تفسير انجيل لوقا 6 الأصحاح السادس – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير انجيل لوقا 6 الأصحاح السادس - القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير انجيل لوقا 6 الأصحاح السادس – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير انجيل لوقا 6 الأصحاح السادس – القمص تادرس يعقوب ملطي
الأصحاح السادس
الصديق المعلِّم
كان اليونانيُّون يحبُّون أن يسمعوا على الدوام شيئًا جديدًا لإشباع الفكر لكن بدون جدوى، أم المعلِّم السماوي فقبْلَ أن يقدِّم التعليم الجديد قدَّم الإمكانيّة الجديدة، فرفع الإنسان فوق الحرف القاتل بإعلانه عن نفسه أنه رب السبت، فيه لا ينحني المؤمن لحرفيَّة حفظ السبت بطريقة جافة، بل يحمل قوَّة الروح؛ كما شفى صاحب اليد اليُمنى اليابسة ليُطلِقها للعمل الروحي، واختار الاثنى عشر تلميذًا للكرازة والعمل، عندئذ قدَّم عظاته وتعاليمه.
1.المسيح رب السبت1-5.
- شفاء اليد اليُمنى 6-11.
- دعوة التلاميذ 12-16.
- تعاليمه:
أ. حديث شخصي للمتألِّمين17-26.
ب. دعوة حب فائق27-46.
ج. الحاجة للبناء على الصخر47-49.
- المسيح رب السبت
ذكر الإنجيليُّون الثلاثة: متَّى (12: 1)، ومرقس (2: 43) ولوقا كيف كان قوم من الفرِّيسيِّين يمثِّلون جوًا من المعارضة للسيِّد، فإنَّهم إذ رأوا التلاميذ في جوعهم يقطفون السنابل ويأكلونها وهم يفركونها بأيديهم حسبوا ذلك كسرًا للناموس، إذ حسبوهم كمن قاموا بعمليَّتيّ الحصاد والدرْس بطريقة مصغَّرة. لذلك احتجُّوا قائلين: لماذا تفعلون ما لا يحل فعله في السبوت؟ وإذ سبق لنا الحديث عن ذلك في دراستنا لإنجيلي متى ومرقس، لنا هنا بعض الملاحظات التاليّة:
أولاً: يذكر الإنجيلي لوقا: “وفي السبت الثاني بعد الأول” [1]، ماذا يعني بهذا؟
اختلف الدارسون في تفسير هذه العبارة، ويمكن تلخيص آرائهم في الآتي:
أ. يقصد بالسبت الأول عيد الفصح اليهودي، والثاني بعده يقصد به عيد الباكورات أو الخمسين، عيد الأسابيع (سبعة أسابيع من بدء الفصح)، والذي يوافق السادس من شهر سيوان (حزيران).
ب. إذ جاءت الترجمة عن اليونانيّة: “السبت الثاني بعد الأول“، لهذا يرى البعض أنه يقصد السبت الثاني بعد الفصح، وبالتالي يكون السبت الأول بعد عيد الفطير[1]، ويُعرف بسبت “العومر” أو سبت “الأغمار”.
ج. ربَّما يعني بالسبت الأول هو سبت الشهر الأول من السنة اليهوديّة، بينما السبت الثاني هو سبت الشهر الثاني. أو أن السبت الأول هو السبت الذي يقع فيه رأس السنة المدنيّة (شهر تشري، أو تشرين الأول أو ليثانيم) بينما السبت الثاني هو الذي يقع فيه رأس السنة الدينيّة (نيسان[2]).
د. يري البعض أن السبت الثاني يعني أول سبت يقع في السنة الحوليّة، أي في السنة السابقة بعد سنة اليوبيل.
هـ. الرأي الأرجح لدى كثير من المسيحيِّين هو السبت الثاني بعد عيد الفصح مباشرة.
و. يرى بعض الآباء المهتمِّين بالتفسير الروحي أن السبت الأول يشير إلى السبت الناموسي بمفهومه الحرفي اليهودي، وأن السبت الثاني هنا إنما هو السبت الجديد، حيث انطلق بنا السيِّد من الراحة الحرفيّة الجسديّة إلى الراحة الحقيقية فيه خلال إنجيله. لذلك ما فعله تلاميذه حيث اجتاز بهم إلى الحقول، إنما يشير إلى الدخول بهم إلى حقول أسفار العهد القديم ليقتطفوا سنابل الرموز والنبوات، ويفركونها بروحه القدِّوس، ليجدوا فيها طعام الروح الإنجيلي واهب الشبع الحق.
يمكننا أيضًا أن نقول بأن ما فعله التلاميذ كان باسم الكنيسة كلها حيث تدخل بالروح القدس إلى المذبح الإلهي، لتتقبَّل سنبلة “الإفخارستيا” كعطيّة إلهيّة تقتات بها، لكي تبلغ إلى الكمال، فتتهيَّأ للمسيح يسوع عريسها الأبدي[3]. ويرى القدِّيس أمبروسيوس[4] أن السيِّد المسيح قاد تلاميذه كما إلى حقل هذا العالم الحاضر لينعموا بثمار الكنيسة التي هي من عمل روحه القدِّوس خلال الخدمة الرسوليّة. فقد جاع التلاميذ إلى خلاص البشر وأرادوا التمتَّع بحصاد الروح، الأمر الذي رفضه اليهود.
ثانيًا: كان تساؤل الفرِّسيِّين “لماذا تفعلون ما لا يحلْ فعله في السبوت؟” [2]، كما قلنا ليس عن غيرة على الشريعة، وإنما بدافع النقد وتشويه خدمة السيِّد المسيح، وكانت إجابة السيِّد المسيح لهم لا لإفحامهم، إنما بالحري للكشف عن أسرار العهد الجديد، لعلَّهم يُدركون الحق ويرجعون إليه. أراد السيِّد بإجابته أن يرفعهم إلى العهد الجديد الروحي عِوض حرف الناموس القديم، وكما يقول الرسول بولس: “لأنه يقول لهم لائمًا: أيام تأتي يقول الرب حين أُكمل مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهدًا جديدًا… فإذ قال جديدًا عتق الأول، وأما ما عتق وشاخ فهو قريب من الاضمحلال” (عب 8: 8، 13)، وقد اقتبس الرسول هذه النُبوَّة عن سفر إرميا الذي بين أيديهم (إر 31: 31).
يقول القدِّيس كيرلس الكبير:
[لكننا نرى أن الكتبة والفرِّيسيِّين جهلوا هذا العهد الجديد كل الجهل، لأنهم حجبوا عيونهم عن رؤية الأسفار المقدَّسة، وهم يحدّقون النظر في تعاليم المسيح السماويّة لعلَّهم يجدون فيها نقصًا أو عيبًا للإيقاع به. لذلك تربَّصوا لتلاميذ المخلِّص، وخاطبوه قائلين: “ألا ترى كيف أن تلاميذك يفعلون ما لا يحلْ فعْلة في السبوت، فبينما الناموس يفرض على الناس الراحة في السبت، نجد تلاميذك يقطفون السنابل ويفركونها بأيديهم ويأكلون؟” ولكن قل لي أيها المعترض ألا تكسر خبزك وأنت تتناول طعامك يوم السبت، فلماذا تعيب على غيرك ما تقوم به أنت؟ وحتى نكون على بيِّنة بجهلهم الكتب المقدَّسة قرع المسيح حجَّتهم بما يأتي:
فأجاب المسيح: “وقال لهم أما قرأتم ولا هذا الذي فعله داود حين جاع” [3]. فمع أن داود سلك مسلكًا مغايرًا للناموس، ولكن له في نفوسنا كل إكبار وإجلال، فهو قدِّيس ونبي. وحيث أن شريعة موسى توصينا بالقضاء بالحق بين الإنسان وأخيه، فلماذا تعتبرون إذن داود نبيًا وقدِّيسا بينما تبكِّتون تلاميذي وتسلقونهم بألسنة حداد ولم يفعلوا أمرًا أردأ؟
يجب أن نلاحظ أن خبز التقدِّمة الوارد ذكره في رواية داود يشير إلى الخبز النازل من السماء الذي تراه على موائد الكنائس المقدَّسة، وأن جميع أمتعة المائدة التي نستعملها في خدمة المائدة السرِّيَّة لهي رمز للكنوز الإلهيّة الفائقة[5].]
إن كان قد جاز لداود أن يكسر حرف الناموس ويأكل مع رجاله خبز التقدِّمة الذي يُرفع يوم السبت ليأكله الكهنة وحدهم ويوضع عوضه خبزًا جديدًا، وقد أكله داود ورجاله في السبت كما يظهر من قول الكتاب: “فأعطاه الكاهن المقدَّس لأنه لم يكن هناك خبز إلا خبز الوجوه المرفوع من أمام الرب، لكي يوضع خبز سخن في يوم أخذه” (1 صم 21: 6)، فكم بالحري يليق برب داود أن يسمح لتلاميذه أن يأكلوا من السنبلة الجديدة في السبت؟! حقًا لقد ثار شاول الملك ضد الكاهن أخيمالك الذي قدَّم خبز الوجوه لداود ورجاله وأرسل ليقتله مع الكهنة، وها هو عدو الخير يثير الفريسيِّين ضد السيِّد المسيح رب داود وتلاميذه، لأن السيِّد سمح لتلاميذه أن يتمتَّعوا بطعام جديد!
ثالثًا: “وقال لهم: إن ابن الإنسان هو رب السبت أيضًا” [5].
بينما أرادوا إتمامه بكسْر السبت أعلن أنه “ابن الإنسان، رب السبت“، فمن جهة دعا نفسه “ابن الإنسان“، لأنه وهو واضع ناموس السبت وشريعته إنما من أجل الإنسان، لا الإنسان من أجل السبت (مر 2: 27). إن كان “كلمة الله” قد صار ابنًا للإنسان من أجل الإنسان وهو ربه، فكم بالحري يليق أن يكون السبت لخدمة الإنسان؟!
لم يُحقّر السيِّد المسيح من الشريعة ولا حطَّمها، بل بالحري رفعها بالأكثر بدعوة نفسه “رب السبت“. حقًا إنه هو “رب السبت” المسئول عن هذه الشريعة أو هذا العيد الأسبوعي، وضعه لا ليهدمه أو يحطِّمه، وإنما لكي يدخل بنا إلى مفاهيم أعمق لهذا العيد، بتحريرنا من حرفيّة السبت القاتلة إلى عيد الأحد المُفرح للنفس.
لقد قدَّم السيِّد نفسه “سبتًا” لنا، إذ هو سرْ راحتنا، وهو عيدنا، فيه ننعم بالحياة المُقامة ونتمتَّع بالمصالحة مع الآب.
- شفاء اليدْ اليُمنى
في السبت الجديد انطلق السيِّد المسيح بتلاميذه وسط الزروع لكي يهبهم السنبلة الجديدة سِرْ شبع روحي لهم، مقدِّما فهمًا جديدًا للسبت، بكونه سِرْ راحة داخليّة وشبع عميق، يملأ النفس خلال التقائها بالله واتِّحادها معه. والآن إذ يدخل المجمع في سبت آخر أراد أن يكشف عن السبت أنه ليس يومًا للخمول والكسل، إنما هو راحة خلال العمل الروحي الحق، لذا التقى بصاحب اليدّ اليُمنى اليابسة ليردّ لها الحياة لكي تكون عاملة في الرب.
