Site icon فريق اللاهوت الدفاعي

تفسير انجيل يوحنا 6 الأصحاح السادس – القمص تادرس يعقوب ملطي

تفسير انجيل يوحنا 6 الأصحاح السادس – القمص تادرس يعقوب ملطي

تفسير انجيل يوحنا 6 الأصحاح السادس – القمص تادرس يعقوب ملطي

تفسير انجيل يوحنا 6 الأصحاح السادس – القمص تادرس يعقوب ملطي

الاصحاح السادس

المسيح خبز الحياة

أو

الخبز السماوي

         في المرحلة الأولى قدم لنا الإنجيلي يوحنا كلمة المسيح بكونه واهب التجديد، وفي المرحلة الثانية واهب الحياة. الآن يقدم لنا الإنجيلي شخص السيد المسيح بكونه الخبز السماوي الذي يقوت النفس ويشبعها لتبقى حية ونامية. إنه الكلمة المتجسد، بكلمته يقيمنا للحياة الجديدة، وبجسده الذي هو الخبز السماوي ينعشنا لنثبت فيه.

في هذا الإصحاح نرى السيد المسيح يشبع الجموع بسمكتين وخمسة أرغفة شعير قدمها غلام.

أولاً: رفع يسوع عينه ليرى الجموع الجائعة. لم ينتظر من يطلب طعامًا أو من يشبع الجموع، إنما يتطلع هو إلى احتياجات الناس.

ثانيًا: وهو يقدم طعامًا للشعب يقبل تقدمة غلام صغير. كما يعطي يأخذ، علامة الحب المتبادل بين الله والبشرية. كما رفع من معنوية الغلام وهو يرى تقدمته الصغيرة أشبعت كل الجماهير وفاضت باثنتي عشرة قفة من الكسر.

ثالثًا: يكرم الله كل إنسان ويطلب التقدمة من غلام أو صبي أو طفل، مهما كانت قليلة! علامة شعور الإنسان بدوره الحيوي ومساهمته في خدمة البشرية.

رابعًا: ترمز السمكتان إلى العهدين الجديد والقديم، والخمس خبزات إلى أسفار موسى الخمسة. شتان ما بين استلام الكلمة من يد السيد المسيح وبين القراءة خلال التفسير البشري. كلمة الله مُشبعة وفياضة متى قدمها لنا مسيحنا خلال كنيسته (تلاميذه).

خامسًا: سأل الرجال أن يتكئوا على العشب الذي يشير إلى الجسم، فلا نجعل من الجسم قائدًا، بل من النفس الناضجة. فيخضع لها الجسم ليعمل تحت قيادتها ولحسابها وليس لحساب شهوات الجسد.

سادسًا: عادت الجموع تبحث عنه في الغد، لا للتمتع بصانع الآيات، وإنما لأنها أكلت وشبعت [26]، لذا قدم لهم السيد المسيح مائدة جديدة مختلفة: جسده ودمه المبذولين طعامًا يهب الحياة الأبدية والقيامة.

الذي سار على المياه لكي يحملنا فيه فنسلك الطريق الملوكي يقدم لنا ذاته الخبر النازل من السماء ويهب حياة للعالم [33]. تحدث السيد بوضوح أنه الخبز الإلهي المنعش للحياة الأبدية. تعثر كثيرون من تلاميذه وتركوه، أما هو فقال للإثني عشر:” ألعلكم أنتم أيضًا تريدون أن تمضوا؟” [17] أصر أنه يقدم جسده ودمه، وليس رمزين لأمر آخر، وإلا ما كان يترك هؤلاء يرجعون من ورائه.

لم يستطع اليهود أن يقبلوا الكلمة الإلهي، ولا أن يتمتعوا بجسده ويشربوا دمه لذا تركوه ومضوا.

  1. إشباع الجموع ١ – ١٤.
  2. سير المسيح على الماء ١٥ – ٢١.
  3. الجموع تطلب في كفرناحوم ٢٢ – ٢٥.
  4. أنا هو الخبز الحي ٢٦ – ٥٩.
  5. تذمر البعض ٦٠ – ٦٥.
  6. إلى من نذهب؟ ٦٦ – ٧١.

1. إشباع الجموع

اعتاد الإنجيلي يوحنا أن يشير إلى المعجزات التي لم يشر إليها أحد الإنجيليين الثلاثة الآخرين، ما عدا هذه المعجزة، فقد تحدث عنها الإنجيليون جميعًا. ففي كل الجوانب متى قُدم السيد المسيح كملك (إنجيل متى) أو خادم للبشرية (إنجيل مرقس) أو صديق لها (إنجيل لوقا) أو ابن الله الذي يهب البنوة للبشرية (إنجيل يوحنا) ما يبغيه الإنجيل هو إشباع احتياجات الإنسان من كل الجوانب.

هذا وقد اهتم الإنجيلي بهذه المعجزة لكي يورد الحديث الطويل الملحق بها والخاص بتقديم المسيح نفسه خبزًا نازلاً من السماء، فنشبع به بكونه الكلمة الإلهي، كما يقدم لنا جسده ودمه المبذولين عنا غفرانًا للخطايا وحياة أبدية.

بعد هذا مضى يسوع إلى عبر بحر الجليل،

وهو بحر طبرية“. [1]

حدد الإنجيلي المكان والزمان لعمل المعجزة وكل الظروف المحيطة بها كشهادة على حقيقة القصة لما لها من أهمية تمس حياة الكنيسة عبر الأجيال.

مضي يسوع إلى عبر بحر الجليل وهي بحيرة طبرية، تُدعى في موضع آخر جنيسارت. وتُدعى هنا بحر طبرية Tiberias نسبة إلى مدينة تقع على الجانب الغربي من البحيرة قام هيرودس مؤخرًا بتوسيعها وتجميلها، ودعها على اسم الإمبراطور طبريوس Tiberius تكريمًا له، ويحتمل إنه جعلها عاصمته. لم يعبر السيد البحر وإنما جعل رحلته عبر البحر، أي على ساحلها.

يرى القديس كيرلس الكبير أن السيد المسيح انصرف من أورشليم، وعبر إلى الضفة الأخرى من بحيرة طبرية تحاشيًا لبغضة عديمي الإيمان له، وأنه فعل ذلك اختياريًا وليس قسرًا. إنه يعلمنا الهروب من هجمات الشر، ليس خوفًا من الموت، وإنما حبًا في مضايقينا.

القديس كيرلس الكبير

القديس يوحنا الذهبي الفم

هذا ويرى القديس كيرلس الكبير أن العبور إلى الضفة الأخرى يحمل رمزًا لعبور الكرازة بالسيد المسيح من اليهود إلى الأمم، فلا يمكنهم العبور إليه بسبب عدم إيمانهم به.

القديس كيرلس الكبير

وتبعه جمع كثير،

لأنهم أبصروا آياته التي كان يصنعها في المرضى“. [2]

لم يذكر القديس يوحنا معجزات الشفاء هذه، فقد أوردها الإنجيلي متى في شيء من التفصيل (مت ١٢: ٢؛ ١٤: ١٣). التفت الجماهير حوله، وكانوا يشتاقون إلى التعرف عليه من أجل كثرة ما فعله. أما بالنسبة للسيد المسيح فلم يكن هذا الجمهور يمثل تكريمًا له، وإنما يمثل حق عمل لتقديم كلمة الحق ولخدمتهم حتى يتمتعوا بالشركة معه.

يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم علي هذه العبارة موضحًا أن ما ورد هنا لا يشير إلى أصحاب عقول حكيمة جدًا، لأنهم انجذبوا بالمعجزات أكثر من التعليم، مع أن الآيات هي لغير المؤمنين وليس للمؤمنين.

فصعد يسوع إلى جبل،

وجلس هناك مع تلاميذه“. [3]

أما المنبر الذي كان من عليه يتحدث مع الجمهور فهو الجبل حيث جلس عليه ومعه تلاميذه. هذا الجبل في برية صيدا في مقاطعة فيلبس التابعة للجليل.

القديس يوحنا الذهبي الفم

القديس كيرلس الكبير

وكان الفصح عيد اليهود قريبًا“. [4]

يربط الإنجيلي يوحنا بين هذه المعجزة وعيد الفصح، بقوله: “وكان الفصح عيد اليهود قريبا” [4]. فإن الفصح الحقيقي هو تقديم جسد المسيح ذبيحة علي الصليب، وهو بعينه الإفخارستيا التي نتمتع بها علي المذبح. وأن هذه المعجزة كانت تمهيدُا لقبول العالم المؤمن جسد الرب ودمه المبذولين للإشباع الروحي، حياة أبدية لن يهزمها الزمن أو الموت.

حدث هذا قبل العيد الثالث للفصح الذي احتفل به السيد أثناء خدمته؛ كان قرابة عشرة أو اثني عشر يومًا قبل العيد. وقد اعتاد اليهود أن يقضوا شهرًا كاملاً قبل الفصح لعمل الإعدادات الضخمة الخاصة به، فيمهدون الطرق ويصلحون الكباري إن كانت هناك حاجة إلى ذلك، ويتحدثون عن الفصح وكيف تأسس.

لعل الجمهور في تلك المنطقة أدركوا أنه قد اقترب موعد عيد الفصح حيث يلتزم كل الرجال أن يذهبوا إلى أورشليم، وبالتالي حتمًا يصعد يسوع المسيح إلى أورشليم، فلا تكون لهم فرصة للقاء معه وسط الازدحام الضخم والجماهير القادمة من بلاد كثيرة. لهذا أرادوا انتهاز الفرصة للالتفاف حوله وعدم مفارقتهم له قدر المستطاع. لم يؤجلوا اللقاء معه إلى ما بعد العيد، بل كانوا حكماء، ينتهزون كل فرصة للتمتع به.

القديس يوحنا الذهبي الفم

فرفع يسوع عينيه،

ونظر أن جمعًا كثيرًا مقبل إليه،

فقال لفيلبس: من أين نبتاع خبزًا ليأكل هؤلاء؟” [5]

رفع يسوع عينيه ورأى الجمهور الضخم من الطبقة العامة الفقيرة، نفوسهم في عينيه ثمينة جدًا كنفوس الأغنياء بلا تمييز. يهتم السيد باحتياجاتهم الروحية كما الجسدية أيضًا لذلك سأل فيلبس: “من أين نبتاع خبزًا ليأكل هؤلاء؟” فقد كان يهوذا هو أمين الصندوق، وكان فليبس هو المسئول عن تدبير الطعام اليومي للتلاميذ.

القديس يوحنا الذهبي الفم

القديس كيرلس الكبير

القديس أمبروسيوس

يقارن القديس يوحنا الذهبي الفم بين ما فعله الله مع موسى النبي وما فعله السيد المسيح مع فيلبس. ففي القديم سأل الله موسى عما في يده، وإذا به يخبره أنها عصا، لا حول لها ولا قوة، فتصير عصا لله التي يصنع بها عجائب. وها هنا يسأل السيد المسيح فيلبس عن إمكانياته وهو والتلاميذ لإشباع الجموع، فكادت تكون لا شيء سوي خمسة أرغفة شعير وسمكتان لدي غلام، استخدمها السيد لإشباع هذه الألوف مع فيض من الكسر.

من أجل محبته للإنسان يود الله أن يدخل دومًا في حوار معه، ويسأله عن إمكانياته، لكي يقدم الله من جانبه إمكانياته الإلهية القديرة خلال عجزنا وضعف إمكانياتنا.

وإنما قال هذا ليمتحنه،

لأنه هو علم ما هو مزمع أن يفعل“. [6]

قال السيد المسيح ذلك لكي يختبر إيمانه، ولكي يجتذب قلبه وقلوب اخوته نحو عمله الإلهي. هذا وقد كان فيلبس من بيت صيدا في منطقة مجاورة للموضع، على إلمام بإمكانيات الموضع وربما يعرف الكثيرين في ذلك الموضع.

سأل فيلبس ليس لأن السيد المسيح لا يعرف الإجابة، وإنما لكي يتعرف فيلبس على بلادة إيمانه.

أجابه فيلبس:

لا يكفيهم خبز بمأتي دينار

ليأخذ كل واحدٍ منهم شيئًا يسيرًا“. [7]

كان الدينار هو الأجرة اليومية العادية للشخص.

كأن الرسول فيلبس يقول للسيد المسيح أنه لا مجال لمناقشة هذا الأمر، فمن جهة لا توجد إمكانيات في الموضع لإشباع هذه الجماهير، وإن وُجدت الإمكانيات العينية فمن أين لنا أن نشتري هذا فإننا نحتاج إلى ٢٠٠ دينارًا؟

قال له واحد من تلاميذه

وهو أندراوس أخو سمعان بطرس“. [8]

مع أن أندراوس أكبر من سمعان بطرس، وهو الذي دعا أخاه ليتبع المسيح، لكن سرعان ما لمع نجم بطرس حتى صار أندراوس يُعرف بأنه أخ بطرس، أي يُنسب إليه لكي يعرفه القارئ.

 القديس يوحنا الذهبي الفم

هنا غلام معه خمسة أرغفة شعير وسمكتان،

ولكن ما هذا لمثل هؤلاء؟” [9]

عرفت كنعان بأنها أرض الحنطة (تث ٨: ٨). اعتاد سكانها أن يأكلوا الحنطة الفاخرة (مز ٦١: ١٦)، لكن يسوع المسيح سرّ بالخبزات التي من الشعير، فلم يحتقرها بل شكر ووزع خلال تلاميذه ليجد الكل شبعًا.

