تفسير انجيل لوقا 4 الأصحاح الرابع – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير انجيل لوقا 4 الأصحاح الرابع – القمص تادرس يعقوب ملطي
الباب الثاني
صديقنا جُرِّب مثلنا
ص4
الأصحاح الرابع
صديقنا يُجُرِّب مثلنا
تمثل الأصحاحات الثلاثة السابقة “سفر التكوين الجديد”، إذ حلَّ كلمة الله المتجسِّد في أحشاء البتول كجنين، ثم صار طفلاً فصبيًا يبارِك الطفولة بحلوله في وسط الأطفال، ويهب حِلقة جديدة للبشريَّة فيه. والأصحاح الرابع يمثِّل سفر الخروج الجديد، فلا ينطلق بالشعب إلى البرِّيَّة 40 عامًا، إنما يدخل بنفسه إليها ليُجُرَّب واهبًا النصرة لشعبه فيه. في القديم تعثَّر الشعب، وهلك في البرِّيَّة بسبب السقطات المستمرَّة، أما الآن، فقدَّم لنا بتجُرَّبته قوَّة وخلاصًا.
- التجربة في البرِّيَّة 1-13.
- يسوع في الجليل 14-15.
- يسوع المرفوض من خاصَّته 16-30.
- يسوع العامل بسلطان 31-37.
- شفاء حماة بطرس 38-41.
- كرازته في مجامع الجليل 42-44.
- التجربة في البرِّيَّة
في الأصحاحات الثلاثة السابقة رأينا صديقنا السماوي ينزل إلينا يشاركنا كل شيء، صار جنينًا في الأحشاء مثلنا، وخضع للناموس، وإنطلق مع الجموع إلى المعموديَّة، وإذ ليس له خطيَّة يعترف بها، حملنا فيه خليقة جديدة تتمتَّع بالبنوَّة للآب، وتحمل فيها روحه القدُّوس. فما أُعلن في نهر الأردن من أمجاد كان لحسابنا وباسمنا، فيه استرددنا طبيعتنا الأولى الصالحة، وصار لنا حق التمتَّع بالفردوس المفقود واللقاء مع الآب في دالة البنوَّة. الآن إذ صار مثلنا أكَّد هذه الصداقة على صعيد العمل، فانطلق بالروح إلى البرِّيَّة يُجُرَّب أربعين يومًا. عوض البرِّيَّة التي انطلق إليها إسرائيل يحمل روح التذمر المستمر، حملنا هو في جسده إلى البرِّيَّة بطبيعته الغالبة والمنتصرة.
- تعالوا نسبِّح للرب، ونرتِّل أناشيد الفرح لله مخلِّصنا، ولِندُس الشيطان تحت أقدامنا، ونهلِّل بسقوطه في المذلَّة والمهانة. لنخاطبه بعبارة إرميا النبي: “كيف قُطعتْ وتحطَّمتْ مطرقة كل الأرض… قد وُجدت وأُمسكت لأنك قد خاصمت الرب” (إر 50: 23-24).
منذ قديم الزمان وقبل مجيء المسيح مخلِّص العالم أجمع والشيطان عدوُّنا الكبير يفكِّر إثمًا وينضح شرًا، ويشمخ بأنفه على ضعف الجبلة البشريَّة، صارخًا “أصابت يدي ثروة الشعوب كعشٍ، وكما يُجمع بيض مهجور جمعت أنا كل الأرض ولم يكن مرفرف جناح ولا فاتح فم ولا مصفِّف” (إش 10: 14).
والحق يُقال لم يجرؤ أحد على مقاومة إبليس، إلا الابن يسوع المسيح الذي سكن المغارة، كافحه كفاحًا شديدًا وهو على صورتنا، ولذلك انتصرت الطبيعة البشريَّة… في يسوع المسيح، ونالت إكليل الظفر والغلبة، ومنذ القِدم يخاطب الابن على لسان أنبيائه عدوُّنا اللدود إبليس بالقول المشهور: “هأنذا عليك أيها الجبل المُهلك، (يقول الرب) المُهلك كل الأرض” (إر 51: 25).
والآن تعالوا معي لنرى كيف يصف الإنجيلي المغبوط يسوع المسيح وهو يقاتل بالنيابة عنَّا مهلك الأرض بأسرها. “أما يسوع فرجع من الأردن ممتلئًا من الروح القدس” (لو 4: 1).
انظروا طبيعة الإنسان في المسيح وقد دهنتها نعمة الروح القدس، وتوَّجتها بالإجلال والإكرام، فإن الله سبق أن وعد قائلاً: “إنّي أسكب روحي على كل بشر” (يوئيل 2: 28). وقد تمَّت هذه النبوَّة لأول مرَّة في يسوع المسيح، لأن الله لم يهب روحه للناس قديمًا، وكانوا ضعاف العقول صغار النفوس، فقد ورد: “لا يدين روحي في الإنسان لزيغانه، وهو بشر” (تك 6: 3). ولكن في المسيح وُجدت خليقة جديدة تقدَّست بالماء والروح، فلم نصبح أولاد لحم ودم، بل أبناء الله الآب، فلنا الآن نعمة التبنِّي، وبهذا العطف الأبوي صرنا شركاء في الطبيعة الإلهيَّة.
فلم يكن بمستغربٍ إذن أن يكون بِكْرنا أول من يتسلَّم الروح القدس، مع أنه هو مانح الروح القدس حتى يهبه لنا نحن إخوته الأعزَّاء. وأشار إلى ذلك بولس الرسول بالقول: “لأن المقدَّس والمقدَّسين جميعهم من واحد، فلهذا السبب لا يستحي أن يدعوهم إخوة قائلاً: “أُخبر باسمك إخوتي” (عب 2: 12).
لذلك يصف الإنجيلي المسيح: “رجع من الأردن ممتلئًا من الروح القدس” (لو 4: 1) وأرجو ألا تنحرفوا عن جادة الحق ولا يُسيئكم القول بأن المسيح الكلمة تقدَّس، بل فكَّروا بالأولى في حكمة الفداء والخلاص، فإن المسيح تأنَّس وتجسَّد لا حبًا في تجنُّب ما اِختصَّ به الإنسان، بل شاركنا في إنسانيَّتنا حتى يزيدنا من غناه، ويشرِّفنا بعظمة مكانته فإن المسيح شاركنا في كل شيء ما عدا الخطيَّة.
القدِّيس كيرلس الكبير
- كان هدف ربَّنا يسوع المسيح في صومه وخلوته هو شفاؤنا من جاذبيَّة الشهوة، فلأجل الجميع قبِل أن يُجُرَّب من إبليس لنعرف كيف ننتصر نحن فيه.
- جاء الرب ليعتمد لأنه صار للكل كل شيء (1 كو 9: 20). خضع للناموس لأجل الذين هم تحت الناموس، فاختتن ليكسب الذين تحت الناموس، وشارك الذين بلا ناموس في أكلهم ليربح الذين بلا ناموس. صار للضعفاء كضعيفٍ بالآلام التي تحمَّلها في جسده ليربحهم (2 كو 8: 9). فرحًا مع الفرحين، بكاءً مع الباكين (رو 12: 15)، جاع مع الجياع… كريمًا مع الأغنياء وسجينًا مع الفقير (إش 26: 20)، عطش مع السامريَّة (يو 4: 7)، وجاع في البرِّيَّة (مت 4: 6) ليُكفِّر بصومه عن سقوط آدم الأول الذي سبَّبه شهوة الطعام والتلذُّذ به، فشبع آدم من معرفة الخير والشر لضررنا، وجاع المسيح لفائدتنا.
القدِّيس أمبروسيوس
“وكان يُقتاد بالروح في البرِّيَّة،
أربعين يومًا يجُرَّب من إبليس،
ولم يأكل شيئًا في تلك الأيام،
ولما تمَّت جاع أخيرًا” [1-2].
- سكن المسيح البرِّيَّة بالروح، أي روحيًا، وصام فلم يهب الجسم حاجاته الضروريَّة. قد يسأل أحدكم: وأي ضرر ينشأ إن سكن المسيح المدن على الدوام؟ وكيف اِستفاد المسيح من عيشته في البرِّيَّة، وهو لم يكن في حاجة إلى صلاح؟ ولمَ صام المسيح مع أنه لم يكن في حاجة إلى الصوم؟ فقد وُضعت هذه الفريضة لقتل اللذَّات والشهوات وإخضاع ناموس الخطيَّة الذي في داخلنا والمتملُّك على مختلف الانفعالات التي تبعث فينا شهوة الجسد الدنيئة؟ فهل كان المسيح في حاجة إلى الصوم، وهو الذي به قَتل الآب الخطيَّة في الجسد، حتى أن بولس الرسول الحكيم يقول: “لأنه ما كان الناموس عاجزًا عنه فيما كان ضعيفًا بالجسد، فالله إذ أرسل ابنه في شبه جسد الخطيَّة، ولأجل الخطيَّة دان الخطيَّة في الجسد، لكي يتم حكم الناموس فينا، نحن السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح” (رو 8: 3)؟
فالمسيح إذن دان الخطيَّة في الجسد ومحا الإثم الذي تمَلَّك الطبيعة البشريَّة رِدحًا من الزمن؟ مارس المسيح الصوم وهو مقدَّس ونقي بطبيعته لا عيب فيه ولا نقص ولا تغيير ولا ظل دوران! لمَ صام المسيح فاعتزل عيشة المدن وسكن البرِّيَّة وتحمَّل تعب الصوم؟ أن هذا العمل العظيم الذي قام به المسيح هو لتعليمنا يا أحبائي. فقد رسم لنا المسيح الخُطَّة التي يجب علينا انتهاجها، ومهَّد لنا طريقًا قويمًا نسير عليه، هذا الطريق الذي يسير فيه جماعة الرهبان المقدَّسين؟ وإلا كيف كان الناس يعشقون عيشة البراري، ويستفيدون من حياة العُزلة والانفراد ويرون فيها خلاصًا لنفوسهم وسلامًا لأرواحهم؟ إن جماعة الرهبان يهجرون العالم ليبتعدوا عن أمواجه الهائجة وعواصفه الثائرة، ويحرَّروا نفوسهم من الفوضى والاضطراب والغرور والشهوات، أو كما قال يوسف المغبوط يخلع الناس عنهم ما عليهم ليقدِّموا للعالم مقتنياته وممتلكاته. ويشير بولس الرسول إلى أولئك الذين تعوَّدوا العيشة مع المسيح: “ولكن الذين هم للمسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات” (غل 5: 24). ويُضيف إلى ذلك قوله بأن عيشة الزهد لابد منها، وأن ثمار هذه العيشة الصوم والتحمُّل ونبذ الأطعمة قليلاً أو كثيرًا فإنه بذلك يمكن قهر الشيطان، ولكن لاحظوا أن المسيح عُمِّد أولاً ثم امتلأ بالروح القدس، وبعد ذلك سكن البرِّيَّة واتَّخذ الصوم سلاحًا له في محاربة إبليس وجنوده، وكل هذا لتعليمنا، حتى ننسج على منواله، ونحتذي منهجه، فعليكم بادئ ذي بدء أن تلبسوا خوذة الله، وتتمنطقوا بدِرع الإيمان، وتتمسَّكوا بصولجان الخلاص. يجب في بداية الأمر أن تُمنحوا قوَّة من الأعالي، وذلك عن طريق العماد المقدَّس، فيمكنكم بهذه أن تسلكوا حياة شريفة مع الله العظيم، ثم بشجاعة روحيَّة تعتزلون الناس للسكن في البراري، ثم تصومون صومًا مقدَّسا، فتقمعون أهواء الجسم، وتهزمون إبليس إذا ما أراد تجريبكم، ففي المسيح إذن نجد كل سلاح نتقوَّى به.
