تفسير رسالة رومية 7 الأصحاح السابع – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير رسالة رومية 7 الأصحاح السابع – القمص تادرس يعقوب ملطي
الأصحاح السابع
الناموس فاضح الخطيّة
بعد تفنيده للحُجَّة الأولي لليهود الخاصة ببنوّتهم لإبراهيم الحرّ رافعًا إياهم إلى البنوّة للتمتع بالحريّة الحقيقية، أخذ يفنّد الحُجّة الثانية الخاصة باستلامهم الناموس الموسوي دون سواهم، معلنًا أن الناموس يفضح الخطيّة ولا يعالجها، لذا فهو لا يُبرّر الخطاة، إنما يقودهم إلى المسيح لينعموا ببرّه.
- الحاجة إلى التحرّر من الناموس 1-6.
- الناموس يفضح الخطية 7-13.
- ناموس الله وناموس الخطيّة 14-25.
- الحاجة إلى التحرّر من الناموس
الناموس الذي يفتخرون به يمثل رجلاً يحكم على امرأته الخاطئة بالموت؛ إنه يدينها! فالحاجة الآن إلى التحرّر من حكمه هذا بدخول آخر كرجل لها بعد أن يموت حكم الأول فتتحرر من سلطانه. بمعنى آخر، يلزم أن يتحرّر الإنسان من حكم حرفيّة الناموس ليتقبل العريس الآخر ربنا يسوع.
“أم تجهلون أيها الإخوة، لأني أكلم العارفين بالناموس،
أن الناموس يسود على الإنسان ما دام حيًا.
فإن المرأة التي تحت رجل هي مرتبطة بالناموس بالرجل الحيّ،
ولكن إن مات الرجل فقد تحررت من ناموس الرجل،
فإذا مادام الرجل حيًا تدعي زانية أن صارت لرجلٍ آخر،
ولكن إن مات الرجل فهي حرة من الناموس،
حتى أنها ليست زانية إن صارت لرجل آخر.
إذًا يا إخوتي أنتم أيضًا قد متم للناموس بجسد المسيح،
لكي تصيروا لآخر للذي قد أقيم من الأموات لنثمر لله” [1-4].
يلاحظ في هذا النص الرسولي:
أولاً: إذ كان الرسول بولس يعالج موضوع افتخار اليهود على الأمم بكونهم مستلمي الناموس، أراد وهو يحطّم كبرياءهم هذا ألاّ يهاجم الناموس ذاته، لأنه ناموس الله المقدس، إنما يهاجم مستخدميه. يظهر ذلك في دقة العبارات التي استخدمها الرسول هنا وهو يتحدّث عن الناموس، إذ نراه يكتب بحساسية شديدة:
أ. وهو يقدّم مثل المرأة المرتبطة برجل كمثال للأمة اليهوديّة المرتبطة بالناموس، يقول: “لأني أكلم العارفين بالناموس” [1]… كأنه في نفس المثال يتحدّث ناموسيًا، عن أمور واضحة يحكم فيها الناموس نفسه، أو بمعنى آخر يُعلن الرسول أنه يقبل حكم الناموس ذاته في هذا الأمر، أو يلتجئ إلى حكم الناموس لأنه عادل ومقدس.
ب. في مثل المرأة المرتبطة برجل اكتفى بذكر موت الرجل لتُحرّر المرأة من سلطانه، فلا تُحسب زانية إن تزوجت آخر. فالمرأة هنا تُشير إلى الكنيسة، سواء على مستوى الجماعة أو كل عضو فيها. فالمؤمن لا يقدر أن يرتبط بحرف الناموس وأعماله الرمّزية مع أعمال النعمة الإلهية، وإلا حُسب كامرأة اقترنت بعريسين.
هذا ويلاحظ دقّة تعبير الرسول بولس، فإذ يتحدّث عن اقتران الإنسان بالناموس لم يتعرض لموت الناموس نفسه كي يتحرّر الإنسان منه، بل في دقّة بالغة يقول: “قُدِّ متم للناموس”… وكأن الذي يموت هو الإنسان للناموس ليحيا للمسيح. قال هذا حتى لا يظن أحد أن الرسول يقاوم الناموس نفسه ويطلب الخلاص منه، إنما الحرّية من حكمه، ومن حرفيته القاتلة.
مرة أخري يقول: “أن الناموس يسود على الإنسان مادام حيًا” [1]، لكن إن مات الإنسان فلا يخضع لشرائع الناموس الحرفيّة وأعماله.
ثانيًا: في المثال الذي بين أيدينا يقدّم لنا الرسول امرأة ورجلين، فإن المرأة تبقى تحت ناموس الرجل الأول مادام حيًا، فإن مات تحرّرت من سلطانه لترتبط بالآخر، ولا تُحسب هذه الأرملة زانية. فإن كانت المرأة تمثل جماعة المؤمنين، والرجل الأول هو الناموس، والثاني هو السيد المسيح، فإن المؤمنين إذ يرتبطون بالناموس يخضعون لأعماله، ويسقطون تحت الحكم الصادر منه. لذا صارت الحاجة أن يتحرّر المؤمنون من هذا السلطان، أي حرفيّة أعماله، وإيفاء الحكم الصادر منه بموتنا، كي نرتبط بالثاني، أي السيد المسيح القائم من الأموات. وقد تحقّق هذا الموت للناموس والتحرّر منه خلال موت المسيح عنّا، إيفاءً للحكم الصادر ناموسيًا ضدّنا! بهذا لم يكسر المسيح الناموس بل أكمله، وحقّق غايته، بدخوله كعريسٍ للجماعة المقدّسة خلال موته بالصليب، لتعيش معه عروسًا متّحدة معه أبديًا بلا انفصال عنه.
إذن موتنا للناموس لحساب اتحادنا مع السيد المسيح لا يعني انهيارًا للناموس، إنما يعني تحقيق غايته بتقديمنا للرجل الآخر الذي أُقيم من الأموات لنقوم معه. أكَّد الرسول التزامنا بالزواج الثاني، قائلاً:
“إنكم لستم لأنفسكم” (1 كو 6: 19).
“قد أُشتريتم بثمن، فلا تصيروا عبيدًا للناس” (1 كو 7: 23).
“وهو مات لأجل الجميع، كي يعيش الأحياء فيما بعد لا لأنفسهم، بل للذي مات لأجلهم وقام” (2 كو 5: 15).
ثانيًا: أنجب هذا الزواج ثمرًا لحساب الله، إذ يقول: “لنثمر لله” [4]، على عكس الزواج السابق حين كان المؤمنون تحت سلطان الرجل الأول، أي تحت الناموس الموسوي، فإنهم لم يستطيعوا أن يُثمروا لله لا لسبب خاص بالناموس ذاته، وإنما بسبب طبيعة العصيان التي كانت لهم، لذا جاء الثمر هو: “حكم الناموس علينا بالموت”.
