تفسير انجيل يوحنا 9 الأصحاح التاسع – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير انجيل يوحنا 9 الأصحاح التاسع - القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير انجيل يوحنا 9 الأصحاح التاسع – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير انجيل يوحنا 9 الأصحاح التاسع – القمص تادرس يعقوب ملطي
من تفسير وتأملات
الآباء الأولين
الإنجيل بحسب
يوحنا
الجزء الثاني
أصحاحات 9- 21
2003
القمص تادرس يعقوب ملطي
كنيسة الشهيد مار جرجس باسبورتنج
الاصحاح التاسع
تفتيح عيني المولود أعمى
نور العالم
رأينا في الأصحاح السابق السيد المسيح يعلن لليهود أنه نور العالم (٨:١٢). جاء لكي يفضح الظلمة ويبددها، فينتزع السالكين فيها، ويحملهم إلى نور مجده. لقد صار أبناء إبليس (٨: ٤٤) يحتاجون إلى المحرر الحقيقي ليهبهم استنارة داخلية، ويتهللوا مع إبراهيم أبيهم بيوم الرب العجيب (٨: ٥٦). الآن وقد أرادوا رجمه فاختفى عنهم ظهر لكي يهب البصر للمولود أعمى، ربما بعد أيامٍ أو شهورٍ قليلة من الحوار السابق. كان يلزمهم أن يتلامسوا مع واهب البصر، ليدركوا أنه واهب البصيرة أيضًا.
لم يرد في العهدين القديم والجديد تفتيح عيني مولود أعمى سوى في هذا الأصحاح، وقد ورد في العهد الجديد عن عطية النظر للعميان كأحد أعمال المسيا المنتظر: “ويسمع في ذلك اليوم الصم أقوال السفر، وتنظر من القتام والظلمة عيون العمي” (إش ٢٩: ١٨)، “حينئذ تنفتح عيون العمي وآذان الصم تتفتح” (إش ٣٥: ٥)، كما قيل عن عبد الرب (الكلمة المتجسد): “أنا الرب قد دعوتك بالبرّ، فأمسك بيدك وأحفظك، وأجعلك عهدًا للشعب ونورًا للأمم، لتفتح عيون العمي” (إش ٤٢: ٦–٧). ويسبح المرتل الرب قائلاً: “الرب يفتح أعين العمي” (مز ١٤٦: ٨).
وكأن الإنجيليين وهم يشيرون إلى تفتيح أعين العميان، خاصة هذا المولود أعمى يعلنون تحقيق النبوات خلال شخص يسوع بكونه المسيا المنتظر، الرب الذي يفتح الأعين الداخلية للقلب مع العيون الجسمية. فيه قد تحققت النبوات، حيث تمم أعمالاً لا يمكن أن يمارسها غير الله نفسه، أو باسم الرب.
شفاء المولود أعمى يعلن عن شخص السيد أنه جاء يفتح البصيرة الداخلية، لكي يتعرف المؤمنون على أسرار الله. وفى نفس الوقت يفضح عمى القيادات المرائية المتعجرفة التي لم تستطع أن تكتشف عماها الروحي وخطاياها!
مع أهمية هذه الآية الفريدة من جهة خلق عيني مولود أعمى إلاَّ أن الإنجيلي لم يذكر لنا اسم الأعمى، ولا أورد تفاصيل كثيرة عنها إنما قدم الحوارات المتبادلة بخصوص هذه الآية، خاصة أحاديث السيد المسيح مع التلاميذ ومع الأعمى نفسه كما مع الفريسيين. فإن ما يشغل ذهن الإنجيلي ليس إبراز ما في الآية من عملٍ معجزي فائق، وإنما في تمتع البشرية بعمل المسيح الإلهي في حياتهم وأفكارهم.
لقد استخدم التراب في خلقة العينين ليؤكد أنه الخالق المخلص، أما طلبته من الأعمى أن يغتسل في بركة سلوام ليؤكد الحاجة إلى مياه المعمودية لننعم باستنارة الروح القدس خلال الميلاد الجديد. لقد طرد اليهود المتمتع بالاستنارة ليجد له موضعًا لدى السيد المسيح، مسيح المطرودين والمرذولين.
إن كان البعض من الشعب قد أدرك عماه وأيضًا كثير من الأمم فإن هذين الفريقين أفضل من الفريسيين الذين مع عماهم ادعوا أنهم مبصرون. بادعائهم هذا صاروا في غباوة بلا رجاء، أما العشار والزانية فإذ اعترفا بعماهما انفتح أمامهما باب الرجاء ليتمتعا ببصيرة فائقة وينعما بالحياة الأبدية في المسيح يسوع.
خلال هذا العمل أمكن للبصيرة أن تتدرج في معرفة شخص ربنا يسوع:
- إنسان يُدعى يسوع [11].
- إنه نبي [17].
- إنسان من عند اللَّه [33].
- ابن الإنسان السماوي [35].
- مستحق للسجود والعبادة بكونه الرب [38].
يقرأ هذا الاصحاح في “أحد التناصير” لأنه يرتبط بسرّ المعمودية، بكونها استنارة للبصيرة الداخلية.
1 – شفاء الأعمى 1-7.
2 – حوارات بعد الشفاء
- حوار بين الجيران والأعمى ٨ – ١٢.
- حوار بين الفريسيين والأعمى ١٣ – ١٧.
- حوار بين الفريسيين ووالدي الأعمى ١٨ – ٢٣.
- حوار ثان بين الفريسيين والأعمى ٢٤ – ٣٤.
- حوار بين المسيح والأعمى ٣٥ – ٣٨.
- حوار بين المسيح والفريسيين ٣٩ – ٤١.
1 – شفاء الأعمى
“وفيما هو مجتاز رأى إنسانًا أعمى منذ ولادته“. [1]
إن كان السيد المسيح قد اجتاز في وسط القيادات اليهودية واختفى منهم لأنهم حملوا حجارة لكي يرجموه (٨: ٥٩)، نراه يجتاز بجوار أعمى مسكين يستعطي، فيتطلع إليه لا كما يتطلع الآخرون إليه، إنما بروح الحب والترفق. إنها صورة حية للسيد المسيح الذي رفضه اليهود المعتزين بالهيكل، ليسير كما في الشوارع يطلب الأمم. إنهم عاجزون عن رؤيته لأنهم بلا نبوات ولا شريعة إلهية ولا رموز؛ إنهم أشبه بالمولود أعمى، مكانه الطريق، فقير يستعطي في حالة بؤس. وكما يقول أيوب البار: “لِمَ يعطي لشقي نور، وحياة لمُريّ النفس” (أي ٣: ٢٠).
لم يذكر الإنجيلي أين كان مجتازًا ولا إلى أين يذهب، لكنه إذ كان مجتازًا كحامل للآلام رأى هذا المولود أعمى. وكان فقيرًا يستعطى، في مكانٍ معين، حيث يقدم له بعض المحسنين عطاءً لكي يعيش.
كان معروفًا في المدينة أنه مولود أعمى، ولم يسأله الشخص ولا من هم حوله، ولا حتى تلاميذ السيد من أجل تفتيح عينيه، ربما لأنه لم يتوقع أحد حدوث ذلك.
تطلع إليه ربنا يسوع لكي يجده الأعمى المسكين، وكما جاء في إشعياء: “أصغيت إلى الذين لم يسألوا، وُجدت من الذين لم يطلبونني. قلت هأنذا لأمة لم تُسمى باسمي” (إش ٦٥: ١). بادر بالحب، فأحبنا قبل أن نعرفه، وكما يقول الرسول: “عُرفتم من الله” (غلا ٤: ٩).
- إذ هو مملوء حبًا نحو الإنسان، مهتم بخلاصنا، ويريد أن يبكم أفواه الأغبياء لم يتوقف عن العمل من جانبه مع أنه لم يوجد من يبالي به. وإذ يعرف النبي ذلك قال: “كي تتبرر في أقوالك وتغلب إذا حوكمت” (مز ٥١: ٤). لذلك هنا عندما رفضوا كلماته السامية، قائلين أن به شيطان، وحاولوا قتله، ترك الهيكل وشفى الأعمى، مُسكنًا من ثورتهم بغيابه، وصانعًا المعجزة ليهدئ من قسوتهم وعنفهم، مثبتًا الحقائق. صنع معجزة غير عادية، بل حدثت لأول مرة. يقول الذي شُفي: “منذ الدهر لم يُسمع أن أحدًا فتح عيني مولود أعمى” [٣٢]. ربما فتح البعض أعين عميان، أما مولود أعمى فلم يحدث قط. أما بخروجه من الهيكل تقدم للعمل عمدًا فواضح من هذا، أنه هو الذي رأى الأعمى، ولم يأتِ الأعمى إليه. بغيرة تطلع إليه، وقد أدرك تلاميذه هذا[1].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- هذا الأعمى (يو 9) هو الجنس البشري، لأن هذا العمى وجد له موضعًا في الإنسان الأول بالخطية، هذا الذي نحن جميعنا نلنا أصلنا، ليس من جهة الموت فحسب، بل ومن جهة الشر. فإن كان عدم الإيمان هو عمى، والإيمان استنارة، فمن وجده المسيح مؤمنًا عند مجيئه؟ فإن ذاك الرسول الذي تنسب نفسه لعائلة الأنبياء يقول: “كنا بالطبيعة أبناء الغضب كالباقين أيضًا” (أف ٢: ٣)… فإن كان الشر قد وجد له جذوره فينا، فإن كل إنسانٍ ولد أعمى ذهنيًا. لأنه إن كان يرى فعلاً، فلا يحتاج إلى قائد. وإذ كان يحتاج إلى من يقوده وينيره، فهو إذن أعمى منذ مولده[2].
القديس أغسطينوس
“فسأله تلاميذه قائلين:
يا معلم، من أخطأ هذا أم أبواه حتى ولد أعمى؟” [2]
خرج السيد المسيح من الهيكل (يو ٨: ٥٩)، وكان في رفقته تلاميذه الذين لم يتركوه في تجاربه، فتمتعوا بالتعرف عليه، ونالوا خبرات جديدة فائقة. لاحظوا أن عينيه تتطلعان إلى الأعمى المسكين، ولم تكن نظرات عادية، بل نظرات عمل مملوءة حبًا. فتحولت نظراتهم هم أيضًا إلى المولود الأعمى، وعوض السؤال من أجله لشفائه قدموا استفسارًا عن علة ميلاده أعمى.
- إن قلت: من أين جاءوا بهذا السؤال؟ أجبتك: لما شفي السيد المسيح المفلوج قبلاً قال له: “ها أنت قد برئت، فلا تخطئ أيضًا لئلا يكون لك أشر” (يو 5: 14). فهؤلاء إذ خطر ببالهم أن ذاك قد أصاب الفالج جسده لأجل خطاياه، إلا أن هذا القول لا ينبغي أن يُقال عن هذا الأعمى، لأن من مولده هو أعمى. فهل أخطأ والداه؟ ولا هذا القول يجوز أن يُقال، لأن الطفل لا يتكبد العقوبة من أجل أبويه… لقد تحدث التلاميذ هنا لا ليسألوا عن معلومات قدر ما كانوا في حيرة[3].
القديس يوحنا الذهبي الفم
كان القول الرباني (المنسوب للربيين) المشهور: “ليس موت بدون خطية، ولا ألم بدون شر”. وقد حاول الربيون تبرير ذلك بما ورد في حز ١٨: ٢٠؛ مز ٨٩: ٣٢. وقد ثبت هذا القول في أذهان اليهود، من بينهم تلاميذ السيد المسيح الذين لم يسألوا إن كان هذا العمي بسبب الخطية أم لا، ففي نظرهم هذا أمر لا يحتاج إلى سؤال أو مناقشة، إنما جاء السؤال عمن أخطأ حتى حلت الكارثة المرعبة بهذا الشخص. ما أربك التلاميذ أنه كيف يكون قد أخطأ قبل ولادته حتى يُولد هكذا، ألعل هذا بسبب خطية والديه؟ وما ذنبه هو مادامت الخطية ارتكبها أحد الوالدين؟
لقد اعتقد البعض أن نفس الإنسان قد تكون أخطأت قبل أن تلتحف بالجسد، كما اعتقد العلامة أوريجينوس أن البعض يعانون آلامًا قبل أن يمارسوا خطأ بعد ولادتهم. ولعل البعض اعتمد على المنطق البشري لتبرير العدالة الإلهية، كيف يُولد أناس فقراء وآخرين أغنياء، أو يولد شخص حاد الذكاء وآخر ينقصه الذكاء، أو شخص قوي البنية وآخر مصاب بأمراض كثيرة. هذا وقد اعتمد البعض على تأكيد إمكانية ارتكاب الخطأ قبل الولادة مما قيل عن يعقوب وعيسو وهما في الرحم: “وتزاحم الولدان في بطنها” (تك ٢٥: ٢٢).
وجاء في كتابات الربيين عما يحل بالأبناء بسبب أخطاء الوالدين. قال أحدهم في التزام الرجل ألا يحملق في امرأة: “من يتطلع إلى عقب امرأة سيولد له أطفال معوقين”. وقال آخر أن هذا يحدث لمن يعاشر زوجته أثناء الطمث. وقال آخر أن من يمارس العلاقات الزوجية أثناء وجود دم (فترة الطمث) سيكون له أطفال يعانون من مرض الصرع. وقد وردت أقوال مشابهة كثيرة تبرز في اقتناع الربيين بأن أخطاء الوالدين يُعاقبون عليها بتشوهات خلقية في أبنائهم، يعاني منها الأبناء مدى الحياة.
هذا يوضح أن ما قاله التلاميذ لم يكن من وحي خيالهم، بل كان تعليمًا راسخًا في أذهان الكثير من اليهود خلال تعاليم الربيين وكتاباتهم.
