تفسير انجيل يوحنا 4 الأصحاح الرابع – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير انجيل يوحنا 4 الأصحاح الرابع - القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير انجيل يوحنا 4 الأصحاح الرابع – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير انجيل يوحنا 4 الأصحاح الرابع – القمص تادرس يعقوب ملطي
الاصحاح الرابع
لقاء مع السامرية
رابح النفوس العجيب
كان اليهود يعتزون بالأرض، بكونها “أرض الموعد” التي وهبها الله لإبراهيم أب المؤمنين ميراثًا لأبنائه. وقد انقسمت في أيام السيد المسيح إلى ثلاثة أجزاء. اليهودية في الجنوب حيث توجد مدينة الله أورشليم والهيكل كأقدس موضع في العالم. والجليل أو جليل الأمم في الجنوب، وهي تضم كثير من الأمم الذين قبلوا الإيمان اليهودي. ثم السامرة وهي في المنتصف، حيث يوجد السامريون الذين يحملون عداوة شديدة متبادلة بينهم وبين اليهود. في هذا الاصحاح نجد السيد المسيح في الثلاث مناطق المذكورة.
جاء السيد المسيح إلى اليهودية بعد أن حفظ العيد في أورشليم (يو ٣: ٢٢)، والآن يتركها بعد أربعة أشهر من الحصاد [٣٥]؛ أي مكث فيها حوالي ستة أشهر.
في الطريق عبر السيد المسيح على السامرة، والتقى عند البئر بامرأة سامرية تزوجت قبلا بخمسة رجال والذي معها ليس برجلها. دخل معها السيد في حوار بالرغم من العداء بين اليهود والسامريين، فاجتذبها إلى خلاصها، بل وجعلها كارزة بالخلاص. اجتذبها فتمتعت بالمعرفة، وأدركت أنه المسيا الذي يخبرنا بكل شيء. وبعد دقائق تركت جرتها لتجتذب المدينة بأسرها ويؤمن كثيرون بالسيد المسيح. حقًا من يلتقي برابح النفوس العجيب يشاركه سماته، فيصير هو أيضًا رابحًا للنفوس.
خلال هذا اللقاء يحثنا السيد المسيح على العبادة الجديدة، حيث قدم لها ولأهل مدينتها ماءً حيًا يفيض في داخلهم. لقد أعلن السيد أنه عوض بئر يعقوب يقدم المياه التي من يشرب منها لا يعطش إلى الأبد، إذ تهب حياة جديدة أبدية [14]. وأن الساعة قد أتت لتتحقق العبادة على مستوى أعظم من جبل جرزيم أو الهيكل، حيث يسجد العابدون للآب بالروح والحق [23]. وأن له طعام جديد وهو أن يفعل مشيئة الذي أرسله [34]. وأن الحقول قد ابيضت للحصاد الجديد [35].وقد أبرز الإنجيلي أربع شخصيات هامة في الحوار: السيد المسيح، والمرأة السامرية، والتلاميذ، وأهل المدينة، بجانب راوي القصة. أما خاتمة اللقاء فهو: “نحن نعلم أن هذا هو بالحقيقة مخلص العالم” [42].
يلحق الإنجيلي هذا اللقاء بلقاء آخر بين السيد المسيح وخادم الملك الذي كان يتعجل السيد لينزل ويشفي ابنه قبل أن يموت، سمع الكلمة المحيية: “انزل، ابنك حي” فآمن وشفي ابنه. في اللقاء الأول تمتعت المرأة السامرية وكثيرون من أهل سوخار بالحياة الجديدة المقامة، وهو شعب شبه أممي، أو نصف أممي، هو ثمرة خلط بين اليهود والكلدانيين. وفي اللقاء الثاني تمتع خادم الملك وأهل بيته بالإيمان المحيي خلال شفاء الابن جسديًا، وهي أسرة غالبًا ما كانت أممية.
- خروجه من اليهودية ١ – ٣.
- مجيئه إلى السامرة ٤ – ٦.
- حوار مع السامرية ٧ – ٢٦.
- كرازة السامرية الناجحة ٢٧ – ٣٠.
- إيمان السامريين به ٣٩ – ٤٢.
- ذهابه إلى الجليل ٤٣ – ٤٦.
- شفاء ابن خادم الملك ٤٧ – ٥٤.
1. خروجه من اليهودية
“فلما علم الرب أن الفريسيين سمعوا
أن يسوع يصير ويعمد تلاميذ أكثر من يوحنا“. [1]
“مع أن يسوع نفسه لم يكن يعمد بل تلاميذه“. [2]
مع كثرة الأعداد التي نالت العماد على يدي يوحنا، إلاَّ أن للسيد المسيح جاذبيته، لذا جاءت أعداد أكبر لنوال العماد لا من الخادم (يوحنا) بل من سيده (يسوع). لقد ظن الفريسيون أنهم يستريحون من يوحنا بسجنه والخلاص منه، فوجدوا يسوع المسيح قد اجتذب أعدادًا أكبر، فامتلأوا حسدًا.
اهتم السيد المسيح أن يكرز ويجتذب الناس إلى الإيمان به، ثم يسلمهم لتلاميذه للعماد. ولعل السيد المسيح لم يقم بالعماد بنفسه لكي لا يفتخر هؤلاء المعمدون على غيرهم بأنهم نالوا العماد من يد المسيح مباشرة. وقد اهتم بعض الرسل كبولس الرسول بالكرازة تاركًا العماد لغيره (١ كو ١: ١٧)، ليس استخفافًا بسرّ العماد، وإنما لأن ممارسته أسهل من جذب النفوس بالكلمة. هذا وكل عماد مسيحي باسم الثالوث القدوس لا يتممه الكاهن من ذاته، بل هو من عمل المسيح نفسه، الذي يرسل روحه القدوس ليهب المُعمد روح التبني. قوة العماد لا تتوقف على صلاح خادم السرّ، لأن السيد المسيح وحده خادم السرّ الخفي.
- لقد عمَّد حقيقة إذ هو الذي كان يغسل، وهو لم يعمد لأنه ليس هو الذي كان يلمس. مارس التلاميذ خدمة الجسد، وهو الذي منح عون جلاله… لا يزال يسوع يعمد، مادمنا نعمد، يسوع يعمد. ليأتِ الإنسان إلى الخدمة التي أسفل بلا خوف، إذ له سيد في العلا. يمكن أن يقول أحد أن المسيح يعمد بالحقيقة بالروح لا بالجسد…
أزل الماء لا توجد معمودية، أزل الكلمة لا يوجد عماد (أف 5: 25-27)[1].
القديس أغسطينوس
“ترك اليهودية
ومضى أيضًا إلى الجليل“. [3]
كانت الجليل تابعة لهيرودس الذي ألقى القبض على يوحنا ووضعه في السجن، فظن أنه يقدر أن يضع النور تحت مكيال، ولم يدرك أن النور أقوى من الظلمة، وأنه وإن قتل يوحنا فرسالته لن تتحطم، إذ جاء السيد المسيح النور الحقيقي نفسه.
إذ بدأت ثورة الفريسيين ضده والرغبة في قتله، ترك السيد المسيح اليهودية منطلقًا نحو جليل الأمم، لأن ساعته لم تكن قد جاءت بعد (يو ٧: ٣٠). ولعله لم يكن بعد تلاميذه يحتملون تجارب قاسية، لذلك انطلق بهم من اليهودية. وفي نفس الوقت يقدم لنا درسًا عمليًا أنه متى اضطهدونا نذهب إلى مدينة أخرى. انطلق إلى الجليل لأن كثيرين مستعدون للإيمان به، ومحتاجون إلى اللقاء معه، والتمتع بكلماته وأعماله.
- وإن سألت: لِمَ ذهب المسيح إلى الجليل؟ أجبتك: لم يمضِ عن خوفٍ، لكنه مضى لينزع حسدهم، لأنه كان قادرًا أن يضبطهم إذا أتوا إليه، إلا أنه لم يرد أن يعمل هكذا دائمًا حتى لا يُنكر تدبير تجسده، فلو أنه أمسك به كثيرًا واختفي لشك الكثيرون في أمره (كإنسان)، لهذا السبب كان يدبر أكثر أفعاله أقرب إلي تدبير البشر. وإذ رغب في أن يؤمنوا به أنه الله، كان يريدهم أن يؤمنوا أنه الله وقد حمل جسدًا، لذلك حتى بعد قيامته قال لتلاميذه: “جسوني وانظروا، فإن الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لي” (لو 24: 39). ولهذا السبب أيضا انتهر بطرس عندما قال: “حاشاك، لا يكون لك هذا” (مت 16: 22). هكذا كان هذا الأمر موضوع اهتمامه. فإن هذا ليس بالأمر البسيط بالنسبة لتعاليم الكنيسة، بل يمثل نقطة رئيسية في الخلاص المقدم لنا. فيه كل الأمور تتحقق بنجاح، إذ بهذا انحلت رباطات الموت ودخلت ربوات البركات إلى حياتنا. هكذا أراد علي وجه الخصوص أن نؤمن بالتدبير (التجسد) كمصدر وينبوع بركات لا حصر لها لنا. ومع هذا بينما كان مهتمًا بناسوته لم يسمح باحتجاب لاهوته[2].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- قدم مثالاً للذين سيؤمنون به، أنه إن انسحب أي خادم للَّه من مكان عندما يرى هياج مضطهديه أو الذين يطلبون نفسه للشر لا يخطئ…؛ فإن السيد الصالح فعل هذا ليعلمنا، وليس لأنه كان خائفًا[3].
القديس أغسطينوس
3. مجيئه إلى السامرة
“وكان لا بد له أن يجتاز السامرة“. [4]
كان لابد أن يجتاز السامرة، لأنها تقع شمال اليهودية بين البحر العظيم والجليل والأردن، فلا يمكن العبور من أورشليم (اليهودية) إلى الجليل دون العبور على السامرة. هذه الرحلة تحتاج إلى ثلاثة أيام سفر.
السامريون من أصل يهودي سواء من جهة الدم أو الديانة؛ عندما سبى ملك أشور إسرائيل ترك الفقراء في الأرض. وقد حدث مزج بين الأصل اليهودي والجنسيات الأخرى خاصة الآشوريين، قام بتدبيره بعض ملوك أشور مثل شلمنصر (٢ مل ١٧)، كما حدث خلط بين الديانة اليهودية وعناصر غريبة وثنية. تمسك السامريون بأسفار موسى الخمسة وحدها. وبنوا هيكلاً على جبل جرزيم مقابل هيكل سليمان في أورشليم، وحسبوا شكيم وليست صهيون هي بيت أيل أو بيت الله. كانوا أيضًا يمارسون الأعياد اليهودية الكبرى: الفصح والبنطقستي والمظال ويوم الكفارة. إلى الآن يقدمون حملاً أو أكثر على جبل جرزيم في عيد الفصح.
كانت السامرة جزء لا يتجزأ من أرض فلسطين، يرى إدرزهايم أنها تبلغ 47 ميلاً من الشمال إلى الجنوب و40 ميلاً من الشرق إلى الغرب، تحدها اليهودية في الجنوب والأردن من الشرق وسهل شاردن من الغرب وسهل يزرعيل (الجليل) من الشمال، وقد استولت على أرض سبطي منسي وافرايم. وهي أجمل أراضي المنطقة وأخصبها، تضم العاصمة وهي مدينة السامرة (عاصمة إسرائيل) وبعض المدن القليلة.
جاء السيد المسيح ليلقي بذرة الإيمان الحي في تربة السامرة التي تقبلت الكلمة بالإيمان لا بالمعجزات خلال المرأة السامرية التي يروي لنا الإنجيلي قصة لقائها مع السيد. وهي قصة فريدة حيث يلتقي بها السيد، وهي شبه أممية، ويحاورها ليخرج بها من خصوصياتها المشينة إلى العمل الكرازي، فتجتذب مدينة بأسرها في لحظات قليلة وتقودهم إلى مخلص العالم.
أبرز السيد اهتمامه بالسامرة والسامريين، فمدح الأبرص السامري غريب الجنس، الذي وحده دون التسعة اليهود البرص عاد ليشكر السيد على تطهيره له (لو 17: 15-18). كما قدم لنا مثل السامري الصالح الذي تحرك قلبه بالحب العملي ليهتم بجريح يهودي أكثر من الكاهن اليهودي واللاوي (لو 10: 33-36). وأخيرا قبل صعوده وضع علي عنق الرسل الالتزام بالخدمة في السامرة: “تكونون لي شهودًا في أورشليم وفي كل اليهودية والسامرة وإلى أقصى الأرض” (أع 1: 18).
فتح الرب الباب للسامرة وكل الأمم، لذلك إذ حدث “اضطهاد عظيم على الكنيسة التي في أورشليم، فتشتت الجميع في كور اليهودية والسامرة ما عدا الرسل” (أع 8: 1). استقبلت السامرة بعض المؤمنين في العصر الرسولي المبكر. ويروى لنا لوقا البشير عن كرازة فيلبس الرسول في مدينة السامرة”،وكان الجموع يصغون بنفس واحدة إلى ما يقوله فيلبس عند استماعهم ونظرهم الآيات التي صنعها… فكان فرح عظيم في تلك المدينة” (أع 8: 5-8).
أرسل أيضا الرسل الذين في أورشليم إلى مؤمني السامرة بطرس ويوحنا ليصليا لهم لكي يقبلوا الروح القدس، فوضعا الأيدي عليهم وقبلوا الروح القدس (أع 8: 14- 17).
- لم يمضِ إلي الجليل بلا هدف، وإنما لينجز أمورًا هامة معينة بين السامريين… بحكمة خاصة به… مظهرًا أنه قام بهذا العمل العرضي أثناء الرحلة. وذلك كما فعل الرسل أيضا، فعندما اضطهدهم اليهود ذهبوا في الحال إلى الأمم، هكذا المسيح أيضا عندما طرده اليهود التقى بالسامريين، وهكذا فعل مع المرأة الفينيقية. هذا كله حدث حتى لا يكون لليهود عذر، ولا يمكنهم القول: “لقد تركنا وذهب إلى أهل الغرلة”. لقد وجد التلاميذ لأنفسهم عذرا، قائلين: “كان يجب أن تكلموا أنتم أولاً بكلمة الله، ولكن إذ دفعتموها عنكم وحًكمتم أنكم غير مستحقين للحياة الأبدية هوذا نتوجه إلى الأمم” (أع 13: 46). عندما طردوه، فتحوا بابا للأمم. لم يذهب إلي الأمم فورًا وإنما أثناء عبوره[4].
القديس يوحنا الذهبي الفم
“فأتى إلى مدينة من السامرة
يقال لها سوخار،
بقرب الضيعة التي وهبها يعقوب ليوسف ابنه“. [5]
سوخار: غالبًا هي شكيم عند سفح جبل الجرزيم، كثيرًا ما ورد ذكرها في العهد القديم. أُختتن أهلها على رجاء اتحادهم مع بني يعقوب كشعبٍ واحد، لكن قام شمعون ولاوي بقتلهم بعد الختان انتقامًا لاغتصاب شكيم أختهما دينا (تك ٣٤: ٢٤ الخ). في شكيم صار أبيمالك ملكًا؛ وفيها أقام يربعام عرشه. يرجح البعض أنها قرية “عسكر” على بعد نصف ميل شمالي بئر يعقوب. تبعد حوالي عشرة أميال من شيلوه، ٤٠ ميلاً من أورشليم و٥٢ من أريحا. يرى القديس جيروم أنها شكيم وليست سوخار، وكانت تدعى في أيامه نيابوليس Neapolis[5]. اسم المدينة الحالي هو نابلس Naplouse.
تدعي “سوخار” وتعني “سكري” لأن سكانها كانوا محبين للسكر. وقد اتهم النبي إشعياء (٣٨: ١، ٣؛ ٧ – ٨) أهل افرايم بهذه الجريمة، حيث تقع هذه المدينة في حدودهم.
ورد عن هذه المدينة:
- أول مدينة وقف فيها ابرام في رحلته من حاران إلى كنعان.
- ظهر فيها الله لابرام لأول مرة ليعده بأن يعطيه الأرض لنسله.
- فيها بنى ابرام أول مذبح للرب دعاه باسمه (تك ١٢: ٧).
اشترى يعقوب هذا الحقل من أبناء حمور والد شكيم بمائة قطعة من الفضة أو حملاً (تك ٣٣: ١٩)، وبنى مذبحًا ودعاه إيل إله إسرائيل. وقد ترك يعقوب هذا الحقل كميراثٍ خاصٍ بيوسف وأبنائه (تك ٤٨: ٢١ – ٢٢؛ يش ٢٤: ٣٢).
- لعلك تسأل: لِم دقق البشير في وصف المكان؟ حتى إذا سمعت المرأة قائلة: “ألعلك أعظم من أبينا يعقوب الذي أعطانا البئر؟” لا تستغرب قولها. فإن هذا هو المكان الذي فيه غضب لاوي وشمعون بسبب دينا، وصنعوا مذبحة عنيفة… لم يستخدم السامريون كل الأسفار المقدسة، بل قبلوا كتابات موسى وحدها مع القليل من كتب الأنبياء. لكنهم كانوا مشتاقين إلى إقحام أنفسهم في السلالة اليهودية الشريفة، فيعتزون بإبراهيم ويدعونه أباهم، إذ هم من الكلدانيين، ودعوا يعقوب أيضًا أباهم بكونه من نسله. أما اليهود فكانوا يمقتونهم بشدة كسائر الأمم. لذلك وبخوا المسيح بالقول: “أنت سامري وبك شيطان” (يو 8: 48)[6].
القديس يوحنا الذهبي الفم
“وكانت هناك بئر يعقوب،
فإذ كان يسوع قد تعب من السفر،
جلس هكذا على البئر،
وكان نحو الساعة السادسة“. [6]
لم يشر العهد القديم إلى هذه البئر، لكن بالتقليد توارث السامريون أن هذه البئر حفرها يعقوب أو استخدمها، فدُعيت بئر يعقوب. وقد صارت فيما بعد للاستعمال العام.
جاءت الكلمة اليونانية houtoos لتعني ليس جلوسًا على عرش أو أريكة أو كرسي وإنما على الأرض، على حجارة ملقاة بجوار البئر.