يرى القدِّيس أغسطينوس أن اليد اليُسرى تشير للعمل المادي، أما اليُمنى فتُشير للعمل الروحي. فالرجل ذو اليد اليمنى اليابسة يشير إلى المجمع اليهودي نفسه، وقد يبست يمينه عن العمل الروحي، إذ تحوَّل السبت إلى توقُّف عن العمل وممارسة حرفيَّات جامدة. وقد جاء السيِّد لينزع هذه اليبوسة، واهبًا للسبت فهمًا جديدًا روحيًا.
في تفسيرنا لإنجيل مرقس (3: 1-6) رأينا القدِّيس أمبروسيوس يتحدَّث عن هذا الرجل بكونه يمثِّل آدم الأول الذي مدّ يده على الشجرة في عصيان لخالقه، فيبِست بالخطيّة واحتاجت إلى السيِّد أن يأتي ليشفيها، لتمتدْ سليمة تمارس الحياة الفاضلة، خلال محبَّة القريب وإنقاذ المظلوم. لقد يبست يدّ يربعام عندما أراد التبخير للأوثان وبسطها عندما صلَّي (1مل 13: 4-6). ورأينا القدِّيس كيرلس الكبير في تعليقه على المعجزة كيف اِهتم السيِّد المسيح ليس فقط أن يشفي اليد اليابسة، وإنما أن يحاور الفريسيِّين في أمر السبت لعلَّهم يقبلون شفاء يُبوسِة فكرهم الحرفي.
يقول الإنجيلي: “ثم نظر حوله إلى جميعهم، وقال للرجل: مدّ يدك“، نظر إليهم السيِّد وهو يئن في داخله من أجل قسوة قلوبهم، فعِوض الاهتمام بشفاء أخيهم من يُبوسة يده والتمتَّع بالحياة العاملة اهتموا بالنقد، متربِّصين للسيِّد ليشتكوا عليه. فإنَّه حتى بعد تمتَّع الرجل بالشفاء عوض مشاركته فرحته “امتلأوا حمقًا، وصاروا يتكلَّمون فيما بينهم ماذا يفعلون بيسوع” [11]. وكما يقول القدِّيس كيرلس الكبير: [ألم تكن المعجزة كافية لغرس روح الإيمان؟ ينظرون المسيح يعمل بسلطانٍ إلهيٍ، فيشفي المريض بقوّة فائقة، ومع ذلك يقابلون رحمته بغلظة وقسوة بسبب الحسد والنميمة؟![6]]
- دعوة التلاميذ
إن كان السيِّد المسيح قد جاء صديقًا للبشريّة، لا تقوم صداقته على العاطفة المجرَّدة، إنما خلال الحب العامل، فإنَّنا رأيناه يدخل بنا إلى الحقول ليقدِّم لنا ذاته السنبلة الجديدة المبذولة على الصليب، نتناولها سِرْ شبع لنا في سبت الراحة الحقيقية. كما نراه يدخل بنا إلى مقدَّساته “المجمع” بكونه رب السبت، يشفي يميننا اليابسة، محولاً حياتنا من الحرف الناموسي الجامد إلى الحياة الإنجيليّة العاملة به وفيه. والآن نراه باسمنا ولحسابنا يخرج إلى الجبل ليصلي، ويقضي الليل كله في حديث ودّي مع الآب. كصديق لنا يعلن عن “الصلاة” طريقًا للصداقة وانفتاحًا على رب السماء!
في مقدِّمة هذا السفر قلنا أنه سفر “الصداقة الإلهيّة” التي تقوم خلال الصلاة، لذلك يظهر السيِّد نفسه كمعلم لنا عن الصلاة، لا بالوصايا الخاصة بممارسة الصلاة الدائمة واللجاجة فيها، وإنما أيضًا بظهوره في أكثر من موضع مصلِّيًا. وقد رأينا الفارق بين صلاة ذاك الذي بلا خطيّة وصلواتنا نحن الخطاة، إذ هو يصلِّي ويشفع بدمه لغفران خطايانا (راجع تفسير لو 5: 16).
يعلّق القدِّيس كيرلس الكبير على قول الإنجيلي: “خرج إلى الجبل ليصلِّي” [12]، قائلاً: [كل ما عمله المسيح لبنياننا ولفائدة المؤمنين باسمه. فلم يقم المسيح بشيء ما، إلا ليقدِّم نموذجًا ساميًا للحياة الروحيّة حتى نعبده عبادة حقيقيّة. والآن فلندرس المثال الحيّ الذي قدَّمه المسيح لنا عند التماس أمر من الإله العلي. يجب أن نصلِّي في الخفاء، فلا يرانا أحد. “فمتى صلَّيت فادخل إلى مخدعك” (مت 6: 6). ليس الغرض من الصلاة طلب المجد والظهور، بل يجب عندما نقف “رافعين أيادي طاهرة” (1 تى 2: 6) أن نصعد إلى السماء إلى مسكن الله متَّخذين مكانًا هادئًا لنكون في معزل عن ضوضاء العالم وهمومه ومتاعبه، ولنعمل كل هذا بنشاطٍ وسرورٍ، لا بقلقٍ وتعبٍ. لنقم بذلك بشوقٍ وغيرةٍ وصبرٍ جديرٍ بالثناء والإعجاب لأنكم تقرأون أن المسيح لم يصلِ فحسب بل مضى الليل كله في الصلاة… مع أنه مولود من الله الآب وتواضع إلى حدِ إخلاء نفسه من أمور عدة، حتى يكون أخًا وشبيهًا بنا في كل شيء ما عدا الخطيّة. شاركنا المسيح في الطبيعة البشريّة ولطَف بنا، فهو لا يزدرى بنا وبطبيعتنا، بل أخذ شبهنا لنقتفي خطواته وننسج على منواله[7].]
ويعلّق القدِّيس أمبروسيوس قائلاً: [لا يتسلَّق الجبال كل مُصلٍِّ إذ توجد صلاة تحسب خطيّة (مز 108: 7). من تعلَّم الصلاة يسمو فوق الغنى الأرضي إلى السماوي، ويظل متسلِّقًا حتى يبلغ قمَّة الخلوَة العُليا، أما الذي يهتم بغنَى العالم فلا يتسلَّق الجبال إنما يشتهي ما لقريبه (من السُفليَّات). من يتطلَّع إلى رفقة الله يطلب الله فيصعد، هكذا النفوس القويّة تتسلَّق الجبال. لم ينصح النبي أي شخص أن يتسلَّق الجبال إنما يقول: “علي جبلٍ عالٍِ اصعدي يا مُبشِّرة صهيُّون، ارفعي صوتك بقوّة يا مُبشِّرة أورشليم” (إش 40: 9). تسلُّق الجبال لا يكون بالأقدام إنما بسِموّ الأعمال، فإنَّك إذ تتبَّع المسيح تصير أنت نفسك أحد الجبال التي تحيط بك (مز 124: 2).]
ويكمل القدِّيس أمبروسيوس حديثه، فيقول: [الرب يصلِّي لا ليطلب لنفسه، وإنما لأجلنا… فهو شفيعنا… لا تظن أن المسيح يطلب عن ضعف ليأخذ أمرًا يعجز عن تحقيقه، فهو مؤسِّس كل سلطة… إنما يشكِّلنا بقدوتِه في الفضيلة. أيضًا لنا شفيع واحد عند الآب (1 يو 2: 1)، يشفع في خطايانا، ومن ثم فهو لا يطلب عن ضعف وإنما عن حب… لقد قضي الليل كلُّه في الصلاة، مقدِّما لك مثالاً ورسمًا كقدوة نمتثل بها[8].]
إذ قضى السيِّد المسيح الليل كله في الصلاة، دعا تلاميذه واختار اثنى عشر في النهار، ويلاحظ في هذا الاختيار:
أولاً: يقول القدِّيس أغسطينوس: [اختار التلاميذ من أصل وضيع وبلا كرامات، أُميِّون، حتى إذ يصيروا عظماء ويمارسون أعمالاً عظيمة يكون ذلك بحلوله فيهم وعمله داخلهم[9].] وكما يقول الرسول بولس: “اختار الله جُهال العالم ليخزي الحكماء، واختار الله ضعفاء العالم ليخزي الأقوياء، واختار الله أدنياء العالم والمُزدرَى وغير الموجود ليُبطل الموجود، لكي لا يفتخر كل ذي جسد أمامه” (1 كو 1: 27-29). لم يختارهم فقط من بين الطبقات الفقيرة، وإنما أيضًا من بين الخطاة ليترفَّقوا بإخوتهم الخطاة.
ثانيًا: شعر التلاميذ بفضل السيِّد عليهم، وكما قال لهم: “لستم أنتم اخترتموني، بل أنا اخترتكم وأقمتكم، لتذهبوا وتأتوا بثمر ويدوم ثمركم، لكي يُعطيكم الآب كل ما طلبتم باسمي” (يو 15: 16). ليس لهم فضل في الاختيار، إنما الفضل لله الذي اِختارهم. فهو ملتزم بهم، يسندهم ويثمر بروحه فيهم حتى يتمِّموا رسالته، لكن دون سلبيَّة من جانبهم، إنما يجب عليهم التجاوب مع عمل نعمته، والعمل به ومعه لحسابه. هذا ما يؤكِّده الرسول بولس الذي يدرك أنه قد أُفرِز للعمل وهو في الأحشاء في بطن أُمّه (غل 1: 15)، يلتزم بالعمل الإلهي، إذ يقول: “فإذ نحن عاملون معه نطلب أن لا تقبلوا نعمة الله باطلاً” (2 كو 6: 1).
يعلّق القدِّيس كيرلس الكبير على اختيار التلاميذ بقوله: [أخذوا من المسيح قوّة، فأَدهشوا العالم بأعمالهم، ولكن يجب أن نلاحظ تواضع الإنجيلي ووداعته، فلم يقل: “إن الرسل القدِّيسين اُنتخِبوا”، ولكن مضى في ذكر أسمائهم ببساطة ما بعدها من بساطة حتى لا يعمل أحد على الانخراط في جماعة الرسل المنتخبين. وقد قال بولس في هذا الصدد: “ولا يأخذ أحد هذه الوظيفة بنفسه بل المدعو من الله” (عب 5: 4). ومع أن الرسل المقدَّسين أفرزهم الله بالاسم لهذه الرسالة السامية إلا أن بعض الناس من وقت لآخر تحرِّكهم نزعة الجنون والجرأة فيزِجُّون أنفسهم وسط الرسل وينتحلون اسمًا لم يُعطوه، وقد أشار الرسل المقدَّسون إلى مثل هؤلاء المغتصِبين بالقول: “لأن مثل هؤلاء هم رسل كذبة، فعلة ماكرون مغيرون شكْلهم إلى شبه رسل المسيح، ولا عجب لأن الشيطان نفسه يُغيِّر شكله إلى شبه ملاك نور، فليس عظيمًا إن كان خدَّامه أيضًا يُغيِّرون شكلهم كخُدَّام للبرْ” (2 كو 11: 13-14).]