يظن البعض أن التلاميذ سمعوا عن بعض الأفكار الفيثاغورية Pythagrean التي كانت تنادي بالوجود السابق للنفس. ولعل الفريسيون حملوا ذات الفكر عندما قالوا للمولود: “في الخطايا وُلدت أنت بجملتك” [٣٤].
تعتقد كثير من الشعوب الآسيوية في تناسخ الأرواح، ولا تزال الهندوسية تهتم أن تحدد خطية الشخص التي ارتكبها حين كان في جسم آخر قبل ميلاده. اقتبس العلامة أوريجينوس عن كتاب العبرانيين غير القانوني حديثا ليعقوب يقول فيه: “أنا ملاك الله، أحد الرتب الأولى للأرواح. يدعوني الناس يعقوب، وأما اسمي الحقيقي الذي يعطيني الله إياه فهو إسرائيل. يعتقد أفلاطون أن الهواء مملوء بالأرواح، والبعض بسبب نزعاتهم الطبيعية الحيوية يربطون أنفسهم بأجسام، والآخرون يبغضون مثل هذا الاتحاد”.
“أجاب يسوع:
لا هذا أخطأ ولا أبواه،
لكن لتظهر أعمال الله فيه“. [3]
عوض إدانة المولود أعمى أو والديه وجَّه السيد المسيح أنظار تلاميذه إلى عناية الله الفائقة وخطته الخفية، فقد سمح بالعمى لكن يهب هذا المولود أعمى البصيرة الروحية، ولكي يشهد للحق الإلهي أمام القيادات اليهودية العنيفة ويمجد الله.
لم يقل السيد المسيح أن هذا الأعمى لم يخطئ، ولا أيضًا أبواه لم يخطئا، فكل البشرية تسقط في الخطية. لكن ما يعاني منه هذا الأعمى ليس بسبب خطية معينة ارتكبها هو أو والداه. ما يليق بالتلاميذ كما بالمؤمنين أن ينشغلوا بأعمال الله وخطته نحو كل إنسان ليتمتع بالبصيرة الداخلية، ويتعرف على أسرار الله، وينال شركة المجد الأبدي.
يد الله عاملة على الدوام وسط الضيقات كما في الأفراح، تحت كل الظروف الله يريد خلاصنا. فالمؤمنون لم ينالوا وعدًا بألا تحل بهم ضيقات أو آلام كغيرهم من سائر البشر، إنما بالعكس يتعرضون لضيقات أكثر. لكن ما يعزيهم هو إدراكهم لخطة الله في كل شيء، وتمتعهم بالنعمة الإلهية التي لهم فيها كل الكفاية. هذا ما وعدنا به الله كما قيل لبولس الرسول: “تكفيك نعمتي لأن قوتي في الضعف تكمل” (٢ كو ١٢: ٩).
لا يعرف المؤمن الشكوى وسط التجارب لأن عيناه مسمرتان على أبوة الله الحانية، وقلبه منفتح على إدراك خطة الله نحوه.
- المسيح هو المخلص، بعمل الرحمة صنع ما لم يعطه في الرحم. الآن عندما لم يعطِ ذاك الأعمى عينين لم يكن ذلك عن خطأ فيه (الخالق) بالتأكيد، وإنما للتأجيل من أجل صنع المعجزة… “لا هذه أخطأ ولا أبواه لكن لتظهر أعمال الله فيه“… إنه لم يعطه ما كان يمكنه أن يعطيه؛ إنه لم يعطه ما عرف أنه سيعطيه حين تكون هناك حاجة إلى ذلك.
لم يكن العمى بسبب خطية والديه ولا بسبب خطاياه هو “لكن لتظهر أعمال الله فيه“، فإننا نحن جميعًا حين وُلدنا كنا مرتبطين بالخطية الأصلية، ومع ذلك لم نُولد عميانًا. على أي الأحوال ابحث بحرص فإننا وُلدنا عميان. فمن لم يولد أعمى؟ أقصد عمى القلب. ولكن الرب يسوع الذي خلق الاثنين يشفي الاثنين[4].
القديس أغسطينوس
- قول السيد المسيح عن الأعمى: “لا هذا أخطأ ولا أبواه”، ليس مبرئًا لأبويه من الخطايا، لأنه لم يقل على بسيط ذات القول: “لا هذا أخطأ ولا أبواه”، لكنه أكمل: “لكن لتظهر أعمال الله فيه“. لأن هذا الأعمى قد أخطأ هو ووالداه، إلا أن عماه هذا ليس بسبب هذا. لأنه لا يجوز أن يُعاقب أحد إذا أخطأ آخر، فقد أزال هذا الوهم بلسان حزقيال النبي إذ قال: “وكان إليّ كلام الرب قائلاً: ما لكم أنتم تضربون هذا المثل على أرض إسرائيل قائلين: الآباء أكلوا الحصرم، وأسنان الأبناء ضرست. حي أنا يقول السيد الرب لا يكون لكم من بعد أن تضربوا هذا المثل في إسرائيل. ها كل النفوس هي لي، نفس الآب كنفس الابن، كلاهما لي النفس التي تخطئ هي تموت” (حز 18: 1-4). هذا وقد قال موسى النبي: “لا يُقتل الآباء عن الأبناء، ولا يُقتل الأولاد عن الآباء، كل إنسان بخطيته يُقتل” (تث 24: 16).
فإن قال قائل: فكيف قال الرب لموسى النبي: “لأني أنا الرب إله غيور أفتقد ذنوب الآباء في الأبناء في الجيل الثالث والرابع من مبغضي” (خر 20: 5)؟ فنقول له: إن هذه القضية ليست كلية، لكنها إنما قيلت عن أناسٍ من الذين خرجوا من مصر، فالذي يقول هذا معناه: لما خرج اليهود من مصر وصاروا بعد رؤيتهم لآيات وعجائب أشر من والديهم وأجدادهم الذين لم يشاهدوا مثل هذه العجائب، سيقاسون المصائب نفسها التي قاساها أولئك إذ قد تجاسروا على هذه الأعمال نفسها.
- يقول هذا ليس كمن يشير إلى أنهم لم يخطئوا، فإن كل من هذا الإنسان ووالديه قد أخطأوا، لكن عماه ليس بسبب هذا… وإنما لكي يُعلن مجد الله فيه. يقول قائل: لماذا يعاني من أجل مجد الله؟ أي ظلم، أخبرني؟ فإنه ماذا لو أن لم يخلقه نهائيًا؟ لكنني أقول: لقد نال نفعًا بعماه، إذ نال شفاءً لبصيرته الداخلية. أي نفع لليهود بأعينهم إذ صارت دينونتهم أعظم، فإنهم رأوا وكانوا عاجزين؟ أي ضرر أصاب هذا الرجل من عجزه، فإنه بهذا انفتحت عيناه؟ لذا فشرور الحياة الحاضرة ليست شرورًا، ولا الخيرات هي صلاح. الخطيئة وحدها هي شر، أما العجز فليس شرًا[5].
القديس يوحنا الذهبي الفم
كتب القديس جيروم إلى كاستريتوس Castrutius of Pannonia يعزّيه على عماه الجسدي:
- إذ أكتب إليك الآن أسألك ألا تتطلع إلى البلوى الجسدية التي حلّت بك ظانًا أنها بسبب الخطية… أما نرى أعدادًا كبيرة من الوثنيين واليهود والهراطقة وأصحاب أفكار مختلفة يتمرغون في وحل الشهوة، ويسبحون في الدم في عنفٍ أكثر من الذئاب المفترسة وكالحدأة الخاطفة، ومع هذا لم يحل هذا الوباء إلى مساكنهم؟ إنهم لا يصابون مثل غيرهم، ويزدادون وقاحة ضد اللَّه، ويرفعون وجوههم حتى إلى السماء. ومن الجانب الآخر نحن نعرف أن القديسين يصابون بأمراضٍ وآلامٍ وأعواز… إن ظننت أن عماك سببه الخطية، وأن المرض الذي غالبًا ما يستطيع الأطباء أن يشفوه شهادة على غضب اللَّه، إذن فأنت تحسب اسحق خاطئًا، إذ أصيب بعمى كامل حتى خُدع، وهو يعطي البركة لمن لم يكن يود أن يعطيه. نتهم يعقوب بالخطية الذي اظلمّ نظره، فلم يعد يرى إفرايم ومنسّى (تك 1:48)، مع أنه بعينه الداخلية وروحه النبوية استطاع أن يرى المستقبل البعيد وأن المسيح قادم من السبط الملوكي (تك 1:49)[6].
القديس جيروم
لا يليق بالمؤمن وقد أدرك أسرار الله الفائقة أن يدين أحدًا أو يحسب ما يحل بالآخرين عقوبة إلهية لخطايا خفية، إذ يستخف بهم حتى وإن كانت خطاياهم ظاهرة. لقد سقط اليهود في ذلك فحسبوا البار، الذي بلا خطية، أنه يتألم ويُصلب عن شر أو تجديف ارتكبه. يقول المرتل: “لأن الذي ضربته أنت هم طردوه، وبوجع الذين جرحتهم يتحدثون” (مز ٦٩: ٥٦). ويقول إشعياء النبي: “نحن حسبناه مُصابًا مضروبًا من الله ومذلولاً، وهو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا، تأديب سلامنا عليه، وبحُبره شُفينا” (إش ٥٣: ٤ – ٥).
“ينبغي أن أعمل أعمال الذي أرسلني مادام نهار،
يأتي ليل حين لا يستطيع أحد أن يعمل“. [4]
كانت لحظات حاسمة حين تطلع رب المجد يسوع إلى المولود أعمى. إنها ليست لحظات لشفاء عيني المولود أعمى فحسب، وإنما للكشف عن شخص السيد المسيح أنه نور العالم واهب البصيرة الداخلية، ومع هذا لم يستطع أحد أن يكتشف ما وراء هذا العمى. لم يكن ممكنًا حتى تلك اللحظات لتلاميذ السيد المسيح أن يقرأوا ويفهموا كتاب العناية الإلهية، لكنه جاء الوقت فيما بعد لإدراك هذا السرّ الإلهي، وللتعرف علي العمل الإلهي الفائق.
إنه لم يتقدم للعمل لإبراز قدرته على صنع عجائب، وإنما ليمارس أعمال أبيه الذي أرسله. لم يقل أمارس الأعمال التي أمرني بها أبي، وإنما يمارس ذات أعمال أبيه. ويلاحظ هنا الآتي:
أولاً: جاء إلى العالم لمهمة عمل، يحقق إرادة أبيه في طاعة كاملة كابن الإنسان، وهي ذات إرادة الابن. لهذا فمن يطيع، إنما يشارك مسيحنا طبيعة الطاعة.
ثانيًا: يمارس ذات عمل الآب، وهذا ما يؤكده السيد المسيح في إنجيل يوحنا في وحدة العمل الإلهي، كما سنرى في عبارات قادمة واضحة.
ثالثًا: بروح الحب للبشرية والطاعة والوحدة مع الآب يجد مسرة في تحقيق هذا العمل، بل والتزام محبة، إذ يقول: “ينبغي أن أعمل”.
رابعًا: يعمل مادام نهار قبل أن يتحرك اليهود بالحقد والكراهية لقتل السيد المسيح. فترة خدمته هي فرص للعمل الظاهر حتى وإن كان الوقت سبتًا. هذه دعوة لنا للتحرك بالعمل، وانتهاز كل ساعات عمرنا لئلا ينتهي نهار عمرنا ولا نحقق رسالتنا. لقد وهبنا الله النهار للعمل (مز ١٠٤: ٢٢–٢٣)، لذا يليق بنا ألا نلهو في نهار عمرنا ولا نفسده، بل نجاهد في طاعة لله أبينا حتى متى حل المساء صار لراحتنا.
خامسًا: يدعونا نحن أيضًا أن نعمل به ومعه، وكما يقول الرسول: “العاملان مع الله” (١ كو ٣: ٩). ففي العمل معه راحة وكرامة ومجد، نشترك معه في العمل مادمنا في الحياة قبل أن يحل الليل.
- ماذا تعني تلك الكلمات؟ ما هي النتائج المترتبة عليها؟ كثيرة. لأن ما يقوله هو نوع من هذا: مادام نهار حيث يمكن للشعب أن يؤمن بي، مادامت هذه الحياة لازالت قائمة يلزمني أن أعمل. يأتي ليل، بمعنى أنه في المستقبل حيث لا يقدر أحد أن يعمل. لم يقل: “أنا لا أقدر أن أعمل”، بل “لا يقدر أحد أن يعمل”، بمعنى انه لا يعود يوجد إيمان ولا أعمال ولا توبة[7].
- لماذا دعا بولس هذه الحياة “ليلاً”؟ (رو ١٣: ١٢) وهنا دعاها السيد “نهارًا””؟ إنه لا يتحدث بما يعارض المسيح، إنما يقول نفس الشيء، وإن كان ليس في الكلمات لكن في المعنى. إنه يقول: “قد تناهى الليل وتقارب النهار”. دعا الوقت الحاضر ليلاً، لأنه يقرنه بالنهار المقبل. دعا المسيح المستقبل “ليلاً” لأنه لا يوجد مكان لأعمال التوبة والإيمان والطاعة في العالم المقبل إن أُهملت خطية ما هنا. أما بولس فيدعو الحياة الحاضرة ليلاً، لأن من يستمر في شره وعدم إيمانه فهو في ظلمة. فإذ يوجه الحديث إلى المؤمنين قال: “قد تناهى الليل وتقارب النهار”، إذ يلزمهم أن يتمتعوا بذاك النور؛ إنه يدعو الحياة القديمة ليلاً. “فلنخلع أعمال الظلمة، ونلبس أسلحة النور”[8].