نحو الساعة السادسة، أي الظهيرة، تعب السيد المسيح بسبب السير في وسط حر الظهيرة. كإنسان حقيقي خضع للضعف الجسدي فتعب. في تواضع كان يمارس رحلاته مشيًا على قدميه، ولم يكن لديه مركبة ولا دابة يمتطيها. وإذ كان جسده رقيقًا لم يحتمل السير حتى الظهيرة بينما لم يجد التلاميذ صعوبة أن يدخلوا المدينة ليشتروا طعامًا. ليس عجيبًا أن نسمع عن السيد أنه تعب وعطش في وقت الظهيرة، وهناك تركه تلاميذه، فإن هذا المنظر يحمل صورة للسيد المسيح علي جبل الجلجثة حيث استراح علي الصليب في وقت الظهيرة وقد حمل أتعابنا وأعلن عطشه لكل نفس بشرية. هناك أيضا تركه تلاميذه هاربين، ليجتاز المعصرة وحده.
- جاء المسيح إلى هذا الموضع متجنبًا الحياة الرغدة، سالكًا الطريق المتعب مجاهدًا، لأنه لم يستعمل حميرًا في هذا السفر، لكنه مشى بقدميه كثيرا حتى تعب من سفره. وهذا الفعل يعلمنا إياه في كل موضع، أن نعمل مجاهدين لأجل احتياجاتنا دون الكماليات، فلهذا السبب قال: “للثعالب أوجرة، ولطيور السماء أوكار، وأما ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه” (مت 8: 20) ولأجل هذا الغرض كان يقيم أكثر أوقاته في الجبال والبراري، ليس في النهار فقط، بل وفي الليل أيضًا. هذا أعلنه داود حين قال: “من الجدول يشرب في الطريق” (مز 110: 7)، مظهرا بهذا طريقة حياته المجاهدة[7].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- إن أردت أن تطلب يسوع فلتترك الأحواض المكسورة، لأن المسيح اعتاد أن يجلس ليس بجوار بركة بل بجوار بئر.
هناك وجدته المرأة السامرية، هذه التي آمنت، وأرادت أن تسحب ماءً. وإن كان يجب أن تأتي في ساعة مبكرة صباحًا، مع ذلك فإن أتت في الساعة السادسة تجد يسوع متعبًا من رحلته.
إنه متعب بسببك، إذ طال وقت بحثه عنك. عدم إيمانك جعله متعبًا. ومع هذا فإنك إن أتيت لا يعترض قط.
إنه يسأل أن يشرب ذاك الذي في طريقه أن يعطي. لكنه يشرب لا من ماء جدول يفيض، بل يشرب خلاصك. إنه يشرب من تصرفاتك الصالحة، يشرب الكأس أي الآلام التي يكفر بها عن خطاياك، حتى إذ تشرب من دمه المقدس تروي عطش هذا العالم.
هكذا تمتع إبراهيم باللَّه بعد أن حفر بئرًا (تك 30:21). واسحق تقبّل زوجته وهو سائر بجوار البئر (تك 62:24)، التي كانت قادمة إليه كرمزٍ للكنيسة… رفقة وجدت من يبحث عنها عند البئر، والزانيات اغتسلن من الدم في مياه البركة (1 مل 36:22)[8].
القديس أمبروسيوس
- قوة المسيح خلقتك، وضعف المسيح (تعبه) جدد خلقتك. قوة المسيح أوجدتك حيث لم تكن؛ وضعف المسيح جعل ما يلزم دماره ألا يهلك. لقد خلقنا بقوته، وبحث عنا بضعفه[9].
- كضعيفٍ أنعش الضعفاء، كما تفعل الدجاجة بفراخها. إذ شبه نفسه بالدجاجة، يقول لأورشليم: “كم مرة أردت أن أجمع أولادكِ كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا” (مت 23: 37). وأنتم ترون يا اخوة كيف تصير الدجاجة ضعيفة مع فراخها. ليس بين الطيور عندما تصير أمًا تعرف أن تفعل هكذا… جناحاها يتدليان، وريشها يتساقط، وصوتها يصير أجش، وكل أعضائها تصير غائرة وهزيلة، وكما قلت حتى عندما تراها بدون فراخها تعرف أنها أم.
هكذا يسوع ضعيف ومتعب في رحلته. رحلته هي الجسد الذي أخذه من أجلنا. إذ كيف يكون لذاك الحال في كل مكان رحلة، هذا الذي ليس بغائبٍ في أي موضع؟…
كان يسوع ضعيفًا في الجسد، لكي لا تصير أنت ضعيفًا، بل في ضعفه تصير قويًا، لأن “ضعف اللَّه أقوى من الناس”[10].
- خُلقت المرأة، كما لو كانت قوية، من الضلع؛ وآدم، كمن هو ضعيف، من التراب. إنه المسيح والكنيسة، ضعفه هو قوتنا[11].
- لماذا نحو الساعة السادسة؟ لأنه تحقق ذلك في المرحلة السادسة من العالم. ففي الإنجيل تُحسب كل مرحلة ساعة. المرحلة الأولى من آدم إلى نوح، والثانية من نوح إلى إبراهيم، والثالثة من إبراهيم إلى داود، والرابعة من داود إلى السبي البابلي، والخامسة من السبي البابلي إلى معمودية يوحنا، ومنذ ذلك الوقت تبدأ المرحلة السادسة[12].
القديس أغسطينوس
- جلس هكذا، ماذا يعنى بهكذا”؟ ليس علي عرش ولا عل وسادة، ولكن ببساطة كما علي الأرض[13].
القديس يوحنا الذهبي الفم
3. حوار مع السامرية
“فجاءت امرأة من السامرة لتستقي ماء،
فقال لها يسوع:
اعطيني لأشرب“. [7]
مجيء المرأة عند الظهيرة بعد أن حمل الرجال والنساء مياههم إلى منازلهم يكشف عن موقف الشعب منها؛ إذ لم تكن لها الجرأة أن تواجه أحدًا، فجاءت في وسط الحرّ لتستقي ماء من البئر بمفردها. مسيحنا هو إله المرذولين والمطرودين، يخرج منهم أبناء الملكوت وكارزين بالحق.
واضح أن هذه المرأة السامرية كانت فقيرة،ليس لها خادم يُحضر لها ماءً من البئر، وأنها مكافحة ذهبت بنفسها إلى البئر لتأتي بالماء.
هذا اللقاء يذكرنا برفقة وراحيل وابنة يثرون كيف تزوجن خلال اللقاء عند البئر بزيجات مباركة باسحق ويعقوب وموسى. هكذا وجدت السامرية عريس نفسها عند بئر يعقوب. ونحن نجد مسيحنا عريسًا لنا عند جرن المعمودية.
بدأ السيد المسيح حواره معها بطلب متواضع: أن يشرب ماءً. ذاك الذي من أجلنا افتقر، الآن من أجلنا صار شحاذًا لكوب ماء، ليس لاحتياج شخصي، وإنما ليكشف لها عن احتياجها هي إليه،فتشرب وترتوي من ينابيع نعمته الغنية.
- ماذا تعني “أنا عطشان”؟ إني أتوق إلي إيمانك[14].
- ذاك الذي سأل أن يشرب كان في عطشٍ إلى إيمان المرأة نفسها[15].
القديس أغسطينوس
- هنا نتعلم من جهاده في رحلته، وعدم اهتمامه بالطعام، وكيف تطلع إليه كأمرٍ قليل الأهمية. وقد تعلم التلاميذ أن يستخدموا تدبيرًا مشابهًا، إذ لم يأخذوا معهم أية مئونة للطريق. يعلن ذلك إنجيلي آخر قائلاً بأنه عندما تحدث السيد معهم عن “خمير الفريسيين” (مت 16:6) ظنوا انه قال هذا لأنه لم يكن معهم خبز، وعندما قدمهم لنا وهم يقطفون سنابل القمح ويأكلوا (مت 12: 1)، وأيضا قال أن يسوع جاء إلي شجرة التين إذ كان جائعًا (مت 21: 18)، كل هذا أورده لا لشيء سوى أن يعلمنا بهذا أن نستخف بالبطن، ولا نحسب خدمتها أمرًا يقلق انتباهنا[16].
القديس يوحنا الذهبي الفم
“لأن تلاميذه كانوا قد مضوا إلى المدينة ليبتاعوا طعامًا“. [8]
- في هذا الموضع لم يظهر فقط جهاده، وإنما أظهر تحرره من الكبرياء، ليس فقط بكونه كان متعبًا ولا بجلوسه علي جانب الطريق، وإنما بتركه وحده وترك تلاميذه له. فكان في قدرته – إن أراد – ألا يرسلهم جميعًا، أو يترك البعض يذهب والآخرين يخدمونه. لكنه لم يرد هذا، فقد جعل تلاميذه يعتادون علي وطأ الكبرياء تحت أقدامهم.
وأي عجب إن كانوا يسلكون باعتدال في اشتياقاتهم ما داموا كانوا صيادي سمك وصانعي خيام؟” نعم كانوا صيادي سمك وصانعي خيام، لكنهم في لحظة صعدوا حتى إلى أعالي السماء، وصاروا أكثر كرامة من كل الملوك الأرضيين، إذ حسبوا أهلاً أن يصيروا في رفقة رب العالم، وأن يتبعوا ذاك الذي يتطلع الكل إليه برعدة. وأنتم تعلمون هذا أي أن الذين كانوا على وجه الخصوص من أصل وضيع عندما ينالون امتيازًا بسهولة شديدة ينتفخون في غباوة، إذ يجهلون تمامًا كيف يحتملون كرامتهم التي نالوها فجأة. لهذا فلكي يحفظهم في تواضعهم الحاضر كان دائمًا يعلمهم أن يكونوا معتدلين، ولا ينتظروا أحدا يستقبلهم (بكرامة)[17].
القديس يوحنا الذهبي الفم
بينما مضى التلاميذ إلى المدينة ليشتروا طعامًا استغل السيد هذه الفرصة ليدخل في حوارٍ مع المرأة السامرية، ويسحبها هي وأهل المدينة لخلاصهم. هذا هو طعامه الحقيقي أن يتمم مشيئة الآب، وهي خلاص النفوس.
مسيحنا الذي يهتم بالحديث مع الجماهير يهتم أيضًا أن يلتقي مع شخص واحد، امرأة فقيرة غريبة الجنس وسامرية تحمل عداءً لليهود.
- ذهبوا ليبتاعوا أطعمة، لأنهم لم يكونوا مثلنا نحن الذين عندما ننهض من أسرتنا نهتم قبل اهتماماتنا كلها بهذا الأمر، وهو أن نستدعى طباخين ومصلحي أطعمتنا وخدام موائدنا ونوصيهم بحرص كثير على إصلاح مأكولاتنا، وبعد ذلك نمارس أشغالنا العادية كلها، ونهتم بها قبل الأشغال الروحية، لأنه كان واجبًا علينا على خلاف ذلك أن نجعل اهتمامنا بالأشغال الروحانية كثيرًا، وبعد أن نتممها حينئذ نمارس أيضًا الأشغال العادية.
القديس يوحنا الذهبي الفم
“فقالت له المرأة السامرية:
كيف تطلب مني لتشرب وأنت يهودي وأنا امرأة سامرية؟
لأن اليهود لا يعاملون السامريين“. [9]
لقد عرفت السامرية أنه يهودي من ملبسه المختلف عن السامريين أو من لهجة حديثه. وما شغل قلبها ليس أن تعطيه الطلب أو ترفضه، وإنما لهجة حديثه التي لم تحمل عداءً مع أن السامريين كانوا خصومًا لليهود (عز ٤: ١). وهي تعلم ما يحمله اليهود من حقدٍ وضغينة ضد السامريين، حيث يتطلعون إليهم أن لا نصيب لهم في القيامة، وأنهم في نظرهم تحت اللعنة ومحرومون من شعب الله. وأنه لا يجوز أن يأكل يهودي طعامًا لسامري لئلا يتنجس كمن يأكل لحم خنزير. أما السيد المسيح فلم ينشغل بالعداوة التي بين اليهود والسامريين، إنما ما يشغله جذبه للنفس لتتمتع بخلاصه.
دُهشت المرأة السامرية لموقف السيد المسيح، فإنه ما كان يمكن ليهودي أن يطلب شيئًا من سامري، مهما بلغ احتياجه، أو واجه من متاعب ومصاعب، دون أي استثناء. كما دُهشت كيف يتوقع من سامرية أن تعطيه طلبه بينما يحمل السامريون عداءً لليهود.
لم يكن هناك تعامل بين اليهود والسامريين سواء من جانب العبادة أو التجارة، بل ولا يجوز لليهودي أن يستعير إناءً من سامري أو يشاركه نفس الطعام.
- ومن أية جهة ظنت أنه يهودى؟ لعلها ظنت ذلك من ملبسه ومن لهجة كلامه.
تأمل كيف كانت المرأة السامرية مؤدبة، لأنها لم تقل إن السامريين لا يختلطون باليهود، لكنها قالت لا “لأن اليهود لا يعاملون السامريين“[18].
القديس يوحنا الذهبي الفم
لقد تدرجت في معرفة السيد المسيح بفضل حديثه وإعلاناته التدريجية.
في بداية حديثه معها حسبته يهوديًا لا يخالط السامريين [9].
دعته: “يا سيد” [11].
توقعت أنه أعظم من يعقوب أب الأسباط [12].
آمنت أنه واهب المياه الحية [15].
أنه نبي [19].
توقعت أن يكون المسيا المنتظر [25]، فقال لها: “أنا الذي أكلمك هو” [26].
“أجاب يسوع وقال لها:
لو كنتِ تعلمين عطية الله،
ومن هو الذي يقول لك اعطيني لأشرب،
لطلبت أنت منه،
فأعطاك ماءً حيًا“. [10]
سحب السيد المسيح هذه المرأة إلى طريق الخلاص، لا بالهجوم على العبادة في السامرة، بكونها منشقة، وأنها قد شوهت الإيمان والعبادة، وإنما بسحب فكرها من الانشغال بالعداوة القائمة بين الفريقين إلى الدخول إلى أعماق نفسها لتعطش إلى الماء الحي، وتدرك حاجتها إلى المخلص. الآن ليس الوقت للنزاع، بل للجلوس الهادئ مع النفس والتمتع بعطايا الله المجانية. فقد حان وقت افتقاد الله للعالم كله بإرسال المسيّا المخلص. شهوة قلب السيد المسيح أن نعرفه، فنطلبه ونقتنيه، فنرتوي منه أبديًا!
ما تحتاج إليه هو المعرفة الصادقة: “لو كنتِ تعلمين عطية الله“، “ومن هو الذي يقول لكِ…”. معرفة عطية الله لها، ومعرفة المتحدث معها، لأنه هو العطية العظمى! هو كنز الحب الإلهي الفائق، المروي للنفس الظمأ. إنه ليس قرضًا نستدين به لنرده، بل عطية مجانية، يُسر الآب أن يقدمها للبشرية.
لم تكن تدرك عطية الله الذي أرسل ابنه الوحيد ليبذل ذاته عن العالم (يو ٣: ١٦)، ولا عطية الروح القدس الذي يفيض في النفس كنهرٍ يرويها ويروي آخرين، ويقدم الروح مواهب روحية لا حصر لها لخلاص العالم. هذه العطايا إلهية مجانية قدمها الله من أجل مبادرته بالحب لنا ونحن بعد أعداء. تبقى هذه العطية مصدر معرفة إلهية مستمرة حتى في الحياة الأبدية: “وأراني نهرًا صافيًا من ماء الحياة، لامعًا كبلورٍ خارجًا من عرش الله والخروف” (رؤ 22: 1).
- عطية اللَّه هو الروح القدس. لكنه حتى ذلك الحين كان يتحدث مع المرأة بحرصٍ، ويدخل إلى قلبها تدريجيًا[19].
القديس أغسطينوس
“الماء الحي” هو تعبير شائع لينابيع المياه التي تفيض بلا توقف، يقابله “الماء الميت” الراكد في البرك والمستنقعات ومخازن المياه حيث تتعرض للتلوث. يشير الماء الحي إلى الروح القدس الذي يروي النفس ويحول قفرها إلى فردوسٍ مثمرٍ، ويغسل ما في النفس من دنس.
- أوضح المسيح هنا أن المرأة (السامرية) مستحقة أن تسمع، وليست أهلاً للإعراض عنها، وبعد ذلك كشف لها عن ذاته. فإنها ما أن تعلمت من هو، للحال استمعت إليه وأصغت، الأمر الذي لا يُقال عن اليهود، لأنهم إذ تعلموا لم يسألوه شيئًا، ولا رغبوا في الانتفاع بأمرٍ ما منه، بل شتموه وطردوه[20].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- هذا هو الماء الذي عطش إليه داود. إذ تشتاق الإيل إلى ينبوع تلك المياه (مز 3:42)، ولا تعطش إلى سم الحيَّات. لأن مياه نعمة الروح حيّة، تطهر الأجزاء الداخلية للعقل وتغسل كل خطية للنفس، وتطهر عصيان الأخطاء الخفيَّة[21].
القديس أمبروسيوس
“لطلبتِ“: المعرفة الصادقة تدفعنا نحو الصلاة والطلبة. فالله من جانبه مستعد أن يهب، لكنه ينتظر أن نعلن رغبتنا في الأخذ، نطلب فنأخذ.
“قالت له المرأة:
يا سيد لا دلو لك والبئر عميقة،
فمن أين لك الماء الحي؟” [11]
يرى Maundiell أن عمق البئر كان حوالي ٣٥ ياردة[22]، استخراج الماء يتطلب دلوًا وحبلاً طويلاً لم يكن مع السيد ولا مع تلاميذه. بدا لها ما يقوله السيد ليس بمنطقي، لأنه كان يحدثها عن الروحيات بينما كانت هي تفكر بطريقة مادية. ومع هذا فمن لهجة حديثه شعرت بالالتزام أن تحترمه وتوقره، فبدأت تقول: “يا سيد“.
اعتزت السامرية بالبئر التي حفرتها يد بشرية، ولم تدرك أنها أمام الينبوع الإلهي الحي. فقد سبق فعاتب الرب شعبه قائلا لهم: “شعبي عمل شرين، تركوني أنا ينبوع المياه الحية، لينقروا لأنفسهم آبارًا آبارًا مشققة لا تضبط ماء” (إر 2: 13).
- انظر كيف أجابت المرأة المسيح بأوفر دعة قائلة: “يا سيد لا دلو لك والبئر عميقة فمن أين لك الماء الحي؟” لأنها لم تدعه هنا سيدًا على بسيط ذات التسمية، لكنها كرمته كثيرًا. والبرهان على أنها قالت هذه الأقوال مكرمة إياه، أنها ولم تضحك عليه، لكنها تحيرت بسرعة. وإن كانت لم تفهم في الحال كل ما يجب أن تفهمه عن المسيح فلا تتعجب، لأنه ولا نيقوديموس فهم معنى كلام المسيح.