يقارن الرسول بين الثمرين: ثمر الاتحاد بالرجل الأول المعلن حكمه علينا بسبب شر طبيعتنا وثمر الاتحاد بالثاني الذي يحررنا من الحكم الناموسي، مقدمًا لنا إمكانيات جديدة: “لنثمر لله، لأنه لما كنّا في الجسد كانت أهواء الخطايا التي بالناموس تعمل في أعضائنا لكي نُثمر للموت، وأمّا الآن فقد تحرّرنا من الناموس إذ مات الذي كنّا ممسكين فيه، حتى نعبد بجدّة الروح لا بعُتق الحرف” [4-6].
يقول القدّيس يوحنا ذهبي الفم: [ها أنتم ترون ما قد نلناه من الزوج السابق! إنه لم يقل: “لما كنّا في الناموس”، إذ في كل عبارة يحجم عن أن يعطي فرصة للهراطقة (باحتقار الناموس)، بل يقول “لما كنّا في الجسد”، أي كنّا في الأفعال الشرّيرة، في الحياة الجسدانيّة. ما يقوله لا يعني أنهم كانوا قبلاً في الجسد وأنهم الآن بدون أجسام، إنما يقصد بقوله هذا أنه ليس الناموس هو سبب الخطايا، وفي نفس الوقت لا يحرّر من خزيها، إذ قام بدور المتّهم القاسي بفضح خطاياهم، حيث أن الذين يرتبطون به أكثر لا يفكّرون في الطاعة نهائيا، الأمر الذي يكشف نهاية عصيانهم بصورة أقوى. هذا ما جعله لا يقول: “كانت أهواء الخطايا التي أنتجها الناموس” بل قال “كانت أهواء الخطايا التي بالناموس (خلاله)”… بمعنى أنه خلال الناموس صارت ظاهرة ومعلنة. كذلك لم يتّهم الجسد ذاته، إذ لم يقل: “الأهواء التي ارتكبتها الأعضاء”، وإنما التي “تعمل في أعضائنا”، ليظهر أن أصل الضرر جاء من موضع آخر، وهي الأفكار التي تعمل فينا، وليست الأعضاء التي تعمل الأهواء فيها. فإن النفس تقوم بدور اللاعب على القيثارة التي هي الجسد، فتلزمه بذلك. فالنغم غير المنسجم لا ينسب للأخير (القيثارة) بل للأول (النفس) أكثر من الأخير[1].]
هكذا وإن أعلن الرسول بولس الحاجة إلى التحرّر من الناموس، الرجل الأول، لكنه لا يُلقي باللوم على الناموس ولا أعضاء الجسم، إنما العيب هو في النفس التي تقود الأهواء فينا أكثر ممّا للجسد… وإن كان الأخير ملتزم بالمسئولية مع النفس لكنه ليس المسئول الأول.
إذ تحقّق الزواج الثاني يقول الرسول: “وأما الآن فقد تحرّرنا من الناموس“ [6]، وقد جاءت الكلمة اليونانية للتحرير هنا بمعني أنه “لم يعد هناك أثر أو فاعلية”.
يُعلّق القدّيس يوحنا الذهبي الفم على هذه العبارة بالقول:
[انظر كيف يستعبد هنا الناموس والجسد، إذ لم يقل أن الناموس صار بلا فاعلية، ولا الجسد بلا فاعلية، وإنما نحن صرنا بلا فاعلية (أي خلصنا). كيف خلصنا؟ بموت الإنسان القديم ودفنه، هذا الذي كان ممسكًا بالخطيّة، هذا ما يعنيه بقوله: “إذ مات الذي كنّا مُمسكين فيه“. كأنه يقول بأن القيد الذي كنّا ممسكين به قد انكسر وتبدّد (مات)، حتى أن الخطيّة التي كنّا ممسكين بها لا تعود تمسك بنا. لكن لا ترجعوا إلى الوراء أو تهملوا، فقد تحرّرتم لتصيروا عبيدًا لكن ليس بذات الطريقة السابقة وإنما “بجدّة الروح، لا بعُتق الحرف”.
عندما أخطأ آدم وسقط جسمه تحت الموت والآلام تقبل خسائر جسديّة كثيرة، وصار الحصان (الجسم) أقل حيويّة وأقل طاعة. ولكن إذ جاء المسيح جعله أكثر رشاقة بالنسبة لنا خلال المعموديّة، رافعًا إيّاه بجناح الروح (القدس). بهذا لم تعد العلامات الخاصة بسباق الجري هي بعينها القديمة، إذ لم يكن السباق سهلاً كما هو الآن (لأن الحصان صار أكثر رشاقة). لهذا السبب لم يطلب منهم أن يتركوا القتل فقط، كما في القديم وإنما حتى الغضب؛ لا يتركوا الزنا فحسب، وإنما يتخلّوا حتى عن النظرة غير الطاهرة؛ يمتنعوا لا عن القسم الباطل فقط، وإنما حتى عن القسم الصادق (مت 5: 21، 27، 33). أمّا من جهة الأصدقاء فيأمرهم أن يحبّوا حتى أعداءهم. في كل الأمور أعطانا أرضًا أوسع للجري عليها فإن لم نطع يهدّد بجهنم، مظهرًا أن هذه الأمور نصارع من أجلها إلزاميًا مثل العزوبية والفقر، يأمرنا أن نتمّمها… لذلك يقول: “إن لم يزد برّكم على الكتبة والفرّيسيّين لن تدخلوا ملكوت السماوات” (مت 5: 20). ومن لا يدخل الملكوت بالضرورة يُلقى في جهنم. لذلك يقول بولس أيضًا: “فإن الخطيّة لن تسودكم لأنكم لستم تحت الناموس بل تحت النعمة” (رو 6: 14). وهنا أيضًا يقول: “حتى نعبد بجدة الروح لا بعتق الحرف” [6]، فإنه لم يعد الحرف الذي يدين، أي الناموس القديم، وإنما الروح الذي يعين. لهذا السبب أن وجد بين القدماء إنسان بتول كان هذا الأمر غريبًا تمامًا، أمّا الآن فقد صار هذا الأمر منتشرًا في كل أنحاء العالم. قديمًا قليلون بالكاد كانوا يحتقرون الموت، أمّا الآن (في عهد القدّيس ذهبي الفم) فيوجد في القرى والمدن طغمات من الشهداء بلا حصر، لا من الرجال فحسب وإنما أيضًا من النساء[2].]
الآن اعتقنا من الحرف، وتمتّعنا بجدية الروح، وكأننا بملخس عبد رئيس الكهنة الذي قُطعت أذنه اليمنى كما بالسيف (يو 18: 10) ليُمسك الرب بنفسه أذنه ويشفيه، وكما يقول القدّيس أغسطينوس[3] كانت رمزًا لتجديد السمع، ينزع الفكر الحرفي القديم والتمتّع بالفكر الروحي الجديد.
- الناموس يفضح الخطيّة
خشي الرسول بولس لئلا يسيء القاريء فهم عبارته: “وأما الآن فقد تحرّرنا من الناموس” [6]، لئلاّ يُظن أن الرسول يهاجم الناموس أو يقلّل من قدسيّته، لذلك قدّم سؤالاً: فماذا نقول؟ “هل الناموس خطيّة؟” [7]، وجاءت الإجابة واضحة وصريحة: “حاشا“… إذن، فلماذا يفرح بتحريره من الناموس؟
أولاً: لأن الناموس يفضح الخطيّة ولا يعالجها. عرّفني على الخطيّة التي ارتكبها، وربّما لم أكن أدركها [7].
