تفسير العبرانيين 4 الأصحاح الرابع – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير العبرانيين 4 الأصحاح الرابع - القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير العبرانيين 4 الأصحاح الرابع – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير العبرانيين 4 الأصحاح الرابع – القمص تادرس يعقوب ملطي
المسيح ويشوع
بعد أن قارن الرسول بين السيد المسيح وأول قائد للشعب القديم “موسى” يتحدث هنا على خليفته يشوع الذي دخل بهم إلى أرض الموعد حيث الراحة. وقد ربط الرسول بين ثلاثة أنواع من الراحة: الدخول إلى راحة الله في اليوم السابع “السبت”، ودخول الشعب إلى أرض الراحة تحت قيادة يشوع، ودخولنا إلى الراحة الأبدية في المسيح يسوع سرّ راحتنا.
- حذر من عدم الإيمان ١ – ٣.
- اليوم السابع (الراحة) ٤ – ٥.
- أرض الموعد (الراحة) ٦ – ١٣.
- الراحة في المسيح ١٤ – ١٦.
- 1. حذر من عدم الإيمان
إذ سبق فضرب لنا الرسول مثلاً عمليًا بالآباء الذين حرموا من الدخول إلى أرض الموعد، أي التمتع بالراحة، بسبب عدم إيمانهم، يحذرنا قائلاً: “فَلْنَخَفْ، أَنَّهُ مَعَ بَقَاءِ وَعْدٍ بِالدُّخُولِ إِلَى رَاحَتِهِ، يُرَى أَحَدٌ مِنْكُمْ أَنَّهُ قَدْ خَابَ مِنْهُ” [1]. من جانب الله قدم لنا وعدًا بالدخول إلى راحته، لكن من جانبنا يلزم أن نخف لئلا مع وجود الوعد الإلهي الصادق نُحرم من التمتع به. هو كأب فتح لنا باب الرجاء، ونحن كأبناء يلزمنا أن نخف، لا كعبيدٍ في حالة رعب، وإنما نحمل خوف الابن الذي يخشى أن يجرح مشاعر أبيه بحرمان نفسه من الميراث الذي أعده الأب له. إن كان الله كأبٍ قدم لنا دم ابنه ثمنًا لخلاصنا، فبروح البنوة نخف لئلا نُحرم من هذا الخلاص. يقول الرسول بطرس: “وإن كنتم تدعون أبًا الذي يحكم بغير محاباة حسب عمل كل واحد، فسيروا زمان غربتكم بخوف، عالمين أنكم افتديتم لا بأشياء تفنى بفضة أو ذهب من سيرتكم الباطلة التي تقلدتموها من الآباء، بل بدمٍ كريم كما من حمل بلا عيب ولا دنس، دم المسيح” (١ بط ١: ١٧–١٩). ويقول الرسول بولس: “تمموا خلاصكم بخوفٍ ورعدةٍ” (في ٢: ١٢).
في حديث القديس أغسطينوس عن البتولية المقدسة يكتب إلى البتوليين معلنًا خوفه عليهم لئلا يسقطون في الكبرياء فيحرمون من المسيح يسوع، حاثًا إياهم أن يسلكوا بخوف ورعدة في طريق خلاصهم، فمن كلماته: [أقول إنني في خوف عظيم عليكم لئلا تفتخروا إنكم ستتبعون الحمل أينما ذهب يذهب ولا تقدرون أن تتبعوه في الطرق المستقيمة بسبب كبريائكم. إنه من الأفضل لكِ أيتها النفس البتول أنك وأنتِ بتول… أن تحملي مخافة الرب وتلدي روح الخلاص. حقًا إنه “لا خوف في المحبة بل المحبة الكاملة تطرد الخوف إلى خارج” (١ يو ٤: ١٨) كما هو مكتوب، لكنها تطرد خوف الناس وليس خوف الله، الخوف من الشرور الزمنية وليس مخافة الدينونة الإلهية في الآخرة، “لا تستكبر بل خف” (رو ١١: ٢٠). حب صلاح الله، ولتخف صرامته ولا تكن متكبرًا. بالحب خف لئلا تعصي بطريقة خطيرة (الله) الذي يُحب. أية معصية أشر من أن تحتقره بالكبرياء، ذاك الذي من أجلك لا يسر بالمتكبرين!… إن كنت لا تحب فخف لئلا تهلك، وإن كنت تحب فخف لئلا تحزنه[1]!]