تأمل ما قاله نيقوديموس: “كيف يمكن الإنسان أن يولد وهو شيخ؟ ألعله يقدر أن يدخل بطن أمه ثانية ويولد؟” (يو 3: 4)، أما هذه المرأة فكانت أوفر توقيرًا من نيقوديموس، إذ قالت: يا سيد لا دلو لك والبئر عميقة، فمن أين لك الماء الحي؟” كان يمكنها أن تقول قولاً على سبيل التهجم: “لو كنت تمتلك هذا الماء الحي لما طلبت مني ماءً، بل تعطيه لنفسك أولاً، فأنت الآن إنما تفتخر بذلك”. إلا أنها لم تنطق بلفظ من هذه الألفاظ، لكنها أجابت بوداعة كثيرة في ابتداء الخطاب.
القديس يوحنا الذهبي الفم
“ألعلك أعظم من أبينا يعقوب الذي أعطانا البئر،
وشرب منها هو وبنوه ومواشيه؟” [12]
كان السامريون يحسبون أنفسهم أبناء يعقوب، لأنهم أسباط إسرائيل العشرة التي انشقت أيام يربعام، لكنهم كما رأينا صاروا يحملون دمًا غريبًا من أمم مختلفة.
- كأن المرأة السامرية تقول للمسيح: “إن أبانا يعقوب قد أعطانا هذه البئر ولم يستعمل بئرًا غيرها، لأنه هو والمنسوبين إليه شربوا من هذه البئر، فما كانوا يشربون منها لو كانوا يمتلكون أفضل منها، فما تقدر أنت أن تعطينا أفضل من هذه البئر ومن هذا الماء. ولا يمكنك أن تمتلك بئرًا أخرى أفضل من هذه. إن لم تعترف بأنك أعظم من أبينا يعقوب، فمن أين تمتلك الماء الذي تعدنا أن تعطيه لنا؟
القديس يوحنا الذهبي الفم
حسن أن تعتز السامرية ببئر أبيها يعقوب، لكنها لم تعرف كيف تعبر خلاله إلي إله يعقوب واهب المياه الحية. كان يليق بها أن تنطلق مع يعقوب أبيها لترى سلم يعقوب الصاعد من رأسه إلى السماء، فتتهلل بالصليب فاتح أبواب السماء للعالم كله! وحسن أن تناقش السجود لله: هل على جبل أورشليم أم على جبل جرزيم لكي تعبر مع رجال العهد القديم القديسين إلى ما وراء الجبال، فتتمتع بالسجود لله بالروح والحق. ما أعظمها وهى تتلمس فيه أنه المسيا الذي تترقبه الأجيال ليخبرهم بكل شيء، فتأهلت أن يعلن لها: “أنا الذي أكلمك هو“. بلغت قمة الإعلان الإلهي بفم المخلص نفسه، ففاقت الكثيرين.
“أجاب يسوع وقال لها:
كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضًا“. [13]
- لم يجبها: “نعم، أنا أعظم من يعقوب”، لكنه بلغ هذا الهدف بحديثه معها… راغبًا في إيضاح طبيعة الأمور، ومدى الفرق الشاسع والاختلاف الكامل بين شخصي المعطيين[23].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- الماء الذي في البئر هو ملذات العالم في أعماقه المظلمة، من هذا يسحب البشر بأوانيهم التي للشهوة… لتحسبوا الشهوة هي الدلو، واللذة هي الماء الذي من عمق البئر. عندما يحصل شخص على لذة هذا العالم، فإن هذا بالنسبة له طعام وشراب وحمَّام وأبهة وسلاح، فهل يمكنه ألا يعطش مرة أخرى؟[24]
القديس أغسطينوس
“ولكن من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا،
فلن يعطش إلى الأبد،
بل الماء الذي أعطيه، يصير فيه ينبوع ماء، ينبع إلى حياة أبدية“. [14]
لم يوبخها السيد المسيح لأنها ظنت يعقوب أعظم منه، وماء البئر أفضل من مائه الحي، بل في لطفٍ شديٍ بدأ يكشف لها عن الماء الحي، مقارنًا إياه بماء بئر يعقوب. أوضح أنه لا وجه للمقارنة بين ماء يروي الجسد إلى حين، وماء يسند النفس أبديًا ويرويها، فلا تعتاز إلى شيء.
الماء الذي يقدمه السيد له ميزات خاصة:
هو عطية إلهية “أنا أعطية“، لذا يهب فرحًا إلهيًا: “فتستقون مياهًا بفرحٍ من ينابيع الخلاص” (إش 12: 3).
يهب حياة أبدية بلا احتياج، “لن يعطش إلى الأبد“. “من يقبل إلي فلا يجوع، ومن يؤمن بي فلا يعطش أبدا” (يو 6: 35).
ماء داخلي في النفس “يصير فيه“. لذا يناجيها واهب المياه الحية، قائلا: “أختي العروس جنة مغلقة، عين مقفلة، ينبوع مختوم” (نش 4: 12).
يحول الأعماق إلى ينبوع فياض على الغير. “من آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حي” (يو 7: 38).
يسمي السيد المسيح الروح نارًا، مشيرًا إلى النعمة التي تنشط وتدفئ، قادرة على محو الخطايا والتطهير منها، كما أنه في تعبيره عنه بالماء يعلن عن قدرته على التنظيف وإزالة الأوساخ، والانتعاش العظيم الذي تحدثه في العقول التي تقبل الروح.
اشتهى الأنبياء هذه المياه الحية، حيث يسمعون الدعوة المقدمة للكل: “أيها العطاش جميعًا، هلموا إلى المياه” (إش 55: 1). كما قيل: “لا يجوعون ولا يعطشون، ولا يضربهم حر ولا شمس، لأن الذي يرحمهم يهديهم، وإلى ينابيع المياه يوردهم” (إش 49: 10). كما قيل في سفر الرؤيا: “لن يجوعوا بعد، ولن يعطشوا بعد، ولا تقع عليهم الشمس، ولا شيء من الحر، لأن الخروف في وسط العرش يرعاهم ويقتادهم إلى ينابيع ماء حية” (رؤ 7: 16).
- يعني بهذا مياه المعمودية المخلصة، والتي بالحق قدمت مرة ولن تُعاد ثانية[25].
القديس كبريانوس
- يسمي الكتاب المقدس نعمة الروح القدس أحيانًا نارًا وأحيانًا ماءً، مظهرًا أن هذه الأسماء لا تصف جوهره بل عمله. لأن الروح القدس غير منظور ولا مركب، ولا يمكن أن يتألف من موادٍ مختلفةٍ. لقد أعلن يوحنا (المعمدان) ذلك قائلاً: “هو سيعمدكم بالروح القدس ونار” (مت ١٣: ١١). أما الآخر (يوحنا الإنجيلي) فيقول بلسان السيد المسيح: “من آمن بي، كما قال الكتاب، تجري من بطنه أنهار ماء حي” (يو ٧: ٣٨). قال هكذا عن الروح الذي كان المؤمنون مزمعين أن يقبلوه. وفي حديثه عن السامرية دعا الروح ماء “لأن من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش إلى الأبد“[26].
- إذ سمع المسيح قول المرأة له: “فمن أين لك الماء الحي، ألعلك أعظم من أبينا يعقوب الذي أعطانا البئر؟” [11، 12] ترك يعقوب وخاطبها في وصف الماء قائلاً: “كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضًا“.
سمعت المرأة من قبل هذا القول: “الماء الحي” لكنها لم تفهم، لذلك أوضح لها المسيح هذا المعنى أفضل إيضاح فقال: “لكن من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا، فلن يعطش إلى الأبد”، لأن هذا أعظم سموًا من الماء بكثير، فكما أن من يملك بئرًا موضوعة داخل منزله لا يعاني من العطش في وقت من الأوقات، كذلك من يمتلك هذا الماء لن يعطش في وقت من زمانه.
القديس يوحنا الذهبي الفم
- واضح أن هذه البئر هي نعمة الروح، جدول يفيض من ينبوع حيّ. فالروح القدس هو أيضًا ينبوع الحياة الأبدية…
حسنة هي هذه المياه، نعمة الروح القدس… ليتها تفيض فيَّ، ليت هذه التي تعطي الحياة الأبدية تفيض عليّ.
ليفض الينبوع علينا، ولا يفيض بعيدًا عنا. إذ تقول الحكمة: “اشرب مياهًا من أوانيك، ومن ينابيع آباؤك، ولتفض مياهك في شوارعك” (راجع أم 16:5-17). كيف احتفظ بآنيتي حتى لا يتسلل إليها شقوق الخطية، فلا تتسرب منها مياه الحياة الأبدية؟
علمنا أيها الرب يسوع، علَّمنا كما علِّمت رسلك قائلاً: “لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض حيث لا يفسد السوس ولا صدأ، وحيث لا ينقب سارقون ولا يسرقون” (مت 19:6-20)[27].
القديس أمبروسيوس
- حينما يتحقق الوعد للشخص المطَّوب لأنه يجوع ويعطش إلى البرً (مت ٥: ٦)، فإنه يشرب من الماء الذي يعطيه، فيكون له ينبوع ماء يثب (يفيض) إلى حياة أبدية، يقوم فيه[28].
- يليق أن يلاحظ الشخص بأن الوعد بالماء لم يُعط للمرأة السامرية عندما سألته ذلك، كما لو أن يسوع يريد ألا يقدمه إلاَّ من الينبوع، إذ قال لها: “اذهبي وأدعِ زوجك وتعالي” [١٦][29].
العلامة أوريجينوس
إن كان العلامة أوريجينوس قد كرس طاقاته وقدراته منذ طفولته للتمتع بالكتاب المقدس وشرحه لكنه ميَّز بين مياه الكتاب المقدس والمياه التي يقدمها رب المجد يسوع. فإن الكتاب يفيض بالأسرار الإلهية على النفس لنتمتع بالشركة مع الثالوث القدوس، لكن تبقى بعد الأسرار يحتفظ بها الرب يسوع ليقدمها سرًا للنفس المتحدة معه. إنه العريس السماوي الذي يفيض بأسراره على عروسه في مجال العرس.
- حقًا إن الكتاب المقدس لا يحوي بعض جوانب من أسرار الله التي هي بالأكثر ربانية وإلهية، والتي لا تحوي صوتًا بشريًا ولسانُا إنسانيًا، وذلك كما يُفهم من المعاني المعنية: “وأشياء أخر كثيرة أيضًا صنعها يسوع، إن كتبت واحدة واحدة فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة” (راجع يو ٢١: ٢٥).
لقد مُنع يوحنا من الكتابة عندما بدأ يسجل كل ما قالته السبعة رعود (رؤ ١٠: ٤). بولس أيضًا يقول أنه سمع كلمات لا يسوغ النطق بها (٢ كو ١٢: ٤). هذه الكلمات لم يكن مسموح لأحدٍ أن يعلنها…
أظن أن كل الكتب المقدسة حتى حين تُدرك بكل دقة ليست إلاَّ مدخلاً للمبادئ ومقدمة مختصرة لكل المعرفة… ماء يسوع هو ذاك الذي يفوق ما هو مكتوب (١ كو ٤: ٦).
الآن غير مسموح للكل أن يمتحن الأمور التي تفوق ما هو مكتوب (١ كو ٤: ٦)… “لا تطلبوا لكم الأمور الفائقة العلو، ولا تبحثوا ما فوق قدرتكم” (راجع ابن سيراخ ٣: ٢١)…
أيضًا الأمور التي لم تدخل قلب إنسان هي أعظم من بئر يعقوب. تُعلن هذه الأمور من ينبوع ماء يفيض (يثب) إلى حياة أبدية للذين لم يعد بعد لهم قلب إنسان، لكنهم قادرون على القول “لنا فكر المسيح” (١ كو ٢: ١٦). “لنعرف الأشياء الموهوبة لنا من الله، التي نتكلم بها أيضًا، لا بأقوال تُعلمها حكمة إنسانية، بل بما يعلمه الروح القدس” (١ كو ٢: ١٢–١٣)…
الكتب المقدسة إذن هي مقدمات، تُدعى بئر يعقوب. إذ تُدرك بدقة للحال يلتزم الشخص أن يصعد منها إلى يسوع، لكي يتمتع بسخاء بينبوعٍ يثب إلى حياة أبدية.
لكن ليس كل أحد يسحب ماءً من بئر يعقوب بنفس الطريقة. فإن كان يعقوب وبنوه ومواشيه شربوا منها (يو ٤: ١٢)، والمرأة السامرية أيضًا جاءت إليها وشربت ماءً وعطشت، لكن ربما شرب يعقوب وبنوه بطريقة ما بمعرفة كاملة، وشربت مواشيه بطريقة أخرى في بساطة مثل الحيوانات، والسامرية شربت بطريقة أخرى غير يعقوب وبنيه ومواشيه. فالبعض حكماء يشربون من الكتب المقدسة مثل يعقوب وبنيه. آخرون أكثر بساطة وبراءة يُدعون “قطيع المسيح” (يو ١٠: ٢٦) يشربون مثل مواشي يعقوب. وآخرون يسيئون فهم الكتب المقدسة ويستخدمون أمورًا غير لائقة ينسبونها للنصوص التي يفهمونها من الكتب المقدسة، هؤلاء يشربون مثل المرأة السامرية قبل إيمانها بيسوع[30].
العلامة أوريجينوس
- يوجد ماء حي، ينطق فيّ قائلاً: “تعال إلى الآب”[31].
القديس أغناطيوس الأنطاكي
- بما أن طبيعتنا تحولت إلى حجارة بواسطة عبادة الأصنام، وأصبحت مُجمدة في الوثنية الباردة، وغير القادرة على التقدم، بزغت شمس البرّ (ملا 2:4). في هذا الشتاء القارس تحقق ظهور الربيع. وأزالت رياح الجنوب الدافئة آثار البرد، وأدخلت أشعة الشمس المشرقة الدفء في كل الأرض. لذلك، فالجنس البشرى الذي كان قد تحول إلى حجارة بواسطة البرد، قد يشمله الدفء بواسطة الروح القدس أشعة كلمة الله، وهكذا يصبح مرة أخرى مثل المياه التي تهب الحياة الأبدية (يو 14:4). “المحول الصخرة إلى غدران مياه، الصّوان إلى ينابيع مياه” (مز 8:114)[32].
القديس غريغوريوس النيسي
“قالت له المرأة:
يا سيد اعطني هذا الماء لكي لا أعطش،
ولا آتي إلى هنا لأستقي“. [15]
- لما قال المسيح للمرأة: “الماء الذي أعطيه يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية” قالت المرأة في الحال: “يا سيد أعطني هذا الماء“. أرأيت كيف أن المرأة صعدت قليلاً قليلاً إلى التعاليم العلوية؟ لأنها في الأول ظنت أن المسيح شخص يهودي منحرف عن شريعته… ولما سمعت المرأة “ماء حيًا” [14] ظنت أن هذا القول قد قيل في وصف ماء محسوس، وصدقت أن ذلك الماء يقدر أن يبطل العطش، ولم تعرف بعد ما هو هذا الماء، لكنها تحيرت أيضًا فظنت أنه أعلى قدرًا من المياه المحسوسة، وقالت: “أعطني هذا الماء لكي لا أعطش، ولا آتي إلى هنا لأستقي”.
أرأيت كيف أن المرأة فضلت المسيح على رئيس الآباء إذ أوضحت رأيها في يعقوب ومقدار عظمته وعرفت الأفضل منه؟
- هنا اكتسبت بصيرة أكثر جلاءً. لكنها لم تكن قد أدركت بعد الصورة الكاملة، لأنها قالت: “أعطيني هذا الماء حتى لا أعطش، ولا آتي إلى ههنا لأستقي” [١٥]. هنا تفضله عن يعقوب. لأن لسان حالها يقول: “لن أحتاج إلى هذه البئر مادمت أنال منك هذا الماء…” بعد أن أوضحت تقديرها ليعقوب، شاهدت من هو أفضل منه، وبهذا لم تعقها أفكارها السابقة… ولا كانت مجادلة متمردة[33].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- بالحق قد ظهر واضحًا أن القول: “لطلبتِ أنتِ منه، فأعطاكِ ماءً حيًا” [١٠] صادق. لأنها عندما قالت: “أعطني من هذا الماء” [١٥] تسلمت الماء الحي، فلا تكون بعد في حالة فقدان عندما تعطش، كما لا تأتي إلى بئر يعقوب لتسحب ماءً.
تستطيع الآن أن تتأمل في الحق بعيدًا عن ماء يعقوب، بطريقة ملائكية تفوق الإنسان. لأن الملائكة ليسوا في حاجة إلى بئر يعقوب لكي يشربوا.
كل ملاك له في داخله ينبوع ماء يثب إلى حياة أبدية وُجد بواسطة الكلمة، ويُعلن به وبالحكمة نفسها.
على أي الأحوال إنه غير ممكن للشخص الذي لا ينشغل باجتهاد قادمًا إلى بئر يعقوب، وساحبًا ماءً منه بسبب عطشه، أن يقبل الماء الذي يعطيه الكلمة الذي يختلف عن بئر يعقوب. لهذا، كثير من الناس، في عجزٍ شديدً في هذا الجانب، في تدريب أنفسهم لمدة طويلة على سحب ماء من بئر يعقوب[34].
العلامة أوريجينوس
“قال لها يسوع:
اذهبي وادعي زوجك وتعالي إلى ههنا“. [16]
حوَّل السيد المسيح الحوار من الحديث عن الماء إلى الحديث عن حياتها الزوجية، فإن كانت قد أدركت أنها في حاجة إلى ماء من صنفٍ جديدٍ قادر أن يروي، ويهب حياة أبدية، فإنه يلزمها أن تعيد تقييم حياتها الزوجية، فإنها في حاجة إلى عريس لنفسها.
أوضح السيد المسيح لها، دون أن يجرح مشاعرها، أنه يعرف ما في قلبها كما يعرف كل أسرارها العائلية، لكي يحثها على الشعور بالخطية وحاجتها إلى التوبة.
“أجابت المرأة وقالت:
ليس لي زوج.
