Site icon فريق اللاهوت الدفاعي

تفسير انجيل يوحنا 3 الأصحاح الثالث – القمص تادرس يعقوب ملطي

تفسير انجيل يوحنا 3 الأصحاح الثالث – القمص تادرس يعقوب ملطي

تفسير انجيل يوحنا 3 الأصحاح الثالث – القمص تادرس يعقوب ملطي

تفسير انجيل يوحنا 3 الأصحاح الثالث – القمص تادرس يعقوب ملطي

الاصحاح الثالث

نيقوديموس والميلاد الجديد

المعلم واهب الميلاد الجديد!

ليس من اصحاح في العهد الجديد يبدو في صعوبة هذا الاصحاح، ومع هذا فقد جذب كثيرين من غير المؤمنين إلى الإيمان المسيحي. فعنده تقف نفس غير المؤمن الجادة في طلب خلاصها لتجد نفسها محتاجة مع نيقوديموس أن تدخل في حوار سري مع السيد المسيح، وإذ تتعرف على الإمكانيات الجديدة الموهوبة لها. تنحني أمامه تطلب الاتحاد معه لتتمتع بروحه القدوس بالميلاد الثاني الجديد خلال العماد.

         في نفس خط تأكيد الحياة المسيحانية الجديدة: خمر جديدة وهيكل جديد، كان لابد من الكشف عن الولادة الجديدة.     

يبقي هذا اللقاء الفريد بين شخصية فريسية ممتازة وبين شخص السيد المسيح ينبوع روحي حي يفيض على كل نفس جادة في خلاصها. فقد كان نيقوديموس كفريسي، رجل عالم في دراسة التوراة والتقليد اليهودي، ورجل أخلاقي يؤمن كغيره من والفريسيين أنه في قدرة الإنسان إن أراد أن يفعل برّ الناموس، يعتمد على جهاده الذاتي وإرادته البشرية، يتمسك بحرفية الناموس، وبحسب نفسه حافظا لها. يري في المسيح معلما يهوديًا مهتمًا بالناموس، ولعله كان أحد الكثيرين الذين ذكرهم الإنجيلي: “ولما كان في أورشليم في عيد الفصح آمن كثيرون باسمه إذ رأوا الآيات التي صنع” (يو 2: 24)، آمن أنه أتى من الله (يو 3: 2). ولعله كان يرجو في يسوع أن يكون مصلحًا أخلاقيًا، يقوم على أساس حفظ الناموس حرفيًا، وأن يصلح من شأن الأمة اليهودية.

لم تكن عقلية نيقوديموس وخبرته تؤهلانه لقبول الحياة الجديدة في المسيح يسوع، خلال الميلاد الجديد، والتمتع بناموس روحي جديد. كان محتاجًا أن يرفع السيد المسيح فكره وقلبه وكل أحاسيسه وطاقاته نحو السماء ليدرك حاجته إلى الميلاد الجديد خلال ذاك “الذي نزل من السماء ابن الإنسان الذي هو في السماء”، فهو وحده يصعد إلى السماء ليحمل مؤمنيه معه كأبناء لله يتمتعون بالبنوة للآب فيه.

لقاء نيقوديموس مع السيد المسيح ليلاً يسحب القلب نحو شخص السيد المسيح للتعرف على اهتمام السيد المسيح بكل نفسٍ بشريةٍ، ولطفه مع صراحته في الحديث معها.

رأينا الكلمة الحال في وسطنا ليقيمنا أبناء لله، (ص1)، الآن يعلن كيفية الميلاد الجديد في حديثه مع نيقوديموس رئيس اليهود. اشتاق نيقوديموس أن يرى الملكوت، فأكد له السيد الحاجة إلى المعمودية بالماء والروح. ليعيش المؤمن دومًا كابن لله يسلك بالروح. في هذا الإصحاح يرفعنا من الأرضيات إلى الانشغال بالسماويات خلال اتحادنا بالسماوي إلى نزل إلينا وصعد ليصعدنا معه، إذ هو قائم في السماء [13].