في ضعف إيمان قال فيلبس: “ولكن ما هذا لمثل هؤلاء؟” [٩]. لم يدرك أن يسوع هو الذي أشبع محلة إسرائيل كلها في البرية بالمن النازل من السماء، فهل يصعب عليه أن يشبع ألف عائلة بخبزة شعير؟

يرى القديس أغسطينوس أن الأرغفة الخمسة من الشعير تشير إلى العهد القديم الذي يضم أسفار موسى الخمسة. وهي من الشعير، لأن قشرة الشعير جامدة ويصعب نزعها، كالعهد القديم حين كان اليهود يمارسونه بالحرف، ويستصعبون إدراكه بالروح. أما الغلام فيشير إلى شعب إسرائيل القديم الذي سلك في الروحيات كغلام صغير بلا نضوج، وأما السمكتان فتشيران إلى الشخصيتان الرئيسيتان في العهد القديم، وهما النبي والملك أو الحاكم. كان الغلام يحمل هذا دون أن يأكل منه.

         لقد قُدمت الخبزات والسمكتان لذاك الذي وحده يعطي العهد القديم فهما روحيًا جديدًا. [بعد طول زمانٍ جاء بنفسه في سرّ، هذا الذي عُني به خلال هؤلاء الأشخاص. جاء بعد زمن طويل ذاك الذي يشار إليه بالشعير، ولكنه كان مخفيًا بالقشرة. جاء الشخص الواحد يحمل الشخصيتين للكاهن والحاكم. إنه الكاهن إذ يقدم نفسه للَّه ذبيحة من أجلنا، وهو الحاكم إذ يملك علينا. هذه الأمور التي كانت مغطّاة الآن تُكشف. شكرًا له، فقد حقق بنفسه ما ورد في العهد القديم. أمر بكسر الخبزات، وبكسرها تضاعفت وكثرت. ليس حق أفضل من هذا، أنه إذ تُفسر أسفار موسى الخمسة كم من الأسفار تُكسر وكأنها قد صارت مفتوحة ومحمولة؟[6]]

هكذا يشير الغلام إلى الشعب اليهودي الذي كان كطفلٍ في معرفته وفهمه للناموس. كانوا يتمسكون بالحرف دون إدراك للروح. وكانت الخبزات الخمس تشير إلى كتب موسى التي متى وضعت في يدي المسيح تفيض علينا بالفهم الروحي المشبع للنفس، وتقوت قلوبنا بخبز الحياة. أما السمكتان فتشيران إلى المزامير والأنبياء. بالمزامير يعلن المؤمنون شكرهم وتسابيحهم لعمل الله الخلاصي، وخلال الأنبياء يتعرفون على سرّ المسيح مشبع كنيسته بحضرته، واتحادها معه، وثبوتها فيه وهو فيها. وقد تم ذلك بعد عبور بحر طبرية، أي يتحقق خلال مياه المعمودية.

جاءت الكلمة اليونانية للسمكتين وهو الاسم المستخدم حاليًا في مصر باللغة الدارجة”بساريا” يترجمها البعض سمكتين صغيرتين. ويري كثير من الدارسين أن السمكتين كانتا مملحتين، ولا يزال الأقباط يأكلون سمكًا مملحًا في يوم شم النسيم، في اليوم التالي لعيد القيامة المجيد.

ولكن كما أنه في الشعير يختفي لُبه في قشرته (القش) هكذا في حجاب إسرار الناموس يختفي المسيح.

وكما أن هذه الأسرار تصير في تقدم وتُكشف، هكذا هذه الخبزات تتزايد عندما تُكسر.

في هذا الذي أشرحه لكم أكسر لكم خبزًا.

الخمسة آلاف رجلاً يشيرون إلى الشعب الخاضع لأسفار الناموس الخمسة. الإثنا عشر قفة هم الإثنا عشر تلميذًا الذين هم أنفسهم امتلأوا بكسر الناموس. السمكتان هما وصيتا حب الله وقريبنا، أو هما الشعبان: أهل الختان والغرلة، أو الشخصيتان للملك والكاهن. إذ تُشرح هذه الأمور، تُكسر، عندما يفهمها الآكلون[7].

القديس أغسطينوس

لكنه يشير بالسمكتين إلى ذلك الطعام الضئيل الذي حصلنا عليه بواسطة الصيادين، إشارة إلى الكتب الشهية جدًا التي لتلاميذ المخلص. وهما اثنتان، إشارة إلى الكرازة الرسولية الإنجيلية التي أشرقت في وسطنا. وكلاهما مخطوطات الصيادين وكتاباتهم الروحية. هكذا يخلط المخلص الجديد بالقديم، والناموس بتعاليم العهد الجديد، فيقود نفوس المؤمنين به إلى الحياة التي هي بلا شك أبدية.

القديس كيرلس الكبير

إذ يشير القديس كيرلس الكبير إلى عدم الإيمان فيلبس يحذرنا من عدم الإيمان الذي بسببه حُرم موسى وهرون من أن يقودا الشعب إلى الأرض الموعد حين تشككا في إمكانية صدور ماءٍ من الصخرة. يقول: [من ينجو بسبب عدم إيمانه من غضب الله، هذا الذي لا يحابي أحدًا، إذ لم يشفق حتى على موسى الذي قال له: “عرفتك أكثر من الجميع، ووجدت نعمة في عيني” (خر ٢٣: ١٢ LXX).]

القديس كيرلس الكبير

ربما يتساءل البعض: ألم يكن ممكنًا للسيد المسيح أن يشبع الجموع دون استخدام السمكتين والخمس خبزات؟

يرى كثير من الآباء أن السيد استخدم هذه الأمور لكي لا يظن أحدا أن الخليقة المادية نجاسة، وأنها غير صالحة، كما ادعى الغنوصيون خاصة في القرن الثاني الميلادي. إنه يقدس ما خلقه سواء القمح أو الشعير أو السمك أو الكروم… ويستخدم هذه الأمور في صنع عجائبه بمباركته إياها.

ولكن لئلا يظن أن الخليقة غريبة عن حكمته كما ادعى بعد ذلك المفترون الذين تأثروا بمرض مرقيون (الذي يظن أن المادة دنس والخليقة المادية نجسة لا تليق بالله)، لهذا استخدم السيد الخليقة نفسها (الخبز والسمك) كأساس لعمل عجائبه[8].

القديس يوحنا الذهبي الفم

يرى القديس جيروم أن السيد المسيح قدم للجماهير تارة خبزًا من الحنطة وأخرى من الشعير (مت 15:14-21؛ 32:15-38). كل من الحنطة والشعير خليقة اللَّه، بها تشبع الجماهير. وإذ كان الشعير في ذلك الحين طعام الحيوانات، لذا جاء في المزمور: “أنت يا رب تخلص الإنسان والحيوان” (مز 7:36). فهو يُشبع الروحيين، وأيضًا الذين تحت ضعف الجسد. ويبرر بهذا القديس جيروم حديثه عن البتولية أنها كالذهب، والزواج كالفضة، وكلاهما معدنان لهما قيمتهما[9].

فقال يسوع:

اجعلوا الناس يتكئون،

وكان في المكان عشب كثير،

فاتكأ الرجال وعددهم نحو خمسة آلاف“. [10]

طلب السيد المسيح من تلاميذه أن يتكئوا الناس على العشب ليستعدوا للطعام قبل أن يقدم لهم الطعام، أو يروي لهم ما سيفعله. لقد طلب الطاعة المرتبطة بالإيمان ليقفوا ويروا خلاص الله العجيب.

يشير العشب الكثير إلى الجسد (إش 50: 6)، أو الشهوات الجسدية. فإنه لا يستطيع أحد أن يشبع بالقوت الروحي ما لم يُخضع شهواته الجسدية تحته، أو يطأها بقدميه. إذ اتكأ الرجال الخمسمائة على العشب تمتعوا بالطعام الروحي المقدم لهم من السيد المسيح نفسه خلال تلاميذه.

كان من عادة اليهود أن يحصوا الرجال وحدهم من سن العشرين فما فوق دون النساء والأطفال أو الصبيان.

رقم 5 يشير إلى حواس المؤمنين الخمس وقد سمت لتصير سماوية حيث رقم 1000 يشير في الكتاب المقدس إلى الحياة السماوية. لذلك اتكأ الرجال وكان عددهم خمسة آلاف، إذ لم يكن ممكنًا للمؤمنين أن يتمتعوا بالشبع الروحي وفهم الناموس روحيًا ما لم يحملوا سمات النضوج الروحي (رجالاً)، وتتقدس حواسهم الخمس لتحمل سمات سماوية. لذلك فالمؤمن رمزه 5000 (خمس حواس × حياة سماوية “1000” = 5000). أما جلوسهم على الشعب فيحمل رمز خضوع الجسد للنفس المقدسة للرب. فمن يطأ الزمنيات، ولا يرتبك بها، تنفتح طاقات السماء لتقدس كل حواسه وطاقاته وكيانه الداخلي، وتشبعها بالحكمة كما من مائدة إلهية غنية.

القديس كيرلس الكبير

القديس يوحنا الذهبي الفم

وأخذ يسوع الأرغفة وشكر ووزع على التلاميذ،

والتلاميذ أعطوا المتكئين،

وكذلك من السمكتين بقدر ما شاءوا“. [11]

يعلمنا السيد أن نقدم الشكر لله على كل بركاته الروحية والجسدية، فإن ما لدينا هو عطية مجانية من عنده. وكما يقول الرسول بولس: “لأن كل خليقة الله جيدة، ولا يُرفض شيء إذ أُخذ مع الشكر، لأنه يقدس بكلمة الله والصلاة” (١ تي ٤: ٤–٥).

إن كانت الجماهير قد قبلت الخبز من أيدي التلاميذ إلاَّ أن العطية في حقيقتها هي من يدي السيد المسيح نفسه. هكذا يليق بالمؤمن أن يدرك أن كل ما يناله هو من الرب نفسه، وإن جاءت بوسيلة أو أخرى.

القديس يوحنا الذهبي الفم

قبل أن يوزع السيد المسيح الخبز والسمكتان على تلاميذه شكر حتى يعلن فرحه بكل عطية سماوية يقدمها للبشر كي يشبعوا ويغتنوا، أيضًا لكي يدربنا على حياة الشكر.

عهد السيد المسيح بالطعام للتلاميذ، والتلاميذ قدموه للمتكئين، أي الجمهور. إنه بيديه يقدم لنا الفهم الروحي للناموس والمزامير والأنبياء، ولكن خلال تلاميذه ورسله أو الكنيسة المقدسة.

فلما شبعوا قال لتلاميذه:

اجمعوا الكسر الفاضلة لكي لا يضيع شيء“. [12]

يلتزم المؤمن بجمع الكسر، فلا يبدد الموارد، لأنها عطية إلهية ووزنة يلزمنا أن نكون أمناء فيها مهما بدت تافهة، ولو كانت كسرة خبز من الشعير. كان اليهود يتطلعون إلى الخبز بكونه الطعام الرئيسي يمثل بركة من الرب، لذا يحرصون ألا يسقط فتات خبز على الأرض ولا يطأ أحد بقدميه على فتات الخبز. إلى الآن في صعيد مصر يحمل الناس هذا الاتجاه فيحسبون من يطأ بقدميه على فتات خبز كمن يسئ إلى بركة الرب وعطاياه. جاء في أمثال اليهود: “من يحتقر خبزًا يسقط في أعماق الفقر”.

إن كان الرب يهتم بكسر الخبز الذي من الشعير، فكم بالأولى لنا أن نحرص على ألا نفقد كلمة الرب أو نفسد وقتنا؟

وضع اليهود لأنفسهم قانونًا أن يتركوا كسرة خبز بعد الطعام إشارة إلى أن البركة قائمة في البيت. أما الأشرار فلا يبقون شيئًا على المائدة إشارة إلى نزع البركة عنهم “ليست من أكله بقية، لأجل ذلك لا يدوم خيره” (أي ٢٠: ٢١).

إن كسرت الخمس خبزات لن تملأ اثنتي عشرة قفة، فكيف ما تبقي منها يملأها؟ لم يكن ممكنًا لكائنٍ ما أن يدرك كيف يجمعون كسرًا من الخمس خبزات التي قُسمت على هذه الآلاف من البشر بعد أن شبعوا. هكذا إذ يقدم لنا السيد المسيح طعامًا روحيًا يشبع أعماقنا وتفيض يشبع آخرون من الكسر المتبقية والتي تفوق أحيانا ما قد نلناه.

جاء هذا الأمر الإلهي الخاص بجمع الفضلات يكشف عن أهمية الإيمان بإله المستحيلات الذي يهب بسخاء، فيشبع النفوس لتفيض بالخيرات والفرح، علي خلاف الانحباس في الأرقام والحسابات البشرية مع عدم الإيمان والتي تسبب جفافًا وحرمانًا داخليًا.

يدعونا السيد لكي نتقبل من يديه حياة أفضل وشبعًا يفيض، فنترنم قائلين: “تعرفني سبل الحياة، أمامك شبع سرور، وفي يمينك نعم إلى الأبد” (مز 16: 11).

القديس كيرلس الكبير

يرى القديس كيرلس الإسكندري أن السيد المسيح سمح بامتلاء اثنتي عشرة سلة، لكل تلميذ سلة. وكأن من يتعب في تقديم كلمة الله، الطعام الروحي، للشعب فسينال بسخاء ملء النعمة الإلهية.

أن ما حدث لم يكن تخيلاً، وأنها كسر من الخبزات التي اقتاتت بها الجموع.

أما بالنسبة للسمك فقد جاء عن مادة كانت موجودة فعلاً (أي كان السمك لدى الغلام) ولكن في فترة لاحقة، بعد القيامة وُجد سمك ليس من مادة موجودة (حيث وجدوا سمكًا مشويًا قبل إخراج السمك من الشبكة يو 9:21)[10].