قال لها يسوع:
حسنًا قلتِ ليس لي زوج“. [17]
ياله من طبيب إلهي ماهر، فقد كشف عن علة المرأة، وبدأ بمشرطه الإلهي أن يضرب في الجسد لكن بمهارة وقدرة وحب، فجعلها تعترف بما لم يكن لامرأة أن تنطق به: “ليس لي زوج“. لم يصدر اعترافها عن تبكيتٍ جارحٍ، ولا عن تشهيرٍ بها حتى أمام نفسها، إنما بحبه أيقظ ضميرها، وكشف لها عن شخصه، فاطمأنت له وصارحته بحقيقة موقفها، إذ أدركت أنه قادر أن يضمد جراحاتها ويرد لها صحتها الروحية.
- لقد قلنا قبلاً أن الناموس الذي يحكم النفس، حيث يخضع كل أحد ذاته له، هو الزوج. الآن نقتبس شهادة عن ذلك من الرسول في رسالته إلى أهل رومية حيث يقول: “أم تجهلون أيها الأخوة، لأني أكلم العارفين بالناموس، أن الناموس يسود على الإنسان ما دام حيًا… فإن المرأة التي تحت رجل هي مرتبطة بالناموس بالرجل الحي” (رو ٧: ١–٢). كما أن رجلها الحي يعني من كان رجلها هو الناموس. يقول بعد ذلك: “ولكن إن مات الرجل فقد تحررت من الناموس، الرجل”… إذ لا تعود تتمم واجبات الزوجة نحو الزوج… الآن فقد مات الناموس حسب الحرف، ولم تعد النفس زانية إذ تصير لرجلٍ آخر، أي ترتبط بالناموس حسب الروح. لكن عندما يموت الرجل عن الزوجة، ربما يُقال أيضًا أن الزوجة قد ماتت عن الزوج. إذ نحن بالتبعية نفهم العبارة هكذا. “إذًا أنتم أيضًا قد متم للناموس بجسد المسيح، لكي تصيروا لآخر للذي قد أُقيم من الأموات لنُثمر لله” (رو ٧: ٤).
إذن إن كان الزوج يُعرف بأنه الناموس، والسامرية لها زوج إذ أخضعت نفسها إلى ناموس ما على أساس سوء فهم للتعاليم السليمة، الناموس الذي به كل مبتدع يود أن يعيشه، هنا يريد الكلمة الإلهي من النفس المبتدعة أن تُفضح عندما تُدخل الناموس الذي يحكمها. وإذ تحتقر نفسها لأنها لا تنتمي إلى زوجٍ شرعيٍ تبحث عن زوج آخر. إنه يود لها أن تنتمي إلى آخر، إلى الكلمة الذي يقوم من الأموات، الذي لن يهزم ولن يهلك، بل يبقى إلى الأبد (إش ٤٠: ٨؛ ١ بط ١: ٢٥)، هذا الذي يحكم ويُخضع كل أعدائه (مز ٨: ٧؛ أف ١: ٢٢). فإن “المسيح بعدما أُقيم من الأموات لا يموت أيضًا، لا يسود عليه الموت بعد؛ لأن الموت الذي ماته قد ماته للخطية مرة واحدة، والحياة التي يحياها فيحياها لله” (رو ٦: ٩–١٠)، بكونه عن يمينه (عب ١٠: ١٢)، حتى يخضع كل أعدائه تحت قدميه (مز ١٠٩: ١)… لهذا السبب يقول يسوع لها: “اذهبي وأدعي زوجك“… وإذ أجابته “ليـس لي زوج” [١٧] أدانت نفسها على ارتباطها بزوج كهذا[35].
العلامة أوريجينوس
“لأنه كان لك خمسة أزواج،
والذي لكِ الآن ليس هو زوجك.
هذا قلتِ بالصدق“. [18]
في رقة عجيبة لم يجرح مشاعرها لأنها تعيش مع من هو ليس برجلها بعد خمس زيجات، وحوَّل حوارها من المجادلة حول الخلافات بين اليهود والسامريين إلى العبادة الجديدة التي تضم كل العالم، ويتمتع بها المؤمن أينما وجد.
يرى القديس جيروم أنه يليق ترك الرجال الخمسة الذين يشيرون إلى حرفية الناموس في الأسفار الموسوية، والرجل السادس وهو يشير إلى المبتدعين، لكي نلتقي بالسيد المسيح مخلص العالم[36].
يرى القديس أغسطينوس أن هذه المرأة قد تزوجت بخمسة رجال والذي معها ليس برجلها. الأزواج الخمسة هم الحواس الخمس، فقد ارتبطت نفسها بالحواس الجسدية، التي لم تستطع أن تشبعها، لأنها لا تقود النفس إلى الأبدية، بل إلى المحسوسات الزمنية المؤقتة. والآن الذي معها ليس برجلها، إنه العقل (غير المقدس) الذي لا يقودها إلى الكلمة والحق، بل إلى الخطأ، يقدم لها مفاهيم خاطئة. إنها محتاجة إلى عريس نفسها، رجلها القادر أن يقودها إلى الحكمة والحق والشبع.
- كم كانت حكمة هذه المرأة عظيمة، وكم كان خضوعها إذ قبلت التوبيخ… في هذا التوبيخ يذكر أمرين: يعدد جميع أزواجها السابقين، ويوبخها على ذاك الذي تعيش معه حينئذ وهي تحاول أن تخفي أمره. هنا ماذا صنعت المرأة؟ لم تبدِ ضيقًا ولا تركته هاربة، ولا حسبت كلامه إهانة، لكنها على العكس أبدت إعجابها به، وفاق تقديرها له، إذ قالت: “يا سيد أرى أنك نبي“. تطلع إلى رزانتها، إذ لم تندفع إليه مباشرة، لكنها وهي تقدره وتعجب منه قالت: “أرى” أي “يبدو لي” أنك كنبي[37].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- أظن أن كل نفس تدخل إلى الدين المسيحي خلال الكتب المقدسة وتبدأ بالأشياء المُدركة بالحواس المدعوة أشياء جسدية، لها خمسة أزواج، لكل حاسة زوج. ولكن بعد أن تصير النفس في رفقة مع الأمور المدركة بالحواس وترغب فيما بعد أن ترتفع فوقها تندفع نحو الأمور المدركة بالروح؛ عندئذ تصطدم مع تعليم فاسد قائم على معانٍ رمزية روحية. حينئذ تقترب من زوج آخر بعد الأزواج الخمسة، وتقدم وثيقة طلاق للخمسة السابقين وكأنها تقرر أن تعيش مع هذا السادس…[38] ونحن نقيم مع ذاك الزوج السادس حتى يأتي يسوع ويجعلنا ندرك شخصية زوجٍ كهذا. لكن بعد مجيء كلمة الرب ودخوله في حوارٍ معنا نجحد هذا الزوج ونقول: “ليس لي زوج“. عندئذ يقول الرب: “حسنًا قلتِ ليس لي زوج” [١٧][39]
العلامة أوريجينوس
- إذ أعلنت المرأة السامرية المذكورة في الإنجيل أن رجلها الذي كان معها هو السادس، انتهرها الرب لأنه لم يكن زوجها. من جانبي أعلن مرة أخرى بكل حرية أن الزواج الثاني digamy لا تشجبه الكنيسة، ولا حتى الزواج الثالث trigamy، ويمكن للمرأة أن تتزوج زوجًا رابعًا… أو عدد أكبر ما دام الزواج شرعيًا… لكن وإن كان الزواج الثاني غير مشجوب إلا أنه غير مستحب… “كل الأشياء تحل لي ولكن ليس كل الأشياء توافق” (1 كو 12:6)[40].
القديس جيروم
“قالت له المرأة:
يا سيد أرى أنك نبي“. [19]
إذ كشف لها السيد المسيح عن شخصه تدريجيًا، اكتشفت المرأة أنه عالم بكل أسرارها الخفية أدركت حسب مفهومها أنه نبي، ووثقت أنه قادر أن يجيب بصدقٍ على التساؤل الذي يحير الكثيرين: هل تتحقق العبادة الصادقة في أورشليم كما يقول اليهود أم على جبل الجرزيم كما يقول السامريون؟ وهو الجبل الذي نُطق عليه بالبركات، ويرى البعض أنه نفس الجبل الذي بنى عليه إبراهيم المذبح (تك ١٢: ٦–٧)، وأيضًا يعقوب (تك ٣٣: ١٨–٢٠).
لقد سلم السامريون الهيكل الذي بناه لهم سنبلطSanballat (عام ٣٣٢ ق.م.) لانتيخوس أبيفانيوس، طالبين منه أن يُكرس للإله جوبتر أولمبياس Jupiter Olympius، وقد نفوا كل علاقة لهم باليهود، حتى لا يعانوا من الضيقات المرة التي صبها انتيخوس عليهم.
هكذا تحول الحوار إلى الحديث عن موضع العبادة: هل هو أورشليم أم جبل الجرزيم؟
- ما أعجب هذا الأمر، كم كانت فلسفة هذه المرأة، كيف قبلت توبيخ المسيح بأفضل ورعٍ، إذ لما أعلن المسيح فعلها المستور لم تستصعب ذلك ولا تركته وهربت، لكنها تعجبت بالأكثر لأنها قالت له: “أرى أنك نبي“.
- تأمل في الحكم العادل المستقيم لهذه المرأة، فقد اتخذت قرارها من واقع الحقائق، سواء فيما يخص أبينا يعقوب أو يسوع، أما اليهود فلم يكن رد فعلهم هكذا. إذ لما شاهدوه يطرد الشياطين منهم لم يقولوا أنه أعظم من أبينا يعقوب أب الأسباط، بل قالوا “به شيطان”[41].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- بدأ الزوج يأتي، أنه لم يأتِ بالكامل… بدأت تدعو الزوج وتطرد خليلها[42].
القديس أغسطينوس
“آباؤنا سجدوا في هذا الجبل،
وأنتم تقولون إن في أورشليم الموضع الذي ينبغي أن يُسجد فيه“. [20]
حسب السامريون أن جبل جرزيم مقدس، عليه ينبغي أن يسجدوا لله. وهو الجبل الذي تقع البئر عند سفحه مباشرة قيل انه على هذا الجبل بنى إبراهيم مذبحًا، وعليه تقابل مع ملكي صادق حيث باركه. على هذا الجبل أمر موسى النبي بمباركة الشعب عند العبور إلى الأردن حيث وقف عليه شمعون ولاوي ويهوذا ويساكر ويوسف وبنيامين بينما وقف رأوبين وجاد واشير وزبولون ودان ونفتالي على جبل عيبال للعنة (تث ٢٧: ١١–١٣). على الجانب الآخر فإن اليهود حسبوا صهيون مسكن الله الذي اختاره أب الجميع، وعليه أقيم الهيكل ومارس الكهنة واللاويون العبادة فيه.
- إذ ظنت أنه نبي لم تطلب شيئًا زمنيًا، لا صحة الجسد ولا الممتلكات ولا الثروة، لكنها اهتمت بالدين [٢٠][43].
- أرأيت كيف صارت المرأة في تمييزها أكثر عزمًا؟ لأن التي اهتمت بعطشها حتى لا تتكبد لأجله تعبأ سألته فيما بعد عن آراء في الدين.
القديس يوحنا الذهبي الفم
- لو أن اللَّه جسد، لكان يحق أن يُسجد له على جبلٍ، لأن الجبل مادي، وكان يحق أن يُعبد في هيكل[44].
- إنه لأمر عجيب! يسكن في الأعالي وهو قريب من المتواضعين. إنه “يرى المتواضع، أما المتكبر فيعرفه من بعيد” (مز 138: 6)…
إذن هل تطلب جبلاً؟ انزل لكي تقترب إليه.
هل تصعد؟ اصعد، ولكن لا تطلب جبلاً. قيل: “الصاعدون في قلبه، في وادي البكاء” (مز 84: 6). الوادي هو التواضع. لتفعل هذا كله في داخلك.
حتى إن أردت أن تطلب مكانًا مرتفعًا، موضعًا مقدسًا، اجعل لك هيكلاً في داخلك. “لأن هيكل اللَّه مقدس، الذي أنتم هو” (1 كو 3: 17).
أتريد أن تصلي في هيكلٍ؟ الجبل في داخلك، إن كنت أنت أولاً هيكل اللَّه، لأنه في هيكله يسمع من يصلي[45].
القديس أغسطينوس
“قال لها يسوع:
يا امرأة صدقيني إنه تأتي ساعة،
لا في هذا الجبل،
ولا في أورشليم،
تسجدون للآب“. [21]
لقد حلت الساعة التي جاء فيها ابن الإنسان ليرفع الإنسان من الحرف إلى الروح، فما يشغل ذهن المؤمنين ليس الموضع، بل وضعهم كأبناء للآب السماوي.
- الإنسان الكامل والمقَّدس يتعدى حتى هذا، إذ يعبد الرب بطريقة تأملية وإلهية بالأكثر. فكما أن الملائكة (كما يتفق حتى اليهود) لا يعبدون الآب في أورشليم، لأنهم يعبدونه بطريقة أفضل عمن يعبدون في أورشليم، هكذا الذين يستطيعون أن يكونوا مثل الملائكة (لو ٢٠: ٣٦) في ميولهم لا يعبدون الآب في أورشليم، بل بطريقة أفضل[46].
العلامة أوريجينوس
- إنه لم يفضل مكانًا آخر، إنما أعطى الأفضلية للنية[47].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- قيل هذا حقًا في شخص اليهود، لكن ليس كل اليهود، ليس اليهود الرافضين الإيمان، بل الذين كانوا مثل الرسل والأنبياء، فقد باع كل هؤلاء القديسين ما يملكونه ووضعوا أثمانها عند أقدام الرسل. “فإن اللَّه لم يرفض شعبه الذي سبق فعرفه” (رو 11: 2)[48].
- كأنها تقول: يجاهد اليهود من أجل الهيكل، ونحن من أجل هذا الجبل. وعندما يأتي (المسيا) سيحتقر الجبل ويلقى بالهيكل، وسيعلمنا كل شيء، فنعرف كيف نعبد بالروح والحق. لقد عرفت من يستطيع أن يعلّمها، لكنها لم تعرف بعد أنه الآن هو يعلِّمها. الآن قد تأهلت أن تتمتع بالكشف عنه[49].
القديس أغسطينوس
“أنتم تسجدون لما لستم تعلمون،
أما نحن فنسجد لما نعلم،
لأن الخلاص هو من اليهود“. [22]
بقوله: “لما لستم تعلمون” يشير إلى إنكار السامريين لأسفار الأنبياء التي تمهد طريق المعرفة للتعرف على شخص المسيا المخلص. وبقوله “نسجد لما نعلم” يشير إلى الأسفار الإلهية كطريق آمن للمعرفة والعبادة الحقيقية. ضم السيد المسيح نفسه إلى جمهور العابدين، لأنه صار في تواضعه ابن الإنسان.
لم يخجل ابن الله الوحيد من أن يعلن طاعته للآب وسجوده وعبادته له، بينما يستهين كثير من بني البشر في كبريائهم بالعبادة ويحسبونها مضيعة للوقت.
“لأن الخلاص هو من اليهود“: ظهر الخلاص الأبدي من اليهود (رو ٩: ٥) وقُدم لهم أولاً. سلمت لهم التعاليم الإلهية (رو ٣: ٢)، وخدمة الله (رو ٩: ٤)، ومنهم جاء المسيا، ومنهم تبدأ الكرازة بالإنجيل للأمم.
- “لأن الخلاص هو من اليهود“، ما يقوله هو هكذا: أن بركة هذا العالم تأتي منهم (لأن معرفة الله وجحد الأصنام وإنكارها بدأت بهم، وبالنسبة لكم فإن عمل السجود وإن كنتم لا تؤدونه بالأسلوب الصحيح إلاَّ أنكم استلمتموه منهم)… كما أشار بولس الرسول إلى مجيئه إذ يقول: “ومنهم المسيح حسب الجسد، الكائن على الكل إلهًا مباركًا” (رو ٩: ٥). أنظر إليه كيف يمتدح العهد القديم، ويوضح أنه أساس البركات[50].
- لم يظهر المسيح للمرأة السامرية لماذا سجد الآباء في ذلك الجبل، ولماذا سجد اليهود في أورشليم، فلهذا صمت، إذ أبطل وأزال عن الموضعين كليهما معالي التقدم. وأنهض نفسها موضحًا أنه لا يمتلك السامريون ولا اليهود فعلاً عظيمًا بالمقايسة إلى الفعل المزمع أن يوهب لنا. وبعد ذلك أورد الفصل بينهما، إلا أنه قد حكم أن اليهود أشرف قدرًا على هذا القياس، دون أن يفضل مكانًا على مكان. لكنه أعطى لليهود التقدم، وكأنه قال: لا ينبغى لأحد أن يجادل لأجل مكانٍ فيما بعد، إلا أن اليهود في غريزتهم قد حازوا الشرف أكثر منكم أنتم أيها السامريون لأنه قال: “أنتم تسجدون لما لستم تعلمون، أما نحن فنسجد لما نعلم“.
فإن سألت: كيف لم يعرف السامريون من هو الذي يسجدون له؟! أجبت: لأنهم اعتقدوا بأن الله يحده مكان معين ويتحيز لهم، لهذا يسجدون له. إذ أرسلوا للفرس قائلين: “إن إله هذا المكان غاضب من أجلنا” (٢ مل ٢٦). ظنوا أنه يوجد إله محدود، فعلى هذا استرضوه وعبدوه، ولهذا السبب لبثوا يسترضون الأصنام، ويسترضون إله المسكونة، أما اليهود فكانوا بعيدين عن هذا الظن، فقد عرفوا الله أنه إله المسكونة كلها، وإن كان هذا الرأي لم يكن رأيهم كلهم، فلهذا السبب قال المسيح: “أنتم تسجدون لما لستم تعلمون، أما نحن فنسجد لما نعلم“[51].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- عندما تحدثت هذه المرأة معه كيهودي وظنت أنه نبي، أجابها كيهودي يعرف أسرار الناموس روحيًا: “أنتم تسجدون لما لستم تعلمون، أما نحن فنسجد لما نعلم”. يقول “نحن” إذ يضم نفسه مع البشر، ولكن كيف يضم نفسه مع البشر إلا بحسب الجسد، ولكي يظهر أنه أجاب كمتجسدٍ، إذ يضيف “الخلاص من اليهود”[52].
