تفسير العبرانيين 2 الأصحاح الثاني – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير العبرانيين 2 الأصحاح الثاني - القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير العبرانيين 2 الأصحاح الثاني – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير العبرانيين 2 الأصحاح الثاني – القمص تادرس يعقوب ملطي
الأصحاح الثاني: المسيح والملائكة
يكمل الرسول بولس حديثه عن السيد المسيح والملائكة:
- كلمة الملائكة والخلاص الإلهي ١ – ٤.
- تواضع المسيح عن الملائكة ٥ – ١٨.
1. كلمة الملائكة والخلاص الإلهي
ختم الرسول حديثه السابق بقوله: “لِذَلِكَ يَجِبُ أَنْ نَتَنَبَّهَ أَكْثَرَ إِلَى مَا سَمِعْنَا لِئَلاَّ نَفُوتَهُ” [١]. وكأنه يؤكد لنا أن حديثه السابق ليس حديثًا نظريًا فيه يعلن أمجاد الابن إن قورن بالملائكة، إنما هي فرصة للنفع الروحي العملي في حياتنا. فإن كان اليهود يفتخرون بكلمة الناموس التي وُهبت لهم خلال إرساليات ملائكية، وهي بحق كلمة الله، وقد صارت ثابتة، من يعصاها يسقط تحت العقاب، فكم بالأكثر من يهمل خلاصًا هذا مقداره، تسلمناه لا بيد ملائكة، إنما في خالق الملائكة نفسه، ربنا يسوع الابن الوحيد؟!
“لأَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْكَلِمَةُ الَّتِي تَكَلَّمَ بِهَا مَلاَئِكَةٌ قَدْ صَارَتْ ثَابِتَةً،
وَكُلُّ تَعَدٍّ وَمَعْصِيَةٍ نَالَ مُجَازَاةً عَادِلَةً،
فَكَيْفَ نَنْجُو نَحْنُ إِنْ أَهْمَلْنَا خَلاَصًا هَذَا مِقْدَارُهُ،
قَدِ ابْتَدَأَ الرَّبُّ بِالتَّكَلُّمِ بِهِ،
ثُمَّ تَثَبَّتَ لَنَا مِنَ الَّذِينَ سَمِعُوا،
شَاهِدًا اللهُ مَعَهُمْ بِآيَاتٍ وَعَجَائِبَ وَقُوَّاتٍ مُتَنَّوِعَةٍ
وَمَوَاهِبِ الرُّوحِ الْقُدُسِ،
حَسَبَ إِرَادَتِهِ؟” [2–٤].
في هذا الحديث لم يقارن الرسول بين كلمة الملائكة والكلمة الإلهية، لأن الكلمة التي تكلم بها ملائكة ما هي إلاَّ كلمة الله مرسلة بواسطتهم، إنما المقارنة هنا بين الكلمة التي أُرسلت بواسطتهم خلال الألفاظ والرؤى والإعلانات، وبين الكلمة ذاته وقد جاء بنفسه متجسدًا ليعلن الخلاص عمليًا في كماله. إن كانت الكلمة الإلهية المسلمة في العهد القديم لها قدسيتها وقوتها إلى اليوم فلا يعصاها أحد، فكم بالأكثر الكلمة الإلهية التي تثبتت بمجيء الكلمة ذاته ليخلصنا بدمه، مؤكدًا لنا حقيقة تأنسه بالآيات والعجائب والقوات المتنوعة ومواهب الروح القدس. وكأن الرسول أراد بمقارنته هذه أن يدفعنا إلى المثابرة في الطاعة لكلمة الله الحيّ.
- تواضع المسيح عن الملائكة
إن كان اليهود يفتخرون بأن ناموسهم قد سُلم إليهم بيد ملائكة، فإن شريعة العهد الجديد قد أُعلنت خلال تجسد الابن وآلامه حتى الموت موت الصليب، الأمر الذي به ظهر كأنه أقل من الملائكة. لكن هذا ليس ضعفًا بل في أعماقه يمثل الطريق الوحيد للتقديس، أي إعادة الإنسان الساقط إلى المجد السماوي. كأن تواضع السيد عن الملائكة هو طريق خضوع العالم لله، خضع كنائبٍ عنا ورأسنا، فيرتفع المؤمنون به وفيه إلى المستوى السماوي. لهذا يقول الرسول: “فَإِنَّهُ لِمَلاَئِكَةٍ لَمْ يُخْضِعِ الْعَالَمَ الْعَتِيدَ الَّذِي نَتَكَلَّمُ عَنْهُ” [٥]. ماذا يعني بالعالم العتيد إلاَّ البشرية المتجددة في المسيح يسوع، هذه التي صارت عالمًا جديدًا أو عالمًا على مستوى “العتيد” أي “المقبل”. هذا العالم لم يخضع لله في طاعة له خلال الناموس المسلم بيد ملائكة، وإنما خلال المسيح الذي فيه حُسبنا مطيعين للآب. إن كان المسيح قد دُعي بالآتي (رو ٥ : ٤) بمقارنته بآدم الأول، فقد صارت الكنيسة المتحدة به، جسده المقدس، العالم الآتي (العتيد) خاضعة لله أبيها.