ثالثًا: في ذكر أسماء الاثنى عشر تلميذًا ذكرهم اثنين اثنين، ليؤكِّد حياة الشركة بينهم، فسِرْ القوّة في التلاميذ هو تجلِّي السيِّد المسيح “الحب الحقيقي” في حياتهم معلنًا في حياتهم الخاصة الداخليّة، كما في حياة الشركة الحيّة. لقد سبق فكرَّرنا كثيرًا أن رقم “2” يشير إلى الحب، الذي يجعل الاثنين واحدًا، وكأنها إرساليّة حب توحِّد القلوب في الرب، وتضم كل النفوس معًا خلال المصالحة مع الآب في ابنه بروحه القدُّوس.
رابعًا: فيما يلي معنى أسماء التلاميذ:
أ. “سمعان” معناها: “السميع” أو “المُطيع”، وقد دعاه السيِّد المسيح “بطرس” وتعني “صخرة”، بكونه أول من أعلن الإيمان بالسيِّد المسيح ابن الله.
ب. “أندراوس” معناها: “الجاد” أو “القوي” أو “البسالة”.
ج. “يعقوب” معناها: “المتعقِّب” أو “المُجاهد”.
د. “يوحنا” معناها: “الله يتحنَّن” أو “الله ينعِم”.
ه. “فيلبس” معناها: “محب الفرس” أو “فم المصباح”.
و. “برثلماوس” معناها: “ابن الحارث”.
ز. “متَّى” يعني “هبة” أو “عطيّة”.
ح. “توما” يعني “التوأم”.
ط. “يهوذا” يعني “يحمد” أو “يعترف”.
وقد سبق لنا عرض بعض مقتطفات من أقوال الآباء في هذا الشأن عند دراستنا لإنجيل معلِّمنا مرقس البشير (3: 15).
- تعاليمه
إن كان السيِّد المسيح في صداقته لنا دخل بنا إلى الزروع ليُشبعنا به، وإلي مقدَّساته (المجمع) ليشفي يميننا للعمل الروحي، وأقام التلاميذ لينادوا بالمصالحة السماويّة، الآن يتقدَّم إلينا كصديق معلِّم يحدّثنا عن ناموسه السماوي الذي نحيا به:
أ. حديث شخصي للمتألِّمين
كصديقٍ معلِّمٍ ينزل إلينا وسط آلامنا ليحدِّثنا حديثًا عمليًا واقعيًا وهو حالْ في وسطنا يسندنا وسط أتعابنا، إذ يقول الإنجيلي:
“ونزل معهم ووقف في موضع سهل،
هو وجمع من تلاميذه وجمهور كثير من الشعب،
من جميع اليهوديّة وأورشليم وساحل صور وصيدا،
الذين جاءوا ليسمعوه ويُشفوا من أمراضهم.
والمعذَّبون من أرواح نجسة وكانوا يبرأون.
وكل الجمع طلبوا أن يلمسوه،
لأن قوّة كانت تخرج منه، وتَشفي الجميع” [17-19].
إن كان السيِّد في صلاته طوال الليل اعتزل على الجبل، إذ لا يستطيع أحد أن يُدرك سِرْ الوحدة الفريدة بين الآب والابن، لكنه نزل إلى السهل ليلتقي مع التلاميذ والشعب اليهودي وأيضًا الأممي. هؤلاء الذين جاءوا يسمعونه ويلمسونه لينالوا قوّة تخرج منه! بهذا كان السيِّد يُتلمِذ خدَّامه، أنه وإن لاق بهم أن يرتفعوا على الجبال العالية ليدخلوا مع الله في شركة سرَّيَّة روحيَّة عميقة، لكنهم هم خدام الشعب، والعاملون لحساب البشريَّة لإراحتهم!
إن كان ربّتا يسوع قد جاء صديقًا معلِّمًا، إنما جاء يهب قوّة لمن يلمسه، واهبًا عطايا فائقة للنفوس المعذَّبة التي بقيت في السهل غير قادرة أن ترتفع إلى الجبل لتلقي معه. يقول القدِّيس أمبروسيوس: [تأمَّلوا بدقَّة في كل كلمة… كيف ينزل إلى الجمع، وأين يمكن للجمع أن تراه إلا في السهل. إذ لا يتبعه الجمع إلى المرتفعات ولا يصعدوا إلى قمم الجبال، فينزل هو إلى الضعفاء مادام الضعفاء لا يصعدون إلى المرتفعات… ينال المرضى الشفاء في السهل لينموا في القوّة شيئًا فشيئًا، ويستطيعوا تسلُّق الجبال. ينزل الرب ليشفي جراحاتنا لكي يجعلنا نشاركه طبيعته باتِّحاده بنا.]
الآن إذ قدَّم قوّة للذين يلمسونه حتى يرفعهم من السهل إلى قمم جبال الفضيلة، بدأ يحدِّثهم حديثًا شخصيًا عن “بَركة الآلام”، إذ يقول الإنجيلي:
“ورفع عينيه إلى تلاميذه، وقال:
طوباكم أيها المساكين، لأن لكم ملكوت الله” [20].
إذ أراد أن يلتقي بالشعب لشفائهم نزل إلى السهل، لكنه حين يتحدَّث يرفع عينيه ليرفع بصيرتهم معه نحو السماء. أنه يطوِّب المساكين لا لأنه ينزع عنهم الحرمان الزمني أو الألم، وإنما ليرفعهم وسط الآلام إلى ملكوته الإلهي. جاء صديقنا متألِّما يعيش وسط المتألِّمين، ليحملهم وسط الآلام إلى شركة أمجاده!
يقدِّم تطويبًا شخصيًا لسامعيه بقوله: “طوباكم أيها…”، واصفًا إيَّاهم أنهم مساكين وجياع وباكون ومبغَضون من الناس ومضطهَدون منهم ظلمًا… ليعود فيقدِّم الويلات لحاملي السِمات المناقضة: للأغنياء، الشباعى، الضاحكين الآن، الممدوحين من كل جميع الناس. وقد سبق لنا الحديث عن هذه التطويبات في دراستنا لإنجيل معلمنا متَّى (5: 2-12). ويلاحظ في هذه التطويبات الآتي:
أولاً: بدأ بالتطويبات لا بالويلات؛ في التطويب يوجِّه الحديث لسامعيه أما الويلات فيوجِّهها بصيغة الغائب؛ وهكذا يقدِّم لنا السيِّد المسيح الصديق الحقيقي المعلِّم صورة حيَّة للتعليم، مركزها تشجيع السامعين وبث الرجاء فيهم، فهو يفترض في سامعيه طاعته والتمتَّع ببركاته الإلهيَّة، وعندما يحذِّر يفترض أنهم لا يرتكبون الخطأ. إنه إيجابي في تعاليمه.
لقد حمل معلمنا بولس الرسول روح سيِّده ففي رسائله ينعت من يكتب إليهم أنهم قدِّيسون ومختارون ومدعوُّون للملكوت الخ. وبعد التشجيع الكثير يوبِّخ في حزمٍ دون أن يجرح مشاعرهم!
ثانيًا: يعلِّق القدِّيس كيرلس الكبير على القول الإلهي: “طوباكم أيها المساكين بالروح، لأن لكم ملكوت السماوات” [20]، قائلاً:
[هذه هي كلمات المخلِّص يوم أن فتح للتلاميذ كنوز العهد الجديد، وقادهم في طريق الإنجيل وهم على أهبَّة المناداة بالرسالة المقدَّسة، ونريد أن نعرف من هم المساكين الذين أشار إليهم المسيح في الآية السابقة، فوعدهم بملكوت السماوات؟ إن متَّى يقول في هذا الصدد “طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السماوات” (مت 5: 3)، ومعنى ذلك أن المسكين بالروح هو كل من اتَّضع ولم يشمخ بأنفه، فكان قلبه وديعًا وذهنه بعيدًا عن الكبرياء والزهْو متحرِّرًا من رذيلة العُجب.
رجل بمثل هذا الخلق جدير بالمدح والثناء، فهو صديق الإله جلَّت قدرته، فقد وصفه النبي بالقول: “إلي هذا أنظر، إلى المسكين والمنسحق الروح والمرتعد من كلامي” (إش 66: 2)، ويقول داود النبي: “القلب المنكسر والمنسحق يا الله لا تحتقره” (مز 51: 17)، ويقول المسيح نفسه “تعلَّموا منِّي، لأني وديع ومتواضع القلب” (مت 11: 29).
في الدرس الذي أمامنا نرى الآية تَعِد المسكين بكل بَركة سماويّة بدون أن تضيف كلمة “بالروح” وصفًا للمسكين، ولكن يجب أن نعلم أن الإنجيليِّين لا يناقضون الواحد الآخر، فإنِّهم يجزِّئون الرواية فيما بينهم، فأحيانًا يذكر جميعهم نص القصَّة بحذافيرها وأحيانًا يذكر أحدهم ما تركه الآخر حتى لا يفوت المؤمنين بيسوع المسيح شيء أفاد التلاميذ وجدَّدهم.
تجِدون إذن من الآية السابقة أن المسيح أراد “بالمسكين بالروح” الجدير بالبركات والنعيم، ذاك الذي لم يهتم بالغنى واحتقر الجشع والطمع، وازدرى العطايا الممقوتة، ورغب عن محبَّة المال المرذولة، وارتفع بنفسه فلم يعبأ بمظاهر الحياة وغرور المال.
حقًا يهدينا بولس الحكيم إلى طريق المبادئ القويمة بقوله: “لتكن سيرتكم خالية من محبة المال” (عب 13: 5). ويضيف إلى ذلك قوله: “فإن كان لنا قوت وكِسوة فلنكتفِ بهما” (1 تي 6: 8)، ولأن من رغب في فداء المسيح وخلاصه يمتهن الأموال الزائلة، ويمنطِق حقويْه بالأعمال السامية الباقية. ولا نقصد بامتهان المال التعريض بالأغنياء الذين فاضت موارد رزقهم بالثروة بل أن كلامنا ينسب إلى أولئك الذين مالوا بكليَّتهم إلى المال، ورغبوا فيه كل الرغبة، ومن هم هؤلاء الناس؟ أشار إليهم المخلِّص بالقول: “لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض” (مت 6: 19)[10].]
يقول القدِّيس أمبروسيوس: [بدأ كل من البشيريين تطويباته بهذه العبارة، فهي الأولي حسب الترتيب والأم التي تلد كل الفضائل، فباحتقار ممتلكات هذه الحياة تستحق الممتلكات الأبديّة، أما إن كنت أسيرًا لشهوات العالم فمن المستحيل أن تطفو فوقها.] كما يقول: [ليس كل المساكين مطوَّبين، فالفقر عمل سلبي، إذ يوجد فقراء صالحون وآخرون أشرار… طوبى لمن كان مسكينًا في الخطيّة ومسكينًا في الرذائل، ليس لرئيس هذا العالم موضع فيه (يو 14: 3). طوبى للمسكين الذي يُمتثل بسيِّده الذي افتقر لأجلنا وهو غني (2 كو 8: 9)[11].]