نعم يظهر المسيح بين المقاتلين فيَمنح الجائزة ويتوِّج المنتصرين بإكليل الفوز والغلبة. والآن فلنتأمَّل مصارعات المسيح مع إبليس؟ “صام أربعين يومًا، وجاع أخيرًا“.
كيف يجوع المسيح وهو الذي يُشبعنا من دسم نعمته؟ أليس المسيح هو الخبز السماوي الذي نزل من السماء حتى لا يجوع من يتغذى منه؟ صام المسيح “وجاع” لأنه قَبِلَ أن يكون مثلنا، فكان لابد أن يتحمَّل ما يجب أن يتحمَّله إنسان بشري.
القدِّيس كيرلس الكبير
- [يقدِّم لنا مقارنة بين تجرِبة آدم في الفردوس، وتجرِبة آدم الثاني في البرِّيَّة] لنتأمَّل كيف طُرد آدم الأول من الفردوس، ولنعرف كيف رجع آدم الثاني من البرِّيَّة إلى الفردوس، ولنتأمَّل أيضًا كيف تمَّ الإصلاح وبأي ترتيب حدث. وُلد آدم من أرض بكر، ووُلد المسيح من العذراء (البكر)، خُلق آدم على صورة الله، أما المسيح فهو صورة الله (الجوهريَّة). كان للأول سلطان على كل الحيوانات غير العاقلة، أما الثاني فله سلطان على كل شيء.
اتَّصفَت حواء بالتردُّد، واتَّصفت العذراء بالحكمة.
جاءت الشجرة بالموت، وجاء الصليب بالحياة.
كان الأول في الفردوس، أما المسيح فكان في البرِّيَّة، لكنه جاء ليبدِّد ضلال المحكوم عليه ويردُّه للفردوس…
لم يكن ممكنًا أن يتراجع الله عن حُكمه، فتمَّ حُكم الموت في واحد عوض الآخر.
إن كان آدم قد سقط وهو في الفردوس لعدم وجود الراعي، فكيف كان يمكنه أن يجد الطريق وهو في البرِّيَّة بلا راعٍ يقوده؟ ففي البرِّيَّة تكثر التجارب… ويسهل الانحدار نحو الخطيَّة…
أي راع يستطيع أن يعيننا أمام فِخاخ هذه الحياة وخِداعات إبليس “لكي نجاهد ليس ضد لحم ودم، بل ضد الرؤساء والسلاطين وأجناد الشر الروحيَّة في الهواء” (أف 6: 11)؟! هل يُرسل الله ملاكًا وقد سقط بعض الملائكة؟!… هل يرسل ساروفًا، هذا الذي نزل على الأرض وسط شعب نجِس الشِفتين (إش 6: 6)، لم يُطهِّر سوى شَفتيّ نبي واحد بجمرَّة من نار؟! إذن كان يلزم البحث عن راعٍ آخر نتبعه جميعنا؛ فمن هو هذا الراعي العظيم الذي يستطيع أن يهيئ الخير للجميع إلا ذاك الذي هو أعلى من الكل؟! من يرفعني فوق هذا العالم إلا مَن هو فوق العالم؟! من هو هذا الراعي العظيم الذي يستطيع بقيادة واحدة يرعى الرجل والمرأة، اليهودي واليوناني، أهل الختان وأهل الغُرلة، البربري والسكِّيثي (كو 3: 11)، العبد والحر، إلا ذاك الذي هو الكل في الكل؟!
الفخاخ كثيرة أينما ذهبنا، فخاخ الجسد، وفخاخ الناموس (حرفيَّته)، والفخاخ التي ينصبها إبليس على جناح الهيكل وعلى قمَّة الجبل، وفخاخ الفلسفات، وفِخاخ الشهوات، لأن العين الزانية هي فخْ الخاطئ (أم 7: 22)، وفِخاخ محبَّة العالم، وفِخاخ التديُّن (الرياء)، وفِخاخ في حياة الطهارة (احتقار سرّ الزواج)… غير أن أفضل طريقة تحطِّم هذه الفِخاخ هو عرض طُعم لإبليس لينقَضْ على فريسته فينطبق الفخْ عليه، عندئذ نستطيع أن نردِّد: “نصبوا لرجلي فخاخًا فسقطوا فيها” (مز 56: 7). ما هذا الطُعم إلا الجسد… فقد أخذ الرب جسد تواضعنا وضعفنا، ليُعطي فرصة للعدو أن يحاربه فينهزم العدو إبليس…
الآن المسيح في البرِّيَّة يقود الإنسان ويعلِّمه ويشكِّله ويدرِّبه ويدهنه بالمسحة المقدَّسة، وعندما يراه قويًا يقوده إلى المراعي الخضراء المخصبة… أخيرًا يقوده إلى البستان أثناء الآلام، كما هو مكتوب: “تكلَّم يسوع بهذا ثم خرج مع تلاميذه إلى جبل الزيتون، حيث كان بستان دخله مع تلاميذه” (يو 18: 1)… أخيرًا فإن إرجاع الإنسان بقوَّة الرب تؤكِّد لنا هذه الحقيقة التي أبرزها القدّيس لوقا بين كل البشريِّين، بتلك الكلمات التي قالها الرب للِّص: “أنك اليوم تكون معي في الفردوس” (لو 23: 44).
- رجع يسوع ممتلئًا من الروح القدس إلى البرِّيَّة يتحدَّى إبليس، فلو لم يجُرِّبه إبليس لما اِنتصر الرب لأجلي بطريقة سِرِّيَّة، محرِّرا آدم من السبي.
القدِّيس أمبروسيوس
- “لقد أُصعد يسوع إلى البرِّيَّة من الروح”، بلا شك من الروح القدس، ليس كمن هو مُلزم أو من هو أسير، إنما اُقتيد باشتياق إلى المعركة ليُصارع[1].
القدِّيس جيروم
- يسوع قائدنا سمح لنفسه بالتجربة حتى يُعلِّم أولاده كيف يحاربون[2].
القدِّيس أغسطينوس
أ. تجربة الخبز
إذ دخل السيِّد المسيح المعركة نيابة عنا، ليغلب باسمنا ولحسابنا، بدأت التجارب بتجربة الخبز، فقد طلب الشيطان من السيِّد المسيح أن يحول الحجر إلى خبز ليأكله في جوعه. من جانب فإن هذه التجربة تقابل تجربة آدم الأول الذي سقط في العصيان خلال الأكل من شجرة معرفة الخير والشر. فجاء السيِّد صائمًا يقاوم العدُو ويغلبه رافضًا السماع له رغم إمكانيَّته من تحويل الحجر إلى خبز، كما حوّل الماء إلى خمر في عرس قانا الجليل. ومن جانب آخر فإن هذه التجربة سمح بها الرب ليُعلن أُبوَّة الشيطان المخادعة للخطاة، فإن الآب الحقيقي لا يقدِّم حجرًا إن طلب منه ابنه خبزًا كقول السيِّد المسيح (لو 11: 11)، أما هذا العدو فيقدِّم حجرًا عوض الخبز ليأكله الإنسان، فيحمل في أحشائه حجرًا قاسيًا!
ليتنا نرفض كل حجر يقدِّمه العدو فلا نأكله كخبز لننمو قساة القلب بلا حب ولا حنو!
يرى العلامة أوريجينوس أن الحجر الذي يقدِّمه العدو هو الهرطقات التي يقدِّمها العدُو كخبزٍ غاشٍ، فنظنَّها كلمة الله المشبعة.
“وقال له إبليس:
إن كنتَ ابن الله فقل لهذا الحجر أن يصير خبزًا.
فأجابه يسوع، قائلاً:
“مكتوب أن ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان،
بل بكل كلمة تخرج من فم الله” [3-4].
- قفز إبليس إلى حيث كان المسيح، ونظر إلى الحجر وخاطب المسيح، قائلاً: “إن كنت ابن الله، فقلْ لهذا الحجر أن يصير خبزًا” (لو 4: 3). ترون أن إبليس يدنو من المسيح كإنسانٍ، كأحد القدِّيسين، ومع ذلك يرتاب في المسيح. لكن كيف سعى الشيطان ليتحقَّق من لاهوت المسيح؟ كان يعلم أنه لا يمكن تغيير طبيعة المادة إلى طبيعة أخرى تغايرها في الجوهر إلا بقوَّة إلهيَّة، فإما المسيح يُغيِّر المادة فيرتبك إبليس في أمره، أو يعجز عن القيام بهذا العمل، فيُسَر الشيطان لأنه لم يجد أمامه سوى إنسانًا ضعيفًا يمكن مقاومته.
علم السيِّد المسيح ما كان يجول بخُلد إبليس، فلم يغيِّر الخبز ولم يعلن عجزه عن تغييره. اِنتهر المسيح الشيطان بالقول: “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان” (لو 4: 5). ومعنى ذلك أنه إذا منح الله الإنسان القوَّة أمكنه أن يحيا بدون أكل، وعاش كما عاش موسى وإيليَّا بقوَّة أربعين يومًا ولم يذوقا شيئًا، فإذًا استطاع المسيح أن يعيش بدون طعام، فلم يحوِّل الحجر خبزًا إلا أن المسيح لم يقل قط أنه “لا يستطيع ذلك” حتى لا يتطرَّق الشك بأنه إنسان لا إله، ولم يقل أستطيع ذلك لئلا يتركه الشيطان وشأنه، وكان المسيح يريد تعليمنا دروسًا أخرى.
لاحظوا يا أحبائي كيف أن طبيعة المسيح نبذَت شراهة آدم ونهمه، فبأكل آدم غُلبنا، وبزهد المسيح انتصرنا.
الجسم يأكل ما تُخرجه الأرض من دسم، أما النفس العاقلة فطعامها كلمة الله الخالدة. فإن الخبز الذي تجود به الأرض يُغذي جسمًا عناصره هي عناصر الخبز الأرضي، أما الخبز السماوي الذي يبعث به الله من فوق يُغذِّي النفس الباقية. هذا هو الخبز السماوي الذي يتغذَّى به جمهور الملائكة.
