تفسير العهد الجديد

تفسير انجيل يوحنا 8 الأصحاح الثامن – القمص تادرس يعقوب ملطي

تفسير انجيل يوحنا 8 الأصحاح الثامن - القمص تادرس يعقوب ملطي

تفسير انجيل يوحنا 8 الأصحاح الثامن – القمص تادرس يعقوب ملطي

المحتوى

تفسير انجيل يوحنا 8 الأصحاح الثامن - القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير انجيل يوحنا 8 الأصحاح الثامن – القمص تادرس يعقوب ملطي

تفسير انجيل يوحنا 8 الأصحاح الثامن – القمص تادرس يعقوب ملطي

الاصحاح الثامن

المسيح نور العالم

فاتح أبواب الرجاء

قدم الكتبة والفريسيون امرأة أُمسكت في زنا وسألوه عن حُكمه عليها إن كانت تُرجم حسب شريعة موسى أم لا. ولعلهم كانوا يتوقعون أنه يوافق على رجمها، فيطلبون منه أن يبدأ بالرجم، فينفر الكثيرون منه بعد أن لمسوا فيه الرقة واللطف حتى مع الخطاة، وإن رفض يُحسب كاسرًا للناموس فيلزم محاكمته.

لم يعترض على حكم الشريعة لكنه سأل عمن يتأهل للبدء بالرجم، “من كان منكم بلا خطية فليرمها أولاً بحجر” [7]. انسحب الشيوخ أولاً ثم الآخرين بينما كان يكتب السيد المسيح على الأرض، بلغة قرأ كل منهم فيها خطيته الخفية. بقيت المرأة الزانية وحدها تقف أمام ديان العالم كله الذي ما جاء ليدين بل ليخلص، فسألها ألا تعود للخطيئة. هو وحده من حقه أن يدينها، لكنه يفتح أبواب الرجاء أمام الخطاة للتوبة. قدم نفسه محررًا للنفس، بكونه الحق الإلهي [32].

مع لطفه وحنانه نحو الخطاة من الشعب اظهر حزمه مع القيادات الدينية التي طلبت أن تمارس عمل أبيها: إبليس القتال، أب الكاذبين. أراد أن يحررهم من بنوتهم لإبليس، فيتمتعوا بالحق عوض الكذب، ويمارسوا الحب عوض شهوة القتل. ظنوا أنهم أبناء إبراهيم الحر، مع أنهم لم يمارسوا أعماله بل أعمال إبليس. أما يسوع فأعلن أن إبراهيم هذا تهلل أن يرى يومه، فرأى وفرح [56].

تكشف قصة تعامل السيد المسيح مع المرأة الخاطئة عن طبيعة السيد المسيح الملتهبة بالحب نحو الخطاة، يشرق عليهم بأشعة حبه ليبدد ظلمتهم.

  1. المرأة التي أمسكت في زنا 1-11.
  2. المسيح نور العالم 12-20.
  3. هلاك غير المؤمنين ٢١ – ٣٠.
  4. الحرية الروحية ٣١ – ٣٧.
  5. البنوة لله والبنوة لإبليس ٣٨ – ٤٧.
  6. اتهامه بالتجديف ٤٨ – ٥٠.
  7. المسيح واهب الخلود ٥١ – ٥٩.

1. المرأة التي أمسكت في زنا

أما يسوع فمضى إلى جبل الزيتون“. [1]

في الأصحاح السابق رأينا المضايقات التي حلت بالسيد المسيح خاصة بواسطة القيادات، والآن إذ حل الغروب ترك المدينة وذهب إلى جبل الزيتون، إما ليستريح في بيت أحد أصدقائه أو تحت إحدى مظال عيد المظال. ويرى البعض أنه لم يجد في أورشليم من يأويه في بيته، فانطلق إلى الجبل. ويرى آخرون أنه خرج ليقضي الليلة في الصلاة.

  • لبث السيد المسيح يُعلم في أورشليم وفي الهيكل يوم العيد الأخير كله، أي اليوم الثامن من عيد المظال، وناقض أقوال الفريسيين. هؤلاء رجعوا عند المساء إلى منازلهم، وأما هو فمضى إلى جبل الزيتون، لأنه كان في النهار يعلم في الهيكل، وفي الليل يخرج يبيت في جبل الزيتون معلمًا إيانا ألا نقتني منازل من حرفة، بل نقتنع بما تدعو الضرورة إليه للراحة فقط، عالمين أننا سنترك هذه الأبنية بعد قليل، وننتقل إلى العالم الباقي، ويكون تعبنا لأجل هذه المنازل باطلاً وعبثًا.

القديس يوحنا الذهبي الفم

ثم حضر أيضًا إلى الهيكل في الصبح،

وجاء اليه جميع الشعب،

فجلس يعلمهم“. [2]

جاء السيد المسيح إلى الهيكل في الصباح المبكر لكي يعلم الشعب الذي جاء إليه. بالأمس كان يعلم، وها هو يأتي اليوم باكرًا، مع أنه ربما قضى الليلة كلها على جبل الزيتون يصلي، لكنه كمحبٍ لعمله، ولشوقه أن يتمتع الكل بالمعرفة جاء إلى الهيكل مبكرًا. إنه يحب المبكرين إليه، إذ قيل: “أنا أحب الذين يحبونني والذين يبكرون إليّ يجدونني” (أم ٨: ١٧). وها هو يبكر إلى أحبائه.

أراد أن يلتقي مع الشعب داخل الهيكل، إذ لم يأتِ لكي يهجر الشعب القديم بل ليهبهم مفاهيم جديدة ونظرة جديدة نحو الناموس والهيكل والعبادة. جلس يعلمهم، بكونه صاحب سلطان، يود أن يجلس الكل معه، ويستقروا معه، يستمعون إلى الحق ويتمتعون به.

اعتاد كبار المعلمين أن يجلسوا أثناء التعليم، إذ يمتد ذلك إلى فترات طويلة، خاصة وان الإنجيلي يوحنا يقول: “جاء إليه جميع الشعب“، فمن جهة فعل “جاء” يحمل استمرارية الحضور، ومن جهة أخرى كلمتا “جميع الشعب” تشيران إلى جموع كثيرة. فكانت الحركة مستمرة ومتزايدة منذ الصباح المبكر (لو ٢١: ٣٨).

وقدم إليه الكتبة والفريسيون امرأة أمسكت في زنا،

ولما أقاموها في الوسط“. [3]

يرى البعض أنه بسبب انتشار الزنا لم تُعد تطبق الشريعة الخاصة بالمرأة الزانية بأن تحضر أمام الكاهن وتشرب ماء الغيرة (عد ٥: ١٤)، وذلك لأن كثير من الأزواج أيضًا كانوا ساقطين في الزنا.

لاحظ الكتبة والفريسيون تجمع أعداد ضخمة من الشعب حول السيد المسيح يسمعون تعليمه منذ الصباح المبكر، فأرادوا من جانب أن يفسدوا هذه الجلسة بإحضار المرأة الزانية لكي ينشغل الكل بأمرها لا بما يعلم به السيد. ومن جانب آخر أرادوا نصب شبكة له، فإن عفا عنها حُسب كاسرًا للناموس، وإن دانها ينفرون منه كشخصٍ قاسٍ.

قالوا له:

يا معلم هذه المرأة أمسكت وهي تزني في ذات الفعل“. [4]

يدعونه “يا معلم” بينما في اليوم السابق دعوه مضللاً (٧: ٤٧).

فقد الكتبة والفريسيون جوهر رسالتهم وهو الدخول بكل نفس إلى معرفة مشيئة الله، وتمتع الكل بالحب الإلهي. وصار انشغالهم منصبًا في الحرف القاتل، بغض النظر عن خلاص الإنسان وتمتعه بالشركة العميقة مع الله. لهذا لم يكن صعبًا عليهم أن يجدوا امرأة في حالة تلبس بجريمة الزنا. جاءوا بها إلى السيد، كل منهم يحمل في قلبه حجرًا يروي أعماقه المتعطشة لسفك الدماء، مطالبين في داخلهم برجمها، كما برجم شخصية السيد المسيح.

لم يدركوا أن السيد المسيح، كلمة الله، لن ينقض الناموس لكنه يكمله، فيرفعه من الحرف القاتل إلى الاهتمام ببنيان الداخل وتقديس الأعماق.

ظن الحرفيون في الناموس أنهم حتمًا يتمتعون برؤية المرأة وهي تطرد من الحياة برجمها، إذ لا تستحق الوجود على الأرض، ولا السكنى في بيت، بل تُلقى في حفرة وتنهال عليها الحجارة. ولم يدركوا أنهم جاءوا بها إلى غافر الخطية القدير، الذي وحده يجتذبها من بيت إبليس ويسحبها من منزل الزنا، لا ليعفو عنها، وإنما لتجد في القدوس عريسًا لنفسها، وفي السماء بيت زوجية تستقر فيه.

قصة هذه المرأة الزانية تفتح أمام كل نفس باب الحب الإلهي والرحمة، لتجد ناموس المسيح قانونها الداخلي الجذَّاب، فتنعم بالصوت الإلهي: “إني لم آتِ لأدين العالم بل لأخلص العالم” (يو ٣: ١٧؛ ١٢: ٤٧). فلا تجد من يحكم عليها بالموت الأبدي، بل من يشتريها بالدم الثمين ويهبها برَّه السماوي، ويشفع فيها أمام الآب، ويدخل بها إلى الأحضان الإلهية. تحولت هذه القصة من وقوف في محكمة إلى دخولٍ في عرس أبدي سماوي.

في رسالته عن العذارى إلى إستوخيوم Eustochuim يكتب القديس جيروم مطالبًا إيّاهن أن يتركن بيت أبيهن، أي إبليس، لكي يرتبطن بالعريس السماوي. [ربما تقولين لي: لقد تركت بيت طفولتي، لقد نسيت أبي، ووُلدت من جديد في المسيح، أيّة مكافأة أنالها؟ يُظهر النص ذلك: “يشتهي الملك حُسنك” (مز 45). هذا هو السرّ العظيم. فإنه لهذا يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويصير الاثنان (ليس كما جاء في النص جسدًا واحدًا)، بل روحًا واحدًا (أف 31:5-32). عريسكن ليس متشامخًا ولا مستخف بكن… إنه يقودكم إلى حجاله بيده الملوكية[1].]

وموسى في الناموس أوصانا أن مثل هذه ترجم،

فماذا تقول أنت؟” [5]

لم يأمر موسى بالرجم بل أمرت الشريعة أن يحكم على الزاني والزانية بالموت (لا ٢٠: ١٠؛ تث ٢٢: ٢٢). لكن كانت وسيلة الحكم بالموت في ذلك الحين هي الرجم. إذ كان عطشهم لسفك الدماء ملتهبًا، ورغبتهم في تلفيق تهم خطيرة ضد السيد المسيح ملتهبة، جاءوا بالمرأة ليقدموا قضية غير متكاملة من الجانب القضائي، إذ لم يأتوا بمرتكب الجريمة مع المرأة، ولا أحضروا الشهود. ومع هذا لم يرفض السيد القضية لعدم تكاملها، لكنه حوَّل أنظار الكل إلى عمق الوصية وغاية الناموس الحقيقية.

  • ألحوا عليه بالجواب على سؤالهم الخبيث، إذ قد كان في ظنهم لا يقدر أن يفلت من سؤالهم ذي الحدين. إن حّل الزانية يكون قد تجاوز الناموس وقلب نظام الشريعة، وفتح بابًا للزنا، وإن أمر برجمها يكون قد ابتعد عن دعته وحلمه، إلا أن السيد المسيح الذي لم يزل حليمًا، ولا ابتعد عن شفقته، ولا علّم ضد الناموس، لكنه حامى عن الناموس، ولم يفنده، ولم يفسخه، وأنقذ المرأة من القتل.

القديس يوحنا الذهبي الفم

قالوا هذا ليجربوه، لكي يكون لهم ما يشتكون به عليه،

وأما يسوع فانحنى إلى أسفل،

وكان يكتب بإصبعه على الأرض“. [6]

جاءوا إليه كقاضٍ يجب أن يحكم بالناموس وإلاَّ حُسب كاسرًا للناموس، ومجدفًا يستحق هو الرجم، ولم يدركوا أن المعزي السماوي. حقا إنه الديان الإلهي لكنه في نفس الوقت المحامي الذي يطلب الخطاة ويطرد الخطية.

كتب “بإصبعه على الأرض”، هذا الذي سبق فكتب الوصايا العشرة بإصبعه على حجارة، وسلمها لموسى، يكتب بإصبعه على الأرض ليكتشف الكل أنهم كسروا الوصية، وعاجزون عن تنفيذ الرجم لأنهم خطاة ومستحقون الموت. إنه لا يزال يكتب على أرض قلوبنا، ليحول ترابها الفاسد إلى سماء مقدسة. يكتب بروحه القدوس (بإصبعه) ليكمل الناموس؛ نكتشف خطايانا فلا ننشغل بخطايا الآخرين، بل بخلاصنا وخلاصهم. يسجل بإصبعه عمل الحب فينا!

لو أنه حكم عليها بالموت لاشتكوه لبيلاطس أنه أصدر حكمًا بالموت، الأمر الذي نُزع من القيادات الدينية وصار في سلطان الحاكم الروماني وحده. هذا وأن القانون الروماني لم يكن يحكم بالموت بسبب الزنا. وإن عفا عنها يُتهم بأنه يسمح بالتسيب وعدم الحزم بخصوص العفة والطهارة، بجانب كسره للناموس.

لم يطلبوا مشورته عن إخلاص لمعرفة الحق، وإنما ليجربوه، لهذا لم يستحقوا أن ينالوا إجابة صريحة، وإنما أن يكشف لهم عما في قلوبهم وأفكارهم وما ارتكبوه سرًا، فصاروا في عارٍ دون أن يعرف أحدهم ما فعله الآخر. لقد ستر عليهم ولم يوبخهم مجاهرة.

  • إن سألت: ماذا كتب السيد المسيح على الأرض؟ أجبتك: يُحتمل أنه قد رسم شيئًا يسبب حياءً وخجلاً للكتبة والفريسيين، وتبكيتًا لخطاياهم.

القديس يوحنا الذهبي الفم

  • بهذه الكلمات والآراء ربما كانوا قادرين على إشعال الحسد ضده، وإثارة اتهامات ضده، وتكون سببًا لطلب إدانته. ولكن هذه ضد من؟ لقد وقفت الحماقة ضد الاستقامة، والبطلان ضد الحق، والقلب الفاسد ضد القلب المستقيم، والجهالة ضد الحكمة. متى أعد مثل هؤلاء الناس شباكًا، ولم يلقوا برؤوسهم أولاً فيها؟ انظروا إذ أجابهم الرب حفظ البرَّ ولم يفارق اللطف. لم يسقط في الشباك المنصوبة له، بل بالأحرى سقطوا هم فيها، إذ لم يؤمنوا به أنه قادر أن يسحبهم إلى الشبكة التي نصبوها[2].

القديس أغسطينوس

ولما استمروا يسألونه،

انتصب وقال لهم:

من كان منكم بلا خطية فليرمها أولاً بحجر“. [7]

كان نظام الرجم عند اليهود حسب فكر الحاخامات هو هكذا. تُربط يدا المجرم من خلف وهو نصف عارٍ، ويوضع على منصة ارتفاعها عشرة أقدام أو اثني عشرة قدمًا، ثم يدفعه الشاهدان بكل قوة، فإن مات ينتهي الأمر، أما إذا لم يمت يحمل أحد الشاهدين حجرًا ضخمًا ويضرب به على صدره، وغالبًا ما تكون الضربة القاضية. غير أن هذا النظام لم يكن يُتبع في كل حالات الرجم.

إذ ألحوا عليه واستمروا يطلبون رأيه وهو صامت كمن لا يسمع أخيرًا سلمها ليحكموا هم إن استطاعوا.

ثم انحنى أيضًا إلى اسفل،

وكان يكتب على الأرض“. [8]

جاء في بعض المخطوطات أنه كان يكتب على الأرض خطاياهم. لم يكتب السيد على رخامٍ أو نحاسٍ بل على التراب، لأنه كتب خطاياهم إلى لحظات وتزول، فإنه ينقش أسماءنا على كفه لتبقى خالدة، أما خطايانا فيكتبها على الأرض في التراب لكي تُدفن مع التراب وتنتهي. كتب في التراب لكي يحكم التراب على التراب، أما هو فما جاء ليدين بل ليخلص.

  • كأن السيد المسيح يقول: قد أريتكم أيها الكتبة والفريسيين جرائمكم على شبه جرم هذه الزانية، بل وأعظم منها كما تشهد عليكم ضمائركم. فإذًا لا تلحوا على دينونة هذه المرأة الزانية بلجاجة وصرامة، بل تذكروا خطاياكم، وافحصوا عن جرمها، لأنكم أنتم خطاة ومجرمون، ومؤهلون للعقاب على شبهها، وإن كنتم تدينونها، فبالأولى أن تدينوا أنفسكم أيضًا، وإن آثرتم رجمها فبالأولى وجب رجمكم… إذًا فقد أنقذ السيد المسيح المرأة الزانية من الموت، ولم يخالف الناموس، لأنه لم يزل قادرًا وحكيمًا ورحيمًا.

القديس يوحنا الذهبي الفم

  • أراد العاصون عن الناموس تنفيذ الناموس، بهذا صاروا مُهتمين بإهماله وليسوا منفذين له،

دينوا كزناة بواسطة العفة!

لقد سمعتم أيها اليهود، أيها الفرّيسيون، يا معلمو الناموس وحارسوه لكنكم لم تدركوا (يسوع) أنه معطي الناموس!

ماذا يعني عندما يكتب بإصبعه على الأرض؟

لقد كُتب الناموس بإصبع اللَّه، لكنه كُتب على حجر بسبب قسوة قلوبكم (الحجرية). الآن يكتب الرب على الأرض لأنه يطلب ثمرًا. لقد سمعتم الناموس، ليته يُنفذ، ليت الزناة يُرحمون…

ولكن هل بعقاب هذه المرأة يتم الناموس بالذين هم مستوجبون العقوبة؟

ليتأمل كل إنسانٍ في نفسه، ليدخل إلى نفسه، ويصعد على كرسي الحكم الذي لذهنه، ويضع نفسه وراء قضبان ضميره، ويلزم ذاته بالاعتراف. فإنه يعرف أنه هو، إذ لا يعرف أحد ما للإنسان إلا روح الإنسان الذي فيه. ليتطلع كل واحد بحرصٍ إلى نفسه فيجد نفسه خاطئًا.

نعم حقًا، إما تتركوا المرأة لسبيلها، أو تنالون معها عقوبة الناموس.

لو أنه قال بأن الزانية لا تُرجم لبرهن أنه غير عادلٍ، وإن قال إنها ترجم لما ظهر أنه حنًان. ليقل ما قاله كلطيفٍ وعادلٍ: “من كان منكم بلا خطية فليرجمها أولاً بحجر” [7].

هذا هو صوت العدالة. لتُعاقب الخاطئة، ولكن ليس بواسطة الخطاة. ليُنفذ الناموس لكن ليس بكاسري الناموس[3].

القديس أغسطينوس

وأما هم فلما سمعوا، وكانت ضمائرهم تبكتهم،

خرجوا واحدًا فواحدَا،

مبتدئين من الشيوخ إلى الآخرين،

وبقي يسوع وحده، والمرأة واقفة في الوسط“. [9]

إن كانوا قد انصرفوا فكيف كانت المرأة واقفة في الوسط؟ الذين انصرفوا هم المتهمون لها، أما الشعب الذي جاء يستمع للسيد المسيح فبقي واقفًا والمرأة في الوسط. وكأن الله لم يكتب خطايا كل الشعب، إنما الذين اتهموها وحدهم. فمن يدين أخاه يُدان! وبالحكم الذي يحكم به على الغير يُحكم عليه. المغلوبون من الخطية غالبًا ما يكونوا مملوئين عنفًا ضد الخطاة، وأما الأبرار فيترفقون بهم، إذ يدينون أنفسهم لا الآخرين.

أظهر الكتبة والفريسيون بتصرفهم هذا أنهم غيورون ضد الخطية، لكن ظهر أنهم هم أنفسهم ليسوا متحررين منها، كانوا كما قال لهم السيد مملوءين من الداخل نجاسة (مت ٢٣: ٢٧–٢٨). بتصرفهم ليس فقط تحاشى السيد الشبكة التي نصبوها له، وإنما سمح لهم أن يسقطوا في ذات الشبكة، إذ صاروا في عارٍ أمام الجمع. لم يستطيعوا تنفيذ الناموس، ولم يوجد أحد منهم مستحقًا أن يرفع أول حجرٍ يلقيه بها. ليتنا لا نلقي الحجارة على اخوتنا بينما نحن أنفسنا نستحق الرجم.

ارتعبوا مما كتبه السيد على الأرض كما سبق وارتعب بيلشصر الملك عندما رأى يدًا تكتب على الحائط أمامه (دا ٥: ٢٥). طوبى للذين يجدون سلامهم فيما يكتب السيد المسيح، والويل لمن يرتعب أمام ما يكتبه السيد.

حول السيد المسيح أنظارهم من التطلع إلى تصرفات المرأة الزانية أو من انتظار الحكم عليها إلى ضمائرهم الداخلية، ليروا الفساد الداخلي، لعلهم يتوبون ويرجعون إلى الله. لقد اكتشفوا فسادهم، وبدلاً من الاعتراف به وقبول مشورة طبيب النفوس هربوا كما من المعركة (٢ صم ١٩: ٣). كل ما فعلوه أنهم خشوا الفضيحة والعار فهربوا لا إلى المسيح مخلصهم بل إلى خارج المسيح حتى لا يفضحهم نوره.

إذ انسحب المشتكون كان يمكن للمرأة أن تهرب، لكنها وجدت خلاصها في السيد المسيح. بتصرفه هذا لم يهادن الخطية، لكنه أعلن أنه جاء ليخلص العالم لا ليدينه، فلم يخشَ الخطاة والعشارون اللقاء معه وهو العارف بأسرار الجميع وخفياتهم.

سرعان ما تغير الموقف! امرأة بائسة تترقب رجمها بعد لحظات، وقد أرهبها لا منظر الحاملين للحجارة لرجم جسدها بل ملامح القادة وقد وجدوا سعادتهم في سفك دمها. الآن تركها الكل لتجد نفسها أمام الحب الفائق للخطاة والعمل الإلهي العجيب لتقديس حياتها لحساب ملكوت السماوات! عوض الرعب صارت كمن في عرسٍ. ترى السماء متهللة تنتظر يوم عرسها الأبدي!

  • فإذ خرجوا أظهروا بالإقرار على أنفسهم أنهم مجرمون على هذه المشابهة، وما أسرعوا بالخروج إلا خوفًا من أن يبتدئ بذكر خطاياهم واحدًا فواحدًا…

مبتدئين من الشيوخ”: خرج الشيوخ أولاً، إما لأنهم كانوا قد ارتكبوا خطايا أكثر، بسبب سنوات عمرهم الأكثر، أو لأنهم فهموا قوة كلام السيد المسيح قبل غيرهم لنباهة فهمهم.

القديس يوحنا الذهبي الفم

فلما انتصب يسوع ولم ينظر أحدًا سوى المرأة،

قال لها:

يا امرأة، أين هم أولئك المشتكون عليكِ؟

أما دانك أحد؟” [10]

فقالت: لا أحد يا سيد.

فقال لها يسوع: ولا أنا أدينك، اذهبي ولا تخطئي أيضًا“. [11]

يرى البعض أن المرأة تعرضت لمعاملة غاية في القسوة والعنف ممن أمسكوا بها، فاكتفى بهذا التأديب لها.

  • قول السيد المسيح للمرأة الزانية: “ولا أنا أدينك“، كأنه يقول: “إنني أنا وحدي الذي أستطيع أن أدينك يا امرأة، لأنني وحدي الديان، ولكن لأنني إنما أتيت لأخلص العالم لا لأدينه، فلست أدينك.

وبقوله: “اذهبي” كأنه يقول: “اذهبي وكوني في طمأنينة، فإن زناكِ قد نُزع عنكِ، لأنني قد نزعت عنكِ خطاياكِ، فإذًا اذهبي…

وقوله: “ولا تخطئي أيضًا” أي أوصيكِ ألا تعودي تخطئي فيما بعد لئلا أدينك على ما تخطئين به. من الآن لا تعودي إلى الخطية مرة أخرى كما يعود الكلب إلى قيئه (أم 26: 11؛ 2 بط 2: 22)، ولا تعودي فيما بعد لئلا تعاقبين.

القديس يوحنا الذهبي الفم

  • الذي غيَّر طبيعة الخمسة أرغفة وصيَّرها أرغفة كثيرة، وأنطق طبيعة الحمار غير العاقل، وجاء بالزانية إلى العفة (يو 8)، وجعل طبيعة النار المحرقة بردًا على الذين كانوا في الأتون، ومن أجل دانيال لطَّف طبيعة الأسود الكاسرة، كذلك يقدر أن يغَّير النفس التي أقفرت وتوحشت بالخطية، ويحولها إلى صلاحه ورآفاته وسلامه بروح الموعد المقدس الصالح.

القديس مقاريوس الكبير

  • لقد سمعنا صوت العدالة [7]، لنسمع أيضًا صوت الرحمة… ذاك الذي طرد خصومها بلسان العدل رفع عيني الرحمة إليها، قائلاً لها: “ولا أنا أدينك؛ اذهبي، ولا تخطئي أيضًًا” [18].

ليحذر الذين يحبون في الرب لطفه، ليخشوا حقه! فإن الرب حلو وحق” (مز 35: 8). أنت تحبه بكونه حلوًا، لتخشاه بكونه حقًا…

الرب رقيق، طويل الأناة، حنّان، لكن الرب أيضًا عادل وحق.

إنه يفسح لك المجال للإصلاح، لكنك تحب تأجيل الدينونة أكثر من إصلاح طرقك!

هل كنت بالأمس شريرًا؟ لتكن اليوم صالحًا.

هل أنت مستمر اليوم في شرِّك؟ على أي الأحوال تغيّر غدًا… لكن كيف تعرف أن غدًا يأتي؟… اللَّه وعد بالغفران لمن يُصلح من شأنه، لكنه لم يعدني بأن يطيل حياتي (للغد)![4]

القديس أغسطينوس

يحذرنا القديس أغسطينوس من اليأس كما من الرجاء الباطل، فمن ييأس ظانًا أن اللَّه لا يغفر له يقتل نفسه باليأس، ومن يسترخي مهملاً في التوبة بدعوى رحمة اللَّه تنقذه غدًا يهلك نفسه بالرجاء الباطل[5].

2. المسيح نور العالم

ثم كلمهم يسوع أيضًا قائلاَ:

أنا هو نور العالم،

من يتبعني فلا يمشي في الظلمة،

بل يكون له نور الحياة“. [12]

إذ انسحب المشتكون الذين أرادوا أن يسببوا اضطرابًا وبلبلة وسط الجمع ثم انسحبت المرأة أكمل السيد المسيح تعليمه للشعب، وغالبًا ما لخص حديثه بالعبارة: “أنا هو نور العالم…” [١٢]. بدونه يبقى الكل في الظلمة والبؤس والموت. لقد أدرك الفريسيون أن ما يعنيه بهذا أنه المسيا المنتظر، إذ رمز إليه الأنبياء بالنور (إش ٦٠: ١؛ ٤٩: ٧؛ ٩: ٩). جاء في Bamidbar Rabba: “قال الإسرائيليون لله يا رب المسكونة، أنت أمرت أن توقد أسرجة لك، أنت هو نور العالم. وبك يسكن النور[6]“.

لا يسلك في الظلمة“، أي يخلص من الجهل والخيانة والخطية.