القديس يوحنا الذهبي الفم
هكذا إذ يوجه السيد المسيح حديثه إلى غير المؤمنين يحسب حياتهم هنا نهارًا إن قورنت بحياتهم في العالم المقبل. الآن وقت يمكن لهم أن يتمتعوا بنور شمس البرٍّ في أعماقهم بالإيمان الحي والتوبة الصادقة؛ أما في العالم العتيد فتحيط بهم الظلمة، حيث لا مجال للرجوع إلى المخلص وتقديم توبة. أما الرسول بولس فيوجه حديثه إلى المؤمنين حاسبًا حياتهم الماضية ليلاً حيث كانوا يسلكون في أعمال الظلمة، وقد حان وقت الرحيل إلى العالم المقبل حيث يتمتعون بنور المسيح الأبدي، الذي أمامه تحسب الحياة هنا أشبه بليلٍ دامس.
- يا اخوة، إن وضعنا في الاعتبار عقوبتنا الموروثة، فالعالم كله أعمى. وقد جاء المسيح واهب الاستنارة، لأن الشيطان هو الذي يسبب العمى. لقد جعل كل البشرية مولودين عميانًا، ذاك الذي خدع الإنسان الأول. ليجروا نحو واهب الاستنارة. ليجروا ويؤمنوا ويتقبلوا الطين الذي من البصاق… ليغسلوا وجوههم في بركة سلوام… هوذا سلوام، أغسل وجهك، اعتمد، حتى تستنير وترى يا من كنت قبلاً لا ترى[9].
- أولا: افتح عينيك لمن قال: “جئت لكي أعمال الذي أرسلني” (راجع يو ٩: ٤). الآن يقف الأريوسي في الحال ويقول: “هنا كما ترى لم يفعل المسيح أعماله هو بل أعمال الآب الذي أرسله”… هل هذه الأعمال ليست أعماله؟ ماذا يقول الذي هو نفسه سلوام، المُرسل نفسه، الابن نفسه، الابن الوحيد، الذي تشتكي له مقللاً من شأنه؟ ماذا يقول: “كل ما للآب هو لي” (يو ١٦: ١٥)… فإنه لم يقل: “كل ما للآب قد أعطاني”. مع أنه حتى إن قال هذا يظهر أيضًا مساواته له… اسمع في موضع آخر: “وكل ما هو لي فهو لك، وما هو لك فهو لي” (يو ١٧: ١٠). التساِؤل ينتهي، فإن ما للآب والابن هو كما باتفاقٍ واحدٍ، فلا تُدخل شقاقًا. ما يدعوه “أعمال الآب” هي أعماله هو، فإن ما هو لك فهو لي… “لأنه مهما عمل ذاك فهذا يعمله الابن كذلك (وبنفس الطريقة)” (يو ٥: ١٩)[10].
القديس أغسطينوس
يقدم لنا السيد المسيح نفسه مثالاً، بل ونائبًا عنا، حتى متى اختفينا فيه نمارس ذات عمله بذات روحه. لم يكن محتاجًا إلى جهاد، لأنه يعمل عمل أبيه بكل مسرة داخلية بالرغم من المقاومة المستمرة ممن حوله. إنه ينبغي أن يعمل حتى خلال اتحادنا به، لا نكف عن الجهاد والشعور بالالتزام بالعمل قبل أن يحل بنا ليل الموت وينتهي نهار زماننا على الأرض.
“مادمت في العالم فأنا نور العالم“. [5]
يعمل السيد المسيح مادام الوقت نهار، أي مادام يمكننا أن نتمتع بأعماله الخلاصية، لأنه إذ ينتهي النهار ويحل ليل القبر لا يمكن الانتفاع بعد بأعماله، حيث لا مجال لتوبتنا ورجوعنا إليه. في نهار حياتنا يشرق علينا بكونه “نور العالم“، شمس البرّ الذي ينير نفوسنا وأذهاننا وكل أعماقنا.
سبق فأعلن أن عمله هو إشراق نوره على الجالسين في الظلمة (يو ٨: ١٢)، فهو شمس البرّ واهب الاستنارة والشفاء خلال أشعة حبه أو تحت جناحيه. كرأس للكنيسة يحول مؤمنيه إلى “نورٍ للعالًم” ليس لهم إلاَّ أن يحترقوا بنار الحب الإلهي من أجل الآخرين.
- قال هذا لنؤمن بأنه يتحدث عن التجسد، فإنه مادام هو إنسان. إنه في هذا العالم إلي حين، لكنه بكونه الله يوجد في كل الأزمنة. يقول في موضع آخر: “هاأنذا معكم كل الأيام وإلي كمال الدهر” ( مت 28:20)[11].
القديس أمبروسيوس
- هنا يُظهر انه حتى بعد الصليب يهب رعايته الحانية للأشرار، ويجذب كثيرين إليه. فإنه لا يزال الوقت نهار [4]. ولكن بعد هذا فسيقطعهم تمامًا. يعلن عن هذا بقوله: “مادمت في العالم فأنا نور العالم“. (يو 9: 5]. كما قال لآخرين: “مادام لكم النور آمنوا بالنور” (يو 12 :36)[12].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- الابن الوحيد الجنس هو نور ليس فقط للعالم، بل ولكل خليقة علوية[13].
القديس كيرلس الكبير
- يُلقب “نور العالم” (يو ٩: ٥) لأجل عمله في إنارة العالم، الذي فيه هو النور.
ويُدعى القيامة إذ ينزع عن للذين يقتربون إليه بإخلاص ما هو ميت ويقيم فيهم خبرة الحياة.
وبسبب أعمال أخرى دُعي “الراعي” (يو ١٠: ١١، ١٢)، والمعلم (يو ١٣: ١٣)، والملك (زك ٩: ٩؛ مت ٢١: ٥؛ يو ١٢: ١٥)، والسهم المختار (مز ٤٤: ٦؛ إش ٤٩: ٢)، والعبد (إش ٤٩:٣)، بالإضافة إلى الشفيع والكفارة (١ يو ٢: ١ – ٢؛ رو ٣: ٢٥)، كما يدعى أيضًا اللوغوس، إذ ينزع عنا كل ما هو غير عاقل alogon، ويجعلنا بحق كائنات عاقلة نعمل كل شيء لمجد الله، حتى الأكل والشرب (١ كو ١٠: ٣١)، فنتمم الأعمال العامة والكاملة في الحياة لمجد الله، وذلك بسبب التعقل. إن كنا بالشركة معه نقوم ونستنير، وأيضًا يرعانا ويدبر حياتنا، فمن الواضح أننا أيضًا نصير عاقلين بطريقة إلهية عندما يحطم فينا كل ما هو ليس عاقل irrational وما هو ميت بكونه هو الكلمة والقيامة (يو ١: ١، ١١: ٢٥)[14].
العلامة أوريجينوس
- ما هو ذاك الليل الذي متى حل لا يقدر أحد أن يعمل؟ اسمعوا ما هو هذا النهار، وعندئذ ستفهمون ما هو الليل… دعوه هو يخبرنا: “مادمت في العالم فأنا نور العالم” [٥]. انظروا هو نفسه النهار. دع الأعمى يغسل عينيه في النهار، لكي يرى النهار… إذن سيكون ليل من نوع ما هو عدم معرفة الشخص لي؛ حيث لا يكون بعد المسيح هناك، فلا يقدر أحد أن يعمل[15].
- إنه ليل الأشرار، ليل أولئك الذين سيُقال لهم في النهاية: “ابعدوا إلى النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته”.
الآن يعمل الإيمان بالحب، فإن كنا الآن نعمل – فيكون الآن نهارًا – إذ المسيح حاضر هنا.
اسمعوا وعده، ولا تظنوا أنه غائب. إنه بنفسه قال: “ها أنا معكم”. إلى متى؟ ليتنا لا نقلق نحن الأحياء؛ حيث هذا ممكن إذ نكون في أمان كامل بكلمته في الأجيال القادمة.
إنه يقول: “هذا أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر” (مت ١٨: ٢٠). يوجد وقت للعمل وآخر لنوال الأجرة، فإن الرب سيكافئ كل واحدٍ حسب أعماله (مت ١٦: ٢٧).
مادمتم تعيشون اعملوا… فسيأتي ليل مرعب يغشى الأشرار في ثناياه. الآن كل غير مؤمن يموت يدخل في ليلٍ، حيث لا يوجد عمل يمكن أن يُفعل. في ذلك الليل كان الغني يحترق ويتألم ويعترف، لكنه لم ينل أية راحة. لقد حاول أن يفعل صلاحًا إذ قال لإبراهيم: “يا أبي إبراهيم، أرسل لعازر إلى اخوتي ليخبرهم ما يحدث هنا، لئلا يأتوا هم أيضًا إلى موضع العذاب هنا” (راجع لو ١٦: ٢٧–٢٨).
يا له من إنسان شقي! عندما كنت عائشًا كان وقت للعمل، الآن أنت في ليلٍ، حيث لا يقدر إنسان أن يعمل[16].
القديس أغسطينوس
“قال هذا وتفل على الأرض،
وصنع من التفل طينًا،
وطلى بالطين عيني الأعمى“. [6]
طريقة شفاء المولود أعمى فريدة، فمن المعروف أن الطين يفسد العين السليمة، فكيف يصنع من التفل طينًا ليطلي به عيني المولود أعمى؟ ولماذا لم ينتظر ليشفيه خفية حتى لا تهيج القيادات الدينية؟ وأيضًا لم ينتظر حتى يعبر السبت ليشفيه؟
أولاً: يؤكد السيد المسيح أنه يتمم عمله بحسب فكره الإلهي وليس حسب رغبتنا ووسائلنا البشرية.
ثانيًا: ما يشغله هو وهب الأعمى بصرًا لعينيه، وبصيرة لقلبه، دون اهتمام بمقاومة القيادات اليهودية له.
ثالثًا: لم ينتظر حتى يعبر السبت، لأن السبت هو يوم الراحة، فتستريح نفس المسيح بالعمل الإلهي واهب الاستنارة والراحة للغير.
رابعًا: يقدم نفسه مثلاً ألا نؤجل عمل الخير إلى الغد، بل ننتهز كل فرصة لنسرع إلى عمل الخير لئلا لا توجد هذه الفرصة في الغد.
خامسًا: صنع من التفل طينًا وطلى عينيه بيديه، ليؤكد أن سرّ القوة في المسيح نفسه، وفي عمل يديه. كل ما يصدر عن المسيح فيه قوة وحياة واستنارة، فإن يده قديرة.
- لاحظوا أنه عندما أراد أن يشفيه نزع عماه بأمرٍ يزيد العمى، إذ وضع طينًا[17].
- أخذ ترابًا من الأرض وذلك بنفس الطريقة هو يخلق (آدم). حقًا لو أنه قال: “أنا هو الذي أخذ ترابًا من الأرض وشكل الإنسان”، لكان الأمر شاقًا وبغيضًا على سامعيه أن يحتملوه. لكنه إذ أظهر الأمر خلال العمل الواقعي لا يقف شيء أمامه. لذلك إذ أخذ ترابًا ومزجه باللعاب يًعلن مجده الخفي. فإنه ليس بالمجد الهين أن يؤمنوا أنه صانع الخليقة[18].
- إن سألت: لِم لم يستعمل السيد المسيح ماءً في الطين الذي أصلحه، بل استعمل لعابه؟ أجبتك: لكى لا يُنسب الشفاء إلى الينبوع، بل لكى تعرف أن القوة الظاهرة من فمه هي التي أبدعت عيني الأعمى وفتحتهما.
القديس يوحنا الذهبي الفم
- منحه عينين جديدتين[19].
القديس بولينوس
- صنع العينين من الطين.
انبعث النور من التراب،
وذلك كما حدث في البداية…
أمر النور، فُولد من الظلمة.
هكذا هنا أيضًا.
صنع طينًا بلعابه،
وقدم كمالاً لما كان ناقصًا في الخليقة، وذلك منذ البداية،
ليظهر أن ما كان في يديه هو أن يقدم كمالاً لما هو ناقص في الطبيعة…
وإذ كانوا لا يريدون أن يؤمنوا أنه قبل إبراهيم.
برهن لهم بالعمل أنه ابن ذاك الذي شكلت يداه آدم الأول من التراب[20].
مار افرام السرياني
- فإذ صنع من التفل طينًا طلى بالطين أعيننا (يو 6:9، 7)، وجعلنا نبصر جليًا (مر 25:8) وفتح آذان (راجع مر 33:7-35) قلوبنا، حتى إذ صارت لنا آذان نسمع (راجع متى 11: 15، 13: 19). وإذ نشتم رائحته الذكية (راجع أف 5؛ 2 كو 15:2)، مميزين اسمه كرائحة طيب مسكوب (نش 1: 3، في 2) وإذ ذقنا ونظرنا ما أطيب الرب (1 بط 3:2، مز 34 [33]: 8) وإذ لمسناه بتلك اللمسة التي يتحدث عنها يوحنا: “الذي كان من البدء، الذي سمعناه، الذي رأيناه بعيوننا، الذي شاهدناه ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة” (1 يو 1:1)، صار في إمكاننا حينئذ أن نذبح الحمل ونأكله، فنخرج بهذا من مصر[21].
العلامة أوريجينوس
“وقال له:
اذهب اغتسل في بركة سلوام الذي تفسيره مرسل،
فمضى واغتسل وأتى بصيرًا“. [7]
سلوام: تدعى أيضًا شيلوه Siloo, Siloe, Shilooh، وهي عبارة عن ينبوع كان تحت حصون أورشليم نحو الشرق، ما بين المدينة وجدول مياه قدرون. يرى البعض أن سلوام هي بنفسها عين روجل الواردة في يش ١٥: ٧؛ ١٨: ٦؛ ٢ صم ١٧: ١٧؛ ١ مل ١: ٩. كانت مياه هذا الينبوع تجمع في مخزن عظيم لاستخدام المدينة، وكان يصدر عنه مجرى ماء يغذي بركة بيت صيدا.