ويقول القدِّيس يوحنا التبايسي: [إن لم يقصد الإنسان أولاً التجرُّد لا يستطيع أن يدنو من الحزن والنوح، لأن حياتنا لا تستطيع أن تدوم في صحَّة الروح، مادمنا مالكين في أنفسنا شيئًا معوَّقًا، إذ أن الإنسان لا يستطيع أن يقتني حب الله إذا كان حب الاقتناء يتحرَّك فيه، لأنه مكتوب: من أراد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني (مر 8: 34). لا يستطيع الإنسان أن يحمل الصليب دون أن يجحد العالم، بل ينبغي له أن يبتعد عن كل الأشياء، إذ أن العزاء الخارجي يعطِّله عن الشيء الذي يقتنيه، فلا يمكن أن يثبت الحق في إنسانٍ إلا إذا قطع أولاً من ضميره أصل محبَّة المال، ولا يستطيع أن يسكن حب المسيح في الضمير إن لم يتجرَّد أولاً من حب المال… لا تندم ولا تحزن أيها الإنسان عندما تكون فقيرًا ومحتاجًا من أجل الله، لأن رجاء عزائك هو في الملكوت، ولا تصغر روحك إذا تضايقت بالجوع والعري، ولا تضجر بل اِفرح واِبتهج بالرجاء الموضوع لك[12].]
ويحدّثنا القدِّيس يوحنا الذهبي الفم عن المسكنة (أو الفقر) بأنه التواضع بكونه رأس كل فضيلة، قائلاً: [إنه المذبح الذهبي، وهو موضع الذبيحة الروحي، لأن الروح المنسحق ذبيحة لله (مز 51: 17). التواضع هو والد الحكمة، إن كان للإنسان هذه الفضيلة فتكون له بقيّة الفضائل[13].]
ثالثًا: “طوباكم أيها الجياع الآن لأنكم تُشبعون” [21].
- ورد في متَّى النص الآتي: “طوبى للجياع والعطاش إلى البِر، لأنهم يُشبعون” (مت 5: 6). أما في لوقا فيكتفي بالقول: “طوباكم أيها الجياع لأنكم تُشبعون”. ومن الثابت أن الجياع والعطاش إلى البِرْ يقومون بعملٍ جليلٍ شريفٍ، لأنهم يسعون بِجِدٍ وراء التقوى والصلاح، كما يسعون في طلب الطعام والشراب.
ويُراد أيضًا بهذه الآية تطويب من يرغب في عيشة الفقر والدعة في غير ما إكراه أو امتعاض، فإنَّ هذا التطويب يعمل على نمو ذهنهم ومضاء عزيمتهم، فيسيرون على نهج الحياة الرسوليّة الرشيدة غير مبالين للكسب الباطل، فلا يعنون بالذهب والفضة ولا تهمُّهم الثياب الفاخرة والملابس الثمينة، وليس عندهم إلا الطعام القليل الذي يكاد لا يسد رمقًا أو يشفي غِلِّة.
مثل هؤلاء الناس الذين استعاضوا عن الحياة الدنيا بالحياة الآخرة، يأنسون بوعد السيِّد المسيح لهم، فلا يأس بعد ذلك ولا قنوط، إذ يصرح يسوع جهارًا بأنهم يُشبعون بما يُفتح لهم من كنوز البركات الروحيّة والعقليّة.
القدِّيس كيرلس الكبير
- عندما يُصاب المرء بمرض خطير لا يشعر بالجوع، فالألم يَبتلع الجوع. لكن ما هو هذا الجوع الذي للبِر؟ وما هي الخيرات التي يجوع إليها البار؟ أليست تلك الخيرات التي قيل عنها: “كنتُ فتى وقد شخت الآن، ولم أر صدِّيقًا تُخُلِّيَ عنه، ولا ذُرِّيَّة له تلتمس خبزًا” (مز 36: 22). من يشعر بالجوع يود أن تنمو قوَّته وتتقوَّى الفضيلة.
القدِّيس أمبروسيوس
رابعًا: “طوباكم أيها الباكون الآن لأنكم ستضحكون” [21].
إذ يدعونا السيِّد المسيح للبكاء وسكب الدموع، انشغلت الكنيسة منذ بدء انطلاقها بممارسة حياة التوبة الصادقة في دموعٍ لا تنقطع. ولكن بحكمة وتمييز، دون فقدان الفرح الداخلي خلال الرجاء والسلام الفائق للعقل. لهذا لا نعجب إن رأينا القدِّيس إكليمنضس السكندري وهو يحثُّنا على الدموع قائلاً: [إنه لأمر صالح أن تبكي وتحزن من أجل العدل، بهذا تحمل شهادة لأعجب شريعة[14]]، يؤكِّد التزامنا بعدم المبالغة في الدموع كما في الضحك[15]. بنفس الفكر يحدِّثنا القدِّيس كيرلس الكبير عن تطويب السيِّد المسيح للباكين بالتمتُّع بحياة الفرح، لكن ليس لكل الباكين، إذ يوجد غير مؤمنين يبكون بسبب الهَمْ والغَم[16].
لنبكِ ولنسكب الدموع هنا، لكن بحكمة وفي رجاء من أجل خلاصنا وخلاص اخواتنا، وليكن بكاؤنا أمام الرب نفسه حتى يملأنا بتعزيات روحه القدُّوس:
- يليق بكم أن تبكوا على العالم، لكن تفرحوا في الرب؛ تحزنوا للتوبة وتبتهجوا بالنعمة، لذلك يأمر معلِّم الأمم موصيًا بكمال أن نبكي مع الباكين ونفرح مع الفرحين.
- من يقتنى فرحًا عظيمًا إلا ذاك الذي يبكي كثيرًا، وكأنه نعمة المجد العتيد بثمن دموعه[17]؟!
القدِّيس أمبروسيوس
- “للبكاء وقت وللضحك وقت”. وقت البكاء هو زمان الألم، كقول الرب: “الحق الحق أقول لكم أنكم ستبكون وتنوحون” (يو 16: 20)، أما الضحك فيخص القيامة، إذ يقول: “ولكن حزنكم يتحوّل إلى فرح[18]” (يو 16: 20).
الأب ديُّونسيوس السكندري
- الزمان الحالي هو وادي الدموع. هذا العالم هو موضع الحزن لا الفرح… العالم العتيد هو عالم الفرح، أما الآن فساحة الصراع والاحتمال.
- في العام الحاضر لا يوجد الفرح الأبدي، إنما يكون فرحنا سريع الزوال.
- من لا يبكي في العالم الحاضر سيسكب الدموع في الحياة العتيدة[19].
القدِّيس جيروم
- الصلاة الممتدَّة والدموع الغزيرة تجتذبان الله للرحمة.
- البكاء وحده يقود للضحك المطوَّب.
- أراد يسوع أن يُظهر في نفسه كل التطويبات، إذ قال: “طوبى للباكين“، وقد بكى هو نفسه لكي يضع أساس هذا التطويب حسنًا[20].
العلامة أوريجينوس
- [في تأبينه للقدِّيس غريغوريوس أسقف نيصص.]
إذ أبدأ فأذكر فيض دموعه أبتدئ أنا نفسي أبكي، إذ يستحيل علي عبور محيط دموعه بعينين جافتين. لم يوجد نهار أو ليل، ولا نصيب من نهار أو ليل، ولا حتى لحظة مهما قصرت لم تَظهر فيها عيناه الساهرتان سابحتان في الدموع. أحيانًا كان يبكي من أجل البؤس العام والغباوة التي يسقط فيها الكل، وأحيانًا من أجل رذائل خاصة كما قال. كنتَ تجده يبكي وينوح، ليس فقط عندما كان يتحدَّث عن التوبة والأخلاقيَّات وتدبير الحياة، وإنما حتى في صلاة التسبيح والحمد[21].
- النفس ميِّتة خلال الخطيّة. إنها تتطلَّب حزنًا وبكاء ودموعًا وتنهدًا مرًا على الشر الذي دفعها إلى الهلاك.
ولول، ابك، احزن، رد النفس إلى الله!
أنظر كيف تتألّم الأم التي تفقد ابنها بالموت، فيُلقى في القبر، فإنَّها تبكي لرحيل محبوبها. بالحري يلزم أن يكون الحزن أشد بالنسبة للإنسان الذي تفصله الخطيّة عن الله، فيفقد صورة صلاحه المحبوبة… يحزن الله بسبب فقدان الإنسان للصورة، فإنَّ النفس عنده أعزْ من كل بقيّة خليقته. بالخطيّة تموت النفس، وأنت ألاَ تُفكر في هذا يا خاطي! بالحري يلزمك أن تحزن من أجل هذا الإله الذي يحزن عليك! نفسك ميَّتة بالرذيلة، اِذرف الدموع وأقمها. لتُفرِّح الله بقيامة نفسك[22].
القدِّيس مار أفرام السرياني
نود أيضًا أن نوضَّح أننا إذ نبكي في هذا العالم على خطايانا، فإنَّ هذا البكاء لا يعني فقدان الرجاء، وإنما كما يقول القدِّيس يوحنا الذهبي الفم إننا إذ نتوب بصدق تغفر لنا خطايانا بسبب حب الله لنا. نذكر هذه الخطايا على الدوام حتى لا نسقط فيها. لقد غفرت تمامًا، لكننا نقول مع المرتل: “خطيَّتي أمامي في كل حين”… جاء عن الأب بفنوتيوس تلميذ القدِّيس مقاريوس أنه كثيرًا ما كان يردّد هذا القول عن الشيخ: [عندما كنت صغيرًا، اعتدت أن آكل مع الأطفال الآخرين، وقد اعتادوا أن يذهبوا ويسرقوا قليلاً من التين. وإذ كانوا يجرون سقطت تينة منهم، فأمسكتها وأكلتها. كلما أذكر هذا أجلس وأبكي.]
لا يكون هذا البكاء على خطايانا وحدنا، وإنما على خطايا الآخرين أيضًا. لقد أجاب القدِّيس باسيليوس الكبير على السؤال: إن كان يجوز للإنسان أن يضحك؟ بأنه لا يقدر أن يفهم كيف يمكن لمسيحي صالح أن يضحك [خاصة عندما يرى كثيرين يهينون الله بكسْرهم الناموس واقترابهم للموت بالخطيّة، إذ يليق بنا أن نحزن ونبكي على هؤلاء[23].] كما يقول في عظته عن الشهيدة يوليطة: [عندما ترى أخاك ينوح في توبة عن خطاياه اِبك معه. هكذا خلال أخطاء الغير تربح نفسك من الخطأ. من يسكب الدموع الساخنة على أخطاء قريبه يبرأ هو بحزنه على أخيه. هذا هو حال القائل: “الكآبة امتلكتني من أجل الخطاة الذين حادوا عن ناموسك” (مز 118: 53)[24].] ويقول القدِّيس يوحنا الذهبي الفم: [لنبكِ عليهم ليس يومًا أو يومين بل كل حياتنا[25].]
يقدِّم لنا القدِّيس يوحنا التبايسى تداريب عمليّة تسند المؤمن لممارسة البكاء والتمتَّع بالدموع منها: تذكُّر آلام المخلِّص، المحاسبة للنفس، تذكر الدينونة، توقُّع الموت، وطلب الدموع من الله. فمن كلماته: [كان آباؤنا السعداء الطوباويُّون تأتيهم الدموع بسهولة في وقت التضرُّع، لأنهم كانوا على الدوام يتألِّمون ويتفرَّسون في آلام سيِّدنا]، [حاسب نفسك كم ليلة سهرت لأجل الدموع، أو كم من الأعمال قدَّمت إلى الله ليجود عليك بحزن الدموع]، [كثرة حزن الدموع هي موهبة من الله تُعطى باجتهاد طلبات السائل[26].]