 القديس يوحنا الذهبي الفم

فجمعوا وملأوا اثنتي عشرة قفة من الكسر،

من خمسة أرغفة الشعير التي فضلت عن الآكلين“. [13]

         يشير جمع الكسر التي تملأ 12 سلة إلى الالتزام بالشهادة للثالوث القدوس في كل العالم، أي في المشارق والمغارب والشمال والجنوب (3×4=12). لذلك كان عدد أسباط بني إسرائيل 12 وعدد التلاميذ 12. وجاءت الكسر 12 قفة. وكأنه يليق بالشعب الذي يتمتع بالطعام الروحي من يد الآب خلال كنيسته أن يقدم فضلاته التي تشبع المسكونة كلها لتجذب غير المؤمنين إلى ملكوت الله.

فلما رأى الناس الآية التي صنعها يسوع،

قالوا إن هذا هو بالحقيقة النبي الآتي إلى العالم“. [14]

واضح من هذا أنه حتى عامة الشعب كانوا يترقبون مجيء المسيا إلى العالم. لقد احتقر الفريسيون عامة الشعب، ناظرين إليهم أنهم بلا معرفة، ولم يدركوا أن العامة ببساطتهم عرفوا ما لم يستطع الفريسيون بعلمهم ومعرفتهم أن يبلغوا إليه. لقد أدرك العامة أنه قد جاء النبي الذي وعد به الله شعبه خلال موسى النبي (تث ١٨: ١٥). اقترب العامة من ملكوت السماوات.

يقارن القديس كيرلس الكبير بين رد فعل اليهود إذ أرادوا رحمة عندما شفى مرضى، أما هنا الذين هم خارج اليهودية، فقد قالوا: “بالحقيقة النبي الآتي إلى العالم“. أولئك رأوا معجزات كثيرة لكنهم كانوا قساة قلوب غير مؤمنين، بينما هؤلاء شاهدوا معجزة واحدة فمجدوه. [قد حان الوقت أن ينال الأمم أخيرًا نصيبًا من الرحمة من فوق، ونصيبًا من المحبة بالمسيح].

2. سير المسيح على الماء

اختفاء السيد المسيح عندما أرادت الجموع أن تقيمه ملكًا ثم ظهوره للتلاميذ وحدهم سائرًا علي البحر يحمل إعلانًا كتابيًا هامًا. فإن السيد المسيح يقدم جسده خبزًا من السماء، لا لكي يملك علي الأرض، بل ليحمل أعضاء جسده (الكنيسة) إلي كنعان السماوية. أراد أن يصحح المفاهيم الخاطئة لمملكة المسيا. ومن جانب آخر إن كان موسى قد شق البحر ليعبر مع شعب الله، فالسيد المسيح جاء سائرًا علي المياه ليحمل شعبه إلي ما فوق تيارات العالم.

إذ يقول الكتاب المقدس عن الله “الماشى على البحر” (أي 9: 8) جاء في التقليد اليهودي عند الربيين أن المسيا يأتي من البحر، فأراد السيد أن يؤكد لهم أنه هو المسيا المنتظر الذي تنبأ عن الكتاب وورد عنه في التقليد.

وأما يسوع فإذ علم أنهم مزمعون أن يأتوا ويختطفوه ليجعلوه ملكًا،

انصرف أيضًا إلى الجبل وحده“. [15]

أرادت الجماهير أن تخطفه وتقيمه ملكًا أرضيًا حسب هواهم، أما هو فاختفى منهم، وانصرف إلى الجبل وحده. لم يدركوا طبيعة مملكة المسيح، فأرادوا تكريمه حسب تفكيرهم لا حسب فكره الإلهي. كانت الجماهير تريد الخلاص من قيصر ومن الاستعمار الروماني، أما السيد المسيح فلم يرد أن ينشغل تلاميذه بالأمور السياسية، وألا يحملوا عداوة ضد إي إنسان.

بانسحابه إلى الجبل وحده يؤكد لنا أهمية انسحابنا من العالم من حين إلى آخر للقاء مع الله في حديث سري والتمتع بالسكون المقدس. خدمتنا للآخرين مهما بلغت أهميتها يلزم ألا تفقدنا عبادتنا الشخصية السرية.

القديس يوحنا الذهبي الفم

يليق بنا أن نتحاشى محبة المجد، الذي هو شقيق الغطرسة وقريبها، وليس ببعيد عنها.

يلزمنا أن نتحاشى أيضًا الكرامة البرّاقة في هذه الحياة الحاضرة، فهي ضارة. ولنبحث عن التواضع المقدس، مقدمين بعضنا البعض، كما ينصح الطوباوي بولس أيضًا قائلاً: “فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع أيضًا، الذي إذ كان في صورة الله لم يُحسب خلسة أن يكون معادلاً لله، لكنه أخلى نفسه آخذًا صورة عبدٍ، صائرًا في شبه الناس، وإذ وُجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب، لذلك رفعه الله أيضًا، وأعطاه الاسم الذي هو فوق كل اسم” (في ٢: ٥ – ٩).

 إن كنا نهتم بالأمور السماوية ونحيا لأجل أمور علوية أكثر من الأرضية، فلنرفض العظمة على الأرض، إن عرضت علينا، فهي والد كل مجدٍ باطلٍ.

القديس كيرلس الكبير

يرى القديس كيرلس الكبير أن صعوده إلى الجبل وحده حين أرادوا أن يقيموا منه ملكًا يشير إلى رفضه على الأرض، لكنه يصعد إلى السماء، الجبل المقدس (مز ٢٤: ٣–٤) حتى متى عاد من السماء في مجيئه الأخير يملك بالكامل علينا.

يحمل ذلك معنى، نزول الرب من العلا ليطعم الجموع ويصعد…

لقد جاء الآن لا ليملك في الحال، إذ يملك بالمعنى الذي نصلي من أجله: “ليأتِ ملكوتك”. إنه يملك على الدوام مع الآب بكونه ابن اللَّه، الكلمة الذي به كان كل شيء. لكن الأنبياء يخبروننا عن ملكوته الذي فيه هو المسيح الذي صار إنسانًا ويجعل مؤمنيه مسيحيين…

ملكوته يمتد ويُعلن عندما يُعلن مجد قديسيه بعد أن تتم الدينونة بواسطته، الدينونة التي تحدث عنها قبلاً، إن ابن الإنسان يتممها. ذلك الذي يقول عنه الرسول: “عندما يُسلم ملكوت اللَّه للآب” (1 كو 15: 24). وقد أشار عليه بنفسه قائلاً: “تعالوا يا مباركي أبي، رثوا الملكوت المُعدّ لكم منذ بدء العالم” (مت 25: 34).

لكن التلاميذ والجموع التي آمنت به ظنوا أنه قد جاء لكي يملك حالاً، لهذا أرادوا أن يمسكوه ويجعلوه ملكًا. أرادوا أن يسبقوا الزمن الذي أخفاه بنفسه لكي يعلنه في الوقت المناسب[11].

القديس أغسطينوس

القديس أغسطينوس

ولما كان المساء نزل تلاميذه إلى البحر“. [16]

ربما بتوجيه من السيد المسيح انطلق التلاميذ بالسفينة نحو كفرناحوم حتى لا ينشغلوا بحوار غير نافع خاص بإقامة يسوع ملكًا. أراد أن يسحبهم من هذه التجربة، لكنهم يواجهون تجربة أخرى وهي هياج البحر من ريح عظيمة.

جاء السير على المياه بعدما اشبع الجموع (مر 6: 34-51؛ مت 14: 13-33). هنا بعد أن قدم المسيح كلمته واهبة الحياة والقيامة يقدم نفسه في وقت المجاعات كما في وقت العواصف معلنًا حضوره الإلهي: “أنا هو” الواهب المعونة والمشبع للاحتياجات، “لا تخافوا”.

القديس أغسطينوس

فدخلوا السفينة،

وكانوا يذهبون إلى عبر البحر إلى كفرناحوم،

وكان الظلام قد اقبل،

ولم يكن يسوع قد أتى إليهم“. [17]

القديس يوحنا الذهبي الفم

وهاج البحر من ريح عظيمة تهب“. [18]

القديس كيرلس الكبير

فلما كانوا قد جذفوا نحو خمس وعشرين أو ثلاثين غلوة،

نظروا يسوع ماشيًا على البحر،

مقتربًا من السفينة،

فخافوا“. [19]

25 أو 30 غلوة Stadia تعادل حوالي 5و3 ميلاً. وكان البحر حوالي 6 أميال من الجانب إلى الجانب الآخر. بحسب ما ورد في يوسيفوس المؤرخ[14] كان عرض البحيرة حوالي ٤٠ غلوة أي حوالي خمسة أميال، أما طولها فيبلغ حوالي ١٤٠ غلوة أو ١٨ ميلاً. ويرى بليني Pliny أن اتساعها كان ٦ أميال وطولها ١٦ ميلاً[15].

يرى القديس أغسطينوس أن رقم 25 يشير إلى الناموس المدرك حرفيًا، بينما رقم 30 يشير إلى الناموس مدركًا خلال الإنجيل. لم يحدد إن كانوا قد بلغوا 25 غلوة أم ثلاثين غلوة. رقم 5 يشير إلى الناموس، أو أسفار موسى الخمسة والتي سبق الإشارة إليها خلال الخمسة أروقة المؤدية إلى البركة، وخمسة أرغفة من الشعير التي كان يحملها غلام. إذا حاول أحد أن يفهمها ناموسيًا (5×5) تكون المحصلة 25. أما إذا حاول إدراكها خلال الكمال الإنجيلي أي رقم 6 تكون المحصلة 60. الكمال الإنجيلي يرمز برقم 6 حيث كملت الخليقة. عندما ندرك الناموس إنجيليًا نرى يسوع ماشيًا على البحر، مقتربًا إلينا جدًا.

القديس أغسطينوس

إن سألت: لماذا خافوا؟ أجبتك: إن الأسباب التي جعلتهم يخافون كانت كثيرة، فمن جهة الوقت كان ظلامًا، ومن جهة البحر لهبوب الرياح، ومن جهة المكان لأنهم لم يكونوا قريبين من الأرض[18].

القديس يوحنا الذهبي الفم

فقال لهم:

أنا هو لا تخافوا“. [20]

يقول: “أنا هو“، أي “أنا الساكن (وسط الشعب)”، أو”أنا هو الذي أنا هو” (خر 3:14)

جاء ماشيًا على المياه ليس استعراضًا لسطانه على البحر والطبيعة، وإنما إعلانًا عن إخضاع قوانين الطبيعة لحساب مؤمنيه، خاصة في وسط آلامهم. إنه الرب الذي يركب السحاب لنجدة شعبه (تث ٣٣: ٦). يسمح لأولاده بالتجارب، لكنه لن يتركهم وسط التجربة، بل يعلن عن حضوره ليهبهم راحة وسلامًا.

إذ رأوا السيد المسيح ماشيًا على المياه خافوا وارتعبوا، إذ ظنوه خيالاً. فالخوف من الخيال أشد من الخوف من التجربة نفسها.

القديس كيرلس الكبير

فرضوا أن يقبلوه في السفينة،

وللوقت صارت السفينة إلى الارض التي كانوا ذاهبين إليها“. [21]

كلما اقتربت الضيقة منا اقترب السيد المسيح بالأكثر لكي ينقذنا. إنه يقترب إلينا، لكنه لن يدخل سفينة حياتنا قسرًا بل إن قبلناه بكامل حريتنا.

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أنه لم يظهر نفسه ماشيًا علي المياه، إذ كانوا غير متأهلين لذلك بسبب ضعفهم، أما التلاميذ فرأوه إلي حين ثم اختفي، إذ لم يدخل السفينة[19].

علي أي الأحوال ظهر السيد المسيح للتلاميذ إذ كانوا في وسط الضيقة، أما الجمهور الذي كان علي البر فلم يتمتعوا برؤيته هكذا. الضيق هو مجال خصب للنفس لكي تتمتع برؤية مخلصها قادمًا إليها وهو سائر علي مياه العالم، يطأ بقدميه كل الأمواج العنيفة ويتحدى الرياح.

لم نسمع أن السيد المسيح هنا يأمر أمواج البحر لكي تسكت والرياح لكي تهدأ، لكن ما أن قبلوه في السفينة حتى وجدوا السفينة علي الشاطئ في أمان يبدو أن السفينة قد رست عند الشاطئ بطريقة غير عادية، كأمرٍ معجزي. قبول السيد المسيح لدخوله في النفس كفيل أن يهبها سلامه الداخلي بطريقة فائقة للطبيعة.

تلاميذه وحدهم وبأنفسهم كنموذج للمعلمين الكنسيين بالتتابع عبر الأزمان كلها، يسبحون خلال أمواج هذه الحياة الحاضرة كنموذج للبحر، يواجهون تجارب عديدة وشديدة، ويتحملون مخاطر لا يُستهان بها عند التعليم، وذلك على أيدي أولئك الذين يعارضون الإيمان ويحاربون الكرازة بالإنجيل. لكنهم سيتحررون من خوفهم ومن كل خطرٍ، وسوف يستريحون من أتعابهم وبؤسهم حينما يظهر المسيح لهم بعد موته أيضًا بقدرته الإلهية، إذ قد وضع العالم كله تحت قدميه.

هذا ما يشير إليه سيره على البحر، مادام البحر غالبًا ما يُعتبر رمزًا للعالم في الكتب المقدسة… فحينما يأتي المسيح في مجد أبيه كما هو مكتوب (مت ١٦: ٢٧) حينئذ سفينة الرسل القديسين، أي الكنيسة، والذين يبحرون فيها، أي الذين بالإيمان والمحبة نحو الله يرتفعون فوق أمور العالم، دون تأخير وبدون أي تعبٍ، يربحون الأرض التي كانوا ذاهبين إليها، إذ غايتهم هي بلوغ ملكوت السماوات، كما إلى مرفأ هادئ.

القديس كيرلس الكبير

المسيح يتحدث: “أنا هو لا تخافوا”.

لماذا تنزعجون لهذه الأمور؟ لماذا تخافون؟

لقد سبق فأخبرتكم بهذه الأمور أنها ستحدث حتمًا… “أنا هو لا تخافوا. فرضوا أن يقبلوه في السفينة” [20-21].