كانت هذه البركة تستمد المياه من ينبوع صادر عن جبل صهيون، فكانت مياه الهيكل “نهر سواقيه تفرح مدينة الله مقدس مساكن العلي” (مز ٤٦: ٤). إنها مياه حية شافية (حز ٤٧: ٩).
“الذي تفسيره مرسل“، إذ الاسم مشتق من العبرية Shalach وتعني “أرسل”، إما لأنهم كانوا يتطلعون إلى هذا الينبوع كعطية مرسلة من قبل الله لأجل استخدام مياهه في المدينة، أو لأن مياهها كانت تُرسل خلال قنوات أو أنابيب إلى جهات متباينة. يرى البعض أن الاسم يشير إلى نبوة يعقوب ليهوذا عن مجيء السيد المسيح من نسله: “حتى يأتي شيلون وله يكون خضوع الأمم” (تك ٤٩: ١٠)، فهي رمز للسيد المسيح المُرسل من قبل الآب لإنارة النفوس وشفائها.
كان السيد المسيح يُدعى المُرسل، إذ هو رسول العهد (ملاخي ٣: ١)، ويكرر السيد في إنجيل يوحنا أن الآب قد أرسله. هكذا إذ يدعو الأعمى أن يذهب إلى بركة سلوام أو المرسل، إنما يدعو كل نفس تحتاج إلى الاستنارة أن تذهب إليه، إذ هو المُرسل الذي يطهر الإنسان من الخطية، ويشرق بنوره عليه، فيتمتع بالمعرفة السماوية، ولا تعود للظلمة موضع فيه.
- كما أن المسيح كان الصخرة الروحية (١ كو ١٠: ٤) هكذا كانت أيضًا سلوام الروحية[22].
القديس يوحنا الذهبي الفم
أبرز السيد المسيح طاعة هذا الأعمى، فمن جهة ترك ربنا يسوع المسيح الذي لم يره من قبل أن يصنع طينًا على عينيه دون أن يتذمر، أو حتى يتساءل كيف تُشفى عينان بالطين؟ ومن جهة أخرى أطاع وذهب إلى بركة سلوام واغتسل فيها، وربما سبق فاغتسل فيها ولم يتمتع بالبصر، وحتمًا كثيرون اغتسلوا بمياه سلوام ولم يُسمع عن أعمى قد شُفي بمياهها. لقد أعلن السيد عن فضائل هذا الأعمى المسكين كيف أطاع في يقين وثقة وهدوء.
- لاحظوا فكر الأعمى، كان مطيعًا في كل شيء. إنه لم يقل: إن كان بالحق الطين واللعاب يهبني عينين، فما الحاجة إلى سلوام؟ إن كانت هناك حاجة إلى سلوام فما الحاجة إلى الطين؟ لماذا هو يدهنني (بالطين)؟ ولماذا يأمرني أن أغتسل؟ إنه لم يفكر في مثل هذه الأمور. لقد هيأ نفسه لأمرٍ واحدٍ وهو الطاعة في كل شيء لذاك الذي قدم له الأمر، وألا يفعل شيئًا مضادًا له[23].
القديس يوحنا الذهبي الفم
تمتع المولود أعمى بالبصر الذي لم يتمتع به قبلاً، وكأنه قد نال ميلادًا جديدًا يختلف عن مولده السابق. بركة سلوام كانت تشير إلى مياه المعمودية التي تهب مع التطهير وغفران الخطايا استنارة داخلية.
كانت المياه تشير إلى العصر المسياني أو مملكة بيت داود: “لأن هذا الشعب رذل مياه شيلوه الجارية بسكوت…” (إش ٨: ٦).
عاد الأعمى بصيرًا، يرى ما لا يُرى، مسبحًا بكل كيانه ذاك الذي وهبه الاستنارة. وكما قيل بإشعياء النبي: “صوت مراقبيك يرفعون صوتهم، يترنمون معًا لأنهم يبصرون عينًا لعين عند رجوع الرب إلى صهيون” (إش ٥٢: ٨).
- يقول السيد المسيح للأعمى اذهب اغتسل في بركة سلوام، فإن قلت: لِم لم يعمل السيد المسيح هذا العمل في الحال، بل أرسل الأعمى إلى بركة سلوام؟ أجبتك: ليُعرف إيمان الأعمى، ولكي يُبكم مكابرة اليهود، ولأنه كان واجبًا أن يبصره كل من التقى به ذاهبًا إلى البركة مشتملاً الطين على عينيه. إذ بهذا المنظر الغريب يجتذب الكل إليه، سواء الذين كانوا يعرفونه أو الذين لم يكونوا يعرفونه، فالكل يلاحظه بكل دقة. وإذ ليس من السهل أن يُعرف الأعمى بعد تفتيح عينيه (إذ تتغير ملامحه) لذلك جعل السيد أولاً شهودًا كثيرين بطرق مختلفة، وبالمنظر الغريب يلاحظونه بدقة… حتى لا يمكنهم بعد المعجزة أن يقولوا أن هذا ليس هو.
القديس يوحنا الذهبي الفم
- غسل عينيه في تلك البركة التي تفسيرها “مرسل”. إنه اعتمد في المسيح. لذلك إذ عمده بطريقة ما فيها استنارة، وعندما مسحه (بالطين) ربما جعله موعوظًا[24].
القديس أغسطينوس
يرى القديس أغسطينوس في صنع الطين بالتفل إشارة إلى أن الكلمة صار جسدًا[25].
2 – حوارات بعد الشفاء
أ. حوار بين الجيران والأعمى
الجيران وهم شهود عيان لما حدث يعرفون الأعمى تمام المعرفة. بسبب عظمة المعجزة وعدم توقعهم لحدوثها، مروا بثلاث مراحل من الشك، أوجدت ثلاث تساؤلات:
المرحلة الأولى: تشككهم في الشخص نفسه [٨] فأكد لهم الأعمى أنه هو [٩].
المرحلة الثانية: من الذي قام بها؟ وكانت الإجابة: إنسان يقال له يسوع [١١].
المرحلة الثالثة: أين هو؟ وجاءت الإجابة: “لا أعلم” [١٢].
كان الأعمى دقيقًا ومخلصًا للغاية في إجاباته على الأسئلة الثلاثة قدر معرفته في ذلك الحين.
“فالجيران والذين كانوا يرونه قبلاً أنه كان أعمى قالوا:
أليس هذا هو الذي كان يجلس ويستعطي؟” [8]
دُهش جيرانه فقد وُلد ونشأ في وسطهم، واعتادوا أن يروه أعمى، وغالبًا ما كان يجلس مستعطيًا في بؤس، الآن فجأة صار بصيرًا، وصار بصره كاملاً، يسير هنا وهناك متهللاً. ذاك الذي لم يكن قادرًا على العمل بسبب عماه ونفسيته المحطمة، ولم يكن والداه قادرين على إعالته لذا كان يستعطي وهو جالس في الطريق أغلب يومه. لقد تغيرت حتى لهجته، وكلماته، فعوض كلمات الاستعطاف لكي ينال صدقة، صارت كلمات تحمل تسبيحًا وشكرًا. هذا وقد تمت معجزة شفائه علانية، ولم تكن خفية! مع هذا فقد تشكك البعض في شخصه، وتضاربت الأقوال، لأن شفاء مولود أعمى أمر يصعب قبوله، بل ومستحيل حسب الفكر البشري.
- يا لحنو الله! أينما نزل بحنوه العظيم شفى حتى الشحاذين، وهكذا أبكم اليهود، فإنه لم يأخذه في اعتباره الأشخاص المشهورين أو البارزين أو الحكام، بل الذين يبدو كمن لا يتأهلون لنوال نفس الرعاية. فقد جاء لخلاص الكل[26].
القديس يوحنا الذهبي الفم
“آخرون قالوا:
هذا هو،
وآخرون إنه يشبهه،
وأما هو فقال: إني أنا هو“. [9]
ربما الذين قالوا: “هذا هو” هم الذين عاينوا ما حدث معه، إذ تم كل شيء علانية، أما الآخرون فلم يصدقوا قائلين: “إنه يشبهه“، لأن تفتيح عينيه أعطاه شكلاً مغايرًا تمامًا عما كان عليه. وبقوله “إني أنا هو“، يشهد أنه هو ذاك الذي كان قبلاً يستعطف حنو الناس الآن يتمتع بغنى نعمة الله الفائقة.
- لم يخزَ من عماه الأول، ولا خشي غضب الجمع، ولا استعفى من إظهار ذاته لينادي بمن أحسن إليه.
القديس يوحنا الذهبي الفم
“فقالوا له:
كيف انفتحت عيناك؟” [10]
إذ شهد الأعمى أنه هو الذي نال نعمة الشفاء تساءل الجيران عن كيفية شفائه، لكي يتعرفوا على صانع المعجزة، ويبحثوا عنه. وكما يقول المرتل: “عظيمة هي أعمال الرب، مطلوبة لكل المسرورين بها” (مز ١١١: ٢).
“أجاب ذاك وقال:
إنسان يقال له يسوع صنع طينًا وطلى عيني،
وقال لي: اذهب إلى بركة سلوام واغتسل،
فمضيت واغتسلت، فأبصرت“. [11]
لقد قدم الحقيقة في بساطة حسب خبرته فقال: “إنسان يُقال له يسوع صنع طينًا...” لم يكن قد سبق فرأى يسوع لكنه سمع عنه، وسمع صوته حين أمره أن يغتسل في بركة سلوام، لقد شعر بأنه وضع شيئًا على عينيه اكتشف بعد شفائه أنه طين، وأن يسوع قد صنعه بنفسه وطلى به عينيه.
- انظروا لقد صار مبشرًا بالنعمة. انظروا إنه يكرز بالإنجيل؛ إذ نال البصيرة صار معترفًا. صار ذاك الأعمى معترفًا، فاضطربت قلوب الأشرار، إذ لم ينالوا في قلوبهم ما ناله هذا في محياه[27].
القديس أغسطينوس
“فقالوا له:
أين ذاك؟
قال لا أعلم.” [12]
جاء سؤالهم الثاني: “أين ذاك؟” هل عن تشكك في شخص صانع المعجزة لأنه كسر الناموس وحرض على الكسر. فمن جانبه صنع طينًا وطلى به العينين، ومن جانب آخر أمر الأعمى أن يسير حتى البركة ويغتسل. وربما تساءل البعض كنوعٍ من حب الاستطلاع ليروا أين ذلك القادر أن يفعل هذا، وربما وُجد من تساءل عن إخلاص ليلتقي به.
أجاب الأعمى: “لا أعلم“، إذ يبدو أن السيد انسحب للحال بعد أن أمره بالذهاب إلى بركة سلوام، ولم ينتظر حتى يرجع ليقدم الشكر. فإن مسرة السيد المسيح هي في العطاء المجاني دون انتظار لكلمة مديح أو شكر. وإن عاتب على عدم الشكر فهو من أجل الآخرين، إذ يريدهم شاكرين فرحين مسبحين كالملائكة.
- لاحظوا تواضع المسيح، فإنه لم يستمر مع من يشفيهم، لأنه لم يطلب أن يحصد مجدًا، ولا أن يجتذب الجماهير، ولا أن يظهر نفسه[28].
القديس يوحنا الذهبي الفم
ب. حوار بين الفريسيين والأعمى
“فأتوا إلى الفريسيين بالذي كان قبلاً أعمى“. [13]
كنا نتوقع أن ينشغل الجيران بالبحث عن صانع المعجزة ليتعرفوا عليه ويتمتعوا به، لكنهم أمسكوا بالأعمى وأتوا به إلى الفريسيين، وكأنه مشترك في جريمة. قادوه كمتهمٍ أنه قبل كسر السبت حتى ولو كان فيه خلق لعينيه.
كان الموضوع أكبر من أن يعرض على كاهن أو أكثر، فإذ هو يمس الشعب ككل قادوه إلى مجلس السنهدرين صاحب القرار الأخير والقاطع في ذهن الشعب. كان أغلب أعضائه من الفريسيين، وكان أكثرهم يبذلون كل الجهد لمقاومة يسوع. ولعل البعض أتوا به إلى المجلس ليظهروا الحق، ويكشفوا للفريسيين أن ذاك الذي يقاومونه قد خلق عيني للمولود أعمى، فيلتصقوا به عوض مقاومتهم له.
يرى البعض أن كلمة “الفريسيين” هنا تعني هيئة فرعية منبعثة عن مجمع السنهدرين الذي يضم رؤساء الكهنة مع الفريسيين. يضم المجمع هيئتين كل منهما تضم ٢٣ عضوًا، وكان لكل منهما حق المحاكمة في بعض القضايا. كان يوجد في المدن الكبرى هيئة مماثلة.
“وكان سبت حين صنع يسوع الطين وفتح عينيه“. [14]
“فسأله الفريسيون أيضًا كيف أبصر.
فقال لهم: وضع طينًا على عيني واغتسلت،
فأنا أبصر“. [15]
قدم الفريسيون ذات السؤال الذي وجهه إليه جيرانه، ولم يكن هذا بقصد التعرف على الحقيقة من مصدرها الأصلي، وإنما لعلهم يجدون علة يشتكون بها على شخص يسوع، ويشوهون بها صورته أمام الجمهور الذي التف حوله.
- تأمل كيف لم يضطرب الأعمى، فلم ينكر، ولم يقل أقوالاً مخالفة لأقواله الأولى، إذ أن الفريسيين والناس الآخرين ساقوا الأعمى على أن يكون جاحدًا من شفاه، فأصابهم ما لم يريدوه بخلاف أملهم، وعرفوا أعجوبة السيد المسيح أبلغ معرفة، وقد أصابهم هذا المصاب في كل موضع من آياته.