يرى البعض أن الحديث هنا يشير إلى عادة كان يمارسها اليهود حيث يضيفون إلى عيد المظال يومًا تاسعًا فيه يُخرجون كل الكتب المقدسة من الصناديق المودعة فيها ويضعون مكانها مشاعل منيرة إشارة إلى ما جاء في أم ٦: ٢٣ “لأن الوصية مصباح، والشريعة نور، وتوبيخات الأدب طريق الحياة”.

يرى كثير من الدارسين أن من أهم الذكريات لعيد المظال هو سكب الماء بيد رئيس الكهنة كما رأينا في الأصحاح السابق، وممارسة طقس “النور” تذكارًا لعمود النور الذي كان يتقدم الشعب في البرية ليقودهم وسط ظلمة الليل (خر ١٣: ٢١) حتى يعبروا إلى كنعان حسب الوعد الإلهي.

كانوا يستخدمون في هذا العيد شمعدانًا ضخمًا ذا فروع. كانت تستخدم أربعة أسرجة تُملأ بالزيت، كانوا يصعدون إليها بواسطة سلم. وقد جاء في التلمود أن ارتفاعها خمسون ذراعًا. وكان النور بهيًا جدًا، فجاء في المشناة Mishah: “لا توجد ساحة دار في أورشليم لا ينعكس عليها النور”. هذا المنظر البرَّاق كان نادرًا جدًا في المدن القديمة.

يرى بعض الدارسين أن هذا الشمعدان يُطفأ بعد العيد، وقد وقف السيد هناك حيث انطفأ النور الذي أبهر القادمين للعيد، وحلت الظلمة عوض النور، ليعلن عن الحاجة إلى النور الإلهي، إلى المسيا عبد الرب بكونه نورًا جاء للأمم.

جاء في إشعياء النبي: “أنا الرب قد دعوتك للبرّ، فأمسك بيدك وأحفظك، وأجعلك عهدًا للشعب، ونورًا للأمم، لتفتح عيون العمي، لتخرج من الحبس المأسورين من بيت السجن، الجالسين في الظلمة” (إش ٤٢: ٦–٧). “قد جعلتك نورًا للأمم لتكون خلاصي إلى أقصى الأرض” (إش ٤٩: ٦). “حقي أثبته نورًا للشعوب” (إش ٥١: ٤).

إذ فسَّر الربيون قول المرتل: “الرب نوري وخلاصي ممن أخاف” (مز ٢٧: ١)، بأن الناموس هو النور، أعلن السيد أنه هو الكلمة الإلهي، نور العالم، الذي يضيء لكل إنسانٍ آت إلى العالم.

وإذ قالوا أن الهيكل هو “النور” سألهم السيد أن ينقضوا الهيكل ليبنيه في ثلاثة أيام (يو ٢: ٢٠)، معلنًا عن هيكل جسده القائم من الأموات، بكونه الهيكل الذي يضم الخليقة الجديدة المستنيرة بنور قيامته.

وعندما تحدث الإنجيلي يوحنا عن الهيكل السماوي قال: “الرب الله القادر على كل شيء هو والخروف هيكلها… لأن مجد الله قد أنارها، والخروف سراجها” (رؤ ٢١: ٢٣، ٢٤).

يشبه السيد المسيح حياة الإنسان برحلة وسط عالمٍ مظلمٍ، يحتاج إلى شمس البرّ، تشرق عليه وترافقه فلا يتعثر في الطريق. يليق بالمؤمن أن يتبعه ويسترشد به في كل أمور حياته. إنه النور الحقيقي الذي نجد سلامنا في التطلع إليه ومصاحبته والإيمان به والسير فيه، ليكون سراجًا ليس لعيوننا فقط بل ولأرجلنا، سراج لكل كياننا. يقودنا في هذا العالم ويرفعنا بروحه القدوس إلى السماء فنتمتع بعربون الأبدية.

  • أوضح أنه ليس هو أحد الأنبياء، لكنه سيد العالم، وليس هو نور الجليل ولا فلسطين ولا اليهودية، بل “نور العالم“.

 القديس يوحنا الذهبي الفم

  • إن كنا أساقفة الله والمسيح لا أجد أن أحدًا ما يُلزمنا أن نتبعه أكثر من الله والمسيح، إذ هو نفسه في إنجيله يؤكد قائلاً: “أنا نور العالم، من يتبعني لا يسلك في الظلمة بل يكون له نور الحياة” [١٢][7].

الشهيد كبريانوس

  • أظن ما يقوله الرب: “أنا هو نور العالم” [12] واضح لمن لهم أعين يشاركون بها هذا النور، أما الذين ليس لهم أعين سوى الأعين التي في الجسد وحدها فيندهشون لقول الرب يسوع المسيح: “أنا هو نور العالم[8].
  • يوجد نور هو خالق لنور الشمس. لنحب هذا النور، ونشتاق أن ندركه، ونعطش إليه، حتى يقودنا ويبلغ بنا إليه، وهكذا نعيش فيه فلن نموت…

الذي يشرق عليك لكي تنظره، هو بعينه (الينبوع) الذي يفيض عليك فترتوي…

حتى عندما لا يُعلن ربنا يسوع المسيح للكل خلال سحابة جسده، لكنه هو كما هو ممسك بكل الأشياء بقوة حكمته…

إلهك حال بكامله في كل موضع، إن كنت لا تتركه لن يتركك”[9].

القديس أغسطينوس

  • لنتبعه الآن فننال فيما بعد. نتبعه الآن بالإيمان فننال فيما بعد بالعيان. يقول الرسول: “فإذًا نحن واثقون كل حين وعالمون أننا ونحن مستوطنون في الجسد فنحن متغربون عن الرب، لأننا بالإيمان نسلك لا بالعيان” (2 كو 5: 6-7).

متى نسلك بالعيان؟ عندما يكون لنا نور الحياة، عندما نبلغ تلك الرؤيا، عندما يعبر الليل.

عن هذا اليوم حيث نقوم قيل: “في الصباح اقترب إليك وأتأملك” (مز 5: 4). ماذا يعني “في الصباح”؟ عندما يعبر ليل هذا العالم، عندما تنتهي مخاوف التجارب، عندما ينهزم ذاك الأسد الذي يجول في الليل يطلب من يفترسه.

“في الصباح أقف أمامك وأتأمل”. الآن ماذا تظنّون أيها الاخوة ما هو واجبنا نحو الحياة الحاضرة، إلا ما يقوله المزمور مرة أخرى: “أعوّم كل ليلة سريري بدموعي…” (مز 6: 6)

يقول كل ليلة أبكي، والتهب شوقًا نحو النور. فيتطلع الرب إلى رغبتي، إذ يقول مزمور آخر: “أمامك كل شوقي وتنهدي ليس بمستورٍ عنك” (مز 38: 10).

هل تشتاق إلى الذهب؟ لا يمكنك أن لا تُرى، لأنك إذ تطلب الذهب تُعلن ذلك للبشر…

أتشتاق إلى اللَّه”؟ من يرى ذلك إلا اللَّه؟ ممن تطلب اللَّه… إلا من اللَّه؟ فإنه يُطلب من ذاته الذي يعد بإعطاء ذاته.

لتبسط النفس شوقها، وبحضنها المتسع تطلب وتدرك ما لم تره عين وما لم تسمع به أذن وما لا يخطر على قلب إنسان (1 كو 2: 9).

يمكننا أن نشتهي ذلك ونتوق إليه ونركض وراءه، لكننا لا نقدر أن نستحق إدراكه ونعلنه بكلمات[10].

القديس أغسطينوس

فقال له الفريسيون:

أنت تشهد لنفسك،

شهادتك ليست حقا“. [13]

إذ انسحب الفريسيون المشتكون على المرأة الزانية بقي فريسيون آخرون لمقاومته من جهة ما ينطق به من تعاليم. كان الفريسيون يعرفون أن “النور” هو لقب المسيا الذي ترقبه رجال العهد القديم كما جاء في دانيال ٢: ٢٢.

يغالط الفريسيون أنفسهم، فإننا نجد في العهد القديم بعض الأنبياء شهدوا لأنفسهم، وأكدوا أنهم يحملون إعلانًا إلهيًا أو نبوة من السماء. بل وجاء الفريسيون يسألون يوحنا المعمدان: ماذا تقول عن نفسك؟ لو أنهم في إخلاصٍ تطلعوا إلى تعاليمه وآياته التي صنعها لأدركوا أن السيد المسيح لم يكن محتاجًا إلى شهادة خارجية.

أجاب يسوع وقال لهم:

وإن كنت أشهد لنفسي فشهادتي حق،

لأني أعلم من أين أتيت، وإلى أين أذهب،

وأما أنتم فلا تعلمون من أين آتي، ولا إلى أين أذهب“. [14]

إذ يعلم السيد المسيح أنه ابن الله لم يهاجمهم ولا هاجم شهادتهم الكاذبة، إنما كشف عن شخصه وعن علاقته بالآب ورسالته بتجسده. وهذا كله فيه كل الكفاية للشهادة له.

أكد السيد المسيح ثلاث حقائق:

أولاً: يقينه من جهة معرفته بنفسه، وأن الأمر ليس فيه أدنى شك ولا يحتاج إلى حوارٍ. يعرف نفسه قبل مجيئه وإعلانه عن نفسه للعالم. فقد جاء من عند الآب وإليه يذهب (يو ١٦: ٢٨)، جاء من المجد ويعود إليه (يو ١٧: ٥).

ثانيًا: أنهم ليسوا أكفاء ليكونوا قضاة عليه وعلى تعاليمه، لأنهم جهلاء ويريدون أن يبقوا في ظلمة الجهل. إنهم يدينون في حسب أهوائهم الجسدية [١٥]، ليسوا أهلاً للحكم فيما هو إلهي وروحي. ومع استحقاقه أن يدين لأنه الديان العادل لكنه يؤجل الدينونة إلى مجيئه الثاني.

ثالثًا: أن شهادته لنفسه تثبتها شهادة الآب له [١٨].

  • للرب يسوع المسيح شهود هم الأنبياء الذين أُرسلوا قبله، المذيعون (الحجَّاب) الذين يسبقون القاضي. له أيضًا يوحنا المعمدان شاهد له، لكن هو نفسه يحمل أعظم شهادة لنفسه… إنه النور الحقيقي الذي يضيء لكل إنسانٍ آتٍ إلى العالم[11].
  • لأني أعلم من أين أتيت، وإلى أين أذهب” من يتكلم معكم بشخصه لديه ما لم يتركه، ومع ذلك قد جاء. لأنه بمجيئه لم يترك هناك (السماء). ولن يهجرنا عندما يعود إلى هناك.

لماذا تتعجبون؟ إنه اللَّه، فإن ما يحدث لا يقدر أن يفعله إنسان، لن يحدث حتى مع الشمس، فإنها إذ تذهب إلى الغرب تترك الشرق حتى تعود إليه عندما تشرق… أما ربنا يسوع المسيح فإنه يأتي وفي نفس الوقت هو هناك، ويعود وهو لا يزال هنا. اسمع الإنجيلي نفسه يقول… “اللَّه لم يره أحد قط، الابن الوحيد الذي في حضن الآب هو خبّر”. لم يقل أنه كان في حضن الآب، كما لو كان بمجيئه قد ترك حضن الآب.

كان يتحدث هنا، ومع ذلك يعلن أنه كان موجودًا هناك.

وعندما اقترب من الرحيل من هنا ماذا قال: “ها أنا معكم كل الأيام وإلى انقضاء العالم” (مت 28: 20)[12].

القديس أغسطينوس

  • من ينكر أن الابن من الآب لا يعرف الآب الذي منه الابن، وأيضًا لا يعرف الابن لأنه لا يعرف الآب[13].

القديس أمبروسيوس

أنتم حسب الجسد تدينون،

أما أنا فلست أدين أحدًا“. [15]

إذ صار الكلمة جسدًا دانه الفريسيون حسب الجسد، إذ ظنوه إنسانًا مجردًا، ولم يدركوا حقيقته أنه كلمة الله وحكمة الله وقوة الله. أعماله تشهد بذلك، إنه المسيا الموعود به. لقد خدعوا أنفسهم بأنفسهم، لأنهم حاولوا قياس الإلهيات بمقاييس بشرية، والروحيات بمقايسس جسدية.

تطلعوا إلى الناموس والوعود الإلهية بأعين جسدية، فتحول الكتاب إلى دراسات حرفية، وتعلق بالخلاص الزمني والكرامة الباطلة والحرف القاتل، فتعثروا في معرفة المسيا كما في معرفة الآب الذي أرسله.

  • أن يعيش أحد حسب الجسد هو أن يحيا بطريقة شريرة، هكذا من يدين حسب الجسد يدين ظلمًا[14].
  • “لا أدين أحدًا”، فإنني إن كنت أود أن أدين تكونون أنتم مًدانين… لكن وقت الدينونة لم يحل بعد. إنه يلمح بأنه ليس وحده يدينهم، بل والآب أيضًا يدينهم[15].

 القديس يوحنا الذهبي الفم

  • نحن نقول أنه سيأتي ديّانًا للأحياء والأموات بينما يقول عن نفسه: “أما أنا فلست أدين أحدًا” [15]. هذا السؤال يمكن أن يُحل بطريقتين. إما أننا نفهم هذا التعبير “لست أدين أحدًا” بمعنى لست أدين أحدًا الآن، وذلك حسب قوله في موضع: “لم آتِ لأدين العالم بل لأخلص العالم”، غير منكرٍ هنا أنه يدين، لكنه يرجئها. أو لأنه إذ قال: “أنتم حسب الجسد تدينون” [15] أضاف: “أما أنا فلست أدين أحدًا” بذات الطريقة، أي حسب الجسد[16].

القديس أغسطينوس

وإن كنت أنا أدين، فدينونتي حق،

لأني لست وحدي،

بل أنا والآب الذي أرسلني“. [16]

  • أشار السيد المسيح هنا بالتلميح أنه ليس هو وحده يدينهم، لكن أباه أيضًا معه يوجب الحكم عليهم[17].

القديس يوحنا الذهبي الفم

  • كأنه يقول: “دينونتي حق“، لأنني ابن اللَّه. كيف تبرهن أنك ابن اللَّه”؟ “لأني لست وحدي، بل أنا والآب الذي أرسلني”… يوجد جوهر واحد، لاهوت، شركة أزلية، مساواة كاملة عدم اختلاف… لكن الآب آب، والابن ابن… الابن أقنوم آخر غير الآب، هذا تقوله بالحق، أما أنه مختلف عنه في الطبيعة فهذا ليس حقًا… أنا لست الابن بطريقة بها لا أكون معه، ولا هو بطريقة بها لا يكون معي. لقد أخذت شكل العبد، لكنني لم أفقد شكل اللَّه[18].
  • ليتنا أيها الاخوة نختار لأنفسنا اللَّه ديّانًا لنا، اللَّه شاهد لنا ضد ألسنة الناس، ضد شبهات البشرية. فإن ذاك الذي هو الديّان لا يستنكف من أن يكون شاهدًا، ولا يزداد كرامة حين يكون ديّانًا، حيث أن الشاهد هو نفسه سيكون ديّانًا[19].

القديس أغسطينوس

وأيضًا في ناموسكم مكتوب أن شهادة رجلين حق“. [17]

وإن كان يمكن أن يتفق اثنان أو أكثر على الشهادة الزور (١ مل ٢١: ١٠)، لكنها تُقبل كشهادة حق ما دام لا يثبت ضدها (تث ١٧: ٦؛ ٩: ١٥؛ عد ٣٥: ٣٠).

أنا هو الشاهد لنفسي،

ويشهد لي الآب الذي أرسلني“. [18]

كما اشترك الآب والابن في الخلقة، هكذا يعملان معًا في الخلاص. ما يفعله الابن لا يعمله بمفرده بل مع أبيه الذي هو أيضًا يشهد له.

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن الفريسيين عرفوا أنه المسيح لكنهم بسبب حسدهم تحدثوا معه كمن لم يعرفوه، وأنهم جاءوا ليجربوه فحسبهم ليسوا أهلاً أن يجيب عليهم. لذلك لم يقدم لهم نبوات العهد القديم والدلائل على شخصه، إنما أعلن أنه هو الشاهد لنفسه، فآياته وتعاليمه وصليبه الذي حان وقته، هذه كلها شهادة حية له. ليس بمحتاجٍ إلى شهادة آخر، وإنما يشهد له الآب بكونه واحدًا معه[20].

  • ألا ترون أنه قال هذا ليظهر أنه من ذات الجوهر ولا يحتاج إلى شاهد آخر، وأنه ليس بأقل من الآب؟ لاحظوا على الأقل استقلاله (تمايزه)[21]!
  • لو أنه (المسيح) في كيانٍ أقل (من الآب) لما قال هذا! الآن لكي لا تظنوا أن الآب قد ضُم للشهادة ليجعل الرقم اثنين (شاهدين) لاحظوا أن سلطانه ليس مختلفًا عما للآب. يقدم الإنسان شهادة عندما يثق في نفسه وليس عندما يحتاج هو نفسه إلى شهادة، وهكذا أيضًا فيما يخص الغير. أما فيما يخصه هو نفسه حين يحتاج إلى شهادة آخر، فإنه لا يكون هو موضع ثقة. أما الحال هنا فمختلف تمامًا، فإنه إذ يشهد لنفسه وأنه يوجد آخر يشهد له يؤكد أنه موضع ثقة، ويعلن بكل الطرق استقلاله (دون انفصاله)…

يضع نفسه أولاً: “أنا هو الشاهد لنفسي” [١٨]. واضح أنه يظهر هنا مساواته في الكرامة، وأنهم لن ينتفعوا شيئًا بقولهم أنهم عرفوا الآب بينما هم لم يعرفوا (المسيح).

يقول أن علة هذا أنهم لا يرغبون في معرفته. لهذا يقول لهم أنه من المستحيل أن يعرفوا الآب بدون أن يعرفوه هو، إذ يقوم هو بجذبهم إلى معرفته. لذلك فبتركهم إياه حتى وإن بحثوا عن معرفة الآب يقول: “لا تقدرون أن تعرفوا الآب بدوني”. فمن يجدف على الابن، لا يجدف على الابن وحده، بل وعلى من ولده[22].

القديس يوحنا الذهبي الفم

فقالوا له:

أين هو أبوك؟

أجاب يسوع:

لستم تعرفونني أنا ولا أبي،

لو عرفتموني لعرفتم أبي أيضًا“. [19]

اتهمهم السيد المسيح بجهلهم لمعرفة الله. حقًا لقد عُرف الله في اليهودية (مز ٦٧: ١)، لهم بعض المعرفة لله كخالقٍ للعالم، لكن أعينهم أظلمت، فلم تستطع أن ترى نور مجده المشرق في وجه يسوع المسيح. أما علة جهلهم للآب فهو جهلهم لشخص المسيح الذي يعلن عن معرفة الآب.

  • العبارة: “تعرفونني وتعرفون من أين أنا” (يو ٧: ٢٨) خاصة بشخصه كإنسانٍ، أما العبارة “لستم تعرفونني أنا ولا أبي” [١٩] فخاصة بلاهوته… فمن الواضح أن كلمات القوم الذين من أهل أورشليم: “هذا نعلم من أين هو” (يو ٧: ٢٧) تشير إلى حقيقة أنه وُلد في بيت لحم (مت ٢: ١). وقد عرفوا أنه ذاك الذي أمه تُدعى مريم وأن اخوته (أبناء خالته) هم يعقوب ويوحنا وسمعان ويهوذا (مت ١٣: ٥٥). لهذا شهد للقائلين: “هذا نعلم من أين هو” قائلاً: “تعرفونني وتعرفون من أين أنا”. لكنه حينما تحدث مع الفريسيين قال: “وإن كنت أشهد لنفسي فشهادتي حق، لأني أعلم من أين أتيت وإلى أين أذهب” [١٤]، إذ كان يتحدث عن طبيعته الإلهية، كشخص يتحدث عن الأساس الذي به هو بكر الخليقة (كو ١: ١٥)[23].
العلامة أوريجينوس

ظن بعض الهراطقة أن في قول السيد المسيح “ولا أبي” للفريسيين إشارة إلى أن أباه غير الله الخالق الذي يعرفه الفريسيون خلال قراءتهم للعهد القديم. لكن عدم معرفة الفريسيين هنا تنبع عن شرهم. لا يعرف الأشرار الله حتى إن آمنوا به كخالقٍ، وتحدثوا عنه بكونه الله دون الالتصاق به والسلوك حسب مسرته.

  • إن كان أحد ما قادرًا أن يقدم حسابًا كاملاً عن الأمور الخاصة بالله، وقد تعلَّم من آبائه أنه وحده ينبغي له السجود، فإنه ما لم يسلك باستقامة يقول الكتاب عنه أنه لا يحمل معرفة الله.

إن كان أحد بالحقيقة يعرف الأمور الخاصة بالخالق وخدمته الكهنوتية فمن الواضح أن أبناء عالي الكاهن كان لهم هذا، إذ أنهم كانوا يقيمون في موضع العبادة. مع هذا إذ أخطأوا كُتب عنهم في سفر ملوك الأول: “وكان بنو عالي بني الهلاك، لم يعرفوا الرب” (راجع ١ صم ٢: ١٢)…

يمكننا أن نجد نفس الشيء ليس فقط بخصوص أبناء عالي بل وبخصوص حكام أشرار في إسرائيل ويهوذا. هكذا أيضًا لم يعرف الفريسيون الآب، إذ لم يعيشوا حسب إرادة الخالق[24].

العلامة أوريجينوس
  • إذ تحدث الرب عن اللَّه أبيه أجابوه وقالوا له: “أين هو أبوك؟” لقد فهموا أب المسيح جسديًا، لأنهم يدينون كلمات المسيح حسب الجسد. لكن الذي تحدث كان الظاهر هو الجسد، وأما الخفي فهو الكلمة؛ الإنسان المنظور واللَّه الخفي… لقد احتقروه لأنهم لم يعرفوه، ولم يعرفوه لأنهم لم يروه، ولم يروه لأنهم عميان، وهم عميان لأنهم لم يؤمنوا[25].
  • نحن نراك وحدك، ولا نرى أباك معك، فكيف تقول أنك لست وحدك بل أنت مع أبيك؟ إلا فلترنا أن أباك معك[26].

القديس أغسطينوس

هذا الكلام قاله يسوع في الخزانة وهو يعلم في الهيكل،

ولم يمسكه أحد،

لأن ساعته لم تكن قد جاءت بعد“. [20]

الخزانة: يخبرنا الإنجيلي يوحنا عن الموضع الذي استخدمه السيد ليقدم فيه تعليمه، وهو “الخزانة“. غالبًا لا يقصد به الموضع الذي توضع فيه كنوز الهيكل الثمينة، وإنما تشير إلى جزء من المناطق التي يقدم إليها الشعب ليقدموا عطاياهم للهيكل. وهو يمثل جزءً خاصًا بدار النساء حيث يوجد فيه ١٣ صندوقًا للعطاء على شكل أبواق. يُنقش على كل صندوق مجال استخدامه حتى يقدم الشخص عطاءه حسبما يريد أن يوجهه. أما دعوة الموضع “دار النساء” فلا يعني أنه خاص بالنساء ولا يدخله الرجال، وإنما يعني أنه يسمح للنساء بالدخول فيه، ولا يسمح لهن بالدخول في مواضع أخرى. وذلك كما يسمح للأمم الدخول إلى “دار الأمم” لكن هذا لا يعني عدم دخول اليهود فيه.

كان هذا الموضع محببًا للشعب حيث كانت توقد فيه المنارات الأربع في عيد المظال السابق الإشارة أيها. وكان هذا الموضع يُدعى جازت Gazith، في مواجهة المكان المخصص لانعقاد مجمع السنهدرين. لهذا قال السيد المسيح أثناء محاكمته: “أنا علَّمت في كل حين في المجمع وفي الهيكل حيث يجتمع اليهود دائمًا، وفي الخفاء لم أتكلم بشيء” (يو ١٨: ٢٠).

وكان السيد المسيح يعلن مجاهرة أمام الشعب وفي حضرة السنهدرين أنهم لا يعرفون الآب لأنهم لم يعرفوه هو [١٩]. ومع هذا لم يستطيعوا القبض عليه.

كانت ألسنتهم بلا ضابط تنطق بالتجديف ضده، أما أياديهم فكانت مربوطة، لأن ساعته لم تكن قد جاءت بعد. لقد قيدهم بقوته الإلهية حتى تحين ساعة صلبه.

  • يقول عن السيد المسيح: “لأن ساعته لم تكن قد جاءت بعد”، ومعنى ذلك أنه لم يكن قد حان بعد وقت ملائم يشاء أن يُصلب فيه، فمن هذه الجهة كان صلبه ليس بقوة أولئك، وإنما كان بتدبيره هو، لأنهم أرادوا ذلك من قبل ولم يقدروا، ولا اقتدروا بعد ذلك لو لم يرد هو ذلك.

القديس يوحنا الذهبي الفم

  • هذه تُظهر أنه إن كانت كل المساهمة في مساندة المحتاجين في خزانة الهيكل لأجل الصالح العام، فإن يسوع فوق الكل قدم ما هو نافع. قدم هذه الكلمات الخاصة بالحياة الأبدية (يو ٦: ٦٨)، وتعليمه عن الله (الآب)، وعن نفسه. قوله: “أنا نور العالم” [١٢].

كان في الخزانة أكثر قيمة من أية عملة. وهكذا قوله: “لو عرفتموني لعرفتم أبي أيضًا” [١٩]، وكل بقية التعاليم في ذلك الموضع.

كل الذهب الذي قدمه الآخرون إلى الخزانة يشبه حبة رمل إن قورن بكلمات يسوع؛ وتُحسب الفضة طينًا في حضرتها (راجع حك ٧: ٩) فإن كل كلمة نطق بها هي حكمة…[27]

  • لم ينطق يسوع بكل الكلمات التي لديه حين كان يعلم في الخزانة، وإنما قدر ما يمكن للخزانة أن تتقبل. فإنني لست أظن أن العالم نفسه يمكن أن يحوي كل كلمة الله (يو ٢١: ٢٥)[28].
  • مع أنه نطق هكذا بكلمات كثيرة في الخزانة، وعلَّم في الهيكل لم يمسكه أحد، لأن كلماته كانت أقوى من الذين يرغبون في القبض عليه. مادام يتكلم لا يقبض عليه أحد ممن يخططون ضده، لكنه إذ يصمت يمسكون به. هذا هو السبب الذي لأجله كان صامتًا عندما فحصه بيلاطس وحين ضُرب (يو ١٩: ٩)، إذ أراد أن يتألم لحساب العالم. فإنه لو تكلم لما صُلب عن ضعف (٢ كو ١٣: ٤) لأنه لا يوجد ضعف في الكلمة المتكلم[29].
العلامة أوريجينوس

3. هلاك غير المؤمنين

قال لهم يسوع أيضًا:

أنا امضي وستطلبونني،

وتموتون في خطيتكم،

حيث أمضي أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا“. [21]

يقدم السيد المسيح تحذيرًا لغير المؤمنين، بأن جحودهم يدفعهم إلى الهلاك الأبدي. وكما يقدم السيد كلمات النعمة المشجعة لصغار النفوس، يقدم تحذيرات مرعبة للجاحدين قبل فوات الأوان. وكما قال: “يشبهون أولادًا جالسين في السوق ينادون بعضهم بعضًا ويقولون: زمرنا لكم فلم ترقصوا، نحنا لكم فلم تبكوا” (لو ٧: ٣٢). هكذا كثيرًا ما يفتح الرب باب الرجاء بالكلمات الطيبة اللطيفة، كما يستخدم التحذيرات الشديدة ليحفظهم من السقوط أو يقوموا مما سقطوا فيه.