إذ عرفوه وفرحوا تحرروا من مخاوفهم. “وللوقت صارت السفينة إلى الأرض التي كانوا ذاهبين إليها” [21]. وُجدت نهاية عند الأرض، من المنطقة المائية إلى المنطقة الصلدة، من الاضطراب إلى الثبات، من الطريق إلى الهدف[20].

القديس أغسطينوس

القديس يوحنا الذهبي الفم

3. الجموع تطلبه في كفرناحوم

وفي الغد لما رأى الجمع الذين كانوا واقفين في عبر البحر

أنه لم تكن هناك سفينة أخرى سوى واحدة،

وهي تلك التي دخلها تلاميذه،

وأن يسوع لم يدخل السفينة مع تلاميذه

بل مضى تلاميذه وحدهم“. [22]

يقول القديس كيرلس الكبير أن معجزة سير السيد المسيح على المياه حدثت ليلاً في الظلام، وقد اكتشفتها الجماهير التي تترقب حركاته دون أن يخبرهم بها. [من يريد اقتفاء خطوات المسيح، وبقدر ما هو مُستطاع لدى البشر لكي يتشكل الإنسان حسب مثاله يلزمه ألا يحيا في حب الافتخار، ولا ينحرف سعيًا وراء المديح حين يمارس فضيلة، ولا يفتخر حين يدخل في حياة غير عادية بنسكٍ كثير، بل عليه أن يشتاق أن تراه عينا الله فقط، الذي يكشف الخفيات، وما يتم في الخفاء يظهره بأوضح إعلان.]

غير أنه جاءت سفن من طبرية إلى قرب الموضع الذي أكلوا فيه الخبز،

إذ شكر الرب“. [23]

فلما رأى الجمع أن يسوع ليس هو هناك ولا تلاميذه

دخلوا هم أيضًا السفن،

وجاءوا إلى كفرناحوم يطلبون يسوع“. [24]

ولما وجدوه في عبر البحر قالوا له:

يا معلم متى صرت هنا“. [25]

يقصد بالجانب الآخر من البحر ساحل البحر الشمالي حيث توجد كفرناحوم في أرض جنيسارت.

يبدو أنهم وجدوه في المجمع اليهودي [٥٩]، فقد اعتاد السيد أن يحضر في الاجتماعات الدينية (لو ٤: ١٦). يليق بنا أن نطلبه في مجمع شعبه، إذ هو حال في وسطهم. إذ وجدوه أنه قد هرب منهم حين طلبوه ملكًا بدأوا يتعاملون معه كمعلم وليس كملكٍ.

القديس يوحنا الذهبي الفم

4. أنا هو الخبز الحي 

أجابهم يسوع وقال:

الحق الحق أقول لكم أنتم تطلبونني ليس لأنكم رأيتم آيات،

بل لأنكم أكلتم من الخبز فشبعتم“. [26]

كثيرون لا يطلبون من الله إلاَّ أن تمتد يداه لتقدم لهم احتياجاتهم الزمنية؛ قليلون يشتهون اللقاء مع الله من أجل الله نفسه. كثيرون يطلبون من الله الخبز الرخيص لا الحب الثمين. الخبز النازل من السماء (خر 16: 4؛ نح 9: 15؛ مز 78: 24؛ مز 105: 40).

يركز على أنه واهب الخبز على مستوى عطية الآب لا على مستوى موسى [32]؛ وأنه هو اللَّه العطية “الخبز النازل من السماء. إنه يقوت الإنسان بكونه الحكمة الإلهية (أم 9: 1-5).

         إنه واهب الخبز، أعظم من موسى.

         هو الخبز النازل من السماء.

         هو الخبز المشبع بكونه حكمة اللَّه.

         خبز أفخارستي واهب الحياة الأبدية.

القديس يوحنا الذهبي الفم

القديس كيرلس الكبير

القديس أغسطينوس

اعملوا لا للطعام البائد،

بل للطعام الباقي للحياة الأبدية،

الذي يعطيكم ابن الإنسان،

لأن هذا الله الآب قد ختمه“. [27]

ختمه الآب ليقوم بعمل المصالحة، وليقبل نيابة عن المؤمنين الروح القدس ويستقر عليه. إنه قد ختم لكي نُختم نحن جميعًا فيه ونُحسب مسحاء لله.

 القديس يوحنا الذهبي الفم

القديس كيرلس الكبير

إذن “الآب ختمه“… أي منحه أمرًا معينًا جعله ليس موضوع مقارنة مع بقية البشر. لذلك قيل عنه: “اللَّه إلهك قد مسحك بزيت البهجة، فوق كل زملائك” (مز 45: 8). ماذا إذن “يختم” سوى أنه يكون مستثنى من الآخرين؟

هذا هو أهمية “فوق كل زملائك”. يقول: “هكذا لا تحتقرني لأني ابن الإنسان، بل لتطلب مني لا الطعام البائد بل الباقي للحياة الأبدية. لأني ابن الإنسان بطريقة بها لست واحدًا منكم. أنا ابن الإنسان بطريقة بها الآب ختمني… أعطاني شيئًا خاصًا بي، فلا يحدث لبس بيني وبين البشرية، إنما تخلص البشرية بي[29].

القديس أغسطينوس

فقالوا له:

ماذا نفعل حتى نعمل أعمال الله؟” [28]

إذ سألهم أن يعملوا لا للطعام البائد بل للطعام الباقي للحياة الأبدية سألوه كيف يتممون الأعمال الإلهية، أو الأعمال التي حسب مسرة الله. ماذا يُطلب منهم أكثر من طاعتهم للناموس؟ هل الناموس ناقص ويوجد ما هو أفضل منه؟

يقول القديس أغسطينوس أن السيد المسيح أوصاهم ألا يطلبوا الطعام البائد بل الباقي للحياة الأبدية، لذلك سأله الجمع: “ماذا نفعل حتى نعمل أعمال اللَّه؟ [28]. كأنهم يسألونه: كيف ننفذ هذه الوصية؟ وجاءت الإجابة هي: الإيمان بالذي أرسله.

الإيمان يجعل أعمالهم مقبولة لدى اللَّه. لم يرد السيد أن يميز بين الأعمال والإيمان بل أن يعلن أن الإيمان نفسه هو عمل. إنه الإيمان العامل بالمحبة (غلا 5: 6).

كأنهم يقولون: “يكفينا أيها السيد الصالح كتابات موسى، فنحن نعرف أكثر مما نحتاج عن تلك الأمور التي ينبغي على الماهر في أعمال الله أن يقصدها، فما الشيء الجديد الذي ستزودنا به إذن بالإضافة إلى تلك الأمور التي كانت قد حُددت في ذلك الزمان؟ وأي شيء غريب ستعلمنا إياه ولم يكن قد انكشف لنا من الكلمات الإلهية؟”

 كان التساؤل من قبيل الحماقة، وليس بدافع الإرادة النشطة.

القديس كيرلس الكبير

 القديس يوحنا الذهبي الفم

أجاب يسوع وقال لهم:

هذا هو عمل الله:

أن تؤمنوا بالذي هو أرسله“. [29]

جاءت الإجابة إنه ينقصهم أمر واحد، هو من صميم الناموس، وهو أن يؤمنوا به، بكونه المسيا الذي أشار إليه الناموس، بكونه مخلص العالم الذي أفسدته الخطية.

كلمة الإيمان هنا تحمل معنى الإيمان العملي الحي، حيث يلتصق به المؤمن ويتبعه في طريق الصليب.

إن العمل الذي تمارسه النفس النقية هو الإيمان المتجه نحو المسيح.

والأسمى من ذلك بكثير هي الغيرة في أن يصير الإنسان حكيمًا في معرفة المسيح أكثر من الالتصاق بالظلال الرمزية.

القديس كيرلس الكبير

فقالوا له:

فأية آية تصنع لنرى ونؤمن بك ماذا تعمل؟” [30]

طلب اليهود من السيد آية ليؤمنوا به، فهل حسبوا إشباع الجمهور البالغ عدد الرجال بينهم حوالي 5000 نسمة بخمس خبزات شعير وسمكتين آية تافهة؟

طلبوا منه معجزة تضاهي التي حدثت في أيام موسى حيث أكل آباؤهم المن في البرية، أكلوا خبزًا نازلاً من السماء. لقد رأوا معجزة إشباع الجموع بخمس خبزات وسمكتين ولم يؤمنوا. لم يكن ممكنًا أن يروا أعظم من هذا لكن أذهانهم لم تعد قادرة على إدراك الحق.

آباؤنا أكلوا المن في البرية كما هو مكتوب،

أنه أعطاهم خبزًا من السماء ليأكلوا“. [31]

فقال لهم يسوع:

الحق الحق أقول لكم،

ليس موسى أعطاكم الخبز من السماء،

بل أبي يعطيكم الخبز الحقيقي من السماء“. [32]

لكي يدركوا الحق كشف لهم عن أعماق عمل الله مع آبائهم حين عالهم في البرية أربعين عامًا بالمن النازل من السماء:

  1. ليس موسى بل الله هو الذي أعطاهم المن.
  2. لم يكن المن هو الخبز الحقيقي إنما هو رمز له.
  3. الآن يقدم لهم الله الخبز الحقيقي الذي لا يُقارن به المن قط.
  4. إنه هو الخبز الحقيقي النازل من السماء، والذي من أجله أُعطي لآبائهم المن رمزًا له.

القديس كيرلس الكبير

وقوله: “الخبز الحقيقي من السماء“، إذ أن المسيح هو الخبز الحقيقي، ليس لأن الأعجوبة الخاصة بالمن كانت كاذبة، لكن لأنها كانت رسمًا ولم تكن الحقيقة بذاتها.

القديس يوحنا الذهبي الفم

القديس أغسطينوس

لأن خبز الله هو النازل من السماء الواهب حياة للعالم“. [33]

المن الحقيقي هو المسيح ذاته، مُدركًا باعتبار أن الله الآب قد أعطاه تحت رمز المن للذين كانوا في القديم.

“وخبز السماء أعطاهم، أكل الإنسان خبز الملائكة” (مز ٧٨: ٢٤)… واضح للجميع أنه لا يوجد خبز وطعام للقوات العقلية في السماء سوى ابن الله الآب الوحيد. إذن فهو المن الحقيقي، والخبز الذي من السماء لكل الخليقة العاقلة الذي يعطيه الله الآب.

يعدنا المسيح أن يهبنا الطعام الذي من السماء، أي التعزية بواسطة الروح، أعني المن الروحي. بهذا بالمن نتقوى على احتمال كل مشقةٍ وعزمٍ، وإذ نحصل عليه لا نسقط بسبب عجزنا في تلك الأمور التي ينبغي إلا ننحدر إليها.

كان الأجدر بهم أن يعرفوا أن موسى قد جلب فقط خدمة الوساطة، وأن العطية لم تكن من صنع يدٍ بشريةٍ، بل هي من عمل النعمة الإلهية، فتضع الروحي داخل إطار مادي كثيف، وعبَّر لنا عن الخبز الذي من السماء، الذي يعطي حياة لكل العالم، ولا يُطعم جنسًا واحدًا فقط.

القديس كيرلس الكبير

القديس يوحنا الذهبي الفم

فقالوا له:

يا سيد أعطنا في كل حين هذا الخبز“. [34]

كان اليهود يتوقعون بمجيء المسيا ينعمون مع السلطة والحكم والحرية كل أنواع الملذات الزمنية. قال الحاخام ميمون Rab. Mayemon إنه متى جاء المسيا يقيم الأموات، فيجتمعون في جنة عدن، ويأكلون ويشربون ويصيرون في تخمة كل أيام العالم. تُبنى بيوتهم بالحجارة الكريمة، وأسرتهم بالحرير الناعم، وتفيض الأنهار بالخمر والزيت المخلوط بالتوابل. سينزل المن عليهم له مذاقات متنوعة، ويجد كل إسرائيلي في طبقه ما يلذ له. إن اشتهى السمين وجده. يذوقه الشاب فيجده خبزًا والشيخ يجده عسلاً والأطفال زيتًا. هكذا ستكون أيام المسيح القادمة. سيهب إسرائيل سلامًا ويجلس في جنة عدن[35]

القديس كيرلس الكبير

فقال لهم يسوع:

أنا هو خبز الحياة،

من يقبل إلي،ّ فلا يجوع،

ومن يؤمن بي، فلا يعطش أبدًا“. [35]

اعتاد السيد المسيح في أحاديثه الأخرى أن يقدم شهودًا أنه يعلن الحق، تارة يعلن أن الآب يشهد له، وأخرى يقتبس نبوات الأنبياء، وأخرى يقدم آياته وعجائبه. أما هنا فكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم[36] لم يورد شهودًا وهو يعلن عن نفسه أنه الخبز النازل من السماء، لأنهم شاهدوا ولمسوا كيف أشبعهم بخبزات قليلة. يقول القديس إنه يعلن عن لاهوته، فمن يقترب إليه يشبع ولا يجوع قط.

القديس يوحنا الذهبي الفم

القديس كيرلس الكبير

القديس أغسطينوس

ولكني قلت لكم أنكم قد رأيتموني ولستم تؤمنون“. [36]

القديس كيرلس الكبير

كل ما يعطيني الآب فاليّ يقبل،

ومن يقبل إليّ، لا أخرجه خارجًا“. [37]

يوجه القديس يوحنا الذهبي الفم أنظارنا هنا إلى دور الله ودور الإنسان، فالإنسان لن يقدر أن يؤمن بذاته، بل بجاذبية الله له، ونعمته المجانية العاملة فيه. لكن لا يتمتع الإنسان بهذا الإيمان قسرًا، بل بكامل حريته يقبل إلى السيد الذي يحفظه ويقدسه ولا يطرده خارجًا عنه.