القديس أمبروسيوس
“ولكن تأتي ساعة وهي الآن،
حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق،
لأن الآب طالب مثل هؤلاء الساجدين له“. [23]
عوض الانشغال بمكان العبادة يلزم الانشغال بحال الفكر الداخلي، وهيكل الله داخل النفس، وكيفية تقديم العبادة لله الذي هو روح. فالله الآب يطلب العابدين بقلوبهم، ونادرًا ما يوجدون، إذ قيل: “من هو هذا الذي أرهن قلبه ليدنو إليَّ يقول الرب” (إر ٣٠: ٢١). طريق العبادة بالروح ضيق، لأن فيه لا يطلب الإنسان مجد الناس بل مجد الله.
العبادة بالروح تحول القلب إلى صهيون الحقيقية التي يشتهيها الله كقول المرتل: “لأن الرب اختار صهيون، اشتهاها مسكنًا له؛ هذه هي راحتي إلى الأبد؛ ههنا أسكن لأنه اشتهيتها (مز ١٣٢: ١٣–١٤).
- كان كل من اليهود والسامريين شديدي الاهتمام بالجسد، يطهرونه بمختلف الطرق. لذلك يقول إنه ليس بطهارة البدن، بل بطهارة ذلك الجزء غير الجسدي من كياننا، أي العقل. به نعبد الله اللاجسدي، كما لا يكون القربان بذبح العجول والخراف، بل بتكريس الإنسان نفسه لله. أهلك ذاتك، فتقدم ذبيحة حية[53].
- إذ يقول الحق استبعد السامريين واليهود. فإنه وإن كان اليهود أفضل من السامريين، إلا أنهم أقل بكثير من القادمين بقدر ما أن الرمز أقل من الحقيقة. إنه يتحدث عن الكنيسة التي لها العبادة الحقيقية التي تليق بالله[54].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- يليق بالإنسان أن يلاحظ إن العابدين بالحق يعبدون الآب بالروح والحق، ليس فقط في الساعة القادمة، بل وفي الوقت الحاضر أيضًا[55].
- إن كان الآب يطلب أولئك الذين يعِّدهم أن يكونوا عابدين حقيقيين بتطهيرهم وتعليمهم بالكلمة في تعاليم صادقة، إنما يطلبهم بابنه الذي جاء يطلب من قد فقدوا (لو ١٩: ١٠؛ حز ٣٤: ١٦).
العلامة أوريجينوس
“الله روح،
والذين يسجدون له، فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا“. [24]
- بقوله “الحقيقيون” يستبعد اليهود والسامريين، لأن هؤلاء اليهود وإن كانوا أفضل من السامريين إلا أنهم أدنى كثيرًا من المزمعين أن يسجدوا “بالروح والحق“…. إن كان الله في الماضي قد سعى إلى مثل هؤلاء… إنما لطفًا وتنازلاً منه حتى يأتي بهم إلى حظيرة الإيمان.
وإن سألت: ومن هم الساجدون الحقيقيون؟ أجبتك: الذين لا يربطون عبادتهم بمكانٍ محددٍ، وهم ينجذبون بالروح. وكما يقول بولس الرسول: “الذي أعبده بروحي في إنجيل ابنه” (رو ١: ٩). وفي موضع آخر يقول: “أطلب إليكم أيها الاخوة برأفة الله أن تقدموا أجسادكم ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله عبادتكم الفعلية” (رو ١٢: ١).
قول المسيح للمرأة السامرية: “الله روح” لا يدل على معنى آخر إلا على أنه خالٍ من جسم، لذلك ينبغي أن تكون عبادة للخالي من جسم خالية من جسم أيضًا، وأن نقدمها بما هو فينا خالٍ من جسم، أي أن تكون بروحنا وبنقاوة عقلنا، لذلك قال المسيح: “والذين يسجدون له، فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا“[56].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- لست أتجاسر فأحدّ قدرة اللَّه الكلية أو أقيّدها بشريحة ضيّقة من الأرض، هذا الذي الأرض والسماء لا تسعانه. كل مؤمن يُدان ليس حسب مسكنه هنا أو هناك، وإنما حسب براري إيمانه. العابدون الحقيقيون يعبدون الآب، لا في أورشليم، ولا على جبل جرزيم[57].
القديس جيروم
- بكونه ابن داود يخضع للزمن وللتدبير والتنازل النسبي، لكن من جهة اللاهوت لا يخضع لزمان ولا لمكان. “جيله من يعلنه؟” (إش 8:53)
“اللَّه روح“؛ فذاك الذي هو روح قد وُلد روحيًا بكونه غير جسدي بنسبٍ غير مدرك ولا مفحوص.
الابن نفسه يقول للآب: “قال الرب لي: أنت ابني، وأنا اليوم ولدتك” هذا “اليوم” ليس زمنيًا بل سرمدي. اليوم هنا غير زمني بل قبل كل الدهور. “من الرحم قبل كوكب الصبح ولدتك[58]“.[59]
القديس كيرلس الأورشليمي
- أي عجب مادام الآب والابن يُقال عنهما أنهما “روح”، الأمر الذي نتحدث عنه بأكثر توسع عند حديثنا عن “وحدة الاسم”…
ليقرأوا أن الآب يُدعى “الروح“، كما يقول للرب في الإنجيل: “لأن اللَّه روح” [24]. والمسيح يدعى “الروح“، إذ قال إرميا: “الروح أمام وجهنا، المسـيح الرب”) مرا 20:4) [60].
القديس أمبروسيوس
- الكلمات: “الله روح” لا تغير الحقيقة أن الروح القدس له اسمه الخاص به، وأنه هو العطية المقدمة لنا. قيل للسامرية التي وضعت حدودًا لله بالجبل أو الهيكل أن الله يحوي كل الأشياء ومُحوى في ذاته، وهو غير منظور ولا مُدرك، يلزم أن يُعبد بوسائل غير منظورة ولا عندما علم المسيح أن الله بكونه الروح يجب أن يعبد بالروح، وأظهر أية حرية ومعرفة ومجالات بلا حدود للسجود في عبادة الله الروح بالروح[61].
القديس هيلاري أسقف بواتييه
“قالت له المرأة:
أنا أعلم أن مسيا الذي يقال له المسيح يأتي،
فمتى جاء ذاك،
يخبرنا بكل شيء“. [25]
أخيرًا جاء الحوار بخصوص المسيا، فإذ لم تعترض السامرية على ما يقوله بل شعرت بقوة في داخلها سألته عما كان يدور في أذهان اليهود والسامريين، وهو: متى يأتي المسيا؟ فمع العداوة القائمة بين اليهود والسامريين إلاَّ أن أمرًا واحدًا كان الكل يترقبه، وربما تحدث كثير من المعلمين عنه في ذلك الوقت، وهو تحقيق الوعد الإلهي الخاص بمجيء المسيا وحلول مملكته.
مع ما لحق بها من فساد بسبب خطيتها لكن شوقها لمعرفة الحق وترقبها في تواضع لمجيء المخلص هيأها للالتقاء مع السيد والتعرف عليه والشهادة له.
- قد يقول قائلٍ: من أين للسامريين أن ينتظروا مجيء المسيح وهم يقبلون موسى وحده؟ فنقول له: “من كتب موسى نفسها، لأن موسى قال: “يقيم لك الرب إلهك نبيًا من وسطك من اخوتك مثلي له تسمعون” (تث 18: 15)”.
- كانت مجرد امرأة فقيرة لا خبرة لها بالكتب المقدسة، لذلك لم يحدثها بما جاء في هذه الأسفار، بل قادها إلى الإيمان عن طريق الماء[62].
- بالنسبة لليهود الذين كانوا يرددون باستمرار: “إلى متى تعلق أنفسنا؟ إن كنت أنت المسيح فقل لنا جهرًا” (يو ١٠: ٢٤) لم يعطهم جوابًا شافيًا. أما بالنسبة لهذه المرأة فقال لها بصراحة: “أنا هو“، لأن المرأة كانت غير منحازة وذات تفكير وضمير عادل أكثر من اليهود. إذ لم يسألوا لكي يتعلموا، بل كانوا دائمي السخرية منه… أما هذه فسمعت وآمنت ودعت آخرين أيضًا إلى الإيمان، وفي كل الأحوال تلاحظ وقتها وانضباطها وإيمانها[63].
القديس يوحنا الذهبي الفم
“قال لها يسوع:
أنا الذي أكلمك هو“. [26]
لم يتحدث السيد المسيح مع اليهود، ولا حتى مع تلاميذه بعبارات مباشرة هكذا: “أنا الذي أكلمك هو“.
- الحصاد قد أُعد، فقد قام الأنبياء بالغرس لينمو، والآن قد جاء إلى النضوج وينتظر الرسل كحاصدين له… فبالنسبة للمرأة السامرية كان اسم “المسيا” ليس بجديدٍ عليها، كانت بالفعل تترقب مجيئه. لقد آمنت بالفعل أنه قادم. من أين كان لها أن تؤمن بهذا لو لم يغرسه موسى؟[64]
القديس أغسطينوس
- بالحقيقة لم يعطِ إجابة واضحة لليهود الذين كانوا يقولون باستمرار: “إلى متى تعلق أنفسنا؟ إن كنت أنت المسيح فقل لنا جهرًا” (يو 10: 24)، أما لها فأخبرها بوضوح: “أنا هو“[65].
القديس يوحنا الذهبي الفم
4. كرازة السامرية الناجحة
“وعند ذلك جاء تلاميذه،
وكانوا يتعجبون أنه يتكلم مع امرأة،
ولكن لم يقل أحد ماذا تطلب؟
أو لماذا تتكلم معها؟” [27]
لم يكن في ذهن التلاميذ أن معلمهم الذي كانوا يترقبون ملكوته العظيم على الأرض يتحدث مع امرأة فقيرة سامرية. إنها ليست من قطيع إسرائيل الضال، وفي ذهنهم لا يمكن أن يكون لها دور في ملكوته، فلماذا يتحدث معها؟
هذا ومن جانب آخر فإنه لم يكن من عادة الرجال أن يتحدثوا مع نساء في الطريق، حتى وإن كانت زوجاتهم، وقد وجدت قوانين كثيرة سنها الحاخامات في هذا الشأن.
- أجاز المسيح لنفسه أن يخاطب امرأة سامرية فقيرة، إلا أن تلاميذه مع انذهالهم من ذلك لم يسألوه عن سبب مخاطبته إياها، لأنهم كانوا بهذه الصفة متأدبين بحفظ ترتيب التلاميذ، وبهذه الصورة تهيبوه واستحيوا منه واحتشموه كاحتشامهم صاحبًا عجيبًا.
- ترى ممَ تعجب التلاميذ؟ من تواضعه الشديد وبُعده عن الكبرياء، إذ تبادل الحديث مع امرأة فقيرة بل وسامرية أيضًا[66].
القديس يوحنا الذهبي الفم
“فتركت المرأة جرتها،
ومضت إلى المدينة،
وقالت للناس“. [28]
إذ تمتعت السامرية بالحق الإلهي تركت جرتها، ونسيت ما جاءت من أجله، وعادت إلى المدينة دون الماء، إنما لتقدم ماء الحق لأهل المدينة. تركت جرتها لأنها لم ترد أن تعوقها الجرة عن الإسراع نحو المدينة لتشهد للحق. أخبرت الجميع في الشوارع أنها وجدت الكنز الذي تبحث عنه، ووجدت ينبوع سرورها الداخلي.
سبق أن طلب السيد منها أن تدعو زوجها [١٦]، وها هي قد دعت كل رجال المدينة ونجحت في مهمتها.
لم تخبرهم أنه حاورها في أمور دينية خطيرة خاصة بمكان العبادة وطريقة ممارستها، بل ما لمس قلبها حقًا أنه عرف أسرارها واجتذبها بقوة كلمته إليه، فتعرفت على شخصه، إنه هو المسيا.
- ربما تركت جرة الماء التي كانت في بئر تعتز بعمقها، أي بالتعاليم، إذ احتقرت الأفكار التي سبق أن قبلتها، وتقبلت جرة أفضل من جرة الماء، تحوي ماءً ينبع إلى حياة أبدية (يو ٤: ١٤)[67].
- هنا امرأة أعلنت عن المسيح للسامريين، وفي نهاية الأناجيل أيضًا امرأة رأته قبل كل الآخرين تخبر الرسل عن قيامة المخلص (يو ٢٠: ١٨)[68].
- كل ما فعلته المرأة السامرية هو علاقتها بالخمسة أزواج، وبعد ذلك ارتباطها بالسادس الذي هو ليس بزوجها الشرعي. تبرأت من الرجل السابق، تركت جرتها واستراحت بوقار في السبت.
لقد جلبت أيضًا نفعًا للذين سكنوا معها في ذات المدينة، على أساس معتقداتها القديمة، أي شاركوها تعاليمها الخاطئة. إنها العلة التي جعلتهم يخرجون من المدينة ويأتون إلى يسوع[69].
العلامة أوريجينوس
- إذ استقبلت الرب المسيح في قلبها ماذا يمكنها أن تفعل سوى أن تترك جرّتها وتجري لتكرز بالإنجيل؟ لقد طردت الشهوة، وأسرعت تعلن عن الحق. ليتعلم الذين يريدون أن يكرزوا بالإنجيل أن يتركوا جرتهم عند البئر[70].
القديس أغسطينوس
- جاءت لتستقي ماءً، وعندما استنارت وعرفت الينبوع الحقيقي للتو احتقرت الينبوع المادي. وهي في هذه الواقعة البسيطة تعلمنا أن نتجاوز عن أمور الحياة المادية عندما نصغي للروحيات… دون أن يوجه لها أحد أمرًا تركت جرتها، وعلى جناحي الفرح والبهجة أسرعت وصنعت ما فعله الإنجيليون، ولم تدعُ واحدًا أو اثنين، كما فعل أندراوس وفيلبس، إنما دعت مدينة بأكملها، وأتت بهم إلى الرب يسوع[71].
- آمنت المرأة السامرية على الفور، وبذلك اتضح أنها أكثر حكمة من نيقوديموس، بل وأكثر شجاعة وثباتًا. لأن نيقوديموس بعد أن سمع قدر ما سمعت المرأة آلاف المرات لم يذهب ويدعو آخرين لسماع هذه الكلمات، ولا تحدث بصراحة على الملأ. لكن هذه المرأة فعلت ما لم يفعله الرسل، إذ قامت بالكرازة للجميع تدعوهم إلى المسيح. بذلك قادت مدينة بأكملها إلى الإيمان بيسوع المسيح[72].
القديس يوحنا الذهبي الفم
“هلموا انظروا إنسانًا قال لي كل ما فعلت،
ألعل هذا هو المسيح؟” [29]
كلمات السامرية تكشف عن سعادتها الداخلية بلقائها مع المسيا مخلص العالم، وتمتعها بمن يملأ أعماقها. لم يهبها الرجال الستة سعادة، لكن لقاءها مع مخلصها بعث فيها روح السعادة والعمل من أجل الآخرين لخلاصهم.
لم تكن الدعوة أن يأتوا ليروا أمرًا غريبًا، ولا أن يدخلوا معه في حوارٍ، بل أن يتمتعوا بفاحص القلوب، المسيا مخلص العالم. فمن أهم السمات التي كان اليهود ينتظرونها في المسيا أنه عالم بما في القلوب.
في نهاية القرن الأول وبداية القرن الثاني ادعى Barchochab أنه المسيا، وإذ خدع كثيرين جاءوا إليه بأشخاصٍ لا يعرفهم بعضهم كانوا مجرمين وآخرون أبرياء، وطلبوا منه أن يميز بين الأشرار والأبرار، وإذ لم يستطع قتلوه.
كانت السامربة حكيمة في كرازتها، إذ لم تملي عليهم إيمانها فيه بل بحكمة طلبت منهم أن يأتوا وينظروا ليتحققوا من شخصه: “ألعل هذا هو المسيح؟!” [٢٩].
- مرة أخرى لاحظوا حكمة المرأة العظيمة. فإنها لم تعلن الحقيقة بوضوح، ولا بقيت صامتة، ولا رغبت في إحضارهم باقتناعها هي، بل لتجعلهم يشتركون في هذا الرأي باستماعهم له، حيث صارت كلماتها لهم مقبولة فعلاً[73].
- لم تخجل من قولها أنه قال لها كل مع فعلته… فإنها لم تعد تنظر إلى ما هو أرضي، ولا تعود تلقي بالاً إلى مجد دنيوي أو عارٍ، لكنها أصبحت منتمية إلى شيءٍ واحدٍ فقط، وهي تلك الشعلة المقدسة المتقدة داخلها والممتلئة بها[74].
- “ألعل هذا هو المسيح؟!” [٢٩] لم ترغب في أن تأتي بهم بإرادتها هي واقتناعها، بل أرادت أن يكون لهم الرأي عندما يستمعون إليه. هذا ما جعل كلماتها أكثر قبولاً لديهم… لم تقل “هلموا آمنوا” بل “هلموا انظروا“، وهو تعبير أكثر رقة وجاذبية لهم[75].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- ليس إنسان أسعد من المسيحي، إذ له الوعد بملكوت السماوات. ليس أحد يجاهد بقوة أكثر منه إذ يخاطر بحياته كل يوم. ليس من أقوى منه إذ يغلب الشيطان… هل يوجد من هو أكثر خسة من المرأة السامرية؟ لكن ليست هي وحدها آمنت… وجدت بعد رجالها الستة الرب الواحد، ليس فقط تعرفت على المسيّا عند البئر، هذا الذي فشل اليهود في التعرف عليه في الهيكل، إنما قدمت الخلاص لكثيرين، بينما كان الرسل يشترون طعامًا لسدْ جوع المخلص وإراحته من تعبه[76].
القديس جيروم
- الأقوال التي قيلت للمرأة ألهبتها إلى أن أوصلها الشوق المتقد إلى ترك جرتها وإهمال الحاجة التي جاءت بسببها، ورجعت إلى مدينتها لتجتذب إلى المسيح كافة الجموع التي كانت فيها. تأمل حرص المرأة وفهمها، لأنها جاءت تستقي، فلما وجدت الينبوع الحقيقي احتقرت الينبوع المحسوس، فأصبحت معلمة لنا. وعلى حسب قوتها عملت العمل الذي عمله رسل ربنا، لأن أولئك لما دُعوا تركوا شباكهم، وهذه فمن ذاتها تركت جرتها وعملت عمل المبشرين. ولم تستدعِ واحدًا أو اثنين، لكنها استنهضت مدينة بأكملها وجمعًا جزيلاً تقديره، واقتادتهم إلى المسيح.
