم كروحيين بل كجسديين” (1 كو 3:1). هذا يُفسر بنفس الطريقة إن الجزء يؤخذ ليعَّبر عن الكل. فإن كلاً من النفس والجسد يكونان الإنسان ويمكن استخدام أحدهما ليعني الإنسان كله، وهكذا الإنسان الحيواني والإنسان الجسداني ليسا شيئين مختلفين بل هما واحد، نفس الشيء، إنسان يعيش حسب الإنسان[52].
القديس أغسطينوس
- الإنسان غير الروحي هو ذاك المسرور بأفكاره ولا يقبل تعليم الروح ولا يفهمه[53].
ثيؤدورت أسقف قورش
- بالنسبة للجهلاء والحسيين تبدو الأمور الباطلة أكثر جمالاً من تعاليم الحق[54].
العلامة أوريجينوس
“وأما الروحي فيحكم في كل شيء،
وهو لا يُحكم فيه من أحد” [15].
الذي يتقدس ويتمتع بذهن روحي فيهتم بما للروح (رو8:6) يحكم في كل شيء ويميز كل الأمور. فإنه إذ يتمتع بمذاقٍ روحيٍ للحقائق الإلهية الصادقة يستطيع أن يحكم حتى في الحكمة البشرية. يدرك الأسرار الإلهية، ويتمتع بقوتها، ويتهلل بإعلاناتها. حياته مخفية في المسيح حكمة اللَّه (كو 3:3). أما الإنسان الجسداني، فمهما نال من معرفة بشرية، يبقي غريبًا عن خبرة الحياة الإلهية وأسرارها، فلا يقدر أن يدرك ما في ذهن اللَّه، ولا يتعرف على الحق الإلهي.
من له فكر المسيح يستطيع أن يميز ويحكم بالروح.
جاء في مناظرات القديس يوحنا كاسيان حديث للأب دانيال يكشف عن التمييز بين الإنسان الروحي الذي يهتم بالأعماق الداخلية والنمو الروحي المستمر، وبين الإنسان الطبيعي الذي ينشغل بالممارسات الخارجية والنسك الجسدي دون الاهتمام بالأعماق. فهو يحذر الرهبان من ذلك فيقول: [لقد بدأنا نعتزل التعامل مع الذين في العالم، ولم يعد لنا ما نفعله علانية بخصوص فساد الجسد. لكن يليق بنا أن نحرص علي الجهاد بكل إمكانياتنا حتى يبلغ حالة روحية (نصير روحيين)، لئلا نخدع أنفسنا فنظن إننا بلغنا أعالي الكمال بمجد إنساننا الخارجي وتخلصنا من دنس الزنا الجسدي. فنكون مهملين ومتراخين في أمر نقاوتنا من الأهواء الأخرى، وإذ نبقى هكذا نعجز عن بلوغ مرحلة التقدم الروحي[55].]
- من يتقبل موهبة الروح ينتعش ليعلم الآخرين، وإلا ما ينطق به يكون بلا نفع تمامًا[56].
ثيؤدورت أسقف قورش
- الإنسان الروحي قادر أن يحكم في كل شيء، سواء كان يونانيًا أو بربريًا، حكيمًا أو غبيًا. ولا يمكن أن يحكم عليه أحد بسبب عمق فهمه وتجاوبه[57].
العلامة أوريجينوس
- من يقدر أن يدين شخصًا يخبر بالحق؟ عندما يقول عنه أنه باطل وهو حق؛ فإن اتهاماتهم تصير كلا شيء إذ يدينهم حكم الحق[58].
أمبروسياستر
- إذ يحكم الروحي في كل شيء ولا يحكم عليه أحد، يليق أن نتحدث عنه بكونه كرسي اللَّه[59].
القديس أغسطينوس
- يتعرف الرسول علي ثلاث أقسام من الأوضاع، يدعو واحدًا منها “جسديًا” وهو المشغول بالبطن واللذات المرتبطة بها. والآخر “طبيعيًا” الذي يحتل مركزًا متوسطًا ما بين الفضيلة والرذيلة، فيرتفع عن القسم الأول ولكن دون شركة ظاهرة مع القسم الآخر. وآخر يدعوه “روحيًا” وهو الذي يدرك كمال الحياة التقية. لذلك عندما يتحدث مع الكورنثوسيين موبخًا إياهم علي انهماكهم في الملذات والشهوات يقول “أنتم جسديون”، غير قادرين علي قبول التعليم الأكثر كمالاً, بينما في موضع آخر يقارن بين النوع المتوسط من الكمال فيقول: “ولكن الإنسان الطبيعي لا يقبل ما لروح اللَّه، لأنه عنده جهالة… وأما الروحي فيحكم في كل شيء وهو لا يُحكم فيه من أحد”[60].