يربط العماد بالصليب حيث يعلن الآب حبه لكل البشرية ببذل ابنه لكي يتمتع العالم بالحياة الأبدية [16].

وإذ يشير إلى الميلاد الجديد يسحبنا من الخوف من الدينونة إلى التمتع بالنور الإلهي [21].

إذ رأى يوحنا المعمدان ما حدث في عماد السيد المسيح وما حمله هذا من تمتع المؤمنين به بالبنوة، كمل فرحهُ. لقد سمع صوت العريس يخطب عروسه لتحيا معه في الأمجاد السماوية [29].

  1. حوار حول الميلاد الجديد ١ – ١٣.
  2. الميلاد الجديد وذبيحة الصليب ١٤ – ١٧.
  3. الاستنارة والإيمان ١٨ – ٢١.
  4. موقف المعمدان من معمودية المسيح ٢٢ – ٣٦.

1. حوار حول الميلاد الجديد

كان إنسان من الفريسيين اسمه نيقوديموس رئيس لليهود“. [1]

نيقوديموس: اسم يوناني معناه “المنتصر على الشعب”. كان رئيسًا لليهود، أي عضوًا في مجمع السنهدرين، المجلس الأعلى للأمة اليهودية.

الدعوة الإلهية موجهة إلى كل البشرية بكل فئاتها، لكن قليلين من أصحاب المراكز الدينية والزمنية ومن لهم مراكز قيادة أن يستجيبوا للدعوة. وجد قلة قليلة جدًا من بين الفريسيين، أقل من إصبع اليد الواحدة، ممن تجاوبوا مع هذه الدعوة، من بينهم نيقوديموس. جاء إلى السيد المسيح ربنا وحده أو معه أحد تلاميذه أو أكثر. لم يستخف السيد بالنفس الواحدة، فإنه احتمل موت الصليب من أجل كل نفس.

حقًا لقد حمل الفريسيون روحًا مضادة ومقاومة للحق الإلهي، لكن وُجد بين هؤلاء المتعلمين الدارسين من يشتهي اللقاء مع السيد، وقد وجدوا بابه مفتوحًا. نعمة الله تعمل في الأميين كما في الدارسين، وفي العامة كما في القيادات، وفي البسطاء كما بين المقاومين. لقد جاء نيقوديموس إلى السيد، وبقي في مركزه بين المقاومين، ووضع قلبه أن يعمل حينما تُتاح له الفرصة قدر المستطاع. وقد حان الوقت حين لم يستطع التلاميذ أن يعملوا ليعمل هو، فأخذ تصريحًا من بيلاطس كي يدفن جسد السيد المسيح في قبره الخاص الجديد.

أُشير إلى نيقوديموس بن جوريون Gorion، في الكتابات اليهودية أنه كان غنيًا جدًا يستطيع أن يعول كل أهل أورشليم لعشرة سنوات، وإن كان البعض يرى في ذلك شيء من المبالغة.

هذا جاء إلى يسوع ليلاً، وقال له:

يا معلم نعلم أنك قد أتيت من اللَّه معلمًا،

لأن ليس أحد يقدر أن يعمل هذه الآيات التي أنت تعمل،

إن لم يكن اللَّه معه“. [2]

كلما أشار الإنجيلي يوحنا إلي شخص نيقوديموس يربطه بزيارته للسيد المسيح ليلاً، وقد كرر ذلك ثلاث مرات في هذا السفر (3: 2؛ 7:50؛19: 39). لماذا جاء إلى يسوع ليلاً؟

