تفسير رسالة رومية 12 الأصحاح الثاني عشر – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير رسالة رومية 12 الأصحاح الثاني عشر - القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير رسالة رومية 12 الأصحاح الثاني عشر – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير رسالة رومية 12 الأصحاح الثاني عشر – القمص تادرس يعقوب ملطي
الباب الثالث
الجانب العملي ص 12 – ص 15
- المؤمن والحياة اليومية 12.
- المؤمن والوطن 13.
- المؤمن والإخوة 14.
- المؤمن والضعفاء 15.
الأصحاحات 12 – 15
الجانب العملي
عالج الرسول بولس في الأصحاحات السابقة الجوانب الإيمانية التي تمس خلاص الكل، مبرزًا أهمية الإيمان الحيّ العامل بالمحبّة على مستوى العمومية لكل الأمم والشعوب بلا محاباة؛ قدّمها لا بطريقة فلسفية جافة، إنما ممتزجة بالحياة العمليّة لتعلن “الحياة الجديدة في المسيح يسوع” كحياة إيمانية عمليّة. والآن كعادته إذ يكرس الرسول الأصحاحات الأخيرة من الرسالة للوصايا العمليّة، فإنه لا يقدّمها في عزلة عن الجانب الإيماني، بمعنى أنه لا يقدّمها كوصايا أخلاقية أو سلوكية بحتة، إنما من الزاوية الإيمانية.
بمعنى آخر إن كانت الرسالة إلى أهل رومية كما يدعوها البعض هي “إنجيل بولس”، فإن هذا السفر يقدّم الإيمان عمليًا، والوصايا إيمانية؛ يقدّم الحياة كوحدة واحدة.
الأصحاح الثاني عشر
المؤمن والحياة اليومية
إن كانت الأصحاحات السابقة تكشف عن إمكانيات النعمة في حياة المؤمن، ففي هذا الأصحاح وما يليه يحدّثنا الرسول عن ترجمة النعمة في حياتنا العمليّة، حتى لا نحرم من الثبوت في السيد المسيح والتمتّع بنعم إلهية بلا توقف، كقول الإنجيل: “ومن ملأه نحن جميعا أخذنا نعمة فوق نعمة” (يو 1: 16).
في هذا الأصحاح يحدّثنا عن:
- تكريس الحياة كلها لله 1.
- تجديد الخارج والداخل 2.
- التعقّل في الجهاد 3.
- تنوّع المواهب 4-8.
- المحبّة الأخوية 9-10.
- حرارة الروح 11.
- الفرح في الرجاء 12.
- الشركة في احتياجات القدّيسين 13.
- مباركة المضطهدين 14.
- الشركة العمليّة 15.
- التواضع 16.
- مسالمة الجميع 17 –21.
- تقديم الحياة كلها لله
يفتتح الرسول بولس هذا الفصل العملي لا بتقديم وصايا تفصيليّة محدّدة، وإنما بتقديم الحياة كلها ذبيحة حب الله، معلنًا لنا عن غاية الوصيّة: ردّ الحب بالحب، وتسليم الحياة بكاملها للَّه، في أعماقها ومن جذورها، إذ يقول: “فأطلب إليكم أيها الاخوة برأفة الله أن تقدّموا أجسادكم ذبيحة حيّة مقدّسة مرضيّة عند الله عبادتكم العقليّة” [1].
إن كان كلمة الله المتجسّد قد قدّم لنا حُبّه عمليًا بتقديم جسده ذبيحة حب على الصليب، هكذا يليق بنا خلال اتحادنا معه أن نحمل ذات فكره، فنقدّم حبّنا للَّه عمليًا، بتقديم أجسادنا ذبيحة حب للَّه، لا بذبح الجسد بطريقة مادية، وإنما بقبول “الإماتة” من أجل الله، وكما يقول الرسول: “من أجلك نمات كل النهار، قد حُسبنا مثل غنم للذبح“ (رو 8: 36).
يلاحظ في هذه العبارة الرسولية الآتي:
أولاً: يبدأ حديثه بحرف العطف “ف” كمقدّمة للالتماس الذي يرجوه، معلنًا أن ما يوصي به هنا هو امتداد لحديثه السابق، فلا انفصال بين حديثه الإيماني وحديثه السلوكي، إن صح هذان التعبيران، فلا سلوك حيّ خارج الإيمان، ولا حياة للإيمان الصادق بدون سلوك عملي.
ثانيًا: يسألهم أن يتطلّعوا إلى “مراحم الله” أو رأفته غير المحدودة، حتى يقدّموا أجسادهم ذبيحة. ولئلاّ يظنّوا أنه يسألهم ذبيحة ماديّة قال: “ذبيحة حيّة”.
يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم:
[إذ قال “ذبيحة“، فلكي يمنع كل أحد عن التفكير بأنه يطالبهم بقتل أنفسهم، أضاف: “حيّة“. ولكي يميّزها عن الذبيحة اليهوديّة، قال: “مقدّسة، مقبولة لدى الله، عبادتكم العقليّة”، لأن ذبيحتهم كانت ماديّة وليست مقبولة تمامًا. يقول الله: “من طلب هذا من أيديكم؟” (إش 1: 12). وبعبارات متنوعة استبعدها تمامًا وبوضوح، إذ يقول: “ذابح الحمد يمجدني“ (مز 50: 23)، “أسبح اسم الله بتسبيح، وأعظمه بحمدٍ، فيُستطاب عند الرب أكثر من ثور بقر ذي قرون وأظلاف” (مز 69: 30-31). وفي موضع آخر يزدري بها، قائلاً: “هل آكل لحم الثيران؟ أو أشرب دم التيوس”؟ (مز 50: 14). هكذا يأمرنا بولس أيضًا أن نقدم أجسادنا “ذبيحة حيّة“.
ربّما يُقال: كيف يصير الجسد ذبيحة؟
دعْ العين لا تنظر الشرّ، فتصير ذبيحة!
لا ينطق لسانك بدنس، فيصير ذبيحة!
لا تمارس يدك عملاً محرّمًا، فتصير مُحرقة كاملة!
لكن هذا لا يكفي، إنما يجب ممارسة الأعمال الصالحة، فتقدّم اليدّ الصدقات، ويبارك الفم من يقاومه، وليجد السمع لذته في فصول الكتاب المقدس. لأن الذبيحة لا تسمح بأمر دنس بل هي بكر الأعمال.