إذن، تواضع المسيح عن الملائكة حقق ما لم يكن ممكنًا للملائكة تحقيقه، فقد خضع العالم، من يهود وأمم، لملكوته وصار الكل كنيسة الله المطيعة. ولعل كلمات الرسول هنا جاءت في مقابل الفكر اليهودي الذي كان سائدًا بأن الله قد سلم العالم لملائكته لحفظه، فاختص رئيس الملائكة ميخائيل بالشعب اليهودي، بينما كان لكل أمة ملاكها الخاص. لكن السيد المسيح وقد صار بالتجسد كمن هو أقل من الملائكة حفظ الجميع دون تحيز لأمة معينة، ليس على مستوى الحفظ الجسدي أو نوال بركة أرضية، وإنما أعاد تجديد العالم فجعله “عالمًا عتيدًا“، مقدمًا عملاً إلهيًا فريدًا في نوعه.
يليق بنا نحن أيضًا وقد دخلنا إلى عضوية هذا العالم العتيد باتحادنا مع الابن المتواضع، في مياه المعمودية، أن ندرك أن كل عضوٍ فينا أيضًا قد صار عالمًا عتيدًا، فإذ تتحد الروح والنفس والجسد بكل طاقاتهم وأحاسيسهم وإمكانياتهم الداخلية والظاهرة، يصير الإنسان عالمًا عتيدًا أي عالمًا أخرويًا يعيش على مستوى سماوي، عروسًا للمسيح السماوي!
في أكثر وضوح يتحدث الرسول بولس عن تواضع المسيح كطريقٍ فريدٍ في خضوع العالم لله، سواء على مستوى جميع الأمم أو على مستوى الإنسان في كليته، قائلاً:
“لَكِنْ شَهِدَ وَاحِدٌ فِي مَوْضِعٍ قَائِلاً:
مَا هُوَ الإِنْسَانُ حَتَّى تَذْكُرَهُ، أَوِ ابْنُ الإِنْسَانِ حَتَّى تَفْتَقِدَهُ؟
وَضَعْتَهُ قَلِيلاً عَنِ الْمَلاَئِكَةِ,
بِمَجْدٍ وَكَرَامَةٍ كَلَّلْتَهُ، وَأَقَمْتَهُ عَلَى أَعْمَالِ يَدَيْكَ.
أَخْضَعْتَ كُلَّ شَيْءٍ تَحْتَ قَدَمَيْهِ.
لأَنَّهُ إِذْ أَخْضَعَ الْكُلَّ لَهُ لَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا غَيْرَ خَاضِعٍ لَهُ,
عَلَى أَنَّنَا الآنَ لَسْنَا نَرَى الْكُلَّ بَعْدُ مُخْضَعًا لَهُ,
وَلَكِنَّ الَّذِي وُضِعَ قَلِيلاً عَنِ الْمَلاَئِكَةِ، يَسُوعَ،
نَرَاهُ مُكَلَّلاً بِالْمَجْدِ وَالْكَرَامَةِ مِنْ أَجْلِ أَلَمِ الْمَوْتِ
لِكَيْ يَذُوقَ بِنِعْمَةِ اللهِ الْمَوْتَ لأَجْلِ كُلِّ وَاحِدٍ” [6–٩].
اقتبس الرسول كلمات المرتل النبوية: “من هو الإنسان حتى تذكره، أو ابن آدم حتى تفتقده، وتنقصه قليلاً عن الملائكة وبمجد وبهاء تكلله، تسلطه على أعمال يديك. جعلت كل شيء تحت قدميه” (مز٨ :٤–٦)، ويكمل المزمور “الغنم والبقر جميعًا وبهائم البر أيضًا، وطيور السماء وسمك البحر السالك في سبل المياه” (مز ٨: ٧–٨).
يرى الرسول بولس أن كلمات المرتل كلمات نبوية تتحدث عن الابن المتجسد الذي تواضع قليلاً عن الملائكة، خلال هذا التواضع تسلط روحيًا على الخليقة التي هي عمل يدي الله، مجددًا إياها. ويرى القديس أغسطينوس[1] أن المزمور هنا يشير إلى خضوع الخليقة كلها على المستوى السماوي والبشري للابن المتجسد. وكأنه في هذا يتفق مع العلامة أوريجينوس الذي يرى أن السيد وقد تواضع وحّد السمائيين مع الأرضيين، الطغمات الملائكية مع بني البشر، ليضم الكل كأعضاء في جسدٍ واحدٍ له. فهو رأس الكنيسة التي جمعت السماء مع الأرض بروح واحد!