  1. شعر أنه لا يكفيه أن يسمع أحاديثه العامة، ولا أن يتمتع برؤية معجزاته العلنية، بل هو محتاج إلى جلسة هادئة مع السيد المسيح فيما يخص خلاص نفسه. محتاج إلى حوار شخصي معه (ملا ٢: ٧). إن كان الابن الوحيد الجنس كثيرًا ما كان ينسحب من الجماهير بل ومن التلاميذ الأخصاء ليقضي الليل كله في حديث ممتع مع الآب، ألا يحتاج كل إنسانٍ منا أن يترك كل شيء ويجلس، خاصة بالليل، مع مسيحه ليدخل معه في حوارٍ شخصي، ويتمتع بالحياة الجديدة والشركة معه؟
  2. لعله من باب الحكمة اختار المساء، لأن السيد المسيح كان مشغولاً طوال النهار بالخدمة العامة، فانتظر نيقوديموس حتى المساء ليلتقي مع السيد في وقت راحته، في حديث ودي.
  3. لعله إذ دهش برؤية بعض المعجزات انتهز أول فرصة للقاء الشخصي معه. بينما الكل نيام أراد أن يقضي سهرة روحية مع السيد المسيح، ولعله خشي ألا يجد مثل هذه الفرصة في المستقبل. كان نهازًا للفرص! إنه تمثل بداود النبي الذي كثيرًا ما كان ينتهز فرصة الليل للتأمل (مز ٣٦: ٦؛ ١١٩: ١٤٨).
  4. لعل أيضًا الدافع لمجيئه ليلاً أنه خشي أن يبلغ الخبر إلى رؤساء الكهنة فيثوروا بالأكثر  ضد السيد المسيح، أو يسيئون هم والرؤساء والفريسيون إلى نيقوديموس نفسه. ربما كان ينقصه نور الإيمان، لقد انجذب إلى شخص يسوع، لكنه لم يكن بعد قد عرفه عن قرب، ولا تعرّف على حقيقته أنه نور العالم. لقد كان قائدًا يهوديًا [1]، ومعلم إسرائيل [10]، يحتاج إلى الميلاد الجديد ليتمتع بمفاهيم جديدة للمملكة السماوية المسيحانية. في ضعف إيمانه جاء ليلاً، وقد وجد باب قلب سيده مفتوحًا، ولم يجرح مشاعره بكلمة عتاب واحدة. على أي الأحوال كان إيمانه أشبه بحبة الخردل الحية التي نمت وظهرت كشجرة عظيمة عندما مات السيد المسيح، فتقدم بشجاعة ليطلب جسد السيد.

v  وإن كان نيقوديموس تخلف، إلا أنه فكر فيه بطريقة بشرية، فتحدث عنه كأنه نبي، متوهمًا انه قال عنه أمرًا عظيمًا من خلال معجزاته. يقول: “يا معلم نعلم أنك أتيت من الله معلمًا” [2]. ” فلماذا أتيت ليلاً في الخفاء إلى ذاك الذي يتكلم بأمور الله، ذاك الذي أتي من الله؟ لماذا لم تحاوره علانية؟ لم يقل له يسوع شيئًا من هذا، ولا انتهره. إذ يقول النبي: “قصبة مرضوضة لا يقصف، وفتيلة مدخنة لا يطفئ” (إش 42: 2، 3؛ مت 12: 19، 20). مرة يقول السيد نفسه: “لم آت لأدين العالم بل لأخلص العالم” (يو 12: 47)[2].

لاحظ تنازل المسيح المتزايد. فانه قد أحجم إلى حين عن القول: “لست محتاجًا إلى عون آخرين، إنما أفعل كل شيء بسلطانٍ، لأنني ابن الله ذاته، ولي ذات سلطان أبي”، فإن هذا كان صعبًا علي سامعه…

ولهذا فإنه في مواضع كثيرة كان كمن يضع لنفسه حدودًا، أما في أفعاله فلم يفعل هكذا. فعند ممارسته معجزة، يصنع كل شيءٍ بسلطان، فيقول: “أريد فأطهر” (مت 8: 3)؛ “طليثا، قومي” (مر 5: 41)؛ “مد يدك” (مر 3: 5)؛ “مغفورة لك خطاياك” (مت9: 2)؛ “اسكت، ابكم” (مر 4: 39). “احمل سريرك واذهب إلى بيتك” (مت 9: 6). ” أيها الروح النجس، لك أقول أخرج منه” (مت 15: 28).” إن سألكما أحد، قولا: الرب محتاج إليه” (مر 11: 3).” اليوم تكون معي في الفردوس” (لو 23: 43).. “سمعتم أنه قيل للقدماء لا تقتل… وأما أنا فأقول لكم من يغضب على أخيه باطلاً يكون مستوجب الحكم”(مت 5: 21، 22).” هلم ورائي فأجعلكما تصيران صيادي الناس” (مر 1: 17). في كل موضع نلاحظ أن سلطانه عظيم، فإنه في عمله لا يمكن لأحد أن يمسك عليه خطأ… أما في أحاديثه فربما في جنونهم يتهمونه بالجنون.