القدِّيس كيرلس الكبير
- ينكشف لنا من هذه التجربة أن لإبليس ثلاثة سهام اعتاد أن يستخدمها ليجْرح قلب الإنسان: شهوة الأكل، المجد الباطل، الطمع! (يبدأ من حيث اِنتصر إبليس) هكذا تبدأ نُصرتي في المسيح من حيث غلبني إبليس في آدم…
يقول: “إن كنتَ ابن الله“، فقد كان إبليس يعلم تمامًا أنه ينبغي أن يأتي ابن الله، لكنه لم يكن يعتقد أنه يأتي في ضعف، لهذا أراد أن يتأكَّد ثم يُجرِّبه بعد ذلك…
انظروا أسلحة المسيح التي بها اِنتصر من أجلكم وليس لأجل نفسه، فإنه قادر أن يحوِّل العناصر (كما في عرس قانا الجليل)، لكنه يعلِّمنا ألا نطيع إبليس في شيء، ولا لإظهار قوَّتَك. لنعرف أيضًا من هذه التجربة مهارة إبليس الخادعة فهو يجُرِّب ليتأكَّد من الحقيقة ليخترق الإنسان ويُجرِّبه… ولم يستخدم الرب سلطانه كإله وإلا فإننا لم نكن نجني فائدة، إنما استخدم الإمكانيَّة العامة وهي استخدام كلام الله.
القدِّيس أمبروسيوس
- قل لهذا “الحجر“، أي حجر هو هذا؟ بلا شك الحجر الذي كان إبليس يريه إيّاه طالبًا أن يحوِّله إلى خبز. إذن ما هي التجربة؟…
الشيطان العدو المخادع يقدِّم حجرًا عوض الخبز (لو 11: 11). هذا ما يريده الشيطان أن يتحوَّل الحجر إلى خبز، فينمو الناس لا على الخبز، وإنما على الحجر الذي يُريه الشيطان على شكل خبز. وإنني اعتقد أن الشيطان لا يزال يُرينا الحجر ويقول لكل أحد: “قل لهذا الحجر أن يصير خبزًا…” فإن رأيت الهراطقة يأكلون تعاليمهم الكاذبة كخبزٍ، فاِعلم أن مناقشاتهم وتعاليمهم هي الحجر الذي يُظهره الشيطان لنأكله كخبز…
لنسهر إذن ولا نأكل حجارة الشيطان ظانِّين أننا ننمو بخبز الرب[3]…
العلامة أوريجينوس
- يخضع الجسد لتجربة الجوع لتُعطى فرصة لإبليس كي يجُرِّبه[4].
القدِّيس جيروم
- تأكَّد تمامًا أن العدو يهاجم القلب عن طريق امتلاء البطن.
الأب يوحنا من كرونستادت
ب. تجربة الصليب
في التجربة السابقة أراد إبليس أن يقدِّم للسيِّد الحجر خبزًا، لكن السيِّد رفض تحويل الحجر خبزًا، مقدَّما نفسه “الخبز الحيّ النازل من السماء” شبعًا لمؤمنيه. والآن إذ كان إبليس يعلم أن المسّيا القادم يملك إلى الأبد خلال الصليب والألم. أراه ممالك العالم ليملُك، لكن ليس خلال الصليب، وإنما خلال الطريق السهل والباب الواسع وهو “السجود لإبليس نفسه”. رفض المسيح بهذا الطريق الواسع الرحب بقوَّة، فتح لنا الباب لنملُك نحن أيضًا معه خلال آلامه لا خلال الشر.
- يريد ابن الله كما ضد المسيح أن يملُكا، لكن ضد المسيح يريد أن يملك ليُهلك من له، أما المسيح فيملُك ليخلِّص (بالصليب). فمن كان فينا أمينًا يملُك المسيح عليه بكلمته وبالحكمة والعدل والحق؛ أما إذا فضَّلنا الشهوة عن الله فتملُك الخطيَّة علينا، حيث يقول الرسول: “إذًا لا تملُكنَّ الخطيَّة في جسدكم المائت” (رو 6: 12).
إذن ملِكان يبادران لكي يملُكا، تملُك الخطيَّة أو الشيطان على الأشرار، ويملُك العدل أو المسيح على الأبرار.
إذ كان إبليس يعلم أن المسيح جاء ليغتصب ملكوته، ويُخضع لقوته وسلطانه أولئك الذي كانوا قبلاً خاضعين للمخادع، “أراه جميع ممالك المسكونة” وكل سكان العالم، أراه كيف يملك على الواحد بالشهوة، وعلى الآخر بالبُخل، وثالث بحب المجد الباطل، ويأسِر آخرين خلال جاذبيَّة الجمال… وكأن الشيطان يقول له: أتريد أن تملك على كل الخليقة؟! وأراه الجموع غير المحصية التي تخضع له، والحق يُقال لو قبلنا أن نعرف في بساطة بؤسنا ونُدرك مصيبتنا لوجدنا الشيطان يملك في معظم العالم، لذلك يسمِّيه الرب “رئيس هذا العالم” (يو 12: 31؛ 16: 11). وعندما يقول إبليس ليسوع: أترى جميع الشعب الخاضع لسلطاني؟ يكون قد أراه ذلك “في لحظة من الزمان”، إذ يحسب الوقت الحالي لحظة أن قورن بالأبديَّة… حينئذ قال إبليس للرب: أجئت لتصارع ضدِّي، وتنزع عنِّي كل الذين هم تحت سلطاني؟ لا، لا تحاول أن تقارن نفسك بي، ولا تعرض نفسك لصعاب هذه المعركة. انظر كل ما أطلبه منك، “إن سجدت أمامي يكون لك الجميع”.
بدون شك يريد ربَّنا ومخلِّصنا أن يملك، لكن بالعدل والحق وكل فضيلة… لا يريد أن يكلَّل كملكٍ بدون تعب (الصليب)…
أجابه الرب قائلاً: “مكتوب للرب إلهك تسجد، وإيّاه وحده تعبد” (تث 6: 13). إرادتي هي أن يكون الكل لي يعبدونني، ولا يسجدون لغيري. هذه هي الرغبة الملوكيَّة. أتريدني أن أخطئ أنا الذي جئت لأبيد الخطيَّة وأُحرَّر الناس منها؟!
لنفرح ولنبتهج نحن إذ صرنا له، ولنُصَلِ إليه ليقتل الخطيَّة التي ملَكت في أجسادنا (رو 6: 6) فيملك وحده علينا[5].
العلامة أوريجينوس
- “وأراه جميع ممالك المسكونة” [5] كيف تجرؤ أيها الشيطان المارد اللعين فتُري السيِّد ممالك العالم وتخاطبه بالقول: “لك أعطي هذا السلطان كله ومجدهن… إن سجدتَ أمامي” (لو 4: 6)؟ كيف تعد بأن تهب ما ليس لك؟! من الذي نصَّبك وارثًا على مملكة الله؟! ؟إنك اِغتصبت هذه الممالك غشًا وزورًا، فرُد ما اغتصبته إلى الابن المتجسِّد رب العالم بأسره، واسمع ما يصرح به النبي إشعياء ضد إبليس وجنوده: “لأن تُفتة مرتَّبة منذ الأمس مهيَّأة، هي أيضًا للملِكِ عميقة واسعة، كومتها نار وحطب بكثرة، نفخة الرب كنهر كبريت توقدها” (إش 30: 33).
فكيف تتقدَّم أيها الشيطان، ونصيبك الهاويَّة السحيقة مِلكًا؟… وكيف يسجد السيِّد لك، والسيرافيم وجميع طغمات الملائكة لا يغفلون طرفة عين عن التسبيح لاسمه لأنه مكتوب: “للرب إلهك تسجد وإيّاه وحده تعبد” (لو 4: 8)؟!
حقًا لقد أصابت هذه الآية مقتلاً من إبليس لأنه كان قبل نزول المسيح ومجيئه يخدع كل الذين تظلِّلهم القبَّة الزرقاء، فتجثو له كل ركبة، أما وقد جاء المسيح فقد شاءت رحمته أن يرجع الناس عن غلوائهم ويقدِّموا له السجود والعبادة والإكرام.
القدِّيس كيرلس الكبير
- ليس العيب في السلطان في ذاته، وإنما في الطمع الباطل، وعلى هذا فإن تأسيس السلطان يأتي من قِِبل الله، ومن يستعمله يكون سفيرًا لله بكونه خادم الله للصلاح (رو 13: 3-4). العمل في ذاته ليس خطيَّة، لكن العيب في الذي ينفِّذه… يجب أن نميِّز بين الاستخدام الصالح للسلطان والاستخدام الطالح…
القدِّيس أمبروسيوس
- أراه مجد العالم على قمَّة جبل، هذا الذي يزول، أما المخلِّص فنزل إلى الأماكن السفليَّة ليهزم إبليس بالتواضع.
القدِّيس جيروم
- أعلن الرب أن الشيطان كذَّاب من البدء، وليس فيه الحق (يو 8: 44)، وبكونه كذَّابًا وليس فيه الحق فإنه لا ينطق بالحق بل بالكذب، عندما قال: “إليّ قد دُفع وأنا أعطيه لمن يريد[6]” (لو 4: 6).
- لقد كذب الشيطان في البداية وبقي في كذبه حتى النهاية، فإنه ليس هو الذي يقيم ممالك هذا العالم بل الله إذ “قلْب الملك في يد الله” (أم 21: 1). كما يقول الكلمة خلال سليمان: “بي تملك الملوك وتقضي العظماء عدلاً، بي تترآس الرؤساء والشرفاء وكل قضاة (ملوك) الأرض” (أم 8: 15)[7].
- لقد فضحه الرب كاشفًا حقيقة شخصيَّته، إذ قال له: “اذهب يا شيطان” [8]… مُظهرًا ذلك من ذات اسمه، فإن كلمة “شيطان” في العبريَّة تعني “مرتد[8]“.
القدِّيس إيريناؤس
ج. تجربة في المقدَّسات
إن كان عدو الخير إبليس قد حاول أن يُجرِّب “يسوع” في لقمة العيش بتحويل الحجر إلى خبزٍ، وقد فشل إذ قدَّم السيِّد المسيح نفسه خبزًا حقيقيًا يُنعش النفس وينزع عنها طبيعتها الحجريَّة، وفي التجربة السابقة أراد تحطيم هدفه بفتح طريق سهل وقصير لكي يملك دون الحاجة إلى صليب، لكن الرب أصرَّ ألا يقبل إلا أن يدخل دائرة الصليب. أما التجربة التي بين أيدينا فتمس العبادة ذاتها، إذ تمّت في أورشليم على جناح الهيكل، وقدَّم الشيطان عبارة من الكتاب المقدَّس: “لأنه مكتوب أنه يوصي ملائكته بك لكي يحفظونك، وأنهم على أياديهم يحملونك، لكي لا تصدم بحجر رجلك” [10-11]، سائلاً إيّاه أن يطرح نفسه من جناح الهيكل إلى أسفل.