القديس غريغوريوس أسقف نيصص
6- لنا فكر المسيح
“لأنه من عرف فكر الرب فيعلمه؟
وأما نحن فلنا فكر المسيح” [16].
في اختصار أراد الرسول بولس في هذا الإصحاح أن يسحب قلوب الشعب من الانشغال بالانشقاقات الكنسية إلى البركات الإلهية التي تمتعوا بها خلال الإيمان.
بينما ينشغل الفلاسفة بالكلمات والتعبيرات الفلسفية غير المجدية ينال المؤمنون قوة اللَّه المجددة لأعماقهم فيصيروا كاملين. يجهل العظماء فكر اللَّه، بينما يستنير المؤمنون بالروح القدس ويدركوا حكمة اللَّه الأزلية. بينما يعيش العظماء بروح العالم كأناس طبيعيين، يتمتع المؤمنون بروح اللَّه كأناسٍ روحيين.
لا يقدر العظماء إن يحكموا في الإلهيات بينما يحكم الروحى فيها ولا يحكم عليه أحد. بينما يعيش العظماء بالفكر البشري المجرد، يتمتع المؤمنون بفكر المسيح.
يا لعظمة عطية اللَّه لنا، فقد صار لنا فكر المسيح معلنًا لنا بروحه القدوس.
- عندما يقود المسيح النفس لكي تدرك فكره، يُقال إنها تدخل في حجال الملك، الذي فيه تختفي حكمته ومعرفته[61].
- تسأل عروس المسيح عن أماكن الراحة في الظهيرة، وتطلب من اللَّه فيض من المعرفة لئلا تظهر كأنها أحد مدارس الفلاسفة، والتي يقال عنها أنها ترتدي حجابًا، لأن فيض الحق مخفي ومُحتجب. أما عروس المسيح فتقول: “وأما نحن فنرى مجد اللَّه بوجهٍ مكشوفٍ” (2 كو 3: 18)[62].
العلامة أوريجينوس
- “لنا فكر المسيح“، أي ما هو روحي وإلهي، وليس فيه شيء بشري. فإن المسيح نفسه وليس أفلاطون ولا فيثاغورس يضع أموره في أذهاننا[63].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- اللاهوت عقل وكلمة. ففي “البدء كان الكلمة”. كان لأتباع بولس فكر المسيح [16] يتكلم فيهم. لم تُحرم البشرية تمامًا من هذا، فانك تري في نفسك كلمة وفهمًا، يتمثلان بالعقل ذاته والكلمة ذاته[64].
القديس غريغوريوس أسقف نيصص
- يقول بولس ذلك لأن المؤمنين شركاء في الحكمة الإلهية[65].
أمبروسياستر
- بعطية الروح القدس لم يكن قلب الأنبياء قلبًا بشريًا بل كان قلبًا روحيًا.هكذا يقول هنا “لنا فكر المسيح“. وكأنه يقول: “قبل نوالنا بركة الروح وتعلم الأمور التي لا يقدر إنسان أن ينطق بها، لم يكن أحد منا ولا من الأنبياء مدركًا هذه الأمور في ذهنه. كيف يمكننا ذلك إن كان حتى الملائكة أنفسهم لم يدركوها؟ يقول: أية حاجة لنا أن نتحدث عن عظماء هذا العالم إذ لا يوجد إنسان يدرك هذه الأمور، حتى القوات العلوية؟[66]
- نحن نعرف الأشياء التي في فكر المسيح، والتي يريد أن يُعلنها لنا. هذا لا يعني أننا نعرف كل شيء يعرفه المسيح، بل بالأحرى كل ما نعرفه هو من عنده وهو روحي[67].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- يبرهن بولس بوضوح كافٍ أنه لا يوجد شيء ناقص في تعليم اللَّه. لا يعني هذا أنه يحوي كل المعرفة، لكن اللَّه يخرج لنا الحكمة كما من مخزنٍ لكي نفهمها بلياقة[68].
ثيؤدورت أسقف قورش
- يشير فكر المسيح إلى الآب، فيقول بولس أن لدينا أب المسيح فينا[69].
أوكومينوس
من وحي ا كو 2
ليدخل بي روحك القدوس إلى فكرك
فأتعرف على سرّ حكمتك المكتومة!