لذلك في حالة نيقوديموس لم يتكلم علانية، بل قاده بكلمات غامضة أن لديه سلطانًا في ذاته يظهر معجزات، فقد ولده الآب كاملاً، فيه الكفاية المطلقة بلا نقص قط[3].

القديس يوحنا الذهبي الفم

القديس أغسطينوس

على أي الأحوال لم يأتِ ليلاً لينال المعمودية ولا ليتتلمذ للسيد، فإنه حسب التقليد اليهودي لا يجوز لمن يريد أن يدخل الإيمان اليهودي أن يُختتن أو يُعمد في الليل، وإلا حسب هذا العمل باطلاً. لقد جاء للاستنارة برأيه، والتعرف على الطريق لا للتلمذة على يديه.

يا معلم“: لم يكن من السهل لفريسي يُحسب عالمًا في الكتاب المقدس وقائدًا للشعب أن يخضع لشخصٍ ما قائلاً بروح التواضع: “يا معلم نعلم أنك قد أتيت من الله معلمًا” [٢]. لم يتحدث مع السيد في أمورٍ سياسيةٍ، ولا في شئون الدولة، مع أنه كان رئيسًا لليهود، لكن ما كان يشغله هو خلاص نفسه.

اعترف نيقوديموس بأن السيد لم يتعلم على يدي أي معلمٍ يهوديٍ، ولا التحق بمدرسة دينية، لكن تعليمه هو بسلطان إلهي سماوي. أدرك أن السيد يحمل سلطان الحق لا السيف، يعمل بحكمة علوية لا بشرية. يعترف نيقوديموس أن الآيات التي صنعها يسوع لا يمكن أن تكون مزيفة. لقد فحصها مع زملائه وأدركوا أنها من الله، تتحقق بقوة إلهية.

والعجيب أنه يتكلم بصيغة الجمع “نعلم“، ربما لأنه جاء ومعه واحد أو أكثر من تلاميذه، أو تحدث على لسان بعض الفريسيين الذين لم يكن يشغلهم شيء أو شخصٍ ما سوى “يسوع”، وقد اعترفوا فيما بينهم بما يعلنه نيقوديموس هنا، لكن أحدًا ما لم يجسر أن يتكلم علانية، ولا أن يلتقي مع يسوع خفية.

أجاب يسوع وقال له:

الحق الحق أقول لك

إن كان أحد لا يُولد من فوق (جديد)

لا يقدر أن يرى ملكوت اللَّه“. [3]

اعتبر نيقوديموس صنع الآيات دليلاً على أن يسوع هو من عند الله. فقد كان الربيون يربطون بين التقوى وعمل الآيات. ولم يكن نيقوديموس قادرًا أن يتعدى هذه الحدود ليدرك حقيقة شخص يسوع المسيح، فرآه معلمًا تقيًا، رجل الله، يتمتع بمعية الله، كما تمتع يعقوب حيث قال له الرب: “لا تخف لأني معك” (تك 26: 24). ويشوع بن نون: “كما كنت مع موسى أكون معك” (يش 1: 5) وكثير من الآباء والأنبياء لم يستطع نيقوديموس بفكره الفريسي مع تقواه أن يتعدى هذه الحدود. هذا هو ما تعلمه، وهذا هو ما كان يعيشه في الجو اليهودي.