هذه التجربة يتعرَّض لها بالأكثر الرعاة والخدَّام والمتديِّنون، فإن عدو الخير يحاربهم في أورشليم في هيكل الرب، يقدِّم لهم كلمات الكتاب المقدَّس مشوَّهة سواء في بعض كلماتها أو في فهمها ليحوِّل عبادتهم إلى شكليَّات واستعراضات ورياء، طالبًا منهم عوض أن يصعدوا منطلقين نحو السماويَّات أن ينطرحوا من جناح الهيكل إلى أسفل، إذ يحدرهم الشكل أو الرياء عن غايتهم الحقَّة.
- لنلاحظ بداية هذا الإنجيل الذي سمعناه اليوم، ولنضع في النور الأمور المخفية فيه “جاء (إبليس) به إلى أورشليم”، الأمر الذي يبدو غير مُصدق أن إبليس يقود ابن الله، وهو يتبعه؛ فإنه يشبه المصارع الذي يذهب إلى التجربة ولا يخشاها، ولا يرهب مصيدة العدو المخادع للغاية وغير المحتملة، وكأنه يقول: ستجدني أقوى منك.
قاده إلى قمَّة الهيكل وطلب منه أن يطرح نفسه من فوق، وكان هذا العرض تحت ستار أنه يتم لمجد الله…
يتكلَّم الشيطان ويستند على الكتاب المقدَّس… لكن ليته لا يخدعني الشيطان حتى وإن استخدم الكتاب المقدَّس…
تأمَّل العبارة التي يعرضها إبليس على الرب: “مكتوب أن يوصي ملائكته بك لكي يحفظونك وعلى أيديهم يحملونك لكي لا تصدم بحجر رجلك“. انظر كم هو مخادع حتى في اختياره للعبارات، فإنه يريد أن يقلِّل من مجد الرب، كما لو كان يسوع محتاجًا إلى معونة الملائكة؛ كما لو كان يمارس عملاً خاطئًا ما لم تسنده الملائكة. هكذا يقتبس إبليس عبارة من الكتاب لا تناسب المسيح ويطبِّقها عليه، إنما تناسب القدِّيسين بوجَّه عام… المسيح ليس بمحتاج لمعونة الملائكة، إذ هو أعظم منهم، ويرث اسمًا أعظم وأسمى: “لأنه لمن من الملائكة قال قط أنت ابني أنا اليوم ولدتك؟!” (عب 1: 5-7؛ مز 2: 7)…
بعد ما قال: “إنه يوصي ملائكته بك لكي يحفظوك، وأنهم على أياديهم يحملونك لكي لا تصطدم بحجر رجليك”، يصمت إبليس عن التكملة وهي: “على الأسد والصل تطأ، الشبل والثعبان تدوس” (مز 91: 13). فلماذا تعبر على هذه العبارة بصمت أيها الشيطان؟! لأنك أنت هو الصل وملك كل الحيَّات. أنت تعرف أنك تحمل على جانبيك قوَّة عدوانيَّة أخرى تسمى “الأسد”، تخضع للأبرار تحت أقدامهم، لذلك لا تتكلَّم عن هذا الأمر.
أنت هو الشِبل والثعبان، حيث مكتوب: “لى الأسد والصل تطأ، الشِبل والثعبان تدوس”. إن كنت تصمت ولا تذكر شيئًا ضدَّك، لكننا نحن إذ نقرأ الكتاب باستقامة ندرك تمامًا أن لدينا سلطانًا أن نطأك بالأقدام، هذا السلطان لم يوهب لنا في العهد القديم حيث كان المزمور يرنَّم به، وإنما أيضًا في العهد الجديد. ألم يقل المخلِّص: “ها أنا أعطيكم السلطان أن تدوسوا الحيَّات والعقارب وكل قوَّة العدو ولا يضرُّكم شيء؟!” (لو 10: 19). لنستند على هذا السلطان ونأخذ سلاحنا، ونطأ بسلوكنا الشِبل والثعبان[9]…
العلامة أوريجينوس
- “إن كنت ابن الله فاطرح نفسك من هنا إلى أسفل” [9]. أما التجربة الثالثة فكان محورها الزَهْو والخيلاء “اطرح نفسك من هنا” حتى تثبت أمام المِلأ لاهوتك، إلا أن المسيح أجابه: “لا تجُرِّب الرب إلهك” (لو 4: 12) فإن الله لا يساعد من يجرؤ على تجربته ولم يُعط المسيح قط آية لمن جاءه بقصد تجربته، إذ ورد: “فأجاب وقال لهم جيل شرِّير وفاسق يطلب آية ولا يُعطى له آية إلا آية يونان النبي” (مت 12: 39).
لا غرابة أن يتقهقر أمام المسيح بعد هذه الثلاث تجارب، فيقدِّم لنا المسيح المنتصر إكليل الفوز والغلبة على حد قول الصادق: “ها أنا أعطيكم سلطانًا لتدوسوا الحيَّات والعقارب وكل قوَّة العدو ولا يضرُّكم شيء” (لو 10: 19).
“لأنه مكتوب أنه يوصي ملائكته بك لكي يحفظونك” [10]
وانظروا كيف يقتبس إبليس من الأسفار الإلهيَّة ليستعين بها على تصويب سهمه الدنيء، لأن هذه الآية التي وردت في المزامير لا تشير إلى المسيح، لأن المسيح ليس في حاجة إلى ملائكة. أما جناح الهيكل فقصد به البناء المرتفع الذي أقيم بجوار الهيكل.
القدِّيس كيرلس الكبير
- هذا هو شيطان المجد الباطل، فعندما يظن الإنسان أنه قد ارتفع عاليًا ويشتهي القيام بالأعمال العظيمة يسقط في الهاوية.
قال له: “إن كنتَ ابن الله فاطرح نفسك إلى أسفل” لا ينطق بهذه الكلمات إلا الشيطان الذي يحاول أن يُحدر الروح الإنسانيَّة إلى أسفل من حيث سمت بفضائلها؟! هل شيء يوافق الشيطان إلا النصح بالانحدار إلى أسفل؟!…
لا يستطيع إبليس أن يؤذي إلا من يدفع نفسه إلى أسفل، أي يترك السماء ليختار الأرض…
القدِّيس أمبروسيوس
- هذه هي كلمات إبليس دائمًا إذ يتمنَّى السقوط للجميع[10].
القدِّيس جيروم
ختم حديثه عن التجربة “ولما أكمل إبليس كل تجاربه فارقه إلى حين” [13]. إن كان الشيطان لا يمِلّ عن المصارعة بالرغم من هزيمته المُرَّة في كل التجارب، إذ يقول “فارقه إلى حين“… فقد جاء بقيَّة السفر عبارة عن صراع مستمر بين السيِّد المسيح وإبليس بكل طريقة، سواء مباشرة أو خلال خدَّامه، لهذا يليق بنا ألا ننخدع إن تركنا العدو، فإنه يفارقنا إلى حين لكي يعود فيصارعنا.
- لما سمع إبليس اسم “الله” فارقه إلى حين، إذ جاء بعد ذلك لا ليُجربه وإنما ليُحاربه علانيَّة. والكتاب المقدَّس يُعرِّفك أنك في حرب ليس مع لحم ودم بل مع السلاطين والرؤساء مع أجناد الشر الروحيَّة (أف 6: 12).
اُنظر رِفعة المسيحي الذي يُحارب رؤساء العالم (الشياطين)، فمع أنه يعيش على الأرض لكنه يبسط قوَّته الروحيَّة أمام أرواح الشرّ في السماويَّات. ونحن لا نُكافأ بأمور أرضيَّة في حربنا من أجله إنما مكافآتنا روحيَّة هي ملكوت السماوات وميراث المسيح.
يليق بنا أن نجاهد بكل مقاومة لإبليس، فالإكليل مقدَّم لنا، ويلزمنا أن نقبل الدخول معه في حرب. لا يكلَّل أحد ما لم يَغلب، ولا يمكن له أن يغلب ما لم يحارِب (2 تي 2: 5). والإكليل يعظُم كلما كثر الألم، لأنه ضيق وكرب هو الطريق المؤدِّي للحياة، وقليلون هم الذين يجدونه، وواسع هو الطريق المؤدِّي للموت (مت 7: 13).
يليق بنا ألا نخشى تجارب هذه الحياة قط، فهي فرصة مقدَّمة للغلبة ومادة للنصرة…
المُضل يُكثر من جرح المجاهد، ومع ذلك فالمُجاهد في شجاعته لا يضطرب قلبه…
إن تعرَّضت للتجارب فاعلم أن الأكاليل تُعد!….
أُلقي يوسف في السجن كثمرة لطهارته، لكنه ما كان يشارك في حكم مصر لو لم يبعه إخوته.
القدِّيس أمبروسيوس
- يسوع في الجليل
“ورجع يسوع بقوَّة الروح إلى الجليل،
وخرج خبر عنه في جميع الكورة المحيطة،
وكان يعلِّم في مجامعهم ممجَّدا من الجميع”.
لم يحمل السيِّد المسيح “قوَّة الروح” كقوَّة جديدة لم تكن فيه من قبل، وإنما إذ ترك المدن واعتزل في البرِّيَّة وصام هناك وجُرِّب من إبليس وغلبه بعدما اعتمد، عاد إلى مدن الجليل ليُقدِّم ما فعله باسم البشريَّة، فتحمل به “قوَّة الروح”. بمعنى آخر ما صنعه ربَّنا يسوع من انطلاق إلى البرِّيَّة وممارسة للصوم وغلبة على إبليس، هو رصيد يتمتَّع به كل من يوَد التلمذة له، فلا يليق أن ينطلق أحد للخدمة بغير هذا الرصيد من الغلبة والنصرة في الرب.
يعلِّق العلامة أوريجينوس على العبارة: “كان يعلِّم في مجامعهم، ممجَّدا من الجميع”، قائلاً: [احذروا من تطويب هؤلاء الذين كانوا يسمعون كلمات المسيح، وتحكموا على أنفسكم كأنكم محرومون من تعاليمه… فالرب لم يتكلَّم قديمًا فحسب في جماعة اليهود، وإنما إلى اليوم يتكلَّم في جماعتنا، ليس فقط عندنا، وإنما في الاجتماعات الأخرى في العالم أجمع. يسوع يُعلِّم ويطلب آلات يستخدمها لنقل تعليمه، صلُّوا لعلَّه يجدني مستعدًا لذلك وأترنَّم له… اليوم يسوع يتمجَّد من الجميع بالأكثر لأنه لم يعد معروفًا في مكان واحد فقط (الشعب اليهودي)![11]]
3.يسوع المرفوض من خاصته
قدَّم لنا لوقا البشير صورة حيَّة لعمل هذا الصديق العجيب، فقد جاء إلى الناصرة حيث تربَّى ليخدِم، ومع أن الجميع كانوا يشهدون له ويتعجَّبون من كلمات النعمة الخارجة من فمه لكنهم تعثَّروا فيه لأنهم حسبوه ابن يوسف. وحين بدأ يحدِّثهم عن انفتاح صداقته على الجميع – حتى الأمم – قرَّروا طرحه من حافة الجبل، أما هو فجاز في وسطهم ومضى.