يقول المرتل إنه قد خضع له الغنم والبقر جميعًا، فإن كان آدم يمثل الخروف الضال الذي من أجله ترك الله التسعة والتسعين ليبحث عنه، فإن التسعة والتسعين إنما يشيرون إلى الخليقة السماوية التي تملأ السماء، فقد نزل السيد إلينا متجسدًا كمن ترك الأبرار ليبحث عن الخروف الضال ويرده إلى القطيع، فيجتمع بإخوته السمائيين معًا، يشتركون معًا في التسبيح والشكر. لقد تحدث العلامة أوريجينوس كثيرًا عن خلطة السمائيين بالمؤمنين في المسيح يسوع، حتى قال انه إذ يجتمع المؤمنون معًا في كنيسة الله تفرح الملائكة وتتهلل، لأنها تجتمع هي أيضًا، حيث يلتقي الملائكة والمؤمنون معًا. فتكون هناك كنيسة منظورة مجتمعة معًا وكنيسة ملائكية غير منظورة مجتمعة معًا أيضًا! إننا نشاركهم تسابيحهم العلوية، وهم يشاركوننا فرحنا بالخلاص الإلهي!
يقول المرتل أن الغنم والبقر جميعًا وبهائم البر وطيور السماء وأسماك البحر يخضعون لذاك الذي في تواضعه صار كمن هو أقل من الملائكة. ماذا يعني الغنم والبقر إلاَّ رمزًا للقطيع الناطق، الشعب القديم الذي قبل بعضه الخضوع لمملكة المسيح الروحية وسيقبل بقية القطيع هذا الخضوع، بينما بهائم البرية يشير إلى جماعات الأمم التي عاشت كمن في البرية، محرومة من المراعي التي تمتع بها شعب الله مثل الناموس والأنبياء والوعود والعهود الخ.، طيور السماء تشير إلى النفوس المتعجرفة هائمة في الأمور العالية فإنها بروح الحب تخضع للسيد، بينما أسماك البحر تشير إلى النفوس المرتبكة بهموم الحياة كمن يسلك في وسط الأمواج. هكذا جاء كلمة الله متجسدًا لكي يقتنص في شبكة محبته كل إنسان: اليهودي والأممي، المتكبرين والمحطمين!
ما نقوله عن العالم الخارجي يتحقق أيضًا في العالم الداخلي فإن وجدنا في داخلنا قطيعًا من الغنم أو وحوشًا مفترسة، طيورًا تهيم في الجو أو أسماكًا تسبح في المياه، فلنسلمها لذاك الذي وحده له السلطان أن يخضعها لملكوته، مقدسًا أعماقنا الداخلية وتصرفاتنا الخارجية لتصير كلها لحسابه.
على أي الأحوال تواضع السيد حتى موت الصليب هو طريق الملكوت، وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [افتقدنا ابن الله حين كنا لا شيء، وإذ حمل ما لنا (ناسوتنا) ووحَّده بنا، صار أعظم من الكل[2].] هذا هو طريق خضوعنا لملكه، فكنائبٍ عنا خضع بإرادته للآب حاملاً الآلام حتى الموت، فصرنا خاضعين لأبيه، وله أيضًا. خضوعنا الآب إنما خلال خضوع الابن له، ويتحقق خلال خضوعنا نحن أيضًا للابن، غير أنه يوجد فارق بين خضوعنا نحن للآب والابن، وخضوع الابن نفسه لأبيه.
يليق بنا أن نميز بين أنواع مختلفة للخضوع خاصة في عبارة الرسول بولس: “وبعد ذلك متى سلم المُلْك لله الآب، متى أبطل كل رياسة وكل سلطان وكل قوة، لأنه يجب أن يملك حتى يضع جميع الأعداء تحت قدميه، آخر عدو يبطل هو الموت، لأنه أخضع كل شيء تحت قدميه ولكن حينما يقول إن كل شيء قد أخضع، فواضح أنه غير الذي أخضع له الكل، ومتى أخضع له الكل فحينئذ الابن نفسه سيخضع للذي أخضع له الكل كي يكون الله الكل في الكل” (١ كو ١٥: ٢٤–٢٨).
