تفسير العبرانيين 5 الأصحاح الخامس – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير العبرانيين 5 الأصحاح الخامس – القمص تادرس يعقوب ملطي
المسيح وهرون
إذ قارن الرسول بين الراحة التي قُدمت قديمًا خلال يشوع كرمزٍ، والراحة الحقة التي يقدمها لنا ربنا يسوع، بدأ حديثه في جوهر موضوع رسالته، ألا وهو “كهنوت السيد المسيح”، الذي هو ليس على رتبة هرون بل على رتبة ملكي صادق إلى الأبد، فبدأ هنا الحديث عن هرون بكونه أول رئيس كهنة مدعو من الله مباشرة لهذا العمل، والمتفوق على جميع رؤساء الكهنة الذين خلفوه، ليقدم لنا من هو أعظم منه بما لا يُقاس، ربنا يسوع الذي يدخل بنا إلى الأقداس السماوية، يشفع فينا على مستوى جديد وفريد.
- المسيح رئيس كهنة ١ – ٥.
- رئيس كهنة من أجلنا ٧ – ١٠.
- الحاجة إلى بداءة أقوال الله ١١ – ١٤.
- 1. المسيح رئيس كهنة
عرض الرسول بولس سمات رئيس الكهنة وعمله ليكشف عن السمو الفائق للسيد المسيح متى قورن بهرون، وليوضح عمل السيد المسيح الكهنوتي بالنسبة لنا في ظل العهد الجديد.
أولا: الشرط الأول في رئيس الكهنة أن يكون “مأخوذًا من الناس” [١]، فرئيس الكهنة يشفع عن بني جنسه “الإنسان” يشعر بضعفاته ويعمل باسمهم. وقد تحقق هذا الشرط في السيد المسيح، فإنه وهو ابن الله الوحيد تأنس، وصار كواحد منا غير غريب عنا، حتى يقوم بدوره الكهنوتي عن الناس، لكن شتان ما بين الكاهن الهاروني وبين السيد المسيح. الأول “قَادِرًا أَنْ يَتَرَفَّقَ بِالْجُهَّالِ وَالضَّالِّينَ، إِذْ هُوَ أَيْضًا مُحَاطٌ بِالضُّعْفِ” [٢]، أما الثاني فقادر أن يترفق بالجهال والضالين، لا لأنه محاط بالضعف، وإنما لأنه وهو خالق الإنسان يدرك أسراره الداخلية، ويعرف ضعفاته، احتمل الآلام ودخل معنا في الضيق لا بسبب ضعف في داخله، إنما لكي يشاركنا أتعابنا ويعيش معنا وسط الضيقة. نحن دخلنا بسبب خطايانا فانكسرنا وسقطنا، أما هو فدخلها بسبب حبه، فلا تقدر الضيقة أن تبتلعه، ولا الألم أن يهزمه، ولا الموت أن يهلك حياته، إنما يحملنا في الضيقة وهو معنا فيها ليرفعنا إلى مجده، ويهبنا حياته المقامة. إنه مختبر للألم لكنه غير محاط بضعف داخلي. كان رئيس الكهنة الهاروني يقدم ذبائح عن جهالاته وخطاياه أولاً حتى يقدر أن يدخل إلى عمله الشفاعي عن الشعب الله، مقدمًا عنهم أيضًا ذبائح دموية، فيشفع بالصلاة مستندة على ذبائح حيوانية. أما رئيس الكهنة الجديد يسوع المسيح فلم يكن في عوزٍ إلى ذبيحة كفارية عن نفسه لأنه بلا خطية، لذا يشفع لا بمجرد كلمات صلاة تقام، وإنما يحملنا فهي أعضاء جسده خلال ذبيحة نفسه التي قدمها في كمال حبه، ذبيحة فريدة قدمها مرة واحدة من أجل إخوته الأصاغر لم تقدم ولا تشيخ، فعّالة على الدوام، قادرة أن تبررنا وتحملنا إلى حضن الآب. رئيس كهنتنا قدوس بلا عيب، لم تدفعه قداسته إلى القسوة على الخطاة وإدانتهم، بل بالحري أعلنت أنه وحده القادر على الشفاعة الكفارية، أي القادر أن يحملنا إلى حضن أبيه باتحادنا فيه. ذبيحته مقبولة ومرضية لدى الآب، لأنها بلا عيب قادرة أن تجعلنا نحن أيضًا موضوع رضاه!