إذن لنقدّم للَّه الباكورة بأيدينا وأرجلنا وفمنا وكل أعضائنا! فمثل هذه الذبيحة مرضيّة، أمّا ذبائح اليهود فكانت غير طاهرة لذا قيل: “إنها لهم كخبز الحزن” (هو 9: 4). لا تكن ذبائحنا هكذا!…
شريعة هذه الذبيحة جديدة ونارها من نوع عجيب. نارها لا تحتاج إلى خشب يوضع تحتها، بل نارها حيّة فيها، لا تحرق الذبيحة بل بالأحرى تحييها. هذه هي الذبيحة التي كان الله يطلبها منذ القديم. لذلك يقول النبي: “ذبيحة الله روح منسحق“ (مز 51: 17)؛ كما قال الثلاثة فتية عندما قدموها: “في ذلك الوقت لا يوجد رئيس ولا نبي ولا قائد ولا مُحرقة أو موضع لنقدّم فيه ذبيحة أمامك فنجد رحمة، لكنّنا نقدم قلبًا منسحقًا وروحًا متواضعًا فاقبلنا إليك”…
بهذا لا نحتاج إلى سكين أو مذبح أو نار، بالحري نحتاج إلى هذه كلها، لكنها ليست مصنوعة بالأيدي، إنما تأتينا من فوق. نحتاج إلى نار علويّة، وسكّين؛ هكذا مذبحنا هو اتساع السماء!
إن كان إيليا إذ قدّم ذبيحة منظورة نزلت نار من فوق التهمت كل الماء والخشب والحجارة، فكم بالأكثر يُحدّث هذا بالنسبة لك[1]!]
يحدّثنا القدّيس جيروم عن هذه الذبيحة التي نقدّمها للَّه، قائلاً: [احضر تقدماتك؛ أي نوع من التقدمات؟ تقدمات نفسك! فالبتولية هي ذبيحة مُحرقة للمسيح، وكل طهارة سواء في الحياة البتولية أو الترمّل أو العفّة (الزوجيّة) هي تقدمة ذبيحة للمسيح[2].]
ثالثًا: لماذا يقول: “قدّموا أجسادكم”؟ ولم يقل “حياتكم”؟ بلا شك أراد الرسول أن يقدّم المؤمن كل حياته ذبيحة حب لله، لكنه ركّز هنا على الجسد، لأنه الأداة التي تعبّر عمليًا عمّا في القلب والفكر دون انفصال عن النفس. هذا من جانب ومن جانب آخر أراد أن ينزع الأفكار الدخيلة من جهة احتقار الجسد واعتباره عنصر ظلمة. الله يقبل الجسد ذبيحة حيّة، إذ يراه مقدسًا له. الجسد الذي يُقدّم ذبيحة حيّة مقبولة لدى الله، بلا شك يستحق بالنعمة أن يشارك النفس في المكافأة الأبدية، فيقوم معها ليحيا أبديًا في السماء.
رابعًا: إن كان الجسد يُقدّم ذبيحة حيّة، إنما خلال “العبادة العقليّة“، أي العبادة التي تقوم على فكر روحي أصيل. وهي عبادة عقليّة، إذ يتفهّم المؤمن بالروح أسرارًا إلهيّة.
- تجديد الخارج والداخل
“ولا تشاركوا هذا الدهر،
بل تغيّروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم،
لتخبروا ما هي إرادة الله الصالحة المرضيّة الكاملة” [2].
لكن نقدّم حياتنا ذبيحة حب، يلزم أن نقدّمها مقدّسة للرب، فلا تكون حياتنا على شاكلة أهل العالم الحاضر الذي يعيشون لحساب الجسد، ويطلبون الكرامات الزمنيّة، وإنما يلزم تجديد الذهن الداخلي لنحمل لا إرادتنا الذاتية، بل إرادة الله الصالحة المرضيّة الكاملة. تجديد القلب والنفس على صورة خالقنا يهبنا إرادته عاملة فينا، فتكون تصرفاتنا الخارجية أو سلوكنا الظاهر يمثّل النقاوة الداخليّة.
يقول القدّيس غريغوريوس أسقف نيصص: [كيف تقدرون أن تُطيعوا بولس الذي يحثّكم على تقديم أعضائكم ذبيحة حيّة مقدّسة مرضيّة إن كنتم تمتثلون بهذا العالم ولا تتشكّلون بتجديد أذهانكم، عندما لا تسلكون في جدة الحياة بل تبقون سالكين في روتين الإنسان العتيق[3]؟]
في دراستنا للتجديد – في كتاب: “الروح القدس بين الميلاد الجديد والتجديد المستمر” ميّزنا بين التجديد الذي نناله في مياه المعموديّة حيث يُصلب الإنسان العتيق وننعم بالإنسان الجديد الذي على صورة خالقنا يحمل قوّة القيامة فيه، وبين التجديد الذهني المستمر خلال نموّنا الدائم بنعمة الله الدائمة الحركة فينا، ترفعنا من قوّة إلى قوّة، ومن مجد إلى مجد. خلال هذا التجديد المستمر بعمل النعمة الدائم نمارس الحياة المقدّسة كذبيحة حب لله لا تتوقف. لذا يقول الشهيد كبريانوس: [إنكم تقدّمون هذه الذبيحة للَّه، وتحتفلون بها بغير توقّف، نهارًا وليلاً، إذ صرتم ذبائح الله، مظهرين أنفسكم كتقدمات مقدّسة بلا عيب[4].]
يقارن القدّيس يوحنا الذهبي الفم بين الذين يشاكلون هذا العالم أو يحملون هيئته أو “شكله” وبين الذين يتغيّرون داخليًا بتجديد أذهانهم، فيرى في الأولين أنهم يحملون شكل العالم الزائل خلال الأمور الظاهرة الوقتيّة، بينما الآخيرون يحملون الحق الأبدي في داخلهم، إذ يقول:
[شكل (هيئة) هذا العالم حقير وزهيد ووقتي، ليس فيه سموّ ولا استمرارية ولا استقامة، إنما هو فاسد تمامًا. فإن أردت السلوك باستقامة لا تشكّل نفسك حسب شاكلة هذه الحياة الحاضرة، إذ لا يوجد فيها شيء باقٍ أو مستقر. لهذا يقول “شاكلة (هذا الدهر)” وفي موضع آخر يقول: “لأن هيئة (أو شكل) هذا العالم تزول” (1 كو 7: 31)…
إن تحدثت عن الغني أو المجد أو جمال إنسان أو ترف أو ما يشبه ذلك من الأمور العظيمة التي تريدها تجدها “شكلاً مجرّدًا” وليست حقيقة. إنها مجرّد عرض وقناع وليست كيانًا دائمًا.
“لا تشاكلوا هذا الدهر، بل تغيّروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم”، لم يقل “بتغيير شكله” بل “تغيّروا” مظهرًا أن طرق العالم هي “شكل” أمّا طريق الفضيلة فليس شكلاً بل كيان حقيقي يحمل جمالاً طبيعيًا خاصًا به لا يحتاج إلى خداعات أو أشكال خارجية تزول…
ليس شيء أضعف من الرذيلة، ولا ما يشيخ سريعًا مثلها… هل تخطيء كل يوم؟ هل تجعل نفسك تشيخ؟ لا تيأس ولا تخر، بل تجدد بالتوبة والدموع مع الاعتراف وعمل الصلاح[5]!]
هكذا يرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن من يحمل شكل العالم الحاضر يحمل طبيعته الفانية الزائلة، أمّا من يتجدد كل يوم بالتوبة فيلتقي بالحق الأبدي، عِوض الظلال الفانية، بمعنى آخر من يرتبط بالخطيّة إنما تشيخ نفسه وتهلك، ومن يرتبط بالتوبة يتجدّد مثل النسر شبابه الداخلي (مز 103: 5)، فيحمل فيه إرادة الله الصالحة المرضيّة الكاملة.