في هذه العبارة يميز الرسول بين ثلاثة أنواع من الخضوع: خضوع الهزيمة الكاملة التي تتحقق في يوم الرب العظيم حيث يخضع إبليس وجنوده وينهدم الموت تمامًا تحت قدمي السيد، وخضوع طاعة الخليقة لخالقها حيث تنعم بإكليلها الأبدي، أما ما هو أعظم وأسمى فهو خضوع الابن لأبيه على مستوى فريد.
لقد تحدث القديس أمبروسيوس[3] باستفاضة عن خضوع الابن لأبيه مؤكدًا أنه يختلف تمامًا عن خضوعنا للإمبراطور أو الملك، أو خضوعنا لكل ترتيب بشري من أجل الرب (١ بط ٢: ١٣)، أو خضوع الزوجة لرجلها (أف ٥: ٣)، أو خضوعنا نحن للآب في خوف المسيح.
يخضع السيد المسيح للآب من جانبين: الجانب الأول أنه كابن واحد مع الآب في اللاهوت لا يحمل إرادة مخالفة للآب، بل ذات إرادة الآب، يخضع لا كعبد مأمور وإنما كابن وحيد الجنس يحمل إرادة واحدة مع أبيه. ومن الجانب الآخر، إذ حمل طبيعتنا البشرية وصار ممثلاً لنا، خضع في طاعة كاملة لأبيه لنُحسب فيه أبناء طاعة، وتنزع عنا طبيعة العصيان التي ورثناها عن آدم الأول.
وقد لاحظ القديس أمبروسيوس أن خضوع الابن لأبيه يتحقق في المستقبل كقول الرسول: “فحينئذ الابن نفسه سيخضع للذي أخضع له الكل” (١ كو ١٥: ٢٨)، فهل لا يخضع الابن للآب حاليًا؟ [لم يخضع المسيح (بكل كنيسته) بعد لأن أعضاؤه لم تجلب بعد للخضوع… لكن حينما نصير ليس أعضاء كثيرين بل روحًا واحدًا، عندئذ يخضع هو أيضًا خلال خضوعنا نحن[4].]
كأن خضوع الكنيسة كلها حين تكتمل بأعضائها في يوم الرب العظيم بروح واحد هو خضوع جسد المسيح للآب خلال الرأس فيحسب المسيح خاضعا لأبيه فينا!
بمعنى آخر، السيد المسيح كرأس خاضع لأبيه منذ الأزل، قبل التجسد، لكنه إذ قبل المؤمنين به جسدًا له يخضع له فينا، أو نخضع نحن للآب باسم ابنه ولحسابه وإمكانياته.
هذا هو غاية التجسد الإلهي، خلاله صار الابن متواضعًا كأقل من الملائكة، لكي يجلب المؤمنين إلى الآب بالخضوع. الأمر الذي تحقق جزئيًا ويبقى عاملاً خلال أعماله الخلاصية. وكما يقول الرسول: “عَلَى أَنَّنَا الآنَ لَسْنَا نَرَى الْكُلَّ بَعْدُ مُخْضَعًا لَهُ. وَلَكِنَّ الَّذِي وُضِعَ قَلِيلاً عَنِ الْمَلاَئِكَةِ، يَسُوعَ، نَرَاهُ مُكَلَّلاً بِالْمَجْدِ وَالْكَرَامَةِ، مِنْ أَجْلِ أَلَمِ الْمَوْتِ، لِكَيْ يَذُوقَ بِنِعْمَةِ اللهِ الْمَوْتَ لأَجْلِ كُلِّ وَاحِدٍ“.
ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على العبارة الرسولية السابقة، قائلاً:
[إن كان يجب أن تخضع كل الأشياء له، لكنها لم تخضع بعد، فلا تحزن ولا تضطرب[5].]
[يذوق بنعمة الله الموت لأجل كل واحد، وليس لأجل المؤمنين فقط، وإنما من أجل العالم كله. حقًا لقد مات عن الجميع، ولكن ماذا إن كان ليس الجميع قد آمنوا؟ لقد تمم ما هو من جانبه[6]!]
[قال بحق: “يذوق الموت لأجل كل واحدٍ”، ولم يقل “يموت”، كما لو كان بالحقيقة يتذوق الموت حيث قضي فيه زمانًا قصيرًا حتى قام[7].] أما علة تذوقه الموت لأجل كل واحدٍ منا فهو دخوله إلى الموت قدام كل واحد منا حتى لا نرهب الموت بعد. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [كما أن الطبيب وهو في غير حاجة إلى تذوق الطعام المعد للمريض، لكنه من أجل اهتمامه بالمريض يتذوقه أولاً ليحثه على التناول منه بثقة، هكذا كان كل الناس يهابون الموت، فلكي يشجعهم ضد الموت تذوقه (السيد) بنفسه، وإن كان ليس في حاجة إليه، إذ يقول: “رئيس هذا العالم يأتي، وليس له فيَّ شيء[8]” (يو ١٤: ٣٠).]