إذن لنخف أنه مع بقاء وعد إلهي بدخولنا إلى راحته يخيب رجاؤنا بسبب عدم إيماننا أو تهاوننا. والعجيب أنه لا يقول: “وعد بالدخول إلى راحتنا” بل “وعد بالدخول إلى راحته“. لأننا إذ ننعم براحته إنما ننعم براحتنا الحقة. في المسيح يسوع ربنا وحده يجد الآب راحته من جهتنا إذ يقدمنا إليه أعضاء جسده، أعضاء مبررة ومقدسة بالدم الثمين، وبهذا تتحقق راحتنا نحن أيضًا، إذ فيه نستقر في أحضان الآب السماوي إلى الأبد. فالمسيح هو “سرّ الراحة الحقيقية” فيه يستريح الآب ونستريح نحن أيضًا.
انفتاح أبواب الرجاء للراحة، بثبوتنا في السيد المسيح، لا يدفعنا إلى التواكل والتراخي بل إلى الجهاد المستمر متمسكين بإقرار الإيمان والتقدم بثقة إلى عرش النعمة. كأن التمتع بالراحة يتطلب الحذر من عدم الإيمان والجهاد متمسكين بالإيمان في نموٍ دائمٍ. لهذا يقول: “فَلْنَخَفْ… فَلْنَجْتَهِدْ… فَلْنَتَمَسَّكْ بِالإِقْرَارِ… فَلْنَتَقَدَّمْ بِثِقَةٍ إِلَى عَرْشِ النِّعْمَةِ لِكَيْ نَنَالَ رَحْمَةً وَنَجِدَ نِعْمَةً عَوْنًا فِي حِينِهِ” [١، ١١، ١٤، ١٦]. فالمخافة الإلهية تدفعنا إلى الاجتهاد، والاجتهاد يجعلنا نتمسك بإقرار الإيمان وهذا بدوره يجعلنا في حالة تقدم مستمر بيقين في عمل نعمة الله مطمئنين أن الله يعمل فينا في حينه، أي في الوقت المناسب.
إذ حدثنا الرسول بولس عن الاجتهاد بخوف الله لنوال وعده بالراحة يربط بين هذا الوعد وباليوم السابع، أي السبت، الذي يعني في العبرية “راحة”. “لأَنَّهُ قَالَ فِي مَوْضِعٍ عَنِ السَّابِعِ: وَاسْتَرَاحَ اللهُ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ مِنْ جَمِيعِ أَعْمَالِهِ” [٤].
ما هو ارتباط الوعد بالدخول إلى راحته براحة الرب في اليوم السابع؟ إن كان الله قد استراح في اليوم السابع بعد أن خلق العالم كله في ستة أيام أي في ست حقبات زمنية، فلا يعني اليوم السابع راحته عن العمل، إذ يقول السيد المسيح: “أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل” (يو ٥: ١٧). ويقول القديس إكليمنضس السكندري بأن الله لا يحتاج إلى يوم للراحة كالإنسان فإنه [لا يتعب ولا يمسه ألم ولا عوز[2].] إذن راحة الله في اليوم السابع إنما تعني فرحه وبهجته بخلقة الإنسان في اليوم السادس بعد أن أعد له كل احتياجاته قبل أن يجبله.
