تفسير رسالة رومية 9 الأصحاح التاسع – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير رسالة رومية 9 الأصحاح التاسع – القمص تادرس يعقوب ملطي
الأصحاحات 9–11
اختيار الله شعبه
قلنا أن اليهود بوجه عام كانوا يشعرون بامتيازٍ خاصٍ بهم دون سائر الأمم من ثلاث جوانب رئيسية: أنهم أبناء إبراهيم صاحب الوعود الإلهية، وأصحاب الناموس الموسوي، وشعب الله المختار.
بالنسبة لبنوتهم لإبراهيم رفعهم الرسول بولس من البنوّة الجسديّة إلى البنوّة الروحية إن حملوا إيمانه فيهم، وانتقل بهم إلى بنوّتهم لله نفسه، الأمر الذي يشترك فيه الأمم المتنصرون معهم (ص 4-6). أمّا بالنسبة للناموس (ص 7-8) فأوضح أن الحاجة لا إلى الناموس في ذاته بل إلى غايته: المسيح يسوع، إذ يعجز الناموس عن التبرير من الخطيّة، إنما يقف عند كشفها، أمّا الإيمان فهو سرّ تبرير الكل. والآن في الأصحاحين (9-10) يتحدّث عن امتيازهم كشعب مختار، وهو أمر غاية في الدقّة ويصعب النقاش فيه مع اليهود، إذ لا يقبلون التفاهم أو التحرّك عنه قيد أنمله، لذا كان الرسول يتحدّث معهم وكأنه يسير على أشواك، يودّ أن يكسبهم لكن ليس على حساب الحق، أو على حساب انفتاح الباب لسائر الأمم، فجاء حديثه مزيجًا بين حُبّه الشديد لبني جنسه وانفتاح قلبه للأمم، كما كرّس الأصحاح الحادي عشر للحديث مع الأممي المتنصر ألا يستكبر على أخيه اليهودي المتنصر، بسبب انفتاح باب الإيمان له، لأن خطّة الله الخلاصيّة من نحو شعبه لابدّ أن تتحقق في أواخر الدهور، حين يقبل اليهود الإيمان بالمسيح بعد جحودهم له كل هذا الزمان. إنه يطالب الأممي المتنصّر أن يسلك بروح التواضع لئلاّ وهو غصن من شجرة برّية مغروسة في شجرة الزيتون الأصليّة يُقطع بسبب كبرياء قلبه.
يلاحظ أن الرسول وهو يستعرض هذا الموضوع أبرز ثلاث نقط:
- محبة الله المعلنة خلال مواعيده، واختياره لشعبه، لكن ليس كل الإسرائيليين حسب الجسد، إنما لمن يقبل البنوّة له بالإيمان.
- قسوة الإنسان الذي يقابل حب الله بالعصيان والجحود، وقد كان الثمر هو رفض إسرائيل الجاحد.
- البركة الشاملة، فإن الرفض يبقى جزئيّا إذ يشتاق الله أن يضم الكل له خلال الإيمان العام لكل الأمم والشعوب بما فيهم اليهود حين يقبلون ذاك الذي جحدوه.
الأصحاح التاسع
اختيار الأمم أيضًا
المشكلة الرئيسية في حياة اليهود هي شعورهم بأنهم شعب الله المختار، لذلك ترك معالجتها بعد تفنيد الحجتين السابقتين الخاصتين بانتسابهم لإبراهيم واستلامهم للناموس.
عالج الرسول هذه الحُجّة بحكمة عجيبة، إذ لم ينكر اختيارهم كشعب الله، إنما أكدّ أنه لا يقوم على امتياز فيهم أو عن استحقاق خاص بهم، إنما عن محبّة الله الذي “يرحم من يشاء”. خلال هذا الفهم أعلن الله أيضًا حُبّه للأمم فاختارهم هم أيضًا.
- تقدير الرسول لليهود 1-5.
- اختيار الله للآباء 6-13.
- اختيار الأمم أيضًا 14-29.
- تعثر إسرائيل 30-33.
- تقدير الرسول لليهود
إذ ختم الرسول حديثه السابق مؤكدًا أنه لا يمكن حتى للملائكة أو خليقة ما أن تفصله عن محبّة المسيح، ولئلاّ يظن اليهود المتنصّرون أنه تحدّث بهذا ليُعلن أنه مستعدّ أن يتخلّى عن شعبه بني جنسه من أجل إيمانه بالسيد المسيح، أراد أن يوضّح بقوّة أن إيمانه بالسيد المسيح يلهب بالأكثر قلبه بالحب نحو بني جنسه، ويتّسع قلبه لاحتوائهم في الإيمان حتى ولو كان قبولهم يلتزم حرمانه هو! لهذا يفتتح الرسول حديثه هنا بقوله:
“أقول الصدق في المسيح، لا أكذب وضميري شاهد لي بالروح القدس،
أن لي حزنًا عظيمًا ووجعًا في قلبي لا ينقطع،
فإني كنت أودّ لو أكون أنا نفسي محرومًا من المسيح
لأجل إخوتي أنسبائي حسب الجسد” [1-3].
حُبّه لخلاص شعبه يؤكّد بالأكثر محبته للسيد المسيح، وشوقه لخلاصهم يثبت بالأكثر علاقته به، أمّا حديثه هنا فمن قبيل تأكيد مدى محبته لهم في الرب واهتمامه بهم، ومدى بذله لنفسه لحسابهم.
كان الرسول بولس أشبه بإبراهيم أب الآباء الذي رفع ابنه، الذي أخذ فيه المواعيد على مذبح المحبّة، حاملاً السكّين كصليب ليذبحه، مؤمنًا أن الله قادر أن يُقيمه له حيًا ويحقّق مواعيده فيه. هكذا يرفع الرسول بولس نفسه كما إسحق على مذبح الحب من أجل أنسبائه حسب الجسد ممسكًا بالصليب، مؤمنًا أن محبته لبني جنسه لن تحرمه من المسيح ولا تفقده خلاصه، بل بالعكس تزيد نفسه بهاءً ومجدًا في عيني الله، لأنه إنما يمارس حب المسيح ويقبل عمل روحه فيه. فإن أعلن الرسول أنه مستعدّ أن يخدم شعبه حتى النهاية، حتى لو كان على حساب نفسه، فإن هذه المشاعر الصادقة لا تكون إلا لحساب نفسه أكثر فأكثر.
لعل الرسول بولس وهو يكتب هذه الكلمات يتمثل بموسى حين أعلن محبته لشعب الله، إذ يصرخ: “والآن إن غفرت خطيتهم وإلا فامحني من كتابك الذي كتبته” (خر 32: 32). وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن هذه الصلاة كانت أثمن ما قدّمه موسى النبي إذ يظهر خلالها أكثر بهاءً منه وهو يتمّم المعجزات، لأن الحب أعظم من عمل الآيات. هكذا لا يلوم أحد الرسول بولس في كلماته هذه، إذ يراه يحقّق الوصيّة الإنجيليّة: “بهذا قد عرفنا المحبّة أن ذاك وضع نفسه لأجلنا، فنحن ينبغي لنا أن نضع نفوسنا لأجل الإخوة“ (1 يو 3: 16).
لقد أُتهم الرسول بولس بخيانته لشعبه وعوائدهم وناموسهم (أع 21: 33؛ 22: 22؛ 25: 24)، لهذا يؤكّد الرسول محبته العميقة لهم مهما بدت الخسارة، معلنًًا ومؤكدًا أنه صادق في كلماته، إذ هو ملتزم أن ينطق “بالحق” لا “الكذب” بسبب اتحاده بالمسيح، مشهدًا الروح القدس الساكن فيه على ضميره الذي لا يدركه إنسان!
يقول الأب إسحق تلميذ القدّيس أنبا أنطونيوس: [أخيرًا إذ امتلأ الإناء المختار بهذه المشاعر رغب لو أمكن أن يكون محرومًا من المسيح من أجل نموّ الشعب المنتمي إليه وخلاص كل أمة إسرائيل لمجد أبيه… (برفضهم الفكر التعصبي وقبول الإيمان المسيحي بدل الجحود)… ويقول أيضًا: “لأننا نفرح حينما نكون ضعفاء وأنتم تكونون أقوياء“ (2 كو 13: 9) [1].]