ثانيًا: لأن الناموس إذ قدّم لي الوصيّة كشف عن طبيعة العصيان التي فيّ [8-11]، فربّما لو لم توجد وصية معيّنة تمنعني من شيء لا أهتم بعمله، إنما وجود الوصيّة يثير فيّ طبيعتي (كل شيء ممنوع مرغوب). هنا العيب لا في الوصيّة التي أثارتني، وإنما في طبيعة العصيان الخفيّة في داخلي والتي لم يكن لها أن تظهر ما لم توجد وصية.
أبرز الرسول بولس هاتين النقطتين بكل وضوح في هذا الأصحاح [7-13] وقد علق عليهما القدّيس يوحنا الذهبي الفم، قائلاً:
[سبق فقال: “كانت أهواء الخطايا التي بالناموس تعمل في أعضائنا” (7: 5)؛ “فإن الخطيّة لن تسودكم، لأنكم لستم تحت الناموس بل تحت النعمة” (6: 14)؛ “حيث ليس ناموس ليس أيضًا تعدٍ” (4: 15)؛ “وأما الناموس فقد دخل لكي تكثر الخطيّة” (5: 20)؛ “لأن الناموس ينشىء غضبًا” (4: 15)، فلئلا يسيء هذا كله للناموس، ولكي يصحح الشك الذي ينشأ عن هذه الأقوال قدّم اعتراضًا، قائلاً: “فماذا نقول؟ هل الناموس خطيّة؟ حاشا” [7]. قبل أن يقدّم البرهان استخدم هذا القسم “حاشا” لكي يسترضي السامع، ملاطفًا من اضطرب للسؤال…
لا يقول هنا: “فماذا أقول”، إنما “فماذا نقول؟” كأنه أمامهم مداولة وحكم، حيث اجتمعوا معًا، وجاء الاعتراض لا منه، وإنما خلال المناقشة بسبب ظروف الحال. فإنه لا ينكر أحد أن الحرف يقتل والروح يحي (2 كو 3: 6)، إذ هذا واضح تمامًا، ولا يقبل المناقشة. فإن كان هذا حقيقة مُعترف بها، فماذا نقول عن الناموس؟ هل الناموس خطيّة؟ حاشا! وضح لنا إذن هذا الأمر الصعب!…
يقول إن الناموس ليس خطيّة، “بل لم أعرف الخطيّة إلا بالناموس“… “فإنني لم أعرف الشهوة لو لم يقل الناموس لا تشته” [7]. ألا تلاحظ كيف أنه لم يظهر الناموس كديان للخطية، وإنما أيضًا إلى حد ما كمصدر لها، لكن لا عن خطأ من جانبه هو (وإنما من جانب ضعفنا وعصياننا)… هذا جاء عن ضعفنا لا عن عيب في الناموس، لأنه عندما نشته شيئًا ونُمنع منه تلتهب الشهوة بالأكثر. هذا لا ينبع عن الناموس، لأنه يمنعنا ليحفظنا منها، وإنما الخطيّة هي من إهمالك وسوء تصرفك، مستخدمًا ما هو صالح للضد. العيب ليس في الطبيب بل في المريض الذي لا يسيء استخدام الدواء، فإن الناموس لم يُعطَ لإشعال الشهوة بل لإطفائها، وإن كان ما قد حدث هو العكس. فاللوم ينسب إلينا لا إلى الناموس… فإن عمل الطبيب يقف عند المنع لكن على المريض أن يضبط نفسه.
ولكن ماذا إن كانت الخطيّة قد اتخذت فرصة بالوصيّة؟ بالتأكيد يوجد أشرار كثيرون اتّخذوا من الوصايا الصالحة فرصة ليزدادوا شرًا. هذا هو الطريق الذي به أهلك الشيطان يهوذا بإغراقه في محبّة الطمع وجعله يسرق ما هو للفقراء. فما حدث لم يكن بسبب الثقة التي أُعطيت له بتسليمه الصندوق، وإنما بسبب شرّ روحه. وأيضًا حواء بإحضارها ما يأكله آدم طُرد من الفردوس، لكن لم تكن الشجرة هي السبب، وإن كان ما حدث قد اتّخذ الشجرة فرصة لتحقيقه…
لو كان الناموس ملومًا لأن الخطيّة وجدت فرصة به، لانطبق هذا أيضًا على العهد الجديد، ففي العهد الجديد نجد آلاف القوانين أكثر أهمية…
عندما قال الرب: “لو لم أكن قد جئت وكلمتهم لم تكن لهم خطيّة” (يو 15: 22)، وجدت الخطيّة مجالاً في مجيء الرب وحديثه معهم، ومع ذلك فقد صار عقابهم أشد. وأيضًا عندما تحدّث بولس الرسول عن النعمة قال: “فكم عقابًا أشرّ تظنون أنه يُحسب مستحقًا من داس ابن الله؟“ (عب 10: 29)[4].]
- لقد استلمت الناموس، وأنت تود أن تحتفظ به لكنك لا تقدر. بهذا تترك كبريائك وتدرك ضعفك. إذن اِجرِ إلى الطبيب، واغسل وجهك. لتشتاق إلى المسيح ولتعترف به. آمن متكلاً عليه، فإذ تتمتّع بالروح بعد الحرف (السابق) تخلص.
- إننا نصغي إلى الناموس، فإن لم توجد نعمة إنما نصغي للعقاب الذي يحلّ بنا[5].
القدّيس أغسطينوس
يكمل القدّيس يوحنا الذهبي الفم حديثه السابق، متسائلاً: إن كان الإنسان لم يعرف الشهوة قبل الناموس، فلماذا صار الطوفان؟ ولماذا كان حرق سدوم؟ ويجيب على هذا التساؤل، بأن الإنسان يعرف الخطيّة (بالناموس الطبيعي)، لكن جاء الناموس يحدّد الشهوة ويكشفها، مقدمًا للإنسان معرفة دقيقة، فصار الناموس جنبًا إلى جنب مع الناموس الطبيعي يضيف على الإنسان اتهامًا أشد، هذا ما دعا الرسول أن يقول: “أمّا أنا فكنت بدون ناموس عائشًا قبلاً” [9]، إذ لم تكن هناك معرفة دقيقة ومحدّدة، ولا اتهام صريح ضدي يحكم عليّ بالموت. فبقوله “كنت عاشًا قبلاً” تعني أنني لم أكن تحت إدانة الناموس الدقيقة والصارمة التي تستوجب موتي.
يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [لم يعطِ الناموس للخطية وجودها، إذ كانت موجودة من قبل، لكنه أشار إلى تلك التي هربت من ملاحظتنا. هذا يُعتبر مدحًا للناموس، إذ كان الناس يخطئون قبله وهم لا يدركون. ولما جاء الناموس فإنهم وإن لم ينتفعوا منه بشيء إلا أنه عرّفهم عليها بدقة، مظهرًا أنهم يخطئون. هذا ليس بالأمر الهيّن لتحريرهم من الشرّ. فإن كانوا لم يتحرّروا، فالأمر لا يخص الناموس الذي حدّد كل شيء بهذا الهدف، وإنما يسقط بالاتهام كله على أرواحهم…
لذلك يقول: “فوُجدت الوصيّة التي للحياة هي نفسها لي للموت” [10]. لم يقل “جاءت الوصيّة للموت” أو “صارت للموت” بل قال: “فوُجدت“… كأنه يقول إن أردت أن تعرف غايتها فهي تقود إلى الحياة وأعُطيت بهذه الغاية. فإن وُجدت للموت، إنما الخطأ فيمن استلم الوصيّة، وليس في الوصيّة التي تقود للحياة.