القديس كيرلس الكبير

القديس يوحنا الذهبي الفم

لأني قد نزلت من السماء،

ليس لأعمل مشيئتي،

بل مشيئة الذي أرسلني“. [38]

جاء من السماء، لا ليعمل حسب الدوافع البشرية، بل حسب حكمته الإلهية غير المحدودة، حسب صلاحه ورحمته. فالأهواء اليهودية تزدري بالعشارين والخطاة، وتغلق باب السماء أمام الأمم، أما مراحم الله فتحتضنهم. جاء الابن الكلمة ليعلن عن هذه المراحم الإلهية.

ستفهمون لماذا لم يكن المسيح مخلصنا يريد الآلام التي على الصليب، ومع ذلك أرادها لأجلنا، ولأجل مسرة الله الآب الصالحة، لأنه حين كان على وشك الخروج للآلام أيضًا، جعل حديثه إلى الله (الآب) قائلاً ما قاله في صيغة صلاة: “يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس، ولكن ليس كما أريد أنا، بل كما تريد أنت” (مت ٢٦: ٣٩). لأنه وهو الله الكلمة، غير المائت، وغير الفاسد، والحياة ذاتها بالطبيعة، لم يقدر أن يرتعب أمام الموت. وإني أعتقد إن ذلك واضح للجميع، إذ وهو له أن يرتعد أمام الموت حين كان على مشارفه، لكن يُظهر أنه بالحقيقة إنسان… باتحاد الطبيعة البشرية بالكلمة أُعيدت إلى ما يليق بالله من إقدامٍ، واستعيدت إلى غرض شريف، أعني أن الطبيعة البشرية لم تصنع ما يبدو صالحًا لإرادتها الذاتية بل بالأحرى تتبع القصد الإلهي، مهيأة على الفور للركض إلى مهما يدعوها إليه ناموس خالقها.

أرأيتم كيف أن المسيح لم يكن يريد الموت بسبب الجسد، ولا هوان التألم، ومع هذا أراده، حتى يتمم مقاصد مسرة الآب الصالحة لأجل العالم أجمع، أي حياة وخلاص الجميع.

القديس كيرلس الكبير

وهذه مشيئة الآب الذي أرسلني:

أن كل ما أعطاني لا أتلف منه شيئًا،

بل أقيمه في اليوم الأخير“. [39]

الله يريد أن الجميع يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون، لكنه لا يلزمهم بالخلاص قهرًا كما لو كانوا قطعًا حجرية، بل يتعامل معهم ككائنات عاقلة لها كمال الحرية.

 القديس يوحنا الذهبي الفم

لأن هذه مشيئة الذي أرسلني:

أن كل من يرى الابن ويؤمن به

تكون له حياة أبدية،

وأنا أقيمه في اليوم الأخير“. [40]

القديس كيرلس الكبير

القديس أغسطينوس

القديس يوحنا الذهبي الفم

فكان اليهود يتذمرون عليه،

لأنه قال أنا هو الخبز الذي نزل من السماء“. [41]

تذمر اليهود عليه لأنه في حديثه يؤكد لهم أنه أعظم من موسى بلا حدود، وأنه وحده قادر أن يهب الحياة الأبدية، وأن أصله سماوي. لقد سمعوا عن ملائكة نزلوا من السماء، لكنهم لم يسمعوا قط عن إنسانٍ أصله سماوي.

من هو خبز الملائكة إلاَّ المسيح؟

ولكن لكي يأكل الإنسان خبز الملائكة، صار رب الملائكة إنسانًا. فإنه لو لم يصر إنسانًا ما كان له جسده، وإن لم يكن له جسده ما كنا نأكل خبز المذبح.

لنسرع إلى الميراث، متطلعين إلى إننا قد قبلنا عربونا عظيمًا منه.

يا اخوتي ليتنا نشتاق إلى حياة المسيح، متطلعين إلى أننا أمسكنا بعربون موت المسيح.

القديس أغسطينوس

القديس يوحنا الذهبي الفم

وقالوا: أليس هذا هو يسوع ابن يوسف،

الذي نحن عارفون بأبيه وأمه،
فكيف يقول هذا إني نزلت من السماء؟” [42]

القديس كيرلس الكبير

القديس يوحنا الذهبي الفم

كانت لهم أنياب قلوبهم ضعيفة، لهم آذان مفتوحة لكنهم صم، ورأوا لكنهم وقفوا عميانًا. هذا الخبز بالحق يتطلب جوعًا للإنسان الداخلي. لهذا يقول في موضع آخر: “طوبى للجياع والعطاش إلى البرّ لأنهم يشبعون” (مت 5: 6). يقول الرسول بولس أن المسيح بالنسبة لنا برّ (1 كو 1: 30). لهذا من يجوع إلى هذا الخبز يجوع إلى البرّ، ذاك البرّ النازل من السماء، البرّ الذي يعطيه اللَّه، لا الذي يفعله الإنسان لنفسه…

ما هو برّ اللَّه للإنسان، أن يكون بارًا باللَّه.

لكن مرة أخرى ماذا كان برّ هؤلاء اليهود؟ البرّ الذي صنعوه بقوتهم، وعليه اتكلوا، وبهذا أعلنوا عن أنفسهم أنهم يتممون الناموس بفضيلتهم. مع أنه لا يتمم أحد الناموس إلا الذي تعينه النعمة، أي يعينه الخبز النازل من السماء[44].

القديس أغسطينوس

فأجاب يسوع وقال لهم:

لا تتذمروا فيما بينكم“. [43]

بالرغم من النبوات التي تؤكد أن المسيا يأتي من نسل داود، وأنه مولود من عذراء، هاجمه اليهود متطلعين إليه باستخفاف كابن لمريم ويوسف المعروفين لديهم تمامًا. أما هو ففي حنو وجَّه أنظارهم إلى أبيه السماوي الذي وحده يقدر أن يكشف لهم عن شخص الابن المتجسد الواهب القيامة.

لنفعهم يؤكد لهم الوعد أنه سيقيم من الموت من يؤمن به، ومن ثم يبرهن حتى لأكثر الناس جهلاً أنه هو الله حقًا وبالطبيعة. لأن القدرة على الإقامة من الموت… تخص طبيعة الله وحده، ولا تُنسب إلى أي مخلوق.

القديس كيرلس الكبير

لا يقدر أحد أن يقبل إليّ إن لم يجتذبه الآب الذي أرسلني،

وأنا أقيمه في اليوم الأخير“. [44]

كيف يجتذبه الآب؟ يجيب القديس أغسطينوس بأن الإنسان يُجتذب بما يُبتهج به.

إن قدمت عشبًا يجتذب القطيع إليه، وإن قدمت فاكهة تجتذب الطفل. هكذا يجتذب الآب الإنسان بأن يقدم له المخلص بكونه شهوته، فيجتذبه به. الإنسان الذي يدرك في نفسه أنه خاطئ ضائع وإذ يشتاق أن يهرب من الجحيم ويبلغ إلى السماء يجد في دم المسيح جاذبية له.

كأنه يقول لهم: “لماذا تتذمرون فيما بينكم؟ فإنكم لا تستطيعون أن تؤمنوا ما لم يجتذبكم الآب”. إنه يجتذب النفوس ليس بمحاباة، بل من يطلب يتمتع بالإيمان، لكنه لن يجتذب أحدًا بغير إرادته.

يقول القديس أغسطينوس:

[يمكن أن يأتي إنسان إلى الكنيسة بغير إرادته، ويمكنه أن يقترب من المذبح بغير إرادته، ويشترك في الأسرار قهرًا، لكنه لا يقدر أن يؤمن ما لم يرد ذلك… الإيمان ليس شيئًا يتم بالجسد. اسمع الرسول: “بالقلب يؤمن الإنسان للبرّ”. ماذا يلي ذلك… “وباللسان يعترف للخلاص” (رو 10: 10). هذا الاعتراف يصدر عن جذر القلب. أحيانًا تسمع إنسانًا يعترف ولا تعرف إن كان يؤمن أم لا…

إذن حيث أن الإنسان بالقلب يؤمن بالمسيح، الأمر الذي لا يفعله أحد بغير إرادته، ولا من يُجتذب ضد إرادته، كيف نجيب على السؤال: “لا يقدر أحد أن يأتي إليّ إن لم يجتذبه الآب الذي أرسلني” [44]؟

قد يقول قائل: “إن كان يُجتذب، فإنه يذهب بغير إرادته. وإن كان يذهب بغير إرادته فهو يؤمن… لأننا لسنا نذهب إلى المسيح بأقدامنا بل بالإيمان؛ وليس بعاطفة الجسد بل بغير إرادته…

لا تظن أنك تُجتذب بغير إرادتك. فالذهن يُسحب أيضًا بالحب.

يلزمنا أيضًا ألا نخاف لئلا نُلام بحسب هذه الكلمة الإنجيلية التي للكتاب المقدس بواسطة أولئك الذين يثقلون بالكلام وهم بعيدون عن حركة العمل، وبعيدون عن الإلهيات، لئلا يُقال لنا: كيف يمكنني أن أؤمن بإرادتي إن كنت لا أُجتذب؟” أقول: لا يكفي أن تُجتذب بالإرادة، فإنه يمكنك أن تجتذب حتى بالبهجة. “تلذذ بالرب فيعطيك سؤل قلبك” (مز 37: 4). توجد لذة للقلب الذي يجد عذوبة في ذاك الخبز الذي من السماء. علاوة على هذا، إن كان بحق جاء في القطعة الشعرية: “كل إنسانٍ ينجذب بشهوته”، فإنه ليس خلال الضرورة بل باللذة، لا بالالتزام بل بالبهجة ينجذب؛ كم بالأكثر يلزمنا القول أن الإنسان ينجذب إلى المسيح عندما يتلذذ بالحق، عندما يبتهج بالتطويب، يبتهج بالبرّ وبالحياة الأبدية هذه كلها التي هي المسيح؟[45]]

“إنه مكتوب في الأنبياء:

ويكون الجميع متعلمين من الله.

فكل من سمع من الآب وتعلم يقبل إلي“. [45]

جاء ذلك في إرميا ٥٤: ١٣؛ وإشعياء ٣١: ٣٤. كيف يعلمنا الله؟ بأن يعلن حبه العملي لنا خلال صليب ابنه. كانوا قبلاً في رعبٍ من الله بكونه الديان، أما وقد أعلن حبه لهم بالصليب علمهم واجتذبهم إليه لكي يتمتعوا بالحياة الأبدية.

يعلق القديس كيرلس الكبير على قول السيد المسيح بأن الجميع يكونون متعلمين من الله، قائلاً: [حال كون الله آبًا، وهكذا يُدرك عنه ويُكرز به، فإنه بهذا يغرس معرفة ابنه الذاتي في سامعيه. وهكذا أيضًا يُقال عن الابن، أنه في الحقيقة منه بالطبيعة، فهو يعلن عن الآب. لهذا يقول: “أنا أظهرت اسمك للناس” (يو ١٧: ٦)… يزرع فينا الآب معرفة ابنه الذاتي، ليس بصوتٍ يشق عنان السماء من فوق، أو يلف الأرض لفًا كالرعد، بل بالاستنارة الإلهية، مشرقًا فينا لفهم الكتاب المقدس المُوحى به.]

القديس يوحنا الذهبي الفم

ما هو دور البشر الذين يعلنون عن الأخبار من الخارج؟ ما أفعل حتى الآن هو من الخارج. إنني أسكب أصوات ألفاظ الكلمات في آذانكم. ما قيمة ما أقوله أو ما أتكلم به إن لم يُعلن لكم عنه في الداخل؟

من الخارج يوجد من يزرع الشجرة، في الداخل خالق الشجرة. الذي يغرس والذي يروي يعملان في الخارج؛ هذا ما نفعله نحن، لكن “ليس الغارس شيئًا، ولا الساقي، بل اللَّه الذي ينمي” (1 كو 3: 7). بمعنى هؤلاء كلهم يتعلمون من اللَّه. من هم هؤلاء كلهم؟ “كل من سمع من الآب وتعلم يقبل إليّ” [45]. انظروا كيف يجتذب الآب، إنه يبهج بتعليمه لا باستخدام الإلزام. انظروا كيف يجتذب: “يكون الجميع متعلمين من اللَّه” [45]. هذا هو جذب الآب[47].

القديس أغسطينوس

ليس أن أحدًا رأى الآب إلا الذي من الله،

هذا قد رأى الآب“. [46]

لا يعلمهم بأن يروه وجهًا لوجه ولا بحديثٍ صوتي مباشر، وإنما بعمل روحه القدوس فيهم. لم يرَ أحد قط الله إلا ابنه الذي في حضنه هو يراه ويخبر عنه (يو ١: ١٨).

يرى القديس كيرلس الكبير أن السيد المسيح هنا يعني بطريقة ضمنية العظيم في الأنبياء موسى، فقد ظن بعض اليهود أنه إذ دخل إلى الظلمة الكثيفة رأى بعينيه الجسديتين الله الذي لا يُرى. هنا يؤكد السيد المسيح أنه هو وحده يرى الآب لأنه مولود منه. [لكن كيف وبأية وسيلة يرى الآب، أو يراه الآب، إن لساننا يعجز عن ذكر هذا الأمر، لكن علينا أن ندركه بطريقة إلهية.]

فالابن، مع الروح القدس، هو وحده الذي يقدر أن يراه بحق كما هو، لأنه: “يفحص كل شيء حتى أعماق اللٌه” (1 كو 10:2). هكذا الابن الوحيد مع الروح القدس يدركان الأب في كماله إذ قيل: “لا أحد يعرف الآب إلا الابن ومن أراد الابن أن يعلن له” (مت 27:11).

إذ يرى الكل حسب احتماله، لذلك فهو يرى الآب بكماله، معلنًا اللٌه “الآب” خلال الروح، إذ الابن مع الروح “واحد” مع الآب في اللاهوت.