قداسة رئيس كهنتنا كشفت بالأكثر عن أسرار عمق الحب الإلهي من جهة البشرية في أعماق خطيتها. إنه ينقش أسماءنا على حجارة كريمة مثبتة في صدرية، ليدخل بها إلى قدس الأقداس أمام تابوت العهد، وإنما ينقشها فيه، يضعنا في أحشائه، أسماؤنا مكتوبة بالدم الذكي الكريم، ليدخل بنا إلى السماوات عينها، مقدمًا إيانا أبناء لأبيه السماوي!
ثانيًا: الشرط الثاني في رئيس الكهنة أن: ” يُقَامُ لأَجْلِ النَّاسِ فِي مَا لِلَّهِ، لِكَيْ يُقَدِّمَ قَرَابِينَ وَذَبَائِحَ عَنِ الْخَطَايَا” [2].
لا يقوم رئيس الكهنة الهاروني من بين الناس فحسب وإنما من لأجل الناس أيضًا، يقصد تقديم قرابين وذبائح عن الخطايا التي ارتكبوها حتى يصيروا لله، فهو لا يعمل لحساب أمورهم الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية، إنما يهتم أولاً وآخرًا أن يقدمهم بالروح لله. أما الابن الوحيد الجنس فصار ابن الإنسان يتقدم إليهم كرئيس كهنة منهم وعنهم، مقدمًا حياته قربانًا وذبيحة حب لكي يطهرهم من الخطايا، مقدسًا ضمائرهم ومجددًا نفوسهم الداخلية، ليصيروا لله أبيه. يدخل بهم إلى البنوة للآب خلال تقديسهم باتحادهم معه وثبوتهم فيه.
كنا قبلاً مبيعين للخطية فملك الموت علينا (رو ٥: ١٢ – ١٤)، لكن إذ “مات المسيح لأجلنا” (رو ٥: ٨)، لم نعد بعد تحت سلطان الموت وإنما صرنا أحياء في المسيح يقدمنا لأبيه، أو كما يقول الرسول: “كذلك أنتم أيضًا احسبوا أنفسكم أمواتًا عن الخطية ولكن أحياء لله بالمسيح يسوع ربنا” (رو ٦: ١١). هذا هو عمل السيد المسيح الكفاري، الأمر الذي يعجز عنه كل رئيس كهنة هاروني، إذ هو محتاج إلى من ينتشله من سلطان الموت ويرفعه عن الضعف؛ يقول الرسول: “وَلِهَذَا الضُّعْفِ يَلْتَزِمُ أَنَّهُ كَمَا يُقَدِّمُ عَنِ الْخَطَايَا لأَجْلِ الشَّعْبِ هَكَذَا أَيْضًا لأَجْلِ نَفْسِهِ” [٣].