خامسًا: “طوباكم إذا أبغضكم الناس” [22].
كصديق حقيقي لنا دخل إلى حياتنا وشاركنا آلامنا، فلا نرى تعليمه كلمات فلسفيّة برَّاقة، وإنما خبرة حياة يقدِّمها لنا وسط ضيقاتنا. لقد حلّ بيننا كمسكينٍ وظهر كجائعٍ وعطشانٍ وبكى حتى يطوِّب المساكين والجياع والباكين، والآن قبل أن يكون مرذولاً من الناس ليجد المرذولين والمبغَضين من الناس لهم موضعًا فيه.
إن كانت المسكنة بالروح أو التواضع هو رأس كل فضيلة وبداية كل تطويب حق، فإنَّ احتمال بغض الناس وتعييراتهم ومضايقاتهم بقلب متسع بالحب من أجل الملكوت هو نهايّة التطويب، إذ فيه يبلغ المؤمن الرجولة الروحيّة أو النضوج الحق. بمعنى آخر، ما تبغيه كلمة الله منا في احتمالنا الآخرين بفرح هو التمتَّع بسمات السيِّد المسيح المتألّم من أجل أعدائه، فنحسب بحق أعضاء جسده الناضجين. لهذا لخص القدِّيس جيروم التطويبات في العهدين القديم والجديد في عبارة واحدة: [طوبى للإنسان – ليس كل إنسان – بل ذاك الذي يبلغ كمال الرجولة في المسيح[27].]
- “طوبى لكم إذا أبغضكم الناس” [22].
بين السيِّد للرسل ما ينتظرهم من ضنك واضطهاد وهم يعلِّمون الناس، ووصف الإنجيلي عن طريق النبوَّة الويلات المروِّعة التي تصيب الرسل وهم يُعلنون رسالة الفادي، وينصحون اليهود أن ينبذوا عبادة الفرائض والناموس للتسربل بِحلَّة الحياة المُثلى، ويُنيرون للوثنيِّين طريق الحق والصدق حتى يقلعوا عن عيشة الفجور والرذيلة.
لكن لا يقبل عدوْ الفضيلة نُصحًا ولا إرشادًا، فهو يثير على الناصح والهادئ حربًا شعواء، حتى يكون الرسل على بيَّنة من أمرهم وهم يكرزون بكلمة الإنجيل، فلا يقلقل أحدهم ولا يقنط، أظهر لهم المسيح نصيبهم الروحي وحلاَّهم بلباس الغِبطة السمائيّة في حالة اضطهاد الناس لهم، وبغض الأشرار لنصحهم وإرشادهم. وأوصاهم بأن كل ما يعمله الخطاة الآثمة معهم من تشريد وتجريد ونفيْ وامتهان ومقْت واضطهاد، كل ذلك لا يؤْبه له ولا يُعنى به، فبتحمُّلهم هذه الويلات والضيقات يَسعدون روحيًا ويَنعمون قلبيًا.
وزاد السيِّد وعلَّم تلاميذه بأن اضطهادهم في المستقبل ليس بالشيء الجديد؛ طالما اُضطهد الأنبياء والرسل من قبل. فكثيرا ما قُتل الأنبياء ونُشروا، وضرب بعضهم بحد السيف وأُهْلِكوا، فلا غرابة إن نسج الرسل على منوال سلفهم الصالح، وصبروا على عيشة المذلَّة والمهانة في سبيل نُصرة الحق والعدل، ففي ذلك نصر لهم وظفر إذ يُتوَّجون بإكليل السماء ويشتركون في مجد القدِّيسين المُنير[28].
القدِّيس كيرلس الكبير
- من أراد أن يتشبَّه بالله فليكن وديعًا هادئًا بقدر ما يمكن للإنسان، وليتحمَّل بسِعة صدر ما يزعجه من الآخرين… إن تعرضَّتَ لإهانة ثقيلة لا تُطاق، وأَخذ الغيْظ والحمق يغليان في أحشاك، فأذكُر وداعة المسيح لتحصل مع عدوَّك على فائدة عظيمة، وبوداعتك تجعله صالحًا[29].
القدِّيس يوحنا الذهبي الفم
- صلَّوا ألا يوهب لي إحسان أعظم من أن أُقدَّم لله، مادام المذبح لا يزال معدًا، ففي اجتماعكم معًا بمحبَّة غنَّوا لله أغنية شكر للآب بالمسيح يسوع…
أطلب إليكم ألاّ تُظهروا لي عطفًا في غير أوانه، بل اسمحوا لي أن أكون طعامًا للوحوش الضارية، التي بواسطتها يوهب لي البلوغ إلى الله. اتركوني أُطحن بأنياب الوحوش لتصير قبرًا لي، ولا تترك شيئًا من جسدي، حتى إذا ما مُتْ لا أتعِب أحدًا. فعندما لا يعُدْ العالم يرى جسدي أكون بالحقيقة تلميذًا للمسيح.
توسَّلوا إلى المسيح من أجلي حتى أُعَدّْ بهذه الطريقة لأكون ذبيحة لله[30].
القدِّيس أغناطيوس الثيوفورس
سادسًا: بعد أن قدَّم التطويبات الأربعة ذكر اللعنات الأربعة التي تخص الأغنياء والشباعى والضاحكين والذين يمدحهم جميع الناس، فماذا يعني بهذه الفئات؟
بلا شك يقصد بالأغنياء المتَّكلين على أموالهم، والذين أعمت الثروة عيونهم عن معاينة الله وإخوتهم. والشباعى هم الذين اِمتلأوا، فيشعرون أنهم ليسوا في عوز إلى الله، فلا يطلبون عمله فيهم. ويقصد بالضاحكين الذين يلهيهم العالم بإغراءاته عن طريق التوبة، أما الذين يمدحهم جميع الناس فيعني بهم الذين يسعون وراء المجد الباطل لا المجد الخفي الداخلي.
فمن جهة الأغنياء يقول القدِّيس أمبروسيوس: [إن كان كثرة المال يحوي نداءات كثيرة نحو الشرّ، فهو أيضًا يمكن أن يحوي دعوة نحو الفضيلة. حقًا أن الفضيلة لا تحتاج إلى مال كثير، فإنَّ القليل الذي يقدِّمه الفقير أفضل من الهبات الكثيرة التي يقدِّمها الغني، لكن الرب لا يدين من له أموال إنما يدين من يسيء استخدامها[31].] ويرى القدِّيس أمبروسيوس أيضًا أن الأغنياء الذين سقطوا تحت اللعنة هم اليهود والفلاسفة، فقد اغتنى اليهود بالرموز والنبوَّات والمواعيد، لكنهم في غناهم رفضوا بساطة الإيمان، وأيضًا اغتنى الفلاسفة بالفلسفات البشريّة فرفضوا الإيمان.
لقد سجَّل لنا القدِّيس إكليمنضس السكندري في كتابه: “من هو الغني الذي يخلص؟” المفهوم المسيحي للغنى، موضَّحًا كيف أن المال يُمثِّل وزنة يجب إضرامها لحساب ملكوت الله. بنفس الفكر أكدّ القدِّيس يوحنا الذهبي الفم في كثير من مقالاته أن الغنى في ذاته ليس صالحًا ولا شرِّيرًا، ولكن الإنسان يمكن أن يستخدمه في البِر أو في الشرّ. ويؤكِّد القدِّيس كيرلس الكبير أنه من بين الأغنياء من يشفق على الفقير ويرحم لعازر المسكين فينال إكليل السماء، إذ يتمِّم الوصيّة الإلهيّة: “اصنعوا لكم أصدقاء بمال الظُلم حتى إذا فنيتم يقبلونكم في المظال الأبديّة” (لو 16: 9).
أما الشباعى، فيُقصد بهم أمثال ذاك الذي قيل له: “لأنك تقول إني أنا غنيّ وقد استغنيت، ولا حاجة لي إلى شيء، ولستَ تعلم أنك الشقي والبائس وفقير وأعمى وعريان، أُشير عليك أن تشتري منِّي ذهبًا مُصفَّي بالنار لكي تستغنَي، وثيابًا بيضًا لكي تلبس، فلا يظهر خزي عريك، وكَحِّل عينيك بكُحْلٍ لكي تُبصر” (رؤ 3: 17-18). وكأن هؤلاء الشباعى قد ظنُّوا أنهم أغنياء، متَّكلين على ذواتهم وإمكانيَّاتهم الخاصة، لا على كلمة الله التي كالذهب المصفَّي تهب غنى حقيقيًا، ولا على السيِّد المسيح نفسه الذي يليق بنا أن نُلبسه، فيستُر ضعفنا وخِزينا ببرِّه المجَّاني، ولا على الروح القدس الذي يفتح البصيرة الداخليّة ككُحْل للعينين.
الضاحكون هم السالكون في الحياة باستهتار، لا يُبالون بخلاص نفوسهم وميراثهم الأبدي، يقضون أيَّامهم كمن يلهون بالضحك، عوض الجِدِّيّة في ممارسة التوبة.
أخيرًا الذين يطلبون مديح الناس، هؤلاء يَستعبدون أنفسهم للناس لا لله، يطلبون إرضاء الغير على حساب الحق، ويفرحون بكلمة المديح الزمني عِوض المجد الأبدي.
ب. دعوة حب فائق
إذ أراد أن يرفعنا كصديقٍ لنا لننعم بالتطويبات ونحذر اللعنات، فإنَّه يدخل بنا إلى سِمته “الحب الفائق”، فتكون المحبَّة فيض داخلي متفجِّر في أعماقنا، نُحب حتى الأعداء، نحب بالعمل لا بالكلام، لذلك جاءت وصاياه هكذا:
“لكني أقول لكم أيها السامعون:
أحبُّوا أعداءكم، أحسنوا إلى مبغضيكم.
باركوا لاعنيكم،
وصلُّوا لأجل الذين يسيئون إليكم” [27-28].
يطالبنا بفيض حب ينبع في الداخل دون انتظار مقابل، إذ يقول: “أحبُّوا أعداءكم“، فنرد العداوة بالحب. هذا الحب يترجم إلى عمل محبَّة ورحمة: “اَحسنوا إلى مبغضيكم“، ويقوم خلال الحياة المقدَّسة والمباركة التي تبارك الآخرين ولا تلعن أحدًا: “باركوا لاعينكم“، ويمتزج بالعبادة فنشتهي خلاص المسيئين إلينا وشركتهم معنا في المجد بالصلاة عنهم لتوبتهم. بمعنى آخر، جاءت وصيّة الحب مرتبطة بكل كياننا في الرب، عميقة في النفس، مترجمة إلى سلوك وعمل، ممتزجة بالحياة المقدَّسة، ومُرتبطة بعبادتنا!
- “أحبُّوا أعداءكم” [27]. يقول بولس الحكيم وهو صادق فيما يكتب: “إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة” (2 كو 5: 17)، لأن كل الأمور تجدَّدت في المسيح وبالمسيح. انظروا كيف تجدَّد نظام حياة أولئك الرسل الذين عُهد إليهم نشر كلمة الخلاص للعالم أجمع. انظروا كيف يأمرهم السيِّد بمقابلة سيِّئات أعدائهم لهم وكانت مؤامرات مضطهديهم محبوكة الأطراف ودسائسهم لا تعرف رحمة ولا شفقة.