القديس يوحنا الذهبي الفم
جاءت إجابته على الفريسيين مشابهة لإجابته على جيرانه غير أنه لم يذكر عن السيد المسيح “صنع طينًا”، ربما لأنه لم يره وهو يصنع طينًا، حتى ولو كان بالترياق، فلم يرد أن يذكر في مجمع رسمي شهادة يمكن أن يعترضوا عليها: كيف رأى يسوع يصنع طينًا وهو أعمى؟ ولعله لم يذكر لأن صنع الطين هو عمل، فلم يرد أن يمسك اليهود على يسوع أنه كاسر السبت. ولنفس السبب لم يذكر عبارة: “وقال لي…” حتى لا يُتهم السيد المسيح كمحرضٍ على كسر الناموس بالذهاب إلى بركة سلوام والاغتسال فيها. وفي نفس الوقت في جرأة قال: “اغتسلت” ولم يخشاهم!
“فقال قوم من الفريسيين:
هذا الإنسان ليس من الله،
لأنه لا يحفظ السبت.
آخرون قالوا:
كيف يقدر إنسان خاطئ أن يعمل مثل هذه الآيات؟
وكان بينهم انشقاق“. [16]
خلق عيني الأعمى كان كفيلاً أن يبكم المقاومين، لكن حدث شقاق في المجمع، فبعض الأعضاء الحرفيين في العبادة والمنشغلين بالمجد الباطل حسبوه كاسرًا للسبت، أو كاسرًا للوصية الإلهية، وعوض التمتع بشخص يسوع اضطهدوه كمجرمٍ: “هذا الإنسان ليس من عند الله“. والفريق الآخر رأوا في عمله حب فائق وتنفيذ للوصية، وأن الشفاء علامة صادقة على صدق رسالته. غير أن هذا الفريق كان يمثل قلة قليلة لا تستطيع الوقوف أمام الغالبية الثائرة.
في ختام كل تعليم أو معجزة غالبًا ما كان يحدث انشقاق بين الجموع، وكان المقاومون يحتكمون لدى الفريسيين كقضاة وأصحاب سلطة دينية. أما هنا فالانشقاق بين القضاة أنفسهم، وربما هذا أدى إلى تأجيل الحكم في أمر يسوع المسيح.
- يقول يوحنا البشير “وكان بينهم انشقاق” لأن بعضهم منعهم حبهم للرئاسة عن المجاهرة بالسيد المسيح، وبعضهم أسكتهم جبنهم وخوفهم من الكثيرين.
القديس يوحنا الذهبي الفم
لقد تعمد أن يشفي مفلوج بيت حسدا في يوم سبت ويأمره أن يحمل سريره ويمشي (يو ٥: ٨)، وأن يشفي المولود أعمى بصنع الطين وطلاء عينيه، فقد جاء في كتاب الجمارا[29] أن من يضع دواءً داخل العين في يوم سبت يُحسب ذلك خطية، وأمره أن يذهب إلى بركة سلوام ليغتسل. وكما يقول لايتفوت Lightfoot أن يسوع المسيح كسر السبت من نواحٍ كثيرة. أما كان يمكن أن يحقق الشفاء في غير السبت، وبدون هذه الأعمال؛ فلماذا أصر على الشفاء في السبت؟ لقد فعل ذلك لإبراز مفهوم السبت، إنه راحة في الرب، في ممارسة عمل الرب من حب ورحمة، وليس في حرفية قاتلة بالامتناع عن الأعمال اليومية الضرورية وأعمال المحبة.
- الذين طردوه استمروا عميانًا، إذ أثاروا اعتراضات على الرب أنه كان سبت عندما صنع طينًا من التفل وطلي عيني الأعمى. فعندما شُفي الأعمى بكلمة، فتح اليهود بابًا لإثارة اعتراضات…
لقد كسر الرب السبت (حرفيًا) لكنه لم يكن مذنبًا.
ماذا يعني قولي: “لقد كسر السبت”؟ هو النور الذي جاء فأزال الظلال. فقد فرض الرب الإله السبت. فرضه المسيح نفسه الذي كان مع الآب عندما أُعطي الناموس، لقد فرضه كما في ظلٍ لما يحدث بعد ذلك. “فلا يحكم عليكم أحد في أكل أو شرب أو من جهة عيد أو هلال أو سبت التي هي ظل الأمور العتيدة” (كو ٢: ١٦، ١٧)…
لماذا تبهجنا الظلال؟ افتحوا أيها اليهود أعينكم، فإن “الشمس” حاضرة.
“نحن نعلم” [٢٤]. ماذا تعلمون أيها العميان القلب؟ “إن هذا الإنسان ليس من الله، لأنه لا يحفظ السبت” [١٦].
السبت أيها التعساء عينه هو الذي وضعه المسيح الذي تقولون عنه أنه ليس من الله. أنتم تحفظون السبت بطريقة جسدانية، إنه ليس لكم تفل المسيح على أعينكم، أنتم لم تأتوا إلى سلوام، ولم تغسلوا وجهكم وتستمرون عميانًا. إنكم عميان عن الصلاح الذي لهذا الأعمى الذي لم يعد بعد أعمى لا بالجسد ولا بالقلب… “لدينونة أتيت أنا إلى هذا العالم حتى يبصر الذين لا يبصرون، ويعمى الذين يبصرون” [٣٩][30].
- بالأحرى لقد حفظ السبت، إذ كان بلا خطية. فإن هذا هو السبت الروحي، أن يكون الشخص بلا خطية.
في الحقيقة يا اخوة هذا ما حثنا عليه الله عندما أمرنا بالسبت: “عملاً ما من الشغل (العبودية) لا تعملوا” (لا ٢٣: ٨). الآن ارجعوا إلى الدروس السابقة واسألوا ماذا يعني بعمل العبودية servile work، وأصغوا إلى الرب: “إن كل من يعمل الخطية هو عبد للخطية” (يو ٨: ٣٤)[31].
القديس أغسطينوس
“قالوا أيضًا للأعمى:
ماذا تقول أنت عنه من حيث أنه فتح عينيك؟
فقال: إنه نبي“. [17]
لقد ألقوا بالشباك أمام الأعمى لكي ينكر أن يسوع هو المسيا، حتى لا يتعرض للطرد من المجمع وربما للقتل.
بعد استفسارهم عن طريقة شفائه سألوه عمن وهبه الشفاء، وما رأيه الشخصي فيه، وفي تصرفاته. كانوا يضغطون عليه ليجيب ولو بالسلبية كما فعل والداه، فيقول أنه قدم معلوماته عن شفائه، وأنه يترك التقرير في يد القيادات الدينية ليحكموا. لكنه خيَّب آمالهم وكرَّم واهب الشفاء. بحسب قانونهم الجديد حكموا عليه بالطرد ليكون مثلاً يُعتبر منه الآخرون.
كان هذا الأعمى مثل المرأة السامرية (يو ٤: ١٩)، كلاهما ظنا أنه نبي قبل أن يتعرفا على حقيقة شخصه أنه المسيا “قدوس القديسين” واهب البرّ الأبدي. لقد بدأ النور يشرق في قلبه، في بصيرته الداخلية كما أشرق في عينيه الجسديتين. بقوله: “إنه نبي” خشي الفريسيون من إدراك ما ورد في سفر دانيال أن القادم بعد قرابة ثلاثة قرون والشعب في ظلمة بلا نبي من قبل الله خاتم الرؤى والنبوات، المسيا الأبدي الذي تنتظره كل الأجيال. “سبعون أسبوعًا قضيت على شعبك وعلى مدينتك المقدسة، لتكميل المعصية، وتتميم الخطايا، ولكفارة الإثم، وليؤتي بالبرّ الأبدي، ولختم الرؤيا والنبوة، لمسح قدوس القديسين” (دا ٩: ٢٤).
- لاحظوا حكمة الرجل الفقير فقد تحدث بأكثر حكمة من جميعهم. قال أولاً: “إنه نبي” [١٧]. إنه لم يخشَ حكم اليهود والمعارضين الذين هم ضد السيد، القائلين: “هذا الإنسان ليس من الله، لأنه لا يحفظ السبت” [١٦]. لقد أجابهم: “إنه نبي“[32].
القديس يوحنا الذهبي الفم
ج. حوار بين الفريسيين ووالدي الأعمى
“فلم يصدق اليهود عنه أنه كان أعمى فأبصر،
حتى دعوا أبوي الذي أبصر“. [18]
يقصد بكلمة “اليهود” هنا السلطات الدينية، خاصة الفريسيين وأعضاء مجمع السنهدرين. إنهم لم يصدقوا أنه وُلد أعمى، فاستدعوا والديه للتأكد أنه ابنهما، وأنه وُلد أعمى، لعلهم يجدون علة بها يقللون من شأن المعجزة أمام الشعب.
- لاحظوا بكم من الطرق حاولوا أن يطمسوا المعجزة بالظلمة ويزيلوها. ولكن هذه هي طبيعة الحق، بذات الوسائل التي يُهاجم بها من البشر، يصير الحق أقوى، ويشرق بذات الوسائل التي تُستخدم لطمسه[33].
القديس يوحنا الذهبي الفم
“فسألوهما قائلين:
أهذا ابنكما الذي تقولان أنه وُلد أعمى،
فكيف يبصر الآن؟” [19]
إذ لم يحتمل هؤلاء القادة نور الحق قدموا سؤالاً للوالدين في أسلوب يحمل عجرفةً وتهديدًا، فلم يكتفوا بالشر، وإنما بثوا الرعب وسط الشعب لكي يشاركوهم جحودهم للمسيا ورفضهم للحق الإلهي.
- لم يقولوا: “الذي كان في وقت من الأوقات أعمى”، لكنهم قالوا: “الذي تقولان أنه ولد أعمى”، فقاربوا أن يقولوا: الذي جعلتماه أنتما أعمى.
القديس يوحنا الذهبي الفم
“أجابهم أبواه وقالا:
نعلم أن هذا ابننا،
وأنه وُلد أعمى“. [20]
لم يخجل والداه من الاعتراف بأنه ابنهما الذي بسبب الفقر مع العمى كان يستعطي، وإذ لم يكونا شاهدي عيان لشفائه تهربا من الإجابة عن كيفية إبصاره خشية طردهما من المجمع.
“وأما كيف يبصر الآن فلا نعلم،
أو من فتح عينيه فلا نعلم.
هو كامل السن اسألوه،
فهو يتكلم عن نفسه“. [21]
حقًا لم يكونا شاهدي عيان، لكنهما حتمًا قد عرفا وتأكدا من ابنهما نفسه، أن يسوع هو الذي شفاه. استخدما الحكمة البشرية ففقدا نعمة الشهادة للسيد المسيح، وحُرما من تقديم ذبيحة شكر وشهادة حق لصانع الخيرات. خشيا البشر فنصبا شركًا لنفسيهما ولابنهما، وكما يقول الحكيم: “خشية الإنسان تصنع شركًا، والمتكل على الرب يُرفع” (أم ٢٩: ٢٥).
“قال أبواه هذا، لأنهما كانا يخافان من اليهود،
لأن اليهود كانوا قد تعاهدوا
أنه إن اعترف أحد بأنه المسيح يخرج من المجمع“. [22]
الطرد من المجمع يعني عزله عن جماعة المتعبدين ويسمى ذلك nidui، وهو أقل أنواع الحرومات عند اليهود. أما الأناثيما cheram, anathema فأُستخدم ضد المسيحيين بعد القيامة.
كانت عقوبة الاعتراف بيسوع أنه المسيح هي الطرد من المجمع، إذ يُحسب كمن قد ارتد عن الإيمان اليهودي، فعزل نفسه عن الجماعة، ويُحسب متمردًا وخائنًا للقيادة الدينية. بطرده يدرك الشخص أنه غير أهلٍ لكرامة الانتساب إلى شعب الله، وعجزه عن التمتع بامتيازات إسرائيل.
لهذا الطرد نتائجه الخطيرة: الحرمان من العبادة العامة مع الشعب، والتطلع إليه ككاسرٍ للشريعة، فيُحرم من ممارسة العمل التجاري، كما يفقد حريته، وتُصادر ممتلكاته.
- لم يعد الطرد من المجمع بالأمر الشرير. هم يُطردون والمسيح يستقبلهم[34].
القديس أغسطينوس
“لذلك قال أبواه:
إنه كامل السن اسألوه“. [23]
- إذ سألوهما ثلاثة أسئلة: هل هو ابنهما؟ وهل ولد أعمى؟ وكيف أبصر؟ اعترفا بإجابة سؤالين فقط، وما ذكرا إجابة للسؤال الثالث، وفعلهما هذا صار من أجل الحق، حتى لا يعترف آخر إلا من نال الشفاء نفسه.
القديس يوحنا الذهبي الفم
د. حوار ثان بين الفريسيين والأعمى
“فدعوا ثانية الإنسان الذي كان أعمى، وقالوا له:
اعطِ مجدًا لله،
نحن نعلم إن هذا الإنسان خاطئ“. [24]
استدعوا الأعمى للمرة الثانية وتعاملوا معه بوقارٍ شديدٍ وتكريمٍ ليكسبوه في صفهم، قالوا له: “أعط مجدًا لله“، أي لتقسم باسم الله أن تنطق بالحق. ثم حاولوا أن يملوا عليه لينطق بما يريدونه وهو أنه متظاهر كنبي وأنه معتد على الناموس، فإنه بهذا يسرهم، فينال منهم كرامة. ويرى البعض أن هذا إجراء ديني قانوني مؤداه أنه مزمع أن يصدر حكم خطير ضده، إي قطعه من شعب الله أو الحكم عليه بالموت. وكأنهم يشهدون الله عليه قبل قطعه أو موته.