نشأ السيِّد المسيح في الناصرة، ذاك الذي وهب العالم الخلاص والحياة، بينما حكمت مدينته على نفسها بالهلاك والموت. ما فعله أهل الناصرة هو جزء لا يتجزَّأ من خُطَّة الصليب.
“وجاء إلى الناصرة حيث كان قد تربَّى،
ودخل المجمع حسب عادته يوم السبت، وقام ليقرأ” [16].
- لما كان من الضروري ظهور المسيح للإسرائيليِّين حتى يعرفوا حقيقة التجسَّد إذ كانوا يجهلونه، وبما أن المسيح مسحه الله الآب مخلِّصًا للعالم بأسره، لزم من أجل كل ذلك أن يظهر المسيح نفسه للشعب اليهودي وغيره من الشعوب الأخرى ويكشف عن عمله الفدائي للشعوب قاطبة. إلا أن السيِّد المسيح أوْلى يهود الناصرة فضلاً عظيمًا بأن زارهم، وكان قد تربَّى كإنسانٍ في وسطهم.
وما أن دخل المسيح بلدة الناصرة أخذ مجلسه في مجمعها، وفتح السفر وقرأ فصلاً يشير إلى الفداء، وكيف أن المسيح الكلمة يظهر للعالم كإنسانٍ بقصد امتلائه وتخليصه. وإننا نعتقد بحقٍ أنه لم يكن هناك طريقة بها يمسح المسيح المسحة المقدَّسة سوى أن يأتي إلى العالم كإنسانٍ ويتَّخذ طبيعة إنسان.
كان المسيح إلهًا متأنِّسًا، وبصفته إلهًا يهب الروح القدس للخليقة بأسرها، وبصفته إنسانًا يتسلَّم الروح القدس من الله أبيه. بينما المسيح يقدِّس الخليقة قاطبة سواء كان ذلك بإشراق طلعته البهيَّة من المسكن الأعلى مسكن الله الآب، أم يمنح الروح القدس للعالم السماوي الذي يَدين به، وللعالم الأرضي الذي يعترف بتجسُّده.
القدِّيس كيرلس الكبير
“فدُفع إليه سفر إشعياء،
ولما فتح السفر وجد الموضع الذي كان مكتوبًا فيه:
روح الرب عليّ، لأنه مسحني لأُبشِّر المساكين” [17-18].
- لم يحدُث هذا على سبيل الصدفة، وإنما بتدخُّل النعمة الإلهيَّة، إذ بسط يسوع الكتاب ووجد الأصحاح الذي يتنبأ عنه… قرأ النص الذي يخص “سرّ المسيح”: بدقَّة: “روح الرب عليّ، لأنه مسحني لأُبشِّر المساكين“. فالنص يتحدَّث عن المسيح، وقد جاء ليس صدفة، بل حسب المشيئة الإلهيَّة والنعمة.
بهذه المناسبة لاحظوا هذه الكلمات وكيف طبَّقها يسوع على نفسه في المجمع.
“مسحني لأبشِّر المساكين” بالحق كانوا هم المساكين الذين لا يملكون قط لا الله ولا نبي ولا العدل ولا أية فضيلة، قد أُرسل لهذا السبب يسوع من أجل المساكين[12].
العلامة أوريجينوس
- يؤكِّد الرب نفسه أنه هو الذي تكلَّم في النبوَّات. لقد أخذ المسحة المقدَّسة والقوَّة السماويَّة… ليحل سبي الروح وينير ظلمة الفكر، ويكرز بسَنة الرب التي تمتد عبر السنين اللانهائيَّة، وتهب البشر استمراريَّة الحصاد والراحة الأبديَّة. لقد أغنى كل المهن واحتضنها، ولم يحتقر مهنة ما، بينما نحن الجنس الوضيع نرى جسده ونرفض الإيمان بلاهوته الذي يُعلن خلال معجزاته.
القدِّيس أمبروسيوس
- “وروح الرب علي، لأنه مسَحني لأبشِّر المساكين” [18]. يستنتج من هذه الكلمات أن المسيح أخلى نفسه من الأمجاد السماويَّة حبًا في خلاصنا، لأن الروح القدس بطبيعته في المسيح، فكيف ينزل على السيِّد من أعلى؟! كذلك في نهر الأردن نزل الروح القدس ليمسح يسوع، لا لسبب إلا لأن المسيح وطَّد نفسه على إسداء نعمة الخلاص لنا وتقديم الروح القدس لنا، فإننا كنا خالين من نعمة الروح القدس على حد قول الوحي: “فقال الرب لا يدين روحي في الإنسان إلى الأبد” (تك 6: 3). نطق المسيح المتجسِّد بهذه الكلمات لأنه إله حق من إله حق، وتجسَّد بدون أن يتغيَّر أي تغيير ومُسِح بدُهن الفرح والابتهاج، ونزل عليه الروح القدس على شكل حمامة. وإننا نعلم أن الملوك والكهنة مُسِحوا في الزمن القديم حتى تقدَّسوا بعض التقديس، أما المسيح فدُهِن بزيت التقديس الروحي، متسلِّمًا هذه المسْحة ليس من أجل نفسه، بل من أجلنا لأنه سبق أن حُرم الناس من الروح القدس، فخيَّمت سحابة الحزن والكآبة على وجّه الأرض.
القدِّيس كيرلس الكبير
“أرسلني لأشفي المنكسري القلوب،
لأُنادي للمأسورين بالإطلاق،
وللعُمي بالبَصر،
وأرسل المنسحقين في الحريَّة.
وأكرز بسَنة الرب المقبولة” [18-19].
- كنا مأسورين في أسر إبليس وسجنه، وجاء يسوع ينادي للمأسورين بالإطلاق، وللعُمي بالبصر، إذ كلماته وبشارته تجعل العُمي يبصرون…
كان الإنسان مذنبًا وقاتلاً ومأسورًا قبلما يحصل على الحريَّة ويشفيه يسوع[13].
العلامة أوريجينوس
- نادى المسيح بإطلاق سراح الأسرى بأن قيَّد قدميّ الشيطان بالأغلال، وكان طاغية باغية يتسلَّط على رِقاب الناس، وسرق من المسيح رعيَّته وخليقته، فرَدَّ السيِّد ما نهبه إبليس ظُلمًا وعُدوانًا. أرسل المسيح ليهدي قلوبًا غواها الشيطان، فأسدل ستارة من الظلام الدامس، أما المسيح فبدَّد غشاوة الليل الحالك، وأصبحت رعيَّته تسير في الضوء الوهَّاج والنور الساطع، كما ورد في رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل تسالونيكي: “جميعكم أبناء نور وأبناء نهار، لسنا من ليل ولا من ظلمة” (1 تس 5: 5).
لقد أبصر العميان، وأُنيرت الطرق، ومُهِّدت المرتفعات، وذلك بمجيء المسيح المخلِّص الفادي: “أنا الرب دعوتك بالبر فأمسك بيدك وأحفظك وأجعلك عهدًا للشعب ونورًا للأمم” (إش 42: 6).
جاء المسيح فأعلن عهدًا جديدًا لإخوته الإسرائيليِّين، ولكن لم يحتكر اليهود هذا الضوء الوهَّاج، بل سطع نور المسيح البهي على الأمم، فأطلق المأسورين وحرَّر المنسحقين، وكل ذلك يدل على أن المسيح إله بطبيعته فهو إله حق من إله حق.
وما المراد بالقول: “أنادي المأسورين بالإطلاق”؟ تُشير هذه الآية إلى جمهور البؤساء التُعساء الذين أوقعهم الشيطان في حبائله.
وما معنى القول: “أكرز بسَنة الله المقبولة“؟ تُشير هذه الآية إلى جلال الأخبار المُفرحة التي تُعلن قدوم السيِّد المسيح، هذه هي السَنة المقبولة التي شاء المسيح فصُلب فيها نيابة عنَّا، لأن بصلبِه قبِلَنا الله الآب وكنَّا بعيدين عنه، إذ ورد: “وأنا إن اِرتفعت من الأرض أجذب إليّ الجميع” (يو 12: 32). حقًا قام المسيح في اليوم الثالث، منتصرًا على قوَّة الموت، ولذلك يقول: “دُفع إليّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض” (مت 28: 18).
أليست هذه السَنة سنَة مقبولة، وقد انضممنا إلى أسرة المسيح، وخفق علينا علم يسوع، وتطهَّرنا بالعِماد المقدَّس، واشتركنا في طبيعة المسيح الإلهيَّة، بنيْلنا الروح القدس؟!
إنها السَنة مقبولة تلك التي أَظهر فيها المسيح مجده بمعجزات باهرة، وقبِلْنا بفرح وابتهاج نعمة الخلاص والفداء على حد قول بولس الحكيم: “هوذا الآن وقت مقبول، هوذا الآن يوم خلاص” (2 كو 6: 2). حقًا أنه مقبول إذ فيه فازت الأمم بكنز الإنجيل السمائي، ونالت رسالة السماء المُفرحة، وكانت في الماضي بعيدة عن نعمة الخلاص، لا أمل لها بالنجاة، وليس إله تقصد إليه في العالم. أما الآن فنحن أعضاء في المملكة المسيحيَّة، وشركاء طغمة القدِّيسين الصالحة، وورثة نعم وبركات يقصُر عن تصوُّرِها العقل وعن وصفها اللسان: “ما لم ترَ عين ولم تسمع به إذن ولم يخطر على بال إنسان، ما أعده الله للذين يحبونه” (1 كو 2: 9).
وتشير عبارة: “المُنكسري القلوب” إلى ضعاف القلوب مزعزعي العقيدة، هؤلاء الذين لا يُمكنهم مقاومة الميول والشهوات، فيرخون العنان لعواطفهم الدنيئة، فيشتدْ الخِِناق عليهم ويضيق بهم مكان الأسر. أما المسيح فيعد مثل هؤلاء المأسورين بالإطلاق ويناشدهم قائلاً: إرجعوا إليّ فأشفيكم، وأغفر لكم إثمكم وخطيَّتكم.
أما الذين عمَت بصائرهم فإن المسيح يهبهم الضوء والنور؛ هم عميان لأنهم عبدوا المخلوق دون الخالق: “قائلين للعود أنت أبي وللحجر أنت ولدتني” (إر 2: 27). هؤلاء الناس جهلوا طبيعة المسيح الإلهيَّة فحُرم عقلهم من النور الروحي الحقيقي.
وليس هناك من معترضٍ على نسبة هذه الأمور كلها إلى جماعة الإسرائيليِّين، فقد كانوا فقراء ومنكسري القلوب وأسرى، يهيمون في دُجى الليل الحالك “الكل قد زاغوا معًا وفسدوا، ليس من يعمل صلاحًا ليس ولا واحد” (مز 14: 3).