طُلب إلى الرسل ألا ينتقموا لشرّ أحبَّائهم حتى لا يُعطِّلوا نشر الكلمة. نصحهم أن يضبطوا أذهانهم بالصبر والهدوء، فلا يخرجوا عن حلمهم وأناتِهم، محتمِّلين بسرور كل ضررٍ يلحق بهم وكل أذى يصيبهم، متَّخذين يسوع المسيح مَثَلهم الأعلى في الصبر والصفح، فقد هزأ به اليهود كبار وصغار، وبالرغم من سخريَّتهم صلَّى إلى الله الآب قائلاً: “اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون” (23: 34). وقد جثا إسطفانوس المغبوط أمام الله والحجارة تتساقط حوله طالبًا إلى المولي القدير أن يغفر آثام راجميه، وصرخ بصوت عظيم: “يا رب لا تُقم لهم هذه الخطيّة” (أع 7: 60). ويقول الحكيم بولس في هذا الصدد “نُشتَم فنبارِك، نُضطهد فنحتمل” (ا كو 4: 12).
كان تحذير المسيح إذن ضروريًا للرسل المقدَّسين ومفيدًا لنا نحن المؤمنين، حتى نعيش باستقامة ونزاهة، فإنَّ في هذا التحذير معنى فلسفيًا عميقًا، ففينا من الميول النفسانيّة الثائرة ما يجعل الطريق وعرًا للسير لتحذير المسيح لنا، إلا أن المسيح سبق وأفهمنا ضرورة محاربة ميولنا الفاسدة، وفصل بين العاملين برغبة والعاصين كلمته، إذ قال: “لكني أقول لكم أيها السامعون” (6: 27). ويضيف بطرس الرسول ثبات المسيح وعظيم صبره وطول أناته بالقول: “الذي إذ شُتم لم يكن يَشتم عوضًا، وإذ تألّم لم يكن يهدِّد، بل كان يُسلم لمن يقضي بالعدل” (1 بط 2: 23).
ولكن قد يعترض أحدكم قائلاً: “كان المسيح إلهًا أما أنا فإنَّسان ضعيف، ولي ذهن غير سليم ولي من الميول النفسيّة ما يقف في سبيل إخماد روح الطمع والتغلُّب، أيها الإنسان اعلم أن الله لم يجرِّدك من روح رأفته ومحبَّته، فهو بجوارِك لا بل في داخلك، هو فيك بالروح القدس، لأننا نحن مسكنه وهو يسكن في نفوس محبِّيه ومريديه، هو الذي يعضِّدك بيمينه، فلا تتزعزع ويمسك بك فلا تسقط. إذن “لا يغلبنَّك الشرّ، بل اغلب الشرَ بالخير” (رو 12: 21)[32].
القدِّيس كيرلس الكبير
- لقد منعنا أن نحب الرذيلة التي فيه (في العدو)، وأن نرتبط بمحبَّة طبيعيّة معه[33].
القدِّيس أغسطينوس
- إن أمكنك لا تجعل لك عدوًا. وإن وُجد من يبغضك لا تحزن بهذا، لأنك لست وحدك من أبغضوه بل سيِّدك قبلك قد أبغضوه…
يمكنك أن تنتفع من عدوَّك كمثل من صاحبك، جاعلاً من عدوَّك كمن هو نافع لك، لأنه بسببه يتفاضل حبَّك عند الله، وبتألّمك عليه يُكثر نفعك، لأن وصيّة سيِّدنا تكمل بذلك فيه. فإنَّ كان عدوَّك قد آذاك ولم تقدر أن تنتفع منه، فاعرف ضعفك، وأبحث من أي شيء لم تقدر أن تنتفع، لأنه بماذا يُعرف صِدقك مع سيِّدك إذا لم يكن لك شيء يخالف راحتك، فتبقى كإنسان بلا جهاد[34].
القدِّيس يوحنا التبايسي
- أذكر الحمل الوديع وكم صبر، فبالرغم من أنه لم يكن له خطيّة، لكنه احتمل الشتم والضرب وسائر الأوجاع حتى الموت.
القدِّيس برصنوفيوس
- توجد وسيلة لرد الشرّ بالشرّ ليس فقط خلال الأعمال، وإنما أيضًا بالكلمات وبالاتِّجاه (النيّة الداخليّة)… فإنَّه في بعض الأوقات يسبب الإنسان اضطرابًا لأخيه خلال اتِّجاهه (الداخلي)، أو حركاته، أو نظراته، عن عمد ليرُدّ الشرّ بالشرّ[35].
الأب دوروثيؤس
“من ضربكَ على خدَّك، فأعرض له الآخر أيضًا،
ومن أخذ رداءك فلا تمنعه ثوبك أيضًا،
وكل من سألك فأعطه،
ومن أخذ الذي لك فلا تطالبه” [29-30].
سبق لنا دراسة هذه الوصايا في تفسير الإنجيل بحسب متّى (5: 39-42).
تعلِن هذه الوصايا عن ترجمة طاقات الحب عمليًا، فإن أُصيب الإنسان في كرامته الزمنيّة (الضرب على الخد)، أو في ممتلكاته الخاصة كالرداء، يكون لديه الاستعداد لاحتمال أكثر فأكثر من أجل كسب أخيه الذي يعاديه. هذا من جانب، ومن جانب آخر، فإنَّه إذ يحمل سِمة سيِّده يكون محبًا للعطاء أكثر من الأخذ، من يسأله يعطيه، ومن يقترض منه لا يطالبه برد الدين. كأن غاية هذه الوصايا أمران: كسب الغير وممارسة العطاء، هذا ما أكَّده الآباء في تعليقاتهم:
- يليق بالإنسان البار التقي أن يكون مستعدًا لاحتمال الضرر بصبر من الذين يريدهم أن يصيروا صالحين، حتى يتزايد عدد الصالحين عوض أن يُضاف هو نفسه إلى عدد الأشرار، بكونه يثأر لنفسه عمَّا يصيبه من ضرر[36].
القدِّيس أغسطينوس
- يليق بنا ألا نصارع الآخرين، ولا أن نشتهي الامتثال بالأشرار، إذ يحُثُّنا أن نقود الناس بالصبر واللطف من العار ومحبَّة الشر[37].
القدِّيس يوستين
- كل من سألك فأعطه، فإنَّك ستعرف من هو المجازي الصالح عن المكافأة[38].
الأب برناباس
- بالحق بهجة الله هي في العطاء[39]!
القدِّيس إكليمنضس الإسكندري
علي أي الأحوال فإنَّ جوهر هذه الوصايا هو الحب الذي به، ليس فقط يتجاهل الخد المضروب، بل في اتِّساع قلبه مستعد أن يقدِّم الآخر ليكسب أخاه لحساب الملكوت الأبدي، ولا يتنازل عن الرداء فحسب، وإنما أيضًا بإرادته يترك ثوبه، محب للعطاء ولا يطالب بردّ الدين حتى لا يسقط أخوه في حرجٍ! وكما يقول القدِّيس أغسطينوس: [إن ربّنا يمنع أتباعه من الالتجاء إلى القانون في الأمور الزمنيّة ضد الغير[40].]
“وكما تريدون أن يفعل الناس بكم، افعلوا أنتم أيضًا بهم هكذا” [31].
هذه هي المحبَّة العمليّة التي بها ينطلق الإنسان من “الأنا”، فيحب أخاه كنفسه، يشتهي له ما يشتهيه لنفسه، ويقدِّم له ما يترجّى هو من الآخرين أن يُقدِّموه له.
يعلّق القدِّيس كيرلس الكبير على هذه العبارة، قائلاً: [كان من المرجَّح أن يظن الرسل المقدََّسون أنه ليس في مقدورهم إخراج هذه الوصايا من حيز الفكر إلى حيز العمل. وقد علم المسيح أفكارهم فاعتمد على غريزة محبَّة النفس حكمًا بين الناس بعضهم ببعض، فأمر كل واحد أن يعمل للآخرين ما يريد منهم أن يعملوه له. فإذا كنا نحب الآخرين أن يعاملونا بالرحمة والشفقة، كان لزامًا علينا إذن أن نعاملهم بالمثل. وقد سبق وتنبَّأ إرميا عن قيام ساعة لا يحتاج فيها المؤمنون إلى أوامر مكتوبة، لأن هذه التعاليم منقوشة على القلوب. إذ ورد: “أجعل شريعتي في داخلهم وأكتبها على قلوبهم” (إر 31: 33).]
إنه يطالبنا خلال الحب الناضج لا أن نرد معاملة إخوتنا بالمثل. وإنما أن نقدَّم لهم ما نشتهيه لأنفسنا، بغض النظر عمَّا يفعلونه معنا. إننا نحب من أجل الله، أي الحب ذاته، بكون الحب قد صار طبيعتنا. فنقدِّم الحب بلا مقابل من جهة الغير، إذ يقول:
“وإن أحببتم الذين يحبُّونكم، فأي فضل لكم؟!
فإن الخطاة أيضًا يحبُّون الذين يحبُّونهم.
وإذا أحسنتم إلى الذين يحسنون إليكم، فأي فضل لكم؟!
فإن الخطاة أيضًا يفعلون هكذا.
وإن أقرضتم الذين ترجون أن تستردُّوا منهم، فأي فضل لكم؟!
فإن الخطاة أيضًا يُقرضون الخطاة لكي يستردُّوا منهم المثل” [32-34].
كأنه يقول لهم: لا تستصعبوا وصاياي، فإنَّني أقدِّم لكم ما يليق بكم كأبناء للملكوت، فأطالبكم بحياة فاضلة فائقة للطبع البشري، لأني عامل معكم وفيكم. لهذا يكمل حديثه: “فيكون أجركم عظيمًا وتكونوا بنيّ العليّ” [35]. فالعالم حين يُحب يطلب الأجرة على الأقل مماثلة، أمَّا أنتم فأجرتكم العظيمة هي بنوَّتكم لله العليّ، التي تُلزمكم الإقتداء بأبيكم السماوي. بنفس الفكر يقول السيِّد المسيح: “فكونوا رحماء كما أن أباكم أيضًا رحيم” [36].
- ليس شيء يجعلنا مساوين لله سِوى فعل الصلاح (الرحمة).
- المسيح هو المعلِّم وأيضًا أبوه.
- لنأتِ بأنفسنا وأولادنا وكل من لنا إلى مدرسة الرحمة، وليتعلَّمها الإنسان فوق كل شيء، فالرحمة هي الإنسان… لنحسب أنفسنا كمن هم ليسوا أحياء إن كنا لا نظهر الرحمة بعد![41]
- هذا هو عمل الله… لقد خلق الله السماوات والأرض والبحر. عظيمة هي هذه الأعمال ولائقة بحكمته! لكن ليس شيء من هذه لها سلطان تجتذب الطبيعة البشريّة إليه، مثل رحمته وحبُّه للبشر[42]!