تأمل كيف اقتادت المرأة أهل المدينة بأوفر فهمٍ، لأنها لم تقل لهم: تعالوا أبصروا المسيح، لكنها اجتذبت الناس بالمقارنة التي اقتنصها بها المسيح فقالت: “هلموا انظروا إنسانًا قال لي كل ما فعلت“.
قالت المرأة السامرية: “هلموا انظروا إنسانًا قال لي كل ما فعلت”، لم تخجل أن تقول ذلك، مع أنه كان يمكنها أن تقول قولاً غير هذا، وهو: تعالوا انظروا من يتنبأ. إذا أضرمت النار الإلهية نفوس أحدنا لا ينظر إلى شيءٍ من الأمور الأرضية، لا إلى الشرف ولا إلى خجل.
انظر حكمة المرأة إنها لم تجزم أنه هو المسيح بحكم واضح ولا صمتت، لأنها أرادت أن تجتذبهم إليه، ليس بحكمها هي، وإنما باستماعهم له.
القديس يوحنا الذهبي الفم
- عندما جاء المسيح رفضه اليهود، بينما اعترفت به الشياطين.
داود جده لم يجهله عندما قال: “رتبت سراجًا لمسيحي” (مز 7:132)، هذا السراج الذى فسره البعض أنه بهاء البنوة (2 بط 19:1) وفسره البعض أنه الجسد الذى أخذه من العذراء…
لم يجهل النبي أمر المسيح إذ قال: “وأعلن بين البشر بمسيحه His Anointed” (عا 13:4 الترجمة السبعينية).
موسى أيضًا عرفه، وإشعياء، وإرميا. لم يجهله أحد من الانبياء، بل حتى الشياطين عرفته إذ انتهرها…
رئيس الكهنة لم يعرفه، والشياطين اعترفت به.
رئيس الكهنة لم يعرفه، والسامرية أعلنت عنه قائلةً: “انظروا إنسانًا قال لي كل ما فعلت، ألعل هذا هو المسيح؟!” (يو 29:4)[77].
القديس كيرلس الأورشليمي
“فخرجوا من المدينة وأتوا اليه“. [30]
لقد جاء الوقت الذي فيه بشر البرص بالخلاص العظيم لأصل السامرة (٢ مل ٧: ٣ الخ). ها هي امرأة سامرية لها ماضٍ مؤلم تصير أول كارزة بالأخبار المفرحة للسامرة، فتكسب المدينة كلها لحساب السيد المسيح.
“وفي أثناء ذلك سأله تلاميذه قائلين:
يا معلم كلْ”. [31]
القديس يوحنا الذهبي الفم
بينما انطلقت المرأة السامرية للكرازة بكل قوة، إذ بالتلاميذ ينشغلون بتقديم طعام للسيد المسيح، لأنه كان جائعًا ومُتعب.
“فقال لهم:
أنا لي طعام لأكل لستم تعرفونه أنتم“. [32]
يقول العلامة أوريجينوس أن للأجسام طعام يختلف عما للأرواح، وكما أن الأجسام نفسها تختلف في احتياجاتها من جهة نوع الطعام وكميته، هكذا أيضًا بالنسبة للأرواح والنفوس.
كان السيد المسيح ينتهز كل فرصة ليرفع عقول تلاميذه وقلوبهم إلى ما فوق الزمن، إلى السماء عينها. لقد أعلن لهم عن مدى بهجته بخلاص النفوس بكونه طعامه الشهي. لقد وجد شبعه وراحته في التعب من أجل كل نفسٍ، ومن أجل تحقيق خطة أبيه. إنه لن يستريح، بل يبقى مثابرًا على العمل حتى يعبر من هذا العالم.
- فإنه حتى ذات النوعية للكلمات المغذية والأفكار التأملية والأعمال المناسبة لهذه الكلمات والأفكار ليست مناسبة لكل النفوس.
إنه بالحقيقة يوجد البقول وأيضًا الطعام القوي (رو ١٤: ٢؛ عب ٥: ٢) الذي لا ينعش النفوس المحتاجة إلى تقدم في نفس الوقت.
وكما يقول بطرس ليت الأطفال حديثو الولادة يشتهون اللبن العقلي النقي (١بط ٢: ٢). ويطبق نفس الشيء إن كان أحد ما مثل الطفل كأهل كورنثوس الذين يقول لهم بولس: “سقيتكم لبنا لا طعامًا” (١ كو ٣: ٢).
ليت الضعيف يأكل بقولاً لأنه لا يؤمن (رو ١٤: ٢). هكذا علَّم بولس عندما قال: “واحد يؤمن أن يأكل كل شيء، وأما الضعيف فيأكل بقولاً” (رو ١٤: ٢).
ويوجد بالحقيقة وقت فيه “أكلة من البقول حيث صداقة مع نعمة خير من ثور معلوف ومعه بغضة” (راجع أم ١٥: ١٧). أما الطعام القوي فللبالغين الذين بسبب التمرن قد صارت لهم الحواس مدربة على التمييز بين الخير والشر” (عب ٥: ١٤). ولكن يوجد أيضًا طعام بغيض كما يعلمنا سفر الملوك الرابع عندما قال بعض الرجال لأليشع: “موت في القدر يا رجل الله” (٢ مل ٤: ٤٠)…
يليق بنا أن نرتفع بالفكر من الكائنات غير العاقلة والبشرية إلى الملائكة الذين هم أيضًا ينتعشون بالطعام، فإنهم ليسوا في عدم عوز تمامًا. “أكل الإنسان خبز الملائكة” (مز ٧٧: ٢٥).
لكن الآن يلزمنا أن نعبر إلى العبارة التي أمامنا بخصوص طعام المسيح، الذي لم يكن يعرفه التلاميذ عندئذ، إذ يقول يسوع الحق: “أنا لي طعام لآكل لستم تعرفونه أنتم” (يو ٤: ٣١). لأن التلاميذ لم يكونوا يعرفوا ما كان يسوع يفعله حينما كان يفعل إرادة من أرسله ويتمم أعماله الكاملة [٣٤]. إنه يفعل إرادة الآب التي هي واحدة مع إرادته[78].
العلامة أوريجينوس
يرى القديس أغسطينوس أن طعام السيد المسيح هو أن يتمم إرادة الآب، وأن يشرب من إيمان المرأة به. بهذه يطعِّمها جسده الذي هو الكنيسة، أي تصير عضوًا في الجسد. يرى العلامة أوريجينوس أنه ليس الإنسان وحده بل وكل كائن عاقل سيتمتع بالكمال بيسوع بكونه عمل الله[79].
- حينما يكمل كل واحدٍ منا، بكونه عمل الله، بواسطة يسوع، يقول: “جاهدت الجهاد الحسن، أكملت السعي، حفظت الإيمان، وأخيرًا وضع لي إكليل العدل” (راجع ٢ تي ٤: ٧–٨)[80].
العلامة أوريجينوس
- كان الرب جالسًا جائعًا وعطشانًا اقتات بإيمان المرأة السامرية[81].
القديس جيروم
- أي عجب إن كانت تلك المرأة لم تفهم الماء؟ انظر فإن التلاميذ لم يفهموا بعد الطعام[82].
القديس أغسطينوس
“فقال التلاميذ بعضهم لبعض:
ألعل أحدًا أتاه بشيءٍ لياكل؟” [33]
لم يدرك التلاميذ أن الكلمة الإلهي هو الذي عال إيليا في البرية عند نهر كريت، فكان يُرسل له طعامًا يوميًا بواسطة غراب (١ مل ١٧: ٤–٦). وأنه في البرية جاءت ملائكة تخدمه (مت ٤: ١١).
“قال لهم يسوع:
طعامي أن اعمل مشيئة الذي أرسلني،
وأتمم عمله“. [34]
يرى القديس أمبروسيوس أن حديث السيد المسيح هنا يشير إلى عمل المسيح في حياة الناس لكي يعملوا إرادة الآب، ويتمموا عمله، لأن ما يفعله الناس كأعضاء في جسد المسيح، يُحسب كأنه هو نفسه قد عمله[83].
أكلنا وشربنا وقراءتنا وخدمتنا وعبادتنا كلها إنما لخدمة خلاص النفوس. هذه هي إرادة أبينا السماوي، طعام نفوسنا الشهي.
لقد هلكت النفوس بسبب عدم المعرفة. وقد وهبنا الله مفتاح الملكوت الذي هو إنجيله ومعرفة كلمته.
- الوليمة التي يتحدث عنها سليمان لا تتحقق فقط بالطعام العادي بل تُفهم بأنها تتحقق بالأعمال الصالحة. إذ كيف يمكن للنفس أن تتمتع بوليمة بحكمة أفضل إلا بالأعمال الصالحة، أو ماذا يمكن أن يملأ أذهان الأبرار بسهولة مثل معرفة تحقيق العمل الصالح؟ أي طعام أكثر بهجة من عمل مشيئة اللَّه؟ يخبرنا الرب أن لديه هذا الطعام وحده بفيضٍ. كما جاء في الإنجيل: “طعامي أن أعمل مشيئة أبي الذي في السماوات” [34]. فبهذا الطعام يبتهج الذين يتعلمون بمعرفة عجيبة أن يصعدوا إلى المباهج العلوية، الذين يقدرون أن يعرفوا أيّة بهجة هي هذه، وأيّة نقاوة لها والتي يمكن للعقل أن يفهمها. إذن ليتنا نأكل خبز الحكمة، ونشبع بكلمة اللَّه. لأن حياة الإنسان التي خُلقت على صورة اللَّه لا تتحقق بالخبز وحده، بل بكل كلمة تخرج من فم اللَّه (مت 4:4). ويقول القديس أيوب عن الكأس بوضوح كامل: “كما تترقب الأرض المطر، هكذا فقل هؤلاء بالنسبة لكلماتي” (أي 23:29)[84].
- إن كان طعامه هو أن يعمل مشيئة أبيه، هكذا أيضًا طعامه أن يشترك في آلامنا[85].
القديس أمبروسيوس
- “ليأتِ حبيبي إلى جنته ويأكل ثمرة النفيس” (نش 16:4). إنه لتعبير جرئ من نفس ممتلئة حماسًا وروعة ترتفع على كل تعجب.
من تدعوه العروس لوليمتها التي تتكون من فاكهتها الخاصة؟
لمن تُجهز العروس وليمتها التي أقامتها من مصادرها الخاصة؟
من تدعوه العروس لكي يأكل مما عرضته؟ “هو الذي منه وبه وله كل الأشياء” (رو 36:11). إنه يعطى كل شخص طعامه في حينه (مز 15:145)، يفتح يده ويملأ كل كائن حي بالنعيم. هو الخبز النازل من السماء (يو 41:6)، هو الذي يعطى الحياة للعالم ويجعل المياه تفيض من نبعه الخاص للحياة.
هذا هو الواحد الذي ترتب العروس له مائدتها. وهي الحديقة التي تنبت منها أشجار حيّة.
ترمز الأشجار إلينا وتُشير أرواحنا المُخلّصة إلى الطعام المُقدم له. وقال لتلاميذه: “أنا لي طعام لآكل لستم تعرفونه أنتم” (يو 32:4، 34). تتميم إرادة اللّه المقدسة: “فهو يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون” (1 تي 4:2).
هذا الخلاص هو الغذاء الذي يُجهز له. تعطى إرادتنا الحرة الثمرة للّه وهي أرواحنا، ليقطفها من على غصنها الصغير. تمتعت العروس في البداية بثمرة التفاح الحلوة المذاق قائلة” وثمرته حلوة لحلقي” (نش 3:2). ثم أصبحت هي نفسها الثمرة الجميلة الحلوة التي قُدمت للراعي ليتمتع بها[86].
القديس غريغوريوس النيسي
“أما تقولون انه يكون أربعة أشهر ثم يأتي الحصاد.
ها أنا أقول لكم:
ارفعوا اعينكم وانظروا الحقول إنها قد ابيضت للحصاد“. [35]
أخفى السيد المسيح المعنى الروحي السرائري وراء حديثه عن الحصاد، فإن ما يعنيه هو حصاد ملكوت السماوات الذي يتحقق بعد أربعة حقبات زمنية. الحقبة الأولى الإنسان في جنة عدن حيث لم يقدم الثمر اللائق، وجاء عصر الناموس الطبيعي (الآباء البطاركة)، ثم عصر الناموس الموسوي، وأخيرًا الحقبة الرابعة حيث عهد النعمة. فيتم حصاد كل الحقبات لحساب ملكوت السماوات، ويتحقق كمال الحصاد في مجيء المسيح على السحاب حيث ينتهي العصر الأخير.
يطلب السيد المسيح الحصاد الذي لن يتحقق بدون العمل الجاد بسرورٍ ومثابرة. فالعملٍ ضرورة حتمية وملحة للتمتع بالحصاد.
إنه يرى الحصاد القادم حيث يأتي كثير من السامريين إليه خلال خدمة المرأة السامرية، يؤمنون به ويتأهلون للبس الثياب البيضاء.
- “ارفعوا أعينكم“، وردت في مواضع كثيرة في الكتاب المقدس حيث يحثنا الكلمة الإلهي على رفع أفكارنا وبصيرتنا إلى فوق. كما جاء في إشعياء: “ارفعوا إلى العلاء أعينكم، وانظروا من جعل هذه الأمور معروفة” (راجع إش ٤٠: ٢٦).
- إذ بدأ يتحدث المخلص عن التطويبات رفع عينيه نحو تلاميذه وقال: “طوبى” لهؤلاء وأولئك (راجع لو ٦: ٢٠). فإنه لا يوجد تلميذ حقيقي ليسوع في الأسفل، ولا أحد ممن يستريح في حضن إبراهيم. فالغني الذي كان يتعذب رفع عينيه ليرى إبراهيم ولعازر في حضنه (لو ١٦: ٢٣)[87].
- ليس أحد يرفع عينيه إن كان مستمرًا في إتمام أعمال الجسد[88].
- يحث الكلمة الحاضر مع التلاميذ سامعيه أن يرفعوا أعينهم إلى حقول الكتاب المقدس وإلى حقول الغاية من كل شيء موجود، فيرى الإنسان بياض نور الحق وبهاءه الحال في كل مكان. فإنه بحسب سليمان: “كلها واضحة لدى الفهماء، ومستقيمة لدى الراغبين في الشركة في المعرفة الحسية” (راجع أم ٨: ٩)[89].
العلامة أوريجينوس
كتب القديس جيروم إلى أبيغيوس Abigaus كاهن Baetica بأسبانيا يعزّيه في عماه الجسدي ويبعث فيه روح الفرح من أجل ما يتمتع به من بصيرة داخلية:
- يليق بك ألا تحزن، إنك محروم من هاتين العينين الجسديتين اللتين لدى النملة والحشرات والزحافات، بل بالأحرى أن تفرح أن لديك العين الواردة في نشيد الأناشيد: “قد سبيْتِ قلبي يا أختي العروس، قد سبيْتِ قلبي بإحدى عينيك” (نش5:4). هذه هي العين التي بها يُرى اللَّه، والتي أشار إليها موسى عندما قال: “أميل الآن لأنظر هذا المنظر العظيم” (خر 3:3)… وقال نبي: “يدخل الموت خلال نوافذك” (إر21:9 LXX)… وقد أمر (الرسل) أن يرفعوا أعينهم، ويتطلعوا إلى القول، فإنها قد ابيضّت للحصاد [35][90].
القديس جيروم
“والحاصد يأخذ أجرة،
ويجمع ثمرًا للحياة الأبدية،
لكي يفرح الزارع والحاصد معًا“. [36]
الآن يتقدم السيد المسيح بكونه الزارع الذي غرس الكلمة في قلب السامرية، وفي ساعات قليلة جدًا قام بدور الحاصد، وفرح وتهلل من أجل الثمر حيث آمن به كل أهل المدينة قائلين: “إن هذا هو بالحقيقة المسيح مخلص العالم” [٤٢].
- يقصد المسيح هنا الحاصد الروحاني، لأن ثمرة الحصاد الجسداني لا تبلغ إلى الحياة الأبدية، بل إلى هذه الحياة الوقتية، أما ثمرة الحصاد الروحاني فإنها تبلغ إلى حياة خالية من الشيخوخة والموت. أرأيت كيف أن أقواله محسوسة ومعانيها روحانية؟
القديس يوحنا الذهبي الفم
- ضعوا في اعتباركم أنه إن كان موسى والأنبياء هم الذين زرعوا، إذ كتبوا الأمور “لإنذارنا نحن الذين انتهت إلينا أواخر الدهور” (١ كو ١٠: ١١)، وأعلنوا عن رحلة المسيح. وانظروا إن كان الذين حصدوا هم الرسل الذين قبلوا المسيح، ورأوا مجده الذي يتفق مع بذار الأنبياء العقلية الخاصة به، التي حُصدت بواسطة إدراك السرّ المخفي منذ الدهور، وأُعلن في أواخر الأزمنة” (أف ٣: ٩؛ ١ بط ١: ٢٠). “الذي في أجيال أخر لم يعرف به بنو البشر كما قد أُعلن الآن لرسله القديسين وأنبيائه” (أف ٣: ٥).
الآن فإن الخطة الكاملة الخاصة بإعلان السرّ المحفوظ في كتمان لأزمنة أبدية، والآن أُعلن خلال الأسفار النبوية وظهور ربنا يسوع المسيح، وذلك في الوقت الذي فيه جعل النور الحقيقي الحقول مبيضة للحصاد، إذ أشرق عليها بكونه البذرة.
حسب هذا التفسير الحقول التي غُرست فيها البذور هي كتابات الناموس والأنبياء التي لم تكن قد ابيضت بالنسبة للذين لم يتقبلوا حضور الكلمة. لكنها صارت هكذا بالنسبة للذين صاروا تلاميذ ابن الله، وأطاعوه، هذا القائل: “ارفعوا أعينكم وانظروا الحقول إنها قد ابيضت للحصاد” [٣٥][91].
- كتلاميذ حقيقيين ليسوع لنرفع أعيننا وننظر الحقول التي غرسها موسى والأنبياء، لكي نرى بياضها، وكيف قد أُعدت لحصاد ثمارها، وجمعه لحياة أبدية، في رجاء نوال أيضًا مكافأة من رب الحقول ومانح البذور[92].
- كل إنسان، أيًا كان، يقرأ: “إن كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب، ويتكئون مع إبراهيم واسحق ويعقوب في ملكوت السماوات” (مت ٨: ١١)، سيتفق في إن الزارع والحاصد يفرحان معًا، حيث يهرب كل أنين وحزن ووجع في الدهر الآتي (إش ٣٥: ١٠).