الآن إذ يُعلن محبته الشديدة لخلاصهم قبل أن يعالج موضوع اختيارهم كشعب الله أراد أن يبرز جانبين:
أولاً: أنه لا يتحدّث كغريبٍ عنهم، أو عدوٍ يقاومهم، إنما يدعوهم هكذا “أنسبائي حسب الجسد” [3]، أي إخوتي خلال رابطة الدم، إذ صار له إخوة أيضًا جدد خلال رابطة الإيمان الجديد والروح، فهو يُحدّث إخوته المحبوبين إليه.
ثانيًا: إنه لا يتجاهل امتيازاتهم، إذ يقول: “الذين هم إسرائيليّون، ولهم التبنّي والمجد والعهود والاشتراع والعبادة والمواعيد، ولهم الآباء، ومنهم المسيح حسب الجسد، الكائن على الكل إلهًا مباركًا إلى الأبد آمين” [4-5]. وكأنه يقول أنا أعلم أنكم إخوتي شعب الله الذي ميّزكم الله بميزات دون سواكم، وقد أوضح لنا أن هذه الميزات كلها تكمل في شعب الله الجديد، إذ يقول:
أ. هم إسرائيليّون: فقد نال يعقوب هذا اللقب إسرائيل بأمرٍ إلهيٍ، لأنه “جاهد مع الله والناس وغلب” (تك 32: 8). فإن كان كلمة “إسرائيل” تعني “يملك كالله[2]“، فإن إسرائيل، وإن كان قد ملك ولكن إلى حين، أمّا إسرائيل الجديد قيقدّم ملوكًا حقيقيّين لا يملكون على الزمنيّات، إنما ينعمون بشركة المجد الإلهي مع ملك الملوك ورب الأرباب، يترنّمون قائلين: “جعلنا ملوكًا وكهنة لله أبيه“ (رؤ 1: 6).
ب. ولهم التبنّي: بمعنى أن الله اشتاق أن يتبنّاهم له ليكونوا كأهل بيته وخاصته؛ فعندما دعا الله موسى للعمل وسط شعبه قال له: “فتقول لفرعون: هكذا يقول الرب، إسرائيل ابني البكر، فقلت لك أطلق ابني ليعبدني فأبيت أن تطلقه، ها أنا أقتل ابنك البكر” (خر 4: 22-23). وعندما قدّم الله لشعبه وصايا تميّزهم عن الوثنيّين كان قول الرب: “أنتم أولاد الرب إلهكم“ (تث 14: 1)، وحين أعلن الله خلاصه لهم عند رجوعهم إليه، قال: “لأني صرت لإسرائيل أبًا وافرايم هو بكري” (إر 31: 9). لكن إسرائيل لم يستطع أن يمارس البنوّة لله بل مارس العصيان (إش 1: 2) غير مقدم له كرامة الأبوة (ملا 1: 6)… لذا احتاج إلى تغيير شامل لقلبه وطبيعته بسكنى روح التبنّي فيه، فيمارس بنوّته لله، ويحق له التمتّع بالميراث مع المسيح الابن وحيد الجنس (رو 8: 14-17).
ج. لهم المجد [4]، وكان علامته ظهور عمود السحاب والنار في البرية وأيضًا في الخيمة والهيكل، إذ قيل: “ثم غطت السحابة خيمة الاجتماع وملأ بهاء الرب المسكن” (خر 40: 34). وكان وجود تابوت العهد علامة وجود المجد الإلهي، لذلك عندما سمعت امرأة فينحاس باستيلاء الفلسطينيين عليه: قالت “زال المجد من إسرائيل، لأن التابوت قد أُخذ“ (1 صم 4: 21). أمّا بالنسبة لإسرائيل الجديد فصار “المسيح” نفسه هو مجده، يسكن وسط شعبه ويحل في قلوبهم، ويملأهم بروحه القدوس.
د. لهم العهود [4]، إذ أراد الله أن يرفع مؤمنيه دخل معهم في عهود مستمرة ليُقيم منهم شعبًا له، لكن هذا الشعب لم يلتزم بالعهود بل تجاوزها (هو 8: 1) ونقضها (حز 17: 18) وحُسب حانثًا للعهد وخائنًا له. لذا صار المؤمنون في حاجة إلى الالتقاء مع الله على مستوى عهد جديد، لا ليُنقش على حجارة كما في العهد القديم، وإنما داخل القلب بالروح القدس، يُعلن حب الله الباذل خلال دم ابن الله المبذول على الصليب (عب 12: 24).
ه. لهم الاشتراع [4]، إذ امتازوا بنوال الشريعة، لكنهم لم يحفظوها في حياتهم العمليّة، بل حُسبوا كاسرين لها.
و. لهم العبادة [4]، وقد جاءت الشريعة تقدّم الكثير من الطقوس الخاصة بالعبادة، كانت في الحقيقة ظلاً للعبادة الروحيّة.
ز. لهم المواعيد [4]، خاصة المواعيد التي تتنبأ عن مجيء المسيّا، هذه التي اهتم الأنبياء بإعلانها.
ح. ولهم الآباء [5]، إذ جاءوا من نسل الآباء البطاركة إبراهيم وإسحق ويعقوب.
ط. ومنهم المسيح حسب الجسد [5]. يكفيهم فخرًا أن السيد المسيح، كلمة الله، الكائن على الكل إلهًا مباركًا إلى الأبد قد جاء متجسدًا منهم.
يُعلّق القدّيس يوحنا الذهبي الفم على هذه الحديث الرسولي بقوله:
[ما يقوله الرسول لا يتحدّث به على المكشوف، فإنه إذ كان الكل يتكلّمون متهمين الله أنه بعد أن حسبهم أهلاً لاسم “الأبناء”، ولاستلام الشريعة، ولمعرفتهم له أكثر من كل البشر، والتمتّع بمجد عظيم كهذا، وخدمتهم له أكثر من كل العالم، وتقبّل المواعيد، ومنهم الآباء كأصدقاء له، وما هو أعظم من الكل أن من نسلهم جاء السيد المسيح، الآن قد صاروا مطرودين ومرذولين وحلّ محلّهم أناس لم يعرفوه من قبل قط، هم من الأمم.
إذ نطقوا بهذا كله وجدّفوا على الله، سمع بولس ذلك، فانعصر قلبه وغار على مجد الله واشتهى لو أمكن أن يُحرم هو ليخلصوا هم، وينقطع هذا التجديف، فلا يظهر الله كمخادعٍ لنسل أولئك الذين سبق فوعدهم بالنعم. ولكي تنظروا أنه للأسف وعد الله الذي قدّمه لإبراهيم “أعطيك الأرض ولنسلك“ لا ليسقط… قال: “ولكن ليس هكذا أن كلمة الله قد سقطت” [6][3].]
هكذا جاء الحديث في بقية الأصحاح أشبه بدفاع للرسول عن عدم سقوط كلمة الله أو مواعيده للآباء، إنما تتحقق ليس حسب المفهوم الحرفي الضيّق الذي التزم به اليهود إنما بالمفهوم الروحي العميق.
هذا وإذ أعلن لهم امتيازهم لم يداهنهم على حساب الحق، مؤكدًا أن الذي تجسد منهم هو “الكائن على الكل إلهًا مباركًا إلى الأبد” [5]. وكما يقول القدّيس هيبوليتس: [هذه الكلمة تعلن سرّ الحق باستقامة ووضوح، فإنه ذاك الكائن على الكل هو الله، القائل بدالة: “كل شيء قد دُفع إلىّ من أبي” (مت 11: 27). الكائن على الكل هو الله المبارك وقد وُلد إذ صار إنسانًا، لكنه هو الله إلى الأبد. في هذا يقول يوحنا أيضًا: “الكائن والذي كان والذي يأتي، القادر على كل شيء“ (رؤ 1: 8). حسنًا دُعي المسيح بالقادر، إذ بهذا ينطق بما شهد به المسيح عن نفسه[4].]