أنا أمضي“: لقد طلبوا منه أن يمضي عنهم، فإنهم لا يطلبونه، ولا يريدون أن يسمعوا كلماته. وها هو يخبرهم أنه سيمضي، وبمضيه عنهم لا يجدون الحياة بل يموتون في خطيتهم. حين يحل بهم الضيق يطلبون عون المسيا المرفوض منهم والذي صلبوه فلا يجدونه حسب هواهم. يرفضونه ليطلبوا مسحاء كذبة لا يقدمون الحياة بل الغضب الإلهي.

يطلبونه لكن فكرهم المادي الحرفي يحصرهم في حدود الأرض، فيبحثون عنه ولا يجدونه إذ هو صاعد إلى السماء. يطلبونه وهم محبوسون في قبر مجدهم الزمني ومصالحهم المادية فلا يجدونه هناك، لأنه هو نور الحياة. يموتون في خطاياهم إذ لا يروا غافر الخطية ومخلص النفوس من الفساد. هكذا يفضح الطبيب السماوي المرض أمام المرضى لعلهم يقبلون الالتقاء معه ويتمتعون بالشفاء.

خطيتكم” جاء في اليونانية بالمفرد لا الجمع، إذ يركز على خطية الجحود ورفض السيد المسيح. هذا ويلاحظ أن الإنجيلي يوحنا وقد ركز أنظارنا على السيد المسيح كمخلص العالم كرر أكثر من غيره من الإنجيليين فعل “يموت” واسم “خطية”. فذكر فعل “يموت” ٢٨ مرة بينما ورد في متى ٥ مرات، ومرقس ٩ مرات، ولوقا ١٠ مرات، ولم ترد بهذه الكثرة في أي سفر في العهد الجديد، إنما جاء في الرسالة إلى رومية ٢٣ مرة. أما كلمة “خطية” فوردت ١٧ مرة في هذا الإنجيل بينما وردت ٧ مرات في متى، ٦ مرات في مرقس، و١١ مرة في لوقا. ومع هذا فإن الإنجيلي يوحنا لم يهدف إلى تركيز أنظارنا على الخطية وما تثمره من موت، وإنما مع خطورة الخطية القاتلة يركز على ساحق الخطية بصليبه لكي نعيش بروح النصرة والغلبة، ونمارس الحياة الجديدة عوض الموت الروحي.

لقد سبق فقال هذا أيضًا في اليوم السابق (يو ٧: ٣٤).

  • إنني أسأل إن كان يقول: “أنا أمضي وستطلبونني، وتموتون في خطيتكم” ليس لكل الحاضرين، وإنما للذين قد عرف أنهم لا يؤمنون به، ولذلك يموتون في خطيتهم، ويصيروا عاجزين عن أن يتبعوه. إنهم عاجزون لأنهم لا يريدون، فإنهم عاجزون، ولكنهم يريدون ما كان يليق بالقول: “تموتون في خطيتكم[30].
  • يجيب أحد: إن كان قد نطق بهذه الكلمات إلى أناسٍ مصممين على عدم الإيمان فلماذا يقول لهم “ستطلبونني“؟ حسنًا، توجد طرق كثيرة لطلب يسوع، بكونه الكلمة والحق والحكمة. لكن… “الطلب” أيضًا يستخدم أحيانًا عن الذين يخططون ضده كما جاء في العبارة: “طلبوا أن يمسكوه، ولم يلقِ أحد يدًا عليه لأن ساعته لم تكن قد جاءت بعد (يو ٧: ٣٠). وأيضًا في العبارة: “أنا عالم أنكم ذرية إبراهيم لكنكم تطلبون أن تقتلوني، لأن كلمتي لا موضع لها فيكم” ( راجع يو ٨: ٣٧). وفي العبارة: “ولكنكم الآن تطلبون أن تقتلوني وأنا إنسان قد كلمكم الحق الذي سمعه من الآب” (راجع ٨: ٤٠) لهذا فإن العبارة “ستطلبونني…” [٢١] مقدمة للذين يطلبون بطريقة خاطئة وليس نقضًا للقول: “من يطلب يجد” (مت ٧: ٨). يوجد دائمًا اختلافات فيما بين الذين يطلبون يسوع. ليس الكل يطلب بطريقة سليمة لأجل خلاصهم وللانتفاع به[31].
  • تموتون في خطاياكم” [٢١]. إن أخذت بالمعنى العادي الواضح أن الخطاة سيموتون في خطاياهم، وأما الأبرار ففي برهم. لكن إن أُخذ تعبير “ستموتون” بخصوص الموت لعدو المسيح (١كو ١٥: ٢٦) حيث أن من يموت يرتكب “خطية تقود إلى الموت” (١ يو ٥: ١٦)، فمن الواضح أن الذين وُجهت إليهم هذه الكلمات لم يكونوا قد ماتوا بعد. ربما تسأل كيف أن الذين لم يؤمنوا وهم أحياء سيموتون في وقتٍ ما. يجيب أحدهم ويقول إنهم إلى ذلك الحين لم يؤمنوا، ولم يخطئوا للموت، والذين لم تأتِ بعد إليهم الكلمة لم يرتكبوا خطية الموت. إنهم أحياء يعانون من المرض في نفوسهم، وهذا المرض ليس للموت (يو ١١: ٤)…[32]
  • لنهتم ألا يصيبنا “مرض للموت“، فمرضنا يمكن أن يُشفى (بالتوبة)، وهو متميز عن المرض الذي لا يُمكن شفائه (بالإصرار على عدم التوبة)[33].
  • لنقارن عبارة حزقيال: “النفس التي تخطئ تموت” (حز ١٨: ٢٠) بالقول: “ستموتون في خطاياكم“، لأن الخطية هي موت النفس. لست أظن أن هذا صحيح لكل خطية بل للخطية التي يقول عنها يوحنا أنها للموت (١ يو ٥: ١٦)[34].
  • لنميز أيضًا بين خطية هي موت للنفس، وأخرى هي مرض لها. وربما يوجد نوع ثالث للخطية هي فقدان للنفس، هذه التي تشير إليها الكلمات: “ماذا ينتفع الإنسان إن ربح العالم كله وخسر نفسه؟” (مت ١٦: ٢٦؛ لو ٩: ٢٥). وأيضًا الكلمات: “إن احترق عمل أحد فإنه يعاني من الفقدان” (راجع ١ كو ٣: ١٥)[35].
العلامة أوريجينوس

إن كانت الخطية مرضًا خطيرَا يصيب الإنسان كله، نفسه وجسده، فقد ملَّكت الموت عليه. غير أنه إذ جاء كلمة الله المتجسد طبيبًا للنفس والجسد ميّز بين نوعين من الخطية أو نوعين من المرض. يوجد مرض ليس للموت (يو ١١: ٤)، بل لمجد الله، وذلك بالنفس التي تقبل كلمة الله، وتخرج من قبر الفساد، وتتمتع بحل الأربطة والشهادة للقائم من الأموات واهب القيامة. ويوجد مرض للموت مثل الذي يتحدث عنه السيد مع بعض السامعين له قائلاً إنه يطلبونه وسيموتون في خطاياهم، هذين الذين يصرون أن يبقوا في العصيان حتى يوم رقادهم، هؤلاء يرتكبون الخطية التي تقود للموت (١ يو ٥: ١٦).

  • يقول: “أنا أمضي وستطلبونني” [21] ليس عن شوقٍ إليّ، بل عن كراهية، لأنه بعد تحركه بعيدًا عن الرؤية البشرية طلبه كل من الذين أبغضوه والذين أحبّوه. الأولون بروح الاضطهاد، والآخرون بالرغبة في اقتنائه[36].
  • من الخطأ ألا تطلب حياة المسيح بالطريقة التي بحث بها التلاميذ، ومن الخطأ أن تطلب حياة المسيح بالطريقة التي بحث بها اليهود. للآن هؤلاء الناس يطلبونه بقلب منحرف. ماذا أضاف؟ “تطلبونني” – ليس لأنكم تطلبونني للخير – لذلك “تموتون في خطيتكم“. هذا يحدث من طلب المسيح بطريقة خاطئة ليموتوا في خطيتهم، خطية الكراهية للمسيح، ذاك الذي وحده يمكن أن يوجد فيه الخلاص. فإنه بينما الذين لهم رجاء في الله لا يردوا الشر بالشر هؤلاء يردون الخير بالشر[37].
  • حيث أمضي أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا“، قال نفس الكلمات لتلاميذه في موضع آخر، ومع ذلك لم يقل لهم: “ستموتون في خطيتكم“… إنه لم ينزع عنهم الرجاء، بل سبق فأخبرهم عن تأخيرهم في الذهاب إلى حيث يذهب. لأن في هذا الوقت حين تكلم الرب بهذا مع التلاميذ لم يكونوا قادرين على الذهاب إلى حيث هو ذاهب، لكنهم يذهبون بعد ذلك. أما هؤلاء فإنه بسابق علمه يعرف أنهم لن يذهبوا لذا قال: “تموتون في خطيتكم[38].

القديس أغسطينوس

  • قال هذا لكي يخجل نفوسهم ويرعبهم، انظروا أي خوف حل بينهم بسبب ذلك. فمع كونهم يرغبون في قتله لكي يتخلصوا منه، لكنهم سألوا إلى أين يذهب، فقد تخيلوا أمورًا خطيرة بقوله هذا. أيضًا رغب في أمرٍ آخر، وهو أن هذا الفعل (موته) لن يحدث خلال قوتهم، لكنه يتحدث عنه أمامهم مقدمًا ويخبرهم مقدمًا عن القيامة[39].

القديس يوحنا الذهبي الفم

فقال اليهود:

ألعله يقتل نفسه حتى يقول

حيث أمضي أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا؟” [22]

حين قال قبلاً هذا ظنوا أنه يذهب إلى ولايات يونانية ليكرز بين اليهود الذين في الشتات، أما هنا فأدركوا أنه يتحدث عن موته. لقد حسبوه ليس فقط كواحدٍ منهم، بل أشر منهم لأنه ينتحر يأسًا.

  • حيث أمضي أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا” [٢٢]… فإنه حين يموت أحد في خطيته لا يقدر أن يذهب حيث يذهب يسوع، إذ لا يقدر ميت أن يتبع يسوع. “لأن الأموات لا يسبحونك يا رب، ولا الهابطين في الهاوية، بل نحن الأحياء نحمدك يا رب” (مز ١١٣: ٢٥ – ٢٦ LXX)[40].
  • ظهر سلطانه أن يموت بإرادته الحرة تاركًا الجسم خلفه من العبارة: “أمضي أنا[41].
  • ربما جاء في التقاليد (اليهودية) عن المسيح أنه يولد في بيت لحم، وأنه يقوم من سبط يهوذا حسب التفاسير السليمة للكلمات النبوية؛ وأيضًا في التقاليد بخصوص موته أنه ينتزع نفسه من الحياة بالوسيلة التي قلناها. ويبدو أن اليهود عرفوا أن الذي يرحل هكذا يذهب إلى موضع لا يمكن أن يذهب إليه حتى الذين يفهمون هذه الأمور. لذلك لم يتحدثوا بطريقة حرفية عندما قالوا: “ألعله يقتل نفسه حتى يقول حيث أمضي أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا؟” [٢٢]…[42]
  • على أي الأحوال أظن قد قالوا هذا عن خبث ما قد بلغ إليهم بالتقليد عن موت المسيح. وعوض أن يمجدوا ذاك الذي يرحل من الحياة بهذه الطريقة قالوا: “ألعله يقتل نفسه؟[43]
  • ربما في تردد تكلموا، لكن مع تلميح لمجده في لحظات موته، فإنهم كمن يقولون: “هل تفارق نفسه حينما يريد حين يُترك الجسم خلفه؟” هل لهذا السبب قال: “حيث أنا أمضي أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا؟[44]
  • تأملوا أيضًا إن كان بولس قد قال أمرًا مشابهًا لهذا: “أسلم نفسه لأجلنا ذبيحة لله” (أف ٥: ٢)[45].
العلامة أوريجينوس
  • إذ سمعوا هذه الكلمات فكعادة الذين لهم أفكار جسدانية والذين يحكمون حسب الجسد ويسمعون ويفهمون كل شيء بطريقة جسدانية، قالوا: “ألعله يقتل نفسه؟“… يا لها من كلمات عنيفة تفيض جهالة!… بقوله: “حيث أمضي” لا يقصد أنه يذهب إلى الموت، بل أنه يذهب إلى ما بعد الموت[46].

القديس أغسطينوس

فقال لهم:

أنتم من أسفل،

أما أنا فمن فوق.

أنتم من هذا العالم،

أما أنا فلست من هذا العالم“. [23]

حسب الحكمة البشرية لا يقدر أحد أن يقرر مصير حياته إذا أنهاها بيده، لهذا حسبوه يتكلم عن موته بقيامه بالانتحار. ولعلهم أشاعوا هذا ليشوهوا صورته أمام الشعب، إذ يعتبر الانتحار جريمة يعاقب عليها الناموس، بكونه سفك دم إنسان: “أطلب أنا دمكم لأنفسكم” (تك ٩: ٥). تبقى صورة أخيتوفل المنتحر (٢صم ١٧: ٢٣) مثلاً خطيرًا للحياة الفاسدة. حقًا لقد قبل شمشون أن يموت بيديه مقابل الآلاف من الوثنيين الذين ماتوا معه، وأيضًا كان البعض معجبين بالذين في حصن Masada الذين قتلوا أنفسهم وعائلاتهم عن أن يسقطوا في أيدي الرومان، لكن الانتحار في ذهن الشعب هو خطية اليأس التي عقوبتها نار جهنم. وقد أشار إلى ذلك يوسيفوس المؤرخ، حتى قال بأنه يلزم دفن أجساد الأعداء فورًا، أما المنتحرون فتبقى أجسادهم بلا دفن حتى الغروب كنوعٍ من العقوبة. وذكر يوسيفوس أنه في بعض الأمم كانت تقطع الأيدي اليمنى للمنتحرين لأنها تجرأت وفصلت الجسم عن النفس، هكذا تنفصل هي عن الجسد.

هذا هو الفكر اليهودي في عصر السيد المسيح، وكان الانتحار من الخطايا المعارضة تمامًا لأفكار كثير من الفلاسفة اليونانيين الذين يرون في الانتحار عملاً بطوليًا يستحق المديح، حيث ينهي الإنسان الحياة الزمنية بثقلها ليتمتع بحياة مكرمة ممتدة![47]

يقدم لهم السيد المسيح علة عدم معرفتهم لشخصه وطبيعته، وعدم إدراكهم من أين جاء وإلى أين يذهب، وهو اختلاف طبيعتهم عن طبيعته. كأنه يقول لهم: أنتم قادرون أن تمارسوا القتل حتى لأنفسكم لأنكم من أسفل، وليس لله شيء فيكم. أنتم من أسفل، أرضيون، جسديون، شيطانيون.

هم من الأرض ترابيون، وهو من السماء، الخالق غير المحدود. لهذا فهم في حاجة إلى إدراك لاهوته والإيمان به. “لأنكم إن لم تؤمنوا أنا هو، تموتون في خطاياكم” (٢٤).

  • يشير هنا إلى الأفكار والأوهام العالمية الجسدانية، فمن هذه الجهة استبان قوله: “أما أنا فلست من هذا العالم” ليس أنه لم يأخذ جسدًا، لكنه يشير إلى أنه بعيد عن خبث أولئك.

القديس يوحنا الذهبي الفم

يرى العلامة أوريجينوس أن الذي من أسفل بالضرورة هو من هذا العالم، لكن ليس كل من هو من هذا العالم هو من أسفل، بل يمكن أن تكون مواطنته في السماء (في ٣: ٢٠). هذا ومن جانب آخر حتى الذي هو من أسفل وهو من العالم يمكن أن يتغير ليصير ليس من هذا العالم.

  • على أي الأحوال يمكن لمن هو من أسفل ومن هو من هذا العالم، ومن الأرض أن يتغير ويصير من فوق ولا يعود يكون من هذا العالم… لذلك يقول لتلاميذه: “كنتم من العالم، وأنا اخترتكم من العالم، ولستم بعد من العالم” (راجع يو ١٥: ١٩). فإن كان المخلص قد جاء يطلب ويخلص ما قد فُقد (لو ١٩: ١٠)، إنما جاء لكي ينقل الذين من أسفل والذين سُجلوا كمواطنين بين الذين هم من أسفل إلى الذين هم من فوق. فإنه هو الذي نزل طبقات الأرض السفلى من أجل الذين هم هناك (أف ٤: ٩ – ١٠). لكنه أيضًا صعد فوق كل السماوات، وأعََّد طريقًا للذين يرغبون فيه، وقد صاروا تلاميذ حقيقيين له حيث الطريق الذي يقود إلى الأمور التي فوق السماوات أي الأمور غير المادية[48].
  • انتبهوا، إن أردتم أن تتعلموا من الكتاب المقدس من هو من أسفل، ومن هو من فوق. إذ أن كنز كل شخص يوجد في قلبه (مت ٦: ٢١)، فإن من يخزن كنزه على الأرض (مت ٦: ٢١) بفعله هذا يكون من أسفل. وأما إذا خزن أحد كنزه في السماء (مت ٦: ٢٠) يولد من فوق ويأخذ صورة السماوي (يو ٣: ٣؛ ١ كو ١٥: ٤٩). بالإضافة إلى أنه إذ يعبر هذا الشخص خلال السماوات يوجد قد بلغ هدفه الطوباي للغاية[49].
  • يمكن القول أن من هو من أسفل يمارس أعمال الجسد، وأما من هو من فوق فيحمل ثمار الروح (غلا ٥: ٢٢). مرة أخرى يُمكن القول أن الذي من هذا العالم يحب هذا العالم، حيث أن الذي له محبة الله هو من فوق كقول يوحنا (١ يو ٢: ١٥). إنه ليس من هذا العالم ذاك الذي لا يحب العالم ولا الأشياء التي في هذا العالم، إنما يقول: “حاشا لي أن أفتخر إلاَّ بصليب ربي يسوع المسيح، الذي به قد صلب العالم لي، وأنا للعالم” (راجع غلا ٦: ١٤–١٦)[50].
العلامة أوريجينوس
  • ماذا قال الرب للذين لهم سمة الأرض؟ “فقال لهم: أنتم من أسفل” (يو ١٣: ٣٣). لهذا فأنتم تحملون نكهة الأرض، إذ تلحسون التراب مثل الحيات.

أنتم تأكلون التراب، ماذا يعني هذا؟

أنتم تقتاتون بالأمور الأرضية، وتجدون لذتكم فيها، أنتم تفغرون أفواهكم أمام الأرضيات، لن تطلب قلوبكم العلويات.

أنتم من أسفل، أما أنا فمن فوق. أنتم من هذا العالم، أما أنا فلست من هذا العالم” [٢٣].

إذ كيف يمكن أن يكون من العالم ذاك الذي به خُلق العالم؟

كل من هم من العالم جاءوا بعد العالم، لأن العالم سبقهم، ولهذا فالإنسان هو من العالم.

حيث كان المسيح قبل العالم، ولم يكن قبل المسيح شيء ما، لأنه “في البدء كان الكلمة، وكل شيء به كان” (يو ١: ١، ٣)، لذلك فهو من ذاك الذي هو فوق… من الآب نفسه. ليس من هو فوق الله الذي ولد الكلمة مساويًا له، وشريك معه في الأزلية، الابن الوحيد في غير زمنٍ، والذي وضع أساس الزمن[51].

  • لقد شرح لنا يا أخوة ماذا أراد لنا أن نفهم: “أنتم من هذا العالم“. إنه يقول بالحقيقة: “أنتم من هذا العالم” لأنهم كانوا خطاة، كانوا أشرارًا، غير مؤمنين، لهم نكهة الأرضيات…

لكن ماذا قال الرب نفسه للرسل؟ “أنا اخترتكم من العالم” (يو ١٥: ١٩) هؤلاء إذن الذين كانوا من العالم صاروا ليسوا من العالم، وبدأوا ينتمون إلى المسيح الذي به كان العالم. أما هؤلاء (اليهود) فاستمروا بكونهم من العالم، هؤلاء قيل لهم: “تموتون في خطيتكم” (٢٤)[52].

  • الذي خلق العالم جاء إليك، وخلصك من هذا العالم. إن كان العالم يبهجك، فأنت تريد أن تكون دومًا غير طاهرٍ، ولكن إن كان العالم لم يعد يبهجك فأنت بالفعل طاهر.

مع هذا إن كان خلال بعض الضعف لا يزال العالم يبهجك دعْ ذاك الذي يطهر يسكن فيك فتصير أنت أيضًا طاهرًا[53].

القديس أغسطينوس

فقلت لكم إنكم تموتون في خطاياكم،

لأنكم إن لم تؤمنوا إني أنا هو تموتون في خطاياكم“. [24]

  • جاء لهذا السبب: لينزع الخطية عن العالم، وإن كان من المستحيل للبشر أن ينزعوها بطريق آخر سوى بالغسل، فالحاجة إلى أن الذي يؤمن يلزمه ألا يرحل من العالم وبه الإنسان العتيق، مادام الشخص الذي لا يذبح بالإيمان الإنسان العتيق ويدفنه يموت وفيه (الإنسان العتيق) ويذهب إلى الموضع يعاقب عن خطاياه السابقة[54].

 القديس يوحنا الذهبي الفم

  • إن كان الذي لا يؤمن أن يسوع هو المسيح يموت في خطاياه، فمن الواضح أن الذي لا يموت في خطاياه يؤمن بالمسيح. لكن الذي يموت في خطاياه حتى إن قال أنه يؤمن بالمسيح، فإنه لا يؤمن به وهو مهتم بالحق، إن كان إيمانه المشار إليه ينقصه الأعمال، فإن مثل هذا الإيمان ميت كما نقرأ في الرسالة المتداولة كعمل يعقوب (يع ٢: ١٧)[55].
  • إذن من هو ذاك الذي يؤمن أو يقتنع بأن يحمل طابعًا يتفق مع الكلمة ويتحد معه فلا يسقط في الخطايا التي يُقال أنها للموت (١ يو ٥: ١٦)، ولا يخطئ – كما جاء في تلك الكلمات – بأية وسيلة مقاومًا الكلمة المستقيمة حسب العبارة: “من يؤمن أن يسوع هو المسيح وُلد من الله” (راجع ١ يو ٥: ١)[56].
  • من يؤمن بالكلمة أنه منذ البدء مع الله (يو ١: ١)، فإنه إذ يتأمل فيه لا يفعل أمرًا غير عاقل.

 ومن يؤمن أنه هو سلامنا (أف ٢: ١٤) لا يود أن يتنازع في شيء ما كمن هو مولع بالحرب أو مثير للشغب.

بالإضافة إلى ذلك إن كان المسيح ليس هو حكمة الله فحسب بل وقوة الله (١ كو ١: ٢٤)، فإن من يؤمن به أنه القوة لن يكون هزيلاً في صنع الخيرات…

وإذ نعتقد فيه أنه الثبات والقوة على أساس القول: “والآن ما هو ثباتي (رجائي)؟ أليس هو الرب؟” (راجع مز ٣٩: ٨)… فإن سلمنا أنفسنا للمتاعب لا نؤمن به مادام هو الثبات، وإن كنا ضعفاء لا نؤمن به أنه القوة[57].

العلامة أوريجينوس
  • يكمن بؤس اليهود كله ليس في أن لهم خطية، بل أنهم يموتون في خطاياهم. فإن هذا ما يليق بكل مسيحي أن يهرب منه، وبسبب هذا نقبل إلى العماد. ولهذا السبب الذين حياتهم في خطر بسبب مرض أو لأمرٍ آخر يطلبون العون، ولنفس السبب يحمل الرضيع بواسطة أمه بأيدٍ تقية إلى الكنيسة حتى لا يخرج إلى العالم بدون عماد ويموت في الخطية التي وُلد فيها[58].
  • إن آمنتم إني أنا هو لا تموتوا في خطاياكم. إنه يرد الرجاء للجذعين منهم؛ فالنيام يستيقظون، وتتمتع قلوبهم بيقظةٍ متجددةٍ. بالفعل آمن بعد ذلك كثيرون كما يشهد الإنجيل في النهاية. إذ وُجد أعضاء للمسيح لم يكونوا قد التحموا بعد بجسد المسيح. صار أعضاء للمسيح من بين الذين صلبوه وعلقوه على شجرة، وسخروا منه حين كان معلقًا، والذي ضربه بالحربة، والذين قدموا له خلاً ليشرب، عن هؤلاء قال: “يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون”[59].

القديس أغسطينوس

يرى القديس أغسطينوس أنه بقول السيد المسيح: “إن لم تؤمنوا بي أنا هو“، إنما يذكرهم بقول الله لموسى حين سأله عن اسمه “أنا هو الذي هو” (خر ٣). وأنه يعني أنه البداية الموجود في الماضي والحاضر والمستقبل[60].

فقالوا له:

من أنت؟

فقال لهم يسوع:

أنا من البدء ما أكلمكم أيضًا به“. [25]

جاءت إجابته على سؤالهم هكذا: “أنا هو البدء Arche”، كما تكلمت معكم في العهد القديم، لم أتغير. من البدء قيل أن نسل المرأة يسحق رأس الحية (تك ٣: ١٥). إنه موضوع إيمان الآباء البطاركة (إبراهيم واسحق ويعقوب). إنه هو وسيط العهد، موضوع نبوات الأنبياء. من بدء خدمته أعلن لهم أنه ابن الله، وخبز الحياة. لماذا يكررون السؤال وقد سبق الإجابة عليه مرارًا وتكرارًا، وقد أخبرهم أنه مخلص العالم. لقد سألوه: من أنت يا من تهددنا بهذه الطريقة؟ أي سلطان لك علينا؟

  • كأن ما يقوله هو هكذا “أنتم لستم أهلاً لتسمعوا كلماتي نهائيًا، بالأكثر أن تتعلموا من أنا. لأن كل ما تقولونه هو لكي تجربونني، ولم تبالوا حتى بقولٍ واحدٍ من أقوالي. وكل هذه الأمور يمكنني الآن أن أبرهنها ضدكم”. هذا هو معنى الآية التالية[61].

 القديس يوحنا الذهبي الفم

  • الذين سمعوا ما قاله الرب بسلطانٍ عظيمٍ التزموا أن يسألوه من هو هذا الذي ينطق بهذه الأمور. فإنه إذ يعلن المخلص: “إن لم تؤمنوا إني أنا هو تموتون في خطاياكم” [٢٤] ظهر أنه أعظم من إنسان، إنه يحمل بالأكثر طبيعة إلهية[62].
العلامة أوريجينوس

إن لي أشياء كثيرة أتكلم وأحكم بها من نحوكم،

لكن الذي أرسلني هو حق،

وأنا ما سمعته منه فهذا أقوله للعالم“. [26]

يعلن السيد أنه قادر أن يفضحهم لأنه عالم بالخفيات، يعرف كبرياءهم وطمعهم ورياءهم وشرورهم وبغضهم للنور وحسدهم ضد الحق مع جحودهم وعدم إيمانهم وما سيفعلونه به. ما قيل عنكم بالأنبياء هو حق. لكنه ليس الآن وقت للدينونة بل للخلاص.

هنا يعلمنا السيد المسيح أنه ليس كل ما نعرفه، خاصة عن شرور الآخرين، نقوله. إنما نطلب توبة الناس ورجوعهم إلى الحق والتمتع بالشركة مع الله.

  • كأن السيد المسيح يقول: إن كان الآب أرسلني لخلاص العالم، وهو غرض صالح، فلهذا لست أحكم الآن على أحدٍ، لكنني أخاطبكم بهذه الأقوال التي تؤدي إلى خلاصكم، لا التي تدينكم.