- التعقّل في الجهاد
يطالبنا الرسول بولس بالحياة المقدّسة في الرب خلال الإمكانيات الجديدة التي صارت لنا بتجديد أذهاننا يسألنا ألا يرتئي أحد فوق ما ينبغي، لئلاّ يظن في نفسه أنه أفضل من غيره، فإن كان الروح يعمل فيه بطريقة فائقة، لكن لكل واحد موهبته وقياس لقامته الروحيّة، فيسلك في جهاده الروحي بروح التواضع والحكمة، بما يناسب ما يناله من نعم إلهية وعطايا.
“فإني أقول بالنعمة المعطاة لي لكل من هو بينكم،
ألا يرتئي فوق ما ينبغي أن يرتئي،
بل يرتئي إلى التعقّل كما قسّم الله لكل واحد مقدارًا من الإيمان” [3].
يقول القدّيس أغسطينوس: [حين قال يوحنا المعمدان: “لأنه ليس بكيل يعطى الله الروح“ (يو 3: 34)، كان يتحدّث بنوع خاص عن ابن الله الذي لم يتقبل الروح بكيلٍ، لأن الروح يسكنه في كمال اللاهوت (كو 2: 9)… بكونه الابن الوحيد المساوي للآب بالطبيعة لا بالنعمة… أمّا بالنسبة للآخرين، فيُعطى الروح بكيل فائض حتى يبلغ كل واحد كمال ملئه ليس الروح هو الذي يُقسم إنما المواهب التي يمنحها الروح، إذ توجد مواهب متنوعة ولكن الروح واحد (1 كو 12: 4) [6].]
إذن نحن ننعم بعطايا الروح، كل له موهبته وقامته لكي يمتلئ. بهذا الملء الروحي نشتاق أكثر لعمل الروح وعطاياه لنطلب أكثر فيهب، ونبقى في حالة نموّ دائم، لعلّنا نبلغ قياس مِلْء قامة المسيح. لكن شتّان بين علاقتنا نحن بالروح وعلاقة المسيح به، فنحن ننعم بالروح كهبة مجّانية وعطيّة ونعمة، أمّا المسيح فهو واحد مع الآب والروح القدس في اللاهوت.
يُعلّق القدّيس يوحنا الذهبي الفم على العبارة التي بين أيدينا، قائلاً:
[إذ قال قبلاً: “فأطلب إليكم برأفة (مراحم) الله” [1]، يعود هنا فيقول: “أقول بالنعمة“. لاحظ تواضع فكر المعلِّم وروحه الخاضعة تمامًا! إنه يريد أن يقول بأنه ليس أهلاً أن يكون موضع ثقة بأي حال (من ذاته)، ليقدّم نصيحة أو مشورة، لذا يحمل معه تارة “مراحم الله (الرأفة)” وأخرى “النعمة”. يودّ أن يقول: إذ أتكلم لا أنطق بكلماتي بل بكلمة من عند الله.
لا يقول: “فإني أقول بحكمة الله”، ولا “فإني أقول بالناموس المُعطى من الله”، وإنما يقول: “بالنعمة“، ليذكركم على الدوام بالهبات التي قُدِّمت لهم ليجعلهم أكثر خضوعًا، وليُظهر لهم إنهم لهذا السبب ملتزمون بطاعة ما يُقال هنا.
“لكل من هو بينكم” [3]، لا أقول لهذا الشخص وحده أو ذاك، وإنما الحاكم والمحكوم، للعبد والحرّ، للأمّي والحكيم، للمرأة والرجل، للصغير والشيخ؛ لأن الشريعة عامة للكل، إذ هي شريعة الرب. بهذا يجعل لغته لا تقبل المعارضة مقدًما دروسه للجميع….
لأسمع: “لا يرتئي فوق ما ينبغي”. هنا يقدّم لنا أُم كل الأعمال الصالحة، أي تواضع الفكر، ممتثلاً بسيده. فعندما صعد على الجبل وأخذ يقدّم نسيجًا من الوصايا السلوكية، قدّم في المقدّمة هذا الينبوع، قائلاً: “طوبى للمساكين بالروح” (مت 5: 3)، هكذا أيضًا بولس إذ يعبر من الجوانب التعليمية إلى الجوانب العمليّة يحدّثنا عن الفضيلة بطريقة عامة، سائلاً إيّانا أن نقدم ذبيحة عجيبة، وإذ يودّ أن يقدّم صورة خاصة بها بدأ بتواضع الفكر كما من الرأس، مخبرًا إيّانا: “لا يرتئي فوق ما ينبغي، بل يرتئي إلى التعقل” [3].
إنه يعني القول: لقد تسلَّمنا حكمة، لا لنستخدمها لكبريائنا، وإنما لنكون متعقِّلي الفكر. وهو لا يقول هذا لنكون منحطّين في الفكر بل نكون متعقّلين، قاصدًا بالتعقّل هنا الفضيلة العاقلة والصحيّة في الذهن… الكلمة اليونانية للتعقّل تعني فقط حفظ التعقّل سليمًا.
إذن لكي يظهر أن الذي لا يكون متواضعًا هكذا لا يمكن أن يكون متعقلاً، أي لا يكون ذا عقل رزين صحيّ… يدعو إلى تواضع الفكر تعقُّلاً…
انظر كيف يستعرض بوضوح علّة المرض لينزعه تدريجيًا؛ فبعد ما قال أنه يجب أن نتعقل أردف قائلاً: “كما قسَم الله لكل واحد مقدارًا من الإيمان” [3]، ليقصد هنا العطيّة بالإيمان. بقوله “قسَم” يلاطف من له عطيّة أقل، ويجعل من له نسيب أكبر متواضعًا، لأنه إن كان الله يقسّمها وهي ليست بجهادك الذاتي فلماذا تتكبر؟… إن كان الإيمان الذي به تتم المعجزات هو ذاته من الله فعلى أي أساس تنتفخ؟[7]]
- تنوع المواهب
الآن إذ سألنا أن نحمل تجديدًا حقيقيًا في الداخل [2]، فيكون لنا الفكر المتعقّل، مدركين بروح التواضع أن ما نحمله حتى من إيمان هو عطيّة إلهية، ليس لنا أن نفتخر بها كما لو كانت من عندنا أو باستحقاقنا، فعلى هذا الأساس المتين يطالبنا بالعمل والجهاد، مُعلنًا أن يضرم كل واحد موهبته حسبما وهبه الله. بمعنى آخر إن تجديدنا الداخلي وتواضع فكرنا يلهب قلبنا للعمل ليس حسب هوانا بل حسب عطيّة الله لنا التي تتكامل مع عطاياه لإخوتنا، وتتناغم معها بروح واحدة كلٌّ يعمل في مجاله بفرحٍ وبهجة قلب، فلا يحسد من يظنه أفضل منه في الموهبة ولا ينتفخ على من يظنه أقل منه فيها… فإن المواهب متنوّعة ولكن الروح واحد (1كو12: 4)؛ هي عطيّة النعمة الإلهية، إذ يقول الرسول: “فإنه كما في جسدٍ واحدٍ لنا أعضاء كثيرة، ولكن ليس جميع الأعضاء لها عمل واحد، هكذا نحن الكثيرين جسد واحد في المسيح وأعضاء بعضًا لبعض، كل واحد للآخر، ولكن لنا مواهب مختلفة بحسب النعمة المعطاة لنا” [4–6].