- اختيار الله للآباء
حسب اليهود أنفسهم أنهم نالوا خلال آبائهم وعدًا إلهيًا أنهم شعب الله، هذا الوعد أو هذه الكلمة الإلهية لن تسقط عبر الأزمنة. والرسول بولس كمؤمن بكلمة الله يُدرك أنها لن تسقط أيضًا، إنما الخطأ ينصبّ في فهمهم لكلمة الله، فإن الله إذ وعد “إسرائيل” إنما يقدّم وعده “لإسرائيل الروحي الحقيقي”، لا لجنس معين بذاته مهما كانت تصرفاته، وإذ يعد إبراهيم بالنسل خلال إسحق، يطلب النسل الروحي الذي له إيمان إبراهيم وإسحق لا أولاد الجسد. ثم أن الله الذي اختار إسرائيل شعبًا له من حقه أن يبسط ذراعيه لسائر الأمم ليقبل الكل شعبه، خاصة إن سقط إسرائيل الجسدي في الجحود وعدم الإيمان.
“ولكن ليس هكذا حتى أن كلمة الله قد سقطت،
لأن ليس جميع الذين من إسرائيل هم إسرائيليّون” [6].
يؤكّد الرسول بولس إيمانه بكلمة الله أنها لن تسقط، ومواعيده لإبراهيم أب الآباء باقية، لكن ما يرفضه الرسول هو تفسيرهم للانتساب لإسرائيل، فإنه ليس كل إنسان من شعب إسرائيل إسرائيليًا بحق، أي ليس الكل أعضاء في شعب الله، وكما سبق فقال: “لأن اليهودي في الظاهر ليس هو يهوديًا ولا الخِتان في الظاهر في اللحم ختانًا“ (رو 2: 28).
يعطى الرسول تفسيرًا كتابيًا لنسل إبراهيم الذي فيه تتحقّق المواعيد الإلهية، إذ يقول: “ولا لأنهم من نسل إبراهيم هم جيمعًا أولاد، بل بإسحق يُدعى لك نسل، أي ليس أولاد الجسد هم أولاد الله، بل أولاد الموعد يُحسبون نسلاً. لأن كلمة الموعد هي هذه: أنا آتي نحو هذا الوقت ويكون لسارة ابن، وليس ذلك فقط، بل رفقة أيضًا وهي حبلى من واحدٍ وهو إسحق أبونا، لأنه وهما لم يولدا بعد ولا فعلا خيرًا أو شرًا، لكي يثبت قصد الله حسب الاختيار ليس من الأعمال بل من الذي يدعو، قيل لها أن الكبير يُستعبد للصغير، وكما هو مكتوب: أحببت يعقوب وأبغضت عيسو” [7-13].
يلاحظ في هذا النص الرسولي:
أولاً: حكمة الرسول بولس وتمييزه في الحديث معهم، فكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن الرسول قدّم “إسحق” مثلاً للبنوّة لإبراهيم، فإنه وإن كان ابنًا لإبراهيم حقيقيًا لكنه لم يولد حسب قوّة الجسد أو حسب ناموس الطبيعة، إذ كان الأب شيخًا والأم عاقرًا، وإنما مولودًا حسب قوّة الوعد الإلهي. إذًا فنسل إبراهيم هم الذين ينعمون بالولادة لا حسب الجسد، وإنما حسب الإيمان والتمسك بوعود الله روحيًا.
لم يهاجم الرسول اليهود بكونهم نسلاً لإبراهيم، إنما هاجم فهمهم لشعب الله بطريقة حرفيّة جامدة تقف عند الانتساب الجسدي لإبراهيم. لنكن كإسحق فنصير أصحاب الوعد الإلهي حاملين البنوّة لا لإبراهيم فحسب بل كما يقول الرسول: “هم أولاد الله”، “وأولاد الموعد”.
يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم:
[هذا الوعد إذن وكلمة الله هما اللذان شكّلا إسحق وولداه. فماذا إن كان الرحم هو الأداة وأحشاء المرأة هي الوسيلة؟ لكن ليس قوّة الأحشاء هي التي ولدت الطفل بل قوّة الوعد.
هكذا نحن أيضًا نولد بواسطة كلمة الله. ففي جرن المعموديّة كلمة الله تلدنا وتشكّلنا. لقد ولدنا من جديد بالعماد باسم الآب والابن والروح القدس. هذا الميلاد ليس بقوّة الطبيعة بل بقوّة وعد الله (يو 3: 3؛ أف 5: 26؛ يع 1: 18؛ 1 بط 3: 21).
فإنه كما سبق فأنبأ عن ميلاد إسحق ثم حقّق الوعد، هكذا بالنسبة لنا أيضًا قد سبق فأعلن عن ميلادنا منذ أجيال طويلة بواسطة الأنبياء ثم حقّق الوعد. أنتم تعرفون كيف قدّم الوعد أنه سيتحقّق كأمرٍ عظيمٍ، وقد تمّمه بسهولة شديدة (هو 2: 1 الخ).
لكن إن قال اليهود إن الكلمات: “بإسحق يُدعى لك نسل” تفهم بأن كل من يولد من إسحق بالضرورة يحسب نسله، بهذا يكون بنو آدوم أبناؤه، لأن أباهم عيسو (آدوم) هو أيضًا ابنه… هكذا ترون أنه ليس كل أولاد الجسد هم أولاد الله، هكذا سبق فأخبر بطريقة ما عن تجديد الميلاد الذي من فوق بواسطة المعموديّة. (إذ يرى القدّيس بأن الوعد بنسل إسحق يُشير إلى الوعد للمولودين في المعموديّة ميلادًا ليس حسب الطبيعة أو الجسد.)
إن قلتم أن الولادة تتحقق بالرحم (من سارة) أقول أنها تتم هنا بالمعموديّة، إذ تتم بالروح كما تحقّقت هناك بالوعد. فالرحم أكثر جمودًا من الماء بسبب عقر (سارة) وشيخوختها.
إذن لنتيقّن من معرفة دقيقة عن سمونا، ولتكن حياتنا لائقة بهذا السمو، فإنه ليس سموًا جسديًا أو أرضيًا، وليتنا لا نسمح أن يكون فينا شيء من هذا.
لم يصنعنا الله (كأبناء له) خلال النوم ولا بمشيئة جسد (يو 1: 13) ولا خلال جنون الشهوة… بل خلال الحب الإلهي نحو الإنسان (تي 3: 5).
وكما أنه في تلك الحالة تحقّق الميلاد بعد أن نزع الزمن الرجاء، هكذا في حالتنا نحن بعد أن غلبتنا شيخوخة الخطيّة وُلد إسحق فجأة صغيرًا وصرنا نحن أولاد الله ونسل إبراهيم (إش 60: 31)[5].]
إذن وعد الله قائم وكلمته لم تسقط بل قائمة وفعالة، وإسحق لا يزال يُولد حتى اليوم كما من سارة التي لا تحمل قوّة الولادة بالطبيعة إنما بالوعد الإلهي، إذ لا يزال شعب الله يقوم خلال رحم الكنيسة الذي هو المعموديّة، حيث يُولد إسحق على الدوام لا خلال الجسد، ولا بهوى إنسان وإنما بالروح القدس بقوّة الكلمة.
يرى القدّيس أغسطينوس أن هذا الوعد لنسل إبراهيم من إسحق المولود من سارة قد تحقّق عندما علق السيد المسيح، وأعلن ملكه على هذا النسل، إذ جاء في علته التي سجلت على الصليب “ملك اليهود”، فقد ملك الرب بالصليب على اليهود من “نسل إسحق”… لكنه لم يملك على النسل حسب الجسد بل هو حسب الروح، إذ يقول: [المسيح ملك اليهود (حسب عنوان علته)، لكن اليهود مختوني القلب بالروح لا بالحرف، الذين مدحهم من الله لا من الناس، الذين ينتمون لأورشليم الحرة، أمنا الأبدية في السماء، سارة الروحيّة التي تطرد الجارية وأولادها من بيت الحرّية. فما كتبه بيلاطس قد كتب، لأنه ما قاله الرب قاله[6].]
يقول القدّيس أغسطينوس: [لكي يكونوا أبناء الوعد نسل إبراهيم يلزم أن يُدعو في إسحق، وذلك بتجميعهم معًا في المسيح خلال دعوة النعمة[7].]