القديس يوحنا الذهبي الفم

ولم يفهموا أنه كان يقول لهم عن الآب“. [27]

إذ أعمى الشيطان بصيرتهم، وظنوه أنه يتحدث عن أب جسداني في الجليل، وليس عن الآب أبيه.

فقال لهم يسوع:

متى رفعتم ابن الإنسان فحينئذ تفهمون إني أنا هو،

ولست أفعل شيئًا من نفسي،

بل أتكلم بهذا كما علمني أبي“. [28]

إذ يمتلئ شرهم بصلبه، عندئذ يدركون أنهم صلبوا رب المجد، وذلك خلال العلامات التي تحدث أثناء الصلب والقيامة وما بعد قيامته.

كانت ذبيحة المحرقة تُدعى “رفع“، وفي كثير من طقوس التقدمات والذبائح ترفع الذبيحة إلى أعلى، وتُحرك أمام الرب. هكذا رُفع السيد المسيح على الصليب. وفي القداس الإلهي إذ يختار الكاهن الحمل يُدعى هذا الطقس “رفع الحمل”. وبالفعل يضعه في لفافة ويرفعه على جبينه وهو يصلي: “مجدًا وإكرامًا، إكرامًا ومجدًا للثالوث القدوس”.

يستخدم الكتاب المقدس كلمة “يرفع” لتعني أحيانًا “يمجد” كما استخدمها بطرس الرسول في عظته في يوم العنصرة: “وإذ ارتفع بيمين الله” (أع ٢: ٣٣)، والرسول بولس: “لذلك رفعه الله أيضًا” (في ٢: ٩). وفي العهد القديم قال يوسف: “في ثلاثة أيام أيضًا يرفع فرعون رأسك ويردك إلى مقامك” (تك ٤٠: ١٣).

وتُستخدم الكلمة أيضًا لتعني الهوان والموت، كما قال يوسف: “في ثلاثة أيام يرفع فرعون رأسك ويعلقك على خشبة” (تك ١٤: ١٩).

هنا بقوله: “رفعتم ابن الإنسان” نجد المعنيين، فمن جهتهم يرفعونه على الصليب للموت في عارٍ وخزي، ومه جهة الآب يرفعه ويمجده، حيث بالصليب تتحطم قوى إبليس ويُشهر بها (كو ٢: ١٥).

  • لم يقل: “تعرفون من أنا” بل قال: “تفهمون إني أنا هو”، أي المسيح ابن الله، الذي يحمل كل الأشياء، وأنا لست ضد ذاك الواحد… “فإنكم ستعرفون قوتي ووحدة الفكر مع الآب”، إذ يقول: “ولست أفعل شيئًا من نفسي، بل أتكلم بهذا كما علمني أبي ” [28]. بهذا يعلن أن جوهره هو مثله تمامًا، وأنه لا ينطق بشيءٍ إلا بما في ذهن الآب[63].

 القديس يوحنا الذهبي الفم

  • ماذا يعني هذا؟ يبدو أن كل ما قاله هو أنهم سيعرفونه من هو بعد آلامه. بدون شك لقد رأى أنه سيعرف بعضًا منهم بنفسه، هؤلاء من بقية قديسيه قد اختارهم بسابق علمه قبل تأسيس العالم، هؤلاء يؤمنون بعد آلامه… كأنه قال: “سأترك معرفتكم تتأجل حتى أتمم آلامي. هذا لا يعني أن كل الذين سمعوه يؤمنون فقط بعد آلامه. لأنه بعد ذلك بقليل قيل: “وبينما هو يتكلم بهذا آمن به كثيرون” [٣٠]، ولم يكن بعد قد ارتفع ابن الإنسان.

رفعِه الذي يتحدث عنه هنا خاص بآلامه وليس بتمجيده، خاص بالصليب لا بالسماء، لأنه تمجد هناك أيضًا عندما عُلق على الصليب[64].

  • لماذا قال هذا إلاَّ لكي لا ييأس أحد مهما شعر ضميره بالذنب، وذلك عندما يرى الذين قتلوا المسيح أنه غفر لهم؟[65]
  • لست أفعل شيئًا من نفسي” [٢٨] ماذا يعني هذا؟ أنا لست من نفسي. لأن الابن هو الله من الآب، ولكن الآب هو الله ليس من الابن. الابن إله من إله، الآب هو الله وليس من إله. الابن هو نور من نور، والآب هو نور لكن ليس من نور. الابن كائن، لكن يوجد من هو كائن منه، والآب كائن ولكن لا يوجد من هو كائن منه[66].
  • كيف تحدث الآب مع الابن؟ إذ يقول الابن: “أتكلم بهذا كما علمني أبي” [٢٨]؟

هل تحدث معه؟

عندما علَّم الآب الابن هل استخدم كلمات كما تفعل أنت حين تعلم ابنك؟

كيف يمكنه أن يستخدم كلمات في حديثه مع الكلمة؟

أية كلمات كثيرة في العدد تُستخدم في الحديث مع الكلمة الواحد؟

هل يقترب الابن بأذنيه إلى فم الآب؟

مثل هذه الأمور جسدانية، انزعوها من قلوبكم… إن كان الله كما قلت يتحدث إلى قلوبنا بدون صوت، فكم يتحدث أيضًا إلى ابنه؟…

تحدث الآب إلى الابن بطريقة غير جسدانية، لأنه ولد الابن بطريقة غير جسدانية.

لم يعلمه كما لو كان قد ولده غير متعلم. لكن أن يعمله إنما تعني نفس معنى ولده مملوء معرفة… منه نال المعرفة بكونه منه نال كيانه. لا بأن منه نال أولاً كيانه وبعد ذلك المعرفة. وإنما كما بميلاده أعطاه كيانه، هكذا بميلاده أعطاه أن يعرف، وذلك كما قيل لطبيعة الحق البسيطة، فكيانه ليس بشيء آخر غير معرفته بل هو بعينه[67].

القديس أغسطينوس

والذي أرسلني هو معي،

ولم يتركني الآب وحدي،

لأني في كل حين أفعل ما يرضيه“. [29]

إن كانوا قد نالوا سلطانًا ليقتلوه فهذا لا يعني أن الآب فارقه. فهو دائمًا معه، لا ينفصلان، وما يفعله الابن إنما يرضي الآب، وهو أن يبذل نفسه من أجل خلاص العالم.

  • حتى لا يظنوا أن قول السيد المسيح: “والذي أرسلني” يظهر نقصُا له قال: “هو معي“، لأن كلمة “أرسلني” مناسبة لتدبيره، و”هو معي” مناسبة للاهوته. وقول السيد المسيح عن الآب: “لأني في كل حين أفعل ما يرضيه” يوضح أن عمله في السبت مرضي لأبيه، إذ أن السيد المسيح قد اجتهد اجتهادًا كثيرًا حتى يبين أنه لا يعمل عملاً مخالفًا لأبيه.

القديس يوحنا الذهبي الفم

  • الذي أرسلني هو معي” [٢٩]… هذه المساواة في الوجود “دائمًا“، ليس من بداية معينة وما بعدها، بل بدون بداية وبلا نهاية. لأن الميلاد الإلهي ليس له بداية في زمنٍ حيث أن الزمن نفسه خلقه الابن الوحيد[68].

القديس أغسطينوس

وبينما هو يتكلم بهذا آمن به كثيرون“. [30]

بينما تعثر الفريسيون والكتبة في كلماته وتعاليمه آمن كثيرون من الشعب به. فالشمس التي تجفف الطين هي بعينها التي تجعل الشمع يذوب. قدمت كلماته رائحة حياة لحياة، ورائحة موت لموت.

جاءت الكلمة اليونانية “آمن” هنا لتعني “صدقوه” لكنها لا تحمل الإيمان الحي الأكيد، إذ كانت قلوبهم وأفكارهم تترقب رؤية المسيا حسب عالمهم المادي السياسي، الذي يخلصهم من الاستعمار الروماني ويرد للأمة كرامتها في العالم.

  • آمن كثيرون من اليهود بالسيد المسيح، ولكن ليس كما يجب، لكنهم آمنوا على بسيط ذات الإيمان، وعلى ما اتفق، عندما استلذوا بأقواله واستراحوا إليها.

القديس يوحنا الذهبي الفم

4. الحرية الروحية

فقال يسوع لليهود الذين آمنوا به:

إنكم إن ثبتم في كلامي، فبالحقيقة تكونون تلاميذي“. [31]

إذ بدأ كلامه يعمل في قلوب الذين آمنوا حوّل حديثه من الحوار مع الفريسيين المتكبرين إلى المؤمنين البسطاء المبتدئين ليحدثهم عن الحرية الداخلية. أراد أن ينطلق بهم من التصديق البسيط دون أعماق روحية إلى الثبوت فيه والنمو المستمر في الشركة معه. كانوا ضعفاء في الإيمان، لكنه كراعٍ حملهم على منكبيه في حنو مترفق. فتح أمامهم طريق التلمذة الحقيقية له، وهو الاستمرارية أو الثبوت في كلمته. لا يكفي أن يلتحقوا بمدرسته، بل يلزمهم أن يستمروا، فيتمتعوا بحركة نمو مستمرة لا تنقطع. كثيرون أخذوا مظهر التلمذة، وحملوا الاسم، لكنهم لم يثابروا في كلمته. التلمذة الحقيقية له هي الثبوت فيه، والتمتع الدائم بالشركة معه. مادمنا في الحياة نبقى ملتحقين بمدرسته، جادين في التمتع بمعرفته العملية. حقًا لقد قبلنا الحق الإلهي، لكن يلزمنا أن نسلك فيه ونحبه ونتمسك به ونحفظه داخلنا.

  • الآن يتكلم بهذه الكلمات حتى يحدث ما يلحق ذلك: “وبينما هو يتكلم بهذا آمن به كثيرون” [3٠]، حيث جاء الفقراء إلى الخزانة لينالوا من هناك ما يستطيعوا وما يُوزع عليهم. لذلك آمن كثيرون به، لكن ليس كثيرون عرفوه، وقد وُجد من بين الذين آمنوا به من ثبتوا في كلمته، هؤلاء الذين صاروا بالحقيقة تلاميذه. لذلك فإنه ليس كثيرون يعرفونه، لكن إذ يحرر الحق [٣٢] لا يتحررون، بل قليلون يرتفعون إلى الحرية.

من هم أولئك الذين يعرفونه، أو من يرفعونه؟ كما يعلِّم بنفسه حين يقول: “متى رفعتم ابن الإنسان، فحينئذ تعرفون إني أنا هو” [راجع ٢٨]. الآن ليس أحد يُعطى لبنًا لكي يشرب، إذ يُعد نفسه لقبول الطعام القوي (١ كو ٣: ٢؛ عب ٥: ١٢). لهذا يقول مثل هذا الشخص: “جزمت ألا أعرف شيئًا بينكم إلاَّ يسوع المسيح وإياه مصلوبًا” (١ كو ٢: ٢)[69].

العلامة أوريجينوس
  • لكي تكون تلميذًا لا يكفي أن تأتي، بل وأن تستمر (تثبت). لذلك لم يقل: “إن سمعتم كلمتي”، ولا “إن جئتم إلى كلمتي” أو “إن مدحتم كلمتي” لكن لاحظوا ماذا قال: “إن ثبتم (استمررتم) في كلمتي، بالحقيقة تكونون تلاميذي، وتعرفون الحق، والحق يحرركم” (يو 8: 31-٣٢]. ماذا نقول يا إخوة؟ أن تستمر (تثبت) في كلمة الله هل هو أمر متعب أم لا؟

إن كان شاقًا فلننظر إلى المكافأة العظيمة.

إن كان ليس شاقًا، فإنك قد تسلمت المكافأة مقابل لا شيء.

لنستمر (نثبت) في ذاك الذي يثبت فينا.

إن لم نثبت فيه نسقط، أما هو فإن لم يثبت فينا لا يفقد مسكنًا. فإنه يبرع في سكناه في ذاته الذي لن يترك ذاته.

أما بالنسبة للإنسان فحاشا لله أن يثبت في ذاته، إذ فقد ذاته.

لهذا نثبت فيه عن عوز من جانبنا، وأما هو فيثبت فينا عن رحمة بنا[70].

  • ماذا تعني “إن ثبتم“؟ إن كنتم تُبنون على الصخرة” (مت ٧: ٢٤).

يا لعظمة هذا يا اخوة!…

ما هي المكافأة؟ “تعرفون الحق والحق يحرركم“.

احتملوني منصتين إليّ، فأنتم تدركون أن صوتي واهن.

أعينوني بإنصاتكم الهادئ.

يا لها من مكافأة مجيدة! “تعرفون الحق“.

هنا قد يقول قائل: “وماذا ينفعني أن أعرف الحق؟ “والحق يحرركم“.

إن كان الحق ليس له مفاتن بالنسبة لكم ليكن للحرية مفاتنها.

في اللغة اللاتينية تعبير “يتحرر” يُستخدم في معنيين. ونحن قد اعتدنا أن نسمع هذه الكلمة في هذا المعنى أن من كان حرًا يفهم بأنه قد هرب من بعض الخطر وتخلص من بعض العوائق. ولكن المعنى اللائق للتحرر هو “أن تكون في أمان”، و”أن تُشفى”، و”أن تكون كاملاً”، وهكذا أن تتحرر تعني أن تصير حرًا[71].

القديس أغسطينوس

معرفة الحق ليست معرفة نظرية بل معرفة اختبار له واتحاد معه.

  • انظروا إن كان الكتاب المقدس لم يقل أيضًا في موضع آخر أن الذين يتحدون مع شيءٍ ما ويصيرون معه واحدًا يعرفون هذا الذي صاروا معه واحدًا وانشغلوا به. قبل هذه الوحدة والشركة فإنهم حتى وإن أدركوا شروح قُدمت لهم عن الشيء فإنهم لا يعرفونه.

كمثالٍ، قال آدم عن حواء: “هذه الآن عظم من عظامي، ولحم من لحمي” (تك ٢: ٢٣)، فإنه لم يعرف زوجته، وحين التصق بها قيل: “عرف آدم حواء امرأته” (تك ٤: ١).

من يتعثر لأننا استخدمنا هذه العبارة: “عرف آدم حواء امرأته” كمثال لمعرفة الله ليأخذ في اعتباره أولاً: “هذا السرّ عظيم” (أف ٥: ٣٢)، بعد ذلك يقارن ما قوله الرسول عن الذكر والأنثى، فقد استخدم نفس اللغة الخاصة بالرجل مع الرب. “من التصق بزانية هو جسد واحد، وأما من التصق بالرب فهو روح واحد” (١ كو ٦: ١٦ – ١٧). لذلك من يلتصق بزانية يعرف الزانية، ومن يلتصق بزوجته يعرف زوجته، ولكن بالأكثر من يلتصق بالرب يعرف الرب بطريقة مقدسة.

إن كان الأمر هكذا فإن الفريسيين لم يعرفوا الآب ولا الابن[72].

العلامة أوريجينوس
  • إن ثبتم” (استمررتم) في الإيمان الذي يبدأ الآن فيكم يا من تؤمنون فإلى أين تبلغون؟

تطلعوا إلى طبيعة البداية وإلى أين تقودكم. إنكم تحبون الأساس اهتموا بالقمة، اطلبوا وأنتم في هذا المستوى البسيط (الهين) الارتفاع والسمو. فإن الإيمان له التواضع، لكن المعرفة والخلود والأبدية فلها لا السفليات بل العلو، أي الارتفاع والشبع الكامل والاستقرار الأبدي والحرية الكاملة من الهجمات المعادية ومن الخوف من الفشل. هذه التي لها البداية في الإيمان عظيمة لكنه يُستخف بها.

ففي إنشاء مبنى عادة يعطى الذين بلا خبرة الأساسات قدرًا ضئيلاً. تُصنع حفرة عظيمة وتلقى الحجارة في كل موضع وبكل طريقة. لا تظهر فيها زخرفة ولا جمال، وهكذا أيضًا في جذر الشجرة لا يظهر جمال. ومع ذلك كل ما يبهجكم من الشجرة ينبع من الجذر. تتطلع إلى الجذر فلا تجد بهجة؛ تتطلع إلى الشجرة وتدهش بها. إنسان غبي! ما تُعجب منه ينمو مما لا يعطيك بهجة.

هكذا إيمان المؤمنين يبدو كأنه أمر تافه، ليس لديك ميزان لكي تزنه.

لتسمع إذن ما يقدمه الإيمان وتتطلع إلى عظمته. إذ يقول الرب في موضع آخر: “إن كان لكم إيمان مثل حبة خردل” (مت ١٧: ٢٠). أي شيء أقل من هذا؟ ومع هذا أية طاقة أعظم تنتشر منه؟ أي شيء أصغر منها؟ ومع هذا أي شيء ينتشر بأكثر قوة منها؟ هكذا يقول: “إن ثبتم في كلمتي” أي إن آمنتم، فإلي أين تُحضرون؟ “بالحقيقة تكونون تلاميذي” [٣١].

وماذا ينفعهم هذا؟ “وتعرفون الحق” [٣٢][73].

القديس أغسطينوس

  • إنكم إن ثبتم في كلمتي” هو تعبير لمن يعلن ما في قلوبهم، ويعرف أنهم آمنوا لكنهم لم يستمروا في ذلك. وها هو يعدهم بأمر عظيم أنهم يصيرون تلاميذه. فقد تركه قبلاً البعض، وها هو يشير إليهم بقوله: “إن استمررتم” لأن هؤلاء أيضًا سمعوا وآمنوا وتركوه، لأنهم لم يستمروا. “رجع كثيرون من تلاميذه إلى الوراء، ولم يعودوا يمشوا معه” (يو ٦: ٦٦)[74].

القديس يوحنا الذهبي الفم

وتعرفون الحق،

والحق يحرركم“. [32]

هنا يتحدث عن المعرفة العملية والتلامس مع قوتها لممارسة التلمذة الحقيقية له، فنتمتع بالحرية الداخلية. فمادامت الخطية ساكنة في الإنسان لم تتحطم بعد، لا يقدر أن يمارس روح البنوة الذي ناله في مياه المعمودية ليدعو الآب أباه (رو ٨: ١٥). عبودية الخطية هي أخطر أنواع العبودية والتحرر منها هو أعظم أنواع الحرية.

من يعرف الحق ويثبت فيه، أي يعرف السيد المسيح ويقتنيه، يتحرر من عبودية الخطية، ويصير له فكر المسيح المتناغم مع إرادة الله، يحيا في كمال الحرية حسب مشيئة خالقه.

إنه المحرر الذي يقول: “روح السيد الرب عليّ، لأن الرب مسحني لأبشر المساكين، أرسلني لأعصب منكسري القلب، لأنادي للمسبيين بالعتق، وللمأسورين بالإطلاق” (إش ٦١: ١). على الصليب عتقنا من خطايانا، وحررنا من أسرها، وبقيامته وهبنا برّه الإلهي، فلم نعد بعد عبيدًا للخطية. حررنا إنجيله من نير حرفية الناموس لنحيا بحرية الروح كأولاد الله. نختبر الحياة السماوية، كمن يدخل أورشليم العليا، أمنا الحرة.

  • ألم يبلغوا مثل هذه المعرفة حين كان الرب يكلمهم؟ إن كانت ليس لهم المعرفة فكيف آمنوا؟ لقد آمنوا ليس لأنهم كانوا يعرفون، وإنما لكي يعرفوا. فإننا نؤمن لكي نعرف، ولسنا نعرف لكي نؤمن. لأن ما سنعرفه لم تره عين ولم تسمع به أذن، ولم يخطر على بال بشر (إش ٦٤: ٤؛ ١ كو ٢: ٩) لأنه ما هو الإيمان إلاَّ تصديق ما لم تروه بعد؟[75]
  • وتعرفون الحق“. الحق غير متغير. الحق هو خبز، ينعش عقولنا ولا يسقط، يغَّير من يأكله، ولا يتغير فيمن يأكله. الحق هو كلمة الله… الابن الوحيد. هذا الحق التحف جسدًا من أجلنا لكي ما يُولد من العذراء مريم وتتم النبوة: “الحق نبع عن الأرض” (مز ٨٥: ١١). هذا الحق إذن وهو يتحدث مع اليهود اختفى في الجسد. لكنه لم يختفِ لكي يُنكر، وإنما لكي ما يُرجأ إعلانه، يُرجأ لكي ما يتألم في الجسد، ويتألم في الجسد لكي ما يخلص الجسد من الخطية. هكذا ظهر بالكامل بخصوص ضعف الجسد، وكان مخفيًا من جهة جلال اللاهوت[76].

القديس أغسطينوس

  • وتعرفون الحق” بمعنى: “ستعرفونني، إذا أنا هو الحق. كل الأمور اليهودية هي رموز، لكنكم تعرفون الحق فيَّ، وهو يحرركم من خطاياكم”… إنه لم يقل “أحرركم من العبودية” فقد تركهم هم يستنتجون ذلك[77].

القديس يوحنا الذهبي الفم

أجابوه:

إننا ذرية إبراهيم،

ولم نُستعبد لأحد قط،

كيف تقول أنت إنكم تصيرون أحرارًا؟” [33]

واضح أنهم لم يدركوا حديث يسوع المسيح عن “الحرية“، فحسبوا دعوته لهم للتمتع بالحرية إهانة كبرى، لأنهم أبناء إبراهيم الحر، الذي يدعو الله “خليلي” (إش ٤١: ٨). كان اليهود يفتخرون بأنهم نسل هذا الأب العظيم. يقول الربّي اكييبا Akiba Rabbi الذي مات حوالي ١٣٥م: [يُنظر حتى إلى أفقر الأشخاص في إسرائيل كأحرار، هؤلاء الذين فقدوا ممتلكاتهم، لأنهم أبناء إبراهيم واسحق ويعقوب. كل الأمة تعتز بهذه الكرامة الخاصة بانتسابها لهؤلاء الآباء العظماء لا بكثرة ممتلكاتهم]. هذا هو شعور اليهود في عصر المسيح.

ظنوا أن انتسابهم لإبراهيم بالجسد يحررهم بينما نجد الغني الغبي في الجحيم يدعو إبراهيم أباه: “يا أبي إبراهيم ارحمني وأرسل لعازر ليبل طرف إصبعه بماء ويبرد لساني، لأني معذب في هذا اللهيب” (لو ١٦: ٢٤).

كيف تجاسروا وقالوا: “لم نُستبعد لأحد قط” [٣٣]؟ ألم يُستعبدوا للمصريين وقام موسى بتحريرهم؟ ألم يُستعبدوا عدة مرات لأمم مجاورة في أيام القضاة؟ ألم يُستعبدوا لبابل مدة سبعين عامًا؟ وأخيرًا يدفعون الجزية لقيصر الروماني؟

لا يبالي الجسدانيون بالعبودية الداخلية، كل ما يشغلهم تمتعهم بالشهوات الجسدية.

  • هكذا هو افتخار اليهود: “نحن ذرية إبراهيم”، “نحن إسرائيليون”. إنهم لم يشيروا قط إلى أعمالهم البارة. لهذا صرخ فيهم يوحنا قائلاً: “لا تقولوا لنا إبراهيم أبًا” (مت ٣: ٩). ولماذا لم يفحمهم المسيح إذ كثيرًا ما استعبدهم المصريون والبابليون وأمم كثيرة؟ لأن لكماته لم يقدمها لينال كرامة لنفسه، وإنما لأجل خلاصهم، لنفعهم، فكان يضغط عليهم بهذا الهدف… إنه لم يرد أن يظهر أنهم كانوا عبيدًا للناس بل للخطية، التي هي عبودية خطيرة، لا يقدر أن يحررهم منها سوى الله وحده[78].

القديس يوحنا الذهبي الفم

  • كل شخصٍ: يهودي أو يوناني، غني أو فقير، صاحب سلطة أو في مركز عام، الإمبراطور أو الشحاذ، “كل من يعمل الخطية هو عبد للخطية” [٣٤]. إن عرف الناس عبوديتهم يرون كيف يقتنون الحرية.

المولود حرًا ويسبيه البرابرة يتحول من حرٍ إلى عبدٍ، وإذ يسمع عنه شخص آخر يتحنن عليه ويتطلع أن لديه مالاً فيفديه، يذهب إلى البرابرة ويعطيهم مالاً ويفدي الرجل. إنه بالحق يرد له الحرية، إذ ينزع الظلم…

إني أسأل الذي أُفتدى: هو أخطأت؟ يجيب “أخطأت”. إذن لا تفتخر بنفسك انك قد أُفتديت، ولا تفتخر يا من افتديته، بل ليهرب كليكما إلى الفادي الحقيقي. انه جزئيًا يُدعى الذين تحت الخطية عبيدًا، إنهم يدعون أمواتا.

ما يخشاه الإنسان حلول السبي عليه الذي جلبه الإثم عليه فعلاً. لماذا؟ هل لأنهم يبدون أنهم أحياء؟ هل أخطأ القائل: “دعي الموتى يدفنون موتاهم” (مت ٨: ٢٢)؟ إذن فكل الذين تحت الخطية هم أموات، عبيد أموات، أموات في خدمتهم، وخدام (عبيد) في موتهم[79].

القديس أغسطينوس

  • من الذي يحرر من الموت ومن العبودية إلاَّ ذاك الذي هو “حرّ من بين الأموات” (مز ٨٨: ٥)؟ من هو “الحرّ من بين الأموات” إلاَّ ذاك الذي بلا خطية وسط الخطاة؟ يقول مخلصنا نفسه، منقذنا: “رئيس هذا العالم يأتي وليس له فيّ شيء” (يو ١٤: ٣٠). (رئيس هذا العالم) يمسك بمن يخدعهم ومن يغويهم، ومن يحثهم على الخطية والموت، هذا “ليس له فيّ شيء”.

تعال أيها الرب، تعال أيها المخلص. ليتعرف عليك الأسير.

دع من اقتيد إلى السبي أن يهرب إليك. كن فاديًا له!

إذ كنت مفقودًا وجدني ذاك الذي لم يجد الشيطان له فيه شيئًا آتيا من الجسد. لقد وجد في رئيس هذا العالم جسدًا، لقد وجده لكنه أي نوع من الجسد؟

جسد مائت يمكن أن يمسكه ويقدر أن يصلبه وأن يقتله!

لقد أخطأت يا أيها المخادع فإن المخلص لا يُخدع… إنك ترى فيه جسدًا قابلاً للموت لكنه ليس جسد الخطية، بل على شبه جسد الخطية. “الله أرسل ابنه في شبه جسد الخطية ولأجل الخطية دان الخطية في الجسد” (رو ٨: ٣). في جسد، لكن ليس في جسد الخطية بل “في شبه جسد الخطية”. لأي هدف؟ “لكي بالخطية التي بالتأكيد لم يكن منها شيء فيه، يدين الخطية في الجسد، فيتحقق برّ الناموس فينا، نحن الذين لا نسلك حسب الجسد بل حسب الروح (رو ٨: ٤).

لا يدع أحد نفسه حرًا لئلا يبقى عبدًا. لا تبقى نفوسنا في عبودية، لأنه يُعفى عن ديوننا يومًا فيومًا[80].