إن كان الله قد استراح في اليوم السابع، فإن الستة أيام تشير إلى الحياة الزمنية حيث يعمل الله على الدوام لحسابنا حتى متى جاء يوم الرب العظيم أي السبت الحقيقي يستريح الله بقيامتنا ولقائنا معه في الأمجاد، حيث يعلن كمال خلاصنا روحيًا وجسديًا، ونوجد هناك معه وفيه إلى الأبد، في “السماء الجديدة والأرض الجديدة” (رؤ ٢١: ١)، في المدينة المقدسة أورشليم الجديدة النازلة من السماء من عند الله مهيأة كعروس مزينة لرجلها، والتي قيل عنها: “هوذا مسكن الله مع الناس، وهو سيسكن معهم، وهم يكونون له شعبًا، والله نفسه يكون معهم إلهًا” (رؤ ٢١: ٣). هذه هي الراحة الحقة لله والناس، أو هو سبت الرب وسبتنا، وقد سبق لنا إدراك أن السيد المسيح هو “راحتنا الحقيقية” أو “سبتنا الحقيقي”، فيه استراح الآب في البشرية إذ وجدنا أعضاء في الجسد ابنه مقدسين ومتبررين، وفيه استرحنا في الآب إذ نجده أبانا السماوي بتمتعنا بالبنوة لله بثبوتنا في الابن الوحيد[3]. تحققت الراحة بقيامة السيد المسيح من الأموات حيث أقامنا معه معطيًا إيانا سلطانًا على الموت وغلبة على الجحيم وتحطيمًا للخطية. فصار لنا حق الدخول إلى السماويات حتى حضن الآب باتحادنا في القائم من الأموات وللآب أن يقبلنا فيه كأعضاء جسد ابنه المحبوب. ويتحدث الأب برناباس من رجال القرن الثاني عن قيامة الرب كسرّ الراحة أو السبت الحقيقي، قائلاً: [نحن نحفظ اليوم الثامن (الأحد) بفرح، اليوم الذي فيه قام الرب من الأموات، ليعلن عن نفسه أن يصعد إلى السماوات[4].] وقد اعتادت الكنيسة منذ العصر الرسولي أن تقيم سرّ الإفخارستيا كسرّ للراحة الحقيقية، حيث تنعم بجسد السيد المسيح القائم من الأموات ودمه في يوم الأحد تذكار قيامته!
يكمل الرسول بل حديثه عن راحة الله في اليوم السابع هكذا: “وَفِي هَذَا لَنْ يَدْخُلُوا رَاحَتِي” [٥]… لماذا؟
أولاً: لأن اليهود أخذوا راحة اليوم السابع بمعنى التوقف عن العمل والبطالة دون عمل الخير… بل دنسوا السبت بالشر ففقدوا الراحة. لهذا ينصحنا القديس يوحنا الذهبي الفم، قائلاً: [لا يعني (راحة الله) البطالة بل انتهاء التعب، فإن الله لا يزال يعمل حتى الآن كما يقول المسيح “أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل” لذا أطلب إليكم أن تتجنبوا الإهمال وتمتلئوا غيرة من جهة الفضيلة لأن لذة الشر قصيرة، أما الله فباقٍ. أما الفضيلة فعلى العكس فرحًا لا يشيخ، وأما تعبها فإلى حين[5].]
ثانيًا: أما السبب الثاني لعدم دخولهم إلى راحة الله فهو عدم إيمان اليهود بالسيد المسيح الذي هو “السبت الحقيقي”، إذ يقول السيد نفسه: “لو لم أكن قد جئت وكلمتهم لم تكن لهم خطية، وأما الآن فليس لهم عذر في خطيتهم” (يو ١٥: ٢٢)… لقد جاء السبت الحقيقي إلى العالم ورفضه اليهود فرفضوا راحتهم في الله. وكما يقول القديس يوحنا الإنجيلي: “إلى خاصته جاء، وخاصته لم تقبله” (يو ١: ١١). جاء “السبت الحقيقي” ليعلن لهم الانطلاقة من حفظ السبت الحرفي والدخول إلى السبت الحقيقي ، فجال يصنع خيرًا في السبوت، مؤكدًا لهم “أن ابن الإنسان هو رب السبت أيضًا” (مت ١٢: ٨؛ مر ٢: ٢٨؛ لو ٦: ٥).