ثالثًا: الشرط الثالث في رئيس الكهنة أن يكون مدعوًا من الله “وَلاَ يَأْخُذُ أَحَدٌ هَذِهِ الْوَظِيفَةَ بِنَفْسِهِ، بَلِ الْمَدْعُّوُ مِنَ اللهِ، كَمَا هَارُونُ أَيْضًا. كَذَلِكَ الْمَسِيحُ أَيْضًا لَمْ يُمَجِّدْ نَفْسَهُ لِيَصِيرَ رَئِيسَ كَهَنَةٍ، بَلِ الَّذِي قَالَ لَهُ: أَنْتَ ابْنِي أَنَا الْيَوْمَ وَلَدْتُكَ. كَمَا يَقُولُ أَيْضًا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَنْتَ كَاهِنٌ إِلَى الأَبَدِ عَلَى رُتْبَةِ مَلْكِي صَادِق” [٤–٦]. يلزم أن يكون مدعوًا من الله حتى يقبل الله القرابين والذبائح ويستجيب لشفاعته عن الشعب. هذا ما جعل اليهود يفتخرون بأن الله دعا هرون باسمه وبطريقة واضحة كأول رئيس كهنة لهم، أما رئيس كهنتنا يسوع المسيح فهو الابن الأزلي المدعو من الآب: “أنت ابني وأنا اليوم ولدتك“. دُعي بواسطة أبيه الواحد معه في الجوهر لا بتعيين خارجي كما هرون، إنما هي دعوة النور لبهائه غير المنفصل عنه. هو تخصيص عمل في الأقانيم الإلهية. الآب اختص بالتدبير والابن يعمل الخلاص والروح القدس بالشركة. إنه الكاهن السرمدي الذي قدم ذاته لأجل خلاصنا ويبقى كاهنًا إلى الأبد على رتبة ملكي صادق.
“الَّذِي، فِي أَيَّامِ جَسَدِهِ،
إِذْ قَدَّمَ بِصُرَاخٍ شَدِيدٍ وَدُمُوعٍ طِلْبَاتٍ وَتَضَرُّعَاتٍ لِلْقَادِرِ أَنْ يُخَلِّصَهُ مِنَ الْمَوْتِ،
وَسُمِعَ لَهُ مِنْ أَجْلِ تَقْوَاهُ،
مَعَ كَوْنِهِ ابْنًا تَعَلَّمَ الطَّاعَةَ مِمَّا تَأَلَّمَ بِهِ.
وَإِذْ كُمِّلَ صَارَ لِجَمِيعِ الَّذِينَ يُطِيعُونَهُ سَبَبَ خَلاَصٍ أَبَدِيٍّ،
مَدْعُّوًا مِنَ اللهِ رَئِيسَ كَهَنَةٍ عَلَى رُتْبَةِ مَلْكِي صَادِقَ” [٧–١٠].
قبل ناسوتنا وحمل جسدنا كقول الإنجيلي “والكلمة صار جسدًا” (يو ١: ١٤) لكي يمارس عمله الكهنوتي عنا بتقديم حياته فدية. يقول الرسول “في أيام جسده” ليعلن أن ما تألمه في الجسد كما يقول معلمنا بطرس: “قد تألم المسيح لأجلنا بالجسد” (١ بط ٤: ٢)، مقدمًا نفسه بصراخٍ شديدٍ ودموعٍ وطلباتٍ وتضرعاتٍ، وكأن معلمنا بولس يود أن يؤكد أن الآلام كانت حقيقية بما تحمله من مرارة وما تبعثه من صرخات شديدة ودموع وطلبات وتضرعات، وليس كما ادعى أصحاب الفكر الغنوسي أنها آلام وهمية، لأن جسده لم يكن إلاَّ خيالاً. لقد تألم حقًا وصرخ بدموع وطلب وتضرع!