هذا ويرى القدّيس أغسطينوس[8] أن أبناء الجسد الذين يولدون من قطّورة هم رمز الهراطقة الذين جاءوا كما من زوجة ثانية من السراري.
ثانيًا: لم يقف الرسول بولس عند تقديم مثلٍ واحدٍ لتحقيق وعد الله بطريقة روحية لا حرفيّة جامدة، وإنما قدّم مثلاً آخر خلال اختيار الله ليعقوب دون عيسو، وهما في أحشاء رفقة. ففي مثل إسحق ربّما يقال أن الوعد يتحقّق في إسحق ونسله دون إخوته، لأن إسماعيل ابن الجارية، ولأن إسحق هو ابن الحرة أكبر سنًا من إخوته الذين من قطّورة، فهو الوارث للمواعيد الإلهية دون سواه، لذلك قدّم الرسول “يعقوب وعيسو” وهما من أب واحد وأم واحدة، بل وكانا توأمين في بطن واحدة، ومع ذلك لم يكن لهما نصيب واحد. فمن جهة الجسد لا يختلف يعقوب عن عيسو في شيء بل يمتاز عيسو بأنه البكر جسديًا. ومع ذلك “الكبير يُستعبد للصغير”.
بمعنى آخر إن كان اليهود يمثّلون “الكبير” إذ سبقوا الأمم في معرفة الله، لكنهم إذ يجحدونه بينما يقبل الأمم الإيمان، يتحرّر من العبوديّة ويسقط اليهود فيها.
يُعلّق القدّيس يوحنا الذهبي الفم على اختيار يعقوب دون عيسو، هكذا: [انظر كيف حدث هذا ليس فقط في حالة إبراهيم وحده بل وفي حالة ابنه أيضًا، أن الإيمان والفضيلة في كل الأحوال هما المهمان ويعطيان العلاقة الحقيقة (للبنوّة). هنا نتعلم أنه ليس خلال الميلاد وحده بل خلال تأهّل الأشخاص لفضيلة أبيهم يحسبون أبناء له. فلو أن البنوّة تقوم على الميلاد الجسدي (وحده) لاِستحقّ عيسو أن ينعم بما ناله يعقوب… إنه يُظهر بأن شرف الميلاد الجسدي ليس بذي قيمة، إنما يلزمنا أن نطلب فضيلة النفس التي يعرفها الله قبل أن تُمارس…الاختيار تمّ بناء على سبق معرفة الله، إذ يعلم من هو صالح[9] ومن هو ليس بصالح.]
ثالثًا: ربّما يتساءل البعض: لماذا قيل: “لأنه وهما لم يولدا بعد ولا فعلا خيرًا أو شرًا، لكي يثبت قصد الله حسب الاختيار ليس من الأعمال، بل من الذي يدعو، قيل لها أن الكبير يستعبد الصغير؟” ألعلّ عند الله محاباة؟ لماذا يحب يعقوب ويبغض عيسو؟
بمعنى آخر هل لأن الله اختار يعقوب قبل أن يعمل خيرًا أو شرًا خرج صالحًا بينما خرج عيسو شريرًا؟ ولماذا يُحاسب عيسو إذن على شرّه ويكافأ يعقوب على صلاحه؟
تأتي الإجابة على ذلك هكذا:
أ. أوضح الرسول نفسه في ذات الرسالة عدم محاباة الله، قائلاً بكل صراحة: “لأن ليس عند الله محاباة” [11]. وقد سبق فأوضح الرسول أن اختيار الله يقوم على سبق معرفته غير المحدودة، إذ يقول: “لأن الذين سبق فعرفهم، سبق فعيّنهم، فهؤلاء دعاهم أيضًا” (رو 8: 30). فإن كان قد أحبّ يعقوب وعيّنه ودعاه إنما لأنه سبق فعرفه أنه يقبل الدعوة ويتجاوب مع محبّة الله، حتى وإن كان في قبوله للدعوة يتعرّض للضعفات والسقطات، فالله يحبه من أجل نيّته الصادقة والجادة عمليًا، أمّا رفضه لعيسو فيقوم على رفض عيسو لله وإصراره على المقاومة ضد الله.
ب. بقوله: “لأنه وهما لم يولدا بعد، ولا فعلا خيرًا ولا شرًا” أراد أن يؤكّد الرسول أن يعقوب لم يتبرّر بسبب أعمال الناموس، ولا أعماله الصالحة الذاتية، فسرّ محبّة الله له إنما تقوم على نعمة الله المجّانية، لكن دون سلبيّة من جهة يعقوب. بمعنى آخر لو انتظر الله حتى ينمو يعقوب ويكبر ويظهر كرجلٍ صالحٍ، وعندئذ يدعوه لتعرّض يعقوب للكبرياء، وحسب أن الله دعاه عن استحقاق ذاتي، وأنه هو الذي سبق فسلك بالصلاح، فتأهل بذاته للدعوة، لكن الله أعلن حُبّه ليعقوب وهو بعد في الأحشاء ليبرز الله كمُبادرٍ بالحب نحو مؤمنيه، حتى قبل ممارستهم لعمل صالح. يحبهم، إذ يعلم أنهم يقبلون دعوته المجّانية وعمله الإلهي فيهم.
ج. لعل الرسول بولس أراد أن يوضّح لليهود أنهم وإن كانوا يعجزون عن تقديم مبرّر لاختيار الله لأبيهم يعقوب “إسرائيل”، فكيف يدركون خطّة الله نحو العالم كله؟ الله الذي سبق فأحب يعقوب وهو في الأحشاء لا يدرك شيئًا، له أيضًا أن يختار الأمم ويحبّهم، حتى ولو لم يدرك اليهود والأمم سرّ هذا الاختيار والحب للأمم! بمعنى آخر يعجز الشعب اليهودي ويعقوب نفسه عن تقديم تفسير لقبوله، وهكذا يعجز الكل عن إدراك سرّ انفتاح باب الإيمان للأمم أيضًا.
د. حديث الرسول هنا لا يقلل من دور الإيمان في الجهاد، لكنه يؤكّد أن خلاص الإنسان لا يتحقّق بالعمل الصالح خارج دائرة الإيمان، وأنه ما كان يمكن قبول يعقوب لو لم يبادر الله بالحب أولاً. لهذا لا نعجب إن سمعنا أن الله سيجازي كل إنسان حسب أعماله (مت 16: 27).
ه. يقدّم لنا القدّيس إيريناؤس[10] تعليلاً للقول الإلهي: “أحببت يعقوب وأبغضت عيسو”، وهو أن الله استخدم حتى الأجنَّاء في بطن أمهاتهم كنبوّة، فأعلن هنا عن ظهور أمّتين، واحدة مستعبدة والأخرى حرّة، لكن للاثنين أب واحد، هو ربنا الواحد. فإن كان إسحق هو أب يعقوب كما أب عيسو هكذا الله هو أب اليهود كما الأمم.
و. يرى القدّيس أغسطينوس أن في هذا نبوّة لما يُحدّث في كنيسة المسيح، التي كانت كرفقة تحمل في داخلها أبرارًا وأشرارًا، إذ يقول: [صارعا في رحم الأم، وحين صارعا قيل لرفقة: “في بطنك أمتان”، رجلان، شعبان، شعب صالح وآخر شرير، يتصارعان معًا في رحم واحد. كم من أشرار في الكنيسة! فإن رحمًا واحدًا يحملهم حتى يُعزلوا في النهاية. الصالحون يصرخون ضد الأشرار، والأشرار ضد الصالحين، وكلاهما يصارع أحدهما الآخر في أحشاء أمٍ واحدةٍ[11].]
هذا وقد سبق لنا اقتطاف بعض تعليقات الآباء في هذا الشأن عند دراستنا لسفر التكوين[12].
نختتم حديثنا عن اختيار يعقوب دون عيسو دون محاباة بقول القدّيس أغسطينوس: [بالنسبة للخطيّة الأصليّة كان الاثنان متشابهين، أمّا بالنسبة للخطيّة الفعليّة فكانا مختلفين… الأكبر يُستعبد للأصغر، يفهمها كتابنا أن اليهود يخدمون الشعب الأصغر أي المسيحيّين (بتقديم النبوّات والرموز لهم)[13].]