  • حتى بالنسبة للحرية في هذه الحياة، أين هو الحق عندما تقولون: “لم نُستعبد لأحدٍ قط“؟ ألم يُبع يوسف (تك ٣٧: ٢٨)؟ ألم يذهب الأنبياء القديسون إلى السبي (٢ مل ٢٤؛ خر ١: ١)؟ مرة أخرى أليست هذه الأمة عندما كانت تصنع اللبن في مصر خدمت حكامًا عنفاء ليس في ذهب وفضة بل في صنع الطوب (خر ١: ١٤)؟ إن كنتم لم تُستعبدوا قط لأحد يا أيها الشعب الجاحد، فلماذا يذكركم الله باستمرار أنه خلصكم من بيت العبودية (خر ١٣: ٣؛ تث ٥: ٦)؟… كيف تدفعون الجزية للرومان، والتي من خلالها أقمتم فخًا لتصطادوا الحق فيه عندما قلتم: “هل يجوز أن نعطي الجزية لقيصر؟” وذلك حتى إن قال يجوز ذلك تتهمونه بسرعة أنه يسئ إلى حرية نسل إبراهيم، وإن قال لا يجوز تشتكونه أمام ملوك الأرض بكونه يمنع الجزية لمثل هؤلاء؟[81]

القديس أغسطينوس

أجابهم يسوع:

الحق الحق أقول لكم إن كل من يعمل الخطية هو عبد للخطية“. [34]

هذه المقدمة المهيبة “الحق الحق أقول لكم” هي إعلان مهوب، كثيرًا ما يستخدمه السيد المسيح عندما يصدر أمرًا له خطورته. وهو في هذا يختلف عن الأنبياء، الذين كانوا يرددون العبارة: “هكذا يقول الرب”، لأنهم خدام أمناء لله. أما السيد المسيح فيتكلم باسم نفسه بكونه الابن “أقول لكم“.

من يعمل الخطية فهو عبد للخطية“: لا يوجد إنسان بار لم يخطئ، لكن ليس كل من يسقط في خطأ هو عبد للخطية. إنما يقصد بقوله “يعمل الخطية” أي يختارها ويفضلها عن برّ الله، يفضل طريق الشر عن طريق القداسة (إر ٤٤: ١٦–١٧)، فيقيم عهدًا مع الخطية، ويقبلها دستورًا لحياته، تقوده شهواته الجسدية ومحبته للعالم.

يدرك الإنسان عبوديته لها كما مارسها. ففي بداية ممارستها يظن الإنسان أنه صاحب سلطان، له حق قبولها أو رفضها، لكنها إذ تدخل تمسك بعجلة قيادة النفس، ويفقد الإنسان سيطرته على إرادته تدريجيًا، فتكون الخطية أشبه بمخدر لا يقدر أن يستغني عنها. تحركه الخطية حسب هواها ليمارس ما لم يكن يتوقعه يومًا ما. وكما يقول كثير من آباء البرية أنه إذ تحتل خطية مكانًا في قلب الإنسان أو فكره تملك عليه وتفتح الطريق لغيرها من الخطايا لتملك معها، ويدخل الإنسان في سلسلة من الخطايا لا يقدر على مقاومتها بنفسه.

  • أجابهم يسوع: الحق الحق أقول لكم إن كل من يعمل الخطية هو عبد للخطية“.

 إنه عبد، يا ليته لإنسانٍ بل للخطية!

من لا يرتعب أمام مثل هذه الكلمات؟ الرب إلهنا يهبنا – أنتم وأنا – أن أتكلم بتعبيرات لائقة عن هذه الحرية باحثًا عنها وأن أتجنب تلك العبودية…

يا لها من عبودية بائسة! عندما يعاني البشر من سادة أشرار يطلبون على أي الأحوال تغيير السيد.

ماذا يفعل عبد الخطية؟ لمن يقدم طلبه؟ إلى من يطلب الخلاص؟…

أين يهرب عبد الخطية؟ فإنه يحمل (سيده) أينما هرب. لا يهرب الضمير الشرير من ذاته، لا يوجد موضع يذهب إليه.

نعم لا يقدر أن ينسحب من نفسه، لأن الخطية التي يرتكبها هي في داخله. يرتكب الخطية لكي يحصل على شيء من اللذة الجسدية. تعبر اللذة وتبقى الخطية. ما يبتهج به يعبر، وتبقى الشوكة خلفها. يا لها من عبودية شريرة!…

لنهرب جميعًا إلى المسيح، ونحتج ضد الخطية إلى الله بكونه مخلصنا.

لنطلب أن نُباع لكي ما يخلصنا بدمه. إذ يقول الرب: “مجانًا بُعتم وستخلصون بدون مالٍ” (إش ٥٢: ٣). بدون ثمن من جهتكم، بسببي. هكذا يقول الرب لأنه هو دفع الثمن لا بمالٍ بل بدمه، وإلا بقينا عبيدًا معوزين[82].

القديس أغسطينوس

أما الابن فيبقى إلى الأبد“. [35]

لعله يشير هنا إلى طرد إسماعيل وعدم تمتعه بالميراث (تك ٢١: ١٠– ٤). ليس للعبد حق الميراث من الأسرة التي نشأ فيها. أما الابن الشرعي فله هذا الحق. بل ومن حقه أن يحرر أي عبدٍ في الأسرة، وأن يتصرف في ميراثه كما يشاء.

الحرية التي افتخر بها اليهود هي وهم وخيال، إذ لم تكن لهم الحرية الداخلية ولا الحرية الخارجية. هذا ما تفعله العبودية للخطية، إذ توهم عبيدها بالحرية، فيظنون في ممارستهم للشر ممارسة للحياة الحرة بلا قيود، وتحطيم لما يظنوه قيود البرّ والإيمان. الحرية الحقيقية هي في المسيح يسوع حيث يرى المؤمن دستوره الحب الحقيقي، حتى وإن كان ثمنه بذل النفس من أجل الغير، وإمكانياتها إلهية حيث يتمتع المؤمن بالشركة في الطبيعة الإلهية، لا تقدر الأوهام والزمنيات أن تأسره، بل يجد مسرته في تناغم إرادته مع إرادة الله أبيه السماوي.

  • إن قلت: “فلِم ذكر البيت إذ خاطبهم مذكرًا إياهم بخطاياهم؟ أجبتك: لكي يريهم كما أن السيد في بيته متسلط، كذلك هو متسلط، وسيد الخليقة. بقوله: “لا يبقى” يعني أنه بلا سلطان أن يهب امتيازات، لأنه ليس سيدًا للبيت. أما الابن فهو رب البيت. فإن هذا ما يعنيه بالقول: “يبقى إلى الأبد“، كمجاز مُستعار من الأمور البشرية. فلكي لا يقولوا: “من أنت” قال: “كل شيء هو ملكي؛ أنا هو الابن الساكن في بيت أبي“، مظهرًا بقوله “البيت” سلطانه. ففي موضعٍ آخر يدعو الملكوت “بيت أبيه”: “في بيت أبي منازل (مواضع) كثيرة” (يو ١٤: ٣). وإذ كان مقاله خاصًا بالحرية والعبودية، لهذا استخدم المجاز ليخبرهم أنهم بلا سلطان على التمتع بالحرية (أو نوال المغفرة)[83].

القديس يوحنا الذهبي الفم

  • يدخل كثير من الخطاة الكنيسة. لهذا لم يقل “العبد ليس في البيت” وإنما قال: “لا يبقى في البيت إلى الأبد“. رجاؤنا أيها الإخوة هو هذا أن نصير أحرارًا بواسطة الحرّ، وإذ يجعلنا أحرارًا يقيمنا عبيدًا.

لقد كنا عبيدًا للشهوة، ولكن إذ نتحرر يجعلنا عبيدًا للحب.

هذا أيضًا ما يقول الرسول: “فإنكم إنما دعيتم للحرية أيها الاخوة غير أنه لا تصيِّروا الحرية فرصة للجسد بل بالمحبة اخدموا بعضكم بعضًا” (غلا ٥: ١٣).

إذن لا يقول المسيحي: أنا حرّ، أنا دُعيت للحرية. كنت عبدًا وقد خلصت، وبخلاصي هذا صرت حرًا، أفعل ما يحلو لي. لا يصد أحد إرادتي مادمت حرًا… لا تفسد حريتك بالخطية، بل استخدمها في عدم ارتكاب الخطية. فإنه متى كانت إرادتك ورعة عندئذ فقط تكون حرة.

تكون حرًا إن كنت لا تزال عبدًا متحررًا من الخطية وخادمًا للبرّ. وكما يقول الرسول: “لأنكم لما كنتم عبيد الخطية كنتم أحرارًا من البرّ… وأما الآن إذ أُعتقتم من الخطية وصرتم عبيدًا لله فلكم ثمركم للقداسة والنهاية حياة أبدية” (رو ٦: ٢٠، ٢٢)[84].

القديس أغسطينوس

فإن حرركم الابن،

فبالحقيقة تكونون أحرارا“. [36]

يقول القديس يوحنا الذهبي الفم أن الابن يظهر هنا مساواته للآب في السلطان، فإن الله وحده هو الذي يبرر ويدين (رو ٨: ٣٣، ٣٤). الابن بلا خطية ويهب الحرية من الخطية، الأمر الذي هو من اختصاص الله وحده. هذا وقد أوضح لهم أن الحرية التي في أذهانهم ليست أصيلة، أما التي يهبها الابن فهي الحرية الحقيقية: “بالحقيقة تكونون أحرارًا”[85].

  • لقد جاء في الجسد، أي في شبه جسد الخطية (رو ٨: ٣)، لكن ليس في جسد خاطئ، لأنه ليس فيه خطية نهائيًا، ولهذا صار ذبيحة حقيقية عن الخطية، لأنه هو نفسه بلا خطية[86].
  • باستحقاق فعّال يخلص من عبودية الخطية هذه، هذا الذي يقول في المزامير: “صرت إنسانًا بلا سند، حرًا بين الأموات” (مز ٨٨: ٤، ٥). فإنه وحده كان حرًا إذ لم يكن فيه خطية. إذ هو نفسه يقول في الإنجيل: “رئيس هذا العالم يأتي” يقصد الشيطان الذي يأتي في أشخاص اليهود المضطهدين له، “وليس له فيّ شيء” (يو ١٤: ٣٠ – ٣١). فلا يجد فيَّ نسبة ما من الخطية كما في أولئك الذين يُقتلون كأبرارٍ، لا يجد قط شيئًا ما فيّ… إنني لست أدفع عقوبة الموت كضرورة بسبب خطاياي، لكنني أموت متممًا إرادة أبي. في هذا أنا أفعل إذ أحتمل الموت، فلو كنت لا أريد الألم ما كنت أتألم. يقول بنفسه في موضع آخر: “لي سلطان أن أضع حياتي، ولي سلطان أن آخذها أيضًا” (يو ١٠: ١٨). بالتأكيد هنا ذاك الذي هو حر بين الأموات[87].
  • كما أن الطبيب يكره مرض المريض ويعمل بمقاييس الشفاء لينزع المرض ويشفي العليل، هكذا الله يعمل بنعمته فينا، ليبدد الخطية ويتحرر الإنسان[88].
  • من ثم يقول الرسول ما نبدأ نحن نقوله: “فإني أُسر بناموس الله بحسب الإنسان الباطن” (رو ٧: ٢٢). هنا إذن نصير أحرارًا عندما نُسر بناموس الله، لأن الحرية لها الفرح. فإنك مادمت تفعل الصلاح عن خوفٍ، فإن الله لا يكون موضع مسرتك. لتجد مسرتك فيه فتكون حرًا. لا تخف العقوبة بل حب البرّ. هل لازلت لا تحب البرّ؟ خف من العقوبة حتى تنال محبة البرّ[89].

القديس أغسطينوس

أنا عالم أنكم ذرية إبراهيم،

لكنكم تطلبون أن تقتلوني،

لأن كلمتي لا موضع لها فيكم“. [37]

حسنًا يفتخر اليهود أنهم أبناء إبراهيم، لكن لماذا لم يسلكوا بروح أبيهم في إيمانه وطاعته لله؟ لماذا لم يثبتوا انتسابهم له بالعمل، لأنهم يطلبون قتل السيد المسيح؟ إن كان قتل البريء جريمة عظمى فماذا يكون قتلهم لملك الملوك؟ في طاعة كاملة وإيمان قدم إبراهيم ابنه الحبيب ذبيحة محرقة لله، وها هم في تمرد يطلبون قتل ابن الله الحبيب!

يفتخرون بانتسابهم لإبراهيم الذي نال وعدًا أن يكون أبًا لأممٍ كثيرة، وإذ حان الوقت لتحقيق الوعد، إذ جاء من نسله السيد المسيح الذي يضم الأمم معًا كأبناء روحيين لإبراهيم يريد اليهود قتله. أما سرّ مقاومتهم للحق، وعدم تمتعهم بالبركات التي نالها أبوهم إبراهيم فهو كما قال السيد: “لأن كلامي لا موضع له فيكم“. لم يتركوا لكلام السيد المسيح، للحق نفسه، موضعًا في قلوبهم، لأن الحسد والغيرة والفساد ملأ قلوبهم، ولم يترك مجالاً لدخول الحق إليها.

حين يغلق الإنسان أبواب قلبه بالشهوات الجسدية ومحبة العالم لا يقتحمها الحق، لأنه لن يدخل قسرًا ما لم يجد ترحيبًا، فيدخل الحق كما إلى بيته، ويتسلم عجلة القيادة ليدير كل حركة القلب والفكر والحواس والمشاعر، فيتحول الإنسان بالنعمة الإلهية إلى كائنٍ روحيٍ، يقوده روح الرب.

  • إن كنتم تفتخرون بعلاقتكم بإبراهيم، يلزمكم أيضًا أن ترتقوا بأن تسلكوا ذات سلوك حياته. ولم يقل: “ليس لكم موضع لكلماتي”، بل “كلمتي لا موضع لها فيكم”، مشيرًا إلى سمو التعاليم. ومع ذلك فإنه ليس بسبب هذا يلزم أن يقتلوا بل أن يُكرموا وينصتوا إليه لكي يتعلموا[90].

 القديس يوحنا الذهبي الفم

يقدم لنا العلامة أوريجينوس الفارق بين “ذرية” و”أبناء” من الجانب الحرفي. فالذرية أو البذور إذ تُلقى في المرأة قد تنجب ابنا أو لا تنجب. كأن كل الأبناء هم من الذرية أو البذور لكن ليس كل الذرية أو البذور هم أبناء. فالسالكون حسب حياة إبراهيم هم من ذريته وأبنائه. أما من هم أبناء له حسب الجسد دون السلوك حسب حياته فهم ذرية وليسوا بالحق أبناء له. لهذا يقول العلامة أوريجينوس إنه إن وُجد إنسان ليس ابنا لإبراهيم ولا هو من ذريته فلا يُلام مثلهم إن كان خاطئًا لأنه لم يجد فرصه أن يُولد من بذار رجل بار فيكون كأبيه. أما الذين هم من ذرية إبراهيم، فكان يلزمهم أن يُحسبوا أبناء لإبراهيم سالكين مثل أبيهم. إنهم ذريته لكنهم ليسوا بالحق أبناء إبراهيم، لأنهم لا يحيون كأبيهم[91].

مرة أخرى يقول: [إبراهيم صار إبراهيم مع أنه ليس من ذرية إبراهيم (لم يلد نفسه) بل من ذرية السابقين له، هكذا يُمكن لشخص ما بغرس بذارٍ صالحة في نفسه أن يصير إبراهيم آخر، مع أنه ليس من ذرية إبراهيم نهائيًا، إنما فيه الكفاية أن يغرس بذورًا مثل إبراهيم[92].]

إذ سلك شعب بني إسرائيل كما يسلك الأموريون والحثيون الوثنيون لهذا قيل عنهم: “أبوك أموري وأمك حثية” (حز ١٦: ٣)، مع أنهم من ذرية إبراهيم ومن نسل سارة، لكنهم لم يحسبوا أبناء إبراهيم ولا من سارة!

  • نتعلم من هذا بوضوحٍ شديدٍ أنه يجب أن نفسر كل قصة إبراهيم رمزيًا، ونمارس كل ما فعله بطريقة روحية، ابتداء من الوصية: “اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي أريك” (تك ١٢: ١). هذه العبارة تُقال ليس لإبراهيم وحده بل ولكل من يريد أن يكون ابنًا له… والرب الإله الذي ظهر لإبراهيم يظهر لنا، ويعدنا أن يعطينا الأرض التي حول السنديانة العليا لذرية نفوسنا الروحية (تك ١٢: ٦).

أيضًا يلتزم من يفهم الوصية: “تعملون أعمال إبراهيم” [٣٩] أن يبني مذبحًا للرب الذي يظهر لنا حيث توجد البلوطة العليا، ثم يرحل من البلوطة العليا إلى الجبل. الجبل في شرق بيت إيل التي تعني “بيت الله”. لهذا فإنه ينصب خيمته عند بيت إيل في الغرب وعاي في الشرق، عاي تعني أعيادًا…

إن كنتم أبناء اسحق اعملوا أعمال اسحق، وهكذا بالنسبة ليعقوب وكل الآباء القديسين. وعلى العكس كل شخصٍ يخطئ يُدعى من جهة الجنس أنه ابن إبليس، حيث أن من يخطئ هو مولود من إبليس (١ يو ٣: ٨)…

لهذا تقولون أن كل شخص سيذهب إلى آبائه عندما يخلص من هذه الحياة، إذ يلزمنا عند وقت الرحيل أن يُقال ليس لإبراهيم وحده بل لكل البشر: “وأما أنت فتمضي إلى آبائك” (تك ١٥: ١٥). غير أن لا يُقال “بسلام” (تك ١٥: ١٥) لكل الناس في ذلك الحين وإنما للقديسين، إذ يحتفظون بشيخوخة صالحة. يُقال هذا للذين تكملوا وتمتعوا برحلة روحية طويلة إذ “الفهم بالنسبة للبشر هو الشيبة” (حك ٤: ٩)، والشيبة هي إكليل الافتخار (أم ١٦: ٣١). والشيبة التي تزينهم هي مجد للشيوخ الصالحين بالحق[93].

العلامة أوريجينوس
  • أنا عالم أنكم ذرية إبراهيم، لكنكم تطلبون أن تقتلوني، لأن كلامي لا يمسك بكم“… إنني أعرف أنكم ذرية إبراهيم حسب الأصل الجسدي، وليس بالقلب المؤمن. لو أُخذ كلامي لأمسك بكم، ولو أمسك بكم لكان يُمسك بكم كالسمك في شباك الإيمان. إذن ماذا يعني “لا يُمسك بكم“؟ لا يمسك بقلوبكم لأنها لا تقبله. فإنه هكذا هي كلمة الله، وهكذا يجب أن تكون بالنسبة للمؤمنين، إنها كالصنارة بالنسبة للسمكة. إنها تأخذ السمكة حين تأخذها السمكة. لا يحل ضرر ما بمن يُمسك بهم إذ يُمسكون للخلاص وليس للدمار… أما هؤلاء فإنهم ورثوا الجنس الجسدي، لكنهم صاروا منحلين عنه بعدم إقتدائهم بإيمانه كأبناء له[94].

القديس أغسطينوس

5. البنوة الله والبنوة لإبليس

أنا أتكلم بما رأيت عند أبى،

وأنتم تعملون ما رأيتم عند أبيكم“. [38]

إذ كان اليهود يفتخرون بأنهم أبناء إبراهيم، من نسله حسب الجسد، قدم لهم نفسه أنه هو ابن الله بالطبيعة، ويود أن يرتبطوا به ليتمتعوا بالبنوة لله بالنعمة عوض ما بلغوا إليه من بنوة لإبليس. هم يريدون قتله مع أنه ابن الله بالطبيعة، وبفعلهم هذا يؤكدون أنهم نالوا التبني لإبليس.

ما يتكلم به السيد المسيح هو الحق الأبدي الذي يراه في حضن أبيه، لأنه هو كلمة الله.

توجد أسرتان لن تتحدا: الله وأبناؤه، وإبليس وأبناؤه. لا يقدر أحد أن ينتسب للأسرتين معًا، فإنه إذ يقبل الواحدة يقاوم الأخرى بالضرورة، حتى وإن لم تكن المقاومة علنية.

ما يقدمه السيد المسيح ليس فقط ما يسمعه من الآب بل ما يراه، لأنه كائن في حضن الآب يراه، ما ينطق به الأنبياء هو بناء على ما يسمعوه من الله أو ما يرونه خلال رؤى، أما السيد المسيح فهو الكلمة الإلهي ذاته، وهو الحق الإلهي نفسه.

  • أنا بكلامي وبالحق أعلن عن الآب، هكذا لتفعلوا أنتم بأعمالكم. فإنه ليس لي فقط ذات الجوهر مع الآب بل وذات الحق معه[95].

 القديس يوحنا الذهبي الفم

  • لكن إبراهيم أيضًا وُلد وسط الجنس البشري، كثيرون كانوا قبله وكثيرون بعده. أنصت إلى صوت الآب إلى الابن: “قبل لوسيفر ولدتك” (مز 15: 3 Vulgate). لقد وُلد الذي ينير الكل قبل لوسيفر (إش 14: 27)… لماذا يذكر لوسيفر؟ لأنه إذ استنار أنار. ولماذا صار مظلمًا؟ لأنه لم يثبت في الحق (يو 8: 44)[96].
  • أنا أتكلم بما رأيت عند أبي، وأنتم تعملون ما رأيتم عند أبيكم” [٢٨]. أنا أرى الحق؛ أنا أنطق بالحق، لأني أنا هو الحق. فإنه إذ يتكلم الرب بالحق الذي يراه عند الآب إنما يرى نفسه، ويتكلم بنفسه الذي يراه عند الآب. لأنه هو الكلمة، وكان الكلمة عند الله (يو ١: ١). الشر الذي يفعله هؤلاء الناس والذي يعنفه الرب ويمنعه، أين رأوه؟ عند أبيهم… هنا يتحدث عن أب آخر لهم، هذا الذي لم يلدهم ولا خلقهم ليصيروا بشرًا. ومع هذا فهم أبناؤه بكونهم أشرارًا وليس بكونهم بشرًا. إنهم أبناؤه لأنهم يتمثلون به، وليس خُلقوا بواسطته[97].

القديس أغسطينوس

أجابوا وقالوا له:

أبونا هو إبراهيم.

قال لهم يسوع:

لو كنتم أولاد إبراهيم لكنتم تعملون أعمال إبراهيم“. [39]

للابن طبيعة أبيه، بالطبيعة يتمثل به. فكان يليق بهم إن كانوا بالحق أبناء إبراهيم أن يحملوا إيمانه وطاعته وبره، لا أن يقتلوا من يتكلم بالحق، الأمر الذي لم يكن ممكنًا لإبراهيم أن يمارسه. بهذا حرموا أنفسهم من الانتساب له روحيًا.

  • هنا يعالج موضوع نيتهم للقتل مشيرًا إلى إبراهيم. وهو بهذا يود أن يسحبهم من انشغالهم بالانتساب لإبراهيم ونزع الكبرياء عنهم ليحثهم بالأكثر للرجاء في الخلاص لا في إبراهيم ولا بعلاقتهم الطبيعية به، وإنما في التمتع بإرادته (البارة). لأن ما كان يعوقهم عن المجيء إلى المسيح هو هذا، أنهم كانوا يظنون أن هذه العلاقة تكفي لخلاصهم[98].

القديس يوحنا الذهبي الفم

  • أجابوا وقالوا له: أبونا هو إبراهيم” [٣٩]، كما لو أنهم يقولون: ماذا تقول ضد إبراهيم؟ أو إن كنت تستطيع تجاسر وأظهر خطأ في إبراهيم. لم يكن الرب غير قادر أن يتجاسر ويجد خطأ في إبراهيم، ولكن إبراهيم ليس بالشخص الذي يريد الرب أن يُظهر له خطأ بل يزكيه. أما هؤلاء فيبدو أنهم أرادوا أن يتحدوه كي يتكلم بشرٍ عن إبراهيم فيجدوا فرصة ليتمموا مقاصدهم[99].

القديس أغسطينوس

ولكنكم الآن تطلبون أن تقتلوني،

وأنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله،

هذا لم يعمله إبراهيم“. [40]

  • الذين يطلبون أن يقتلوه يطلبون أن يقتلوا إنسانًا، فإنهم إن قتلوه لا يُقتل الله (اللاهوت). وإذ أرادوا أن يقتلوه ولم يقتلوه تآمروا ضده كما ضد إنسانٍ، غير مدركين أن الذين يتآمرون ضده هو الله، إذ لا يمكن لأحد أن يود الاستمرار في التآمر ضده لو أنه اقتنع أن الذي يتآمر ضده هو الله[100].
  • ربما يقتلون جسم الكلمة، فإنه من الواضح أنهم بعد لا يقدرون أن يفعلوا شيئًا. لهذا يلزمنا ألا نخاف من الذين يقتلون الجسم وبعد ذلك لا يقدرون أن يفعلوا شيئًا، ولا نخاف الذين يقتلون الجسم ولا يقدرون أن يقتلوا النفس التي للكلمة[101].
  • ليت العبارة: “لا أحيا أنا بل المسيح يحيا فيّ” (غلا ٢: ٢٠) تنطبق ليس على الذين جاءوا من بعده فقط بل وعلى الذين سبقوه. ألاحظ أيضًا في قول المخلص: “إله إبراهيم وإله اسحق وإله يعقوب، لكنه ليس إله أموات بل إله أحياء” (مت ٢٢: ٣٢)؛ ربما تعني أن إبراهيم واسحق ويعقوب هم أحياء لأنهم هم أيضًا دفنوا مع المسيح وقاموا معه (١ كو ٢: ١٢؛ رو ٦: ٤). لكن ليس لم يحدث هذا بأية وسيلة في وقت دفن المسيح جسمانيًا ولا قيامته الجسمانية. هذه هي ملاحظتنا على العبارة: “هذا لم يعمله إبراهيم” [٤١][102].
العلامة أوريجينوس
  • لم يكن إبراهيم قاتلاً. أقول هذا، أنا رب إبراهيم، وحين أقول هذا أقول الحق… أنا أعلم أنكم ذرية إبراهيم. إنه لم ينكر أصلهم، لكنه يدين أفعالهم[103].
  • نحن نأتي من أممٍ أخرى، لكننا إذ نتمثل به نصير أبناء إبراهيم. اسمعوا الرسول: “وأما المواعيد فقيلت في إبراهيم وفي نسله. لا يقول وفي الأنسال كأنه عن كثيرين بل كأنه عن واحدٍ، وفي نسلك الذي هو المسيح… فإن كنتم للمسيح فأنتم إذًا نسل إبراهيم وحسب الموعد ورثة” (غلا ٣: ١٦، ٢٩). لقد صرنا نسل إبراهيم وجعلنا الله ورثة معه. لقد نزع الميراث عن السابقين، وتبنى اللاحقين. لقد قطع الأغصان الطبيعية الجافة عن شجرة الزيتون التي أصلها في البطاركة وطعَّم زيتونة البرية الوضيعة (رو ١١: ١٧)[104].

القديس أغسطينوس

يعلق القديس أغسطينوس على هذه العبارة قائلاً بأن القديس يوحنا المعمدان كسر تشامخ اليهود القادمين إليه المعتزين بأنهم نسل إبراهيم دون الاقتداء به، موضحًا أن الله قادر أن يقيم من الحجارة أولادًا لإبراهيم (مت ٣: ٧–٩). [إن لم تحملوا ثمارًا تليق بالتوبة فلا تنتفخوا بمثل هذا النسب. فإن الله قادر أن يدينكم دون أن يحرم إبراهيم من الأبناء. فإن لديه طريق يقيم به أبناء لإبراهيم. الذين يتمثلون بإيمانه يصيرون أبناءه. “الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أبناء لإبراهيم” مثل هؤلاء هم نحن. كنا في آبائنا حجارة عندما عبدنا الحجارة كإله لنا. من هذه الحجارة خلق الله عائلة لإبراهيم[105].]

أنتم تعملون أعمال أبيكم.