هذا وقد علق القديس نفسه على قول الرسول: “وُضِعَ قَلِيلاً عَنِ الْمَلاَئِكَةِ” قائلاً أن السيد تواضع عن الملائكة قابلاً للموت لكنه تواضع قليلاً، أي لمدة ثلاثة أيام حيث قام معلنًا مجده، أما نحن فقد سقطنا تحت سلطان الموت زمانًا طويلاً بسبب الخطية حتى جاء من أقامنا منه.
بعد أن تحدث عن دور الابن في خلاصنا خلال تجسده وآلامه أوضح دور الآب، قائلاً: “لأَنَّهُ لاَقَ بِذَاكَ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ الْكُلُّ وَبِهِ الْكُلُّ، وَهُوَ آتٍ بِأَبْنَاءٍ كَثِيرِينَ إِلَى الْمَجْدِ، أَنْ يُكَمِّلَ رَئِيسَ خَلاَصِهِمْ بِالآلاَمِ” [١٠]. وللقديس يوحنا الذهبي الفم تعليق رائع على هذه العبارة، حيث يقول: [إنه يعمل ما يليق بحبه للبشرية، مقدمًا ابنه البكر أكثر مجدًا من الجميع، إذ يعلنه كمثال للآخرين، كمجاهد شريف يفوق الكل. إنه رئيس خلاصهم، أي علة خلاصهم. لاحظ الفارق بينه وبيننا، فهو ابن ونحن أبناء لكن هو يخلِّص (الآخرين) أما نحن فنخلُص… انظر كيف يفصل بينه وبيننا، قائلاً: وهو آت بأبناء كثيرين إلى المجد[9].]
إن كان الابن الوحيد الجنس قد وُضع قليلاً عن الملائكة لكي يكلل بالمجد والكرامة خلال خلاص كل واحد منا بآلامه المخلصة، فإن هذا العمل لا يخص الابن وحده، بل هو عمل الآب أيضًا الذي قدم لنا ابنه كقائد خلاصنا، باذلاً إياه بالآلام حتى الموت ليحقق خلاصنا ويهبنا في ابنه البنوة له، وكأن الآب يعمل فينا بآلام ابنه لنتمتع بمجد البنوة له.
بمعنى آخر إن كان الآب قد أوجدنا بابنه، إذ “به كان كل شيء، وبغيره لم يكن شيء مما كان”، فإن تجديد خلقتنا وخلاصنا من الإنسان العتيق الفاسد الإيمان حققه بابنه أيضًا خلال آلامه. يقارن القديس يوحنا الذهبي الفم بين العمل الإلهي في الخلقة والعمل الإلهي في تجديدنا، قائلاً: [الآلام هي تكميل Perfecting الخلاص وعلته… لقد قبل الجسد ليحتمل الآلام وهذا أعظم بكثير من خلقته للعالم من العدم. حقًا إن عمل الخلقة هو من قبيل حبه المترفق، لكن العمل الآخر (الخلاص بآلامه) لهو أعظم من ذلك بكثير، هذا ما أشار إليه الرسول بقوله: “ليظهر في الدهور الآتية غني نعمته الفائق لصلاحه، أقامنا معه وأجلسنا معه في السماويات في المسيح يسوع[10]” (أف ٢: ٧، ٦).]
نعود إلى تواضع الابن بقبوله التجسد، ودخوله إلى الآلام من أجل خلاصنا، والدخول بنا إلى ملكوته، ليتمجد فينا وننعم نحن بشركة أمجاده، أما السبب الثاني لتجسده أو تواضعه قليلاً عن الملائكة فهو صيرورته أخًا بكرًا لنا، يحل في وسطنا بكوننا إخوته الأصاغر، فنلتحم به بكونه القدوس لنصير فيه مقدسين. لهذا يكمل الرسول، قائلاً:
“لأَنَّ الْمُقَدِّسَ وَالْمُقَدَّسِينَ جَمِيعَهُمْ مِنْ وَاحِدٍ،
فَلِهَذَا السَّبَبِ لاَ يَسْتَحِي أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِخْوَةً،
قَائِلاً: أُخَبِّرُ بِاسْمِكَ إِخْوَتِي، وَفِي وَسَطِ الْكَنِيسَةِ أُسَبِّحُكَ” [١١-١٢].
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [انظر أيضًا كيف جلبهم معًا (المؤمنين والسيد المسيح)، مكرمًا إياهم واهبًا إياهم راحة، إذ يجعلهم إخوة المسيح… لكن هو يقدس وهم يتقدسون، عظيم هو الفارق بينهم[11].]