- اختيار الأمم أيضًا
إذ أعلن الرسول حُبّه الشديد لخلاص بني جنسه وحزنه عليهم لأنهم رفضوا مواعيد الله الصادقة، مؤكدا أن كلمة الله لن تسقط، وإنما تتحقق الوعود في إسرائيل الروحي الجديد، بدأ يحدّثنا عن اختيار الله للأمم كشعبٍ له، وليس من حق الإنسان الاعتراض على تدابير الله وقضائه، مؤكدًا أن هذا الاختيار ليس بالأمر الجديد، إذ سبق فأعلن الله عنه بالأنبياء.
“فماذا نقول؟ ألعلّ عند الله ظلمًا؟ حاشا” [14].
كأن اعتراضًا قد أثير بقوله أن الله أحب يعقوب وأبغض عيسو وهما بعد في البطن لم يعملا خيرًا أو شرًا، ألا وهو: ألعلّ عند الله ظلمًا؟ وتأتي الإجابة قاطعة لا تحتاج إلى تدليل: حاشا! لأننا لا نقدر أن ندرك كل أسرار حكم الله وتدبيراته من كل الجوانب، فحكمنا البشري مختلف تمامًا عن حكم الله. هنا يودّ الرسول أن يؤكّد مبدأ هامًا أن الله لا يحابي أحدًا ولا يظلم أحدًا، حتى وإن بدا لنا حسب الفكر البشري ذلك في أمر ما. بهذا يمهّد الرسول الطريق كي لا يحكموا على خطّة الله الخلاصيّة من جهة قبول الأمم، لا لسبب إلا إدراكنا أن الله ليس بظالم وإن بدا تصرفه غير مُدرك بالنسبة لنا.
“لأنه يقول لموسى:
إني أرحم من أرحم، وأتراءف على من أتراءف” [15].
تحقق هذا الحديث الإلهي مع موسى حين اشتاق أن يتمتّع بالمجد الإلهي (خر 33: 19 الترجمة السبيعينية)، وقد جاء هذا القول ليُعلن لموسى أنه مع كل تقدير الله له ولجهاده ولكن ما يناله من عطيّة سماوية ألا وهو التمتّع برؤية المجد الإلهي فهي نعمة مجّانية إلهية تُعطى له، وليس ثمنًا لجهاده، ولا عن أعمال ذاتية. لكنها أيضًا لا توهب للمتراخين أو الخاملين؛ هي نعمة مجّانية للمجاهدين بروح الإيمان الحيّ.
ويرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن حديث الله هذا مع موسى يعني أن موسى مع ما بلغه من تقدير في عيني الله لا يقدر أن يدرك أعماق حكمة الله وأحكامه، وكأن الله يقول له: [يا موسى، ليس لك أن تعرف من هو مستحق لحبي نحو الإنسان، إنما اُترك هذا لي. فإن كان ليس من حق موسى أن يعرف فكم يكون الأمر بالنسبة لنا؟[14]]
هذا ويلاحظ أن الله لم يقل: “أرحم من أرحم، وأهلك من أهلك”، بل قال: “أرحم من أرحم وأتراءف على من أتراءف”، مظهرًا سلطانه الإلهي في الحب والرحمة والرأفة بالإنسان، إذ لا يودّ هلاك الخاطئ مثل أن يرجع ويتوب، أنه بادر بحب يعقوب من جانبه أمّا بغضة عيسو فجاءت ثمرًا طبيعيًا لجحود عيسو نفسه وإصراره وعناده على عدم قبول مراحم الله. الله حب، لكنه لا يلزم الغير بقبوله.
“فإذًا ليس لمن يشاء ولا لمن يسعى، بل لله الذي يرحم” [16].
هل يتنافى هذا مع الوصيّة الرسولية: “تمّموا خلاصكم بخوف ورعدة” (في 2: 12) وما شابهها؟ إن كانت رحمة الله ليست لمن يشاء ولا لمن يسعى، فلماذا يقدم لنا الله وصاياه، ويطلب منّا أن نقبله بإرادتنا الحرة ومشيئتنا الاختيارية؟ ولماذا يحثّنا في العهدين القديم والجديد على الجهاد حتى النهاية، قائلاً: “الذي يصبر إلى المنتهي فهذا يخلص“ (مت 10: 22، 24: 13؛ مر 13: 13)؟ وفي سفر الرؤيا يؤكّد الرب: “كن أمينًا إلى الموت فسأعطيك إكليل الحياة” (رؤ 2: 10)، بل ويقول لملاك الكنيسة التي في ثياتيرا: “أنا عارف أعمالك ومحبتك وخدمتك وإيمانك وصبرك…“ (رؤ 2: 19)؟
لا يستطيع أحد ممن يقرأ الكتاب المقدس بفهمٍ روحيٍ أن يتجاهل دور الإنسان الإيجابي في تمتّعه بالخلاص المجّاني، وإن الله يريد إرادتنا الحرة أو مشيئتنا الاختيارية مع سعينا الجاد، لأنه يقّدر الحرّية الإنسانيّة كل التقدير ولا يتجاهل دورنا العملي. إنما ما نودّ تأكيده هنا أن الكتاب المقدس لا يُفهم كأجزاء منفصلة مستقلّة عن بعضها البعض، إنما يمثل وحدة واحدة متكاملة، يعالج أمورًا كثيرة ومتباينة. لذا يليق بالقارئ أن ينعم بروح الحكمة والتمييز حتى لا يستخدم عبارة في غير موضعها، إنما فيما يناسبها وبروح الكتاب ككلٍ.
فالرسول بولس هنا لا يعالج مشكلة حريّة الإرادة الإنسانيّة أو الاختيار والجبر، وإلا لأعلن بوضوح كما في نفس هذه الرسالة وفي رسائله الأخرى تقدير الله للإرادة البشريّة، والإجبار على قبول الرحمة الإلهية أو عمل النعمة المجّاني. إنما يعالج هنا مشكلة لا تخص الأفراد كأفراد وإنما تخص قبول الأمم، لذلك فهو لا يتحدّث عن إرادة الإنسان هل هي حرة أم لا، إنما عن خطّة الله نحو خلاص العالم كله. إن الله الذي سبق فاختار إسرائيل شعبًا له كخميرة لتقديس العالم بمجيء المخلص حسب الجسد منهم، من حقّه أن يرحم من يرحم ويتراءف على من يتراءف، بفتح باب الرجاء لكل الشعوب، دون أن تقف الجبلة الضعيفة لتحاكمه.
يقول القدّيس جيروم: [من جانبنا نحن نقبل حريّة الإرادة هذه بسرور، لكنّنا لن ننسى أن نشكر العاطي، مدركين أننا نصير بلا قوّة ما لم يحفظ الله عطاياه فينا على الدوام… المشيئة هي منّا، والسعي أيضًا من جانبنا، لكن بدون معونة الله المستمرة لا تكون لنا مشيئة ولا سعي. يقول المخلص في الإنجيل: “أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل“ (يو 5: 17). أنه دائم العطاء، مانح باستمرار. لم يكتفِ بأن يهب النعمة مرة واحدة، إنما يقدّمها على الدوام. إنني أطلب لكي أنال، وإذ أنال أعود فأطلب ثانية، إذ أنا طامع في غنى الله وهو لا يمتنع عن العطاء، وأنا لا أكف عن الأخذ. كلما شربت عطشت، إذ اسمع تسبحة المرتّل: “ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب” (مز 34: 8). كل صلاح نناله هو تذوق للرب[15].]
كما يقول أيضًا: [حيث توجد النعمة فإنها لا توهب عن أعمال، بل هي عطيّة مجّانية من العاطي… ومع ذلك فلنا أن نشاء أو لا نشاء، إنما الحرّية عينها التي لنا هي مقدّمة لنا برحمة الله[16].]