لعلهم بقولهم هذا عنوا هذا: “إنه رجل خاطئ وشرير، فأعطِ مجدًا لله بالأكثر، لأنه استخدم هذا الرجل أداة ليعمل به”.
أرادوا أن يتشبهوا بيشوع عندما حكم على عاخان بالرجم إذ سأله أولاً: “أعطِ مجدًا للرب” (يش ٧: ١٦)، وطلب منه ألا يخفي شيئًا عنه، بل يعترف بما فعله حيث صار “حرام في وسط إسرائيل”.
سبق أن أعلن السيد المسيح مجاهرة: “من منكم يبكتني على خطية؟” في حضوره لم يجسر أحد أن يتهمه، لكن من ورائه كانوا يقولون: “نحن نعلم أن هذا الإنسان خاطئ” [٢٤].
- لم يقولوا للأعمى قولاً في ظاهره يخلو من الخجل بأن ينكر أن السيد المسيح أبرأه، بل أرادوا أن يخترعوا هذا الجحود بشكلٍ ورعٍ، لأنهم قالوا له: “أعطِ مجدا لله” وفي قولهم هذا وقاحة ظاهرة.
إذ يقولون للأعمى عن السيد المسيح: “نحن نعلم إن هذا الإنسان خاطئ” أخاطبهم: كيف لم توبخوا السيد المسيح عندما قال: “من منكم يبكتني على خطية؟” (يو 8: 46)؟! من أين عرفتم أنه خاطئ؟
القديس يوحنا الذهبي الفم
- ماذا يعني “أعط مجدًا لله“؟ اجحد ما قد نلته. فإن مثل هذا التصرف لا يمجد الله بل هو تجديف عليه[35].
القديس أغسطينوس
“فأجاب ذاك وقال:
أخاطئ هو لست أعلم،
إنما أعلم شيئًا واحدًا،
إني كنت أعمى والآن أبصر“. [25]
لم يشغل هذا الفقير أن يسر القيادات الدينية ولا أن ينال منهم كرامة، إنما في بساطة نطق بالحق، فصار شاهدًا حقيقيًا لشخص السيد المسيح.
كأنه يقول لهم أن شخصية من شفاني ليست موضوع حوار وجدال، فأنا في غنى عن هذا الجدال. عمله لا يحتاج إلى حوارٍ، ما أعرفه أنني كنت أعمى والآن أبصر. هذه هي خبرتي معه. أو كأنه يقول لهم إن كنتم تدَّعون أنه خاطئ، فهذا ما لا علم لي به، إنما ما أعرفه هو ثقتي فيه التي ترفض تمامًا ما تقولونه عنه. والخبرة العملية هي أعظم وأقوى من الحوار النظري. هذه هي خبرة المؤمنين الحية، وكما يقول الرسول بولس: “لأنكم كنتم قبلاً ظلمة، وأما الآن فنور في الرب” (أف ٥: ٨).
أرادوا تحويل عمل المسيح إلى حوارات تناقشها الجماهير فتنشغل بالحوار لا بالشركة الحية مع المسيح، أما المولود أعمى ففضل خبرة الحياة الجديدة المستنيرة عن الانشغال بمناقشات غبية.
- هل بالحق لم يكن الأعمى مرتعبًا؟ لم يكن هذا هكذا. فكيف ذاك الذي قال: “إنه نبي” [١٧]، يقول الآن: “أخاطئ هذا لست أعلم” [٢٥]؟
قال هذا ليس لأنه هكذا كان فكرة، ولا ليقنع نفسه بهذا، وإنما رغبة في تبرئة السيد من اتهاماتهم خلال شهادة الحقائق وليس بإعلانه هو عنه، حتى يجعل دفاعه قويًا عندما يشهد العمل الصالح نفسه ضدهم. لذلك بعد حديث طويل قال الأعمى: “لو لم يكن بارًا لم يقدر أن يفعل مثل هذه المعجزة” [راجع ٣٣]، ثاروا وقالوا له: “في الخطايا وُلدت أنت بجملتك وأنت تعلمنا؟” [٣٤]. فلو أنه قال هذا من البداية أي شيء كانوا لا يقولونه؟ أو أي شيء كانوا لا يفعلونه؟
“أخاطئ هو لست أعلم” [٢٥]؛ كأنه يقول: “لست أقول شيئًا في صالح هذا الشخص، لا أقدم تصريحًا عنه حاليًا، لكن هذا بالتأكيد أعرفه وأؤكده أنه لو كان خاطئًا لما فعل مثل هذه الأمور”.
هكذا حفظ نفسه بعيدًا عن الشكوك، فلا تفسد شهادته، ولا يتكلم عن تحيز، بل يقدم شهادات خلال الواقع[36].
القديس يوحنا الذهبي الفم
“فقالوا له أيضًا:
ماذا صنع بك؟
كيف فتح عينيك؟” [26]
عادوا لاستجوابه بطريقة أخرى لعلهم يجدون في إجابته ما يناقض ما سبق فقاله، فيجدون علة على السيد المسيح. أرادوا أن يسألوه عن كيفية تفتيح عينيه لعله استخدم طريقة شيطانية. أما الشاب فضاقت نفسه من أسلوبهم غير اللائق، فلم يجب عليهم، بل رد السؤال بسؤال إن كانوا يريدون أن يتتلمذوا له، حاسبًا نفسه أنه تلميذ يسوع.
“أجابهم: قد قلت لكم ولم تسمعوا،
لماذا تريدون أن تسمعوا أيضًا؟
ألعلكم أنتم تريدون أن تصيروا له تلاميذ؟” [27]
جاءت إجابته تحمل روح الصراحة والشجاعة والشهادة الحية للسيد المسيح، كما جاء سؤاله لهم فاصلاً أن يختاروا أحد أمرين: التلمذة للسيد المسيح كما يتتلمذ هو على يديه، أو وقف الحوار معه. فإنه ليس من مجالٍ للحوار.
- ماذا كانت إجابته؟ إذ غلبهم وأسقطهم لم يعد يتحدث في خضوعٍ لهم. إذ كان الأمر يحتاج إلى سؤال وحوار تحدث معهم بحذرٍ حتى يأتي بالبرهان. وإذ غلب ونال نصرة فائقة تشجع ووطأ عليهم[37].
- ألا ترون كيف يتحدث شحاذ بجرأة أمام الكتبة والفريسيين؟ هكذا الحق قوي والباطل ضعيف. إذ يتمسك أناس عاديون بالحق يصيرون ممجدين، أما الباطل وإن استخدمه أقوياء يصيرون ضعفاء.
وما قاله هو هذا: “إنكم لم تلتفتوا إلى كلماتي، لهذا لا أعود أتكلم وأجيبكم بعد، إذ تسألونني بلا هدف، ولا ترغبون أن تسمعوا لتتعلموا، وإنما لكي تسيئوا إلى كلماتي[38].
- بقوله: “ألعلكم أنتم تريدون أن تصيروا له تلاميذ؟” رتب نفسه في صف تلاميذ السيد المسيح، لأن قوله هذا واضح أنه صار تلميذًا للسيد المسيح. عندئذ سخر بهم وضايقهم جدًا. فإذ كان يعلم هذا يضرب بهم بشدة. قاله لهم، لكي يوبخهم بقسوة شديدة. هذا عمل نفس شجاعة تحلق في الأعالي، وتحتقر جنونهم، وتشير إلى عظمة هذه الكرامة (للتلمذة له)، إذ كان واثقًا جدًا، وأظهر لهم أنهم يشتمون من هو مستحق للإعجاب، لكنه لا يبالي بشتيمتهم إليه بل ما يقدمونه توبيخًا هو كرامة له[39].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- ماذا يعني قوله: “ألعلكم أنتم تريدون أن تصيروا له تلاميذ؟” فمن جهتي أنا قد صرت فعلاً هكذا، أتريدون أنتم أيضًا؟ إنني الآن أرى، أرى بدون ارتياب[40].
القديس أغسطينوس
“فشتموه وقالوا:
أنت تلميذ ذاك،
وأما نحن فإننا تلاميذ موسى“. [28]
إذ لم يستطيعوا مقاومة الحق لجأوا إلى لغة الشتيمة. وهذا ما يتوقعه كل من يلتصق بالحق. يقول السيد المسيح: “طوبى لكم إذا عيروكم وطردوكم، وقالوا عنكم كل كلمة شريرة، من أجلي كاذبين” (مت ٥: ١١). حملوا قلبًا مملوء بالكراهية ضد الحق الإلهي، قتالاً، فخرجت كلماتهم كطعن السيف (أم ١٢: ١٨؛ مز ٥٥: ٢١).
في استخفاف قالوا له: “أنت تلميذ ذاك“. إذ لم يكن بعد قد رآه، ولا سمع لعظاته، لكنهم حسبوه تلميذه لأنه يشهد له، أما هو فكان يعتز بأن يكون تلميذه.
كانوا يفتخرون بعلاقتهم بموسى النبي كمعلمٍ لهم، فلا يحتاجون إلى معلمٍ آخر، ولا يطلبون ذلك. سبق أن افتخروا أمام السيد المسيح أنهم أبناء إبراهيم، والآن يعتزون بأنهم تلاميذ موسى، مع أنهم كانوا بأعمالهم وفكرهم غرباء عن إبراهيم وعن موسى. لو كانوا بحق أبناء إبراهيم لرأوا معه يومه وتهللوا (يو ٨: ٥٦). ولو كانوا بالحق تلاميذ موسى لالتصقوا بالسيد المسيح الذي تنبأ عنه موسى، عوض مقاومتهم له.
“نحن نعلم أن موسى كلمه الله،
وأما هذا فما نعلم من أين هو“. [29]
كأنهم يقولون: إننا متأكدون بأن خدمة موسى إلهية، لكن ليس لدينا أي دليل على أن هذا الشخص مدعو للخدمة، فكيف نترك موسى ونتبع شخصًا مجهولاً، غريبًا عن الخدمة الإلهية؟ قدموا ما يبرر اعتزازهم بموسى كمعلم لهمٍ، أن الله كلَّمه، ولم يدركوا أن يسوع هو كلمة الله نفسه المتأنس. موسى كان العبد الأمين المؤتمن على بيت سيده، أما يسوع فهو الابن الوحيد الجنس صاحب البيت (عب ٣: ٥، ٦) الذي يخدمه موسى.
في سخرية قالوا: “وأما هذا فما نعلم من أين هو” [٥٩]. حقًا لم يعلموا وما كان يمكنهم أن يعرفوا من أين هو ما لم يفحصوا أسفار العهد القديم بنية صادقة، ويطلبون من الله أن يكشف لهم عن شخصه. لو فحصوا لأدركوا أنهم في الزمن الذي يأتي فيه المسيا المنتظر، لكنهم كآبائهم في عصر إرميا النبي الذين “لم يقولوا أين هو الرب” (إر ٢: ٦).
- لم يقولوا نحن سمعنا أن موسى كلمه الله” إنما قالوا “نحن نعلم” [٢٩]. أيها اليهود، هل أنتم متأكدون مما سمعتموه، إذ تعلمون هذا، بينما تحسبون ما ترونه أقل ثقة مما تسمعونه؟ واحد لم ترونه بل سمعتم عنه، والآخر لم تسمعوه وإنما رأيتموه[41].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- أهكذا تتبعون العبد وتعطون القفا للرب؟ فإنكم بهذا لستم تتبعون العبد، لأنه هو نفسه يقود إلى الرب[42].
القديس أغسطينوس
“أجاب الرجل وقال لهم:
إن في هذا عجبًا،
أنكم لستم تعلمون من أين هو، وقد فتح عيني“. [30]
دُهش الأعمى لإحساسهم بأن يسوع غريب عن الخدمة الإلهية، وقد فعل ما لم يفعله موسى النبي، تفتيح عيني إنسان مولود أعمى. لقد عرفت المدينة كلها بالمعجزة، لأنه كان يستعطي وكثيرون من كل نواحي المدينة رأوه وتيقنوا أنه أعمى طول الماضي، وها هو يقف ويسير شاهدًا بعمل السيد المسيح الفائق.
إن كان الأعمى قد وجد عجبًا في يسوع لأنه فتح عينيه بل وخلقهما برعايته وسلطانه الفائق، والآن يجد عجبًا في هؤلاء القادة العميان أنهم يجلسون على كرسي القضاء ولا يرون الحق الواضح، مع أنه قدم الحقائق التالية:
- فتح يسوع عينيه، هذه حقيقة عملية لا يمكن إنكارها.
- الله لا يسمع للخطاة (مز ٦٦: ١٨)، بينما هم يقولون أنهم يعلمون بأن هذا الإنسان خاطئ.
- الله يسمع للأتقياء الذين يعملون إرادته.
- لم نسمع في تاريخ العالم أن أحدًا فتح عيني مولود أعمى، لم يقم حتى موسى بمثل هذا العمل.
- إن كان يسوع ليس من عند الله كأنه بلا قوة.
هكذا نصبوا الفخ فوقعوا هم فيه.
“ونعلم أن الله لا يسمع للخطاة،
ولكن إن كان أحد يتقي الله ويفعل مشيئته فلهذا يسمع“. [31]
جاءت كلمة خطاة هنا في اليونانية hamartooloon لتعني الوثنيين غير المؤمنين يقابلها كلمة theosebees لتعني المتعبد لله. الله لا يسمع لمن يطلب بفمه أن يخلص بينما بقلبه وسلوكه مصمم على الالتصاق بالشر والتلذذ به.