فقالوا له إننا لم نولد من زنا،

لنا أب وأحد وهو اللَّه“. [41]

كشف السيد المسيح لهم عن حقيقة مخفية عنهم وهي أنهم بأعمالهم هذه يحملون البنوة لإبليس القتَّال منذ البدء الذي لم يثبت في الحق [٤٤].

ربما قصد اليهود بذلك أنهم ليسوا من نسل إسماعيل ابن الجارية، إنما من نسل اسحق ابن سارة الحرة. كما أنهم ليسوا من نسل موآب أو أدوم الذين وًلدوا خلال علاقة أثيمة بين نوح وبنتيه.

  • لا يقف الأمر عند العود والحجارة بل اختار الإنسان حتى الشيطان مهلك النفوس ليكون أبًا له. لهذا إنتهرهم الرب قائلاً: “أنتم تعملون أعمال أبيكم” أي الشيطان، أب البشر بالخداع لا بالطبيعة. فكما صار بولس بتعليمه الصالح أبًا للكورنثيون، هكذا دُعي الشيطان أبًا للذين وافقوه بإرادتهم (مز 18:50)[106].

القديس كيرلس الأورشليمي

  • إذ نخطئ ففي هذا نحن لم ننتزع بعد مولدنا من إبليس، حتى وإن كنا نظن أننا نؤمن بيسوع. لهذا يقول يسوع لليهود الذين آمنوا: “أنتم تعملون أعمال أبيكم“. كلمة “أب” تعني إبليس كما جاء في العبارة: “أنتم من أب هو إبليس” [٤٤].
  • هذه الكلمات توضح تمامًا أن الشخص ليس ابنا لإبليس كثمرة للخلقة، ولا يُقال عن أي إنسان أنه ابن الله لأنه خُلق هكذا.

كما هو واضح أيضًا أن الذي كان قبلاً يُدعى ابنًا لإبليس يمكنه أن يصير ابن الله. أعلن أيضًا (الإنجيلي) متى ذلك عندما سجل قول المخلص هكذا: “سمعتم أنه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك، وأما أنا فأقول لكم أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، احسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم، لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات” (مت ٥: ٤٣–٤٥)[107].

  • إن كان كل من يثبت فيه لا يخطئ، فإن من يخطئ لا يثبت في الابن. وإن كان كل من يخطئ لا يراه، فإن من يراه لا يخطئ[108].
  • المولود من الله لا يخطئ. لكن بالحقيقة لم يُكتب أن المولود من إبليس لا يصنع البرّ، وإنما من يصنع الشر هو من إبليس[109].
  • يقول البعض أن بعض الكائنات المخلوقة هي من الله وهي ليست قط مولودة من الله. هذه الكائنات حتمًا أقل رتبة في المسكونة من الذين يُقال عنهم انهم مولودون من الله[110].
  • المولود من الله لا يخطئ لأن بذرة الله تثبت فيه، من خلال قوة هذه البذرة الموجودة فيه تظهر فيه سمة عدم إمكانية أن يخطئ. وقد قيل في نهاية كلمات الرسالة: “كل من وُلد من الله لا يخطئ، بل المولود من الله يحفظ نفسه والشرير لا يمسه” (١ يو ٥: ١٨).
  • إن كان أبناء إبراهيم يعملون أعمال إبراهيم، وأول هذه الأعمال هي أن يذهب من أرضه وعشيرته ومن بيت أبيه ويرحل إلى الأرض التي يريه الله إياها، لهذا فإن سبب توبيخ من وُجهت إليهم هذه الكلمة بأنهم ليسوا أبناء إبراهيم، إذ لم يخرجوا من بيت أبيهم، فلا يزالوا ينتمون إلى الأب الشرير ويعملون أعمال ذاك الأب[111].
  • إذ قال المخلص إن الله هو أبوه (يو ٥: ١٨) ولم يعرف رجلاً بأنه أباه، فلذلك قالوا: “إننا لم نولد من زنا” لمقاومته، مضيفين: “لنا أب واحد وهو الله” [٤١]. وكأنهم يقولون له: “إننا نحن الذين لنا أب واحد وهو الله وليس أنت يا من تدعي أنك وُلدت من بتول، فأنت وُلدت من زنا.

إنك تفتخر أنك وُلدت من عذراء بقولك أن لك الله وحده هو أبوك. نحن الذين نعرف الله كأب لنا لا ننكر أنه لنا أب بشري”[112].

العلامة أوريجينوس
  • إذ أدرك اليهود أنه لا يتحدث عن نسبهم الجسدي لإبراهيم بل عن سلوكهم، وهم يعلمون أن السلوك الشرير هو انحراف عن الله، وبالتالي يسقطون في الزنا الروحي، لهذا تركوا الحديث عن نسبهم لإبراهيم لأنهم فشلوا في الإقتداء به، وقالوا له: “إننا لم نولد من زنا. لنا أب واحد وهو الله” [٤١].
  • أنتم تدعون الله أبًا، لتعرفوني إذن على الأقل كأخٍ لكم. وفي نفس الوقت أعطاهم حافزًا لقلوب الأذكياء بذكر ما اعتاد أن يقول: “لم آتِ من نفسي، هو أرسلني. أنا خرجت وأتيت من الله”… لقد جاء من عنده بكونه الله المساوي له، الابن الوحيد، كلمة الآب، جاء إلينا، لأن الكلمة صار جسدًا لكي يحل بيننا. مجيئه يشير إلى ناسوته، الذي هو سكناه، و إلى لاهوته. إنه بلاهوته ذاك الذي بناسوته يجعلنا نتقدم. لو لم يصر هكذا لكي ما نتقدم ما كنا قط نقتنيه ذاك الذي يبقى إلى الأبد[113].
  • يقول: “لماذا لم تفهموا كلامي؟ لأنكم لا تقدرون أن تسمعوا كلمتي”… ولماذا لم يقدروا أن يسمعوا، إلاَّ لأنهم رفضوا أن يسلكوا حسنًا بالإيمان به؟ ولماذا هذا؟ “لأنكم من أبيكم الشيطان. إلى متى تحتفظون بالحديث عن أبٍ؟ إلى متى تغيرون آباءكم – تارة أبوكم هو إبراهيم، وأخرى هو الله. اسمعوا من الابن أبناء من أنتم: “أنتم من أبيكم إبليس[114].
  • لماذا أنتم أبناؤه؟ من أجل شهواتكم وليس لأنكم وُلدتم منه.

ما هي شهواته؟ “إنه قتال من البدء“. هذا ما يوضح: “شهوات أبيكم تفعلوا“. “أنتم تطلبون أن تقتلونني، الإنسان الذي يخبركم بالحق”.

للشيطان إرادة شريرة نحو الإنسان، ويقتل الإنسان. فإن الشيطان في إرادته الشريرة نحو الإنسان أخذ شكل الحية، وتحدث مع المرأة، ومن المرأة بث سمه في الرجل. لقد ماتا باستماعهما للشيطان (تك ٣: ١)، هذان اللذان لو لم ينصتا له لسمعا للرب. لأنه كان يلزم للإنسان أن يطيع الخالق لا المخادع…

لقد دُعي الشيطان بالقتال، ليس كمن يتسلح بسيف ويلتحف بفولاذٍ.

جاء إلى الإنسان وبذر فيه اقتراحاته الشريرة وذبحه.

لا تظن إذن أنك لست بقاتلٍ عندما تغوي أخاك على الشر. إن كنت تغوي أخاك على الشر فإنك تذبحه. ولكي تعرف هذا أنك تذبحه أنصت إلى المزمور: “أبناء البشر أسنانهم حراب وسهام، ولسانهم سيف حاد” (مز ٤٧: ٤).

نعم أنتم تعملون شهوات أبيكم، ولهذا تندفعون بجنونٍ نحو الجسد، إذ لا تقدرون أن تسيروا حسب الروح.

إنه قتال منذ البدء“، على الأقل في بداية البشرية.

منذ ذلك الوقت صارت إمكانية قتل الناس قائمة، فقط في الوقت الذي خُلق فيه الإنسان صار ممكنًا قتل البشر. فإنه ما كان يمكن قتل الإنسان لأنه لم يكن بعد قد خُلق…

ومن أين صار قاتلاً؟ لأنه لم يثبت في الحق.

إذن كان في الحق وسقط بعدم ثبوته فيه. ولماذا لم يثبت في الحق؟ لأن الحق ليس فيه مثل المسيح. فإن المسيح فيه الحق بطريقة ما، بحيث هو نفسه الحق. لو أنه ثبت في الحق لثبت في المسيح، لكنه لم يثبت في الحق، لأنه لا يوجد الحق فيه[115].

القديس أغسطينوس

فقال لهم يسوع:

لو كان الله أباكم لكنتم تحبونني،

لأني خرجت من قبل الله وأتيت،

لأني لم آت من نفسي،

بل ذاك أرسلني“. [42]

إن كانوا قد ظنوا أنهم أبناء الله لم يرتكبوا الزنا، لأنهم لا يعبدون الأوثان، إلاَّ أنهم برفضهم للسيد المسيح ومقاومتهم له أثبتوا ما هو على خلاف ذلك. إن كانوا يدافعون عن بنوتهم لله فليدركوا أن الأمة اليهودية كأمٍ لهم قد فقدت اتحادها بالله بسبب الخطية وطُلقت: “هكذا قال الرب: أين كتاب طلاق أمكم التي طلقتها؟ هوذا من أجل آثامكم قد بُعتم ومن أجل ذنوبكم طُلقت أمكم” (إش ٥٠: ١). فما قيل لآبائهم في عصر إشعياء يُقال لهم الآن بسبب عبوديتهم للخطية.

أما قوله: “خرجت من قِبَل الله” فيختلف معنى الكلمة حسب حرف الجر اليوناني الملحق بها. فإن جاء الحرف apo بالابتعاد كنوع من التغرب الملحق بها. فإن جاء الحرف para فتحمل معنى المرافقة بجانب الكائن، وأما إن لحق بها حرف ek فهي خروج من الداخل مع البقاء في الجوهر. وقد جاءت القراءات اليونانية الصحيحة هنا هكذا تلحق حرف ek لتعني خروج الكلمة دون انفصاله عن الآب في الجوهر، فمجيئه إلى عالمنا لم يعزله عن ذات الجوهر الإلهي الواحد.

  • يظهر من كل جانب أنه ليس ضد الله، وأنه ليس بسبب هذا لا يؤمنون، وإنما لأنهم كانوا غرباء عن الله، لأنه عندما يقول أنه لم يفعل خطية، وقال أنه خرج من عند الله ومُرسل من عنده، ويقول الحق… وبعد هذا لا يؤمنون به فواضح انهم لا يؤمنون لأنهم جسدانيون[116].

 القديس يوحنا الذهبي الفم

  • لقد خرج من قبل الله وبعد خروجه لا يزال في الله[117].
  • واضح أن هؤلاء القوم حسبوا أن للآب موضع مادي، وأن الابن قد جاء إلى الحياة بتغيير موضعٍ بموضعٍ آخر بمعنى مادي، وليس بتغيير الحالة إلى حالة أخرى كما نفهم نحن[118].
العلامة أوريجينوس
  • من يصدر عن الآب ويخرج من عند اللَّه لا يمكن أن يُنسب له إلا ما يليق باللَّه[119].

القديس أمبروسيوس

لماذا لا تفهمون كلامي؟

لأنكم لا تقدرون أن تسمعوا قولي“. [43]

يمكن للشخص الذي لم يكن قادرًا أن يسمع كلمة يسوع أن يتمتع بالقدرة على استماعها مؤخرًا، حيث أن الإنسان لا يقدر أن يسمع ما دام سمعه لم يُشفَ بعد بالكلمة الذي يقول للأصم: “انفتح” (مر ٧: ٣٤)[120].

إذ تطلب كلمة المسيح قلوبهم لتنزع عنها كبرياءها ورياءها، وتحطم الفساد الذي فيها، وتقدس إرادتهم، صمموا ألا يتركوا الشر، بهذا صارت كلمة المسيح بالنسبة لهم غامضة لا معنى لها، وغير واقعية بالنسبة لهم.

  • عدم القدرة على الاستماع ليس ثمرة طبيعية لا يُمكن شفائها[121].
  • يشير الكذب إلى خصم ذاك الذي قال: “أنا هو الحق” (يو ١٤: ٦). هذا هو ضد المسيح، الذي أبوه هو كذاب بكونه إبليس[122].
العلامة أوريجينوس

أنتم من أب هو إبليس،

وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا.

ذاك كان قتالاً للناس من البدء،

ولم يثبت في الحق،

لأنه ليس فيه حق،

متى تكلم بالكذب، فإنما يتكلم مما له،

لأنه كذاب وأبو الكذاب“. [44]

لو لم يقاوموه بإصرار في حوارهم لما أعلن لهم: “أنتم من أب هو إبليس” فهو لا يود أن يجرح مشاعر أحد، لكن إصرارهم على المغالطة والمقاومة والرغبة في قتل الحق جعله يحدثهم علانية عن هذه البنوة لإبليس لعلهم يدركون حقيقة أنفسهم ويرجعون عن موقفهم الشرير.

جاءت كلمة “تريدون” في اليونانية تحمل الإصرار المستمر في تنفيذ ما يريدونه، وهذه سمة عدو الخير المصمم على شره، العنيد، والمقاوم للحق حتى النهاية. إنه يسكب هذه السمة على من يقبل أبوته له. على نقيض ذلك نجد في أبناء الله روح الطاعة والوداعة.

إذ هم ليسوا أبناء الله، لأنهم يكرهون ابنه الحبيب ويطلبون قتله فبالضرورة هم أبناء إبليس، لأن العالم البشري منقسم إلى فريقين، فريق يمثل مملكة الله، والآخر مملكة إبليس.

يعمل إبليس في أبناء المعصية (أف ٢: ٢)، الذين يدعون نسل الحية (تك ٣: ١٥)، أبناء الشرير (مت ١٣: ٣٨). يشاركونه طبيعته الشريرة، ويحملون صورته، ويطيعون ناموسه، ويتمثلون به.

هذا الاتهام خطير جدًا يصعب على أي إنسان أن يقبله، فكيف إن وجه إلى شعب يظن أنه الشعب الوحيد المتعبد لله، والذي يعتز بلقبه “شعب الله”؟ لذلك قدم لهم السيد برهانًا عمليًا على ما يقوله، وهو “وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا“. كأنه يقول لهم: “إنكم تسرونه، وتتممون تجاربه، وتحققون أهدافه فيكم”. أهم سمتين لإبليس هما: القتل لأنه ضد الله “الحب”، والكذب لأنه مقاوم للحق. وها هم يتممون الأمرين، إذ يطلبون قتل ابن الله، ويرفضون الحق ويقاومونه. هكذا صاروا قتلة أبناء القتّال وكذبة أبناء أبي الكذابين.

إنه قتّال منذ البدء، فقد خدع حواء بالحية وآدم بواسطة حواء، ودمَّر حياتهما وقتلهما روحيًا وجسديًا، إذ دخل الموت إلى العالم. وبث في قايين روح القتل فقتل أخاه هابيل. هذا هو فكر اليهود أنفسهم، إذ جاء في Sohar Kadash عن الأشرار أنهم يدعون: “أبناء الحية القديمة التي ذبحت آدم ونسله”.

يتكلم إبليس مما له، أي من الكذب الذي فيه. هكذا تكلم خلال الحية، فخدع حواء وأخرجها من الحق. عندما ينطق إنسان بالكذب إنما يتكلم بما لإبليس ويكون له فمًا.

  • لقد أخرجهم السيد المسيح من قرابتهم لإبراهيم، ولما تجاسروا على أعظم منها وقالوا “لنا أب واحد وهو الله” [41] حينئذ ألقى بالضربة عليهم، إذ قال أنهم ليس فقط ليسوا مولودين من إبراهيم لكنهم مولودون من إبليس [44].
  • يستخدم الناس الكذب ليس كأمرٍ لائقٍ بهم بل غريب عنهم[123].

 القديس يوحنا الذهبي الفم

  • لا تقدر شجرة جيدة أن تأتي بثمر رديء، ولا شجرة رديئة أن تأتي بثمر جيد[124].

القديس جيروم

  • ليس كل شخص ينطق بكذب هو أب لكذبه، فلو أنك تسلمت أمرًا كذبًا من شخص ونطقت بما سمعته، فأنت بالحق تنطق بالكذب، لكنك لست أبًا لهذا الكذب، لأنك تسلمته من آخر. أما الشيطان فكان كاذبًا من ذاته. لقد ولد ما يقوله باطلاً، الأمر الذي لم يسمعه من أحدٍ. كما أن الآب ولد الحق ابنًا له، هكذا الشيطان إذ سقط ولد الباطل ابنًا له… لتنسحب إذن من أب الكذب، ولتسرع إلى أب الحق، احتضن الحق، فتتمتع بالحرية[125].

القديس أغسطينوس

  • الشيطان هو المصدر الأول للخطية وأب الأشرار. هذا القول ليس من عندي بل هو قول الرب. “لأن إبليس من البدء يخطئ” (1 يو 8:3؛ يو 44:8)… لكنه لم يخطئ عن إلزام، كأن فيه نزوع طبيعي للخطية، وإلا ارتدت علة الخطيئة إلي خالقه أيضًا. وبإرادته الحرة صار إبليس متقبلاً هذا الاسم من عمله.

كان رئيس ملائكة، لكنه دُعي “إبليس” بسبب أضاليله.

كان خادم اللُه الصالح، وقد صار مدعوًا شيطانًا بحق، لأن “الشيطان” يعني “الخصم”.

هذا التعليم ليس من عندي، بل هم تعليم حزقيال النبي الموحى به، إذ رفع مرثاة عليه قائلاً: “كنت خاتم صورة اللُه، وتاج البهاء، وُلدت في الفردوس” (راجع حز 12:28-17).

يعود فيقول بعد قليل: “عشت بلا عيب في طرقك من يوم خُلقت حتى وجُد فيك إثم”.

إنه بحق يقول: “حتى وُجد فيك إثم”، إذ لم يُجلب عليه من الخارج بل هو جلبه لنفسه. وللتو أشار إلي السبب قائلاً: “قد ارتفع قلبك لجمالك، بسبب كثرة خطاياك طُعنت، فطرحت على الأرض”. يتفق هذا القول مع قول الرب في الإنجيل: “رأيت الشيطان ساقطًا مثل البرق من السماء” (لو 18:10).

ها أنت ترى اتفاق العهدين القديم والجديد!

عندما طُرد سحب معه كثيرين، إذ يبث الشهوات فيمن ينصتون إليه، منه تنبع الدعارة والزنا وكل أنواع الشر. خلاله طُرد أبونا بسبب العصيان، وتحول عن الفردوس ذي الثمر العجيب إلي الأرض المنبتة شوكًا[126].

القديس كيرلس الأورشليمي

  • يشير إلى كل الذين يكذبون، فحينما يُنطق بالكذب على فم كل كذاب “يتكلم مما له”، أي من الكذب. بالإضافة إلى ذلك جاءت العبارة: “أبوه هو كذاب” (راجع يو ٨: ٤١)، مشيرًا إلى حقيقة أن كل واحد يجلب كذبًا من فمه هو أب للكذب الذي ينطق به[127].
  • إنه ليس بالأمر المنافي للعقل تأكيد أن شهوات إبليس هو القتل وممارسة الظلم والطمع، إذ يوَّلد شهوات مشابهة في أبنائه. أيضًا ليس بالأمر السخيف القول بصفة عامة أن شهوات الشيطان هي الأعمال الدنسة المقاومة في طبيعتها للطهارة، وليس من الصعب الاعتقاد بأن شهوات إبليس هذه تثير شهوات أبناء إبليس نحو الأمور النجسة[128].
  • نحن نعلم أن كل من يريد أن يمارس شهوات إبليس لا يمكن أن يكون الله أباه، بل يصير ابن إبليس، ويتشكل حسب الرغبة في ممارسة شهوات الشرير، ويصير في صورة الأب الشرير الذي منه تخرج ذاك الإنسان الترابي وتتقبل أختامها، لأن هذا الإنسان الأول هو من التراب (١ كو ١٥: ٤٧–٤٩)[129].
  • إن كنا نعمل أعمال الله ونشتهي أن نعمل رغباته، فنحن أبناء الله. لكن إن كنا نعمل أعمال إبليس ونشتهي أن نمارس شهواته، فإننا من أبينا إبليس. لهذا وجب أن نتيقظ ليس من جهة ما نفعله فقط بل وأيضًا ما نشتهيه. فإن اشتهاء ممارسة شهوات إبليس تكفي أن تجعلك ابنه[130].
  • مات آدم وحواء في الحال في اليوم الذي فيه أكلا من الشجرة الممنوعة. ليس أحد سوى إبليس القتَّال هو الذي قتلهما عندما خدع حواء خلال الحية، وأعطت حواء زوجها من الشجرة فأكل (تك ٣: ١–٦)[131].
  • دُعي بحق قتَّالاً، ليس لأنه قتل أفرادًا معينين، وإنما لأنه قتل كل الجنس البشري، إذ “في آدم مات الجميع” (١ كو ١٥: ٢٢)[132].
  • من جانب قتلنا القتَّال، ولكن بنعمة الله نحن دُفنا مع المسيح وقمنا معه، إن صرنا بالحقيقة نشاكل قيامته، ونسلك في جدة الحياة. (رو ٦: ٤)[133].
  • الآن يحكم القتَّال الذين يهلكون، يدير الموتى، لكنه لا يقدر أن يحكم أحدًا من الأحياء[134].
  • حث الرب موسى أن يثبت على هذا، أي في الحق، قائلاً له: “هوذا عندي مكان، فتقف على الصخرة” (خر ٣٣: ٢١). فإن كانت الصخرة هي المسيح (١ كو ١٠: ٤)، ويقول المسيح: “أنا هو الحق” (يو ١٤: ٦)، فيكون القول “تقف على الصخرة” تعادل “تقف على الحق”. هذا يمكن أن يحدث فقط للشخص بعد محاولات كثيرة في صعوبات[135].
  • إن كان أحد ليس بعد كذابًا، ويثبت في الحق، مثل هذا ليس بإنسان بل يقول له الله ولمن هم مثله: “أنا قلت أنكم آلهة، وبنو العلي كلكم” (مز ٨١: ٦)، ولا تُضاف العبارة: “بالحقيقة تموتون كبشرٍ” (مز ٨١: ٧).

إن لم يثبت أحد في الحق، فمن الواضح أن إبليس القتال من البدء لا يثبت في الحق… وقد جاء السبب مُعبرًا عنه بعد ذلك: “لأنه ليس فيه حق“. أما السبب أن الحق ليس فيه فهو أنه خُدع ويقبل الكذب، وأنه خدع نفسه بنفسه. على هذا الأساس حُسب أشر من كل بقية المخدوعين، إذ خُدعوا بواسطته، أما هو فخلق الخداع لنفسه[136].

  • قد يقول قائل أن عبارة: “ليس فيه حق” تعني أنه ليست له شركة مع المسيح، هذا الذي يثير حروبًا ضده.

يقول آخر بأنه من أجل أنه لا يوجد فيه حق قط، بل هو مخدوع في كل شيء. والسبب أنه هو إبليس وهو شرير، وأشر من كل أحدٍ آخر يخطئ.

إذ يوجد بين جماهير الخطاة شيء من الحق وسط أمور كثيرة خاطئة، لكن لا يوجد حق قط في إبليس.

ويتفق فريق ثالث مع البقية ويقولون أنه من الاستحالة أن يوجد كائن عاقل متمسك برأي خاطئ في كل شيء، ولا يقبل الحق في أي أمر حتى ولو في أمر صغير، فعندما يفكر إبليس في نفسه فعلى الأقل يتمسك برأي صادق أنه كائن عاقل، وإن هذا الكائن إنسان، وان هذا جسم الخ.[137]

  • يلزمنا أن نفهم العبارة: “لا يثبت في الحق” أنها لا تشير إلى نوع معين من الطبيعة، كما لا تعني أنه كان من المستحيل عليه أن يثبت في الحق[138].

العلامة أوريجينوس

  • كل من هو من اللّه يعد أخًا لنا، أما الذي يرفض الاشتراك في أعمال الصلاح بكامل إرادته إنما هو يبث الشر. إذ يصير “أبو الكذَّاب” (يو 44:8)، فقد أعدَّ نفسه لمحاربة كل من اختار أن يعيش في الصلاح[139].
القديس غريغوريوس النيسي
  • يجب على كل أحدٍ أن يعطى اهتمامًا عظيمًا لئلا يسلبه “الكذب”، لأن الكذاب لا يتحد مع اللّه.

الكذاب غريب عن اللّه. ويقول الكتاب المقدس بأن الكذاب هو من الشيطان، إذ هو “كذاب وأبو الكذاب” (يو 44:8).

هكذا ُدعي الشيطان أبو الكذاب، أما الحق فهو اللّه، إذ يقول بنفسه: “أنا هو الطريق والحق والحياة” (يو 6:14).

أما ترون إذن كيف أننا نصير غرباء عن اللّه بالكذب وبمن نتحد (عن طريقه)؟! لذلك إن أردنا بحق أن نخلص، يلزمنا أن نحب الحق بكل قوتنا وكل غيرتنا، ونحرس أنفسنا من كل كذب، حتى لا يفصلنا عن الحق والحياة[140].

الأب دوروثيئوس

وأما أنا فلأني أقول الحق، لستم تؤمنون بي“. [45]

إذ جاءهم “الحق” لم ينصتوا إليه، وكما قيل: “قد ارتد الحق إلى الوراء، والعدل يقف بعيدًا. لأن الصدق سقط في الشارع، والاستقامة لا تستطيع الدخول، وصار الصدق معدومًا” (إش ٥٩: ١٤–١٥). “أولئك يكونون بين المتمردين على النور، لا يعرفون طرقه، ولا يلبثون في سبله” (أي ٢٤: ١٣).

  • يبدو أنهم آمنوا به على أساس ما هو منظور إذ صنع عجائب، لكنهم لم يؤمنوا به بسب أقواله العميقة[141].

العلامة أوريجينوس

  • لقد جعل المتكلم هنا من نفسه طفلاً صغيرًا أمام اللّه، فقد اختاره ليكون له أبًا وأمًا. إنه أبوه لأنه خلقه، وهو أمه لأنه يهتم به ويربيه ويقوته ويرضعه ويقول بتربيته.

لنا أب آخر وأم أخرى… فحينما كنا عديمي الإيمان، كان الشيطان أبانا (يو 44:8)، وكانت لنا أم أخرى (هي بابل)… لكننا تعرفنا على أب هو اللّه… وأم هي أورشليم السماوية، الكنيسة المقدسة التي لا يزال جزء منها متغربًا على الأرض…

بعيدًا عن الأب والأم، أي بعيدًا عن الشيطان وبابل، يستقبلنا اللّه كأولادٍ له ليعزينا بأمور لا تفنى، ويباركنا بالباقيات…

المسيح رأسنا هو في السماء؛ ولا يزال أعداؤنا قادرين على الهياج ضدنا، إذ لم نرتفع بعد عن متناول أيديهم، لكن رأسنا هناك في السماء فعلاً، وهو يقول: “شاول، شاول، لماذا تضطهدني؟‍” (أع 4:9)، موضعه أنه هو فينا نحن الذين أسفل (على الأرض)، لكننا في نفس الوقت نحن فيه في العلا، إذ “يرفع رأسي على أعدائي” [6].

القديس أغسطينوس

من منكم يبكتني على خطية؟

فإن كنت أقول الحق،

فلماذا لستم تؤمنون بي؟” [46]

كمقاومين للحق كانوا يفحصون كل كلمة وكل تصرف للسيد المسيح، لا ليتعرفوا عليه، وإنما لكي يجدوا علة عليه، لهذا سألهم: “من منكم يبكتني على خطية؟” هنا يضع الخطية مقابل الحق، وكأن الحق والبرّ واحد، كما أن الخطية والكذب أو البطلان هما واحد. الحق يظهر من ثمره الذي هو البرّ، كما ينفضح الكذب بثمره الذي هو الخطية.