سلط الرسول على هذه النقطة ضوءًا جديدًا، بقوله: “لأن الخطيّة وهي متخذة فرصة بالوصيّة خدعتني بها وقتلتني” [11]. لاحظ أنه في كل موضع يُبرّر الناموس من الاتهام ويحفظه من الخطيّة.
“إذًا الناموس مقدس والوصيّة مقدّسة وعادلة وصالحة“ [12]… لأنه وإن كان اليهود غير طاهرين خلال الناموس، وإن كانوا ظالمين وطامعين، فإن هذا لا يفسد صلاح الناموس، تمامًا كما أن عدم أمانتهم لا يبطل أمانة الله[6].]
لقد أظهر قدسية الناموس وصلاحه وعدله، مادحًا إياه، لأنه وإن كانت الخطيّة وجدت الفرصة في الوصيّة لتقتلني، لكنها بالأكثر انفضحت فظهر شرّها بقتلي… بهذا يقودنا الناموس إلى ضرورة الخلاص منها، إذ يقول: “فهل صار لي الصالح موتًا؟ حاشا! بل الخطيّة، لكي تظهر خطيّة، منشئة لي بالصالح موتًا لكي تصير الخطيّة خاطئة جدًا بالوصيّة” [13]. هكذا حوّل الرسول الاتهام من الناموس الصالح إلى الخطيّة الخاطئة جدًا، أو بمعني آخر ركّز أنظارنا على أنفسنا في الداخل. فبشرنا يتحوّل حتى ما هو صالح إلى ضررنا. وكما يقول القدّيس أغسطينوس: [النقطة موضوع الاهتمام ليس ما نتسلمه بل الشخص الذي يتسلم الشيء… فإنه حتى الأمور الصالحة تكون ضارة، والضارة تكون مفيدة حسب شخصية من يتقبّلها. ها أنت ترى الشرّ قد جاء خلال الصالح (الناموس) مادام الذي يتقبله إنما يتقبله بطريقة خاطئة[7].]
- ناموس الله وناموس الخطيّة
إذ أظهر في بداية هذا الأصحاح الحاجة إلى التحرّر من الناموس الذي فضح خطاياي وأصدر حكمه على بالموت، عاد ليؤكّد أن العيب ليس في الناموس، وإنما في الخطيّة العاملة فيّ، والآن يمدح الرسول الناموس الإلهي، ويُعلن عن ناموس الخطيّة الكائن في أعضائي، لكي إذ اكتشفه ألجأ إلى المخلص القادر وحده أن ينقذني منه.
“فإننا نعلم أن الناموس روحي وأمّا أنا فجسدّي، مبيع تحت الخطيّة” [14]. وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم[8] أن الرسول بقوله هذا يُعلن أنه لا حاجة للتدليل على أن “الناموس روحي”. فهو بعيد كل البعد عن كونه مصدرًا للخطية، أو علّة للشرور الحادثة. أنه “روحي“، معلم للفضيلة ومضاد للرذيلة؛ يقودنا بعيدًا عن كل أنواع الخطايا بالتهديد والنصح والتأديب والإصلاح وبمدحه للفضيلة. إذن من أين جاءت الخطيّة مادام الناموس معلمًا هكذا؟ إنها منّا نحن: “وأما أنا فجسدي، مبيع تحت الخطيّة”. لقد تقبّلت الشهوات الجسديّة واستُعبدت للخطية، صرت غارقًا في أعماقها، ساقطًا تحت ناموسها، فحُسبت جسديًا.
- لعنة الله الأصليّة (بسقوط أبوينا في العصيان) جعلتنا جسدانيّين، وحُكم علينا بالأشواك والحسك؛ وقد باعنا أبونا بذلك التعاقد التعيس حتى أننا صرنا عاجزين عن فعل الصلاح الذي نريده. إذ صرنا ننقطع أحيانًا عن تذكّر الله العظيم السمو، مضطرّين إلى الانشغال بما يخص الضعف البشري. وبينما نشتهي الطهارة ننزعج غالبًا بغير إرادتنا بالشهوات الطبيعية التي لا نريد حتى أن نعرفها، لذلك نحن نعلم أنه ليس ساكن في أجسادنا شيء صالح (رو 7: 18)، أي ليس ساكن فيه السلام الأبدي الدائم الذي لهذا التأمل المذكور[9].
الأب ثيوناس
- “أمّا أنا فجسديّ، مبيع تحت الخطيّة” [14]. هذا يعني: “بكوني إنسانًا جسدانيًا موضوع بين الخير والشرّ كوكيل حرّ، لي سلطان أن اختار ما أريد. فإنه “هاأنذا أجعل أمامكم طريق الحياة وطريق الموت“ (إر 21: 8؛ جا 15: 8؛ تث 30: 15)، بمعنى أن الموت يأتي ثمرة لعصيان الناموس الروحي أو الوصيّة والطاعة للناموس الجسدي أي مشورة الحيّة. فبمثل هذا اختيار أنا مبيع للشيطان، ساقط تحت الخطيّة. هكذا أمسك الشرّ بي، والتصق بي، وسكن فيّ، وسلمني العدل للشرير بانتهاكي للناموس[10].
الأب ميثودوس
والآن ماذا فعل ناموس الخطيّة فيَّ؟
أولاً: شوّه معرفتي، إذ يقول الرسول: “لأني لست أعرف ما أنا أفعله، إذ لست أفعل ما أريده، بل ما أبغضه فإيّاه أفعل” [15].
ماذا يقصد الرسول بهذا؟
أ. أفقدت الخطيّة نقاوة البصيرة الداخليّة، فصارت معرفتنا للخطية غير دقيقة، لذا يقول “لست أعرف ما أنا أفعله”... لا بمعنى أن الإنسان يجهل الخطيّة، وإلا لما دين عنها، وإنما قبل الناموس لم يكن قادرًا على معرفتها بدقةٍ، وذلك كما سبق فقال: “فإنني لم أعرف الشهوة لو لم يقل الناموس لا تشته” [7]. وكما يقول القدّيس يوحنا ذهبي الفم كان الإنسان قبل الناموس لا يعرف الخطيّة بحقٍ ودقةٍ، لذلك أيضًا كان العقاب أقل قسوة من الذين يخطئون وهم تحت الناموس عارفون الخطيّة.