إنه لا يستحي أن يدعوهم إخوة، فإنه إذ التحف بالجسد إنما التحف بالأخوّة لهم[12]، واهبًا إياهم إمكانياته الإلهية ليمارسوا الحياة المقدسة فيه. وكما يقول البابا أثناسيوس الرسولي: [بالتجسد الإلهي صرنا مشابهين إياه من جهة الجسد، صرنا أغصانًا في الكرمة، متحدين به، متمتعين بملئها (يو ١: ١٦). بهذا تقدس جسدنا الذي كان قبلاً ميتًا وفاسدًا، إذ صار له حق القيامة والخلاص خلال إخوتنا بالسيد المسيح الحامل لجسدنا[13]!]
في شيء من التفصيل نقول أن الابن الكلمة إذ صار جسدًا، صار أخًا بكرًا لنا، لا يستحي أن يدعونا إخوة له، لأنه فيما هو نزل إلينا إذ به يرفعنا إليه. هو أخد جسدنا الذي على شبه جسد الخطية، لكن لم يكن ممكنًا للخطية أن تقترب إليه، إنما رفعنا نحن الخطاة إلى قداسته: “لأن المقدس والمقدسين جميعهم من واحد“. صرنا أعضاء في جسده فنحمل العضوية في جسده المقدس، لنا شركة سماته الفائقة.
بمعنى آخر، تواضع السيد عن الملائكة، أي تجسده فتح لنا باب الأخوّة له، وصار لنا بآلامه وقيامته حق التمتع بروحه القدوس ساكنًا فينا، هذا الذي يأخذ مما للمسيح ويخبرنا، أي يأخذ سماته المقدسة ليسكبها فينا، لنصير مقدسين فيه. بهذا العمل الإلهي نتعرف على الآب القدوس بكونه أبانا السماوي وندرك أسراره الإلهية غير المدركة. فينطلق لساننا الداخلي بالتسبيح والحمد. بهذا يناجي الابن الوحيد أباه القدوس، قائلاً: “أُخَبِّرُ بِاسْمِكَ إِخْوَتِي، وَفِي وَسَطِ الْكَنِيسَةِ أُسَبِّحُكَ” [١٢]. الإخبار هنا ليس بمجرد الكلام، إنما خلال العمل حيث يدخل بنا الروح القدس إلى الإتحاد مع الآب في ابنه فنتعرف على الاسم القدوس. والتسبيح ليس مجرد ألفاظ ننطق بها وإنما بتمتعنا بالعضوية الكنسية وإتحادنا بالمسيح رأس الكنيسة يصير التسبيح طبيعة داخلية. كل ما في داخلنا يلهج فرحًا ويترنم بالحمد لذاك الذي قدم لنا هذا العمل الخلاصي العجيب!
يكمل الرسول حديث الابن مع الآب القدوس هكذا:
“وَأَيْضًا: أَنَا أَكُونُ مُتَوَكِّلاً عَلَيْهِ,
وَأَيْضًا: هَا أَنَا وَالأَوْلاَدُ الَّذِينَ أَعْطَانِيهِمِ اللهُ” [13].
كنائبٍ عن البشرية وكأخٍ بكر للمؤمنين اتكل الابن في طاعة للآب، فنُحسب نحن جميعًا أبناء طاعة لله بعد أن كنا عبيدًا عصاة. يدخل بنا الابن إلى حضن أبيه خلال طريق طاعة الابن لأبيه، طاعة الحب الفريد، طاعة الإرادة الواحدة مع أبيه، الأمر الذي تعجز كل الخليقة أن تعبر إليه بدون الابن. والعجيب أنه وهو يقدمنا لأبيه أبناء طاعة له، يقدمنا أيضًا كأبناء طاعة للابن نفسه، لأنه ما كان يمكننا أن نطيع الآب ما لم ندخل في الحياة الجديدة التي لنا في الابن مطيعين له. طاعتنا للآب إنما خلال طاعتنا للابن فاتح طريق الطاعة! خلال هذه الطاعة التي صارت لنا نحو الابن، أصبح الابن ليس أخًا بكرًا فحسب وإنما أبًا أيضًا، إذ يقول الرسول على لسان السيد: “ها أنا والأولاد الذين أعطانيهم الله” ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على ذلك، قائلاً: [هنا يظهر نفسه أبًا كما أظهر نفسه قبلاً أخًا[14].]
أخوّته لنا وأبوّته تعلنان شركتنا فيه لكي ننعم بالغلبة على الموت الذي ساد علينا، وذلك بقبوله الموت عنا، فبموته أمات موتنا، يقول الرسول: “فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ الأَوْلاَدُ فِي اللَّحْمِ وَالدَّمِ، اشْتَرَكَ هُوَ أَيْضًا كَذَلِكَ فِيهِمَا، لِكَيْ يُبِيدَ بِالْمَوْتِ، ذَاكَ الَّذِي لَهُ سُلْطَانُ الْمَوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ” [١٤].