جاء حديث السيد المسيح معه يبرز النقاط التالية:

  1. الحاجة الماسة إلى ميلادٍ جديدٍ لمعاينة عالمٍ جديدٍ في داخله “مـلكوت الله” [٣]. لذلك دعيت ولادة جديدة أو ولادة ثانية، كما جاءت في الترجمات القبطية والسريانية واللاتينية، وكما استخدمها كثير من آباء الكنيسة الأولى، مثل القديسين يوستين واكليمنضس السكندري، وترتليان، والقديسين أغسطينوس وجيروم. وقد فهم نيقوديموس كلمات السيد المسيح أنها تدعوا إلى “ميلاد جديد”، لهذا وقف في حيرةٍ وعجز: كيف يمكن لشيخ أن يدخل بطن أمه ليولد من جديد؟
  2. أن تكون الولادة من فوق، أي سماوية [٣]. إذ هو عمل خاص بروح الله القدوس السماوي، يهب إمكانيات سماوية إلهية تتجاوز الفكر البشري.
  3. تتحقق بالعماد من الماء والروح [٥].
  4. ولادة تحمل قوة فائقة كالريح ولا يُعرف سرها [٨].

كان تكرار كلمة “الحق” في الكتابات اليهودية يُحسب معادلاً لقسم له قدسيته العظمى. استخدمه السيد المسيح عندما كان يشير إلى أمرٍ له خطورته الكبرى.

في لطف ينتهره السيد المسيح معلنًا له أنه لا يكفي للشخص أن يؤمن بأن يسوع هو معلم إلهي، ولا أن يُعجب من آياته بكونها آيات صادقة وفريدة، لكن الحاجة هي إلى ولادة “من فوق“، أي سماوية، لكي يعاين ما هو سماوي. فالجنين في بطن أمه لا يقدر أن يرى العالم، ولا يحمل أية خبرات فيه، ما لم يولد من رحم أمه. هكذا لا يستطيع الإنسان أن يعاين ملكوت الله، ولا أن يحمل خبرات السماء، ما لم يولد ثانية من فوق ليرى نور العالم الجديد ويعيش فيه.

بقوله “يرى” يؤكد السيد المسيح أنه يليق بالمؤمن الحقيقي الذي يتمتع بالميلاد الجديد السماوي ألا يعتز بهذا الميلاد دون أن يرى ملكوت الله داخله ويعيشه، أي يصير له الفكر السماوي والروح العلوية والمبادئ اللائقة بناموس السماء، وأهداف جديدة ورجاء جديد وإمكانيات جديدة.

بالميلاد الجديد يبدأ المؤمن حياة جديدة تمامًا، لا تقوم على تصليح كيان الإنسان، بل هدم القديم وبناء الجديد، إماتة الإنسان العتيق وقيامة الإنسان الجديد الذي على صورة خالقه.

بميلادنا الأول أفسدتنا الخطية وشكَّلت أعماقنا حسب هواها، فصرنا جسدانيين، يسيطر علينا ناموس شهوات الجسد، وتسحبنا محبة العالم، ويتحكم فينا عدو الخير، فأصبح الميلاد الجديد ضرورة لا مفر منها. لهذا يقول السيد: “الحق الحق أقول لكم“.

ما هو ملكوت الله الذي يليق بنا أن نراه على الدوام سوى ملكوت المسيا السماوي، الساكن فينا، يقيم مملكته في داخلنا. نراه ونحيا به ونشاركه سماته، فنصير قديسين كما هو قدوس. هذا هو ملكوت الله الحاضر في حياتنا في متناول يدنا، كما أعلن السيد المسيح نفسه: “توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماوات” (مت 4: 17). كما قال:  قد أقبل عليكم ملكوت الله” (مت 12: 28)، وأكد لنا: “ملكوت الله داخلكم” (لو 17: 21). أما عن وضعنا في هذا الملكوت فهو أنه “جعلنا ملوكا وكهنة لله أبيه” (رؤ 1: 6، 9؛ 5: 10). يصبغ علينا هذا الملكوت شركة سمات ربنا يسوع، إذ أن ملكوت الله “ليس أكلاً وشربًا، بل هو برّ وسلام وفرح في الروح القدس” (رو 14: 17).