المولود يعرف الوالد، والوالد يعرف المولود.

إن كان الملائكة جاهلين “بمعرفة اللٌه في كماله” فلا يخجل أحدكم من الاعتراف بجهله. حقا إنني أتكلم الآن كما يتكلم أي السان في مناسبة ما، أما كيفية الكلام فلست أعرفه. إذن كيف أستطيع أن أخبركم عن واهب الكلام نفسه؟!

وإذ لا اقدر أن أخبركم عن سمات النفس المميزة لها، فكيف أصف واهب النفس؟![49]

القديس كيرلس الأورشليمي

ما هذا الذي يقوله؟ أنا أرى الآب، وأنتم لا ترونه، ومع هذا فأنتم لا تأتوا إليّ ما لم يجتذبكم الآب. وما هو اجتذاب الآب لكم سوى أنكم تتعلمون من الآب؟ وماذا تتعلمون من الآب إلا أن تسمعوا عنه؟ ماذا تسمعون عنه إلا أن تسمعوا كلمة الآب، أي تسمعون مني؟ في هذه الحالة عندما أقول: “كل من سمع من الآب وتعلم” يلزمكم أن تقولوا داخل أنفسكم: لكننا لم نرَ الآب قط، فكيف نسمع منه؟ اسمعوا مني، فإنه “ليس أن أحدًا رأى الآب إلا الذي من اللَّه، هذا قد رأى الآب”. أنا أعرف الآب، أنا من الآب، ولكن بكوني الكلمة التي منه، ليس الكلمة التي تعطي صوتًا وتعبر، بل الكلمة الذي يبقى مع المتكلم ويجتذب السامع[51].

القديس أغسطينوس

الحق الحق أقول لكم

من يؤمن بي فله حياة أبدية“. [47]

يعلن السيد المسيح في حديثه هذا أن المؤمن:

  1. يجتذبه الآب خلال أعمال ابنه الخلاصية الجذابة.
  2. يسمع تعاليمه.
  3. يقبل الخلاص المقدم له.
  4. يقتات بالخبز السماوي.
  5. يُحفظ في الإيمان.
  6. لا يهلك بل يقوم في اليوم الأخير.
  7. يتمتع بالحياة الأبدية.

القديس كيرلس الكبير

القديس أغسطينوس

أنا هو خبز الحياة“. [48]

 آباؤكم أكلوا المن في البرية وماتوا“. [49]

هذا المن لم يحفظ أجسادهم من الموت، ولا وهبهم حياة أبدية. هذا حسب مفهومهم هم، إذ كانوا يعتبرون آباءهم قد هلكوا في البرية، وليس لهم حياة أبدية. أكلهم المن لم يحفظهم من غضب الله الذي حل عليهم بسبب تمردهم المستمر وتذمرهم في البرية (١ كو ١٠: ٣–٥).

القديس يوحنا الذهبي الفم

هذا هو الخبز النازل من السماء

لكي يأكل منه الإنسان ولا يموت“. [50]

مقابل هذا جاء السيد ليقدم جسده خبزًا يسند أجسادهم فيمجدها ويهبها شركة مع النفوس إلى الأبد.

القديس كيرلس الكبير

كم من كثيرين يتناولون من المذبح ويموتون؟ يموتون حقًا بتناولهم إيّاه! لذلك يقول الرسول: “يأكل ويشرب دينونة لنفسه” (1 كو 11: 29). فإنه أليس ما أخذه في فمه من الرب كان سُمًّا ليهوذا. ومع ذلك أخذه، وعندما تناوله دخله العدو، ليس لأن ما تناوله أمر شرير، وإنما لأنه هو شرير، تناول ما هو صالح بطريقة شريرة.

إذن انظروا أيها الاخوة إنكم تتناولون الخبز السماوي بمعنى روحي، قدموا طهارة للمذبح.

 فمع أن خطاياكم يومية فعلى الأقل لا تسمحوا أن تكون مميتة.

قبل أن تقتربوا إلى المذبح ضعوا في اعتباركم حسنًا أن تقولوا: “اغفر لنا ما علينا، كما نغفر نحن أيضًا لمن لنا عليهم”. أنتم تغفرون فيُغفر لكم.

اقتربوا في سلام، إنه خبز لا سم.

ولكن انظروا إن كنتم تغفرون، فإنكم إن لم تغفروا تكذبون، وتكذبون على ذاك الذي لا يُخدع. يمكنك أن تكذب على اللَّه لكنك لا تقدر أن تخدعه[54].

القديس أغسطينوس

أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء.

إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد،

والخبز الذي أنا أعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم“. [51]

القديس كيرلس الكبير

القديس أغسطينوس

يشير القديس يوحنا الذهبي الفم إلى ثمار الإفخارستيا:

القديس يوحنا الذهبي الفم

يصف القديس إيريناؤس الإفخارستيا أنها خبز الخلود، كما يدعوه القديس أغناطيوس الأنطاكي دواء الخلود[57].

القديس إيريناؤس

فخاصم اليهود بعضهم بعضا قائلين:

كيف يقدر هذا أن يعطينا جسده لنأكل؟” [52]

يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم علي هذه العبارة أنه ما كان يليق باليهود أن يتساءلوا هكذا بعد أن رأوا معجزة الخبزات. كما جاء في تعليقه أيضًا:

نصير جسدًا واحدًا، و”أعضاء جسده ومن عظامه” (أف 5: 30). ليت المتناولون يتتبعون ما أقوله. لكي ما نصير هكذا ليس بالحب وحده، بل وبالفعل ذاته، لنتحد بهذا الجسد. هذا يتحقق بالطعام الذي قدمه لنا مجانًا، مشتاقًا أن يظهر حبه لنا. لهذا مزج نفسه بنا، وعجن جسد بأجسادنا، لكي نصير واحدًا، كجسد يتحد بالرأس…

يقودنا المسيح إلي صداقة حميمة ليظهر حبه لنا. إنه يهب الذين يرغبونه ليس فقط أن يروه بل يلمسوه ويأكلوه، ويثبتوا أسنانهم في جسده، ويقبلون ويشبعون كل حبهم له.

ليتنا نعود من تلك المائدة كأسود تتنفس نارًا ترعب الشيطان، مفكرين في رأسنا وفي حبه الذي أظهره لنا.

غالبًا ما يقدم الآباء أبناءهم لآخرين كي يطعموهم؛ أما هو فيقول: “أما أنا فلا أفعل ذلك، أنا أطعمتكم بجسدي، مشتاقًا أن تصيروا جميعكم مولودين ميلادًا جديدًا ولكم رجاء صالح في المستقبل. فإن من يعطيكم ذاته هنا كم بالأكثر يعطيكم فيما بعد.

أردت أن أصير أخاكم، ومن أجلكم شاركتكم في اللحم والدم، وأعود فأعطيكم الجسد والدم لكي بذلك أصير قريبكم“.

هذا الدم يجعل صورة ملكنا متجددة فينا، تبعث جمالاً لا ُينطق به، ولا تدع سمو نفوسنا أن ينزع منا، بل ترويه دائما وتنعشه.

الدم الذي يستخرج من طعامنا لا يصير دمًا في الحال بل يصير شيئًا آخر، أما هذا فلا يفعل هكذا، إنما في الحال يروي نفوسنا، ويعمل فيها بقوة قديرة.

هذا الدم السري إن تناولنا بحق يطرد الشياطين، ويجعلهم بعيدين عنا، بينما يدعو الملائكة ورب الملائكة إلينا. فحالما يرون دم الرب تهرب الشياطين وتركض الملائكة معا… سفك هذا الدم وجعل السماء سهلة المنال[59].

القديس يوحنا الذهبي الفم

إن كنت تصر أيها اليهودي قائلاً: كيف؟ فإني أيضًا أقول لك…

كيف خرجت من مصر؟

كيف تحولت عصا موسى إلى حية؟…

لو طبقت كلمة “كيف” لما آمنت أبدًا بالكتاب كله، ولطرحت عنك كل كلمات القديسين.

القديس كيرلس الكبير

القديس يوحنا الذهبي الفم

القديس أغسطينوس

فقال لهم يسوع:

الحق الحق أقول لكم:

إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان،

وتشربوا دمه،

فليس لكم حياة فيكم“. [53]

نحن القابلون للفساد بطبيعة جسدنا، نهجر ضعفنا الطبيعي باختلاطنا بالحياة، ونتبدل إلى خاصية الحياة. فالأمر لا يحتاج فقط إلى إعادة خلقة للنفس بالروح القدس إلى جدة الحياة، بل وأن ذاك الجسد الأرضي الغليظ يلزمه أن يتقدس ويُدعى إلى عدم الفساد بواسطة الشركة الأكثف والأقرب.

القديس كيرلس الكبير

يندهش القديس كيرلس الكبير من اليهود الذين آمنوا أنه بأكل لحم خروف الفصح ونضح دمه على الأبواب يهرب الموت منهم، ويُحسبوا مقدسين، ولن يعبر بهم المهلك، فكيف لا يؤمنون بأن تناول جسد حمل الله ودمه يهبهم الحياة الأبدية.

القديس أغسطينوس

 القديس يوستين الشهيد

 القديس هيلاري أسقف بواتييه

إنه يعرف الكأس (وهي جزء من الخليقة) إنها دمه، التي منها يندى دمنا، والخبز (وهو أيضًا جزء من الخليقة) قد أقامه كجسده، الذي منه يهب نموًا لأجسادنا… لذلك فإن الكأس الممزوجة والخبز المكسور… يصير إفخارستيا دم المسيح وجسده، منه ينمو جسدنا ويستند، فكيف يمكن للهراطقة أن يؤكدوا أن الجسد عاجز عن تقبل عطية الله، التي هي الحياة الأبدية، والتي ينتعش (الجسم) بجسد الرب ودمه ويصير عضوًا له؟ فإن الطوباوي بولس يعلن أننا “أعضاء جسمه، من جسده وعظامه” (أف 5: 30).

لا يتحدث بهذه الكلمات عن الإنسان الروحي غير المنظور، فإن الروح ليس له عظم ولا الجسد، إنما يشير إلى ذلك التدبير الذي به صار الرب إنسانا حقًا يحوى جسمًا وأعصاب وعظام، ذاك الجسد الذي ينتعش بالكأس الذي هو دمه ويتقبل نموًا من الخبز الذي هو جسده…

هكذا أيضًا أجسامنا إذا تنتعش به فإنها إذ تودع في الأرض وتتحلل هناك ستقوم في الوقت المعين، يهبها لوغوس الله القيامة لمجد الله اللآب، هذا الذي يهب مجانًا المائت عدم الموت والفاسد عدم الفساد، إذ قوة الله تكمل في الضعف (2 كو 12:9)[66].

القديس ايريناؤس

القديس أمبروسيوس

من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية،

وأنا أقيمه في اليوم الأخير“. [54]

القديس كيرلس الكبير

يرى القديس كيرلس الكبير أن السيد المسيح وهبنا جسده واهب الحياة كخميرة تُلقى فينا، فيصير العجين كله مخمرًا. وكما تصير الخميرة في العجين كذلك العجين في الخميرة، هكذا يثبت المسيح فينا ونحن فيه. مرة أخرى يقدم لنا جسده ودمه كبذارٍ في أعماقنا [هكذا يخفي ربنا يسوع المسيح الحياة فينا من خلال جسده الخاص، ويغرسها كبذرة خلود، فيبيد كل الفساد الذي فينا].

القديس أغسطينوس

لأن جسدي مأكل حق،

ودمي مشرب حق“. [55]

 القديس يوحنا الذهبي الفم

لقد شربوا ماءً من صخرة أيضًا… وما المنفعة التي عادت على الذين شربوا لأنهم قد ماتوا. لم يكن ذاك الشراب أيضًا شرابًا حقيقيًا، بل الشراب الحق في الواقع هو دم المسيح الثمين، الذي يستأصل الفساد كله من جذوره، ويزيح الموت الذي سكن في جسم الإنسان.

القديس كيرلس الكبير

من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيّ وأنا فيه“. [56]

لهذا فإن الكنيسة أيضًا إذ تنظر نعمة عظيمة كهذه تحث أبناءها وأصدقاءها أن يأتوا معًا إلى الأسرار، قائلة: “كلوا يا أصدقاء، وأشربوا، نعم اشربوا يا اخوة بفيض” (نش 5:1). ما نأكله وما نشربه قد أوضحه الروح في موضع أخر قائلاً: “ذوقوا وانظروا فإن الرب صالح، طوبى للرجل الذي يصنع رجاءه فيه” (مز 34:8).

 في هذا السرّ المسيح إذ هو جسد المسيح، لذلك فهو ليس بالطعام الجسماني بل الروحي… ذاك الطعام كما يسجل النبي يقوي قلوبنا، وهذا الشراب يبهج قلب الإنسان (مز 104: 15)[70].

 القديس امبروسيوس

يعطي الحياة نفسه للقابلين للموت، كطعامٍ وشرابٍ، فيحثنا: “تعالوا كلوا جسدي وأشربوا الخمر الذي مزجته لكم. أعددت نفسي طعامًا. مزجت نفسي لمن يرغبونني. بإرادتي صرت جسدًا، صرت شريكًا لجسدكم، وأنا حبة الحنطة الواهبة الحياة، أنا هو خبز الحياة. اشربوا الخمر الذي مزجته لكم فإني مشرب الخلود، أنا الكرمة الحقيقية (يو15: 1)،1 اشربوا الخمر الذي مزجته لكم (أم 9:5)[71].