إذن تواضع المسيح عن الملائكة هو طريق تمتعنا بملكوته الإلهي، وهو طريق خلاصنا خلال أخوة السيد المسيح لنا وأبوته أيضًا، أخيرًا فإن هذا التواضع كان الباب للدخول إلى الموت لكي يبيد سلطان الموت أي إبليس محررًا إيانا. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [هنا يشير إلى ما هو عجيب، فقد انهزم إبليس بذات الأمر الذي به هزمنا، بالسلاح القوي ضد العالم أي الموت، ضربه به المسيح. بهذا ظهرت عظمة الغالب! أتريد أن ترى أي صلاح عظيم جلبه الموت؟ يقول الرسول: “وَيُعْتِقَ أُولَئِكَ الَّذِينَ خَوْفًا مِنَ الْمَوْتِ كَانُوا جَمِيعًا كُلَّ حَيَاتِهِمْ تَحْتَ الْعُبُودِيَّةِ” [١٥]. لماذا ترتجفون لماذا تخافون من صار كلا شيء! لم يعد بعد (إبليس أو الموت) مرعبًا، إنما صار تحت الأقدام، محتقرًا تمامًا[15].]
هذا هو غاية التجسد الإلهي، يحمل جسدنا لكي بموته يميت موتنا، واهبًا إيانا قوة الخلاص والقيامة الأبدية. يقول البابا أثناسيوس الرسولي: [صار إنسانًا في جسد خلاصنا، لكي يكون لديه ما يقدمه عنا خلاصًا لجميعنًا[16].]
يعلق القديس أمبروسيوس على العبارة الرسولية التي بين أيدينا قائلاً:
[من هو هذا الذي يريدنا أن نشاركه في لحمه ودمه؟ إنه بالتأكيد ابن الله! كيف صار شريكًا لنا إلاَّ باللحم، وكيف كسر قيود الموت إلاَّ بموته الجسدي؟ فإن احتمال المسيح للموت أمات الموت[17].]
كنا جميعًا تحت العبودية، ليس منا من له سلطان أن يدوس على الموت ولا أن يتحرر من أسر إبليس، لذا جاء القادر وحده أن يدخل إلى طريق الموت ويقوم، فيقيمنا معه متحررين من العبودية. حطم حكم الموت علينا ومزقه، وأفسد سلطان إبليس علينا، واهبًا إيانا حرية القيامة المجيدة كحياة نعيشها كل يوم حتى نلتقي معه في يوم القيامة الأخير.
يقول البابا أثناسيوس الرسولي: [ليتنا لا ننسى ما قد سلمه بولس… أي قيامة الرب! إنه يقول عنه أنه أباد الذي له سلطان الموت أي إبليس، وأقامنا معه. حل رباطات الموت، ووهبنا البركة عوض اللعنة، منحنا الفرح عوض الحزن، وقدم لنا العيد عوض النوح، أعطانا فرح عيد القيامة المقدس، العيد الدائم في قلوبنا لنفرح به على الدوام[18].] كما يقول في موضع آخر: [وضع نهاية للناموس (الحكم) الذي كان ضدنا وذلك بذبيحة جسده، واهبًا إيانا بداية جديدة للحياة على رجاء القيامة التي منحها لنا[19].] كما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لقد أظهر أيضًا أنه ليس فقط أبطل الموت وإنما صار إبليس بهذا كلا شيء، هذا الذي كان في حرب بلا هوادة ضدنا. فمن لا يخاف الموت يصير خارج دائرة طغيان إبليس… من لا يخاف أحدًا ولا يرتعب يكون فوق الكل، أكثر حرية من الجميع. لا يبالي بحياته (الزمنية) فبالأولى لا يهاب شيئًا. متى وجد إبليس نفسًا كهذه لا يقدر أن يقيم فيها عملاً من أعماله… هكذا، فإنه بنزع طغيان الموت عنا تكون لنا النصرة على قوة إبليس[20].]
مرة أخرى بالتجسد الإلهي، إذ تواضع الابن عن الملائكة صار من نسل إبراهيم حسب الجسد، صار أخًا بكرًا مشابهًا لنا في كل شيء، حتى فيما هو مجرب يقدر أن يعين المجربين، وكأنه صار كواحدٍ منا يشعر بإحساساتنا ويشفع فينا لدى أبيه. يقول الرسول:
“لأَنَّهُ حَقًّا لَيْسَ يُمْسِكُ الْمَلاَئِكَةَ،
بَلْ يُمْسِكُ نَسْلَ إِبْرَاهِيمَ.