هذا الملكوت هو عربون الملكوت الأبدي، ينقلنا إلى السماء لنشتاق للدخول في شركة المجد العجيب يوم مجيء الرب. إنه يرفع فكرنا، ويصوب أنظارنا الداخلية نحو مجيء الرب الأخير والتمتع بالأكاليل السماوي.

القديس يوحنا الذهبي الفم

قال له نيقوديموس:

كيف يمكن الإنسان أن يُولد وهو شيخ؟

ألعله يقدر أن يدخل بطن أمه ثانية ويولد؟” [4]

جاء تساؤل نيقوديموس يكشف عن ضعف معرفته. بينما يتكلم السيد المسيح روحيًا كان قلب نيقوديموس مرتبطًا بالماديات. لم يكن ممكنًا أن يدرك الميلاد من فوق ما لم تُحل رباطات المادة من قلبه وفكره، فيقدر بروح الله أن يدرك الإمكانيات الروحية الجديدة.

صُدم نيقوديموس بحديث السيد المسيح عن الميلاد الجديد، فقد كان نيقوديموس كغيره من الإسرائيليين يعتزون بمولدهم من أبيهم إبراهيم، ونسبهم لشعب الله، وتمتعهم بالأنبياء، والوعود الإلهية، والعهد الإلهي، والهيكل الفريد بكل طقوسه. إنه ليس فقط إسرائيليًا بل وكان فريسيًا، فأي ميلاد أفضل يريده له يسوع؟ كان اليهود ينتظرون في مجيء المسيا أن يُقبل الأمم على الإيمان ويولدون من جديد، أما بالنسبة لهم فليس من مولد أشرف مما هم عليه. إنهم يعتزون بنسبهم وميلادهم ويصعب بل يستحيل أن يسمعوا عن مولد آخر.

مع هذا كله فإن نيقوديموس لم يعطِ ظهره ليسوع بل تساءل لعله يدرك أمرًا جديدًا كان ينقصه معرفته. كشف نيقوديموس، المعلم والرئيس، عن تواضعه واستعداده للتمتع بأية معرفة صادقة أو إعلان سماوي ينقصه، حتى وإن كان الأمر يبدو حسب معرفته مستحيلاً. إنسان عجيب، فمع خبرته الطويلة الممتدة عشرات السنوات، ومع مركزه كقائدٍ له تقديره، ومع الجو الفريسي الذي يعيشه انحنى ليتعلم شيئًا جديدًا. إنه مثل رائع لكل قائد حقيقي ألا يتشامخ بما تعلمه، بل يبقى تحت التعليم حتى آخر نسمة من حياته. وكما يقول الأسقف القديس أمبروسيوس أنه لا يوجد كائن لا يحتاج إلي التعلم سوي الله.

وهكذا أوجد مصاعب تافهة وسخيفة. لذلك يقول بولس: “الإنسان الطبيعي لا يقبل ما للروح” (1 كو 2: 14). ومع هذا فقد حفظ نيقوديموس الاحتشام والتوقير للمسيح، لأنه لم يسخر بما قيل له، لكنه سكت ظانًا أنه أمر ممتنع، وقد حدث له شك في أمرين هما: الولادة التي من هذا النوع، والملكوت، لأن اسم الملكوت لم يُسمع عند اليهود في وقت من أوقاتهم، ولا ذُكرت ولادة معناها كهذه، إلا أنه وقف متفكرًا عند الأول منهما وهو الولادة التي من فوق التي أدهشت عقله تمامًا[8].

القديس يوحنا الذهبي الفم

         القديس أغسطينوس

أجاب يسوع:

الحق الحق اقول لك،

إن كان أحد لا يولد من الماء والروح،

لا يقدر أن يدخل ملكوت اللَّه“. [5]

عاد السيد وكرر ما سبق أن أكده، ليعلن أن هذا الحق لا يمكن التهاون فيه. فإن كلمة الله ليست نعم ولا، بل هي نعم وآمين. فمع عدم إدراك نيقوديموس للميلاد الجديد يصر السيد المسيح على ضرورته. ليس من طريق آخر لمعاينة ملكوت الله والدخول فيه سوى الولادة الثانية.