القديس كيرلس الكبير

لماذا إنكم ترون أيها السامعون المائدة ولا تأتون إلي الوليمة؟…

ما يقوله الرب يعرفه المؤمنون حسنًا. أما أنت أيها الموعوظ المدعو سامعًا فأنت أصم. فإنك تفتح أذني الجسم، متطلعا أنك تسمع الكلمات التي قيلت، لكن أذني قلبك مغلقتان، إذ لا تفهم ما يُقال…

هوذا عيد القيامة على الأبواب، قدم اسمك للعماد… لكي تفهم معني: “من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيَّ وأنا فيه” [٥٦][72].

هل تشمل هذه الكلمات (من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيّ وأنا فيه“) حتى أولئك الذين قال عنهم الرسول: “يأكلون ويشربون دينونة لأنفسهم” (١ كو ١١: ٢٩) عندما يأكلون هذا الجسد ويشربون هذا الدم؟ هل يهوذا الذي باع سيده وخانه (مع أن لوقا الإنجيلي يعلن بكل وضوح أنه أكل وشرب مع بقية تلاميذه سرّ جسده ودمه الأول بيدي الرب) هل ثبت في المسيح والمسيح فيه؟

هل كثيرون من الذين يتناولون ذاك الجسد ويشربون ذاك الدم في رياء أو الذين بعد تناولهم من الجسد والدم يرتدون يثبتون في المسيح والمسيح فيهم؟[73]

القديس أغسطينوس

كما أرسلني الآب الحي،

وأنا حي بالآب،

فمن يأكلني فهو يحيا بي“. [57]

جاء تعبير “أنا حي بالآب” في اليونانية تحمل معنى أن علة حياته الآب، فالابن لا يحيا وحده، لكن حياة الآب هي حياة الابن بلا انفصال.

القديس كيرلس الكبير

ليت هؤلاء الذين يعترضون علينا في هذه النقطة يخبروننا أولاً ما هي حياة الابن؟ هل هي حياة ممنوحة بواسطة الآب لمن هو في حاجة إلى حياة؟ بل كيف يمكن للابن أن يكون في حاجة أن يملك حياة وهو نفسه الحياة، إذ يقول: “أنا هو الطريق والحق والحياة”؟

حقًا حياته أبدية، وسلطانه أبدي. هل وُجد وقت كانت فيه الحياة لا تملك ذاتها؟

تأملوا ما قُرأ اليوم بخصوص الرب يسوع أنه “مات لأجلنا حتى إذا سهرنا أو نمنا نحيا جميعًا معه” (1 تس 10:5). ذاك الذي موته هو حياة، ألا يكون لاهوته حياة، متطلعين إلى لاهوته أنه حياة أبدية؟

لكن هل حياته بالحقيقة هي في سلطان الآب؟ لماذا؟

لقد أظهر أنه حتى حياته الجسدية ليست في سلطان آخر كما سُجل لنا: “أضع حياتي لكي آخذها. لا يأخذها إنسان مني، بل أنا أضعها بنفسي. لي سلطان أن أضعها، ولي سلطان أيضًا أن آخذها. هذه الوصية قبلتها من أبي”.

إذن كيف يُنظر إلى حياته الإلهية كمن تعتمد على سلطان آخر إن كانت حياته الجسدية لا تخضع لسلطان غير سلطانه؟ إنما يوجد سلطان آخر من أجل وحدة السلطان. وذلك كما أعطانا أن نفهم بأن وضع حياته تحقق بسلطانه وبكامل حرية إرادته، هكذا أيضًا يعلمنا أنه يضعها في طاعة لأمر أبيه، هنا الوحدة بين إرادته وإرادة أبيه[74].

القديس أمبروسيوس

هذا هو الخبز الذي نزل من السماء،

ليس كما أكل آباؤكم المن وماتوا،

من يأكل هذا الخبز فإنه يحيا إلى الأبد“. [58]

 القديس ايريناؤس

القديس كيرلس الكبير

من جهة هو حي بالآب الذي أرسله، إذ أخلى نفسه، وأطاع حتى موت الصليب” (في 2: 8)…

بقوله “أنا حيّ بالآب” يعني أنه من الآب، وليس الآب منه؛ يقال هذا دون مساس مساواته له. وأما بقوله: “من يأكلني فهو يحيا بي” لا يعني أن مساواته للآب كمساواتنا نحن له، وإنما يظهر نعمة الوسيط “هذا هو الخبز الذي نزل من السماء” [58].

بأكله نحيا، إذ لا نستطيع أن تكون لنا الحياة الأبدية من أنفسنا. يقول: “ليس كما أكل آباؤكم المن وماتوا، من يأكل هذا الخبز فإنه يحيا إلى الأبد” [58]. لأن هؤلاء الآباء موتى، ويُفهم منه أنهم لا يعيشوا إلى الأبد (بواسطة المن). أما الذين يتناولون المسيح فبالتأكيد يموتون وقتيًا لكنهم يحيون أبديًا، لأن المسيح هو حياة أبدية[76].

القديس أغسطينوس

قال هذا في المجمع وهو يعلم في كفرناحوم“. [59]

القديس كيرلس الكبير

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن السيد المسيح ألقي حديثه في المجمع لسببين: الأول لكي يقتنص أكبر عدد ممكن من أعدائه، والثاني أنه أراد تأكيد عدم معارضته للآب. فإن كانوا يخدمون الله في الهيكل، فهو لا يتحاشى الهيكل بل يحسبه بيت أبيه الذي يعلم فيه.

5. تذمر البعض

فقال كثيرون من تلاميذه إذ سمعوا:

إن هذا الكلام صعب،

من يقدر أن يسمعه؟” [60]

واضح أنه بجوار الاثني عشر تلميذًا كثيرون كانوا يصحبونه. استصعب بعضهم حديثه بخصوص شخصه كسماوي، وتقديم جسده ودمه حياة أبدية، فتركوه.

القديس كيرلس الكبير

القديس أغسطينوس

فعلم يسوع في نفسه أن تلاميذه يتذمرون على هذا،

فقال لهم أهذا يعثركم؟” [61]

بقوله هذا لتلاميذه أوضح لهم أنه السماوي العارف بالقلوب. وإذ لا يمكن أن يُخدع بالمظهر لا يخدع هو أيضًا غيره. بهذا أوضح لهم أنه الله وتعليمه هو الحق.

فعلم يسوع في نفسه أن تلاميذه يتذمرون على هذا” [٦١].علم أفكارهم الداخلية بسلطانه الإلهي، إذ لا يُخفى عنه شيء ما، وليس خلال إعلان إلهي كما كان يحدث مع بعض الأنبياء. إنه الكلمة الإلهي الذي يميز أفكار القلب (عب ٤: ١٢-١٣). لذا لاق بنا أن نقدس أفكارنا بروحه القدوس، وليس فقط كلماتنا المنطوق بها وتصرفاتنا الظاهرة.

فإن رأيتم ابن الإنسان صاعدًا إلى حيث كان أولا“. [62]

هنا يقدم تلميحًا لصعوده إلى السماء، لأن التمتع بجسد الرب ودمه يهبنا رفع القلب والذهن وكل الكيان الداخلي للتمتع بالشركة مع المسيح السماوي.

القديس يوحنا الذهبي الفم

القديس كيرلس الكبير

القديس أغسطينوس

الروح هو الذي يحيي،

أما الجسد فلا يفيد شيئًا،

الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة“. [63]

القديس كيرلس الكبير

كيف يمكن لهذا أن يعطينا جسده لنأكل؟ [52]. كل هذه الأمور جسدانية، بينما يوجد احتياج لفهمهما سرائريًا وروحيًا…

الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة” [63]، بمعنى إنها كلمات إلهية روحية، ليس فيها شيء جسدي، ولا تتبع نظام الطبيعة، بل هي متحررة من مثل هذه الضرورة، وهي فوق القوانين نزلت لأجل هذا العالم، ولها أيضًا معني آخر مختلف.

الآن كما في هذه العبارة قال “روح” عوضًا عن “روحي”، لذلك عندما يتحدث عن جسد لا يقصد أمورًا جسدية بل الاستماع الجسداني، مشيرًا في نفس الوقت إليهم، لأنهم دائمًا يطلبون الجسديات عندما كان يلزمهم أن يطلبوا الروحيات. فإن من يتقبلها جسدانيًا لا ينتفع شيئًا.

ماذا إذن هل جسده ليس بجسد؟ بالتأكيد هو، فكيف يقول إذن “الجسد لا ينفع شيئًا“؟ إنه لا يتحدث عن جسده، حاشا! بل عن الذين يقبلون كلماته بطريقة جسدانية. ماذا “يفهم جسدانيًا؟ التطلع إلي ما هو أمام عيوننا مجردًا دون تصور ما هو وراءه، هذا هو الفهم الجسداني. ولكن يليق بنا ألا نحكم هكذا بالنظر بل نتطلع إلي كل الأسرار بالعيون الداخلية. هذا هو “النظر روحيًا[79].

 القديس يوحنا الذهبي الفم

يتساءل القديس أغسطينوس: كيف يقول السيد المسيح: “أما الجسد فلا يفيد شيئًا [62]، بينما الكلمة صار جسدًا، وهو نفسه يقدم لنا جسده؟ يجيب على ذلك بأن الحديث هنا مثل القول بأن العلم (المعرفة) ينفخ، بينما المحبة تبني (1 كو 8: 1)، فالعلم بدون محبة ينفخ، لكن هذا لا ينفي أهمية العلم. هكذا الجسد بدون الروح لا ينفع شيئًا، فمن يقبل جسد المسيح بطريقة جسدانية كمن يأكل طعامًا ماديًا بحتًا، فتناوله لا يفيده شيئًا. [لتضف الروح إلى الجسد، كما يُضاف الحب إلى العلم. إن كان خلال الجسد ينفعنا المسيح جدًا فهل لا يفيد الجسد شيئًا؟ إنه بالجسد يعمل الروح لخلاصنا. كان الجسد إناءً، تأملوا ما يحويه، لا ما هو عليه (وحده). أليس أُرسل التلاميذ، فهل أجسادهم لم تنفع شيئًا؟ إن كانت أجساد الرسل نفعتنا فهل يمكن لجسد المسيح ألا ينفع شيئًا؟… لهذا “الروح هو الذي يحيي، أما الجسد فلا ينفع شيئًا“، وذلك حسبما يفهمون الجسد، وليس كما أعطي جسدي لكي يؤكل[80].]

القديس أغسطينوس

ولكن منكم قوم لا يؤمنون،

لأن يسوع من البدء علم من هم الذين لا يؤمنون،

ومن هو الذي يسلمه“. [64]

الحديث هنا خاص بيهوذا الذي سيسلمه وأيضا عن الذين تركوه، معلنًا أن ما سيحدث ليس بغريبٍ عنه، لأنه من البدء عالم بكل هذا. كما يكشف أن ما يحدث هو بكامل حريتهم. كل النفوس مكشوفة أمام السيد المسيح، فهو يعلم الأمناء المخلصين في إيمانهم، والمخادعين الذين يسلكون في رياء.

القديس أغسطينوس

فقال: لهذا قلت لكم

إنه لا يقدر أحد أن يأتي إليّ إن لم يعطَ من أبي“. [65]

لا يعني هذا أن الله يميز بين فريق وآخر، إنما من يطلب يجد، ومن يسأل عن الحق يسلمه الآب للحق ويثبته فيه فلا يسقط.

القديس كيرلس الكبير

هذا العنف (للجذب) يحدث للقلب لا للجسم. لماذا إذن تتعجبون؟ َآمنوا فتأتوا؛ حبوا فتُجذبوا.

لا تفترضوا هنا نوعًا من العنف القاسي أو الصعب بل هو عنف رقيق، إنه عذب، إنها العذوبة عينها هي التي تجتذبكم.

ما الذي يجتذب القطيع عندما يُظهر له العشب الطازج أثناء جوعه؟ مع هذا فإنني لا أتصور اجتذابًا جسديًا، بل هو ارتباط سريع بالرغبة (في الأكل).

بهذه الطريقة تأتون أنتم أيضًا إلى المسيح.

لا تفهموا ذلك انه رحلات طويلة، وإنما أينما تؤمنون تأتون. فإننا نأتي إلى ذاك الذي هو في كل موضع، نأتي إليه بالحب لا بالإبحار. فإنه في مثل هذه الرحلة أمواج التجارب المتنوعة هياجها شديد.

آمن بالمصلوب، فيستطيع إيمانك أن يصعد بك إلى الخشبة.

إنك لن تغرق، بل تحملك الخشبة. هكذا وسط أمواج هذا العالم كان يبحر ذاك القائل: “وأما أنا فحاشا لي أن أفتخر إلاَّ بصليب ربنا يسوع المسيح”[85]

القديس أغسطينوس

من هذا الوقت رجع كثيرون من تلاميذه إلى الوراء،

ولم يعودوا يمشون معه“. [66]

 القديس يوحنا الذهبي الفم

يرى القديس كيرلس الكبير أنه كما يهرب ضعيفو البصر من الشمس ويُسرون بالجلوس في الأماكن المظلمة، هكذا بالنسبة لمرضى الذهن يهربون من المسيح شمس البرّ، الذي يكشف السرّ الإلهي العظيم. هكذا أيضًا فعل شعب إسرائيل عندما عاد يشوع بعد تجسس أرض الموعد، فقد ثاروا عليه، ورجعوا إلى الوراء وخسروا مصاحبتهم ليشوع كي يعبروا إلى أرض الموعد.

القديس كيرلس الكبير

انظروا فإن هذا قد حدث مع الرب. لقد تكلم وفقد الكثيرين، وبقي معه قليلون. ومع هذا لم يضطرب، لأنه عرف من البداية من الذين يؤمنون ومن الذين لا يؤمنون. إن حدث هذا معنا فإننا ننزعج بمرارة. لنجد راحة في الرب ولنتكلم بوقار[87].