هذا من جانب، ومن جانب آخر فقد أراد الرسول أن يربكهم بذات فكرهم، وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم أنهم كانوا يقبلون رحمة الله لهم وسقوط فرعون تحت قسوته دون اعتراض من جانبهم، فلماذا يعترضون عندما يفتح باب رحمته لغيرهم؟ هذا ما دفع الرسول أن يكمل هكذا: “لأنه يقول الكتاب لفرعون إني لهذا بعينه أقمتك لكي أظهر فيك قوتي، ولكي ينادي باسمي في كل الأرض، فإذًا هو يرحم من يشاء ويقسي من يشاء. فستقول لي: لماذا يلوم بعد؟ لأن من يقاوم مشيئته! بل من أنت أيها الإنسان الذي تجاوب الله؟ ألعل الجبلة تقول لجابلها: لماذا صنعتني هكذا؟ أم ليس للخراف سلطان على الطين أن يصنع من كتلة واحدة إناءً للكرامة وآخر للهوان؟ فماذا إن كان الله وهو يريد أن يظهر غضبه ويبين قوته احتمل بأناة كثيرة آنية غضب مهيأة للهلاك؟ ولكي يبين غنى مجده على آنية رحمة قد سبق فأعدها للمجد التي أيضًا دعانا نحن إياها ليس من اليهود فقط، بل من الأمم أيضًا” [17–24].
ويلاحظ في هذا النص الآتي:
أولاً: غاية هذا الحديث ليس تجاهل حرية الإنسان، الأمر الذي ليس موضع حديث الرسول هنا، إنما تأكيد دور الله في خلاصنا؛ إنه يعمل فينا لا عن استحقاق من جانبنا، وإنما عن حبه وفيض رحمته كنعمة مجانية.
- بهذا يتكشف بجلاء أن نعمة الله ورحمته تعملان دومًا لأجل خيرنا، فإذا تركتنا نعمة الله لا تنفع كل الجهود العاملة شيئًا؛ مهما جاهد الإنسان بكل نشاط لا يقدر أن يصل إلى حالته الأولى بغير معونة الله[17].
الأب دانيال
- في كل فضيلة إذ نشعر بتقدم فيها ننطق بكلمات الرسول: “لا أنا بل نعمة الله التي معي، بنعمة الله أنا ما أنا” (1 كو 15: 10)، “الله هو العامل فينا (فيكم) أن تريدوا وأن تعملوا من أجل مسرته“ (في 2: 13). إذ يقول مقدم خلاصنا نفسه: “الذي يثبت فيّ وأنا فيه هذا يأتي بثمر كبير، لأنكم بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئًا” (يو 15: 5). كما قيل: “إن لم يبن الرب البيت فباطلاً يتعب البناؤون، وإن لم يحرس الرب المدينة فباطلاً يتعب الحراس“ (مز 126: 1-2)[18].
القديس يوحنا كاسيان
- لنتحقق ماذا يعني هذا؟ إن الأمر ليس بخصوص من يشاء أو من يسعى، وإنما بخصوص الله الذي يرحم. فإن كنا لا نشاء ولا نسعى، فالله لا يأتي ليعيننا. فمن جانبنا يلزمنا أن نشاء وأن نسعى فيتراءف علينا، لكن إن نام المصارع يفقد النصرة[19].
القديس جيروم
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن هذا الحديث الرسولي كان خطوة تمهيدية للسامع لكي يلين روحه المتعجرفة التي تنتقد خطة الله نحو خلاص الأمم، فقبل أن يكشف سرّ خطة الله أراد أن يؤكد للسامع أنه ليس من حقه أن يقف هكذا موقف الناقد أو الديان لله، وكأن الرسول يقول: [عملنا هو أن نخضع لما يفعله الله لا أن نكون متطفلين محبين للاستطلاع حتى وإن كنا لا نعرف حكمة تصرفاته. لذلك قال: “من أنت الذي تجاوب (ضد) الله”؟… من أنت؟ هل أنت شريكه في سلطانه (أي 38)؟ بل! هل تجلس لتدين الله؟… إنه لم يقل: “من أنت الذي تجاوب الله؟” بل “تجاوب ضد الله”. أنظر كيف يرعبهم ويخيفهم فيجعلهم في رعدة عوض تساؤلهم وتطفلهم. هذا ما يفعله المعلم الممتاز الذي لا يجري وراء تخيلات تلاميذه الباطلة أيا كانت، إنما يقودهم إلى فكره بانتزاع الأشواك عنهم وغرس البذار، فلا يجيب في كل الحالات على الأسئلة التي تقدم له[20].]
يقف غير المؤمن من الله موقف الناقد لكل تصرف إلهي، أما الإنسان التقي فيقول مع إرميا النبي: “أبرّ أنت يا رب من أن أخاصمك، لكن أكلمك من جهة أحكامك: لماذا تنجح طريق الأشرار؟” (إر 12: 1).
يفرح الله ويسرّ بأولاده مشتاقًا أن يدخلوا معه في حوار، لكنه على أساس إيماني تقوي، حديث الابن الذي يتكئ على صدر أبيه لينهل منه أسرار أحكامه، ويتمتع بحكمته العلوية حتى وإن عاتبه أو خالفه أو حاججه. أما إن أخذ موقف الناقد العنيد، كما فعل بعض الفعلة مع صاحب الكرم حين أظهر الأخير كرمه ومحبته (مت 20: 1–16)، إذ قال للمتذمرين: “يا صاحب ما ظلمتك… فخذ الذي لك واذهب، فإني أريد أن أعطي هذا الأخير مثلك، أو ما يحل لي أن أفعل ما أريد بمالي؟” يوجه الرب نفسه هذا التوبيخ لليهود الذين يرفضون رحمة الله على الأمم متذمرين على إحساناته بإخوتهم في البشرية.
ثانيًا: يليق بالإنسان عوض أن يقف كناقدٍ لتصرفات الله الفائقة يطلب أن يملأه حكمة ومعرفة ليكتشف أمورًا عجيبة؛ ففي العهد القديم الذي يؤمن به اليهود ويفتخرون به جاء قول الله لفرعون: “إني لهذا أقمتك لكي أظهر فيك قوتي، ولكي ينادى باسمي في كل الأرض” [17] (خر 9: 16 الترجمة السبعينية)، فالله الذي رحم موسى سمح فأقام فرعون ملكًا، وأبقاه حيًا لكي يستخدم قسوة قلبه لإعلان مجد الله، وبسبب عنفه مع شعب الله يُنادي باسم الرب في كل الأرض، إذ جاء في تسبحة موسى: “يسمع الشعب فيرتعدون، تأخذ الرعدة سكان فلسطين، حينئذ يندهش أمراء أدوم، أقوياء موآب تأخذهم الرجفة، يذوب سكان كنعان“ (خر 15: 14-15). اختار الله موسى دون فرعون، وكما قال الرسول: “فإذًا هو يرحم من يشاء، ويقسي من يشاء” [18]. ليس لنا أن نتساءل: لماذا رحم موسى وقسى قلب فرعون؟ لأن حكمة الله تفوق حكمتنا، إنما ما يمكننا أن نعرفه إن الله يعلم قلب موسى واشتياقه فسنده بنعمته ليتمجد فيه خلال الرحمة، أما بالنسبة لفرعون فكان قلبه قاسيًا (خر 8: 15، 32؛ 9: 34؛ 10: 6)، وإنما ما فعله الله أنه لم ينزع هذه القسوة عنه قسرًا، إنما رفع يده عنه فبقى فرعون في قسوة قلبه، أو بمعنى آخر سمح له أن يمارس عنفه ضد شعب الله ليتمجد الله حتى في هذا العنف الشرير. الله الذي سند موسى بالرحمة لم يمنع فرعون عما يكنه قلبه الشرير، فيكمل موسى كأس مجده ويكمل فرعون كأس شره، والله يتمجد بهذا وذاك.
ثالثًا: اقتبس الرسول بولس من العهد القديم أيضًا الذي يقدسه اليهود مثال الفخاري (إر 18: 1–10) ليؤكد به أن الإنسان في علاقته بالله كالطين في يد الخزاف، وكالجبلة في يديّ جابلها، ليس له أن يعترض على تصرفات الله وحكمته، فمن حق الخزاف أن يصنع من كتلة واحدة إناءً للكرامة وآخر للهوان، وهو يتمجد في الإناءين.
يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم علي هذا المثال قائلاً:
[لم يقل هذا لينزع حرية الإرادة وإنما ليظهر إلى أي مدى يجب أن نطيع الله، فإذ يُدعى الله خزافًا نكون نحن بالنسبة له كقليل طين مهيأ قدامه، فيليق بنا أن نكف لا عن المجادلة والتساؤلات فحسب، وإنما حتى عن النطق أو التفكير بالكلية… هذه هي النقطة الوحيدة التي يطبقها الرسول في التشبيه، إذ لا يُقصد به إعلان نظام الحياة (إذ يفسره الهراطقة أن الله يخلق طبيعتين صالحة وشريرة) إنما يقصد فقط الطاعة التامة والالتزام بالصمت…
هذا ما يجب مراعاته في كل الأحوال عند استخدام التشبيهات، فلا نطبقها في كل النواحي، إنما نختار ما هو مناسب فيها، والذي لأجله قُدم التشبيه، ونترك الباقي…
عندما يقول: “أم ليس للخراف سلطان على الطين أن يصنع من كتلة واحدة إناء للكرامة وآخر للهوان؟” [21]، لا تظن أن الرسول قال هذا بخصوص الخليقة أنها مجبرة بلا حرية إرادة، إنما لمجرد إظهار السلطان وتدابير الله المتنوعة… فإن فسّرناه بغير هذا ندخل في أخطاء متنوعة، فلو أنه كان يتحدث هنا عن الإرادة، وأنه هو خالق الإرادة الصالحة والإرادة الشريرة لأعفى الإنسان من المسئولية، ويظهر بولس نفسه متناقضًا مع نفسه، إذًا يُقدم على الدوام تقديرًا عظيما لحرية الإرادة[21].]
بمعنى آخر، يؤكد القديس الذهبي الفم أن الرسول يود أن يقدم جانبًا واحدًا من المثل وهو أن الله يعمل بنا ولا نقدر نحن إلا أن نطيع. لكنه لا ينزع عنا حرية إرادتنا، فإن أردنا الحياة معه يقوم هو بتغييرنا لمجد اسمه، بطريقة تفوق إدراكنا.
هذا ويمكننا أن نقول إنه كخزافي قادر أن يشّكلنا، لكن لا يقف الأمر عند القدرة مجردة، إنما وهو القدير هو الأب والحكمة عينها، يعمل بحكمته وخلال أبوته مشتاقًا أن يشّكل كل الطين إلى أوانٍ للكرامة، لكنه يكرم حرية إرادتنا، وإذ نرفض عمله نبقى بلا كرامة ونفقد عمل يديه المقدستين للنفس والروح والجسد.
إنه خزاف يتبنى آنيته ويحبها ويشتهي خلاص الكل، كما قيل: “الذي يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون“ (1 تي 2: 4) ؛ “الله يُسّر بالرأفة“ (مي 8: 18) ؛ “من يقبل إلىّ لا أخرجه خارجا” (يو 6: 37) ؛ “لا يُسر بموت الشرير، بل أن يرجع الشرير عن طريقه ويحيا” (حز 33: 11).
رابعًا: إن كان الله يتمجد في آنية الكرامة بإعلان عمل نعمته المجانية في حياة مؤمنيه المجاهدين، مشتاقًا أن يكون جميع البشر آنية كرامة، لكن إذ أصر البعض إلا أن يصيروا آنية للهوان، فحتى في هذا يتمجد الله، إذ يبرز غضبه وسخطه على الخطية، فيدين الخطاة بكونه القدوس الذي لا يقبل أن يشاركه الأشرار مجده المقدس [22]، ومن جانب آخر يتمجد بطول أناته على الإنسان [22]، فإن الله يحتمل الأشرار زمانًا ولا يعاقبهم فورًا بالرغم من تجديفاتهم ومقاومتهم لعمل الله. هذا ما قصده بقوله: “فماذا إن كان الله وهو يريد أن يظهر غضبه ويبين قوة احتمل بأناة كثيرة آنية غضب مهيأة للهلاك” [22].
يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على ذلك بقوله:
[ما يعنيه هو هذا: كان فرعون آنية غضب، أي كان إنسانًا قد ألهب غضب الله بقسوة قلبه. فبعدما تمتع بطول أناة كثيرة (من جهة الله نحوه) بقي بدون إصلاح، لهذا لم يدعه الرسول: “آنية غضب” فحسب وإنما أيضا: “مهيأة للهلاك”. بمعنى أنه هيأ نفسه بنفسه للهلاك التام. الله لم يتركه محتاجًا إلى الأمور التي تشفيه كما لم ينزع عنه الأمور التي تهلكه، لذا فهو بلا عذر.إذ يعرف الله ذلك، احتمله بأناة كثيرة ليرده للتوبة. فلو لم يود توبته لما احتمله بأناة كثيرة، أما كونه لم ينتفع بالأناة الكثيرة للتوبة بل هيأ نفسه بالأكثر للهلاك، استخدمه الله وسيلة لإصلاح الغير بمعاقبته فيصلحون هم من حالهم؛ بهذا بيّن الله قوته.
لكن ليست رغبة الله إظهار قوته، إنما يود أن يظهر حنوه بكل طرق ممكنة. إن كان بولس لا يود أن يظهر قوته بهذه الطريقة، إذ يقول: “ليس لكي نظهر نحن مزكين، بل لكي تصنعوا أنتم حسنًا“ (2 كو 13: 7) فكم بالأكثر يكون الله نفسه؟ لكن إذ يطيل الله أناته كثيرًا ليقوده إلى التوبة ولم يتب الإنسان يحتمله الله زمانًا طويلاً لكي يظهر أولاً صلاحه وقوته حتى وإن كان الإنسان لم يضع في ذهنه أن ينتفع شيئًا من طول أناة الله العظيمة. عندئذ يظهر الله قوته بعقاب هذا الإنسان الذي لا يقبل الشفاء، وذلك كما يبيّن حبه للإنسان خلال رحمته نحو الذين ارتكبوا خطايا كثيرة وتابوا. لا يقال: “يبيّن حبه” بل “مجده” [23]، ليظهر أن هذا الحب هو مجد الله على وجه الخصوص، الأمر الذي يغير الله أكثر من كل شيء.
بقوله “قد سبق فأعدها للمجد” [23]، لا يعني أن كل شيء هو عمل الله وحده، لأنه لو كان الأمر كذلك لما وُجد ما يمنع من خلاص كل البشر… فإن كان فرعون قد صار آنية غضب بسبب انحطاطه، فإن هؤلاء (اليهود) قد صاروا آنية رحمة باستعدادهم للطاعة. وإن كان الجانب الأعظم للعمل هو من قبل الله، لكنهم ساهموا بالقليل، ومع ذلك لم يقل أنها: “آنية العمل الصالح”… بل “آنية رحمة” ليظهر أن الله هو الكل[22].]
خامسًا: إذ أبرز الرسول أنه ليس من حقهم نقد خطة الله بسبب عجزهم عن إدراك حكمته الإلهية كما ينبغي، مظهرًا حق الله في اختيار الأمم كما سبق فاختار اليهود، لا يغلق الباب عن كل يهودي إنما عن الشعب اليهودي ككل، كما لا يعني انفتاح الباب للأمم خلاص كل أممي… إذ يقول: “التي أيضا دعانا نحن إياها ليس من اليهود فقط بل من الأمم أيضًا” [24].
هكذا توصل الرسول لا إلى دعوة الأمم دون هياج اليهود عليه فحسب، وإنما إلى فتح باب محبة الله لكل إنسانٍ، يهوديًا كان أمميًا، حتى وإن جحد اليهود كأمة السيد المسيح.
- تعثر إسرائيل
إذ سبق فقدم الرسول ردودًا على انتقاد اليهود لفتح باب الدعوة للأمم دون أن يجرح مشاعر اليهود ختم حديثه بتقديم الدلائل من الأنبياء أنفسهم، فاختار بعض العبارات التي تعلن تعثر اليهود في الإيمان وقبول الأمم له؛ هنا يتحدث بلا تحرج لأنه يقتبس عبارات نبوية يؤمنون بها، إذ يقول:
“كما يقول في هوشع أيضًا سأدعو الذي ليس شعبي شعبي،
والتي ليست محبوبة محبوبة،
ويكون في الموضع الذي قيل لهم فيه لستم شعبي
أنه هناك يدُعون أبناء الله الحيّ” [25-26].