إنه ليس كهرون يلبس الثياب الكهنوتية ويمارس عمله الكهنوتي كطقس ليس فيه بذل من جانبه، بل بالعكس كان ينعم بالزينة مع كرامة الناس، أما يسوعنا فلبس ثوب تواضعنا، حمل جسدنا لكن بلا خطية ومارس كهنوته آلامًا وصرخات ودموعًا وطلبات وتضرعات بل وموتًا على الصليب. التحم كهنوته بذبيحته فصار طقسه فريدًا، طقس آلام الحب الباذل حتى الموت! لقد غيَّر ربنا مفهومنا للعمل الكهنوتي، فهو ليس كرامة وسلطانًا في عيني الكاهن، إنما هو قبول الموت مع المسيح الذبيح كل النهار من أجل المحبوبين! هذا ما عاشه الرسول بولس نفسه في ممارسته العمل الرسولي، إذ يقول: “وأما أنا فبكل سرور أُنْفِقُ وَأُنْفَقُ لأجل أنفسكم، وإن كنت كلما أحبكم أكثر أُحب أقل، فليكن!” (٢ كو ١٢: ١٥، ١٦). ويحمل القديس يوحنا الذهبي الفم ذات الروح حين يعلن بذله لشعبه، قائلاً: [ليتكم تستطيعون معاينة النيران الملتهبة في قلبي، لتعرفوا إني أحترق أكثر من سيدة شابة تئن بسبب ترملها المبكر، فإني لست أظنها تحزن على زوجها ولا يحزن أب على ابنه، كحزني أنا على هذا الجمهور الحاضر هنا[1]]، ويقول القديس أغسطينوس: [جاء في الإنجيل: “ذاك وضع نفسه لأجلنا، فنحن ينبغي لنا أن نضع نفوسنا لأجل الإخوة” (١ يو ٣: ١٦)… كما وضع نفسه لأجلنا، يلزمنا نحن أيضًا لأجل الآخرين ومن أجل الإيمان أن نضع نفوسنا[2].]
دخل رئيس كهنتنا إلى الآلام بصراخٍ شديدٍ، فعالج مشكلة الألم لا بنزعها، وإنما بدخوله طريقها كرئيس الإيمان أو قائد الإيمان ومكمله، فندخل معه تحت رعايته مقتفين أثر خطواته، مختفين فيه فلا يكون لها سلطان علينا. بدخوله الآلام عن محبة لنا غيَّر مفهوم الألم، فلم يعد بعد علامة للخطية والغضب الإلهي بكونه ثمرة العصيان، إنما طريق الإتحاد مع المسيح المتألم وممارسة الشركة مع الثالوث القدوس.
يتساءل البعض: لماذا كان يصرخ للقادر أن يخلصه؟ ألم يكن قادرًا أن يخلص نفسه؟
جاء السيد نائبًا عنا، آدم الثاني الذي يعالج أخطاء آدم الأول، لهذا تقدم في طاعة كاملة لا ليعمل مشيئته الخاصة بل مشيئة الآب، بالرغم من كونهما يحملان مشيئة واحدة، إذ لا تعارض بينهما. لقد عمل الابن إرادة أبيه، وإن كانت لا تتعارض مع إرادته، عمل ذلك معلنًا أننا فيه نحيا سالكين بإرادته لا إرادتنا الذاتية.
هل صرخ السيد ليخلصه الآب من الموت ويقيمه؟ إذ دخل السيد في دائرة الصليب في طاعة كاملة للآب صرخ مقدمًا طلبات وتضرعات، قائلاً: “نفسي حزينة جدًا حتى الموت”… “لتكن إرادتي بل إرادتك”… كان لابد أن يصرخ ويئن لأنه صار إنسانًا حقًا وحمل آلامًا حقيقية! إنه أعلن عن دخوله تحت الآلام دون أن يطلب القيامة، لأن القيامة ليست أمرًا خارجًا عنه، بل كما قال لمرثا: “أنا هو القيامة” (يو ١١ : ٢٥). يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لم يُصلِ للآب في أي موضع بخصوص قيامته، بل على العكس أعلن بوضوح: “انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه” (يو ٢: ١٩)، وأيضًا: “لي سلطان أن أضع حياتي، وليس سلطان أن آخذها” (يو ١٠: ١٨). ما هذا إذن؟ لماذا صلى؟… لقد صلى من أجل الذين آمنوا به (ليقتدوا به[3]).]
لقد قام السيد بسلطانه، لكنه في طاعة وخضوع لإرادة الآب، معلنًا الآب بذلك تقوى الابن المستحق للقيامة. هو القيامة بعينها لكنه بالحياة التقوية قبل إرادة الآب أن يقوم، لكي بتقواه وبره نحن أيضًا ننعم الحياة المقامة.