لماذا يستخدم الماء؟ إشارة إلى عمل الغسل الداخلي للنفس (تي ٣: ٥؛ ١ كو ٦: ١١؛ حز ٣٦: ٥٢). هذا الغسل يتحقق بالروح القدس القادر وحده أن يغسل أعماق النفس ويطهرها ويجددها. كما حول السيد المسيح الماء إلى خمرٍ يفرح أهل العرس والحاضرين فيه، هكذا يقدم لنا الماء لا لتطهير الجسد خارجيًا، بل تطهير الأعماق بالروح. هذا هو الماء الذي وعد به السيد في حديثه مع السامرية، أن من يشرب منه لا يعطش. إنه ليس كماء بئر يعقوب التي شرب منها هو وبنوه والماشية إنما هي مياه حية.

والماء ضروري في الميلاد الجديد، إذ يتم العماد بالتغطيس كقبول للموت والدفن مع المسيح للتمتع بالحياة المقامة الجديدة. وكما يقول الرسول بولس: “أم تجهلون إننا كل من اعتمد ليسوع المسيح اعتمدنا لموته؛ فدفنا معه بالمعمودية للموت، حتى كما أقيم المسيح من الأموات بمجد الأب، هكذا نسلك نحن أيضا في جدة الحياة” (رو 6: 4) فالميلاد من الماء والروح هو موت عن حياة جسدية، ودفن لإعمال الإنسان القديم، وقبول شركة مع المسيح في حياته المقامة، أو قبول حياة جديدة مخلوقه بالروح القدس، الذي هو روح القيامة. إنها عملية خلق داخلي جديد، فنموت عن الفساد لنحمل طبيعة جديدة على صورة الخالق.

القديس أمبروسيوس

الشهيد كبريانوس

فإن سأل سائل: كيف يُخلق الله الإنسان من ماء؟ وأنا أسأله: وكيف خلقه من أرض؟ وكيف تقسم الطين إلى أجزاء مختلفة؟ من أين تكونت عظام الإنسان وأعصابه وشرايينه وأوردته؟ من أين أغشيته وأطرافه الآلية وغضاريفه وكبده وطحاله وقلبه؟ من أين تكوَّن جلده ودمه ولعابه وصفراه ومرارته؟ من أين أفعاله الجزيل تقديرها؟ من أين ألوانه المختلفة، لأن هذه الأجزاء ليست أجزاء أرض، ولا أجزاء طين.

وكيف إذا قبلت البذور الأرض تنبتها، وإذا قبل جسمنا البذور يعفنها؟

كيف تغذي الأرض البذور التي تُطرح فيها وجسمنا يتغذى على هذه البذور؟

تتقبل الأرض الماء فتجعله خمرًا، وجسمنا يقبل الخمر فيجعله ماءً. فلست أقدر أن أتحقق بفكري من أن هذه الأصناف جاءت من الأرض، إذ أن الأرض تضاد جسدنا بهذه الأصناف المذكورة، إلا أننى بتصديقي وإيماني بالله وحده أقبل أنها من الأرض.

فإن كانت تلك الأصناف المكونة كل يوم والملموسة تحتاج إلى تصديق وإيمان، فالأصناف الروحانية أولى وأليق أن تحتاج إلى تصديق وإيمان. وكما أن الأرض الغير متحركة حين أُيدت بإرادة الله تكونت منها هذه العجائب الجزيل عددها، هكذا إذا حضر الروح في الماء تتكون وأيسر مرام هذه الأفعال البديعة الفائقة على فكرنا…

وإن سأل سائل: وما الحاجة إلى الماء في هذه الولادة؟ أجبته: إن هذه الولادة تعمل وتتمم دلائل إلهية: قبر ودفن وإيمان وحياة وقيامة، وهذه كلها تتكون في المعمودية معًا، لأننا إذا غطسنا رؤوسنا في الماء، كأننا نغطسها في قبر من القبور، يُدفن فيه الإنسان العتيق إلى أسفل ويغرق كله، ثم إذا رفعنا رؤوسنا يطلع الإنسان الجديد أيضًا.