كلمة “يبكتني” في اليونانية اصطلاح قانوني يحمل معنى إقامة الدليل ضد المتهم. فليس من يمكن أن يقف ضد يسوع المسيح، ولا من يشهد عليه. وأما الروح القدس فيبكت العالم (يو ١٦: ٨)، مقدمًا الدليل الثابت على خطيته، وسقوطه ضد الدينونة والحكم.

  • إنه ربنا وحده الذي لم يفعل خطية (١بط ٢: ٢٢)، الذي جُرب في كل شيءٍ مثلنا بدون خطية (عب ٤: ١٥)، القادر أن يوجه هذه الكلمات لكل الذين يعرفونه. الآن افهم الكلمات: “من منكم” أنها قد قيلت ليس فقط للذين كانوا حاضرين، بل ولكل الجنس البشري، كمن يعرفها بمعنى: مَنْ مِنْ بين جنسكم؟ أو أي نوع من الإنسان يمكنه أن يتهمني بالخطية؟ تأكدوا أنه لا يوجد[142].
  • على أي الأحوال يمكن للمخلص أن يقول هذا، ليس فقط للبشر، بل وأيضًا لإبليس والقوات الخاضعة له، إذ لا يستطيعوا أن ينطقوا باتهام ضده بالخطية. هذا القول بالحقيقة يتفق مع العبارة: “رئيس هذا العالم يأتي لا يجد فيّ شيء” (راجع يو ١٤: ٣٠)[143].
  • ونحن أيضَا باجتهادٍ عظيمٍ يمكننا بعد فترة من الزمن أن نستعيد ثقتنا حتى في وقت خروجنا نقول لإبليس وملائكته الذين يطلبون فرصة ضدنا: من منكم يبكتني على خطية؟[144].

العلامة أوريجينوس

الذي من الله يسمع كلام الله،

لذلك أنتم لستم تسمعون،

لأنكم لستم من اللَّه“. [47]

يقدم لهم اتهامًا آخر وهو أنهم ليسوا من الله لأنهم لا يسمعون لله. لقد سمع صموئيل صوت الرب بينما لم يستطع عالي الكاهن أن يسمع الصوت. هكذا صاروا كعالي الكاهن لا يسمعون صوته، ولا يفهمونه، ولا يتجاوبون معه، فهم ليسوا من الله.

  • إن كان بولس بالطبيعة ابن الغضب (أف ٢: ٣)، فمن هو أفضل من هذا الذي في قوامه كان ابنًا للغضب، قبل أن يتقبل السلطان أن يصير ابنًا لله (يو ١: ١٢)، وقبل أن يصير هكذا؟ وإن كان الطريق الوحيد ليصير الشخص ابنًا للآب الذي في السماوات هو محبته للأعداء، وصلاته من أجل الذين يضطهدونه (مت ٥: ٤٤–٤٥)، فمن الواضح أنه ليس أحد يسمع كلمات الله لأنه بالطبيعة هو من الله، وإنما لأنه يتقبل السلطان أن يصير ابنا لله، ويستخدم هذا السلطان في وضع لائق، لأنه يحب أعداءه ويصلي من أجل مضايقيه، وقد صار ابنًا للآب الذي في السماوات. بهذا يصير أيضًا من الله، ويسمع كلمات الله، ويفهمها ويستوعب معرفتها. هذه سمات خاصة لا بالعبيد (رو ٨: ١٥)، وإنما بأبناء الله الذين جحدوا ميلادهم (من إبليس) من جانب، وقبلوا ميلادهم من الله بروح التبني (رو ٨:١٥)[145].
  • غالبًا عندما لا نسمع الكلمات التي ينطق بها الله، أي لا نفهمها، يلزمنا أن ندرك أننا نوَّبخ لأننا لسنا من الله. لأن من لا يسمع كلمات الله، إنما لأنه ليس من الله، وهو ليس من الله بناء على قراره هو، مع أنه أحيانا يتقبل السلطان ليصير ابنًا لله (يو ١: ١٢)، وهو قادر أن يصير ابنًا للآب الذي في السماء بحبه للأعداء وصلاته لمن يسئ إليه (مت ٥: ٤٤–٤٥؛ لو ٦: ٢٨)[146].

العلامة أوريجينوس

  • هنا أيضًا ليس بسبب طبيعتهم كبشرٍ، وإنما بسبب فسادهم أنهم يفكرون هكذا. في هذا وهم من الله إلاَّ أنهم ليسوا من الله. بحسب الطبيعة هم من الله، وبسبب فسادهم ليسوا من الله[147].
  • بنفس الطريقة هم أبناء إبراهيم وهم ليسوا أبناء إبراهيم… هم أبناء إبراهيم من جهة أصلهم الجسدي، وليسوا أبناءه بخصوص خطية اتباعهم لحث الشيطان لهم. هكذا أيضًا لنطبق هذا بخصوص ربنا وإلهنا، فإنهم كانوا منه وليسوا منه. كيف كانوا من الله؟ لأنه هو الذي خلق الإنسان الذين جاءوا منه… إنه المهندس الأعظم للطبيعة. هو خالق الجسد والروح. كيف أنهم ليسوا منه؟ لأنهم جعلوا أنفسهم فاسدين. لم يعودوا بعد منه، لأنهم اقتدوا بالشيطان فصاروا أبناء الشيطان[148].

القديس أغسطينوس

6. اتهامه بالتجديف

فأجاب اليهود وقالوا له:

ألسنا نقول حسنًا،

أنك سامري وبك شيطان؟” [48]

إذ كشف لهم السيد المسيح عن شرهم، وأفحمهم في ادعائهم أنهم أبناء إبراهيم هاجموه بالاتهام أنه مجدّف ضد الشعب كما ضد الله. اتهموه أنه سامري أي عدو لليهود، وأن به شيطان كعدو لله.

لم يكن يوجد لقب يعبر عن عداوة شخص لأمة اليهود كلها مثل “سامري“. سبق أن دعوه جليليًا، ليعنوا بذلك إنه إنسان خسيس، أما دعوته سامريًا فيعني أنه مستحق للمحاكمة، لأنه عدو الأمة اليهودية. حسبوه خائنًا للوطن وللشعب، لأنه هكذا كان السامريون يدعون أن اليهود ليسوا أبناء إبراهيم ليشوهوا صورتهم ويفقدوهم حق دعوتهم “شعب الله”، وإلى قرون طويلة كان اليهود يدعون المسيحيين سامريين إشارة إلى العداوة من نحوهم. أما الاتهام الثاني فهو “بك شيطان“: يرون تحالفًا بينه وبين الشيطان. فمن جهة تعليمه حسبوه سامريًا كمن هو منشق عنهم ومبتدع ومقاوم للناموس، وبه شيطان يصنع معجزات.

في إصرارٍ عجيب يؤكدون أنهم أصحاب علم ومعرفة، وأنهم خلال هذه المعرفة تأكدوا أن به شيطان. كيف؟ لقد تحدث الله مع إبراهيم والأنبياء، وسمع هؤلاء كلام الله وتحاوروا معه وسلكوا فيه ومع هذا ماتوا، فهل يكون كلام يسوع المسيح أعظم من كلام الله؟ هكذا كان منطقهم، وهكذا كانت ثمرة معرفتهم.

هنا يكشف رؤساء اليهود عن جهلهم، إذ لم يميزوا بين قول السيد “يرى الموت” وبين تعبير “يذوق الموت“. فالسيد المسيح نفسه ذاق نعمة الله لأجل كل واحدٍ (عب ٢: ٩)، أما تعبير “يرى الموت” فيحمل معنى السقوط الدائم تحت سلطان الموت، والخوف منه، يتأمله الإنسان فيرتعب منه.

  • يبدو أن البعض كانوا يرددون تعليقاتهم على المخلص فيما بينهم سريًا، ويدعونه “سامريًا“، وذلك مثل السامريين الذين يخطِّئون التقاليد اليهودية. لأن اليهود لا يعاملون السامريين (يو ٤: ٩)، إذ لا يتفقون معهم في تعاليم كثيرة[149].
  • لكن يليق أن تسأل إذ ينكر السامريون الحياة العتيدة ولا يقبلون الوجود الدائم للنفس، كيف يتجاسرون ويدعون المخلص سامريًا، وقد علَّم بأمور كثيرة خاصة بالقيامة والدينونة؟ ربما قالوا هذا ليوبخوه، وليس لأنه يعلم بذات تعاليم السامريين… أو أنه قد تظاهر فأبدى ملاحظاته عن القيامة والحياة الأبدية لمجرد أنها تتفق مع التعاليم العامة المقبولة لكي يقبل رضي اليهود[150].
  • وقالوا أن به شيطان بسبب تعاليمه التي تتعدى الحدود البشرية، كقوله أن الله أبوه (يو ٥: ١٨)، وأنه نزل من السماء (يو ٦: ٣٨)، وأنه هو نفسه خبز الحياة الأعظم من المن، من يأكله يحيا إلى الأبد (يو ٦: ٣٢–٣٥)، وعشرات الألوف من هذه الأمور التي امتلأت بها الأناجيل.
  • يمكن أن يكونوا قد قالوًا: “بك شيطان” [٤٨]… حيث ظن بعضهم أنه ببعلزبول رئيس الشياطين يخرج الشياطين (لو ١١: ١٥)[151].

العلامة أوريجينوس

أجاب يسوع:

أنا ليس بي شيطان،

لكني أكرم أبي،

وأنتم تهينونني“. [49]

يقول العلامة أوريجينوس أن السيد المسيح لم يرد على اتهامه بأنه سامري، وإنما ردَّ على الاتهام بأنه شيطان، لأن السيد نفسه قدم مثلاً عن السامري الصالح (لو ١٠: ٣٠–٢٤) الذي أظهر حنوًا على الساقط جريحًا على الطريق.

إن كان بولس صار كل شيء لكل بشرٍ كي يربح الكثيرين (١ كو ٩: ٢٢) فبالأولى المخلص الذي يطلب خلاص الكل، فهو لا يستنكف من أن يكون سامريًا ليربح السامريين. هذا وأن كلمة سامري معناها “حارس”، وهو حارس كل النفوس[152]. [فهو بحق حارس أولئك الذين قيل عنهم: “إن لم يحرس الرب المدينة، فباطلاً يتعب الحراس” (مز 127 :2). [لقد عرف أنه كان حارسًا لكل النفوس البشرية، فقد قيل عنه: الذي يحرس إسرائيل لا ينعس ولا ينام، (مز ١٢٠: ٤)، والرب هو حافظ الصغار (مز ١١٤: ٦)[153]].كما يقول: [على أي الأحوال يدعى العبرانيون الحراس Somer، وهكذا أيضًا جاء في تقليدهم أن السامريين تسلموا أولاً هذا الاسم، لأن ملك الآشوريين أرسلهم كحراس لأرض إسرائيل بعد السبي[154].]

  • لقد رفض اتهامًا دون الآخر، إذ أجاب وقال: “ليس بي شيطان“. ولم يقل “أنا لست سامريًا”، ولم يرُد اللعنة باللعنة، ولا القذف بقذفٍ، لكنه كان يليق به أن يجحد اتهامًا ويترك الآخر. لم يفعل هذا بلا هدف يا اخوة. لأن “سامريًا” تعني “حافظًا”. إنه يعلم أنه حافظنا. “لأن حافظ إسرائيل لا ينعس ولا ينام” (مز ١٢١: ٤). و”إن لم يحرس الرب المدينة باطلاً يتعب الحراس” (مز ١٢٧: ١). إنه إذن حافظنا، ذاك الذي هو خالقنا… لهذا أجاب أنه ليس به شيطان، ولم يقل أنه ليس سامريًا[155].

القديس أغسطينوس

  • أنصتوا إلى ما أجابه الرب بعدما شُتم. “ ليس بي شيطان، لكني أكرم أبي “… لم يرد الرب أن يجيب: “أنا الست سامريًا”، بل قال: “ليس بي شيطان”. وُجه ضده اتهامان: جحد اتهام واظهر قبوله للثاني بصمته. إنه قد صار حارسًا على الجنس البشرى. فلو أنه قال انه ليس بسامري يجحد أنه الحارس. كان صامتًا بخصوص ما يعلم أنه حقيقي، وبطول أناة رفض ما قيل عنه باطلاً. انظروا كيف أنه عندما شُتم الرب لم يكن غاضبًا، ولا كانت ردود فعله كلمات أثيمة. لو لم يكن بهم شيطان لما استطاعوا أن ينطقوا بمثل هذه الأشياء الشائنة ضد الله[156].

 البابا غريغوريوس (الكبير)

يحدثنا العلامة أوريجينوس عن دور الشيطان في حياة الناس، قائلاً:

  • إنها وجهة نظر سائدة في الكتاب المقدس أن الخطاة يمارسون أشياء كثيرة مضادة للعقل لا لسبب إلاَّ لأنهم صاروا يتقبلون أنشطة روح شرير أو يتقبلون إرادة شيطانٍ دنسٍ[157].
  • كما أنه ليس بار على الأرض يصنع خيرًا ولا يخطئ (جا ٧: ٢٠)، هكذا لا يوجد أحد في حرية دائمة من الشياطين ولا يسقط قط ضحية لتأثيرهم[158].
  • أليس ذلك برهانًا أننا خاضعون للشيطان عندما نصرخ ملتهبين غضبًا وسخطًا في حالة من الجنون، أو نكون مسعورين وكمن يصهل، فنمارس العلاقة حتى مع زوجاتنا بشهوات كالفرس الجامحة (إر ٥: ٨)، ونلقي خلفنا كلمات الله عن التحرر من الهوى؟

علاوة على هذا إن كنا في كآبة وعبوسة وإحباط بسبب الغضب وفقدان السمو اللائق بالكائنات العاقلة، وننسى أنه لا يسقط عصفور في فخٍ بدون إذن الله، وأن الأحكام في كل ما يحدث للبشر هي عادلة، بماذا نفسر هذه ما لم نقل أننا نعاني من هذه الأمور لأن شيطانًا قد غلبنا وأفسد العنصر التي يتحكم فينا؟

أيضًا بماذا نفسر الخوف من أمور غير مخيفة، ونمارس فرحًا مبالغًا فيه من أجل أمورٍ لا تستحق إلاَّ أن ننسب هذه لأنشطة الشياطين التي ملأت أولئك الذين لا يستطيعون أن يقولوا بحق: “ليس بي شيطان“؟[159]

  • واضح أن كل الكتب المقدسة صحيحة، وأنه حتى الذين تغيروا إلى الحياة الفاضلة غير قادرين أن يقولوا على الدوام في البداية: “ليس بي شيطان“. هذه العبارة خاصة بالمخلص وحده منذ البداية. هذا هو السبب أنه وحده كرَّم الآب بطريقة لائقة جدًا وسليمة[160].

العلامة أوريجينوس

  • لكني أكرم أبي، وأنتم تهينونني” [٤٩]. هذا معناه إنني لست أكرم نفسي حتى لا تظنوا إني متعجرف. إنني أكرم واحدًا، ولو عرفتموني لكنتم تكرمونني كما أكرم أنا الآب. إني أفعل ما يليق، وأما أنتم فلستم تفعلون[161].

القديس أغسطينوس

  • أب كامل ولد ابنًا كاملاً، وسلم كل شيء للمولود، إذ قال: “كل شيء قد دفع لي من أبي” (مت 27:11)، وتمجد بواسطة الابن الوحيد إذ يقول الابن: “أكرم أبي“، وأيضًا: “كما إني أنا قد حفظت وصايا أبي وأثبت في محبته (يو 10:15)”.[162]

القديس كيرلس الأورشليمي

  • إني أمجد أبي“، إذ ليس له أب آخر غير الله في السماء[163].
  • نحن أيضًا نحقق هذه العبارة عندما ندرك غسل الميلاد الجديد (تي ٣: ٥)، وإذ بغسله نصير أبناء الله لا ندعو أحدًا على الأرض أبًا (مت ٢٣: ٩)، إذ صرنا أبناء الآب الذي في السماوات واخوة لذاك القائل: “أصعد إلى أبي وأبيكم، وإلهي إلهكم” (يو ٢٠: ١٧).

من الواضح إذن انه إذ قال يسوع بشرعية كاملة ودقة: “ليس بي شيطان، لكني أكرم أبي” [٤٩] فإن كل من يقتدي به يكون قادرًا، ويستطيع كل شيء في المسيح يسوع الذي يقويه (في ٤: ١٣)، سيقول هو نفسه: “ليس بي شيطان، لكني أكرم أبي“. لكن من يقدر أن يقول “ليس بي شيطان” متى كان بين الموتى ساكنًا في القبور؟[164]

أو من يقدر أن يقول: “لكني أكرم أبي” [٤٩] كتلميذ ليسوع بينما هو يكرم شيئًا آخر غير الله وكلمته والوصايا التي يأمر بها الكلمة، مكرمًا آخر مع أنه كان يلزم أن يقدم الكرامة لمن يستحقها (رو ١٣: ١٧)[165].

عبارة: “أنتم تهينونني” لا تخص الذين كانوا في ذلك الوقت وحدهم، لكنها تنطبق أيضًا دومًا على الذين يهينونه بأعمالهم المضادة لكلمة الله المستقيمة. يهينون المسيح الذي هو العدل بممارستهم للظلم، ويهينون قوة الله التي هي المخلص (١ كو ١: ٢٤)… بتصرفاتهم الضعيفة والهزيلة[166].

  • يُقال “أنتم تهينونني” لمن يحتقر الحكمة، لأن المسيح هو أيضًا الحكمة (١ كو ١: ٢٤)[167].
  • من يفعل الشر يهين المسيح بإهانته للنور[168].
  • الله الذي أعطانا ابنه يطلب مجد المسيح في كل من يتقبله. إنه يجد المجد في الذين يسهرون على أنفسهم وينتهزون الفرص لممارسة الفضيلة المزروعة فيهم. لكنه لا يجد المجد فيمن لا يفعلون هكذا. فإذ لا يجد المجد سيدين من ليس فيهم مجد ابنه، ويقول لهم: “بسببكم يجدف على اسمي دومًا بين الأمم”[169].

العلامة أوريجينوس

أنا لست أطلب مجدي،

يوجد من يطلب ويدين“. [50]

  • أنا لست أطلب مجدي“، لهذا أغفل عن عقابكم، إنما أضع على عاتقي أن أحثكم على العمل وأشير عليكم بذلك، حتى ليس فقط تهربوا من العقوبة، وإنما تنالون أيضًا الحياة الأبدية[170].

القديس يوحنا الذهبي الفم

  • كيف يقول في موضع آخر: “لأن الآب لا يدين أحدًا بل قد أعطى كل الدينونة للابن” (يو ٥: ٢٢)، بينما يقول هنا “أنا لست أطلب مجدي، يوجد من يطلب ويدين” [٥٠]؟… هذه المشكلة يمكن حلها من خلال الكلمة ذاتها. توجد دينونة للعقوبة وجدت في الإنجيل: “من لا يؤمن يدن” (يو ٣: ١٨). وفي موضع آخر: “تأتي ساعة فيها يسمع جميع الذين في القبور صوته، فيخرج الذين فعلوا الصالحات إلى قيامة الحياة، والذين فعلوا السيئات إلى قيامة الدينونة” (يو ٥: ٢٨–٢٩). ها أنتم ترونه كيف يضع حكمًا للدينونة والعقوبة. مع هذا إن كان الحكم دائمًا يفهم للدينونة فإننا نسمع: “احكم لي يا الله”. في الموضع الأول يستخدم الحكم بمعنى إنزال عقوبة مؤلمة، هنا يستخدمه بمعنى التمييز… لذلك يقول: “احكم لي يا الله” ثم يضيف: “وخاصم مخاصمتي من أمة غير مقدسة” (مز ٤٢: ١). بنفس الطريقة يقول الرب يسوع: “لست أطلب مجدي، يوجد من يطلب ويدين”. كيف “يوجد من يطلب ويدين“؟ يوجد الآب الذي يميز بين مجدي ومجدكم. لأنكم تتمجدون بروح هذا العالم. أما أنا فلست كذلك… ماذا يميز الآب؟ مجد ابنه من مجد الناس المجردين. هنا قيل: “مسحك الله إلهك بزيت البهجة أكثر من رفقائك” (مز ٤٥: ٧). ليس لأنه صار إنسانًا يقارن بنا. نحن كبشرٍ خطاة، وأما هو فبلا خطية. نحن كبشرٍ نرث من آدم الموت والإثم، أما هو فقبل من البتول الجسد المائت لكن بدون إثم[171].

القديس أغسطينوس

ربما يتساءل البعض: كيف يقول السيد المسيح: “يوجد من يطلب ويدين“، بينما يقول في موضع آخر: “لأن الآب لا يدين أحدًا بل قد أعطى كل الدينونة للابن” (يو ٥: ٢٢)؟ يجيب العلامة أوريجينوس: [تأملوا العبارة التالية التي تحمل إجابة على هذه الاعتراض: “أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئًا، كما أسمع أدين ودينونتي عادلة، لأني لا أطلب مشيئتي بل مشيئة الآب الذي أرسلني” (يو ٥: ٣). فإن كان مخلصنا يدين كما يسمع من الآب ولا يطلب مشيئته هو بل مشيئة الآب الذي أرسله… فإن الدينونة ليست من قبل من يسمع بل الذي يتكلم لمن يسمع.[172]]

7. المسيح واهب الخلود

الحق الحق أقول لكم إن كان أحد يحفظ كلامي

فلن يرى الموت إلى الأبد“. [51]

وعد موسى النبي بطول العمر والخيرات الزمنية لمن يحفظ الوصية الإلهية، أما السيد المسيح فقدم الحياة الأبدية والغلبة على الموت لمن يحفظ كلمته، لن يقدر الموت أن يسيطر على نفس المؤمن الحقيقي.

يليق بنا لكي ننعم بالمجد الأبدي ليس فقط أن نقبل الكلمة الإلهية، بل ونمارسها ونثبت فيها أو نستمر فيها، هذا هو مفهوم حفظ الكلمة. من يحفظ الكلمة الإلهية يتمتع بمفهومٍ جديدٍ للموت، يراه عبورًا إلى الحياة الأخرى. أما الموت الحقيقي فهو حرمان النفس من الله مصدر حياتها، هذا الموت لا سلطان له على المؤمن.

  • لا يتكلم هنا عن الإيمان وحده بل وعن الحياة الطاهرة. قبلاً قال: “تكون له الحياة الأبدية” [40]، أما هنا “لن يرى الموت“. في نفس الوقت يلمح إليهم أنهم لن يقدروا أن يفعلوا شيئًا ضده. لأن من يحفظ قوله لن يموت، فكم بالأكثر يكون هو نفسه[173].

 القديس يوحنا الذهبي الفم

  • كما توجد أنواع مختلفة من الحياة هكذا توجد أنواع مختلفة من الموت. يوجد موت شرير وعنيف وهو عدو للقائل: “أنا هو الحياة” (يو ١١: ٢٥). فمن يموت هذا الموت الأخير فإنه يموت ذاك المكتوب عنه: “آخر عدو الموت، يبطل” (١ كو ١٥: ٢٦).

يلزمنا أن نعتبر أنه ذاك الموت الذي يقول عنه الرسول: “كأنما بإنسانٍ واحدٍ دخلت الخطية إلى العالم، وبالخطية الموت، وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس إذ أخطأ الجميع. فإنه حتى الناموس كانت الخطية في العالم، على أن الخطية لا تُحسب إن لم يكن ناموس. لكن قد ملك الموت من آدم إلى موسى وذلك على الذين على شبه تعدي آدم” (رو ٥: ١٢–١٤). وقد أضاف بعد قليل: “لأنه إن كان بخطية الواحد قد ملك الموت بالواحد، فبالأولى كثيرًا الذين ينالون فيض النعمة وعطية البرّ سيملكون في الحياة بالواحد يسوع المسيح” (رو ٥: ١٧)… فمن يحفظ كلمة الابن الوحيد، بكر كل الخليقة (كو ١: ١٥) لن يرى هذا الموت، إذ طبيعة الكلمة تمنع الموت من أن يُرى…[174]

  • من يحفظ في نفس الوقت الحياة التي توجد فيه وغير منفصلة عنه، هذه الحياة التي هي في نفس الوقت نور الناس الذي يشرق على الذين في الظلمة فلا يُغلبون منها (يو ١: ٤–٥).[175]
  • حقًا لا يرى أحد الموت ما دام يحفظ كلمة يسوع، لكن حالما يفقدها يرى الموت.[176]

العلامة أوريجينوس

  • انتم تقولون: “بك شيطان” [٤٨]. أنا أدعوكم للحياة. احفظوا كلمتي فلا تموتون. لقد سمعوا: “إن كان أحد يحفظ كلامي فلن يرى الموت إلى الأبد” [٥١]، إلاَّ أن الرب قد رأى موتًا آخر جاء ليخلصنا منه – الموت الثاني، الموت الأبدي، موت جهنم، موت الإدانة مع الشيطان وملائكته. هذا هو الموت الحقيقي، أما الآخر فهو مجرد انتقال. ما هو الموت الآخر؟ ترك الجسد، إلقاء الحمل الثقيل، ونزع الحمل فلا يسحب الإنسان إلى جهنم. عن الموت الحقيقي يقول الرب: “إن كان أحد يحفظ كلامي فلن يذوق الموت إلى الأبد[177]“.

القديس أغسطينوس

فقال له اليهود:

الآن علمنا أن بك شيطانًا

قد مات إبراهيم والأنبياء، وأنت تقول إن كان أحد يحفظ كلامي فلن يذوق الموت إلى الأبد؟” [52]

  • الذين ظنوا أن ما قيل خاص بالموت العادي حسبوا أن الذي يقول أن من يحفظ كلمتي لن يموت إلى الأبد قد فقد عقله، إذ مات إبراهيم والأنبياء[178].

العلامة أوريجينوس

  • مات إبراهيم والأنبياء، ولكن ليس بالموت الذي أرادنا أن نفهمه. فإن هؤلاء ماتوا لكنهم أحياء، أما هؤلاء الآخرون فهم أحياء ولكنهم موتى. فإنه إذ كان يجيب في موضع ما على الصدوقيين عندما أثاروا سؤال القيامة قال الرب نفسه: “وأما من جهة القيامة أفما قرأتم ما قيل لكم من قبل الله القائل: أنا إله إبراهيم وإله اسحق وإله يعقوب، ليس الله إله أموات، بل إله أحياء” (مت ٢٢: ٢١–٢٢؛ لو ١٢: ٤– ٥). فإن كان هؤلاء أحياء فلنجاهد أن نحيا حتى يمكننا بعد الموت أن نحيا معهم[179].

القديس أغسطينوس

“ألعلك أعظم من أبينا إبراهيم الذي مات والأنبياء ماتوا؟

من تجعل نفسك؟” [53]

  • عندما يزيد عناد الأشرار، يلزمنا ليس فقط ألا نتوقف عن الكرازة بل نكثف جهودنا، هذا ما ينصحنا به الرب خلال مثاله… كما أن الصالح يصير إلى حال أفضل خلال المقاومة، هكذا المدانون يصيرون إلى حال أردأ حينما ينالون حنوًا. بعد أن تقبلوا كرازة (يسوع) كرروا القول: “الآن علمنا أن بك شيطانًا” [52]. لقد التصقوا بالموت الأبدي دون أن يتحققوا أن هذا كان الموت الذي التصقوا به. كان ما في نظرهم موت الجسم وحده؛ وكانوا عميانًا عن معني كلمة الحق. هذا كما أنهم في تكريم إبراهيم و الأنبياء وضعوهم فوق الحق نفسه. لقد ظهر لنا أن الذين لا يعرفون الله، قد يكرمون عبيده بطريقة خاطئة[180].