انتقل الرسول بولس من الراحة التي لنا في الله في اليوم السابع أو السبت إلى الراحة التي صارت لشعب الله قديًما بدخولهم الأرض التي سبق فوعدهم بها، والتي تفيض لبنًا وعسلاً، لكي يقارن بين يسوع المسيح قائدنا إلى الأرض الجديدة والسماء الجديدة ويشوع بن نون الذي دخل بهم ومعهم إلى كنعان ليهبهم الراحة التي وعد الله بها آباءهم… إذ يقول الرسول أن الله استمر يعدهم بالراحة حتى بعد تمتعهم بالأرض، كأن ما ناله الشعب بيشوع لم يحقق لهم كمال الراحة الحقة، وإنما كان رمزًا لراحة ينتظرونها: “لأَنَّهُ لَوْ كَانَ يَشُوعُ قَدْ أَرَاحَهُمْ، لَمَا تَكَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ يَوْمٍ آخَرَ. إِذًا بَقِيَتْ رَاحَةٌ لِشَعْبِ اللهِ” [٩]. لا تزال توجد راحة نسعى مجاهدين أن نتمتع بها كما استراح الله في اليوم السابع من أعماله ودخل الشعب أرض الراحة. “فَلْنَجْتَهِدْ أَنْ نَدْخُلَ تِلْكَ الرَّاحَةَ، لِئَلاَّ يَسْقُطَ أَحَدٌ فِي عِبْرَةِ الْعِصْيَانِ هَذِهِ عَيْنِهَا” [١١]. هذه الراحة هي الاجتهاد في الحياة مع المسيح يسوع سرّ راحتنا. الإيمان به هو الراحة، والاجتهاد المستمر إنما يعني ثبوتنا في الراحة الأبدية. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [حقًا إن الإيمان لعظيم ويجلب خلاصًا، بدونه لا يمكن الخلاص قط… لكن الإيمان وحده لا يكفي لتحقيقه… إذ يقول: “فلنجتهد“. لا يكفي الإيمان، إنما يلزم أن يضاف إليه الحياة وغيرتنا أن نكون عظماء. يوجد لزوم للغيرة العظمى أن نرتفع إلى السماوات. إن كان الذين نالوا ضيقات كثيرة في البرية لم يحسبوا أهلاً لأرض (الموعد) وكانوا عاجزين عن التمتع بها لأنهم تذمروا، فكيف بالأكثر نتأهل نحن للسماوات إن عشنا مهملين وعاطلين! إننا في حاجه إلى غيرة شديدة[6].]
ماذا يعني القول “فلنجتهد… لئلا يسقط أحد“؟ يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [تعني أنه يليق بنا أن يكون فكرنا ورجاؤنا وتوقعاتنا هناك (في السماء) لئلا نفشل[7].] كما يعني أيضًا أنه وإن كنا قد تمتعنا بالراحة في المسيح يسوع ودخلنا معه وفيه إلى السماويات يليق بنا أن نجتهد لننمو فيه، لئلا نسقط ونُحرم مما نحن عليه. وكما يقول الرسول بولس لأهل غلاطية: “أهكذا أنتم أغبياء! أبعدما ابتدأتم بالروح تكملون الآن بالجسد!” (غل ٣: ٣). هكذا بعدما يبتدئ البعض بالروح فينعموا بالراحة الحقة في المسيح يسوع راحتنا يتراخوا في جهادهم ويسقطوا عن الراحة ليكملوا أيام زمانهم في الجسد، منحدرين من السماء إلى الأرض. لنجتهد أن نبقى عاملين في الروحيات ولا نرتد بعد إلى الجسديات، وكما يقول القديس چيروم: [لماذا نرغب نحن الذين مع المسيح قد صلبنا الجسد وشهواته وملذاته أن نمارس أعمال الجسد بعد[8]؟] في المثال الذي ضربه السيد المسيح بخصوص الخروف الضال (لو ١٥) الذي من أجله ترك الراعي التسعة والتسعين يبحث عنه وسط الجبال، فإن هذا الخروف يمثل إنسانًا كان يسلك وسط الجماعة المقدسة بالروح وقد سقط في الجسديات فحُرم من الراحة الحقيقية.