ب. ربّما يقصد هنا بقوله “لست أعرف” لا معرفة الفكر النظري، فإنه بناموس الطبيعة يعرف الإنسان الخطيّة، لكنه يقصد معرفة الإنسان القادر عن الإحجام عنها ومقاومتها ليعمل البرّ عِوض الشرّ، لهذا يكمل الرسول حديثه: “إذ لست أفعل ما أريده، بل ما أبغضه فإياه أفعل“. وكأنه يقول: صرت كمن بلا معرفة لأنني أمارس ما أبغضه. وذلك كمن يشرب الخمور وهو يعرف إنها مؤذية لصحّته، لكن استعباده لها جعله كمن يجهل آثارها عليه.
ثانيًا: أفقدتني الإرادة الصالحة العاملة، إذ لم يقف الأمر عند تشويه المعرفة، سواء بإفساد البصيرة الداخليّة أو بالعجز عن التمتّع بالمعرفة المقدّسة خلال الخبرة، وإنما أيضًا تسيطر على إرادتي، فتفسد إمكانية العمل الصالح في حياتي، وأحسب كمن يعمل بلا إرادة، إذ سلمت نفسي بنفسي عبدًا لها.
يليق بنا، كما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم، ألا نفهم العبارات الواردة هنا حرفيًا، فنظن أن الإنسان مصيّر، يمارس الشرّ إلزامًا، وإلا كان سقوطه تحت الدينونة غير عادل. حينما يقول: “لست أفعل ما أريده” [15] لا ينكر الرسول حريّة الإرادة الإنسانيّة كمن يخطئ قسرًا وجبرًا، وإلا كان الرسول قد أكمل الحديث هكذا: “بل ما أجبر عليه واُلزم به فإيّاه أفعل”، إنما قال: “بل ما أبغضه فإيّاه أفعل”، فإنه لا ينكر ما للخطية من سلطان أفقده قوّة الإرادة لكن في نفس الوقت لا يتصرف جبرًا بغير إرادته.
الخطيّة مخادعة تجتذبه وتجعله يلتزم بممارستها، وإن كان في نفس الوقت يبغضها بحسب الناموس الطبيعي العامل فيه كما بحسب الناموس المكتوب. لهذا يكمل قائلاً: “فإن كنت أفعل ما لست أريده، فإني أصادق الناموس أنه حسن” [16]. كأنه يقول إن كنت بالناموس الطبيعي أكره الخطيّة التي أمارسها فإن الناموس المكتوب أو الموسوي يصادق على الناموس الطبيعي الذي يبغض الخطيّة لذا فالناموس حسن.
ربّما يتساءل البعض: إن كان الإنسان قبل التمتّع بالنعمة يستطيع تحت ظل الناموس المكتوب أو الموسوي أن يقول بأن الخطيّة شوّهت معرفتي، وأفقدتني الإرادة الصالحة والعاملة، حتى كنت لا أفعل ما أريده بل ما أبغضه [15]، فهل ينطبق هذا القول الرسولي علينا ونحن في عهد النعمة؟ أو بمعنى آخر هل هذا القول يناسب الخطاة الذين لم يتمتّعوا بعد بعمل الله فيهم أم يئن منه الجميع؟
يجيب الأب ثيوناس في حديث طويل في مناظرات القدّيس يوحنا كاسيان[11]، موضحًا الآتي:
أ. يرى الأب ثيوناس أن الرسول ينطق بهذه الكلمات عن نفسه حتى بعد تحوّله إلى الإيمان، ليس لأن الوضع لم يتغيّر، إنما لأنه وإن كان قد تمتّع بفيض من الفضائل أشبه بالجواهر وبالبركات الإلهية، لكنه إذ يتطلّع إلى ما سيناله أبديًا يحسب ما لديه تافهًا وقليلاً. فمع ممارسته للحياة المقدّسة في الرب يبغي أن يبلغ رؤية الله وجهًا لوجه، ولا يشغله شيئًا حتى وإن كان أمرًا صالحًا لضروريات الحياة.
ب. إذ يقارن الرسول بولس صلاحه بصلاح الله الفائق يرى أنه “ليس أحد صالحًا إلا واحد وهو الله” (لو 18: 19)، فيحسب الرسول نفسه تحت الضعف.
ج. كلما تمتّع الإنسان بالنمو الروحي ازداد نقاوة داخليّة، وفي نفس الوقت ازداد حساسية لأتفه الخطايا، إن صح هذا التعبير. كلما ارتفع الإنسان روحيًا يخشى بالأكثر من السقوط، لا عن يأس أو خوف، وإنما عن حذر لئلاّ تكون سقطته مرّة.
هذا الرأي لا يمثل فكرًا خاصا بالأب ثيوناس وحده، وإنما خاص بالكنيسة الجامعة، فإنها تنظر إلى ما ورد في هذا الجزء من الأصحاح (7: 14-25) أنه وإن كان ينطبق على الإنسان وهو تحت الناموس، لكنه ينطبق بطريقة ما على كل عضو في الكنيسة لا يزال في الجسد، لكن الفارق في الحالتين كبير. فتحت الناموس تعرّف الإنسان على الصلاح ووقف موقف العاجز عن ممارسته، أمّا في عهد النعمة فقد صارت له معرفة أعظم وإمكانيات على مستوى فائق، وقدرة على التحرك بالنعمة الإلهية وعمل الروح القدس فيه، لكنه ليس معصومًا من الخطأ، إنما يبقى يرتفع كما بجناحي الروح منطلقًا من مجدٍ إلى مجدٍ، لعلّه يبلغ قياس قامة ملء المسيح، وفي هذا مع شعوره بعمل الله العظيم فيه يُدرك أنه لم يبلغ بعد تمام اشتياقه في الرب، فيئن في الداخل مقدمًا التوبة بلا انقطاع، شاعرًا مع الرسول بولس أنه أول الخطاة في غير يأس.
- جزئيّا نحن في حرية، وجزئيًا في عبودية.
ليست الحرّية كاملة بعد ولا نقيّة بالتمام، لأننا لم ندخل بعد الأبدية.
نحن لا نزال في الضعف جزئيًا، لكنّنا نلنا الحرّية جزئيًا. ما قد ارتكبناه من خطايا قد غُسل في المعموديّة سابقًا، لكن هل قد محيّ كل الشرّ وبقينا بلا ضعف؟[12]
القدّيس أغسطينوس
- توجد فينا شهوة شريرة، ولكن بعدم موافقتنا لها لا نعيش أشرارًا.
توجد فينا شهوة الخطيّة، وبعدم طاعتنا لها لا نكمل الشرّ، لكن وجودها يعني أننا لم نكمل الخير بعد؛ وقد أظهر الرسول الأمرين:
أ. إننا لن نكمل الخير مادمنا نشتهي الشرّ.
ب. ولم نكمل الشرّ مادمنا لا نطيع مثل هذه الشهوة.
وقد أظهر الأمر الأول بقوله: “لأن الإرادة حاضرة عندي، وأمّا أن أفعل الحسنى فلست أجد” [18]، وأظهر الأمر الثاني بقوله: “اسلكوا بالروح، فلا تكملوا شهوة الجسد” (غل 5: 16). ففي النص الأول لم يقل أن الحسنى (الخير) غير موجودة إنما لم يكملها (أن أفعل لست أجد)، وفي الثاني لم يقل أن شهوة الجسد غير موجودة بل قال “فلا تكمّلوا”.