التشبيه الذي استخدمه الرسول هنا يرد أيضًا في رسالته إلى أهل كورنثوس (1 كو 12: 12 الخ) حيث يبرز الرسول جمال الكنيسة في وحدتها وتكامل أعضائها معًا بكونهم جسدًا واحدًا متنوع المواهب… هذا المفهوم هو علاج لكل نفس متشامخة على إخوتها!
يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم:
[عظيمة هي قوّة هذا الدواء، وعظيمة هي قدرة هذا التشبيه، في علاج مرض الكبرياء. لماذا تنتفخ؟ أو لماذا يحتقر آخر نفسه؟ أليس جميعنا جسدًا واحدًا، العظيم منّا والصغير؟
إن كنّا في مجموعنا واحدًا، وأعضاءً لبعضنا البعض، فلماذا تعزل نفسك بالتشامخ؟ لماذا تهين أخاك؟ فكما هو عضو لك أنت عضو له.
لقد قرر (الرسول) أمرين يكسران الروح المتكبر: الأول إننا أعضاء بعضنا لبعض، ليس فقط الصغير عضو للكبير وإنما الكبير أيضًا للصغير، والثاني إننا جسد واحد. بل توجد نقطة ثالثة، وهي أن العطيّة من قِبل النعمة، لذلك لا تستكبر، لأنها معطاة لك من الله…
أيضًا إذ يمس موضوع المواهب لا يقل أن أحدًا أكبر وآخر أصغر بل ماذا؟ المواهب مختلفة! كلماته هكذا “لنا مواهب” ليست أقل وأعظم بل “مختلفة[8]“.]
الآن يقدّم لنا الرسول عينات من المواهب:
أولاً: “أنبوّة فبالنسبة إلى الإيمان” [6].
ماذا يعني بالنبوّة؟ لا يعني مجرّد الكشف عن أحداث مقبلة في هذا العالم، إنما غاية النبي الحقيقية هي إعلان أسرار الله نحو الإنسان، لبنيان الكنيسة، وتمتع البشريّة بالأمجاد المقبلة، أي الكشف لا عن أحداث زمنية، وإنما عن “المجد الأبدي”.
في العهد القديم كان عمل الأنبياء الرئيسي هو الانطلاق بشعب الله إلى ترجّي مجيء المسيّا المخلص خلال الرموز والظلال والنبوّات بطريقة أو أخرى، أمّا وقد جاء السيد المسيح صارت النبوّة في جوهرها هي الدخول بالنفوس إلى مجيئه الأخير لتنعم بشركة الميراث معه.
هذا العمل ليس بشريًا، إنما هو عطيّة الله للناطق والمستمع، لذا تحتاج إلى الإيمان في حياة الاثنين لينعما بهذه البركة الإلهية.
يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [وإن كانت عطيّة لكنها لا تُسكب جزافًا، إنما يتوقف قياسها حسب مستقبليها، إنها تفيض متى وَجدت أوانٍِ للإيمان قدر ما تتسع[9].]
ثانيًا: “أم خدمة ففي الخدمة” [7].
يقول القدّيس الذهبي الفم: [حتى الرسولية تُدعى خدمة، وكل عمل روحي هو خدمة. حقا أن “الخدمة” هي اسم خاص بوظيفة معيّنة (أي الدياكونية)، لكنه هنا يستخدم الكلمة بمعنى شامل[10].]
يقصد الرسول كل خادم – أيّا كانت رتبته – ليعمل فيما أُوكِل إليه، أي في الخدمة، عِوض الانشغال بأعمال الآخرين. ليكون أمينًا في خدمته أيّا كانت هذه الخدمة!
ثالثًا: “أم المعلم ففي التعليم” [7].
يميّز الرسول بين الرسل والأنبياء والمعلِّمين: “وضع الله أناسًا في الكنيسة، أولاً رُسلاً، ثانيًا أنبياء، ثالثًا معلِّمين” (1 كو 12: 28). ربّما يختلف المعلِّمون عن الأنبياء في تخصصهم للعمل التعليمي البحت كدراسات روحية بنّاءة.
يرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن الرسول بدأ بمن هم أقل “الأنبياء”، ثم الأعظم “الرسل”، ثم عاد إلى الأقل “المعلِّمين” حتى ينزع كل فكر للكبرياء بسبب نوعيّة الموهبة.
رابعًا: “أمّا الوعظ ففي الوعظ ” [8].
يقوم التمييز بين الواعظ والمعلم على أساس أن الأول عمله الحثّ على التوبة، خاصة بين الجماهير. أمّا الثاني فيهتم بالفكر الدراسي الروحي. وإن كان غاية الكل هو التقاء كل نفس بالثالوث القدوس. ربّما عني بالوعظ الحديث التأملي العاطفي، أمّا التعليم فيقوم بالأكثر على دراسة موضوع معين.
خامسًا: “المعطي فبسخاء” [8].
بعد أن استعرض المواهب الروحيّة الخاصة بالكرازة والتعليم والوعظ والعمل الرعوي صار يتحدّث عن العمل السلوكي كجزء لا يتجزأ من المواهب الروحيّة، فحين يحث المعطي أن يقدّم بسخاء، إنما يودّ أن يُعلن له أن يكون أمينًا في عطائه. يعطي بحبٍ كما بغير كيلٍ، يعطي بقلبه المتسع. وكما يقول السيد: “مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ“ (أع 20: 25)، بمعنى إنه يعطي بفرحٍ وتهليلٍ، ولا ينتظر أجرة؛ يشعر بلذّة وبهجة روحية في عطائه أكثر مما في أخذه.
جاءت الترجمة اليونانية الحرفيّة: “المعطي فببساطة”، لأن الإنسان البسيط يهب بسخاء.
سادسًا: “المدبر فباجتهاد” [8].
ليكن المدبر للأمور الكنسية عاملاً باجتهاد روحي وغيرة مقدّسة.
لا يفصل الرسول بين المواهب الكرازيّة والتعليميّة والرعويّة وبين الخدمات الحيّة (العطاء) أو التدبير. فالكنيسة وإن ضمت أعضاء لهم مواهب متنوعة لكنها ما دامت تقدّم بروح الإنجيل فهي متكاملة.
سابعًا: “الراحم فبسرور” [9].
يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [لا يكفي أن نظهر رحمة، وإنما يليق بنا أن نقدّمها باتساع، بروح سمِحة، وليس فقط بروح سمِحة بل بروح فرحة مبتهجة… وقد ركّز على نفس النقطة بقوّة عندما كتب إلى أهل كورنثوس ليحثّهم على الاتساع، إذ يقول: “من يزرع بالشح فبالشح أيضًا يحصد، ومن يزرع بالبركات فبالبركات أيضًا يحصد“ (2 كو 9: 6). ولكي يصحّح مزاجهم يقول: “ليس عن حزن أو اضطرار“ (2 كو 9: 7)… فإنك إن حزنت وأنت تصنع رحمة فأنت قاس وعنيف. إن كنت حزينًا كيف تقدر أن تسند الذين هم في حزن؟… هذا هو السبب في قوله “الراحم فبسرور“، لأنه كيف يكون حزين الملامح من يتقبّل الملكوت؟! من يبقى كئيب النظرة وهو ينال غفران خطاياه؟ إذن لا تفكّر في إنفاقك المال (عمل الرحمة) بل في الفيض الذي تناله خلال الإنفاق. فإن كان الذي يبذر يفرح مع أنه يبذر وهو غير متأكد من جهة الحصاد، كم بالأكثر من يُفْلِح السماوات؟ فإنك تعطي إنما القليل لتنال الكثير… بالفلسين حُسبت الأرملة أنها فاقت من قدّم وزنات كثيرة وذلك بسبب روحها المتسع[11].]
- المحبّة الأخوية
إذ حثنا الرسول على العمل، كل حسب موهبته، بروح متواضع، يسألنا أن نسلك بالحب الأخوي مترجمًا عمليًا بحب الخير للآخرين وكره الشرّ، وتقديم الآخرين في الكرامة، إذ يقول:
“المحبّة فلتكن بلا رياء.
كونوا كارهين الشرّ، ملتصقين بالخير.
وادّين بعضكم بعضا بالمحبّة.
مقدّمين بعضكم بعضًا في الكرامة” [9-10].
إن كان التواضع هو الخط الواضح في إضرام المواهب، فإن الحب هو الفكر السائد الذي يربط الكنيسة معًا في الرب كأعضاء حيّة متكاملة، تعيش معًا بروح الكمال، منسجمة معًا، تشارك بعضها البعض.
يوصينا القدّيس باسيليوس الكبير: [يليق بالمسيحي أن يكون هادئًا في صوته، لا يجيب أحدًا أو يتصرف مع أحد بخشونة أو باستخفاف بل في كل شيء يسلك بحلم (في 4: 5) مكرمًا كل أحد[12].]
حدّثنا الرسول بولس بفيض عن المحبّة (1 كو 13)، مبرزًا قوّتها وفاعليّتها بل وأبديّتها، ويوصينا الرسول بطرس: “لتكن محبتكم بعضكم لبعض شديدة“ (1 بط 4: 8)، ويرى القدّيس يوحنا أن ممارسة الحب أشبه بتمتّع بالقيامة، إذ يقول: “نحن نعلم أننا قد انتقلنا من الموت إلى الحياة لأننا نحب الإخوة“ (1 يو 3: 14).
المحبّة ليست عاطفة مجردة إنما هي تمتّع والتصاق بالخير خلال اتحادنا بربنا يسوع “المحبّة” ونفورنا من الشرّ… بهذا تنبع المحبّة من أعماق داخليّة وشركة مع الله، إذ يقول الرسول: “كل من يحب فقد وُلد من الله، ويعرف الله… لأن الله محبّة“ (1 يو 4: 7-8). هذا ما يعنيه الرسول بقوله: “المحبّة فلتكن بلا رياء” [9].
يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [إن كان لك هذه (المحبّة)، فإنك لا تبالي بالخسارة المادية ولا بتعبك الشخصي، ولا بجهادك في الكلام، ومشقاتك وخدمتك بل تحتمل هذا كله بشجاعة… لكي تساعد أخاك… هذا هو الحب، إن اقتناه أحد يقتني كل شيء بعد ذلك.]
هكذا يرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم إن من له الحب الذي بلا رياء يمارس الوصايا السابق ذكرها، وأيضًا يبغض الشرّ من أعماقه، إذ يصير غريبًا عن الأعمال الشرّيرة فحسب، وإنما يكون غريبًا عن مجرّد الميل إلى الشرّ؛ يدخل في عداوة وبغضة وحرب ضد الرذيلة. ولا يقف الأمر عند الجانب السلبي أي بغض الشرّ، وإنما يلتصق بالخير.
لقد أوصي الله الإنسان أن يلتصق بامرأته (تك 2: 24) ويكونا جسدًا واحدًا، هكذا يوصينا الرسول أن نلتصق بالخير، وكأنه زوجة نتّحد معها ونصير واحدًا معها.
يترجم الرسول هذه المحبّة عمليًا من جانبين: المودة الأخوية وتقديم الآخرين في الكرامة [10]. ويوصينا القدّيس بطرس بالمودّة النابعة عن الحياة التقوية (2 بط 1: 7)، ويوصينا القدّيس بولس بتكريم الآخرين: “حاسبين بعضكم البعض أفضل من أنفسهم“ (في 3: 2).
يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [حينما يقول “وادّين بعضكم بعضًا“، يعني كونوا أصدقاء وحارّين أيضًا. لا تنتظر أن يحبك الغير، بل اقفز نحوه بنفسك ولتكن أنت المبتدئ. بهذا تحصد أجرة محبته أيضًا. أظهر السبب لماذا يلزمنا أن نحب بعضنا بعضًا واخبرنا عن الطريق الذي فيه تلتهب المودة الثابتة، إذ أردف قائلاً: مقدّمين بعضكم بعضًا في الكرامة” [10]. هذا هو الطريق الذي يُنتج المودّة، والذي فيه تسكن مودّة بعد إنتاجها. ليس شيء يخلق أصدقاءً مثل السعي بغيرة لتكريم الإنسان قريبه.]
- حرارة الروح
“غير متكاسلين في الاجتهاد،
حارين في الروح،
عابدين الرب” [11].
إن كان الرسول بولس قد ركز أنظارنا على عطايا الله الفائقة ونعمته العاملة فينا، لنضرم مواهبه فينا بروح التواضع، ونسلك معًا بروح الحب، فإن الحياة المسيحية جهاد لا ينقطع. هي انتهاز لكل فرصة للعمل بروح الله باجتهاد لنحيا ملتهبين بالروح، عابدين الرب بقوة.
يحثنا على الجهاد، قائلاً: “غير متكاسلين في الاجتهاد” [11]. وكما يقول الحكيم سليمان: “كل ما تجده يدك لتفعله فافعله بقوتك” (جا 9: 10)، “اذهب إلي النملة أيها الكسلان. تأمل طرقها وكن حكيمًا“ (أم 6: 6). ويوصينا القديس بطرس الرسول: “وأنتم باذلون كل اجتهاد قدموا في إيمانكم فضيلة … لذلك بالأكثر اجتهدوا أيها الإخوة أن تجعلوا دعوتكم واختياركم ثابتين، لأنكم إذ فعلتم ذلك لن تزلوا أبدًا” (2 بط 1: 5- 10).