أخيرًا إذ أطاع الابن خاضعًا للآلام حتى الموت مكملاً خلاصنا الأبدي نتعلم فيه نحن أيضًا الخضوع للألم كطريق للخلاص. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [إن كان وهو الابن قد اقتنى الطاعة بآلامه، فكم بالأكثر يليق بنا أن نطيع[4]!]
إذ رأى الرسول في هذه المقارنات أمورًا عسيرة الفهم بالنسبة لهم أكد لهم أنه يقدم الأساسيات التي هي كاللبن يشربه الأطفال المبتدئون؛ قدم لهم لبن الحق الإنجيلي بطريقة يمكن للطفل أن يقتات عليه.
“اَلَّذِي مِنْ جِهَتِهِ الْكَلاَمُ كَثِيرٌ عِنْدَنَا، وَعَسِرُ التَّفْسِيرِ لِنَنْطِقَ بِهِ،
إِذْ قَدْ صِرْتُمْ مُتَبَاطِئِي الْمَسَامِعِ.
لأَنَّكُمْ إِذْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونُوا مُعَلِّمِينَ لِسَبَبِ طُولِ الزَّمَانِ،
تَحْتَاجُونَ أَنْ يُعَلِّمَكُمْ أَحَدٌ مَا هِيَ أَرْكَانُ بَدَاءَةِ أَقْوَالِ اللهِ،
وَصِرْتُمْ مُحْتَاجِينَ إِلَى اللَّبَنِ لاَ إِلَى طَعَامٍ قَوِيٍّ.
لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَتَنَاوَلُ اللَّبَنَ هُوَ عَدِيمُ الْخِبْرَةِ فِي كَلاَمِ الْبِرِّ لأَنَّهُ طِفْلٌ،
وَأَمَّا الطَّعَامُ الْقَوِيُّ فَلِلْبَالِغِينَ،
الَّذِينَ بِسَبَبِ التَّمَرُّنِ قَدْ صَارَتْ لَهُمُ الْحَوَاسُّ مُدَرَّبَةً عَلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ” [١١–١٤].
يشبِّه الرسول هؤلاء المرتدين إلى الفكر اليهودي بالأطفال غير الناضجين. كان يليق بهم أن يكونوا معلمين، فإن اليهود لهم خبرة طويلة في الحديث مع الله ومنهم ظهر الأنبياء وإليهم سُلمت الشريعة. وكان يليق بهم أن يقوموا بدورهم القيادي الروحي للعالم الأممي كله، لكنهم عِوض أن يصيروا معلمين سلكوا كأطفال صغار يحتاجون من يسقيهم التعليم.
يقول الرسول الذي من جهته الكلام كثير عندنا وعسر التفسير لننطق به، وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [ليس لأنه هكذا هو بطبيعته وإنما لأنهم هم “متباطؤ الفهم” كقول الرسول. هذه هي طبيعة الإنسان الضعيف أن يرتبك بالكلمات القليلة كما بالكثيرة، وما هو واضح وسهل يظنه عسر الفهم. ليته لا يكن أحد منا هكذا[5].] فالعيب إذن ليس في الإيمان وإنما في ضعف اليهود الذين نالوا النبوات واضحة والرموز التي تعلن الإيمان الحق، لكنهم تعسروا في فهمه وارتبكوا في إدراكه، إذ حصر فكرهم في الحرف القاتل! هذا ما حبس نموهم وأفقدهم نضوجهم، فأصبحوا في حاجة إلى اللبن البسيط، عوض أن ينعموا بالطعام القوي الذي للبالغين. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [يوجد ضعف في الاستماع وذلك كالمعدة الضعيفة التي لا تتقبل كل الأطعمة الدسمة العسرة الهضم. هكذا النفس أيضًا متى كانت متعجرفة ثائرة ومتوترة الأعصاب ومستهترة فإنها لا تقدر أن تتقبل كلمة الروح. اسمع قول الرسول: “هذا الكلام صعب من يقدر أن يسمعه؟!” (يو ٦: ٦٠)، لكن متى كانت النفس قوية وصحيحة يكون كل شيء بالنسبة لها سهلاً وخفيفًا ويصير كل شيء بالنسبة لها في أكثر سمو ونشاط، فترتفع محلقة في الأعالي[6].]