لهذا تجد الشهوات الشرّيرة لها موضعًا فينا حيث توجد اللذّات غير المشروعة، ولكنّنا لا نكمِّل هذه الشهوات عندما نقاومها بالذهن، خادمين ناموس الله.
كذلك فإن الخير يجد له موضعًا فينا حينما لا تكون للذّة الخاطئة مكانًا، وذلك بغلبة اللذّة الصالحة عليها. ولكن تكميل الخير لا يتحقّق تمامًا طالما هذا الجسد – خادم ناموس الخطيّة – يستميل الشهوة الشرّيرة. فمع أننا نقاومها لكنها تتحرك، إن مقاومتنا لها علامة تحركها فينا.
لهذا يكون كمال الخير بهلاك الشرّ تمامًا، فيعلو الواحد ويبيد الثاني.
فإن ظننا أن هذا يتم في هذه الحياة نكون مخدوعين، إنما يتحقّق بصورته الكاملة حينما لا يكون بعد موت، بل حياة أبدية فهناك في الملكوت سيكون الخير في أعلى درجاته، ولا يكون شرّ قط في ذلك الوقت…، وفي ذلك الموضع لا يكون بعد جهاد للعفّة وضبط النفس.
إذن، الجسد ليس شرًا متى تجنب الشر أي الخطأ الذي به يصير الإنسان مخطئًا، إنما هو أوجده. لأن كل من جانبي الإنسان، الجسد والنفس، خلقهما الله الصالح صالحين، أما الإنسان فصنع الشر وبذلك صار شريرًا[13].
القديس أغسطينوس
- “لأني لست أعرف ما أنا أفعله، إذ لست أفعل ما أريده بل ما أبغضه فإياه أفعل” [15].
لا يُفهم هذا التعبير عن فعل الشر، وإنما عن التفكير فيه، فإنه ليس في سلطاننا أن نفكر في الأمور غير اللائقة أو لا نفكر، إنما سلطاننا أن ننفذ ما بفكرنا أو نمتنع عن التنفيذ. نحن لا نقدر أن نمنع الفكر عن أن يأتينا من الخارج إلى ذهننا، لكننا قادرون أن نمتنع عن طاعته أو ممارسته.
في سلطاننا أن نريد بألا نفكر في هذه الأمور لكننا لا نقدر أن نطردها بحيث لا ترجع إلينا في ذهننا ثانية. لهذا كما قلت ليس في سلطاننا أن نفكر أو لا نفكر فيها؛ هذا هو معنى العبارة: “لست أفعل الصالح الذي أريده”. فإنني لا أريد أن أفكر فيما يضرني…. لكن “لست أفعل الصالح الذي أريده بل الشر الذي لست أريده فإياه أفعل”. فأنا لا أريد أن أفكر (بالشر) ومع هذا أفكر بما لا أريده.
تأمل أليس عن هذه الأمور عينها يتوسل داود لله في حزن، إذ هو يفكر فيما لا يريده، فيقول: “من الخطايا المستترة يا رب طهرني، من الغرباء احفظ عبدك حتى لا يتسلطوا علّي، فحينئذ أكون بلا عيب وأتنقى من خطية عظيمة” (مز 19: 12-13). كما يقول الرسول في موضع آخر: “هادمين ظنونًا وكل علو يرتفع ضد معرفة الله ومستأسرين كل فكر إلى طاعة المسيح” (2 كو 10: 5) [14].
الأب ميثوديوس
ثالثًا: أفسد جسدي: لم يقف عمل ناموس الخطية عند تشويه المعرفة الروحية وتحطيم قوة الإرادة الصالحة، وإنما بسكنى الخطية في داخلي صار ناموسها عامًلا في أعضائي، فصارت آلات إثم تعمل لحسابه. هذا ما يصرخ منه الرسول طالبًا الخلاص من هذا الفساد لا بتحطيم أعضاء جسده، بل بتقديسها لحساب الله، بعدما عملت لحساب الخطية. هذا الأمر لا يستطيع الناموس الطبيعي ولا الموسوي أن يهبه، إنما هي نعمة الله التي تقدس الجسد مع النفس.
يشكو الرسول حاله، قائًلا: “فالآن، لست بعد أفعل ذلك أنا، بل الخطية الساكنة فّي، فإني أعلم أنه ليس ساكن فّي، أي في جسدي، شيء صالح، لأن الإرادة حاضرة عندي، وأما أن أفعل الحسنى فلست أجد” [17-18].
وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لم يقل الرسول أن جسده هو الذي يفعل هذا بل “الخطية الساكنة فّي”، لأن الله خلق الجسد صالحًا، ليس شرًا في ذاته، لكن إذ دخلت الخطية لم يعد يسكن فيه شيء صالح.]
يؤكد نفس القديس أن الجسد وإن كان ليس فيه عظمة النفس، لكنه ليس مضادًا للنفس، ولا هو في ذاته شر، بل يسند النفس، وكأنه بالقيثارة التي في يدّي العازف، والسفينة التي بين يدّي الربان، لا يضاد من يستخدمه، وكأن الجسد مع النفس متحملان المسئولية معًا.
مرة أخرى يود الرسول أن يؤكد أن الجسد ليس في ذاته شرًا ولا النفس أيضًا، وإنما الإنسان في كليته إذ قبل الشر في حياته بإرادته، أفسد حياته، وحطم قوة الإرادة الصالحة، لتعمل الخطية فيه، وتقوده حسب هواها، إذ يقول:
“لأني لست أفعل الصالح الذي أريده،
بل الشر الذي لست أريده فإياه أفعل،
فإن كنت ما لست أريده إياه أفعل،
فلست بعد أفعله أنا بل الخطية الساكنة فّي” [19-20].
فالمشكلة ليست في الجسد، وإنما في الخطية التي سكنت فّي، فأفسدت النفس والجسد معًا. لذلك إذ جاء السيد المسيح حملني معه ليصلب الخطية التي سكنت فّي، ويسكن هو في داخلي. فعوض الأنين والصراخ: “لست بعد أفعله أنا، بل الخطية الساكنة فّي” أقول: “فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فّي” (غل 2: 20). فإن كنا قد سبق فسلمنا أعماقنا للخطية لنمت مع غالب الخطية، يملك هو فينا ونستتر نحن فيه، كقول الرسول: “لأنكم قد متم وحياتكم مستترة مع المسيح في الله، متى أُظهر المسيح حياتنا، فحينئذ تظهرون أنتم أيضًا في المجد” (كو 3: 3-4).
هذا وقد أكد آباء الكنيسة أن الإنسان مادام في زمان الجهاد لن يُعصم من الخطأ، إنما يبقى بنعمة الله مجاهدًا لينطلق من نصرة إلى نصرة، صارخًا إلى الله بلا انقطاع ليعينه من ضعفه، حتى يكمل أيام غربته بسلام. ويحدثنا الأب بينوفيوس كيف تسند نعمة الله المؤمنين المجاهدين فيتخلصون من خطاياهم السابقة، بل ويليق بهم ألا يذكروها، لكن يبقى المؤمنون تحت الضعف في بعض الأمور كالتي يدعوها النبي بالسهوات والخطايا المستترة (مز 19: 12)، لذا يقول الحكيم: “الصديق يسقط في اليوم سبع مرات ويقوم” (أم 14: 16)، فالتوبة عنها لا تنتهي. [لأنه سواء عن جهل أو نسيان أو بالتفكير أو الكلام أم بمجرد الاشتياق أو عن ضرورة أو عن ضعف الجسد أو نجاسة في حلم… هذه الأمور غالبًا ما نسقط فيها كل يوم بغير إرادتنا أو بإرادتنا[15].]