 البابا غريغوريوس (الكبير)

  • كان لائقًا أن يقولوا: “ألعلك أنت أعظم من الله؟”، أو “لعل الذين يسمعون قولك أعظم من إبراهيم؟”، إلا أنهم لم يقولوا هذا، إذ ظنوا أن السيد المسيح أقل مكانة من إبراهيم. وقال اليهود للسيد المسيح من قبل: “إن بك شيطانًا” [52] إلا أن المرأة السامرية لم تقل هذا، لكنها قالت: “ألعلك أعظم من أبينا يعقوب؟” (يو 4: 12) لقد كان هؤلاء اليهود شتامين، أما تلك المرأة فأرادت أن تعرف من هو، إذ تحيرت وأجابته بتحفظٍ قائلة: “يا سيد أرى أنك نبي” (يو 4: 19).

القديس يوحنا الذهبي الفم

  • إن كان إبراهيم قد مات إلاَّ أنه كان حيًا (مت ٢٢: ٢٣)، ولم يرَ الموت إذ رأى يسوع ففرح وتهلل (يو 8: ٥٦). أظن أنه لهذا السبب أجاب مخلصنا على عبارة “إبراهيم مات” بالقول: “أبوكم إبراهيم تهلل بأي يرى يومي، فرأى وفرح” [٥٦] ليعلم بأن إبراهيم كان حيًا.[181]
  • إن كان ليس هو إله أموات بل أحياء (مت ٢٢: ٣٢)، وكما أنه هو إله إبراهيم واسحق ويعقوب فهو إله بقية الأنبياء، والأنبياء هم أحياء، إذ حفظ هؤلاء كلمة ابن الله عندما جاءت كلمة الله إلى هوشع وإلى إرميا وإلى إشعياء. فإنه ليست كلمة الله جاءت إلى أي واحدٍ منهم سوى ذاك الذي من البدء مع الله، ابنه، الله الكلمة.[182]
  • إنهم لم يروا أن الذي وُلد من العذراء ليس فقط أعظم من إبراهيم بل ومن كل مواليد النساء. ولم يروا الذي تنبأ عنه الأنبياء أعظم من كل الأنبياء، والذي جعلهم أحياء أعظم من الذين يموتون.[183]

العلامة أوريجينوس

أجاب يسوع:

إن كنت أمجد نفسي،

فليس مجدي شيئًا.

أبي هو الذي يمجدني،

الذي تقولون أنتم إنه إلهكم“. [54]

خلال وحدة الجوهر كل أقنوم يمجد الأقنومين الآخرين، فنقرأ أن اللَّه يتمجد في الابن ويُمجد الابن (يو33:7).

الذي تقولون أنتم انه إلهكم” [54] بينما يدَّعون أن الله هو إلههم إذا بهم أعداء له من جهة روحهم وسلوكهم.

  • هل مجده ليس شيئًا؟ بالنسبة لهم إنه لا شيء. وكما قال: “شهادتي ليست حقًا” (يو ٥: ٣١) وذلك حسب رأيهم؛ لذلك يقول هنا: “يوجد الذي يمجدني” [٥٤][184].

القديس يوحنا الذهبي الفم

أي شكٍ هنا في أن يتمجد الابن بواسطة الآب، و يتمجد الآب بواسطة الابن؟ ولكي تتضح الوحدة، اتحاد الثالوث. يقول أيضًا أن يتمجد بالروح القدس كما جاء: “يأخذ مما لي ويمجدني (يو14:16). فالروح القدس يمجد ابن اللَّه. كيف إذن يقول: “ إن كنت أمجد نفسي، فليس مجدي شيئًا” [54]؟ هل مجد الابن كلا شيء؟ أن نقول هذا هو تجديف ما لم نطبق هذا على جسده، فإن الابن تحدث في شخص إنسان، فإن قورن مجد الجسد بالنسبة لمجد اللاهوت يكون بلا مجد[185].

القديس أمبروسيوس

  • يشير إلى تمجيده بالآب الذين يقولون عنه أنه الله… إن كان هو يمجد الابن والابن يمجده، فليبطل عناد (الأريوسيين والهراطقة) وليعرفوا المساواة ويصححوا انحرافهم[186].

القديس أغسطينوس

ولستم تعرفونه،

وأما أنا فأعرفه،

وإن قلت إني لست اعرفه أكون مثلكم كاذبًا،

لكني أعرفه وأحفظ قوله“. [55]

أبوكم إبراهيم تهلل بأن يرى يومي فرأى وفرح“. [56]

إذ يفتخر اليهود أنهم من نسل إبراهيم أكد لهم السيد المسيح أن أباهم إبراهيم كان يشتهي أن يراه ويكرمه، وأنه قد رأى يومه. إن كان المسيح قبل إبراهيم فإن تعاليمه ليست بجديدة، إنه يسبق موسى مستلم الشريعة.

متى رأى إبراهيم يوم الرب فتهلل؟

  1. يقول القديس بولس أن إبراهيم رأى يومه، إذ نال وعدًا بمجيئه من نسله (غل ٣: ١٦)، أي مجيء المسيح ليبارك جميع قبائل الأرض (أع ٣: ٢٥ – ٢٦).
  2. يرى العلامة أوريجينوس أنه رآه حين سار مسيرة ثلاثة أيام ورفع عينيه وأبصر موضع الذبيحة من بعيد (تك ٢٢: ٤)، فبسيره ثلاثة أيام اختبر طريق القيامة في اليوم الثالث فتمتع بمفهوم جديد للذبيحة، ذبيحة الابن الوحيد الجنس.
  3. يرى القديس امبروسيوس أنه رآه حين أقسم بذاته أنه بالبركة يباركه ويكثر نسله كنجوم السماء وكالرمل على شاطئ البحر (تك (٢٢: ١٦).
  • إنه ذاك الذي أقسم بذاته هو الذي رآه إبراهيم[187].

القديس أمبروسيوس

  • أظن أنه قد غاب عن بيلاجيوس حقيقة أن الإيمان بالمسيح الذي أُعلن بعد ذلك لم يكن مخفيًا في أيام آبائنا. لكنهم خلصوا بنعمة اللَّه، وهكذا كل أعضاء الجنس البشري في كل الأزمنة الذين بواسطة حكم اللَّه السرّي الذي يتعذر دحضه، هم قادرون أن يخلصوا. لهذا يقول الرسول: “لهم ذات روح الإيمان” بلا شك هو بنفسه الذي كان لهم – كما هو مكتوب: “آمنت لذلك تكلمت، ونحن أيضًا نؤمن لذلك أيضًا نتكلم” (راجع 2 كو 13:4؛ مز 10:115). لهذا السبب قال الوسيط نفسه: “إبراهيم رأى يومي، رآه فتهلل” (يو 56:8). هكذا أيضًا ملكي صادق إذ قدم سرّ مائدة الرب عرف أنه سبق فرمز لكهنوت المسيح الأبدي (تك 18:14)[188].
  • إنه لم يخف بل فرح أن يراه، لأن فيه الحب الذي يطرد الخوف خارجًا (١ يو ٤: ١٨). لم يقل “تهلل لأنه رأى” إنما قال: “تهلل لأنه يرى“، مؤمنًا تحت كل الظروف، ويتهلل على رجاء أن يرى بفهمٍ. “فرأى وفرح“… إن كان الذين انفتحت أعينهم الجسدية بالرب قد تهللوا، فأي فرح لذاك الذي رأى بعيني نفسه النور الذي لا يوصف، الكلمة القاطن (في الآب)، البهاء الذي يبهر أذهان الأتقياء، الحكمة التي لا تسقط، الله الثابت في الآب، وفي نفس الوقت يراه آتيًا في الجسد دون أن ينسحب من حضن الآب؟ هذا كله رآه إبراهيم[189].

القديس أغسطينوس

  • يومي” يبدو لي أنه يعني يوم الصليب الذي سبق فرآه إبراهيم خلال الرمز بتقديم الكبش واسحق[190].

 القديس يوحنا الذهبي الفم

  • إنه يكفيك من أجل الصلاح أن تعرف – كما قلنا – أن اللَّه له ابن واحد وحيد مولود طبيعيًا. الذي لم يبدأ وجوده عندما وُلد في بيت لحم بل قبل كل الدهور. اسمع النبي ميخا يقول: “أما أنتِ يا بيت لحم أفراته، وأنت صغيرة أن تكوني بين ألوف يهوذا، فمنك يخرج لي الذي يكون متسلطًا على إسرائيل ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل” (ميخا 2:5).

إذن لا تفكر في ذاك الذي هو خارج الآن من بيت لحم (ولا تحسبه حديثًا)، بل اعبده إذ هو مولود من الآب أزليًا. لا تسمح لأحد أن يقول أن للابن بداية في زمان…

أتريد أن تعرف أن ربنا يسوع المسيح هو ملك أزلي؟ اسمعه يقول: “أبوكم إبراهيم تهلل بأن يرى يومي، فرأى وتهلل” (يو 56:8.). وعندما استصعب اليهود قبول هذا قال لهم أن هذا ليس بصعبٍ، فإنه “قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن” (يو 58:8).

مرة أخرى يقول: “والآن مجدني أنت أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم” (يو 5:17) قال بوضوح: “بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم”. وأيضًا عندما قال: “لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم” (يو 17 :24)، معلنًا أن مجده أزلي[191].

القديس كيرلس الأورشليمي

  • دُعي الأنبياء رائين seers (1 صم 9:9)، إذ رأوا ذاك الذي لن يراه آخرون. إبراهيم رأى يومه (المسيح) وتهلل (يو 56:8).

      الناموس روحي (رو 14:7)، لكن الحاجة إلى إعلان يعيننا على فهمه، عندما يكشف الله عن وجهه لنراه ونعاين مجده…

السماوات التي كانت مختومة بالنسبة للشعب المتمرد كانت مفتوحة لحزقيال[192].

القديس جيروم

فقال له اليهود:

ليس لك خمسون سنة بعد، أفرأيت إبراهيم؟” [57]

قال لهم يسوع:

الحق الحق أقول لكم قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن“. [58]

  • لماذا لم يقل:” قبل أن كان إبراهيم أنا كنت” بل “أنا الكائن“… يستخدم المسيح هذا التعبير ليعني استمرار الكائن فوق كل زمان. لهذا حُسب هذا التعبير تجديفًا[193].

 القديس يوحنا الذهبي الفم

  • لتزنوا الكلمات، ولتتعرفوا على السرّ. “قبل أن يكون (يُخلق was made) أنا كائن“. لتفهموا أن “خُلق” تشير إلى الخلق البشري، أما “أنا كائن” فتشير إلى الجوهر الإلهي. لم يقل: “قبل أن يكون (was) أنا كنت”، ذاك الذي لم يُخلق إلاَّ بي أنا الكائن. ولم يقل “قبل أن يُخلق إبراهيم أنا خُلقت”… لتميزوا بين الخالق والمخلوق[194].

القديس أغسطينوس

  • “أنا كائن” في الحاضر، لأن اللاهوت ليس فيه ماضٍ ولا زمن المستقبل بل دائمًا “كائن” إذ لم يقل: “أنا كنت قبل إبراهيم”.[195]

البابا غريغوريوس (الكبير)

فرفعوا حجارة ليرجموه،

أما يسوع فاختفى وخرج من الهيكل،

مجتازا في وسطهم، ومضى هكذا“. [59]

اُتهم السيد بالتجديف، فحسبوه مستحقًا للرجم حسب الشريعة (لا ٢٤: ١٦). كان لزامًا أن ينطلقوا خارجًا لرجمه، انطلق في وسطهم ولم يروه. فارقهم السيد في صمت، هكذا يدخل السيد المسيح القلب في صمت، ومن يرفض مملكته يفارقه في صمت. هكذا فارق الرب شمشون وهو لا يدري (قض ١٦: ٢٠).

  • كإنسان هرب من الحجارة، ولكن ويل لهؤلاء الذين هرب الله من قلوبهم الحجرية[196].

القديس أغسطينوس

  • لماذا أخفي الله نفسه؟ إذ صار مخلصنا إنسانًا بين البشرية يعلمنا بعض الأمور بكلماته، والأخرى بمثاله. ماذا يخبرنا بهذا المثال إلا أنه حيث يكون ممكنُا لنا أن نقاوم يلزمنا في تواضع أن نتجنب غضب الكبرياء. لذا يخبرنا بولس: “لا تنتقموا لأنفسكم أيها الأحباء، بل أعطوا مكانًا للغضب” (رو 12:19) لا يثور أحد ضد المقاومة الموجهة ضده. لا يرد الأذية بالأذية، الأكرم أن تقلد الله بالهروب في صمت من وجه الإهانة عن أن تنشغل بالرد عليها. أما المتكبرون فيتحدثون ضد هذه في قلوبهم: إنه عار عليكم أن لا تصمتوا حين توجه إليكم شتيمة لأنهم لا يظنون أنكم تظهرون صبرًا بل أنكم تعرفتم على الاتهام الموجه ضدكم. لكن هذا بالحقيقة يأتي من التصاق أفكارنا بالأمور السفلية، وحين نطلب المجد على الأرض لا نهتم بأن نسر الله الذي يرانا من السماء[197].

البابا غريغوريوس (الكبير)

 

ملحق الأصحاح الثامن

حول  قصة المرأة الخاطئة

مع روعة ما تحمله هذه القصة من مفاهيم روحية، ومع تناغمها مع فكر المسيح وتصرفاته كما وردت في الأناجيل المقدسة إلاَّ أن بعض الدارسين حسبوا أن هذه القصة وإن كانت واقعية لكن ليس موضعها في إنجيل يوحنا، وحجتهم في ذلك:

أولاً: لم يذكرها بعض الآباء الأولين أثناء تفسيرهم للسفر، وإن كان البعض أشار إليها في كتاباتهم الأخرى. فقد تجاهلها كل من العلامة أوريجينوس والقديسين يوحنا الذهبي الفم وكبريانوس.

ثانيًا: إن لغة القصة باليونانية تحوي بعض كلمات لم ترد في بقية السفر أو وردت نادرًا[198].

ثالثًا: ذكر اسم “الكتبة” مع الفريسيين، الأمر الذي لم يستخدمه الإنجيلي يوحنا في بقية السفر، كذلك ذكر جبل الزيتون وأن السيد كان يعلم وهو جالس الخ.

غير أن بعض الدارسين يرون في القصة أنها ليس فقط أصيلة من حيث حدوثها، وإنما من حيث موضعها في السفر، ويعللون ذلك بالآتي:

أولاً: وردت في تفاسير كثير من آباء الكنيسة الغربية مثل القديسين چيروم وأغسطينوس وأمبروسيوس، على أساس أنها وردت في النسخة اللاتينية الفولجاتا Volgate والتي تشير إلى أنها وجدت في كثير من المخطوطات اليونانية.

ثانيًا: وجدت في أكثر من مخطوطة، خاصة النسخ اللاتينية، كما وجدت في النسخة الممفيسية Memphetic والأثيوبية والأرمنية.

ثالثًا: يرجع تحفظ بعض الآباء الشرقيين في التعرض لها وتفسيرها أثناء تفسير إنجيل يوحنا، أنهم خشوا في ظروفهم وقد قبل بعض الوثنيين الإيمان أن يروا فيها تهاونًا مع خطية الزنا.

رابعًا: ورد هذه القصة بكلماتها في كتاب تعاليم الرسل[199] أثناء الحديث عن قبول التائبين في الكنيسة والرد على رفض توبة الزناة.

خامسًا: أما من الجانب اللاهوتي الروحي، فقد جاء موقع القصة دقيقًا للغاية. إذ وردت بعد حديث السيد المسيح في اليوم الأخير من العيد حيث دعا العطاش ليشربوا من الماء الحي لتجري من بطونهم أنهار ماء حي (يو ٧: ٣٧ الخ)، وقبل حديثه عن نفسه أنه نور العالم. فقد كشفت هذه القصة عن دور السيد المسيح في النفوس التي شربت من ملذات مياه هذا العالم فاستحقت الرجم، وصارت في موضع دينونة حتى من البشر، فرواها السيد بمياه الحب الإلهي لتصير عروس المسيح التي تتأهل لشركة المجد، وكارزة بالتوبة، وشاهدة لعمل الشفيع العجيب! عاشت المرأة ماضيها في الظلمة، فاشتهت أن تموت لتدفن في قبر عوض رجمها، فأشرق النور الإلهي عليها، لتجد أحضان الآب تنتظرها!

حقًا صارت هذه المرأة تمثل البشرية البائسة التي صارت أسعد كائن في العالم بلقائها مع مخلص البشرية!

من وحي يو8

لتشرق بنورك عليّ،

ولتحوّل محكمتي إلى عرسٍ أبدي!

  • لتشرق بنور حبك على قلبي،

   ولتدخل معي إلى محكمة الفريسيين العنيفة،

   عِوض تقديمي للمحاكمة، تهيئني للعرس الأبدي!

   لم أعد أخشى قلوبهم الحجرية التي يلقونني بها لرجمي،

   فإنك تسكب حبك الفائق في أعماقي!

   ليس من محامٍ يدافع عني! أنت شفيعي ومخلصي ومفرِّح نفسي!

   تمسِك بيدي، وتدخل بي إلى حجالك، يا أيها القدوس!

  • أراد العالم أن يُدينني، فأدان نفسه.

   هب لي ألاّ أدين أحدًا، فلا أسقط تحت دينونتك!

   لأدن نفسي، فتبرّرني بدمك، يا مخلص العالم!

   أنت وحدك بروحك القدوس تجدّد حياتي،

   أنت تُقيم من الزناة قديسين،

   يا من غيّرت طبيعة الأتون إلى ندى للثلاثة فتية،

   وطبيعة الأسود الجائعة إلى أصدقاء لدانيال النبي.

  • أوصيتني ألاّ أعود إلى الخطية،

   من يتمم هذه الوصية بدون نعمتك.

   إنها وصية إلهية، بل وعد إلهي تحقق فيّ.

   أنت نور العالم، أنت نوري.

  إذ أسلك فيه، لا تقدر ظلمة الخطية أن تتسلل إليّ.

  • أنت الينبوع الذي يفيض في داخلي أنهار مياه حيّة.

   أنت نور العالم، تحوّل أعماقي إلى سراج منير!

   أنت ابن اللَّه، تهبني بروحك القدوس روح البنوة.

   تنقلني من العبودية إلى حرية مجد أولاًد اللَّه!

  • كنتُ معتزَّا بانتسابي لإبراهيم أب الآباء،

   وبإرادتي لم أسلك كما سلك،

   صرتُ عبدًا للخطية، وابنًا لإبليس المضلّل.

   صرتُ حجرًا بلا إحساس روحي.

   ها أنت تُقيم منّي ابنًا لإبراهيم،

   إنك تنزع عبوديتي للخطية فأصير خادمًا للبرّ.

   تنقلني إلى البنوة للَّه أبيك!

   الآن بالحق أتهلل مع أبي إبراهيم بيوم مجيئك!

   لك المجد يا واهب الحرية للجميع،

   يا مصدر الفرح الحقيقي!

   متى أراك وجهًا لوجه، فاجتمع مع كل آبائي كعروسٍ مقدسة لك!

[1] Letter 22:1.

[2] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 33:4.

[3] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 33:5.

[4] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 33:7.

[5] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 33:8.

[6] Adam Smith Comm.

[7] Letter 63 to Brother Cecil: 18.

[8] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 34:1.

[9] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 34:3-6.

[10] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 34:7.

[11] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 34:3-6.

[12] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 35:5.

[13] On the Christian Faith, Book 1:19:127.

[14] Hom 52. PG 59:307.

[15] Hom 52. PG 59:307.

[16] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 36:4.

[17] Homilies on St. John 52: 2.

[18] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 36:9.

[19] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 36:11.

[20] cf Homilies on St. John 52: 3.

[21] Homilies on St. John 52: 3.

[22] Homilies on St. John 52: 3.

[23] Commentary on John, Book 19:7, 10.

[24] Commentary on John, Book 19:13, 15.

[25] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 37:1.

[26] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 37:2.

[27] Commentary on John, Book 19:53 – 55

[28] Commentary on John, Book 19:59.

[29] Commentary on John, Book 19:59 – 61.

[30] Commentary on John, Book 19:70.

[31] Commentary on John, Book 19:72 – 73.

[32] Commentary on John, Book 19:79 – 80.

[33] Commentary on John, Book 19:82.

[34] Commentary on John, Book 19:84.

[35] Commentary on John, Book 19:85.

[36] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 38:1.

[37] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 38: 2.

[38] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 38: 2.

[39] Homilies on St. John 53: 1.

[40] Commentary on John, Book 19:83.

[41] Commentary on John, Book 19:111.

[42] Commentary on John, Book 19:104.

[43] Commentary on John, Book 19:113.

[44] Commentary on John, Book 19:114.

[45]Commentary on John, Book 19:119

[46] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 38: 2.

[47] Leon Morris, p. 311.

[48]Commentary on John, Book 19:135 – 137.

[49]Commentary on John, Book 19:138.

[50]Commentary on John, Book 19:139.

[51] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 38: 4.

[52] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 38: 6.

[53] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 38: 6.

[54] Hom 53. PG 59:311.

[55] Commentary on John, Book 19:152.

[56] Commentary on John, Book 19:153.

[57] Commentary on John, Book 19:155 – 157.

[58] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 38: 6.

[59] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 38: 7.

[60] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 38.

[61] Hom 53. PG 59:311.

[62] Commentary on John, Book 19:159.

[63] Hom 53. PG 59:311.

[64]St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 40: 2.

[65] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 40: 2.

[66] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 40: 2.

[67] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 40: 5.

[68] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 40: 6.

[69] Commentary on John, Book 19:65 – 68.

[70] Sermon on N.T. Lessons, 84:1.

[71] Sermon on N.T. Lessons, 84:2.

[72] Commentary on John, Book 19:22 – 24

[73] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 40: 8.

[74] Homilies on St. John 54: 1.

[75] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 40: 9.

[76] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 41: 1.

[77] Homilies on St. John 54: 1.

[78] Homilies on St. John 54: 1.

[79] Sermon on N.T. Lessons, 84:3.

[80] Sermon on N.T. Lessons, 84:6.

[81] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 41: 2.

[82]St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 41: 3 – 4.

[83] Homilies on St. John 54: 2.

[84] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 41: 8.

[85] Homilies on St. John 54: 2.

[86] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 41: 5.

[87] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 41: 7.

[88] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 41: 9.

[89] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 41: 10.

[90] Hom 54. PG 59:317-318.

[91] Commentary on John, Book 20:3 etc.

[92]Commentary on John, Book 20:16.

[93] Commentary on John, Book 20:67 etc.

[94] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 42: 1.

[95] Hom 54. PG 59:318.

[96] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 3:7.

[97] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 42: 2.

[98] Homilies on St. John 54: 2.

[99] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 42: 3.

[100] Commentary on John, Book 20:80.

[101] Commentary on John, Book 20:81 – 82.

[102] Commentary on John, Book 20:93.

[103] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 42: 3.

[104] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 42: 5.

[105] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 42: 5.

[106] مقال 7: 13.

[107] Commentary on John, Book 20:106.

[108] Commentary on John, Book 20:109.

[109] Commentary on John, Book 20:114.

[110] Commentary on John, Book 20:118.

[111]Commentary on John, Book 20:126.

[112] Commentary on John, Book 20:130.

[113] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 42: 8.

[114] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 42: 9.

[115] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 42: 10: 11.

[116] Hom 54. PG 59:319-320.

[117]Commentary on John, Book 20:156.

[118]Commentary on John, Book 20:159.

[119] Of the Holy Spirit Book 1:16:107.

[120] Commentary on John, Book 20:164.

[121] Commentary on John, Book 20:165.

[122] Commentary on John, Book 20:173.

[123] Hom 54. PG 59:319.

[124] Against Jovinianus, 2:18.

[125] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 42: 1 3.

[126] مقال 2: 4.

[127] Commentary on John, Book 20:175.

[128] Commentary on John, Book 20:177.

[129] Commentary on John, Book 20:181.

[130] Commentary on John, Book 20:193 – 194.

[131] Commentary on John, Book 20:221.

[132] Commentary on John, Book 20:224.

[133] Commentary on John, Book 20:226.

[134] Commentary on John, Book 20:227.

[135] Commentary on John, Book 20:240.

[136] Commentary on John, Book 20:242 – 244.

[137] Commentary on John, Book 20: 248 – 250.

[138] Commentary on John, Book 20: 252.

[139] نشيد الأناشيد للقديس غريغوريوس أسقف نيصص، تعريب الدكتور جورج نوّار، 1993، عظة 2.

[140] Philokalia, Book 1.

[141] Commentary on John, Book 20: 274.

[142] Commentary on John, Book 20: 277 – 278.

[143] Commentary on John, Book 20: 281.

[144] Commentary on John, Book 20: 282.

[145] Commentary on John, Book 20: 291 – 293.

[146] Commentary on John, Book 20: 309.

[147] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 42: 15.

[148] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 42: 15.

[149] Commentary on John, Book 20: 310.

[150] Commentary on John, Book 20: 311 – 312.

[151] Commentary on John, Book 20: 313 – 314.

[152] Commentary on John, Book 20: 316 – 3Commentary on John, Book 20.

[153] Commentary on John, Book 20: 3Commentary on John, Book 20.

[154] Commentary on John, Book 20: 321.

[155] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 4 3: 2.

[156] Hom. 16, Forty Gospel Homilies, 114-115 Pl 16:1150.

[157] Commentary on John, Book 20: 326.

[158] Commentary on John, Book 20: 328.

[159] Commentary on John, Book 20: 332 – 334.

[160] Commentary on John, Book 20: 334.

[161] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 4 3: 3.

[162] مقال 7: 5.

[163] Commentary on John, Book 20: 339.

[164] Commentary on John, Book 20: 340 – 341.

[165] Commentary on John, Book 20: 342.

[166] Commentary on John, Book 20: 344.

[167] Commentary on John, Book 20: 345.

[168] Commentary on John, Book 20: 348.

[169] Commentary on John, Book 20: 350.

[170] Homilies on St. John 55: 1.

[171] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 4 3: 4, 9.

[172] Commentary on John, Book 20: 352 – 353.

[173] Hom 55. PG 59:322.

[174] Commentary on John, Book 20: 363 – 367.

[175] Commentary on John, Book 20: 370.

[176] Commentary on John, Book 20: 373.

[177] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 4 3: 10 – 11.

[178] Commentary on John, Book 20: 380.

[179] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 4 3: 1 3.

[180] Hom. 16. Forty Gospel Homilies, 116- Pl 76:1150.

[181] Commentary on John, Book 20: 394 – 395.

[182] Commentary on John, Book 20: 398.

[183] Commentary on John, Book 20: 419.

[184] Homilies on St. John 55: 2.

[185] On the Holy Spirit, Book 5:8:113.

[186] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 4 3: 4.

[187] Of the Christian Faith, 2: 8: 72.

[188] Letters, 177.

[189] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 4 3: 16.

[190] Hom 55. PG 59:323.

[191] مقال 11: 20.

[192] Letter 53:4.

[193] Hom 55. PG 59:324.

[194] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 4 3: 17.

[195] Hom. 16. Forty Gospel Homilies, 116-117.

[196] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 4 3: 18.

[197] Hom. 16, Forty Gospel homilies

[198] Leon Morris, p. 290 – 291.

[199] Apostolic Constitutions 2: 24.

تفسير انجيل يوحنا 8 الأصحاح الثامن – القمص تادرس يعقوب ملطي