- هنا أظهر ليس فقط أنه بلا خطية، وإنما أعلن أنه موضع سرور الله جدًا، ويعمل إرادته. فإذ دعوا أنفسهم “عابدي (متقي) الله” أضاف “ويعمل مشيئته“. كأنه يقول: “إنه لا يكفي أن يعرف الناس الله بل يلزمهم أن يعملوا مشيئته”[43].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- بعيني الإيمان ترون هذا الأعمى إنه أعمى أيضًا (بالقلب) إذ تسمعونه يخطئ. سأخبركم فيمَ أخطأ هذا الأعمى.
أولاً إنه ظن في المسيح أنه نبي، ولم يعرف أنه ابن الله. لذا نسمعه يجيب من خلال خطأه، إذ قال: “نحن نعلم أن الله لا يسمع للخطاة” [٣١].
إن كان الله لا يسمع للخطاة، فأي رجاء لنا؟
إن كان الله لا يسمع للخطاة، فلماذا نصلي، ونعترف بسجل خطيتنا بالقرع على الصدر؟
أيضًا أين ذلك العشار الذي صعد مع الفريسي إلى الهيكل (لو ١٨: ١٠)، وبينما كان الفريسي منتفخًا مستعرضًا استحقاقاته الذاتية، وقف بعيدًا وبعينين متطلعتان نحو الأرض وقارعًا صدره معترفًا بخطاياه، نزل هذا الإنسان المعترف بخطاياه من الهيكل مبررًا أكثر من الفريسي؟
إذن بالتأكيد يسمع الله للخطاة. لكن الذي نطق بهذه الكلمات لم يكن بعد قد غسل وجه قلبه في سلوام.
لقد عبر السرّ أمام عينيه، لكن لم يتأثر القلب ببركة النعمة.
متى غسل هذا الأعمى وجه قلبه؟ عندما جاء إليه الرب نفسه بعد أن طرده اليهود. إذ وجده وقال له: “أتؤمن بابن الله؟” أما هو فقال: “من هو يا سيد لأؤمن به؟” لقد رآه فعلاً بعينيه فهل رآه بقلبه؟ لا، لم يكن بعد قد رآه بقلبه. انتظروا فإنه سيراه…
أجابه يسوع: “الذي يتكلم معك هو هو” [٣٧]. هل شك؟ لا، فقد غسل وجهه.
لقد تكلم مع “سلوام” التي تفسيرها “المُرسل”. من هو المُرسل إلاَّ المسيح؟… هو نفسه سلوام. اقترب إليه الرجل الأعمى بقلبه، لقد سمع وآمن وسجد، غسل وجهه فرأى[44].
القديس أغسطينوس
- في الخروج أيضًا الكهنة الذين يقتربون إلى الرب الإله يلزمهم أن يتقدسوا لئلا يتركهم الرب (خر ١٩: ٢٢). وأيضًا الذين يقتربون إلى مذبح القدوس للخدمة لا يجلبوا معهم خطية لئلا يموتوا (خر ٢٨: ٤٣)[45].
الشهيد كبريانوس
- إذ نضع هذه الأمور أمام أعيننا فبكل حرص وتقوى نهتم بذلك في سيامة الأساقفة، فيلزمنا أن لا نختار أحدًا إلا الكهنة الذين بلا عيب والمستقيمين الذين يقدمون ذبائح الرب بقداسة واستحقاق أمام الله. هؤلاء قادرون أن تُسمع صلواتهم هذه التي يقدمونها من أجل سلامة شعب الرب[46].
الشهيد كبريانوس
“منذ الدهر لم يسمع أن أحدًا فتح عيني مولود أعمى“. [32]
منذ بدء الأزمنة، قبل عصر الآباء والأنبياء لم يُسمع قط أن أحدًا ما – حتى موسى – قد فتح عيني مولود أعمى.
“لو لم يكن هذا من الله لم يقدر أن يفعل شيئًا” [33].
قدم الأعمى نتيجة صادقة، وهي أنه لو لم يكن هذا من الله لم يقدر أن يفعل شيئًا، لأنه ينبوع كل صلاح. ليس من صلاح يمكن أن يتحقق بدونه.
“أجابوا وقالوا له:
في الخطايا وُلدت أنت بجملتك،
وأنت تعلمنا.
فأخرجوه خارجًا“. [34]
كأنهم يقولون له: “ها أنت قد نلت جزاءً عادلاً، فجئت إلى العالم مشوهًا، بلا عينين، بسبب خطاياك السابقة، ولا تستحق أن تشارك المؤمنين عبادتهم لله، فكيف تمارس دور المعلم للقادة؟ ثم أصدروا أمرًا بحرمانه من الشركة في العبادة لله. إذ لم يكن لديهم القدرة على الرد عليه، استخدموا سلطانهم بحرمانه وطرده.
احتقروه وأهانوه قائلين: إنك لست مثل كل إنسان مولود بالخطية، وإنما “أنت بجملتك ولدت في الخطايا“. أنت فاسد تمامًا، تحمل الفساد في نفسك كما في جسدك، وها هي علامات الفساد قد انطبعت عليك بتشويه جسدك وحرمانك من البصر، هوذا الطبيعة نفسها قد وسمته بالفساد. ولعلهم حسبوا فقره الشديد واستعطائه علامة من علامات الغضب الإلهي عليه بسبب خطاياه.
استخفوا بكلماته وهم في دهشةٍ: كيف يقف هذا الغبي الأمِّي الذي يجهل حتى نور الشمس إذ لم يره من قبل والذي يجلس يستجدي أن يحتل مركز المعلم بالنسبة لقادة الفكر والعلم؟
في كبريائهم رفضوا التعلم خاصة ممن هم أقل منهم رتبةً أو علمًا. مع أن الإنسان الصالح لن يأنف من أن يتعلم كل يوم حتى آخر نسمة من نسمات حياته. يستطيع أن يتعلم حتى من الأطفال الصغار. رفض التعليم هو الغباوة عينها والجهالة!
إذ اقترب جدًا من ضمائرهم لم يحتملوه بل طردوه، ولعلهم طلبوا من الخدم أو الحرس أن يخرجوه ولو بالقوة.
إذ عجز القادة المتعلمون عن الحوار في تشامخ أصدروا الحكم بطرده خارجًا. أخرجوه خارج لكنهم لم يعزلوه عن الشركة مع المسيح. ظنوه غير أهلٍ للعضوية الكنسية اليهودية، ولم يدركوا أنه يتأهل للعضوية في جسد المسيح.
لم يدركوا أنهم بهذا ترتد عليهم الإهانة، فإنه إن كان حسب فكرهم قد وُلد بجملته في الخطايا لأنه وُلد أعمى، فها هو قد بريء من العمى، فيكون من شفاه قادر على نزع الخطايا وإزالتها؛ وهذا من عمل الله.
- سُجلت هذه الأمور لكي نقتدي بها.
الرجل الأعمى، الشحاذ، الذي لم يكن بعد قد رأى السيد وقد أظهر جرأة باستقامة قبل أن يشجعه المسيح، ووقف في وجه كل القتلة الممسوسين من الشيطان، الثائرين، الذين أرادوا بكل وسيلة أن يدينوا المسيح. فإنه لم يخضع لهم ولا أعطاهم القفا بل بجرأةٍ أبكم أفواههم، مفضلاً بالأحرى أن يُطرد خارجًا عن أن يخون الحق.
كم بالأكثر يليق بنا نحن الذين نعيش زمانًا طويلاً في الإيمان ورأينا ربوات المعجزات تتم بالإيمان، وتقبلنا بركات أعظم مما نالها هو، إذ انفتحت أعيننا الداخلية، وتعرفنا على إسرارٍ لا توصف، ودعينا إلى كرامة عظيمة كهذه، أقول كم يلزمنا أن نظهر جرأة في الحديث مع الذين يتهمون المسيحيين، ونبكم أفواههم دون أن نخنع في ضعف.
يمكننا أن نفعل ذلك إن كانت لنا جرأة، وكنا مهتمين بالكتب المقدسة ونسمعها بغير إهمالٍ[47].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- ماذا يعني “بجملتك” هنا؟ حتى إلى عمى العينين.
لكن ذاك الذي فتح عينيه قد خلصه أيضًا بجملته، إنه سيمنحه القيامة عن يمينه ذاك الذي أنار ملامحه[48].
- عندما طردوه استقبله الرب، فإنه قدر ما طرد صار مسيحيًا[49].
القديس أغسطينوس
ه. حوار بين المسيح والأعمى
“فسمع يسوع أنهم أخرجوه خارجًا،
فوجده وقال له:
أتؤمن بابن الله؟” [35]
واضح أن السيد المسيح كان كمن يبحث عنه ليجده. وجده حين طرده الفريسيون، وحرموه من حقه كعضوٍ في شعب الله. وربما خشي والداه من إيوائه لئلا يكون مصيرهم كمصيره. وجده إله المطرودين والمرذولين وأب الأيتام وقاضي الأرامل، والمهتم بمن ليس لهم من يسأل عنه.
قوله: “أتؤمن بابن الله؟” يعادل القول: “أتؤمن بالمسيا”، لأن هاتين السمتين لا تنفصلان (يو ١: ٣٤، ٤٩؛١٠: ٣٦؛ مت ١٦: ١٦؛ مر ١: ١).
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن السيد المسيح وقد رأى في الأعمى حبه للحق وشجاعته وهبه الشوق إليه قبل أن يعلن ذاته له[50]. هكذا كل من يطلب الحق في جدية ولا يخشى الباطل يجتذبه الحق إليه بالحب ثم يعلن ذاته له.
- الذين يعانون من الأمور المرعبة والشتائم بسبب الحق والاعتراف بالمسيح هؤلاء يكرمون على وجه الخصوص…
لقد أخرجه اليهود خارج الهيكل، ورب الهيكل وجده.
لقد عُزل من الصحبة المهلكة، والتقى بينبوع الخلاص.
أهانه الذين أهانوا المسيح، فكرمه رب الملائكة.
هكذا هي مكافآت الحق.
ونحن أيضًا إن تركنا ممتلكاتنا في هذا العالم نجد ثقة في العالم العتيد.
إن صرنا هنا في ضيق نجد راحة في السماء، وإن شُتمنا من أجل الله نُكرم هنا وهناك[51].
القديس يوحنا الذهبي الفم
“أجاب ذاك وقال:
من هو يا سيد لأومن به“. [36]
واضح أنه لم يره من قبل، وإن كان قد سبق فسمع صوته عندما أمره بالذهاب إلى بركة سلوام ليغتسل. لقد أكتشف أنه هو الذي شفاه فآمن به.
لم نسمع عن حوارٍ تم بين السيد المسيح والأعمى قبل شفائه، كما حدث مع مفلوج بيت حسدا. يبرر البعض ذلك بأن الأعمى لم يكن بعد قد رأى المسيح، وربما بسبب فقره الشديد وانشغاله بالاستعطاء لم يتحدث معه أحد عن السيد المسيح وأعماله الفائقة. لهذا لم يقل له السيد: “أتريد أن تبرأ؟” كما قال للمفلوج. حينما حُرم الأعمى من الصداقات البشرية وعانى من الشعور بالنقص كما بالشعور بالعزلة، جاءه السيد المسيح يشبع احتياجاته، ويملأ أعماقه بالحب الإلهي.
يؤكد البعض عدم إيمان الأعمى ليس عن عمدٍ، وإنما عن عدم وجود فرصة للسماع عنه والالتقاء به. لهذا بعدما شفاه السيد، وبعد حوارات كثيرة تمت حوله وبعد طرده خارجًا وجده يسوع وسأله: “أتؤمن بابن الله؟” [٣٥]، وجاءت إجابته تكشف عن شوقه للإيمان: “من هو يا سيد لأومن به؟” [٣٦].
- قال الأعمى للسيد المسيح: “من هو يا سيد لأومن به“، لأنه لم يكن بعد قد عرفه على الرغم من أنه قد استمد منه الشفاء، لأنه كان ضريرًا قبل أن يجيء إلى المحسن إليه. ولم يقل الأعمى للسيد المسيح في الحال “أؤمن”، لكنه خاطبه على سبيل السؤال، فقال له: “من هو يا سيد لأؤمن به؟” هذا قول نفس تائقة مبتغية إياه جدًا.
القديس يوحنا الذهبي الفم
“فقال له يسوع:
قد رأيته،
والذي يتكلم معك هو هو“. [37]
لا يحتاج أن يذهب الإنسان بعيدًا ليلتقي معه، فإنه قريب جدًا. وكما يقول الرسول بولس: “لا تقل في قلبك من يصعد إلى السماء، أي ليحدر المسيح، أو من يهبط إلى الهاوية، أي ليصعد المسيح من الأموات، لكن ماذا يقول: الكلمة قريبة منك” (رو ١٠: ٦–٨).
فتح السيد المسيح عينيه لكي ينظر إليه الأعمى ويراه. إن كان تفتيح العينين قد أبهجا هذا الأعمى، فإن رؤيته لابن الله أعظم جدًا من تمتعه بالعينين الجسديتين. رؤيته لابن الله أبهجت قلبه أكثر من كل أنوار العالم. وها نحن بالإيمان نتمتع بالبصيرة الداخلية، فننعم برؤية السيد المسيح، وندرك سرّه كابن الله الوحيد الجنس. حقًا يستطيع أن يترنم مع المرتل قائلاً: “بنورك يا رب نعاين النور” (مز ٣٦: ٩).
“فقال أومن يا سيد وسجد له“. [38]
بقوله “أؤمن” عني “أؤمن أنك المسيا”، مقدمًا دليلاً على صدق إيمانه، أنه سقط وسجد أمامه. لم يره من قبل، ووجد مقاومة شديدة ضده من السلطات الدينية، لكنه إذ اختبر بنفسه تفتيح عينيه آمن بلاهوته وسجد له، ممجدًا إياه كمخلصٍ له. لقد انفتحت بصيرته الداخلية، وتعرف على أسرارٍ إلهية لم يكن ممكنا لأعضاء مجمع السنهدرين أن يدركوها ويؤمنوا بها.