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم:
[كيف نصير “غير متكاسلين في الاجتهاد (في الغيرة)، حارين في الروح”؟… أي نكون حارين ومتيقظين….. إن سكن الروح فيك يجعلك صالحًا لتحقيق تلك الأهداف، ويصير كل شيء سهلاً بالروح والحب، وتتلألأ أنت من كل جانب.
إن كان روح الله نارًا متقدة، فإننا إذ نتجاوب معه يلهب أعماقنا، ويحولنا إلى لهيبٍ متقدٍ، لا تستطيع مياه كثيرة أن تُطفئه. هذا اللهيب الروحي يعلمنا كيف نعبد الرب بالروح والحق، لذا يكمل الرسول حديثه قائلاً: “عابدين الرب” [11].]
يحدثنا القديس جيروم عن الوصية الرسولية: “حارين في الروح”، قائلاً:
[عندما يقول الرسول: حارين في الروح، إنما يعني كونوا صادقين في الحكمة[13].]
[ليهبنا الله ألا يزحف البرود إلى قلبنا (مت 24: 12)، فإننا لا نرتكب خطية إلا بعد أن تبرد المحبة… “إلهنا نار آكلة ” (تث 4: 24)، فإن كان الله نارًا إنما لكي ينزع برودة الشيطان[14].]
يلهبنا هذا الروح الناري، فنعبد الرب بالروح فوق حدود الزمن والأحداث، لنعيش بالروح في حالة نصرة دائمة وأعظم من نصرة، وكما يقول القديس البابا أثناسيوس الرسولي:
[إن كنت تخشَ الأزمنة وتعمل بجبن فذهنك ليس ناضجًا. يليق بك أن تظهر غيرة نحو المسيح، وتواجه الظروف بشجاعة، مستخدمًا لغة الطوباوي بولس: “في هذه جميعها نحن أكثر من غالبين” (رو 8: 37). الأكثر هنا هو أننا نعبد الرب لا الزمن[15]]. هكذا يرى البابا أثناسيوس في النفوس الضعيفة غير الحارة إنها عبدة الزمن لا الرب، تسلك في العبادة حسب الظروف والأحداث بروح الضعف لا الغلبة.
7. الفرح في الرجاء
إذ يلهبنا الروح القدس فنعبد الرب فوق حدود الزمن نمتليء رجاءً بالأمور غير المنظورة فتفرح قلوبنا ويتسع قلبنا لاحتمال الضيق، ملتجئين إلى الله بالصلاة الدائمة، إذ يقول الرسول: “فرحين في الرجاء، صابرين في الضيق، مواظبين على الصلاة” [12].
يقول القديس أغسطينوس: [لنصغ ولنبتهج في الرجاء حتى وإن كان الحاضر حياة لا تُحب وإنما تُحتمل، إذ تكون لك القوة على احتمال كل تجاربها[16].]
ويرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن الرسول في وصاياه هذه يقدم سلسلة من الإمكانيات تعين المؤمن في جهاده، إذ يعلق على هذه العبارة الرسولية، قائلاً:
[هذه الأمور كلها هي وقود لهذه النار. فعندما طلب إنفاق المال [8] واحتمال التعب والتدبير باجتهاد [8] والتعليم [7] وغير ذلك من الأعمال يمدّ المصارع بالحب والروح خلال الرجاء.
ليس شيء يجعل النفس شجاعة هكذا ومحبة للمخاطرة مثل الرجاء! وقبل نوالنا الأمور التي نترجاها يقدم لنا مكافأة هي: “صابرين في التجارب“. قبل نوالنا الأمور المقبلة تتمتع في الحياة الحاضرة بصلاح عظيم خلال التجارب إذ تصير إنسانًا صبورًا ومجرّبًا.
يقدم لنا أيضًا عونًا آخر: “مواظبين على الصلاة”
الحب يجعل الأمور سهلة، والروح يعين، والرجاء ينير، والتجارب تصقلك فتجعلك مجربًا قادرًا على احتمال كل شيء بشهامة، يرافق هذا كله سلاح عظيم جدًا هو الصلاة.
ها أنت تراه يقدم للمصارعة بكل طريقة قدمًا ثابتة، مظهرًا أن الوصايا تُمارس بطريقة سهلة[17]].
- الشركة في احتياجات القديسين
إن كان “الحب” هو الخط الواضح في كل هذه الوصايا الرسولية، فأحد ملامح هذا الخط العملي هو: “مشتركين في احتياجات القديسين، عاكفين على إضافة الغرباء” [13]. هذا هو ثمر طبيعي للعضوية في الجسد الواحد، إذ يشارك العضو أخاه في احتياجاته. نرى ذلك واضحًا في مساهمة أهل فيلبى في احتياجات القديس بولس الذي فرح لا بالعطية في ذاتها وإنما بثمر الحب المتكاثر، إذ كتب إليهم هكذا. “أرسلتم إليّ مرة ومرتين لحاجتي، ليس أني أطلب العطية، بل أطلب الثمر المتكاثر لحسابكم… فيملأ إلهي كل احتياجاتهم بحسب غناه في المجد في المسيح يسوع” (في 4: 16–19).
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم:
[لم يقل: “معطين” بل قال: “مشتركين في احتياجات القديسين” مظهرًا أنهم ينالون أكثر مما يهبون، فإن الأمر هو تجارة، إذ هي “شركة”.
هل قدمت لهم مالاً ؟ هم يقدمونك شهمًا أمام الله.
“عاكفين على إضافة الغرباء“. لم يقل “مضيفين للغرباء” بل “عاكفين” عليها، ليعلمنا ألا ننتظر أن يسألوننا، لا يأتون هم بل نحن نجري إليهم لنعكف حتى نجدهم. هكذا فعل لوط، وأيضًا إبراهيم. فقد قضى إبراهيم كل يومه منتظرًا ضحية صالحة، وإذ رآها أسرع إليها وجرى للالتقاء بهم وسجد أمامهم إلى الأرض، وقال: “يا سيد إن كنت قد وجدت نعمة في عينيك فلا تتجاوز عبدك” (تك 18: 3). ليس كما نفعل نحن عندما نرى غريبًا أو فقيرًا نقطب جبيننا ولا نود حتى الحديث معه. وبعد آلاف التوسلات نلين فنأمر الخادم أن يعطيه شيئًا تافهًا، ظانين أننا قمنا بواجبنا[18]].
أرسل القديس كبريانوس[19] يشكر أساقفة نوميديا Numidia لأنهم سمحوا له أن تشترك كنيسته من إخوة وأخوات وزملاء في المساهمة بدفع مبلغ إليهم لتحرير الإخوة الذين أسرهم البرارة. هكذا كانت عادة الكنيسة الأولى إنها تشعر بفرحٍ شديدٍ حين يُسمح لها بمثل هذه الشركة في خدمة القديسين.
- 9. مباركة المضطهدين
“باركوا على الذين يضطهدونكم،
باركوا ولا تلعنوا” [14].