أخيرًا، إذ يستبعد الرسول كل اتهام ضد الناموس وأيضًا ضد طبيعة جسده، ويجعل من الخطية التي سيطرت عليه وغلبته وسكنت فيه مقاومًا للناموس، أعلن تهلله بالناموس بالرغم من هزيمته بناموس الخطية، مقدمًا الشكر للسيد المسيح الذي يهبه النصرة على ناموس الخطية، إذ يقول:
“فإني أسر بناموس الله بحسب الإنسان الباطن،
ولكني أرى ناموسًا آخر في أعضائي.
ويحي أنا الإنسان الشقي،
من ينقذني من جسد هذا الموت.
أشكر الله بيسوع المسيح ربنا.
إذًا أنا نفسي بذهني أخدم ناموس الله،
ولكن بالجسد ناموس الخطية” [22-25].
ماذا يعني أنا نفسي بذهني أخدم ناموس الله ولكن بالجسد ناموس الخطية؟ بالنعمة الإلهية التي صارت لي في المسيح يسوع تقدست حياتي، وإن كانت الخطية لا تكف عن محاربتي مادمت بعد في الجسد… هذا هو مفهوم النصرة بالنعمة الإلهية، النصرة المرتبطة بجهاد لا ينقطع مادمنا في الجسد. لكنه جهاد بالرب الساكن فينا.
- إن كان (الرسول) يخاف إغراءات الجسد فهل نحن في آمان؟
- أتريد أن تعرف أن لنا أجسادًا هي بعينها كأجساد القديسين… كلنا نلتزم بالمصارعة ليتقبل كل مكافأته حسب جهاده.
القديس جيروم[16]
- حتى الرسول كان يقمع جسده ويضبطه لئلا بعدما كرز للآخرين يصير هو نفسه مرفوضًا (1 كو 9: 27)، وإذ يشعر بعنف الأهواء الحسية يتحدث باسم الجنس البشري، قائًلا: “ويحي أنا الإنسان الشقي من ينقذني من جسد هذا الموت؟”
- إن كان الرسول الإناء المختار، المفرز لإنجيل المسيح (غل 1: 15) بسبب وخزات الجسد وإغراءاته للرذيلة يقمع جسده ويضبطه لئلا بعدما كرز للآخرين يصير هو نفسه مرفوضًا، ومع هذا نجده يرى ناموسًا آخر يعمل في أعضائه ضد ناموس ذهنه، ويسبيه في ناموس الخطية [23]، وإن كان وهو في عري وصوم وجوع وسجن وجلدات وعذابات كثيرة يعود إلى نفسه ليصرخ: أنا الإنسان الشقي من ينقذني من جسد هذا الموت؟ فهل تظن أنه يليق بك أن تترك حذرك؟[17]
القديس جيروم
- كلنا نشعر بهذا، لكن ليس كلنا نخلص.
يا لي من إنسان شقي ما لم أطلب الدواء! ….
لنا طبيب، فلنطلب الدواء. دواؤنا هو نعمة الله، وجسد الموت هو جسدنا. لنكن غرباء عن المسيح. فإننا حتى وإن كنا في الجسد لكننا ليتنا لا نتبع أمور الجسد… إنما نطلب عطايا النعمة: “أن أنطلق وأكون مع المسيح ذاك أفضل جدًا، ولكن أبقى في الجسد ألزم من أجلكم” (في 1: 23-24) [18]
القديس أمبروسيوس
- يقول الرسول “أنا نفسي“ [25]، إذ لا يوجد اثنان من طبيعتين مختلفتين (واحد بطبعه صالح وآخر بطبعه شرير)، إذ لم يأتيا عن مصدرين مختلفين.
يقول: “بذهني أخدم ناموس الله ولكن بالجسد ناموس الخطية” [25]، مادمت أكون مسترخيًا إذ يحارب (ناموس الخطية) الخلاص[19].
القديس أغسطينوس
- عندما يشعر القديسون أن ثقل الأفكار الأرضية يضايقهم، وإنهم يرتدون بعيدًا عن سمو أذهانهم منقادين بغير إرادتهم أو بالحري لاشعوريًا إلى ناموس الخطية والموت، وتعوقهم الأعمال الأرضية التي هي نافعة وصالحة عن معاينة الله، فإنهم يئنون إلى الله باستمرار، معترفين بانسحاق قلب لا بالكلام بل بقلوبهم أنهم خطاة. وبينما هم بغير انقطاع يلتمسون من رحمة الله الصفح عما يقترفونه يومًا فيومًا بسبب الضعف الجسدي، يزرفون دموعًا حقيقية للتوبة بغير انقطاع…
كذلك يدركون بالخبرة أنه بسبب ثقل الجسد يعجزون بقوتهم البشرية أن يبلغوا النهاية المطلوبة، وأن يكونوا متحدين، حسب اشتياق قلوبهم، بذلك الصلاح الرئيسي الأسمى، وإذ ينقادون بعيدًا عن رؤيته مأسورين بالأمور العالمية يتوجهون إلى مراحم الله “الذي يبرر الفاجر” (رو 4: 5)، ويصرخون مع الرسول: “ويحي أنا الإنسان الشقي من ينقذني من جسد هذا الموت؟ اشكر الله بيسوع المسيح ربنا” ( رو 7: 24-25). لأنهم يشعرون بأنهم على الدوام لا يستطيعون أن يكملوا الصلاح الذي يريدونه، وإنما يسقطون في الشر الذي يكرهونه، أي الأفكار الزائفة والاهتمام بالأمور الجسدية.
إنهم بالحقيقة يسرون بناموس الله بحسب الإنسان الباطن الذي يسمو فوق كل المنظورات، ويسعون على الدوام ليكونوا متحدين بالله وحده، لكنهم “يرون ناموسًا آخر في أعضائهم“، أي منغرس في طبيعتهم البشرية “يحارب ناموس ذهنهم” (رو 7: 22-23)، أي يأسر أفكارهم إلى ناموس الخطية العنيف، ويلزمهم أن يتخلوا عن ذلك الصلاح الأعظم ويرضخوا للأفكار الأرضية التي وإن ظهرت هامة ومفيدة ونحتاج إليها في العبادة… إلا أنها تقف عائقًا عن التأمل في ذلك الصلاح الذي يسحر أنظار القديسين، فيرونها شريرة ويحاولون تجنبها…
إنني أقول أن هذا الناموس المنغرس في أعضاء البشر جميعًا الذي يحارب ناموس أذهاننا ويعوقها عن رؤية الله[20].