آمن الأعمى واعترف بالسيد المسيح، ولم يكن محتاجًا إلى حوارٍ، إذ تمتع بعمله الإلهي العجيب وبالبصيرة الروحية. ًآمن بقلبه واعترف بلسانه أمام الرب والناس، حتى أمام المقاومين. هكذا صارت القصبة المرضوضة شجرة مغروسة على مجاري الروح مملوءة ثمرًا.
“سجد له“، إذ لم يقدم له تكريمًا كما لإنسان ليعبر عن شكره له، لكنه قدم له سجودًا لائقًا بالعبادة لله. هكذا عبَّر عن إيمانه بالشهادة العلنية دون خوف، والعبادة لله بروح التواضع. لم يروِ لنا الإنجيلي يوحنا لنا شيئًا عن هذا الأعمى بعد هذا السجود، إنما ما هو واضح من قول السيد أنه صار مبصرًا، يتبع النور ويحيا فيه.
سجد الأعمى أمام السيد المسيح، غالبًا في حضرة الفريسيين؛ عندئذ قدم السيد المسيح أمامهم تعليقًا عما تثمره خدمته الإلهية في هذا العالم. ويظن البعض أن هذا الحديث جاء في لقاء آخر مع الفريسيين ليس بعد سجود الأعمى مباشرة.
جاء إلى العالم كمخلصٍ وليس كديانٍ، لكن إذ يرفض الأشرار غير المؤمنين عمله يسقطون تحت الدينونة. خدمته الإلهية أقامت من البشرية فريقين: فريق يعترف بعماه فيؤمن ويقبل النور، وآخر يظن أنه مبصر فيرفض الإيمان ويبقى في ظلمته، وتصير أعمال المسيح دينونة عليهم. هكذا ينقسم العالم إلى مؤمنين وغير مؤمنين، وهذا هو الخط الواضح في أكثر أحاديث السيد المسيح في هذا السفر. صارت أعمال المسيح الخلاصية أو إنجيله حياة لحياة، ويحمل رائحة موت لموت. أشرق على الأمم نور عظيم يهبها حياة وأطلقها من الأسر (إش ٦١: ١)، وأصيب إسرائيل في كبريائه بالعمى فألقي بنفسه في دائرة الموت.
- الآن في النهاية بوجهه الذي اغتسل وضميره الذي تطهر عرفه ليس فقط ابن الإنسان كما اعتقد قبل ذلك، بل ابن الله الذي أخذ جسدنا. “فقال: أومن يا رب“…[52]
القديس أغسطينوس
و. حوار بين المسيح والفريسيين
“فقال يسوع:
لدينونة اتيت أنا إلى هذا العالم،
حتى يبصر الذين لا يبصرون،
ويعمى الذين يبصرون“. [39]
إنها لحظات عجيبة شدت أنظار الواقفين، سواء التلاميذ أو الجموع أو بعض الفريسيين، فقد سجد الأعمى عند قدمي ربنا يسوع يعلن إيمانه به أنه ابن الله. أقول أنه مشهد سحب أنظار السمائيين وهم يرون إيمان هذا الإنسان الصادق مع نفسه ومع مقاومة أعلى درجات القيادة الدينية للحق. إنه منظر يفرح قلب السيد المسيح، ليس لاحتياجه إلى من يشهد له، ولكن لأنه يود أن يتمتع الكل بالنور السماوي.
لقد سبق فأعلن السيد أنه ما جاء إلى العالم ليدينه بل ليخلصه (يو ٣: ١٧). لكنه إذ يشرق بنوره على الجالسين في الظلمة بنوره يصير المستنيرون علة دينونة للذين أحبوا الظلمة أكثر من النور (يو ٣: ١٩). إنهم يدينون أنفسهم بأنفسهم، لأنهم حتى يتعثرون ويسقطون في الحفرة، إذ هم “عميان قادة عميان” (مت ١٥: ١٤).
نال الأمم الذين جلسوا في الظلمة زمانًا نور المعرفة والبصيرة الحقيقية. أما اليهود الذين تظاهروا أنهم أبناء النور وأصحاب المعرفة الروحية، وأساءوا استخدام طول أناة الله ورحمته، ففقدوا خلاصهم الذي رذلوه، وأصابهم عمى روحي. استطاع الأعمى الأمي أن يتعرف على أسرار إلهية، بينما الفريسيون أصحاب المعرفة جهلوا هذه الأسرار. لم يقرأ الأعمى الكتاب المقدس، ربما سمع في بساطة وإخلاص بعض العبارات الكتابية والقصص الخاصة بتاريخ الخلاص. أما هم ففحصوا الكتب وحفظوا عبارات عن ظهر قلب وتمسكوا ببعض التفاسير، لكن عملهم هذا لم يكن عن إخلاص في معرفة الحق، لذا لم يتأهلوا لإدراك الأمور الواضحة عن المسيا.
سرّ عماهم أنهم يظنون في أنفسهم أنهم مبصرون: يعرفون موسى وأنهم تلاميذ له، يعرفون السبت ويحفظون شريعته، كما يعرفون أن الأعمى قد وَلد بجملته في الخطية.
- تحذير خطير! يبصر الذين لا يبصرون [٣٩]،
حسنًا! إنه عمل المسيح، إعلان قوة الشفاء!
ولكن ما هذا الذي تضيفه يا رب؟ “يعمى الذين يبصرون” [٣٩]؟ إنهم اليهود. هل يرون؟ حسب كلماتهم إنهم يبصرون؟ وبحسب الحق لا يبصرون.
ماذا إذن “يبصرون“؛ إنهم يظنون أنهم يبصرون، يعتقدون هذا. إذ ظنوا أنهم يصونون الناموس ضد المسيح… هؤلاء الذين لا يعترفون بعماهم تقسوا بالأكثر… بالحقيقة قد تم القول “يعمى الذين يبصرون“، فإن المدافعين عن الناموس، الأساتذة في الناموس، معلمي الناموس، فاهمي الناموس، صلبوا واضع الناموس.
يا للعمى الذي حصل جزئيا لإسرائيل (رو ١١: ٢٥). ماذا يعني “يبصر الذين لا يبصرون“؟ “إلى أن يدخل ملء الأمم” (رو ١١: ٢٥). كل العالم قد سقط في العمى، لكن جاء لكي “يبصر الذين لا يبصرون، ويعمى الذين يبصرون“…
يا للعمى الخطير؟ لقد قتلوا النور، لكن النور المصلوب أنار العميان[53].
- الآن إنه اليوم الذي يميز بين النور والظلمة![54]
- لقد تسلمتم الناموس، وأنتم تريدون أن تحفظوه، لكنكم عاجزون عن ذلك؛ لقد سقطتم من الكبرياء فتروا ضعفكم. اشتاقوا إلى المسيح. اعترفوا له، آمنوا به. لقد أضيف الروح إلى الحرف فتخلصون. فإنك إن نزعت الروح عن الحرف “الحرف يقتل”. وإن قتل، فأين الرجاء؟ “أما الروح فيحيي” (٢ كو ٣: ٦)[55].
القديس أغسطينوس
يقارن القديس أغسطينوس بين الحرف والروح، فيرى في الحرف عصا اليشع التي سلمها لتلميذه جيحزي حين كان ابن الأرملة ميتًا، لكن لم يقم الميت إلاَّ بحضور اليشع نفسه. هكذا مع نفع الناموس الذي تسلمناه من الله نحن في حاجة إلى حضور الله نفسه، فنتمتع بقوة القيامة[56].
“فسمع هذا الذين كانوا معه من الفريسيين وقالوا له:
ألعلنا نحن أيضًا عميان؟” [40]
أدرك الفريسيون أنه يتحدث عن العمى الروحي، فسألوه إن كان يقصدهم بهذا. وقد صدر سؤالهم عن نفوس متكبرة لا تقدر أن تتمتع بغنى نعمة الله.
ما يشغل ذهن الفريسيين هو كرامتهم أمام الناس، والظهور كأصحاب معرفة، يحتلون كراسي التعليم. حسبوا اتهامهم بالعمى بسبب عدم رغبتهم في التعلم هو أشبه بضربة قاتلة. بقولهم: “ألعلنا نحن أيضًا عميان؟” يكشفون عما في أعماقهم، فهم يحسبون الشعب ككل عميانًا أما من يضمهم يسوع مع الشعب الأعمى فهذا ما لم يكن يخطر على بالهم. حسبوا هذا إهانة منه، وخطأ منه لا يغتفر، إذ لم يعتادوا أن يسمعوا كلمة نقد من أحدٍ قط.
- قول الفريسيين للسيد المسيح “ألعلنا نحن أيضًا عميان؟” على نحو ما قالوا في غير هذا الموضع: “إننا ذرية إبراهيم ولم نُستعبد لأحد قط؛ إننا لم نولد في زنى” (يو 8: 33، 41) هكذا قالوا الآن.
القديس يوحنا الذهبي الفم
“قال لهم يسوع:
لو كنتم عميانًا لما كانت لكم خطية،
ولكن الآن تقولون إننا نبصر، فخطيتكم باقية“. [41]
لو أنهم اعترفوا بجهلهم لما سقطوا تحت الحكم، لكن أفواههم تشهد عليهم، فقد ادعوا أنهم مبصرون، قادرون على إدراك الحق وتمييزه عن الباطل. ادعوا أنهم مبصرون، يرون الحق الإلهي ويفهمون الشريعة والنبوات، لذا أغلقوا على أنفسهم، وصارت خطيتهم باقية.
من وحي يو 9
هب لي يا رب البصيرة الداخلية!
- عيناك بالحب تتطلعان إليّ، كما إلى المولود أعمى!
ورثنا عن أبينا آدم عمى البصيرة،
فلم نعد نتمتع بجمال بهائك!
- هوذا الكثيرون حتى من بين الذين حولك يدينوني!
أما أنت فبحبك تطلب شفاء قلبي وبصيرته!
أنت هو النهار الذي لا يكف عن أن يعمل.
أنت النور الذي يبدد الظلمة التي فيّ!
لتشرق عليّ بنورك، فأصير ابنًا للنهار،
ولا تغرب عيني يا شمس البرّ!
- أنت الخالق، جبلتني من التراب،
وبالطين تهبني نورًا لعينيّ.
على كلمتك آتي إليك، فأنت هو سلوام “المُرسل” من الآب.
اغتسل بدمك، فتنفتح بصيرتي.
أرى أبواب السماء مفتوحة أمامي ترحب بي!
- ملّت نفسي الحوار المستمر مع القريب والغريب.
لم يعد لكثرة الكلام مكان في قلبي.
أعمالك مشبعة، تشهد لإمكانياتك الإلهية.
حبك العملي يبكم الألسنة المقاومة!
نورك مشرق في داخلي، لن تقدر قوات الظلمة أن تقاومه.
- مع المولود أعمى لا أخشى الطرد،
إذ يرفضني الجميع تتراءى أنت لي.
وإذ أُطرد خارجًا،
أجدك حاملاً الصليب خارج المحلّة.
أنت إله المطرودين والمرذولين.
- لينشغل الكل بالحوار الكثير.
أما أنا فأسجد أمامك،
وأتمتع بشركة بهائك،
وأنعم ببهجة سماواتك التي لا تنقطع!
[1] Homilies on St. John, 56: 1.
[2].St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 44: 1
[3] Homilies on St. John, 56: 1.
[4] Sermon on N.T. Lessons, 86:1.
[5] Hom. 56. PG 59:327.
[6] Letter 68:1.
[7] Hom 56. PG 59:328.
[8] Homilies on St. John, 56: 2.
[9] Sermon on N.T. Lessons, 85:1.
[10] Sermon on N.T. Lessons, 85:3.
[11] Of the Christian Faith. 3:7 (48).
[12] Hom 56. PG 59:330.
[13] Explanation on the Gospel. PG 73:601B.
[14] Commentary on John, Book 1:267– 268.
[15] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 44: 5.
[16] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 44: 6.
[17] Hom 4. PG 61:27.
[18] Hom 56. PG 59:328.
[19] Poem 23. ACW 40:219.
[20] Commentary on Tataion’s Diatessaron, 28.
[21] Peri Pascha 18,19 (Translated by Robert J. Daly – ACW).
[22] Homilies on St. John, 57: 1.
[23] Homilies on St. John, 57: 1.
[24] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 44: 2.
[25] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 44: 2.
[26] Homilies on St. John, 57: 1.
[27] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 44: 8.
[28] Homilies on St. John, 57: 2.
[29] Gemara. 14.
[30] Sermon on N.T. Lessons, 86:3.
[31] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 44:9.
[32] Homilies on St. John, 58: 1.
[33] Homilies on St. John, 58: 1.
[34] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 44: 10.
[35] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 44: 11.
[36] Homilies on St. John, 58: 2.
[37] Homilies on St. John, 58: 2.
[38] Homilies on St. John, 58: 2.
[39] Homilies on St. John, 58: 3.
[40] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 44: 11.
[41] Homilies on St. John, 58: 3.
[42] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 44: 12.
[43] Homilies on St. John, 58: 3.
[44] Sermon on N.T. Lessons, 86:2.
[45] Letter 63 to ِEpictetus: 2.
[46] Letter 69 to Asturica: 2.
[47] Homilies on St. John, 58: 4.
[48] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 44.
[49] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 44: 15.
[50] Homilies on St. John, 59: 1.
[51] Homilies on St. John, 59: 1.
[52] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 44: 15.
[53] Sermon on N.T. Lessons, 86:4.
[54] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 44: 16.
[55] Sermon on N.T. Lessons, 86:5.
[56] Sermon on N.T. Lessons, 86:6.