اقتبس الرسول هذه العبارات عن (هو 2: 23؛ 1: 10) (الترجمة السبعينية)، مقدمًا النبي هوشع شاهدًا لأقواله إن الأمم الذين كانوا ليسوا شعب الله ولا محبوبين لديه خارج المقدسات صاروا شعب الله والمحبوبين لديه وأبناءه!
كأن ما يتم في العصر الرسولي ليس بالأمر الغريب، إذ سبق فأعلنه الله لأنبيائه ليمهدوا لتحقيق خطته الإلهية من جهة خلاص الأمم والشعوب.
يقول القديس إيريناؤس: [دعا النبي أسماء أولاده لورحامة “ليس لهم رحمة”، ولوعمي “ليس شعبي” (هو 1) … حتى أنه كما يقول الرسول “سأدعو الذي ليس شعبي شعبي، والتي ليست محبوبة (بلا رحمة) محبوبة، ويكون في الموضع الذي قيل فيه لستم شعبي أنه هناك يُدعون أبناء الله الحيّ”. فما حدث كرمز خلال أعمال النبي يؤكد الرسول أنه يتم حقًا بالمسيح في الكنيسة. هكذا أيضا اتخذ موسى أثيوبية زوجة له… مظهرًا أن الزيتونة البرية قد طُعمت في الزيتونة الأصلية وتشترك معها في ثمارها. فبزواجه من الأثيوبية أعلن عن ظهور الكنيسة من بين الأمم، والذين يستخفون بها ويتهمونها ويستهزئون بها يمتلئون برصًا، ولا يكونوا أطهارًا، ويستبعدون من خيمة البرّ (عد 12). هكذا أيضًا بالنسبة لراحاب الزانية، التي تدين نفسها بكونها من الأمم مملوءة من كل الشرور، لكنها تقبلت الجواسيس الذين كانوا يتجسسون الأرض وخبأتهم في بيتها، وعندما تحطمت كل المدينة التي كانت تعيش فيها عند سماع الأبواق السبعة حُفظت راحاب الزانية مع كل بيتها بالإيمان بعلامة القرمز (يش 6: 22)، وكما أعلن الرب للفريسيين عن الذين يقبلون مجيئه، إذ قال: “العشارون والخطاة يسبقونكم إلى ملكوت السماوات” (مت 21: 31)[23].]
لم يكتفِ الرسول بهذا بل قدم إشعياء النبي الذي جاء في نبوته متناغمًا معه، إذ يقول:
“وإشعياء يصرخ من جهة إسرائيل،
وإن كان عدد بني إسرائيل كرمل البحر فالبقية ستخلص،
لأنه متمم أمر وقاض بالبرِّ،
لأن الرب يصنع أمرًا مقضيًا به على الأرض” [27-28].
جاء هذا القول في إشعياء (10: 22-23 الترجمة السبعينية) وكان يحمل نبوة عن المسبيين، إذ كانوا كثيرين جدًا بالنسبة للقلة القليلة التي تنجو من الأسر… وقد سمح الله بذلك بل وقضى بهذا التأديب لأجل البرّ. طبّق الرسول هذه النبوة بصورة أشمل على العصر المسياني حيث يؤسر عدد كبير جدًا من اليهود تحت الجحود رافضين الإيمان المسياني، وقليلون هم الذين يخلصون بقبولهم المسيّا المخلص، وقد سمح الله بذلك لأجل البرّ، ليفتح الباب للأمم.
يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على هذا القول الرسولي، هكذا:
[إنه يعني: أنا لا أهتم بالجمع (بالعدد الضخم)، ولا أتأثر بالجنس (اليهود) وإنما أخلص من يتقدمون كمستحقين للخلاص. أنه لم يذكر “كرمل البحر” بلا سبب. إنما يذكرهم بالوعد القديم (تك 22: 17؛ 32: 12) الذي جعلوا أنفسهم غير أهلٍ له.
لماذا ترتبكون إذن إن كان الوعد لا يتحقق (للكل) إذ أظهر كل الأنبياء أنه ليس الجميع يخلصون؟ عندئذ يظهر الرسول أيضا طريق الخلاص… “لأنه متمم أمر وقاض (بسرعة) بالبر، لأن الرب يصنع أمرًا مقضيًا به (سريعًا) على الأرض” [28]…
هذا الأمر هو الإيمان الذي يحمل خلاصًا في كلمات قليلة: “لأنك إن اعترفت بفمك بالرب يسوع وآمنت بقلبك أن الله أقامه من الأموات خلصت“ (رو 10: 9). ها أنتم ترون أن الرب متمم كلمة قليلة على الأرض، والعجيب أن هذه الكلمة القليلة لا تحمل خلاصًا فحسب بل وبرًا[24].]
بمعنى آخر إن كان إسرائيل قد صار ذا باعٍ طويلٍ في أعمال الناموس الحرفية وشكليات العبادة لكن الرب في ملء الزمان صنع أمرًا مقضيًا به أو أمرًا عاجلاً، مركزًا حول الإيمان بالمخلص، الذي ينقذ المؤمنين به وإن كانوا قلة من اليهود. هذه القلة تنبأ عنها إشعياء أيضًا (إش 1: 9): “لولا أن رب الجنود أبقى لنا نسلا لصرنا مثل سدوم وشابهنا عمورة” [29].
كأن ما حدث في العصر الرسولي سبق فحدث في عصر إشعياء، إذ قليلون هم الذين عاشوا في الإيمان فخلصوا من الهلاك، بدونهم تعرض إسرائيل كله للإبادة بالنار كما حدث لسدوم وعمورة (تك 19).
أخيرًا يخرج الرسول بهذه النتيجة:
“فماذا نقول؟ إن الأمم الذين لم يسعوا في إثر البرّ، أدركوا البرّ،
البرّ الذي بالإيمان،
ولكن إسرائيل وهو يسعى في أثر ناموس البرّ لم يدرك ناموس البرّ.
لماذا؟ لأنه فعل ذلك ليس بالإيمان، بل كأنه بأعمال الناموس،
فإنهم اصطدموا بحجر الصدمة،
كما هو مكتوب: ها أنا أضع في صهيون حجر صدمة وصخرة عثرة
وكل من يؤمن به لا يخزى” [30-33].
هذه هي النتيجة النهائية أن الأمم الذين لم ينالوا المواعيد، ولا استلموا الشريعة ولم تكن لهم معرفة إلهية قبل الكرازة بالإنجيل لم يسعوا في إثر البرّ، ولكن إذ جاءتهم الكرازة أدركوا البرّ الذي حسب الإيمان بالمسيح يسوع، أما إسرائيل الذي له ميزات كثيرة فإذ سعى في إثر ناموس البرّ لكن خلال حرفية أعمال الناموس دون روحها، فقدوا الإيمان، واصطدموا بالسيد المسيح “حجر الصدمة”، وتحقق فيهم القول النبوي: “ويكون مقدسًا وحجر الصدمة وصخرة عثرة لبيتي إسرائيل، وفخًا وشركًا لسكان أورشليم“ (إش 8: 14)… كما تحقق في الأمم القابلين للإيمان: “هاأنذا أؤسس في صهيون حجرًا، حجر امتحان، حجر زاوية كريمًا، أساسًا مؤسسًا، من آمن لا يهرب“ (إش 28: 16).
[1] Cassian: Conf. 9: 18.
[2] Strong: Hebrew & Chaldee Dict., article 3478.
[3] In Rom. hom 16.
[4] Against heresy of Noetius 6.
[5] In Rom. hom 16.
[6] In Ioan. tr 117: 5.
[7] City of God 16: 32.
[8] City of God 16: 34.
[9] In Rom. hom 16.
[10] Adv. Haer 4: 21: 2.
[11] In Ioan. tr 11: 10.
[12] طبعة 1984، ص 242، 243.
[13] City of God 16: 35.
[14] In Rom. hom 16.
[15] Ep. 133: 6.
[16] Ep. 130: 12.
[17] Cassian: Conf 4: 5.
[18] Instit. 12: 9.
[19] On Ps. hom 34.
[20] In Rom. hom 16.
[21] In Rom. hom 16
[22] In Rom. hom 16.
[23] Adv. Haer. 4: 20, 21.
[24] In Rom. hom 17.