- المحبَّة (الرحمة) كما لو كانت أسمى أنواع الصناعة، وحامية لمن يمارسها. إنها عزيزة عند الله، تقف دائمًا بجواره تسأله من أجل الذين يريدونها، إن مارسناها بطريقة غير خاطئة!…
إنها تشفع حتى في الذين يبغضون، عظيم هو سلطانها حتى بالنسبة للذين يُخطئون!
إنها تحل القيود، وتبدِّد الظلمة وتُطفئ النار، وتقتل الدود، وتنزع صرير الأسنان.
تنفتح أمامها أبواب السماوات بضمانٍ عظيمٍ، وكملكة تدخل ولا يجسر أحد الحُجَّاب عند الأبواب أن يسألها من هي، بل الكل يستقبلها في الحال.
هكذا أيضًا حال الرحمة، فإنَّها بالحق هي ملكة حقيقيّة، تجعل البشر كالله. أنها مجنحة وخفيفة لها أجنحة ذهبيّة تطير بها تبهج الملائكة جدًا[43].
القدِّيس يوحنا الذهبي الفم
إن كانت الرحمة تدفعنا للتشبُّه بالله الرحيم نفسه؛ فإنَّنا إذ نطلب رحمة يلزمنا أن نرحم اِخوتنا ولا ندينهم: “ولا تدينوا فلا تدانوا، لا تقضوا على أحد، فلا يُقضى عليكم” [37].
اهتم الآباء – خاصة آباء البريّة – بالتدقيق في عدم الإدانة، فحسبوا أنه ليس شيء يغضب الله مثلها، إذ تنزع نعمته عمَّن يرتكبها ويرفع رحمته عنه حتى إذا ما ترفَّق بأخيه ينال هو النعمة الإلهيّة ومراحم الله. يرى الأب بومين والأب موسى[44] أن من يدين أخاه ينشغل بخطايا الغير لا بخطاياه، فيكون كمن يبكي على ميِّت الآخرين ويترك ميِّته. يقول الأب دوروثيؤس: [إننا نفقد القوَّة على إصلاح أنفسنا متطلِّعين على الدوام نحو أخينا]، [ليس شيء يُغضب الله أو يعرِّي الإنسان أو يدفعه لهلاكه مثل اغتيابه أخيه أو إدانته أو احتقاره… أنه لأمر خطير أن تحكم على إنسان من أجل خطيّة واحدة ارتكبها، لذلك يقول المسيح: “يا مرائي أخرج أولاً الخشبة من عينك، وحينئذ تُبصر جيِّدًا أن تُخرج القذَى الذي في عين أخيك” [42]. أنظر فإنَّه يشبِّه خطيَّة الأخ بالقذَى أما حُكمك المتهوِّر فيحسبه خشبَة. تقريبًا أصعب خطيَّة يمكن معالجتها هي إدانة أخينا!… لماذا بالحري لا ندين أنفسنا ونحكم على شرِّنا الذي نعرفه تمامًا وبدقة والذي نعطي عنه حسابًا أمام الله! لماذا نغتصب حق الله في الإدانة؟! الله وحده يدين، له أن يبرِّر وله أن يدين. هو يعرف حال كل واحد منَّا وإمكانيَّاتنا وانحرافاتنا ومواهبنا وأحوالنا واستعداداتنا. فله وحده أن يدين حسب معرفته الفريدة. أنه يدين أعمال الأسقف بطريقة، وأعمال الرئيس بطريقة أخرى. يحكم على أب دير، أو تلميذ له بطريقة مغايرة، الشخص القديم (له خبراته ومعرفته) غير طالب الرهبنة، المريض غير ذي الصحَّة السليمة. ومن يقدر أن يفهم كل هذه الأحكام سوى خالق كل شيء ومكوِّن الكل والعارف بكل الأمور؟[45]] يكمل الأب دوروثيوس حديثه عن عدم الإدانة بعرض قصَّة يتذكَّرها عن سفينة كانت تحمل عبيدًا، إذ تقدَّمت عذراء قدِّيسة إلى صاحب السفينة واِشترت فتاة صغيرة حملتها معها إلى حجرتها لتدرِّبها على الحياة التقويّة كابنة صغيرة لها، ولم يمضِ إلا قليلاً حتى جاءت فرقة للرقص، اشترت أخت هذه الفتاة الصغيرة لتدرِّبها على أعمال اللهْو والمُجون والحياة الفاسدة… هنا يقف الأب دوروثيؤس مندهشًا، أن الفتاتين قد اُغْتصِبتا من والديهما، إحداهما تتمتَّع بمخافة الله تحت قيادة قدِّيسة محبَّة وأخرى بغير إرادتها اُغْتُصبت لممارسة الحياة الفاسدة. لهذا يتساءل: أليس لله وحده أن يدين الفتاتين بطريقة يصعب علينا إدراكها؟! فنحن نتسرَّع في الحكم، أما الله فعالم بالأسرار طويل الأناة، وحده قادر أن يبرِّر أو يدين.
يعلّق القدِّيس كيرلس الكبير على كلمات السيِّد عن عدم الإدانة، قائلاً:
[بينما يطلب منَّا التعمق في فحص أنفسنا حتى ينطبق سلوكنا على أوامر الله وتعاليمه نجد البعض يشغلون أنفسهم بالتدخُّل في شئون الآخرين وأعمالهم، فإذا وقفوا على خطأ في أخلاق الغير عمدوا إلى نهش أعراضهم بألسنة حدَّاد، ولم يدروا أنهم بذم الآخرين يذمون أنفسهم، لأن بهم مساوئ ليست دون مساوئ الغير في المذلَّة والمهانة. لذلك يقول الحكيم بولس: “لذلك أنت بلا عذر أيها الإنسان كل من يدين، لأنك فيما تدين غيرك تحكم على نفسك، لأنك أنت الذي تدين تفعل تلك الأمور بعينها” (رو 2: 1). فمن الواجب علينا والحالة هذه أن نشفق على الضعيف، ذاك الذي وقع أسيرًا لشهواته الباطلة وضاقت به السُبل، فلا يمكنه التخلُّص من حبائل الشرّ والخطيّة. فلنصلِ عن مثل هؤلاء البائسين القانطين، ولنَمِدْ لهم يدْ العون والمساعدة، ولنَسعَ في ألاَّ نسقط كما سقطوا. فإنَّ “الذي يذم أخاه، ويدين أخاه، يذم الناموس ويدين الناموس” (يع 4: 11). وما ذلك إلا لأن واضع الناموس والقاضي بالناموس هو واحد، ولما كان المفروض أن قاضي النفس الشريرة يكون أرفع من هذه النفس بكثير، ولما كنا لا نستطيع أن ننتحل لأنفسنا صفة القضاة بسبب خطايانا وجب علينا أن نتنحَّى عن القيام بهذه الوظيفة، لأنه كيف ونحن خطاة نحكم على الآخرين وندينهم؟! إذن يجب ألا يدين أحد أخاه، فإن حدَّثتْك نفسك بمحاكمة الآخرين، فأعلم أن الناموس لم يُقِمك قاضيًا ومُحاكمًا، ولذلك فانتحالك هذه الوظيفة يوقِعك تحت طائلة الناموس، لأنك تنتهك حُرمته.
فكل من طاب ذهنه لا يتصيَّد معاصي الغير، ولا يشغل ذهنه بزلاَّتهم وعثراتهم، بل عليه فقط أن يتعمَّق في الوقوف على نقائصه وعيوبه. هذا كان حال المرنِّم المغبوط وهو يصف نفسه بالقول الحكيم: “إن كنت تُراقب الآثام يارب يا سيِّد، فمن يقف” (مز 130: 3)، وفي موضع آخر يكشف المرنِّم عن ضعف الإنسان ويتلمَّس له الصفح والمغفرة إذ ورد قوله: “أذكر أننا تراب نحن” (مز 103: 14).]
“لماذا تنظر القذى الذي في عين أخيك،
وأما الخشبة التي في عينك فلا تفطن لها” [41].
يكمل القدِّيس كيرلس الكبير حديثه: [سبق أن بيَّن السيِّد الخطر الذي ينجم عن نهش الآخرين بألسنة حداد فقال: “لا تدينوا لكي لا تدانوا”. والآن أتى السيِّد على أمثلة كثيرة وبراهين دافعة تحضّنا على تجنُّب إدانة الآخرين والحكم عليهم بما نشاء ونهوى، والأجدر بنا أن نفحص قلوبنا ونجرِّدها من النزعات التي تضطرم بين ضلوعنا سائلين الله أن يطهِّرنا من آثامنا وزلاَّتنا. فإنَّ السيِّد ينبهنا إلى حقيقة مُرَّة مألوفة، فيخاطبنا بالقول: كيف يمكنك نقد الآخرين والكشف عن سيئاتهم وشرورهم وفحص أسقامهم وأمراضهم وأنت شرِّير أثيم ومريض سقيم؟! وكيف يمكنك رؤيّة القذَى الذي في عين الغير وبعينك خشبَة تحجب عينك فلا ترى شيئًا؟! أنك لجريء إذا قمت بذلك، فالأولي بك أن تنزع عنك مخازيك وتطفئ جذوة عيوبك، فيمكنك الحكم بعد ذلك على الآخرين، وهم كما سترى مذنبين فيما هو دون جرائمك.
أتريد أن تنجلي بصوتك فتقف على مبلغٍ ما في اغتياب الآخرين من مقت وشرْ؟ كان السيِّد يجول يعمل خلال الحقول النضرة، فاقتطف تلاميذه المبارَكون سنابل القمح وفركوها بأيديهم، ثم أكلوا ثمارها طعامًا شهيًا لذيذًا، وسرعان ما وقع نظر الفريسيِّين على التلاميذ إلا واقتربوا من السيِّد وخاطبوه بالقول: أنظر كيف أن تلاميذك يعملون في السبت ما ليس بمحلَّل مشروع. نطق الفرِّيسيُّون بهذا القول وهم الذين عبثوا بحُرْمَة القدس وتعدُّوا على وصاياه وأوامره على حد نبوَّة إشعياء عنهم: “كيف صارت القرية الآمنة زانية؟! ملآنة حقًا كان العدل يبيت فيها، وأما الآن فالقاتلون، صارت فضتك زغْلاً، وخمرك مغشوشة بماء، رؤساؤك متمرِّدون ولُغفاء اللصوص، كل واحد منهم يحب الرشوة ويتبع العطايا، لا يقضون لليتيم ودعوى الأرملة لا تصل إليهم” (إش 1: 21-22).
رغمًا عن هذه المُنكرات المُخزيات التي ارتكبها هؤلاء الناس تمادوا في خِزيهم ومكرهم ودسُّوا لتلاميذ السيِّد المباركين، واتَّهموهم بالتعدِّي على يوم السبت المقدَّس. إلا أن المسيح ردَّ خِزيهم إذ أجابهم بالقول: “ويلٌ لكم أيها الكتبة والفرِّيسيُّون المراءون، لأنكم تعشِّرون النعنع والشبت والكمُّون، وتركتم أثقل الناموس الحق والرحمة والإيمان، أيها القادة العميان الذين يُصفُّون عن البعوضة ويبلعون الجمل” (مت 23: 23-24).