نزل المسيح فبُشِّر الإسرائيليِّين قبل غيرهم من الشعوب، أما الأمم الأخرى فلم تكن دون الإسرائيليِّين عُمي وجُهلاء، ولكن المسيح أغناها بحكمته وهذبها بعلمه، فلم تظل ضعيفة العقل سقيمة الرأي، بل أصبحت سليمة المذهب قويَّة الحجة.
القدِّيس كيرلس الكبير
“ثم طوى السفر وسلَّمه إلى الخادم وجلس.
وجميع الذين في المجمع كانت عيونهم شاخصة إليه.
فابتدأ يقول لهم:
إنه اليوم قد تمَّ هذا المكتوب في مسامعكم” [20-21].
جاءت كلمات السيِّد المسيح مفسِّرة لهذه النبوَّة جذَّابة، لأنها لم تكن مجرَّدة، وإنما كانت عملاً إلهيًا تحقَّق بمجيئه، لذلك يقول: “كانت عيونهم شاخصة إليه”.
- لما نطق المسيح بهذه الآيات البيِّنات دُهش سامعوه، وتساءلوا فيما بينهم من أين له هذه الحكمة البليغة، ولم يدرس الآداب اليهوديَّة؟! لأنه كان عادة اليهود أن يفسِّروا النبوَّات الخاصة بالمسيح بأنها تمَّت، إما في ملوكهم أو في أنبيائهم، لأنهم جنحوا عن طريق السداد والرشاد واتَّخذوا مسلكًا ملتويًا مرذولاً.
وتجنبًا للخطأ الذي طالما سقط فيه اليهود، ومنعًا لكل غموض قد يقعون فيه، خاطبهم المسيح في صراحة تامة: “أنه اليوم قد تمّ هذا المكتوب في مسامعكم” (لو 4: 21). صارحهم المسيح بأنه هو الذي تُشير إليه النبوَّة، لأن المسيح هو الذي بشَّر بكلمة الخلاص للشعوب الوثنيَّة، وكانوا مساكين معدمين لا إله ولا شريعة ولا أنبياء. وبالأولى بشَّر قومًا حُرموا زمانًا طويلاً من المواهب الروحيَّة، وأطلق سراح مأسورين، تحمّلوا مرارة الأغلال والأصفاد. وأنار سبيل الحق والفضيلة، وكانت سحابة الظلام الحالك تسُد عليهم المنافذ والطرق، ولذلك قال السيد: “قد جئت نورًا إلى العالم” (يو 12: 46). حطَّم المسيح أغلال الإثم، وأعلن قضاء العدل وأخيرًا نادى بسَنة مقبولة، هي علامة مجيئه الأول، وراية خلاصه وشعار الجنس البشري أجمع.
“وكان الجميع يشهدون له ويُعجبون” (لو 4: 22).
لم يُدرك الإسرائيليُّون مكانة المسيح، ولم يعرفوا أنه مسيح الرب إله القوَّات والمعجزات، فزاغوا عن تعاليمه وتكلَّموا بالباطل ضِدُّه، ومع أنهم قدَّروا كلمات الحكمة التي نطق بها السيِّد المسيح إلا أنهم سعوا بروح الشك والغموض فقالوا: “أليس هذا ابن يوسف؟!” (4: 22). وهل حجب هذا السؤال نور المعجزات الساطع، ولِمَ لا يُقابَل المسيح بالاحترام والإجلال رغمًا عن كونه ابن يوسف؟ ألم ير الإسرائيليُّون المعجزات؟! وألم تُقبَر الخطيئة في لحْدِها ويُسجن الشيطان في الهاوية، وتُهزَم جيوشه هزيمة منكَرة؟!
أثنى اليهود على سيل النعمة الذي جرى على لسان المسيح، ولكن غمروه حِقدًا، لأنه ينتسب إلى يوسف. إنه لجهلٍ ليس بعده جهل، فحق عليهم قول الوحي: “اسمع هذا أيها الشعب الجاهل والعديم الفهم الذين لهم أعين ولا يُبصرون، لهم آذان ولا يَسمعون” (إر 5: 21).
القدِّيس كيرلس الكبير
- “وجميع الذين في المجمع كانت عيونهم شاخصة إليه” [20].
حتى وقتنا الحاضر يحدث هذا، ففي مجمعنا واجتماعاتنا يمكن أن تشخص عيوننا إلى المخلِّص، توجَّه نظرات أكثر عمقًا، فتتأمَّل في ابن الله الوحيد، الحكمة والحق… كم اشتاق في هذه الجماعة أن يكون للكل من موعوظين ومؤمنين ورجال ونساء وأطفال عيون للنفس لا الجسد مشغولة بالنظر إلى يسوع. فإن النظر إليه يجعل نوره ينعكس فتصير وجوهكم أكثر ضياء[14].
العلامة أوريجينوس
“فقال لهم: على كل حال تقولون لي هذا المثل:
“أيها الطبيب اِشف نفسك.
كم سمعنا أنه جرى في كفر ناحوم فافعل ذلك هنا أيضًا في وطنك.
وقال: الحق أقول لكم أنه ليس نبي مقبولاً في وطنه” [23-24].
كأنهم يقولون له: يا من رفعت نفسك في البلد الغريب خلال عمل المعجزات، اِصنع معجزات بين أهلك وأقاربك في بلدك، إذ ظنُّوا أن السيِّد المسيح يطلب مجدًا زمنيًا أو كرامة من البشر.
- “على كل حال تقولون لي هذا المثل اِشف نفسك” (لو 4: 23).
كان هذا المثل مألوفًا لدى اليهود وأُُطلق على جماعة الأطبَّاء والحُكماء، فإذا أصاب طبيبًا مرضًا ما قالوا له: “أيها الطبيب اشف نفسك” بيّن المسيح لليهود بأنهم يطلبون إليه أن يجري أمامهم مختلف المعجزات، خصوصًا وأن بلدته التي تربَّى فيها أحَق من غيرها بهذه القوَّات والعجائب، إلا َّأن المسيح أفهمهم أن المألوف منبوذ، بدليل أنه بعد سماعهم كلمات الحكمة والنعمة التي نطق بها امتهنوه بالقول: أليس هذا ابن يوسف؟! فليس بعيدًا إذن أن يتمادوا في حجب عيونهم عن النظر إلى تعاليمه “الحق الحق أقول لكم أنه ليس نبي مقبولاً في وطنه” (4: 24).
القدِّيس كيرلس الكبير
لم يرفض السيِّد المسيح هذا المثل، إذ يليق بكل معلِّم أن يُعلن تعاليمه خلال حياته قبل كلماته، وإلا انطبق عليه هذا المثل بكونه يقوم بدور الطبيب الذي يدَّعي قدرته على شفاء المرضى، بينما يُعاني هو نفسه من المرض. إنما أوضح أنه لا ينطبق عليه. إذ كانت أعماله تشهد بالأكثر عن أقواله… إنما سِرّ تعثُّرِهم في السيِّد إنما ينبع عن رفضهم له لمجرد أنه من موطنهم، فينطبق عليهم المثل الآخر “ليس نبي مقبولاً في وطنه” [24].
يقول القدِّيس يوحنا ذهبي الفم: [بهذا وضع السيِّد نفسه العمل قبل التعليم… فمن لا يقدر أن يعلِّم نفسه ويحاول أن يصلح من شأن الآخرين يجد الكثيرون يسخرون منه. بالحري مثل هذا لا يكون له القدرة على التعليم مطلقًا، لأن أعماله تنطق بعكس أقواله[15].]
- “ليس نبي مقبولاً في وطنه”.
إذ كانت عناثوت وطن إرميا (إر 11: 21) لم تُحسن استقباله؛ وأيضًا إشعياء وبقيَّة الأنبياء رفضهم وطنهم أي أهل الختان… أما نحن الذين لا ننتسب للعهد بل كنَّا غرباء عن الوعد، فقد استقبلنا موسى والأنبياء الذين يعلنون عن المسيح، استقبلناهم من كل قلوبنا أكثر من اليهود الذين رفضوا المسيح، ولم يقبلوا الشهادة له[16].
العلامة أوريجينوس
استغلَّ السيِّد المسيح مقاومة أهل بلدته له فرصة لإعلان صداقته على مستوى البشريَّة كلها، مؤكدًا أن جامعية العمل الإلهي أمر له جذوره حتى في العهد القديم، إذ قال:
“وبالحق أقول لكم إن أرامل كثيرة كنَّ في إسرائيل،
في أيام إيليَّا حين أغلقت السماء مدَّة ثلاث سنين وستَّة أشهر،
لما كان جوع عظيم في الأرض كلها.
ولم يُرسل إيليَّا إلى واحدة منها،
إلاَّ إلى امرأة أرملة إلى صرفة صيداء.
وبرْص كثيرون كانوا في إسرائيل في زمان إليشع النبي،
ولم يَطْهر واحد منهم إلاَّ نعمان السرياني” [25-27].
كانت هذه الكلمات قاسية على الأذن اليهوديَّة، فقد ظنَّ اليهودي أنه الشخص المدلَّل لِدى الله، صاحب الناموس والعُهود والمواعيد والنبوَّات ومن جنسه يأتي المسيَّا. لكن كشف السيِّد المسيح عن حقيقة حبُّه للبشر بلا تمييز، ففي أيام إيليَّا تمتَّعت أرملة صيداء بما لم تتمتَّع به نساء يهوديَّات كثيرات، ونال الأممي نعمان السرياني الأبرص ما لم ينله البرص من اليهود (1 مل 17 ؛ 2 مل 5).
- إننا نرى النبي لم يشفِ إخوته ولا مواطنيه ولا خاصته بل الشعب الغريب (نعمان السرياني الأبرص 1 مل 17 ؛ 2 مل 5)، الذي بلا ناموس ولا يدين بديانته، أفلا يدل ذلك على أن الدواء يتوقَّف على الإرادة وليس على جنس الإنسان، وإن البركات الإلهيَّة ننعم بها حسب اشتياقات قلوبنا، ولا تعطي لنا حسب مولدنا؟ فنتعلم الصلاة بلجاجة طالبين ما نشتهيه، فإن ثمر البركات الإلهيَّة لا يُعطى للفاترين.