القديس أغسطينوس

6. إلى من نذهب؟

فقال يسوع للاثني عشر:

ألعلكم أنتم أيضًا تريدون أن تمضوا؟” [67]

جاء حديث السيد المسيح مع الاثني عشر متشددًا، فهو يطلب مؤمنين يثقون فيه، ويثبتون في الحق بكامل حرية إرادتهم دون ضغط أو حرج. لقد اختارهم من العالم، وسلمهم الأسرار الفائقة وقدم لهم إمكانياته وتلامسوا مع حياته الإلهية، وبقي لهم أن يقرروا بأنفسهم دون تردد، لأنهم قادمون على السير في طريق الصليب.

لم يقل شيئًا للذين رجعوا إلى الوراء، فإنه لا يُلزم أحدًا بالإيمان، لكنه استخدم ذلك لتثبيت إيمان تلاميذه.

القديس يوحنا الذهبي الفم

الشهيد كبريانوس

فأجابه سمعان بطرس:

يا رب إلى من نذهب،

كلام الحياة الأبدية عندك؟” [68]

امتاز القديس بطرس بغيرته المتقدة واستعداده الدائم، لذا أجاب في الحال ليس فقط عن نفسه، بل وعن التلاميذ. لقد أدرك أنهم لن يستطيعوا التمتع بالحياة الأبدية بدون المخلص المسيا. من يلتصق به لا يقدر الموت الأبدي ولا الجحيم ولا العذابات الأبدية أن تلحق به. لا يستطيع العالم ولا الجسد ولا الشيطان أن يقدموا حياة أبدية.

لم يقبل البعض حديث السيد المسيح فرجعوا عنه، بينما ازداد البعض اقترابًا إليه وأدركوا مع بطرس الرسول قوة كلمته واهبة الحياة الأبدية. يقدم حديثه رائحة حياة لحياة ورائحة موت لموت.

تحدث القديس بطرس باسم كل نفسٍ ملتصقة بالسيد المسيح، كما تحدثت راعوث مع حماتها: “لا تلحي عليَّ أن أتركك وارجع عنك لأنه حيثما ذهبت أذهب، وحيثما بتِ أبيت” (را ١: ١٦). وفي شجاعة رفض نحميا أن يترك موقع العمل ويختفي في الهيكل ويغلق أبوابه عليه لئلا يقتلوه، قائلاً: “أرجل مثلي يهرب؟” (نح ٦: ١١).

يا رب إلى من نذهب؟” [٦٨] إن ذهبنا إلى الآباء البطاركة يردونا إليك لأن إبراهيم رأى يومك فتهلل، وإن ذهبنا إلى موسى يقدم لنا الناموس قائدنا إليك. وإن ذهبنا إلى رؤساء الكهنة والكتبة والفريسيين نجلس عند أقدامهم، ماذا يقدمون سوى رياءهم وبغضهم للحق؟ من يعلن لنا الحق سواك؟ ومن يهبنا الحياة الأبدية إلاَّ أنت؟

القديس كيرلس الكبير

يرى القديس كيرلس الكبير أن ما حدث في أثناء رحلة بني إسرائيل في البرية كان رمزًا للحقيقة التي نعيشها الآن. فقد جاء في سفر العدد أن القائد الحقيقي للشعب هو الله نفسه. فقد ظهر على شكل سحابة تظللهم، متى ارتفعت عن الخيمة تحركت المحلة، ورحل الجميع، وحيث حلت السحابة ينصبون خيامهم (عد ٩: ١٥–١٨). هكذا نلتصق نحن بالرب، ولا نتحرك في موضع دون أمره [لا يمكننا أن نترك الرب، بل بالأحرى نجتهد أن نبقى معه روحيًا. هذا بالحق لائق بالأكثر بالقديسين.]

ونحن قد آمنا،

وعرفنا أنك أنت المسيح ابن الله الحي“. [69]

بحكمة روحية يقدم الرسول بطرس الإيمان عن المعرفة دون تجاهل لدور المعرفة. فقد آمنوا بابن الله الحي، وعرفوا أسراره بالالتصاق به والشركة معه.

القديس غريغوريوس النيسي

القديس كيرلس الكبير

ماذا آمنا وعرفنا؟ “أنت المسيح ابن اللَّه الحيّ” [69]، بمعنى أنت هو الحياة الأبدية عينها، تهبها في جسدك ودمك فقط اللذين هما أنت[90].

القديس أغسطينوس

أجابهم يسوع:

أليس إني أنا اخترتكم الاثني عشر وواحد منكم شيطان؟” [70]

صحح السيد المسيح حديث القديس بطرس معلنًا أنه وهو الذي اختارهم تلاميذ له يعلم أنه يوجد بينهم شخص قَبِلَ أن يكون أداة في يد الشيطان القتال منذ البدء، والذي لا يعرف الحب بل البغضة والخيانة.

لكنه في صلاحه ورحمته التي لا  يُنطق بها يختار إنسانًا يعرف أنه إلى حين هو صالح، لكنه سيتحول إلى الشر، مقدمًا له فرصة التغيير والتوبة. هذا ما يعنيه الرسول بقوله: “غير عالم أن لطف اللَّه إنما يقتادك إلى التوبة؛ ولكنك من أجل قساوتك وقلبك غير التائب تذخر لنفسك غضبًا في يوم الغضب واستعلان دينونة اللَّه العادلة، الذي سيجازي كل واحدٍ حسب أعماله” (رو4:2-6).

آدم لم يخطئ لأن اللَّه سبق فعرف أنه سيفعل هكذا. اللَّه بكونه اللَّه سبق فعرف ما سيفعله آدم بكامل حرية إرادته[91].

القديس جيروم

الشهيد كبريانوس

القديس كيرلس الكبير

القديس يوحنا الذهبي الفم

قال عن يهوذا سمعان الاسخريوطي،

لأن هذا كان مزمعًا أن يسلمه،

وهو واحد من الاثني عشر“. [71]

أكثر السيد المسيح من الإشارة إلى الخائن دون تلميح نحو اسمه لكي يعطي يهوذا فرصة للتوبة ومراجعة نفسه إن أراد.

يتساءل البعض: لو أن يهوذا تراجع فكيف كان يمكن تحقيق النبوات؟ وكيف يتم خلاصنا؟ حتمًا كان يقبله الله وكانت خطة الخلاص تتحقق بطريق آخر، وتمت النبوات في شخص آخر، لأنها لم تشر إلى اسمه.

القديس أغسطينوس

 

من وحي يو 6

جسدك العجيب يقدِّس جسدي!

 

   يقتربون إليك فلا يرجعون فارغين.

   أنت  مشبع الجياع، ومُروي الظمأى.

   أقدم لك أسفار موسى الخمسة وإنجيلي الذي وهبتني إيّاه.

   افتح عن بصيرتي لأجد في كتابك طعامًا يشبع الملايين!

   نعم هب لي مع شعبك أن أجلس على العشب.

   هب لنفوسنا الملتهبة بروحك أن تقود أجسادنا وتسيطر عليها.

   تشبعنا بفيض، فتمتلئ سلال العالم بغنى نعمتك!

   تروي نفوسنا، وتُشبع أجسادنا، 

   ولا تجعلنا في عوزٍ قط!

   تبقى نفوسنا شاكرة لك فأنت مصدر كل البركات!

   فلا نخجل من أن نطلب منك كل احتياجاتنا.

   اعترف لك يا صديق كل  البشرية،

   نفسي تئن من ثقل شهوات جسدي.

   ويحي أنا الشقي، من ينقذني من جسدي المائت؟

   بحبك صرت يا كلمة اللَّه جسدًا،

   وعشت في وسطنا كواحدٍ منّا!

   رأينا جسدك غير منفصل عن لاهوتك!

   جسدك المقدس مصدر كل قداسة!

   أتمتع بهما فأثبت فيك وأنت فيّ!

   أتطعم فيك يا أيها الكرمة الحقيقية،

   فلن تقدر الخطية بعد أن تأسرني،

   ولا الموت أن يسيطر عليّ،

   مادمت متمتعًا بالاتحاد بك!

   بهما انطلق من دائرة الفساد إلى عدم الفساد،

   وانتزع نسبي لآدم الترابي،

   فأصير ابنًا لك يا آدم الجديد!

   عِوض التراب أصير بالحق سماءً!

   كنت أود أن أتمتع بالمنّ في برية سيناء!

   لكن آبائي أكلوه وماتوا!

   الآن تهبني جسدك ودمك،

   أتناولهما فلن أموت إلى الأبد،

   لا بل أحيا معك، شريكًا في المجد حسب وعدك.

   من يقدر أن يدركها غير الذين تجتذبهم بحبك!

   رجع الكثيرون من وراءك،

   إذ استصعبوا نوالهم ما لا يمكن إدراكه.

   أما أنا فأصرخ مع تلميذك:

   إلى من نذهب وكلام الحياة الأبدية هو عندك؟

   أسمع صوتك العذب، فينسحب كل كياني بالحب إليك.

   أسمع صوتك، فيُشرق بهاؤك على أعماقي.

   أسمع صوتك، فتصمت أعماقي لتتمتع بعذوبة كلمتك!

   عجيبة هي كلماتك، وسخيّة هي وعودك!

   كلّك حب يا مخلص العالم!

[1] Homilies on St. John, Hom. 42:1.

[2] Homilies on St. John, Hom. 42:2.

[3] Homilies on St. John, Hom. 42:2.

[4] Concerning widows, 13: 79.

[5] Hom 42. PG 59:250.

[6] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 24:5.

[7] Sermons on N.T. Lessons, 80:1.

[8] Homilies on St. John, Hom. 42:2.

[9] Cf. Letter 47:14.

[10] Hom 42. PG 59:251-252.

[11] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 25:1-2.

[12] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 25:4.

[13] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 25:5.

[14] War, B. 3, c. 25.

[15] Lib. 5, c. 15.

[16] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 25:6.

[17] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 25:7.

[18] Homilies on St. John, Hom. 43:1.

[19] Cf. Homilies on St. John, Hom. 43:1.

[20] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 25:7.

[21] Homilies on St. John, Hom. 43:1.

[22] Homilies on St. John, Hom. 43:1.

[23] Homilies on St. John, Hom. 43:2.

[24] Homilies on St. John, Hom. 44:1.

[25] Homilies on St. John, Hom. 44:1.

[26] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 25:10.

[27] Homilies on St. John, Hom. 45:1.

[28] Hom 44.

[29] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 25:11.

[30] Hom 45. PG 59:262.

[31] Homilies on St. John, Hom. 45:1.

[32] Homilies on St. John, Hom. 45:1.

[33] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 25:12.

[34] Homilies on St. John, Hom. 45:1.

[35] cf Adam Clarke Commentary.

[36] Homilies on St. John, Hom. 45:2.

[37] Homilies on St. John, Hom. 45:1.

[38] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 25:14.

[39] Homilies on St. John, Hom. 45:2.

[40] Hom 45. PG 59:267.

[41] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 26:1

[42] Homilies on St. John, Hom. 45:2.

[43] Homilies on St. John, Hom. 46:1.

[44] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 26:1.

[45] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 26:2-4,

[46] Homilies on St. John, Hom. 46:1.

[47] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 26:7.

[48] تحدث القديس يوحنا الذهبي الفم فى مقاله عن “العناية الإلهية” ترجمة الأخت عايدة حنا فصل 3 عن “قصر حكمة السمائيين في التعرف على اللَّه كما هو ولا أحكامه بكمالها”. إذ يقول: “حقا أن اللَّه حتى بالنسبة لهذه الطغمات غير مدرك، ولا يقدرون على الدنو منه، لهذا يتنازل بالطريقة التي جاءت في الرؤيا، لأن اللَّه لا يحده مكان ولا يجلس على عرش… وأما جلوسه على عرش وإحاطته بالقوات السمائية إنما هو من قبل حبه لهم”.

[49] مقال 6: 6.

[50] مقال 7: 11.

[51] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 26:9.

[52] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 26:10.

[53] Homilies on St. John, Hom. 46:2.

[54] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 26:11.

[55] Sermons on N.T. Lessons, 62:5.

[56] The Liturgy of St. John Chrysostom, prayer ofter the Epiclesis.

[57] Ad. Eph. 20:1.

[58] Adv. Haer 4:38:1. PG 7:1105-6.

[59] Homilies on St. John, Hom. 46:3.

[60] Homilies on St. John, Hom. 46:4.

[61] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 26:13.

[62] Sermons on N.T. Lessons, 81:1.

[63] The Faith of Christians, First Apology, 65- 67.

[64] On The Trinity, Book 8:14.

[65] Adv. Haer. 4:18:5.

[66] Adv. Haer. 5:2:2,3.

[67] On the Christian Faith, Book 2:20:135.

[68] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 26:16.

[69] Hom 47. PG 59:275.

[70] On the Mysteries 9:55,58.

[71] Meditation on the Mystical Supper, Hom 10. PG 77, in Toal 3:155-157.

[72] Sermons on N.T. Lessons, 82:1.

[73] Sermons on N.T. Lessons, 21:17.

[74] Of the Christian Faith, 4:10:118-122.

[75]Adv. Haer. 4:17:5, 6.

[76] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 26:19-20.

[77] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 27:1.

[78] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 27: 3.

[79] Hom 47. PG 59:277-278.

[80] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 27:8.

[81] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 27:6.

[82] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 27:7.

[83] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 27:7.

[84] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 27:7.

[85] Sermons on N.T. Lessons, 81:2.

[86] Hom 47. PG 59:279.

[87] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 27:8.

[88] Letter 59 to Cornellius: 7.

[89] نشيد الأناشيد للقديس غريغوريوس أسقف نيصص، تعريب الدكتور جورج نوّار، عظة 5.

[90] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 27:9.

[91] Against the Pelagians, 3:6.

[92] Letter 59 to Cornellius: 7.

[93] Homilies on St. John, Hom. 47:4.

[94] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 27:10.

[95] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 27:11.

تفسير انجيل يوحنا 6 الأصحاح السادس – القمص تادرس يعقوب ملطي

Exit mobile version