أما سلاحنا الذي يسندنا للدخول إلى الراحة السماوية فهو كلمة الله، سواء الكلمة المكتوبة أو الكلمة الله المتجسد. “لأَنَّ كَلِمَةَ اللهِ حَيَّةٌ وَفَعَّالَةٌ وَأَمْضَى مِنْ كُلِّ سَيْفٍ ذِي حَدَّيْنِ، وَخَارِقَةٌ إِلَى مَفْرَقِ النَّفْسِ وَالرُّوحِ وَالْمَفَاصِلِ وَالْمِخَاخِ، وَمُمَيِّزَةٌ أَفْكَارَ الْقَلْبِ وَنِيَّاتِهِ. وَلَيْسَتْ خَلِيقَةٌ غَيْرَ ظَاهِرَةٍ قُدَّامَهُ، بَلْ كُلُّ شَيْءٍ عُرْيَانٌ وَمَكْشُوفٌ لِعَيْنَيْ ذَلِكَ الَّذِي مَعَهُ أَمْرُنَا.” [١٢-١٣]. فالسيد المسيح هو كلمة الله الحيّ والفعَّال الذي يدخل بنا إلى حياتنا الخفية، يعمل في القلب والحواس ويقدس كل أعضائنا، مهيئًا إيانا بروحه القدوس لينطلق بنا إلى حضن أبيه كورثة معه في ملكوته السماوي. إنه كاشف أسرارنا الداخلية وعارف بأعماقنا، يقدر على تجديدها المستمر. يقول البابا أثناسيوس الرسولي: [ابن الله حيّ وفعّال يعمل يومًا فيوم لخلاص الكل[9].] كما يقول: [الإنسان يعمل لا بالكلمات بل باليدين لأنه مخلوق وكلمته ليست لها كيان. أما كلمة الله فكما يقول الرسول: “حيّ وفعّال”… إذ هو خالق الكل وبغيره لم يكن شيء مما كان (يو ١: ٣)… لا يليق بنا أن نسأل: لماذا كلمة الله ليست ككلمتنا، مدركين أن الله ليس مثلنا[10].]
ما نقوله عن السيد المسيح كلمة الله الحيّ نكرره عن كلمة الله المكتوبة، فإننا إذ ننعم بها إنما ندخل إلى اللقاء مع السيد المسيح نفسه المختفي وراء الحروف. بالروح القدس تدخل النفس إلى أعماق الكلمة، لننعم بالحجال السماوي ونعيش مع كلمة الله الحيّ نتمتع بعمله فيها!
يحدثنا المرتل عن فاعلية كلمة الله في حياة المؤمنين، قائلاً: “إلى الدهر لا أنسى وصاياك، لأنك بها أحببتني”، سراج لرجلي كلامك ونور لسبيلي”، “فتح كلامك ينير يعّقل الجهال”، “أبتهج أنا بكلامك، كمن وجد غنيمة وافرة” (مز ١١٩: ٩٣، ١٠٥، ١٣٠، ١٦٢). لقد وجد المرتل في الوصية الإلهية إنها واهبة حياة وسرّ استنارة وينبوع حكمة وكنز غنى لنفسه!
إن كان يشوع بن نون لم يقدم الراحة الكاملة، وقد بقي وعد بالراحة [٩]… فما هي الراحة الحقيقية الكاملة؟ ومن الذي يقدر أن يدخل بنا إليها؟
يقول الرسول بولس: “فَإِذْ لَنَا رَئِيسُ كَهَنَةٍ عَظِيمٌ قَدِ اجْتَازَ السَّمَاوَاتِ، يَسُوعُ ابْنُ اللهِ، فَلْنَتَمَسَّكْ بِالإِقْرَارِ. لأَنْ لَيْسَ لَنَا رَئِيسُ كَهَنَةٍ غَيْرُ قَادِرٍ أَنْ يَرْثِيَ لِضَعَفَاتِنَا، بَلْ مُجَرَّبٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُنَا، بِلاَ خَطِيَّةٍ. فَلْنَتَقَدَّمْ بِثِقَةٍ إِلَى عَرْشِ النِّعْمَةِ، لِكَيْ نَنَالَ رَحْمَةً وَنَجِدَ نِعْمَةً عَوْنًا فِي حِينِهِ” [١٤–١٦].