الأرملة التي أُرسل إليها إيليَّا كانت رمزًا للكنيسة، التي جاء شعبها وقد جُمع من الأمم. وهذا الذي كان قبلاً نجسًا قبل عماده في النهر المقدَّس، وقد اغتسل من نجاسات الجسد والروح، ولم يعد بعد أبرصًا، صار عذراء عفيفة طاهرة بلا دنس ولا لوم (أف 5: 26). لهذا السبب عَظُم نعمان في عينيّ سيِّده، إذ كشف لنا عن صورة خلاص الأمم، وقد نصحته خادمة بارة أسَرَها العدُو بعد هزيمة بلادها في الحرب، بأن يَطلب خلاصه من النبي، فشُفي نعمان لا بأمر ملك أرضي، وإنما حسب سخاء الرحمة الإلهيَّة…
لقد رفض إليشع الهديَّة، وكان له إيمان تعلَّمه في مدرسة أصول الأعمال، فسِرْ أنت على ما تعلَّمته من مبادئ الرب مقتديًا بالنبي: “مجانًا أخذتم، مجانًا أُعطوا” (مت 10: 8). لا تتأخر في الخدمة بل قدِّمها مجانًا، فلا يجوز لك أن تقيِّم نعمة الله بمالٍ، ولا يليق بالكاهن في عمل الأسرار أن يفكِّر في الغنى بل في الخدمة… علّم عبيدك ذلك وحثُّهم، فإن خدَمَك أحد وضبطته هكذا محبَّا للمال (كجيحزي) فاطرده كما فعل النبي، ولتحسب الأموال التي حصل عليها بطريقة خاطئة تُدنِّس النفس والجسد، قائلاً: “أهوَ وقت لأخذ الفضَّة ولأخذ ثياب وزيتون وكروم وغنم وبقر وعبيد وجوار؟! فبَرَص نُعمان يلصق بك وبنسلك إلى الأبد” (2 مل 5: 26-27).
القدِّيس أمبروسيوس
على أي الأحوال يقدِّم السيِّد المسيح هذه الأرملة لليهود بكونها تمتَّعت بما لم تتمتَّع به أرامل كثيرات في أيام إيليَّا. وقد جذبت هذه الأرملة قلوب الكثير من الآباء، فقال عنها القدِّيس يوحنا ذهبي الفم: [قدَّمت هذه المرأة كرمًا أكثر من أبينا إبراهيم[17].] فإن كان إبراهيم قد قدَّم وليمة للغرباء فاستضاف الرب وملاكيْه، لكنه قدَّم من فيض غِناه، أما هذه فقد قدَّمت أعوازها لنبي الله وعرَّضَت حياتها وحياة ابنها لخطر الموت. لسنا بهذا نقلِّل من شأن عمل أبينا إبراهيم لكننا لا ننكر سمو عمل هذه المرأة الأمميَّة، التي أفاض القدِّيس أمبروسيوس في الحديث عنها، خاصة في مقاله عن الأرامل، إذ رأى فيها رمزًا للكنيسة التي لم تتمتَّع بعطايا إيليَّا، ببركات المسّيا فاتح السماء ليُمطر فيض أسراره الإلهيَّة.
- كانت المجاعة في كل موضع، ومع هذا لم تكن هذه الأرملة في عَوَز. ما هذه السنوات الثلاثة! أليست تلك التي فيها جاء الرب إلى الأرض ولم يجد في التينة ثمرًا، كما هو مكتوب: “هوذا ثلاث سنين آتي أطلب ثمرًا في هذه التينة ولم أجد” (لو 13: 7).
هذه الأرملة بالتأكيد هي التي قيل عنها: “ترنَّمي أيتها العاقر التي لم تلد، أشيدي بالترنُّم أيتها التي لم تتمخَّضْ، لأن بني المُسْتوْحِشة أكثر من بني ذات البَعْل” (إش 54: 1). إنها الأرملة التي قيل عنها: “تنسين خِزيْ صِباكِ وعار ترمًّلِك لا تذكُرينه بعد، لأن أنا هو الرب صانعك” (إش 54: 4).
ربَّما هي “أرملة” لأنها فقدت بالحق رجلها عند آلام جسده، لكنها تتقبَّله في يوم الدينونة ابن الإنسان الذي ظهر كأنها قد فقدته، فيقول: “لُحيْظَة تركتُكِ”، فإنه يتركها لكي يتزكَّى إيمانها في أكثر مجد…
الكنيسة هي عذراء وزوجة وأرملة، الثلاثة معًا في جسد واحد في المسيح. إنها إذن تلك الأرملة التي من أجلها كانت توجد مجاعة للكلمة السماوي على الأرض، الأمر الذي أشار إليه الأنبياء. كانت أرملة عاقرًا لكنها حُفظت لتُنجب في الوقت المناسب…
من الذي فتح لها السماوات إلا المسيح الذي يُخرج من الخطاة طعامًا لنُمُو الكنيسة؟! فإنه ليس من سلطان إنسان أن يقول: “إن كوار الدقيق لا يفرغ وكوز الزيت لا ينقص إلى اليوم الذي فيه يعطي الرب مطرًا على وجه الأرض” (1 مل 17: 14)… الرب الذي هو يهِب الأسرار السماويَّة على الدوام، والذي يُعد بنعمته الفرح الروحي الذي لا يبطل، مقدِّمًا مقوِّمات الحياة وأختام الإيمان وعطايا الفضائل[18].
القدِّيس أمبروسيوس
لقد امتلأ اليهود غضبًا إذ رأوه يكسر تشامخهم، فأخرجوه من المدينة ليُلقوه من حافة الجبل الذي يُقام عليه المدينة. وكما يقول القدِّيس أمبروسيوس:
[هذه هي خطيَّة اليهود التي سبق فتنبَّأ عنها النبي… فكان الرب يبسط مراحمه على الجموع، وكانوا هم يَكيلون له اللعنات. فليس عجيبًا أن يفقدوا الخلاص ويطردوا الرب الذي خضع لمشيئتهم (مسلِّمًا نفسه لهم)… فقد تألَّم بإرادته، إذ لم يقبض عليه اليهود بل سلَّم نفسه لهم عندما شاء هو أن يقبضوا عليه. عندما أراد سقط تحت الصليب وصُلب، لم يعوقه شيء عن إتمام العمل.
لقد صعد على الجبل وها هو يجوز في وسطهم ويمضي، لأن ساعته لم تكن قد جاءت بعد…، ولأنه أيضًا كان يريد شفاءهم لا هلاكهم، حتى متى رأوه في وسطهم وفشلوا في دفعه إلى أسفل يتوبون. لقد جاز المسيح في وسطهم بقوَّة لاهوته، فهل كان يمكن لأحد أن يُمسك به هذا الذي لم تستطع الجموع أن تقبض عليه؟!]
يقول القدِّيس كيرلس الكبير :[جاز المسيح في وسطهم ومضى إلى سبيله، ليس خوفًا من الألم، وإنما لأن ساعته لم تكن قد أتت بعد. كان المسيح في بدء عمله التبشيري، ولا يُعقل أن يترك ميدان العمل قبل نشر كلمة الخلاص والحق.]
يقول القدِّيس أغسطينوس: [عندما جاءوا للقبض عليه بعد ما باعه يهوذا الخائن، الذي تصوَّر أنه قادر على تسليم سيِّده وربُّه، أظهر الرب أنه يتألَّم بإرادته وليس قسرًا. فعندما أراد اليهود القبض عليه قال: “من تطلبون؟” أجابوه: يسوع الناصري، قال لهم يسوع: أنا هو، وإذ سمعوا ذلك “رجعوا إلى الوراء وسقطوا على الأرض[19]” (يو 18: 4-6).]
- يسوع العامل بسلطان
“وانحدر إلى كفرناحوم مدينة من الجليل،
وكان يعلِّمهم في السِبوت.
فبُهِتوا من تعليمه لأن كلامه كان بسلطان” [31-32].
مدّ الصديق يده لأهله وأقاربه في مدينة الناصرة، لكنها إذ كانت قائمة على تلال عالية، هي تلال الأنا والذات ولم تقبل صداقته، وأراد سكَّانها أن يُلقوه من حافة الجبل حيث توجد المدينة. فانحدر السيِّد إلى كفر ناحوم أي “مدينة النِياح أو الراحة”، أما سِر راحتها فهي أنها كانت منخفضة تحت سطح البحر، تحمل روح التواضع فتقبل صداقة عريسها، وعمله الخلاصي فيها.
- خاطب المسيح الشعب في يوم السبت، فبُهِتوا من تعاليمه، لأنه كان يتكلَّم كمن له سلطان وليس كالكتبة. غُلب اليهود في أمره وبُهتوا لأنهم رأوا أمامهم معلِّمًا لا يخاطبهم كنبي فحسب، بل كإله عظيم تجثو له الروح قبل الجسد، ربّ الناموس. ولذلك نطق بمبادئ تسمو عن الناموس. طبقًا لقول الوحي: “وأقطع لكم عهدًا أبديًا مراحم داود الصادقة؛ هوذا قد جعلته شارعًا للشعوب رئيسًا وموصيًا للشعوب” (إش 55: 3، أع 13: 34).
القدِّيس كيرلس الكبير
- تأمَّلوا رحمة مخلِّصنا المسيح فإنه لم يغضب بسبب الإهانة ولا تأثَّر بالظُلم ليترك اليهوديَّة، وإنما نسى آثامها ولم يفكِّر إلا في رحمته، لذلك صار تارة يُعلِّم، وأخرى يُنقِذ من الروح الشرِّير، وثالثة يشفي، باحثًا كيف يُليِّن قلب هذا الشعب الغليظ.
القدِّيس أمبروسيوس
يقدِّم لنا العلامة تِرتليان مفاهيم كثيرة للتعبير الإنجيلي “لأن كلامه كان بسلطان” [32]. فمن ناحيَة أنه لم يكن مجرَّد كلام، لكنه يحوي قوَّة العمل وفاعليَّته، لذا يقول لأتباع مرقيون: [اِسحبوا إسحبوا كل أقوال مسيحي، فإن أعماله تتكلَّم[20].] وكما قال السيِّد المسيح نفسه: “صدِّقوني إني في الآب والآب فيّ، وإلاَّ فصدِّقوني لسبب الأعمال نفسها، الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فالأعمال التي أنا أعملها يعملها هو أيضًا ويعمل أعظم منها” (يو 14: 11-12). فسلطانه لا بإظهار وحدانيَّته مع الآب خلال معجزات يقيمها بسلطان، وإنما خلال عمله فينا وسلطان العامل في حياتنا.
ومن ناحية أخرى فإن كلامه كان بسلطان إذ تمَّم الناموس والأنبياء، وكما يقول العلامة تِرتليان في نفس الحديث: [حديثه الإلهي قدَّم سلطانًا ونعمة، بالحري كان يبني جوهر الناموس والأنبياء ولا يهدِمه[21].]
ومن ناحية ثالثة فقد ظهر سلطانه في حديثه من رعب الشيطان الذي لا يطيق حتى كلماته: [لقد عرف تمامًا أن يسوع هو ابن الله الذي يدين وينتقم وقاسي (على الشيطان) وليس مجرد شخص صالح[22].]
جاء السيِّد المسيح صديقًا عمليًا للإنسان ليس فقط يعلِّمه بسلطان، وليس كالكتبة والفرِّيسيِّين، وإنما يعمل لحسابه بسلطان، لهذا نجد إنسانًا به روح شيطان في المجمع لم يستطع الروح كعدو للبشر أن يحتمل وجود هذا الصديق بل قال: “آه ما لنا ولك يا يسوع الناصري؟! أتيتَ لتُهلكنا، أنا أعرفك من أنت قدُّوس الله!” [34].