- لأعزف عن الحكمة المتعجرفة،
وأتعرف على صليبك،
يا أيها العجيب في حبك وتواضعك!
حكمة العالم لها جاذبيتها ولكن بلا عمل،
صليبك يحملني إلى عرشك،
ويدخل بي إلى حجالك السماوي، يا أيها العريس الأبدي!
- عظماء هذا الدهر يودون صلبك، والخلاص منك في أعماقي!
آه لو عرفوك، وأدركوا سرّ صليبك لما فارقوك!
بل يحبوك ويرتفعوا ليروا ما أعددته لهم!
حقًا لطلبوا روحك العجيب ليدخل بهم إلى أعماقك!
- أعترف لك إني إنسان جسداني،
من يجعلني روحاني سوى روحك الناري؟
في غباوة أردت أن أكون طبيعيًا،
وأنت بحبك لن تقبل أن أكون أقل من روحاني!
تريدني أصير وكأن كل كياني قد صار روحًا!
تريد حتى جسدي يصير خفيفًا للغاية،
فأطير وأكون معك في سمواتك!
- هب لي روحك عاملاً فيَّ بلا انقطاع!
أحمل فكرك وأدرك الحق!
نعم، لا يحكم فيَّ أحد، بل أحكم في كل شيء!
لأنك أنت فيَّ وأنا فيَّ، يا أيها الحق!
V V V
[1] In 1 Cor., hom. 6:1.
[2] CSEL 81:21-22.
[3] Against Arius, 1a.
[4] In 1 Cor., hom. 6:1.
[5] Trinity 1:12.
[6] In 1 Cor., hom. 6:2.
[7] CSEL 81:22.
[8] In 1 Cor., hom. 6:3.
[9] De Principiis 4:1:7.
[10] In I Cor., Hom. 6:3.
[11] Bava Kama,, fol. 82.
[12] In 1 Cor., hom. 7:1.
[13] De Principiis 3:31.
[14] CSEL 81:23.
[15] Pauline Commentary from the Greek Church.
[16] In 1 Cor., hom. 7:4.
[17] CSEL 81:24.
[18] Comm. On 1 Cor., 175.
[19] On Divine Providence, Dis. 10:61. (ACW).
[20] In 1 Cor., hom. 7:5.
[21] In 1 Cor., hom. 7:5.
[22] Sermons on New Testament Lessons, 41:1.
[23] Sermons on New Testament Lessons, 37:9.
[24] Comm. On 1 Cor, 176.
[25] CSEL 81:24-25.
[26] The Aascension, 263.
[27] Epistles, 169:8.
[28] Against Eunomius, 5:2.
[29] Against Eunomius, 5:5.
[30] Against Eunomius, 6:2.
[31] The Great Catechism, 40.
[32] In 1 Tim., hom 15.
[33] Sermons on New Testament Lessons, 77:1.
[34] Epistles, 130:17.
[35] Sermons on New Testament Lessons, 77:11.
[36] Ascetical Homilies, 2.
[37] Pauline Comm. From the Greek Church.ع1
[38] Answer to Eunomius, Second Book.
[39] Stromata 2:7:3.
[40] Commentary on 1 Cor. 1:10:6-10.
[41] CSEL 81:27.
[42] CSEL 81:27.
[43] Comm. On 1 Cor., 177.
[44] Ep. 130:8.
[45] CSEL 81:28.
[46] Comm. On 1 Cor., 178.
[47] In I Cor., Hom. 7:8.
[48] Comm. On 1 Cor., 178.
[49] In 1 Cor., hom. 7:9.
[50] In 1 Cor., hom. 7:10.
[51] In 1 Cor., hom. 7:1.
[52] City of God 14:4.
[53] Comm. On 1 Cor., 178.
[54] The Song of Songs, Comm., Book 4:15. (ACW).
[55] Cassian: Conference 4:19.
[56] Comm. On 1 Cor., 179.
[57] Comm. On 1 Cor., 1:11:44-45.
[58] CSEL 81:30-31.
[59] Our Lord’s Sermon on the Mount, 1:18.
[60] On the Making of Man, 8:6.
[61] The Song of Songs, Comm., Book 1:5.
[62] The Song of Songs, Comm., Book 2:4. (ACW).
[63] In 1 Cor., hom. 7:12.
[64] On the Making of Man, 5:2.
[65] CSEL 81:31.
[66] In 1 Cor., hom. 7:7.
[67] In I Cor., Hom. 7:12.
[68] Comm. On 1 Cor., 179 PG 82:246.
[69] Oecumenius Pauline Comm. from the Greek Church.