كان الفرِّيسي كما ترى مرائيًا غادرًا يحاسب الناس على التعدِّيات الواهية، بينما يسمح لنفسه بارتكاب أشد المخازي نكرانًا، وأعظم الشرور فُجورًا، فلا غرابة أن دعاهم المخلِّص: “قبورًا مبيضَّة تَظهر من خارج جميلة، وهي من داخل مملوءة عظام أموات وكل نجاسة” (مت 23: 27). هذا هو شأن المرائي وهو يدين الآخرين ويرميهم بأشنع المساوئ والعيوب وهو عن نفسه أعمى، إذ لا ينظر شيئًا، لأن الخشبة في عينيه تحجب الضوء عنه.
إذن يجب أن نعني بفحص أنفسنا قبل الجلوس على منصَّة القضاء للحكم على غيرنا، خصوصًا إن كنَّا في وظيفة المُرشد والمعلِّم، لأنه إذا كان المُربِّي نقي الصفحة طاهر الذيل، تزيِّنه نعمة الوقار والرزانة، وليس على معرفة بالفضائل السامية فحسب بل يعمل بها ويسلك بموجبها، فإنَّ مثل هذا الإنسان يصح له أن يكون نموذجًا صالحًا يُحتذى به، وله عند ذلك حق الحكم على الآخرين إذا حادوا عن جادة الحق والاستقامة، أما إذا كان المُرشد مهمِلاً ومرذولاً فليس له أن يدين غيره، لأن به نفس النقص والضعف الذي يراه في الآخرين. كذلك ينصحنا الرسل المغبوطون بالقول: “لا تكونوا معلِّمين كثيرين يا إخوتي، عالمين أننا نأخذ دينونة أعظم” (يع 3: 1). ويقول المسيح وهو يكلِّل هامات الأبرار بالتيجان المقدَّسة، ويعاقب الخطاة بشتَّى التأديبات: “فمن نقض إحدى هذه الوصايا الصغرى وعلَّم الناس هكذا، يُدعَى أصغر في ملكوت السماوات، وأما من عمِل وعلَّم فهذا يُدعَى عظيمًا في ملكوت السماوات” (مت 5: 19)[46].]
يقول أيضًا الأب مار إسحق السرياني: [حينما تمتلئ النفس من ثمار الروح، تقوى تمامًا على الكآبة والضيق… وتفتح في قلبها باب الحب لسائر الناس… تطرد كل فكر يوَسْوس لها بأن هذا صالح وذاك شرِّير، هذا بار وذاك خاطئ. تُرتب حواسِها الداخليّة، وتصالحها مع القلب والضمير، لئلا يتحرَّك واحد منها بالغضب أو بالغيرة على واحد من أفراد الخليقة. أما النفس العاقرة الخالية من ثمار الروح، فهي لابسة الحقد على الدوام والغيظ والضيق والكآبة والضجر والاضطراب، وتدين على الدوام قريبها بجيِّد ورديء.]
وأيضًا من الكلمات المأثورة في عدم إدانة الآخرين:
- إيَّاك أن تعيب أحدًا من الناس لئلاَّ يبغض الله صلاتك.
القدِّيس أنبا أنطونيوس الكبير
- الذي يدين، فقد هدم سوره بنقص معرفته.
القدِّيس أنبا موسى الأسود
- الإنسان الذي يطلق لسانه على الناس بكل جيِّد ورديء لن يؤهَّل للنعمة من الله.
الأب مار إسحق السرياني
- لا تدن أحدًا، ولا تقع بإنسان، والله يهب لك الهدوء والنِياح في القلاّية.
الأنبا بيمن
- قيل أخطأ أحد الاخوة فطُرد، فقام الأب بيصاريون، وخرج معه، وهو يقول: “وأنا أيضًا خاطئ”.
القدِّيس بالاديوس
- إذا اِنشغلتَ عن خطاياك، سقطتَ في خطايا أخيك.
الأنبا إشعياء
- (في قصة المرأة الزانية): يسوع قد دان الخطيّة لا الإنسان.
القدِّيس أغسطينوس
حدَّثنا السيِّد المسيح صديقنا السماوي عن الحب، مترجمًا عمليًا خلال العطاء، والستر على ضعفات الآخرين، بهذا يقدِّم لنا مفتاح الدخول إلى حضرة الله للتمتُّع بحبِّه، وكأن هذا يسلِّمنا مفتاح خزانته الإلهيّة، إذ يقول: “اغفروا يُغفر لكم، اعطوا تُعطوا” [37]. وقد دعا القدِّيس أغسطينوس هذين العمليْن: السَتْر على الآخرين، والعطاء جناحي الصلاة، يرفعانها إلى العرش الإلهي بلا عائق. فمن كلماته: [البِرْ الأول يمارس في القلب عندما تغفرون لأخيكم عن أخطائه، والآخر يُمارس في الخارج عندما تعطون الفقير خبزًا. قدِّموا البِرِّين معًا، فبدون أحد هذين الجناحين تبقى صلواتكم بلا حركة[47]]، [إن أردتم أن يُستجاب لكم عندما تطلبون المغفرة: اغفروا يُغفر لكم، اِعطوا تُعطوا[48].]
أخيرًا أكَّد السيِّد المسيح أنه في تقديم وصاياه عن المحبَّة يطلب تغيير القلب في الداخل، يطلب في المؤمن أن يكون شجرة صالحة ليأتي بالثمر الصالح، إذ يقول:
“لأنه ما من شجرة جيِّدة تُثمر ثمرًا رديًا،
ولا شجرة رديَّة تثمر ثمرًا جيِّدًا.
لأن كل شجرة تُعرف من ثمرها،
فإنَّهم لا يجتنون من الشوكِ تينًا،
ولا يقطِفون من العُلِّيق عنبًا.
الإنسان الصالح من كِنز قلبه الصالح يُخرج الصلاح،
والإنسان الشرِّير من كنز قلبه الشرِّير.
فإنَّه من فضلة القلب يتكلَّم فمه” [43-45].
اعتمد أتباع فالنتينوس على هذه العبارات وما شابهها ليُعلنوا اختلاف طبائع النفوس، إذ في نظرهم توجد نفوس صالحة بطبيعتها لا يمكن أن تفسد، وتوجد نفوس شرِّيرة بطبيعتها لا يمكن إصلاحها، الأولي هي الشجرة الصالحة التي تُثمر صلاحًا، والأخرى هي الشجرة الرديئة التي تُنتج رديًا. وقد انبَرى كثير من الآباء يفنِّدون هذا الفكر مؤكِّدين حرِّيَّة إرادة الإنسان وإمكانيَّتِه في المسيح يسوع إصلاح حياته… فإن كان شجرة رديئة تبقى تعطي ثمرًا رديًا حتى تتحوّل إلى شجرة جيدة في الرب. هذا ما أكَّده القدِّيس أغسطينوس في عظاته المنتخبة على العهد الجديد.
في القرن الثاني الميلادي يقول العلامة ترتليان: [لا يمكن أن تكون هذه النصوص من الكتاب المقدَّس غير متَّفقة مع الحق، فإنَّ الشجرة الرديئة لن تقدِّم ثمارًا صالحة ما لم تُطعم فيها الطبيعة الصالحة، ولا الشجرة الصالحة تُنتج ثمارًا شريرة ما لم تفسد. فإنَّه حتى الحجارة يمكن أن تصير أولادًا لإبراهيم إن تهذَّبت بإيمان إبراهيم، وأولاد الأفاعي يمكنهم أن يقدِّموا ثمارًا للتوبة إن جحدوا طبيعتهم المخادعة. هذه هي قوَّة نعمة الله التي هي بالحق أكثر فاعليَّة من الطبيعة ذاتها[49].]
لو أن الطبيعة البشريّة مسيَّرة تلتزم بالخير أو الشرّ بغير إرادتها، وليس هناك من رجاء في التغيير لما كان السيِّد المسيح يحثُّنا: “اجعلوا الشجرة جيدة”، ولما كان الحديث في ذاته ذا نفع. فالرب يتحدَّث معنا لكي نقبل عمله فينا، فيكون تنفيذ وصاياه لا خلال السلوك الخارجي وحده، وإنما تغيير طبيعتنا القديمة، إذ يقول: “الإنسان الصالح من كنز قلبه الصالح يخرج صلاحًا”.
ج. الحاجة إلى البناء على الصخر
يعود فيؤكِّد السيِّد المسيح غاية وصاياه أن تكون ثمرًا طبيعيًا للقلب الجديد الذي يتأسَّس عليه، إذ شبَّه حياتنا ببناء يليق أن يُقام على السيِّد المسيح “صخر الدهور” فلا تستطيع زوابع الأحداث أن تهدِمه.
إيماننا بالمسيح هو الصخرة الداخليّة، خلاله نتقبَّل السيِّد المسيح نفسه كسِرْ قوَّتنا، يعمل فينا بروحه القدِّوس ليرفعنا إلى حضن أبيه. أما من لا يتأسَّس على “الصخرة الحقيقيّة” فيهتز بناؤه يمينًا وشمالاً بتيَّارات عدوْ الخير المتقلِّبة، الذي لا يهدأ حتى يحطِّمه تمامًا.
[1] Jerome Biblica Comm. p 135.
[2] راجع الأعياد والأصوام عند اليهود في كتابنا: سفر اللاويين, 1984م, ص227- 229.
[3] للمؤلف: الإنجيل بحسب متّى, 1983م,ص270.
[4] In Luc 6:1-6.
[5] عظة 22 ترجمة المرحوم كامل جرجس.
[6] عظة 22.
[7] عظة 23.
[8] In Luc 6:12-49. ترجمة مدام عايدة حنا.
[9] City of God 18:49.
[10] عظة 28.
[11] In Luc 6:20.
[12] دير السيدة العذراء- السريان: الآباء الحاذقون فى العبادة، ح 2، 1952م، ص 184-185.
[13] In Matt. hom 47:4.
[14] Strom. 4:5:26.
[15] Paed. 2:57:56.
[16] In Luc Ser 28.
[17] Conc. Virgins 3:5; Conc. Widows 6.
[18] Comm. on Eccles. ch 3.
[19] On Ps. hom 16, 18, 39.
[20] In Jer. hom 3:49; In Luc. hom 18.
[21] PG 49:829 D.
[22] In Is. 26:10.
[23] Short Rules 31.
[24] PG 31:257 D.
[25] In Ep. Ad Phil 3:4.
[26] الآباء الحاذقون 2: 186.
[27] In Ps. Hom 1.
[28] عظة 28.
[29] المطران ابيفانيوس: الآمالى الذهبية من مقالات لأبينا الجليل فى القديسين يوحنا الذهبى الفم، 1972م، ص47، 48.
[30] In Ep. Ad Rom.
[31] In Luc 6:24.
[32] عظة 32.
[33] In Ioan tr 87:4.
[34] الآباء الحاذقون 199,198: 2.
[35] On Rancor.
[36] Ep 138:12.
[37] Apol. 1:16.
[38] Ep. Of Bern. 19.
[39] Who is the rich man that shall be saved 31.
[40] Enchiridion 78.
[41] In Matt. hom 35:6; 49:4; 52:5.
[42] In 2 Tim. hom 6.
[43] In Heb. hom 32:7.
[44] PG 65:320 D; 65:289.
[45] On Refusal to judge…
[46] عظة 32، 33.
[47] Ser. On N.T. 8:10.
[48] Ser. On N.T. 10:12.
[49] On the Soul 22.