مِنْ ثَمَّ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُشْبِهَ إِخْوَتَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ،
لِكَيْ يَكُونَ رَحِيمًا،
وَرَئِيسَ كَهَنَةٍ أَمِينًا فِي مَا لِلَّهِ حَتَّى يُكَفِّرَ خَطَايَا الشَّعْبِ.
لأَنَّهُ فِي مَا هُوَ قَدْ تَأَلَّمَ مُجَرَّبًا يَقْدِرُ أَنْ يُعِينَ الْمُجَرَّبِينَ” [١٦-18].
يفسر القديس يوحنا الذهبي الفم هذه العبارة، قائلاً: [لم يأخذ طبيعة الملاك بل طبيعة الإنسان[21].]
لماذا قال الرسول “يمسك“؟ لأن طبيعة الإنسان كانت هاربة منه بعيدًا لا تريد الالتقاء به، فاقتفى أثرها وأمسك بها بتجسده! في محبته ورعايته أمسك بطبيعتنا إذ حمل ناسوتنا فيه ليعطيه إمكانيات جديدة. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [من جهتي فإني إذ أفكر في هذا أدهش، وأتخيل أمورًا عظيمة بخصوص الجنس البشري. إنني أرى عطايا عظيمة وسامية، وأن لله غيرة عظيمة لحساب طبيعتنا[22].]
تقدم إلينا كرئيس كهنة أمين قادر أن يحررنا من خطايانا بذبيحة الصليب. دخل إلى الآلام مجربًا لكي يقدر أن يعين المجربين. عالج آلامنا وتجاربنا لا بانتزاعها عنا وإنما بحمله إياها ومشاركتنا وسط آلامنا. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [إنه لا يجهل آلامنا، بل يعرفها ليس فقط بكونه الله، وإنما بكونه إنسانًا قد جُرب. تألم كثيرًا، لذا يعرف كيف يحنو… يعرف ما هي الآلام، وما هي التجربة، ليس بأقل منا نحن المتألمين، إذ تألم هو أيضًا… لهذا يبسط يده بغيرة عظيمة ويحنو[23].] وأيضًا يقول البابا أثناسيوس الرسولي: [حقًا إنه لم يأخذ طبيعة الملائكة بل طبيعة نسل إبراهيم، لذلك لاق به أن يشبه إخوته في كل شيء، لكي يكون رحيمًا ورئيس كهنة أمينًا فيما يخص الله، محققًا مصالحة عن خطايا الشعب. فإنه في هذا تألم بكونه مجربًا يقدر أن يعين المجربين، لهذا فلتلاحظوا أيها الإخوة القديسين، شركاء الدعوة الإلهية رسول اعترافنا ورئيس كهنته يسوع، الذي كان أمينًا للذي أقامه[24].]
في إيجاز يمكننا أن نقول بأن التجسد الإلهي، حيث به تواضع الابن قليلاً عن الملائكة، حقق ما لم يكن ممكنًا للخليقة السماوية تحقيقه، ألا وهو:
أ. فتح باب الملكوت، فخضع الكل للآب في ابنه.
ب. وهب البشرية إتحادًا مع القدوس، فصاروا فيه قديسين.
ج. حسبنا إخوة له، يخبرنا عن اسم أبيه، ونمارس حياة التسبيح وسط الكنيسة المقدسة.
د. صار أبًا يقدمنا أبناء للطاعة لدى أبيه.
ه. حطم بموته موتنا، وحررنا من سلطان إبليس.
و. فيما هو مُجرب يقدر أن يشفع في المجربين، فيتقدم عنا كرئيس كهنة وذبيحة في نفس الوقت.
[1] On Ps. 8.
[2] In Hebr. hom 4: 2.
[3] Of Christian Faith, Book 5, Ch 13.
[4] Of Christian Faith, Book 5: 168.
[5] In Hebr. Hom. 4: 3.
[6] In Hebr. Hom. 4: 3.
[7] In Hebr. Hom. 4: 3.
[8] In Hebr. Hom. 4: 4.
[9] In Hebr. Hom. 4: 4.
[10] In Hebr. Hom. 4: 4.
[11] In Hebr. Hom. 4: 5.
[12] In Hebr. Hom. 4: 5.
[13] De Sententia Dionysii 11.
[14] In Hebr. hom 4: 5.
[15] In Hebr. Hom. 4: 6.
[16] Ep. 61: 3.
[17] Of Christian Faith 3: 84.
[18] Fest. Ep. 2: 7.
[19].Inc. of the Word 10
[20] In Hebr. hom 4: 6.
[21] In Hebr. Hom. 5: 1.
[22] In Hebr. Hom. 5: 1.
[23] In Hebr. Hom. 5: 2.
[24] Against Arians 2: 8.