نحن نعلم أنه ما كان ليشوع بن نون أن يجتاز نهر الأردن بالشعب ليعبر إلى كنعان إلاَّ ومعه رئيس الكهنة والكهنة اللاويون الحاملون التابوت المقدس، إذ “قال يشوع للكهنة احملوا تابوت العهد، واعبروا أمام الشعب” (يش ٣: ٦)، ويقول الرب: “ويكون حينما تستقر بطون أقدام الكهنة حاملي تابوت الرب سيد الأرض كلها في مياه الأردن أن المياه المنحدرة من فوق تنفلق وتقف ندًا واحدًا” (يش ٣: ١٣). أما يسوع فهو “ابن الله” و”رئيس كهنتنا” لم يحمل تابوت عهد ليعبر بنا نهر الأردن ويدخل بنا إلى كنعان إنما بكونه واحدًا في أبيه في جوهر اللاهوت اجتاز السماوات ليدخل بنا إلى كنعان السماوية وتستقر في حضن أبيه!
يقول الرسول “إذ لنا” فهو ليس مجرد رئيس كهنة بل هو “لنا“، قدم لنا ذاته لنحمله فينا، نملكه ويملكنا، يدخل إلى قلوبنا فندخل معه إلى سماواته. لهذا يقول إشعياء النبي: “يولد لنا ولد ونُعطى ابنًا، وتكون الرياسة على كتفه، ويُدعى اسمه عجيبًا مشيرًا إلهًا قديرًا أبًا أبديًا رئيس السلام” (إش ٩: ٦)، إنه المولود لنا ومُعطى لنا. هذا ما أكده ملاك الرب للرعاة حين بشرهم بميلاد السيد: “إنه ولد لكم اليوم… مخلص هو المسيح الرب” (لو ٢: ١١). صار المسيح لنا حتى إذ اجتاز السماوات نجتازها معه وبه لنكون مع مسيحنا!
يطالبنا الرسول أن نتمسك بالإقرار أي بالإيمان بثقة إلى عرش النعمة، لكي ننال رحمة، ونجد نعمة عونًا في حينه. الإقرار هو الإيمان، لنتمسك بالإيمان أنه “يسوع ابن الله”، أي مخلصنا ابن الله السماوي، القادر أن يجتاز بنا إلى مجده الأبدي. لنتقدم مجاهدين ومملوءين رجاءً إلى نعمة الله تسندنا وتهبنا العون، ولكن “في حينه”. نطلب أن نجتاز مع يشوعنا الحق لا إلى أرض الموعد الزمنية، بل إلى كنعان العليا، ندخل عربونها هنا، ونتذوق ثمرها، وننعم بمجدها في القلب، وننطق بلغتها السماوية، ونحمل سمة مواطنيها، حتى متى حان الوقت ننعم بها في كمال المجد.
ولئلا يتشكك أحد بسبب ضعفه أنه لا يقدر أن يجتاز مع السيد سماواته يقول: “لأَنْ لَيْسَ لَنَا رَئِيسُ كَهَنَةٍ غَيْرُ قَادِرٍ أَنْ يَرْثِيَ لِضَعَفَاتِنَا، بَلْ مُجَرَّبٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُنَا، بِلاَ خَطِيَّةٍ“. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [إنه لا يجهل ما يخصنا كما يحدث مع كثير من رؤساء الكهنة، إذ لا يعرفون من هم في ضيقات… إذ يستحيل على الإنسان أن يدرك أحزان المتضايقين… أما رئيس الكهنة الذي لنا فقد احتمل كل شيء. تألم أولاً وعندئذ صعد لكي يكون قادرًا أن يحنو علينا[11].]
[1] Of Holy Virginity 39.
[2] Strom. 6: 16.
[3] راجع للمؤلف: المسيح في سرّ الأفخارستيا، ١٩٧٣، ص ١١٥: ١٣٦، سفر الخروج، ١٩٨١، ص ٢٠٧.
[4] Ep. of Barnabas 15.
[5] In Joan, hom 36: 2.
[6] In Hebr. hom 7: 1.
[7]In Hebr. hom 7: 1.
[8] Adv. Jovin. 1: 38.
[9] Incar. Of the Word 31.
[10] Adv. Arians 2: 35.
[11] In Hebr. hom 7: 5.