إن تردد أحد في قبول أنه حتى الآن الذي يزرع يفرح مع كل من يحصد، ليذكر ما حدث في تجلي يسوع كنوعٍ من الحصاد عندما ظهر في مجدٍ، ليس فقط للحصادين بطرس ويعقوب ويوحنا الذين صعدوا معه على الجبل، بل وأيضًا للغارسين موسى وإيليا من قبل، فاستناروا إلى هذا الحد بواسطة الآب وأناروا الذين رأوه. هكذا الآن يُرى موسى وإيليا معًا مع الرسل القديسين[93].
العلامة أوريجينوس
“لأنه في هذا يصدق القول:
إن واحدًا يزرع،
وآخر يحصد“. [37]
هوذا السيد المسيح يرسل تلاميذه للحصاد، الحقل الذي تعب فيه آباء وأنبياء العهد القديم زمانًا هذا مقداره.
- يمكننا القول أن واحدًا ينتمي إلى الناموس، والآخر إلى الإنجيل، لكنهما يفرحان معًا [٣٦]، لأن لهما هدف واحد من الله الواحد بيسوع المسيح الواحد، المخزن لهما في الروح القدس الواحد[94].
العلامة أوريجينوس
- الأنبياء هم الذين زرعوا ولم يحصدوا، وأما الذين حصدوا فهم الرسل. لكن لم يُحرم الذين زرعوا فقط من الفرح بالمكافأة على أتعابهم، إنما تهللوا وابتهجوا بالرغم من أنهم لم يحصدوا[95].
القديس يوحنا الذهبي الفم
“أنا أرسلتكم لتحصدوا ما لم تتعبوا فيه.
آخرون تعبوا وأنتم قد دخلتم على تعبهم“. [38]
- ولِمَ قال المسيح هذه الأقوال لتلاميذه؟ حتى إذا أرسلهم للمناداة لا يضطربوا كأنهم مرسلون إلى عملٍ شديد الصعوبة، لأن عمل الأنبياء كان أكثر تعبًا… إذ جاء التلاميذ إلى الأعمال الأسهل من غيرها، لأنه كما أن الثمرة تجمع في الحصاد بسهولة كذلك يصير عملهم الآن. بهذا شجع المسيح تلاميذه كثيرًا، لأن هذا العمل إذا كان يُظن أنه متعب، إذ يجولون المسكونة وينادون بالتوبة، بيَن لهم أنه سهل، لأن العمل الذي كان متعبًا جدًا، إنما كان ذاك العمل الذي احتاج تعبًا كثيرًا، وهو بذر البذور وأن يدخلوا نفسًا بعيدة إلى معرفة الله[96].
- الآن عمل الحصاد غير الزرع. لقد حُفظتكم لعمل أقل مشقة بينما المسرة أعظم، ليس أن تزرعوا لأنه يحتاج إلى جهد أصعب وإلى ألم.
في الحصاد ننال عائدًا عظيمًا بينما الجهد والألم ليسا هكذا عظيمًا، حقًا أنه أكثر سهولة… العمل الشاق الذي يتطلب جهدًا هو غرس البذور ودخول النفس التي لم تنل العضوية (الكنسية) إلى معرفة الله… هذه هي رغبة الأنبياء أن يحضروا كل البشر إليّ، هذا ما كان يعده الناموس. بسبب هذا كانوا يغرسون لكي يأتوا بهذا الثمر. بهذا كله يظهر أنه أرسلهم أيضًا وأن العلاقة بين الجديد والقديم عظيمة، وقد أظهر هذا كله بهذا المثل[97].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- الكلمة دائمًا يجعل أتعاب الناس القدامى أكثر وضوحًا للتلاميذ الحقيقيين حتى لا يمارسوا ذات الأتعاب التي واجهت الغارسين[98].
العلامة أوريجينوس
5. إيمان السامريين به
“فآمن به من تلك المدينة كثيرون من السامريين،
بسبب كلام المرأة التي كانت تشهد أنه قال لي كل ما فعلت“. [39]
لم يرَ أهل سوخار معجزة ما، لكن ما اجتذبهم إلى السيد المسيح هو شخصه وحديثه الإلهي. تمتعوا بكلمة المسيح الواهبة الحياة، هذا ما سيؤكده الإنجيلي في الحقبة التالية… في حواره الأول السابق مع نيقوديموس القائد الديني ركز السيد على الميلاد الجديد بالمعمودية، وهنا يركز السيد على شخصه لكي يقبله الأمم ويتمتعوا بعمله الخلاصي.
- إن تطلعنا إلى ما يُقال بخصوص السامرة، والمرأة السامرية وبئر يعقوب فإنه ليس من الصعب أن نرى كيف أن هؤلاء الذين أُحبطوا بالتعاليم الباطلة تركوا مدينة آرائهم كما لكي يتمتعوا بالتعليم الصادق. وإذ تركوها آمنوا بحق بالتعليم الخلاصي بسبب امرأة واحدة سبق فقبلت تعليم الخلاص عند بئر يعقوب، وقد تركت جرتها السابقة المُشار إليها لكي تدعو الآخرين لكي ينتفعوا بنفس الطريقة[99].
العلامة أوريجينوس
“فلما جاء إليه السامريون،
سألوه أن يمكث عندهم،
فمكث هناك يومين“. [40]
يرى العلامة أوريجينوس أن يسوع مكث معهم ليس في مدينتهم، إذ خرجوا إليه خارج مدينتهم [٣٠]، أي مكث في عقولهم.
لم يذكر الكتاب أنه صنع آيات بينهم، إذ كانوا بسطاء محتاجين ومستعدين لسماع الكلمة، تعلقوا بالسيد المسيح من أجل الحق. ولم يطلبوا آيات لكي يتحققوا من شخصه كما طلب كثير من القيادات اليهودية.
في إنجيل لوقا نجد سامريين رفضوا أن يعبر يسوع بمدينتهم (لو ٩: ٣٥). هنا نجد سامريين يسألونه أن يمكث معهم، ففي كل شعب نجد من يقبل الحق، ومن لا يطيقه.
مع أن السيد المسيح كان في طريقه من اليهودية إلى الجليل، ومرّ عابرًا بالسامرة، فإنه إذ وجد فرصة للخدمة، وقبولاً للكلمة لم يرفض طلب السامريين بل مكث معهم يومين.
- يبقى يسوع مع الذين يطلبونه، خاصة عندما يترك سائليه مدينتهم، ويأتون إلى يسوع، مقتدين بإبراهيم عندما أطاع الله الذي قال له: “أخرج من مدينتك ومن شعبك ومن بيت أبيك” (تك ١٢: ١)[100].
- يبقى يسوع يومين مع الذين يسألونه، لأنهم لم يدركوا بعد يومه الثالث، إذ كانوا غير قادرين على إدراك أي شيء معجزي مثل هؤلاء الذين أكلوا مع يسوع في اليوم الثالث في عرس قانا الجليل (يو ٢: ١)[101].
العلامة أوريجينوس
“فآمن به أكثر جدًا بسبب كلامه“. [41]
لقاؤهم مع السيد وهبهم نموًا في الإيمان وتزايدًا في عدد المؤمنين.
- نال اليهود معرفة أكثر من السامريين، وتعرفوا دومًا على الأنبياء، وأكلوا معهم، فظهروا في هذا أنهم متأخرون عنهـم، لأن هؤلاء السامريين آمنوا بالمسيح بناء على شهادة امرأة، دون أن يبصروا منه معجزة واحدة، وخرجوا مسرعين يطلبون من المسيح أن يقيم عندهم، أما اليهود فشاهدوا بأعينهم عجائبه، وليس أنهم لم يستبقوه معهم بل طردوه بعيدًا، واستخدموا كل وسيلة لاستبعاده عن بلادهم، مع أنه قد جاء أصلاً لأجهلم[102].
- سيدين هؤلاء السامريون اليهود بإيمانهم بالمسيح وقبولهم إياه، لأن أولئك اليهود بعد كل أعماله وعجائبه قاوموه دفعات متصلة، أما السامريون فبدون آيات أظهروا إيمانهم به.
القديس يوحنا الذهبي الفم
“وقالوا للمرأة:
إننا لسنا بعد بسبب كلامك نؤمن،
لأننا نحن قد سمعنا ونعلم أن هذا هو بالحقيقة المسيح مخلص العالم“. [42]
رؤيتهم للسيد المسيح وسماعهم له ثبَّت إيمانهم الذي تسلموه من المرأة، وانجذب كثيرون معهم في ذات الإيمان، كما تعرفوا عليه أنه ليس مخلص اليهود وحدهم ولا معهم السامريون فحسب، بل هو بالحقيقة مخلص العالم الذي قال عنه إشعياء النبي: “جعلتك نورًا للأمم، لتكون خلاصي إلى أقصى الأرض” (إش ٤٩: ٦).
إيمانهم حمل يقينًا “بالحقيقة المسيح مخلص العالم“، وكما قالت ملكة سبأ لسليمان الملك: “صحيحًا كان الخبر الذي سمعته في أرضي عن أمورك وحكمتك، ولم أصدق، حتى جئت وأبصرت عيناي، فهوذا النصف لم أُخبر به” (١ مل ١٠: ٦–٧).
هذه هي البذار التي غرسها السيد المسيح في السامرة في خلال يومين، نسمع بعد حوالي أربع أو خمس سنوات عن تبشير فيلبس في السامرة، حيث وجد بذارًا صالحة في الأرض (أع ٨: ٥–٦، ٨). كما وجد أيضًا أشرارًا مثل سيمون الساحر (أع ٨: ٩–١٠).
- تفوَّق الدارسون على معلمتهم، وصار لهم الحق في إدانة اليهود بقبولهم له وإيمانهم به… أدركوا في الحال أنه سوف يجتذب العالم إليه، وأنه جاء ليصنع خلاصًا لنا شاملاً، ولا تقتصر رعايته على اليهود وحدهم… إنه المخلص الحقيقي الذي يهب الخلاص الحقيقي الأبدي وليس الزمني.[103]
القديس يوحنا الذهبي الفم
- لم يصفوا المسيح مخلصًا على بسيط ذات الوصف، لكنهم قالوا: “نحن نعلم أن هذا هو بالحقيقة المسيح مخلص العالم“، الواهب الخلاص الحقيقي لا الخلاص الوقتي فقط. وهذا القول كان عن إيمان خالص، والدليل على ذلك أولاً لأن إيمانهم كان خاليُا من عجائب شاهدوها. ثانيًا على الرغم من أنهم سمعوا المرأة قائلة في ارتياب “ألعل هذا هو المسيح” لم يقولوا إننا نظن أنه المسيح، لكنهم قالوا: “نحن نعلم أن هذا هو بالحقيقة المسيح مخلص العالم“. فإنهم لم يعترفوا بالمسيح كأنه واحد من كثيرين، لكنهم أقروا أنه بالحقيقة المخلص، ومع أنهم لم يبصروه قد خلص، وإنما سمعوا كلامه قالوا هذا القول، فلو أنهم أبصروا عجائبه لقالوا أقوالاً كثيرة عظيمة. وإذ قالوا عن المسيح إنه مخلص العالم أوضحوا أنه مخلص العالم الضال.
القديس يوحنا الذهبي الفم
- لقد جحدوا إيمانهم القائم على حديث المرأة، وذلك عندما اكتشفوا أن سماعهم للمخلص نفسه أفضل من هذا الإيمان. فقد عرفوا هم أيضًا “أن هذا هو بالحقيقة المسيح مخلص العالم” [٤٢].
حقًا إنه من الأفضل أن تكون شاهد عيان للكلمة، وأن تسمع له، دون استخدام الأعضاء الجسمانية وتدَّخل المعلمين، هذا الذي يعلم ويقدم صورًا أمام العقل لإظهار الحق بأكثر وضوح، أفضل من الاستماع للرسالة عنه خلال الخدام الذين رأوه بينما لا يراه الشخص ولم يستنر بقوته[104].
- ليس بالأمر المدهش في الحقيقة أن البعض يُقال عنهم أن يسلكون بالإيمان لا بالعيان، وآخرين يسلكون بالعيان (الداخلي) الذي هو أعظم من السلوك بالإيمان (دون خبرة الرؤية الداخلية)[105].
العلامة أوريجينوس
6. ذهابه إلى الجليل
“وبعد اليومين خرج من هناك،
ومضى إلى الجليل“. [43]
- قضى يومين في السامرة فآمن به السامريون، وقضى أيامًا كثيرة في الجليل ومع ذلك لم يؤمن به الجليليون… لم ينتظر السامريون آية، بل آمنوا بمجرد كلمته… بحديثه وحده آمن كثير من السامريين، وبالمعجزة التي فعلها لم يؤمن في الموضع سوى ذلك البيت [53][106].
القديس أغسطينوس
“لأن يسوع نفسه شهد أن ليس لنبي كرامة في وطنه“. [44]
يرى البعض أن الإنجيلي يقصد أن يسوع ذهب إلى الجليل وليس الناصرة، وإن كان قد اعتاد السيد أن يذكر هذا المثل مشيرًا إلى وطنه “الناصرة” (مت ١٣: ٥٧؛ مر ٦: ٤؛ لو ٤: ٢٤).
لم يذهب السيد المسيح إلى وطنه بل إلى الجليل ليس طلبًا للكرامة الزمنية، وإنما لأنه لا يقحم نفسه علي شعب يرفضه. حتى عندما ظهر لتلاميذه وسط العاصفة يقول الإنجيلي: “ولما قبلوه دخل السفينة”. يشتهي السيد أن يعبر إلينا، ويدخل إلى مدينتنا، ويقود سفينة حياتنا، لكن ليس قهرًا بل عندما نطلبه. هذا ومن جانب آخر فإن الذين يطلبونه ويكرمونه يطلبهم ويكرمهم. “أكرم الذين يكرمونني، والذين يحتقرونني يصغرون” (أم 2: 30). إنه لجأ إلي الجليل بعد أن قدم كل فرصة ممكنة لشعبه ووطنه، إذ يقول: “بسطت يدي طول النهار إلي شعب متمرد” (إش 65: 2؛ رو 10: 21).
- لماذا أضاف هذا (المثل)؟ لأنه لم يرحل إلي كفرناحوم بل إلي الجليل، ومن هناك إلى قانا. ولكي لا تسأل لماذا لم يمكث مع شعبه بل مع السامريين، أضاف الإنجيلي السبب، مظهرا أنهم لم يكونوا يبالون به. لهذا لم يذهب إلي هناك، حتى لا تكون دينونتهم أعظم. لأنني أظن أنه يتحدث هنا عن كفرناحوم أنها “وطنه”. ولكي يظهر أنه لم ينل كرامة هناك اسمعه يقول: “وأنت يا كفرناحوم المرتفعة إلى السماء، ستهبطين إلى الهاوية” (مت 11: 23). لقد دعاها وطنه، لأنه هناك حقق تدبير الكلمة (التجسد الإلهي) وسكن فيها علي وجه الخصوص[107].
القديس يوحنا الذهبي الفم
“فلما جاء إلى الجليل قبله الجليليون،
إذ كانوا قد عاينوا كل ما فعل في أورشليم في العيد،
لأنهم هم أيضًا جاءوا إلى العيد“. [45]
قبله الجليليون بكونه المسيا الموعود به، وذلك بسبب ما رأوه من آيات وعجائب صنعها في أورشليم حين كان في عيد الفصح (يو ٢: ٢٣).
- ها سامريون وجليليون قد آمنوا بالمسيح لخزى اليهود وتخجيلهم، فالسامريون وُجدوا أفضل من الجليليين، لأن أولئك السامريين قبلوه من كلام المرأة، أما الجليليون فقبلوه من معجزاته. يذكر الإنجيلي السامع بالمعجزة (تحويل الماء خمرًا في قانا الجليل) ليرفع من مديح السامريين، فقد قبله رجال قانا بسبب المعجزة التي تمت في أورشليم، ولم يكن هذا حال السامريين، إذ قبلوه من أجل تعليمه وحده[108].
القديس يوحنا الذهبي الفم
“فجاء يسوع أيضًا إلى قانا الجليل حيث صنع الماء خمرًا،
وكان خادم للملك ابنه مريض في كفرناحوم“. [46]
كانت قانا على الطريق من الناصرة إلى كفرناحوم وبحر طبرية.
يرى العلامة أوريجينوس أن زيارتي يسوع إلى قانا الجليل تشيران إلى مجيئيه الأول والأخير. ففي المجيء الأول حول الماء خمرًا، وفي الثاني وهب الحياة لابن خادم الملك الذي أوشك على الموت. [توجد أيضًا زيارتان للكلمة في النفس. في الأولى يهبها خمرًا من الماء، لأجل بهجة الذين يعيدون معًا، والثانية فيها ينزع كل مرض لمدى طويل، وكل تهديد للموت[109].]
- في الرحلة الأولى بعد عمادنا يجعلنا نحن الذين نسكن معه مبتهجين، واهبًا إيانا خمر قوته لكي نشرب. هذا الماء عندما سُحب أولاً صار خمرًا عندما حوَّله يسوع. لأن الكتاب المقدس كان بالحق ماءً قبل مجيء يسوع، ولكن منذ مجيئه صار لنا خمرًا. في زيارته الثانية حيث سلمه الله الدينونة، يحررنا من حمى وقت الدينونة. إنه يحل ابن الملك من الحمى، ويشفيه تمامًا، سواء يُفهم انه ابن إبراهيم، أو ابن حاكم يدعى خادم الملك[110].
العلامة أوريجينوس
- جاء إلي الجليل بسبب حسد اليهود، ولكن لماذا جاء إلى قانا؟ جاء إليها أولاً بكونه مدعو إلي عرس، ولكن لماذا جاء الآن؟ حسب ظني أنه جاء لكي بحضوره يثبت الإيمان الذي زرعه بمعجزته، ولكي يجتذبهم إليه أكثر بحضوره إليهم مدعوًا من نفسه، تاركًا مدينته ومفضلاً إياهم عنهم[111].
القديس يوحنا الذهبي الفم
7. شفاء ابن خادم الملك
“هذا إذ سمع أن يسوع قد جاء من اليهودية إلى الجليل،
انطلق إليه وسأله أن ينزل ويشفي ابنه،
لأنه كان مشرفًا على الموت“. [47]
لم يفعل السيد المسيح شيئًا سوى أنه تكلم، مقدمًا كلماته واهبة للحياة، إذ كان الابن قد قارب الموت [47].