جاء الوصية الإلهية تأمرنا أن نبارك الذين يضطهدوننا (مت 5: 44؛ لو 6: 28). فإننا إذ كنا نستحق اللعنة، حملها السيد المسيح عنا على الصليب، ليهبنا بركته عاملة فينا، يليق بنا أن نرد له هذا العمل في خليقته التي يحبها فنحب الذين يضطهدوننا، مباركين إياهم… لقد صارت حياتنا بالمسيح تحمل بركته، فكيف نستطيع أن نلعن أحدًا ؟ لذلك يقول معلمنا يعقوب الرسول: “من الفم الواحد تخرج بركة ولعنة؛ ألعل ينبوعًا ينبع من نفس عين واحدة العذب والمرّ؟” (يع 3: 10- 11).
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لم يقل: لا تكن شتامًا ولا منتقمًا، وإنما سألنا ما هو أفضل: “باركوا على الذين يضطهدونكم”….. فإن إنسانًا يعمل بحكمة هكذا ، يمارس عمل الملائكة. بعد قوله “باركوا” قال “لا تلعنوا” لئلا نمارس الاثنين معًا. الذين يضطهدوننا يمدوننا بمكافأة لحسابنا. فإن كنت متعقلاً فلتضف إلى المكافأة مكافأة أخرى تقدمها لنفسك. هو يهبك الاضطهاد، هب لنفسك مباركتك للآخرين، بهذا تقتني علامة عظيمة جدًا لمحبة المسيح. فمن يلعن مضطهده يظهر أنه لا يُسر باحتمال الآلام من أجل المسيح، هكذا من يبارك يظهر عظمة حبه للمسيح[20].]
- الشركة العملية
“فرحًا مع الفرحين وبكاءً مع الباكين” [15].
لا تقوم هذه الشركة على فكر اجتماعي بحت أو مجاملات ظاهرية، وإنما عن شركة الأعضاء التي تشعر ببعضها البعض.
ربما يسهل على الإنسان أن يحزن مع الحزين ويئن مع أناته، لكن يصعب جدًا أن يفرح مع فرح أخيه، هذا يتطلب نفسًا سامية، فلا يحسد أخاه على نجاحه، بل يفرح معه، حاسبًا كل نجاح لأخيه هو نجاح لنفسه. يقول الرسول: “فإن كان عضو واحد يتألم فجميع الأعضاء تتألم معه، وإن كان عضو يكرم فجميع الأعضاء تفرح معه، وأما أنتم فجسد المسيح وأعضاؤه أفرادًا” (1 كو 12: 26-27).
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [ليس شيء يثبت الحب بقوة مثل المشاركة في الفرح والألم. ليس لأنك بعيد عن المتاعب تنعزل عن مشاركة الآخرين أيضا. فعندما يتعب قريبك احسب الضيق خاصًا بك. شاركه دموعه لكي تسند روحه المنسحقة، وشاركه فرحه ليصير الفرح فيه عميقًا متأصلاً؛ ثبتّ المحبة إذ بهذا تخدم نفسك أكثر من خدمتك له. فبدموعك تصير أنت رحومًا، وبمشاعر البهجة تنقي نفسك من الحسد والغم… إن كنت لا تستطيع أن تنزع عنه الشرور شاركه بدموعك، فتزيل عنه نصف الشر؛ وإن كنت لا تستطيع أن تزيد خيراته فشاركه فرحه فتضيف إليه أمرًا عظيمًا[21].]
- التواضع
“مهتمين بعضكم لبعض اهتمامًا واحدًا،
غير مهتمين بالأمور العالية،
بل منقادين إلى المتضعين؛
لا تكونوا حكماء عند أنفسكم” [16].
يحثنا على المحبة التي “لا تطلب ما لنفسها” (1 كو 13: 5) ، بل ما هو للغير (في 2: 4) كأنه لنفسها. هذا هو الحب الذي به يحب الإنسان قريبه كنفسه، مهتما اهتمامًا واحدًا، غير مميز بين ما هو لنفسه وما هو لغيره.
بهذا الروح لا يهتم المؤمن بالأمور العالية، أي بغنى هذا العالم وأمجاده وكرامته، ولا بمعاشرة الأغنياء والعظماء لأجل غناهم وكرامتهم، بل ينقاد إلى النفوس المتواضعة وإلى الفقراء، حاملاً فكر المسيح، كقول الرسول: “فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع أيضًا الذي إذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله، لكنه أخلى نفسه آخذًا صورة عبد“ (في 2: 5 – 7). وقد عاش السيد المسيح منقادًا إلى المتواضعين، إذ قيل: “أما اختار الله فقراء هذا العالم أغنياء في الإيمان ورثة الملكوت؟” (يع 2: 5).
لنقبل فكر المسيح هذا ولا نسلك بالحكمة البشرية المتعجرفة: “لا تكونوا حكماء عند أنفسكم” [16]، وكما جاء في سفر الأمثال: “أرأيت رجلاً حكيمًا في عيني نفسه؟ الرجاء بالجاهل أكثر من الرجاء به“ (أم 26: 12) ، لأن الجاهل قد يدرك جهله فيقبل المشورة، أما الحكيم في عيني نفسه فيعيش متصلفًا لا يقبل مشورة الله ولا نصح الكنيسة.
يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على هذه الوصايا الرسولية، قائلاً:
[مرة أخرى يركز على تواضع الفكر، الأمر الذي سبق فحث به، إذ كانت الاحتمالات قائمة لأن يمتلئوا تشامخًا إما بسبب مدينتهم (كعاصمة الدول الرومانية) أو لأسباب أخري متنوعة… ليس شيء يسبب انشقاقات في الكنائس مثل (المجد) الباطل.
ماذا يعني بقوله: “مهتمين لبعضكم البعض اهتمامًا واحدًا” [16]؟ هل دخل فقير إلى بيتك؟ تشبه به في سلوكك؛ لا تضع أشياء فاخرة للمباهاة بغناك. ليس غني ولا فقير في المسيح. لا تخجل من الفقير بسبب ملابسه الخارجية بل اقبله من أجل إيمانه الداخلي. إن رأيته في حزن فلا تمتنع عن مواساته، وإن رأيته فرحًا فلا تخزه بل شاركه فرحه… احمل في ذهنك ماله كما لك أنت، إذ قيل: “مهتمين بعضكم لبعض اهتمامًا واحدًا”. كمثال إن كنت تحسب نفسك إنسانًا عظيمًا فاحسبه هو أيضا كذلك…
“غير مهتمين بالأمور العالية بل منقادين إلى المتضعين”[16]، بمعنى انزل إلى تواضعهم وشاركهم، سر معهم؛ لا تتواضع فقط من جهة الفكر، وإنما كن معينًا وابسط يدك إليهم، ليس كمن هم آخرون بل كأنهم شخصك أنت، كما يهتم الأب بطفله، والرأس بالجسد. وكما يقول في موضع آخر: “كأنكم مقيدون معهم” (عب13: 3)…
“لا تكونوا حكماء عند أنفسكم” [16]. لا تظنوا أنكم تستطيعون العمل بذواتكم يقول الكتاب في موضع آخر: “ويل للحكماء في أعين أنفسهم، والفهماء عند ذواتهم” (إش 5: 21)… ليس شيء ينفخ البشر ويجعلهم يحسبون أنفسهم مختلفين عن غيرهم من البشر مثل ظنهم أنهم قادرون أن يعملوا بذواتهم. لذلك وضعنا الله في مكان فيه يحتاج كل للآخر؛ فإن كنت حكيمًا تشعر أنك محتاج للآخر، أما إن حسبت نفسك في غير احتياج إلى الغير فأنت أكثر الناس غباءً وضعفًا… لا تحسب نفسك أنك تنحط باحتياجك للغير، بل هذا بالأكثر يمجدك، ويجعلك أقوى، وأكثر بهاءً، وفي آمان أعظم[22].]