فزع الروح النجس من القدُّوس وشعر أنه يعمل بقوَّة وسلطان، إذ أحس بمملكته المُظلمة تنهار أمامه. أما السيِّد المسيح فلم يقبل شهادة الشيطان بل انتهره قائلاً: “اخرس واخرج منه” [35]. فأدرك الحاضرون كيف يأمر حتى الأرواح النجسة بسلطان وقوَّة فتخرج!
- أَخرج المسيح الأرواح النجسة، وشعرت بعِظم قوَّة المسيح، ولم تجد مناصًا وقد أصابها الفشل والهزيمة إلا أن تطلب من السيِّد بمكر ودهاء أن يتركها وشأنها، فليس ثِمة علاقة بين السيِّد والأرواح النجسة، إنما هذه لغة التملُّق والكذب. فقد اعترفت الأرواح الشرِّيرة بأن المسيح هو “قدُّوس الله” (4: 34)، ظنًّا منها أن ذلك يبعث فيه الغرور والخيلاء، فيرتدي السيِّد أثواب العظمة الفارغة، والأماني الباطلة، ويكف عن انتهارها وتأديبها. نعم إن الشيطان كثير المكر والدهاء، ولكنه يقع بلا شك فريسة خداعه، لأن الرب لا يُخدع أبدًا، ولذلك أخرسها المسيح وأمرها ألاَّ تنطق ببنت شِفَّة.
لا غرابة بعد ذلك أن دُهش الجمع، لأن المسيح يقوم بصنع المعجزات من غير أن يطلب بالصلاة قوَّة من الأعالي، لأنه هو الله نفسه، هو كلمة الله الآب الذي به كون كل شيء، وبواسطته حُطِّمت شوْكة الشيطان، وخرَست ألسِنة الأرواح النجسة.
القدِّيس كيرلس الكبير
- [تعليقة على إتمام أول الأشفية وإخراج الشيَّاطين في يوم السبت.]
بدأ الرب معجزات الشفاء في يوم السبت ليُعلن أن الخليقة الجديدة تبدأ حيث تنتهي القديمة، ولكي يُشير منذ البداية أن ابن الله لا يخضع للناموس، بل هو رب الناموس، جاء لا لينقُضه بل ليُكمِّله. فالعالم لم يُخلق بواسطة الناموس، بل بالكلمة كما هو مكتوب: “بكلمة الرب صُنعت السماوات” (مز 32: 6). إذن لم يقصد المسيح أن ينقض الناموس بل يكمِّله حتى يجدِّد الإنسان الساقط، لذلك يقول الرسول: “اِخلعوا الإنسان العتيق واِلبسوا الجديد الذي يتجدَّد حسب صورة خالقه” (كو 3: 5). وبدأ الرب بالعمل في السبت ليُظهر أنه الخالق يربط بين الأعمال ويكمل العمل الذي بدأه بنفسه، ذلك كالعامل الذي يستعد لإصلاح البيت فيبدأ بالأجزاء المتآكلة؛ يبدأ بالصغير ليصل إلى الكبير.
القدِّيس أمبروسيوس
- [تعليقه على اعتراف الشيطان: أنا أعرَفك من أنت قدُّوس الله؟!]
يليق أن يوجد فارق بين إيماننا وإيمان الشيطان، فإن إيماننا يُنقِّي القلب، أما إيمانهم فيجعلهم يُخطئون ويصنعون الشرّ، إذ يقولون للرب: ما لنا ولك؟![23]
القدِّيس أغسطينوس
شفاء حماة بطرس
كان شفاء الرجل الذي به روح شيطان نجس في داخل المجمع علانيَّة، والآن يشفي حماة بطرس في بيتها عندما دعاه بطرس ليأكل. فهو صديق عامل لحسابنا، أينما وُجد وتحت كل الظروف، يعمل في المجمع العام كما في البيت الخاص. وقد سبق لنا الحديث عن هذا الشفاء في دراستنا لإنجيلي متى (8: 5) ومرقس (1: 31). ورأينا كيف لم يطلب سمعان بطرس شيئًا لنفسه إذ لم يدعه لشفاء حماته، بل ليأكل فأعطاه الرب ما لم يسأله.
لم يسأل بطرس شيئًا لنفسه أو عائلته لكن المحيطين بالسيِّد “سألوه من أجلها“؛ صورة حيَّة لوحدة الحب العامل، وشفاعة الأعضاء لبعضها عن البعض أمام الرأس الواحد ربَّنا يسوع!
- ربَّما كانت حماة سمعان تُصوِّر جسدنا الذي أصابته حُمى الخطايا المختلفة ودفعته نحو الشهوات الكثيرة. هذه الحُمى ليست أقل من التي تصيب الجسد، إذ تحرق القلب، بينما الأخرى تحرق الجسد…
القدِّيس أمبروسيوس
يعلِّق القدِّيس أمبروسيوس على هذه الزيارة لحماة سمعان بالقول: [أنه لم يستنكف من زيارة الأرامل ودخول الحُجرات الضيِّقة في الأكواخ الفقيرة[24].]
سمع الكثيرون عمّا يفعله السيِّد المسيح، لكنهم لم يجسروا أن يحملوا المرضى إليه إلاَّ عند الغروب [40]، حيث ينتهي يوم السبت ويبدأ الأحد، فقد خشوا لئلاَّ يكسروا السبت بتصرُّفهم هذا. وكأن حفظ السبت في أعينهم أهم من الإنسان ومن شفائه! على أي الأحوال لم يعاتبهم في شيء، بل أعلن سلطان محبَّته، فكان يضع يده (غالبًا على شكل صليب) على كل واحد منهم وشفاهم [40].
- أرجو أيضًا أن تلاحظوا قوَّة جسده المقدَّس إذا ما مسَّ أحدًا، فإن هذه القوَّة تقضي على مختلف الأسقام والأمراض، وتهزم الشيطان وأعوانه، وتشفي جماهير الناس في لحظة من الزمن. ومع أن المسيح كان في مقدوره أن يُجري المعجزات بكلمة منه، بمجرَّد إشارة منه، إلا أنه وضع يديه على المرضى، ليعلِّمنا أن الجسد المقدَّس الذي اتَّخذه هيكلاً له كان قوَّة الكلمة الإلهيَّة. فليربطنا الله الكلمة به، ولنرتبط نحن معه بشركة جسد المسيح السرِّيَّة، فبذلك يمكن النفس أن تُشفى من أمراضها وتتقوَّى على هجمات الشيّاطين وعدائها.
القدِّيس كيرلس الكبير
إذ دعا سمعان بطرس السيِّد المسيح إلى بيته لم تُشفَ حماته وحدها، وإنما صار بيته مركزًا حيًا يأتي إليه المرضى والمتعبين من الأرواح النجسة، لينعموا بعمل السيِّد المسيح فيهم. هكذا إذ يدخل الرب قلوبنا ينعم الكثيرون معنا براحته وسلامه.
ويرى القدِّيس كيرلس الكبير أن هذه الجماهير التي تمتَّعت بعمله تشير إلى حياة الإنسان بكل طاقتها وعواطفها وإمكانيَّاتها إذ تتمتَّع بالشفاء والراحة فيه.
على أي الأحوال كانت الشيَّاطين تصرخ: أنت المسيح ابن الله” [41]. أما هو فكان ينتهرهم ولا يدعهم ينطقون. يقول القدِّيس كيرلس الكبير: [لم يدع المسيح الشيَّاطين أن يعترفوا به لأنه لا يليق أن يغتصبوا حق الوظيفة الرسوليَّة. كذلك لا يجوز أن يتكلَّموا بألسِنة نجسة عن سرّ المسيح الفدائي. نعم يجب ألا تصدِّق هذه الأرواح الشرِّيرة حتى لو تكلَّمَت صدْقًا. لأن النور لا يُكشف بمساعدة الظلام الدامس، كما أشار إلى ذلك رسول المسيح بالقول: “وأية شركة للنور مع الظلمة، وأي اتفاق للمسيح مع بليعال؟!” (2 كو 6: 14-15).] ويقول القدِّيس أمبروسيوس: [طبيعة الشيطان يعترف بالمسيح، لكنه يُنكره بأعماله.]
ويرى القدِّيس ذهبي الفم[25] في منع السيِّد الشيَّاطين من النطق أنه هو المسيح، وهو يشفي أجساد المرضى ومن بهم أرواح شرِّيرة، أراد أن يشفي أرواحهم فعلَّمهم أنه لا يصنع هذا للاستعراض وطلبْ المجد الزمني. هكذا يليق بهم ألاَّ يطلبوا المجد الزمني.
- كرازته في مجامع الجليل
إذ صنع السيِّد المسيح أشفية كثيرة عند غروب الشمس، مع بداية يوم الأحد، ولا ندري كم من الساعات قضاها السيِّد مع الجموع القادمة تلتمس الشفاء، إنما يُخبرنا الإنجيلي أنه إذ صار النهار [42]، أي في الصباح المبكِّر ذهب إلى موضع خلاء، ساحبًا قلوب الخدَّام الأمناء إلى اللقاءات الخفيَّة مع الآب حتى لا يضيع الهدف منهم.
على أي الأحوال لم تتركه الجموع وحده فانطلقت تفتِّش عليه وقد أمسكوه لئلاَّ يذهب عنهم. وفي حب شديد أعلن: “ينبغي لي أن أبشر المدن الأخرى أيضًا بملكوت الله” [43]. ويمكننا أن نقول كلما اختلى الخادم مع الله اِلتهب قلبه بالأكثر نحو خلاص العالم، فالحياة التأمَُّليَّة الصادقة هي التي تفتح القلب بالأكثر وتُلهبه نحو الشوق لخلاص الكل.
[1] In Matt. Hom4:1.
[2] Sermons on N.T. Lessons 1.
[3] In Luc. hom 29:3,4.
[4] In Matt 4:2.
[5] In Luc. Hom 30:1-4.
[6] Adv . Haer 5:22:2.
[7] Adv . Haer 5:24:1.
[8] Adv . Haer 5:21:2.
[9] In Luc hom 31:1-7.
[10] In Matt 4:6.
[11] In Luc hom 32:2.
[12] In Luc hom 32:3,4 .
[13] In Luc hom 32:4.
[14] In Luc hom 32:6.
[15] In Matt. Hom 16.
[16] In Luc. hom 33:3.
[17] In 2Cor. Hom 19.
[18] Conc. Widows 3.
[19] In Ioan. Tr 11: 2.
[20] Adv. Marcon 4:7.
[21] Adv. Marccon 4:7.
[22] Adv. Marcon 4:7.
[23] Ser. on N.T. 3:11.
[24] Conc. Widows 10.
[25] See In Matt. Hom 27:3.