الأب ثيوناس
- أخيرًا يعبر الرسول الطوباوي بوضوح أنه قال هذا عن المقدسين والكاملين ومن كان على شاكلته، فيشير بإصبعه إلى نفسه، ويتدرج في الحال: “إذا أنا نفسي” [25]، أي أنا الذي أقول هذا أقدم أسراري الخاصة مكشوفة، لا سريرة شخص آخر. اعتاد الرسول أن يستعمل هذا الأسلوب بغير كلفةٍ كلما أراد أن يشير بالأخص إلى نفسه (2 كو 10: 1 ، 12: 13، 16 ؛ غل 5: 2 ؛ رو 9: 2).
إذًا “أنا نفسي” تحمل بالتأكيد: أنا الذي تعرفونه بأنه رسول المسيح، الذي تبجلونه بأعظم احترام، والذي تعتقدون بأنه من أسمى الشخصيات وأروعها كشخصٍ يتكلم فيه المسيح، مع أني أخدم ناموس الله بالذهن أعترف بأنني بالجسد أخدم ناموس الخطية، بمعنى أن حالتي البشرية تجذبني أحيانًا من الأشياء السماوية الأرضية، وينحدر سمو ذهني إلى الاهتمام بأمور تافهة. وبناموس الخطية هذا أجد بأنني في كل لحظة أُخذ هكذا مأسورًا بالرغم من مثابرتي باشتياق راسخ نحو ناموس الله، ولكنني لا أستطيع بأية وسيلة أن أنجو من سلطان هذا الأسر ما لم أهرب دائمًا إلى رحمة المخلص.
لذلك يحزن جميع القديسين بتنهدات يومية من أجل ضعف طبيعتهم هذا. وبينما هم يستقصون أفكارهم المتنقلة ومكنونات ضمائرهم وخلواتهم العميقة يصرخون متضرعين: “لا تدخل في المحاكمة مع عبدك، فإنه لن يتبرر قدامك حيّ” (مز 143: 2)….
ها أنت ترى إذن كيف يعترف جميع القديسين بصدق أن جميع الناس كما هم أيضًا خطاة، ومع ذلك لا ييأسون أبدًا من خلاصهم، بل يبحثون عن تطهير كامل بنعمة الله ورحمته…
لا يوجد أحد، مهما كان مقدسًا، في هذه الحياة بلا خطية. وقد أخبرنا أيضًا تعليم المخلص الذي منح تلاميذه نموذج الصلاة الكاملة…، إذ يقول: “وأغفر لنا ذنوبنا، كما نغفر نحن أيضًا للمذنبين إلينا“ (مت 6: 12).
إذن إذ قدم هذه كصلاة حقيقية يمارسها قديسون، كما يجب أن نعتقد دون أدنى شك، ممن يمكنه أن يبقى عنيدًا ووقحًا ومنتفخًا بكبرياء الشيطان، فيظن أنه بلا خطية[21].
الأب ثيوناس
مفهوم الجسد هنا
- يلزمنا أن نأخذ كلمة “الجسد” هنا لا بمعنى الإنسان أو المادة الملموسة، إنما يقصد الإرادة الشهوانية أو الرغبة الشهوانية[22].
الأب دانيال
- لننصت إلى الرسول القائل: “فاني أعلم أنه ليس ساكن فيّ أي في جسدي، شيء صالح” [18]. فان ما يقصده الرسول هنا بالتأكيد هو “خطأ الجسد” الذي يوجد في الشيء الصالح “الجسد”. فان زال هذا الخطأ من الجسد، لا يكون الجسد فاسدًا ولا مخطئًا.
وقد كشف المعلم نفسه انه يقصد بهذا (أي الجسد) طبيعتنا (أي كياننا كله)، إذ يقول في البداية “فاني أعلم أنه ليس فيّ” ثم يوضح “فيّ” بـ “أي في جسدي”، وهكذا يسمي جسده أنه هو himself ، ولا يمكن أن يكون الإنسان عدو نفسه.
فعندما يُقمع الخطأ، يصير جسدنا محبوبًا، إذ يلزمنا أن نعتني به كقول الرسول “فإنه لم يبغض أحد جسده” (أف 5: 29).
وفي موضع آخر “إذًا أنا نفسي بذهني أخدم ناموس الله، ولكن بالجسد ناموس الخطية” [25]. ليسمع من لهم آذان، إذ يقول “إذًا أنا نفسي” أنا بالذهن، وأنا بالجسد… ولكن كيف يخدم بالجسد ناموس الخطية؟ هل بقبوله شهوة الجسد وتكميلها! حاشا! بل لأن حركات الشهوة التي لا يريدها هي كائنة فيه، وإذ هو لا يوافقها فإنه بذهنه يخدم ناموس الله ولا يسلمه أعضاءه لتكون آلات إثم للخطية[23].
القديس أغسطينوس
البهجة بناموس الله
إن كنا بالنعمة نجاهد بلا انقطاع لكي يكمل تحررنا من ناموس الخطية، فان هذا الناموس لا يقدر أن يحطم بهجة خلاصنا وسرورنا بناموس الله العامل في داخلنا، إذ يقول الرسول: “فاني أسّر بناموس الله بحسب الإنسان الباطن” [22]. هكذا لا يفقد الإنسان بهجته وسلامه وسط الجهاد ضد ناموس الخطية.
- مادمنا نُسر بناموس الله بحسب الإنسان الداخلي نملك نوعًا من السلام، لكنه ليس سلامًا كاملاً، لأننا نرى ناموسًا آخر في أعضائنا يحارب ناموس ذهننا[24].
القديس أغسطينوس
- إذ نكون أحرارًا نُسر بناموس الله، لأن الحرية فرح….
لتكن بهجتك في الله ولتكن حرًا.
لا تخف العقوبة بل حب البرّ.
ألا تقدر أن تحب البرّ، خف إذن من العقوبة لعلك تبلغ حب البرّ[25].
- بسبب حسن نقول إن عذوبة الله مخفية فيك. لقد وجد ناموس (الخطية) له موضعًا في أعضائك يقاوم ناموس ذهنك ويسبيك. لهذا فإن العذوبة التي بالنسبة لك مخفية يشرب منها الملائكة القديسون بينما لا تقدر أنت تتذوقها بسبب السبي[26].
القديس أغسطينوس
[1] In Rom. hom 12.
[2] In Rom. hom 12.
[3] In Ioan tr., 112: 5.
[4] In Rom. hom 12.
[5] In Ioan tr 86: 5; Ser. On N. T. lessons 95: 3.
[6] In Rom. hom 12.
[7] In Ioan. tr 62: 1.
[8] In Rom. hom 12.
[9] Cassian: Conf 23: 13.
[10] On Resurrection.
[11] Cassian, Conf 23.
[12] In Ioan. Tr., 41: 10.
[13] On Continence 20.
[14] On Resurrection.
[15] Cassian: Conf. 20: 12.
[16] On Ps. hom 41,51.
[17] Ep. 130: 9; 22:5.
[18] On Belief in Resurrection, 41.
[19] In Ioan. tr 41: 11.
[20] Cassian: Conf., 23: 10, 11.
[21] Cassian: Conf., 23: 16–18.
[22] Cassian: Conf., 4: 11.
[23] On Continence 19.
[24] In Ioan. tr 77: 4.
[25] In Ioan. Tr., 41: 10.
[26] Ser. On N. T. lessons 95: 3.