- 12. مسالمة الجميع
“لا تجازوا أحدًا عن شرّ بشرّ، معتنين بأمور حسنة قدام جميع الناس.
إن كان ممكنًا فحسب طاقتكم سالموا جميع الناس.
لا تنتقموا لأنفسكم أيها الأحباء بل أعطوا مكانًا للغضب.
لأنه مكتوب: لي النقمة أنا أجازي يقول الرب.
فإن جاع عدوك فأطعمه، وإن عطش فاسقه،
لأنك إن فعلت هذا تجمع جمر نار على رأسه.
لا يغلبنك الشر بل اغلب الشر بالخير” [17–21]
سبق لنا الحديث عن هذه الوصايا في دراستنا للإنجيل بحسب متى (ص 5)، لذا أكتفي هنا بإبراز النقاط التالية:
أولاً: يعتني الإنسان المسيحي بأمور حسنة قدام جميع الناس، يهتم بالشهادة لله محب البشر، فلا يجد مجالاً لرد شر الآخرين بالشر… لا يتلائم هذا مع غايته ولا مع طبيعته الجديدة التي تمتع بها.
ثانيًا: يقول “إن كان ممكنًا فحسب طاقتكم سالموا جميع الناس“، إذ يليق بنا بذل كل الجهد لنكسب كل نفس بالحب والسلام، لكن هناك أوضاع يستحيل فيها ذلك مثل مقاومة الهراطقة للإيمان، إذ يستحيل أحيانا مسالمتهم لأنهم يخدعون البسطاء إلى الجحود أو الإيمان المنحرف إن تسللوا إلى الكنيسة، أو إنكار أحد الزوجين الإيمان (1 كو 7: 15).
ليتنا نبذل كل الجهد أن نسالم إن أمكن كل البشرية فننعم بسلام أورشليم السماوية فينا، وكما يقول القديس جيروم:[من كان ليس في سلام مع أخيه فهو خارج تخوم أورشليم[23].]
ثالثا: ماذا يعني بقوله: “لا تنتقموا لأنفسكم أيها الأحباء، بل أعطوا مكانًا للغضب” [19]؟ إن كان يقصد به غضب الإنسان، فيعني أن نحتمل غضبه بالصبر، ونقابل ثورته بالحب كقول السيد المسيح: “لا تقاوموا الشر بل من لطمك على خدك الأيمن فحوّل له الآخر أيضًا“ (مت 5: 39).
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم إنه يقصد “غضب الله”، بمعنى ألا ينتقم الإنسان لنفسه تاركًا الأمر لله نفسه مدافعًا عنه، إذ يقول: [اتركه لله، ولتهتم أنت بأخطائك.]
يقدم لنا القديس أمبروسيوس أبانا يعقوب كمثل حيّ للهروب من وجه أخيه عند غضبه، إذ يقول:
[تمثل بالأب (إسحق) الذي بمشورة الأم (رفقة) جعلته يهرب بعيدًا من هي هذه الأم؟ إنها “رفقة” التي هي “الصبر”….
لقد أحبت الأم ابنها لكنها فضلت أن يُحرم منها عن أن يحرم من الله (فأشارت عليه بالهروب من الغضب[24]).]
[تعلّم مشورة الصبر، مفضلاً أن يهرب ليعيش في أرض غريبة عن أن يثير غضب أخيه، ولم يرجع حتى شعر أن أخاه قد هدأ. بهذا وجد نعمة عظيمة لدى الله[25].]
رابعا: ماذا يعني “تجمع جمر نار على رأسه“؟ هل نقدم الطعام للعدو الجائع والماء للظمآن بقصد إغاظته؟
رأينا في دراستنا لإنجيل متى (5: 44) أن الوصية بعيدة كل البعد عن هذا المفهوم، إنما تعني جمر نار روح الله الذي ينقي العدو بالتوبة حتى يدرك حبك مقابل عداوته.
- إنها تعني أنك تنقي عدوك من الخطية، لأن صبرك يغلب مشورته.
- بمعنى آخر، إنك تشفيه من رذائله بحرق حقده لترده بالتوبة.
- حتى الناموس يعلمنا أن نحب العدو، فإن سقط حيوان العدو يلزمنا أن نرفعه، ويخبرنا الرسول:” فإن جاع عدوك فأطعمه، وإن عطش فاسقه، لأنك إن فعلت هذا تجمع جمر نار على رأسه”، لا بطريق اللعنة والإدانة كما يظن غالبية الناس وإنما بتهذيبه وجذبه إلى التوبة، فيغلبه الحنو، ويذوب بدفء الحب، فلا يصير بعد عدوًا[26].
القديس جيروم
خامسًا: يوصينا الرسول: “لا يغلبنك الشر، بل اغلب الشر بالخير” [21]، فإن كان الشر يجعل الإنسان ضعيفًا فلا تقابل الضعيف بالضعف، إنما قابله باتساع القلب في نضوج الحب. وكما يقول الأب يوسف: [بلطفنا نقهر غضبهم…. الإنسان الضعيف لا يقدر أن يعين الضعيف، ولا من يعاني أمرًا يقدر أن يشفي عليلاً مثله. أما من كان غير خاضع للضعف، فهذا يستطيع أن يقدم علاجًا للضعيف[27].]
[1] In Rom. hom 20.
[2] On Ps. hom 23.
[3] On Virginity.
[4] Ep. 76: 3.
[5] In Rom. hom 20.
[6] In Ioan. tr 74: 3.
[7] In Rom. hom 20.
[8] In Rom. hom. 21.
[9] In Rom. hom. 21.
[10] In Rom. hom. 21.
[11] In Rom. hom. 21.
[12] Ep. 22: 2.
[13] Ep. 52: 4.
[14] On Ps. hom 57.
[15] Ep. 49 ad Dracontium.
[16] In Ioan. tr 111: 1.
[17] In Rom. hom 21.
[18] In Rom. hom. 21.
[19] Ep. 59.
[20] In Rom. hom 22.
[21] In Rom. hom. 22.
[22] In Rom. hom. 22.
[23] On Ps. hom 57.
[24] Ep. 63: 100.
[25] Duties of Clergy 1: 21 (91).
[26] On Ps. hom 22, 41; adv. pelag. 1: 30 (See st. Aug: On Christian Doctrine 3: 16).
[27] Cassian: Conf. 16: 22, 23.