إن كان اليهود لم يحتلوا مكانتهم كمعلمين، بل في ضعف صاروا كأطفالٍ، لهذا يقدم لهم الرسول اللبن. بقولنا “اللبن” لا نقلل من شأن الإعلان الإنجيلي الأساسي، لكن يليق بالمؤمن ألاَّ يقف عند الطفولة الروحية بل يسلك نحو النضوج ليتمتع بالطعام القوي الخاص بالبالغين، وذلك بسبب تمرنهم العملي على التمتع بالمعرفة الروحية، فالتمييز بين الخير والشر لا يقف عند السلوك وحده ولا عند المعرفة وحدها إنما يمس الحياة الإيمانية العملية من كل جوانبها. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لا يعرف الطفل أن يميز بين الطعام الصالح والرديء، فغالبًا ما يضع بعض القاذورات في فمه، ويضع ما هو ضار، صانعًا هذا عن عدم تمييز، أما الناضج فلا يفعل هكذا[7].] ويُلاحَظ أن الطفل بسبب عدم قدرته على التمييز يحتاج إلى الأم لتقدم له اللبن النقي غير الغاش، أما متى نضج فتقدم له الطعام القوي الذي يناسبه، وهكذا من له يُعطى فيزداد.
إن كانت الكنيسة كأم تقدم لأطفالها لبنًا والكبار طعامًا قويًا، فهل تقدم طعامين مختلفين أو تعليمين مختلفين؟ يستحيل، فإن عمل الكنيسة الواحد هو تقديم عريسها ربنا يسوع المسيح لكل إنسان، لكنها تقدمه للأطفال بطريقة تناسب إمكانياتهم وللكبار بطريقة أخرى، إنه مسيح واحد للجميع للأطفال والكبار وللقديس أثناسيوس حديث جميل في هذا الأمر، إذ يقول: [بالنسبة للذين لم يبلغوا بعد طريق الكمال يصير (اللوغوس) كغنمة تعطي لبنًا، هذا ما استخدمه بولس قائلاً: “سقيتكم لبنًا لا طعامًا” (١ كو ٣: ٢). أما الذين تقدموا وبلغوا فوق قامة الطفولة لكنهم لا يزالون ضعفاء بالنسبة للكمال فيكون لهم (اللوغوس) طعامًا قدر طاقتهم، وكما قدم بولس “وأما الضعيف فيأكل بقولاً” (رو ١٤: ٢). لكن إذ ينطلق الإنسان ويسير في طريق الكمال لا يعود يقتات على الأمور السابقة بل يكون له اللوغوس كخبز ولحم للطعام، إذ هو مكتوب: “وأما الطعام القوي فللبالغين الذين بسبب التمرن قد صارت لهم الحواس مدرَبة“ (عب ٥: ١٤)[8].].
إذن قدم الرسول لشعبه الكلمة تارة لبنًا وأخرى بقولاً وثالثة طعامًا قويًا قدر ما يحتمل السامعون أن يقبلوا ويميزوا!
[1] In Hebr. hom 9 : 23.
[2] للمؤلف: الحب الرعوي، 1966، ص ٦٧٣.
[3] In Hebr. hom 8 : 3.
[4] In Hebr. hom 8 : 3.
[5] In Ioan. 2 : 10.
[6] In Acts. hom 55.
[7] In Hebr. hom 8 : 7.
[8] Fest. Ep. 10 : 4.