خادم الملك Basilibos، وهو حارس في القصر الملكي. يرى كثير من الدارسين أن الملك هنا هو هيرودس أنتيباس رئيس ربع علي الجليل، كان الشعب يدعوه “الملك”. يرى القديس چيروم أن اسمه Palantinus، بينما يرى آخرون أنه خوزي Chuza (لو ٨: ٣) وهو زوج يونا السيدة التي كانت تتبع السيد المسيح مع النساء اللواتي كن يخدمنه من أموالهن الخاصة، وآخرون أنه مناين Manaen (أع ١٣: ١).
جاء الوصف هنا دقيقًا، إذ يقول: “سأله أن ينزل…”، لأن السيد كان في قانا الجليل وهى علي هضبة عالية جدًا بينما كفرناحوم تقع على شاطئ بحر الجليل في مستوى البحر. هذا يؤكد أن الكاتب يدرك تمامًا طبيعة المنطقة.
جاء خادم الملك من كفرناحوم إلى قانا، وهي مسافة تبلغ حوالي 16 ميلاً.
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم أن هذا الشخص إما أن يكون من الأسرة الملكية، أو نال كرامة عظيمة بسبب وظيفته، لهذا لقب بالنبيل أو الشريف. كما يقول أن البعض يحسبونه ذات الشخص الوارد في مت 8: 5، لكن القديس يرفض ذلك، فإن الاختلاف بينهما ليس من جهة الكرامة فحسب، وإنما من جهة الإيمان أيضًا. فالوارد في إنجيل متى حتى عندما أراد يسوع أن يذهب إليه توسل إليه أن يبقى؛ أما هذا فقد طلب من السيد أن يأتي إلى بيته دون أن يسأل السيد هذا. الأول قال “لست مستحقًا أن تدخل تحت سقفي” والثاني حثه علي المجيء قائلا: “انزل قبل أن يموت ابني”. في الحالة الأولى كان السيد نازلاً من الجبل داخلاً كفرناحوم، أما هنا فجاء من السامرة ولم يدخل كفرناحوم بل قانا حيث قابله الرجل. الأول كان خادمه مصابًا بفالج، أما هنا فابنه مصاب بحمى[112].
“فقال له يسوع:
لا تؤمنون إن لم تروا آيات وعجائب“. [48]
لم يقل له السيد أنه ليس له إيمان، بل كان ضعيفًا في إيمانه. لم يكن قادرًا أن يؤمن بأن السيد يشفيه ما لم يحضر بنفسه من قانا إلى كفرناحوم. إنه الإيمان الضعيف الذي يقوم علي أساس المعجزات، وهو إيمان كثيرًا ما لا يتعدى العقل، لذا يتعرض للضعف والشك. هذا بخلاف الإيمان خلال إعلان الله للنفس، وتمتعها بأسرار الكلمة الإلهية.
يتساءل القديس يوحنا الذهبي الفم لماذا قال السيد المسيح هذا مع أنه واضح أن هذا الشخص كان مؤمنًا، وما أن سمع كلمة من السيد المسيح حتى آمن [50]؟ ويجيب علي ذلك بقوله: [إما أنه استخدم هذه الكلمات لتزكية السامريين، لأنهم آمنوا دون آيات، أو لكي يلمس بها كفرناحوم التي يظن إنها وطنه، والتي جاء منها هذا الشخص. أضف إلى هذا ما قاله شخص ما “أؤمن يا سيد فأعن عدم إيماني” (مر 9: 24). هكذا إن كان هذا الحاكم قد آمن، فإن إيمانه لم يكن كاملاً، أو لم يكن سليمًا، هذا يظهر من سؤاله عن الساعة التي فيها أخذ يتعافى [52]، ليعرف إن كان ما قد حدث طبيعيًا أم بناء على أمر المسيح[113].
“قال له خادم الملك:
يا سيد انزل قبل أن يموت ابني“. [49]
مع إيمانه الذي جعله يتحرك ليقطع هذه الرحلة، ويلتقي مع السيد المسيح، تاركًا ابنه علي فراش الموت، لكنه في ضعف لم يدرك أنه يتحدث مع غالب الموت وواهب القيامة. في مرارة كان يتعجل تحرك السيد المسيح إلى بيته قبل أن يموت ابنه. لقد ملك الفزع علي قلب أب كاد أن يفقد ابنه، وقد أظهر السيد نوعًا من التباطؤ، ليس في عدم مشاركة لمشاعر الأب المرتعب من موت ابنه، وإنما لبنيان نفسه ونفوس كثيرة. يريد السيد أن يوجه أنظار الأب وكل من حوله إلى سرّ الحياة والقيامة، إلى شخصه كمخلص العالم. أما عمل الآية فيُعطى كهبة إضافية كمن يطلب ملكوت الله وبره.
كثيرا ما تحدث القديس أغسطينوس عن ضعف علاقتنا بالله وانحرافها، حينما لا يشغلنا سوى التمتع بالنعم والبركات الزمنية من الله صانع الخيرات عوض الانشغال به واقتناءه في داخلنا.
بنفس الروح يطالبنا القديس بولس ألا تكون علاقتنا بالقديسين مجرد علاقة للتمتع بمعونتهم، خاصة في حل المشاكل المادية أو المعنوية أو الاجتماعية، إنما في الدرجة الأولى علاقة حب داخلي كأساس للإقتداء بسيرتهم في المسيح يسوع. ” انظروا إلى نهاية سيرتهم فتمثلوا بإيمانهم”.
- انظر إلى أقوال خادم الملك، كيف تبين ضعفه، لأنه كان واجبًا عليه أن يتصور في ربنا تصورًا عظيمًا من أجل ابنه. لأن بقوله للمسيح: “يا سيد انزل قبل أن يموت ابني” أنزله بمنزلة من هو ليس مقتدرًا أن يقيم ابنه بعد موته، وكما لو كان غير عارفٍ بحال الغلام. لهذا السبب فإن المسيح لامه، لامسًا ضميره، مظهرًا أن معجزاته تتم لحساب النفس. هنا يشفي الأب المريض في ذهنه لكي يحثنا أن نهتم به لا لأجل الآيات بل بتعليمه. فإن الآيات ليست للمؤمنين بل لغير المؤمنين[114].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- لديه إيمان قليل في ذاك، إذ ظنه لا يقدر أن يشفي ما لم يكون حاضرًا بالجسد. لو أنه آمن بالكامل لعرف أنه لا يوجد موضع ليس فيه الله حاضرًا… فالذي خلق كل شيء بإرادته يحقق الشفاء بمجرد أمر منه[115].
البابا غريغوريوس (الكبير)
“قال له يسوع:
اذهب ابنك حي؟
فآمن الرجل بالكلمة التي قالها له يسوع وذهب“. [50]
اهتمام السيد المسيح بتوجيه خادم الملك إلي الإيمان الحي القوي لا يعنى تجاهله الجهد الذي بذله بحضوره إليه وقطعه هذه الرحلة، فإن مسيحنا لا ينسى تعب المحبة، ولا يتجاهل كأس ماء بارد يُقدم باسمه. هذا وهو الكلي الحب لا يتجاهل مشاعر أب يرى ابنه علي سرير الموت، وقد اعتصر قلب الآب. وأخيرًا فإن لجاجة الرجل لها تقديرها، إذ يطالبنا أن نصلي ولا نمل، وقد مدح الأرملة التي من أجل لجاجتها سمع لها القاضي الظالم.
بقوله: “اذهب ابنك حي” أعلن سلطانه المطلق، فهو ملك الملوك ورب الأرباب له “الحياة في ذاته”، صاحب سلطان، ينتهر الأمراض فتهرب، والموت فيولي هاربًا. أما خادم الملك فيعرف ما للأوامر الملكية من سلطان وقوة، فلا تًقاس فيها. تقبل الكلمة كأمر ملكي وانطلق في يقين بلا جدال ولا حوار ليتمتع بهذا الكنز الثمين: الأمر الإلهي النافذ العمل!
آمن القائد، لكن بقي الإيمان مشروطًا في داخله، وهو أن يتأكد بأن ابنه قد شُفي، لذلك قيل فيما بعد: “فآمن هو وبيته كله” (٥٣).
“وفيما هو نازل استقبله عبيده وأخبروه قائلين:
إن ابنك حيّ”. [51]
“فاستخبرهم عن الساعة التي فيها أخذ يتعافى،
فقالوا له أمس في الساعة السابعة تركته الحمى“. [52]
بسؤاله كشف خادم الملك عن ضعف إيمانه، لكن كما قيل عن السيد: “فتيلة مدخنة لا يطفئ، وقصبة مرضوضة لا يقصف” (مت 12: 20). إنه الراعي الذي يهتم بالخراف الضعيفة حتى يسندها، ويدخل بها إلى حظيرة الإيمان.
“ففهم الآب انه في تلك الساعة التي قال له فيها يسوع إن ابنك حي،
فآمن هو وبيته كله“. [53]
“هذه أيضًا آية ثانية صنعها يسوع لما جاء من اليهودية إلى الجليل“. [54]
سبق فأشار الإنجيلي إلي معجزة تحويل الماء خمرًا عندما قال بأن يسوع جاء إلى قانا الجليل [46]، وها هنا يشير إليها بقوله: “هذه أيضا آية ثانية صنعها يسوع…” وكأن الإنجيلي أراد أن يربط بين الآيتين، الأولي في بداية خدمة السيد المسيح حيث حوَّل العالم إلي عرس أبدي ليتمتع الكل بخمر محبة الله وفرح السماء الذي لا ينقطع. والثانية حيث أشرف ابن خادم الملك علي الموت، وغالبًا ما كان أمميًا، فوهبه الشفاء ليعلن أنه يطلب سلامة الشعب أو سلامة عروسه. تمجد السيد المسيح في المعجزة الأولى أمام صاحب العرس اليهودي، وتمجد هنا أمام الجموع التي جاءت في بيت خادم الملك الأممي.
ويرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن الإنجيلي ذكر هذا ليكشف عن سمو السامريين الذين آمنوا بالسيد المسيح دون أن يروا المعجزة الأولى أو الثانية، بل قبلوه من خلال تعليمه.
- يحوى هذا القول أيضًا مديحًا للسامريين، موضحًا أن اليهود بعد أن تمت “آية ثانية” لم يصلوا بعد إلى علو أولئك السامريين الذين لم يبصروا ولا آية واحدة.
- لم يذكر الإنجيلي كلمة “ثانية” بلا هدف، وإنما لكي يزيد من دهشة السامريين بإظهار أنه حتى عندما تمت آية ثانية فإن الذين شاهدوها لم يبلغوا بعد إلى سمو الذين لم يشاهدوها[116].
القديس يوحنا الذهبي الفم
من وحي يو 4
ينبوع حبك يروي أعماق نفسي!
- حبك العجيب يتحدّى كل القوانين!
لا تقف أمامه صعاب أو عقبات!
من أجل امرأة سامرية فقيرة وسيرتها مشينة،
انطلقت إلى السامرة، سائرًا على قدميك، صائمًا!
يا من يشتهي السمائيون أن يحملوك.
جسدك الرقيق صار مرهقًا!
لكن نفسك كانت في ظمأ إلى خلاص المرأة!
- خجلت السامرية من الذهاب صباحًا حتى لا تلتقي بأحدٍ.
لم يكن لديها خادم أو جارية يجلب لها ماءً.
وجَدّتك وحدك وسط الظهيرة تبحث عنها.
تحمل إليها ينابيع مياه حيّة،
من يشرب منها لا يعطش أبدًا.
- تواضعك مع حبك ولطفك أنساها العداوة بين السامريين واليهود.
التطلع إليك ألهب قلبها للعبادة للَّه.
وثقَتْ فيكَ، فاسترسلَت تتحدث في أمر العبادة!
تعرَّفَت عليك،َ وتدرّجت في معرفتها لك.
إذ بحثَتْ عنك بإخلاص، أعلنتَ ذاتك لها!
- يا للعجب، إنها لم ترَ قطْ معجزة أو آية فائقة،
لكن حديثك سحب كل كيانها للتمتع بالخلاص.
اعترفت بأسرارها لشخصية، إذ وجدت عريس نفسها.
لم يشبعها الرجال الخمسة السابقين، ولا الرجل الذي معها.
أدركت أن أسفار موسى الخمسة،
والتعاليم التي بين يديها،
لن تروي ظمأها.
أنت وحدك عريس نفسها.
- اقتنتك في داخلها،
فاتسع قلبها بالحب لكل بشرٍ.
تركت جرّتها، ودون أن تستأذن جرت إلى مدينتها.
بقلبها الناري لم تخجل أن تعترف بحكمة فائقة:
“إنسان قال لي كل ما فعلت،
ألعلّ هذا هو المسيح؟!”
خرجت المدينة بأسرها وانطلقت نحو العريس العجيب!
- لم يصدر لها أمر بالكرازة،
ولا تدربت على فن الشهادة،
لكنها فعلت ما لم يفعله رسول أو تلميذ!
بحبها جذبت المدينة كلها،
وإذ التقوا بكَ رفضوا أن يتعلّموا من غيرك.
أعلنوا في يقين ما لم يعلنه تلاميذك:
نعلم أن هذا هو بالحقيقة مخلص العالم!
- حقًا أنت مخلص العالم،
أنت واهب الشفاء والحياة.
يا من أقمت ابن خادم الملك كما من الموت!
أقم نفسي المسكينة،
فتتمتع بك، يا مصدر الحياة والفرح!
[1] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 15:3.
[2] Homilies on St. John, 31:1-2.
[3] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 15:2.
[4] Homilies on St. John, 31:2.
[5] Letter 108:13.
[6] Homilies on St. John, 31:2.
[7] Homilies on St. John, 31:3.
[8] Of the Holy Spirit 1:16:184-185.
[9] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 15:4.
[10] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 15:7.
[11] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 15:8.
[12] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 15:9.
[13] Homilies on St. John, 31:3.
[14] Sermon on N.T. Lessons, 49:3.
[15] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 15:11.
[16] Homilies on St. John, 31:3.
[17] Homilies on St. John, 31:3.
[18] Homilies on St. John, 31:4.
[19] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate, 15:12.
[20] Homilies on St. John, 31:4.
[21] Of the Holy Spirit 1:16:175.
[22] Adam Clarke Comm.
[23] Hom. On John, 32:1.
[24] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 15:16.
[25] EP. 62 to Caecillius.
[26] Hom. On John, 32: 1.
[27] Of the Holy Spirit 1:16:181-182.
[28] Commentary on John, Book 13:20.
[29] Commentary on John, Book 13:25.
[30]Commentary on John, Book 13:27 – 39
[31] Romans 7:2.
[32] نشيد الأناشيد للقديس غريغوريوس أسقف نيصص، تعريب الدكتور جورج نوّار، عظة 5.
[33] Hom. On John, 32.
[34]Commentary on John, Book 13:41 – 42.
[35]Commentary on John, Book 13:43 – 50.
[36] Letter 108:13
[37] راجع السامرية: دار القديس يوحنا الحبيب للنشر بالقاهرة Hom. on John, 32.
[38] Commentary on John, Book 13:51.
[39] Commentary on John, Book 13:52.
[40] Letter 48:18.
[41] Hom. On John, 32.
[42] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 15:23.
[43] راجع السامرية: دار القديس يوحنا الحبيب للنشر بالقاهرة Hom. on John, 32: 2.
[44] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 15:24.
[45] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 15:25.
[46]Commentary on John, Book 13:98 – 99.
[47] Hom. On John, 3 3: 1.
[48] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 15:26.
[49] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 15:27.
[50] Hom. on John, 3 3: 1.
[51] Hom. on John, 3 3: 1.
[52]Of The Christian Faith , Book 5 , ch. 4 (50).
[53] Hom. on John, 3 3: 2.
[54] Hom. 33 PG 59: 191.
[55] Commentary on John, Book 13:112.
[56] Hom. on John, 3 3.
[57] Letter 58:3.
[58] مز 3:11 “من الفجر لك كل حداثتك “.
[59] مقال 11: 5.
[60] Of the Holy Spirit Book 1:9:105.
[61] On the Trinity Book 2 (31)
[62] Hom. on John, 33: 2.
[63] Hom. on John, 33: 2.
[64] Sermon on N.T. Lessons, 51:2.
[65] Hom 34.PG 59: 195
[66] Hom. on John, 33: 3.
[67] Commentary on John, Book 13:175.
[68] Commentary on John, Book 13:179.
[69] Commentary on John, Book 13:181.
[70] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 15:30
[71] Hom. on John, 34: 1.
[72] Hom. On John, 32.
[73] Hom 34. PG 59: 195.
[74] Hom. on John, 34: 1.
[75] Hom. on John, 34: 1.
[76] Letter 125:1.
[77] مقال 10: 15.
[78] Commentary on John, Book 13:206 – 217.
[79] Cf. Commentary on John, Book 13:245.
[80] Commentary on John, Book 13:242.
[81] Letter 108:13
[82] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 15:31.
[83] On the Christian Faith, Book 5:13:169.
[84] Duties of the Clergy 1:31:163-164.
[85] Sermon Against Auxentius, 14.
[86] نشيد الأناشيد للقديس غريغوريوس أسقف نيصص، تعريب الدكتور جورج نوّار، عظة 10.
[87] Commentary on John, Book 13:274 – 276.
[88] Commentary on John, Book 13:278.
[89] Commentary on John, Book 13:284.s
[90] Letter 76:2.
[91] Commentary on John, Book 13:305 – 307.
[92] Commentary on John, Book 13:308.
[93] Commentary on John, Book 13:309 – 310.
[94] Commentary on John, Book 13:322.
[95] Hom. on John, 34: 2.
[96] Hom. on John, 34: 2.
[97] Hom 34. PG 59: 197 – 198.
[98] Commentary on John, Book 13:326.
[99] Commentary on John, Book 13:340.
[100] Commentary on John, Book 13:246.
[101] Commentary on John, Book 13:347.
[102] Hom. on John, 35: 1.
[103] Hom. on John, 35: 1.
[104] Commentary on John, Book 13:352
[105] Commentary on John, Book 13:363.
[106] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 16:3.
[107] Homilies on St. John, 35:1.
[108] Homilies on St. John, 35:2.
[109] Commentary on John, Book 13:392.
[110] Commentary on John, Book 13:438 – 439.
[111] Homilies on St. John, 35:2.
[112] Homilies on St. John, 35:2.
[113] Homilies on St. John, 35:2,
[114] Hom 35. PG 59: 204
[115] Hom 28 , Forty Gospel Homilies. PL 76: 1211.
[116] Hom 36. PG 59: 206.