القديس يوحنا الذهبي الفم

القديس أمبروسيوس

العلامة أوريجينوس

القديس اكليمنضس الاسكندري

الأنبا ساويرس أسقف الاشمونين

القديس يوحنا ذهبي الفم

يربط القديس جيروم[19] بين الحيات المحرقة والعقارب وبين العطش حيث لا يوجد ماء، فكتب في رسالته إلى أوشانيوسOceanus  أحد النبلاء الرومان الغيورين على الإيمان متحدثًا عن بركات المياه والمعمودية، جاء فيها:

المولود من الجسد جسد هو،

والمولود من الروح هو روح“. [6]

هذا هو سرّ المعمودية، بها نلنا التبني (رو 15:8)، فصرنا أبناء الملكوت، ولنا حق الميراث. خلالها يتم نزعنا من الزيتونة البرية وتطعيمنا في الزيتونة الجديدة (رو 24:11) بفعل الروح القدس. بها نحمل “الحلة الأولى” (لو 22:15)، و”حلة العرس” (مت 11:22-23) التي بدونها لا يستطيع أحد أن يتمتع بالملكوت. هكذا تحققت نبوة حزقيال: “أعطيكم قلبًا جديدًا، وأجعل روحًا جديدًا في داخلكم، وانزع قلب الحجر من لحمكم، وأعطيكم قلب لحم، وأجعل روحي في داخلكم” (حز 26:36).

إذ أعلن نيقوديموس عن رغبته في إدراك ما يبدو له مستحيلاً، كشف له السيد مفهوم الميلاد الجديد. إنه ليس ميلادًا جسديًا يتحقق بالدخول من جديد في رحم الأم، وإنما هو ميلاد روحي يتحقق بعمل روح الله القدوس القدير، خلاله يتم التقديس بالروح (١ بط ١: ٢) والغسل الداخلي للنفس بالروح (تي ٣: ٥).

إننا جسد، ليس فقط من جهة العنصر الجسداني، وإنما لأن الفساد حلّ به (تك ٦: ٣)، وإذ تلتحم النفس بالجسد صارت النفس أسيرة الإرادة الجسدية الشهوانية، تجد مسرتها في الشهوات، حتى صار الإنسان ككل كأنه جسداني. فأي اتحاد بين الجسداني والله الذي هو روح. هذا ما استلزم الميلاد الجديد لكي يحمل الإنسان ككل سمة الروح، فيجد الجسد لذته ومسرته في الروح لا في شهوات الجسد.

هذا هو العلاج العملي للإنسان الذي أفسدته شهوات الجسد. هذا العلاج يقدمه ابن الله الوحيد بكونه واهب الشريعة العظيم ووسيط العهد الجديد وطبيب النفوس، هو وحده يعرف العلاج الحقيقي.

إنه الكرام الإلهي الذي يعلم أن كل شجرة تقدم ثمارًا حسب بذرتها، فمن يُولد روحيًا يحمل فيه ملكوتًا روحيًا مقدسًا لائقًا بالله.

المولود من الروح هو روح” بمعنى “من يولد من الروحي روحي”. فالميلاد الذي يتحدث عنه هنا ليس حسب الجوهر بل حسب الكرامة والنعمة[21].

القديس يوحنا الذهبي الفم

هكذا يحمل الشهداء شهادة محتقرين الموت، ليس حسب ضعف الجسد، وإنما حسب استعداد الروح. لأن ضعف الجسد يُبتلع بهذه الكيفية تاركًا لقوة الروح أن تشرق.

فالروح من جانبه إذ يمتص الضعف يملك فيه الجسد كميراثٍ له. بهذين الأمرين يتشكل الإنسان الحيّ، فهو حيّ لأنه يشترك بالروح ولكنه إنسان من أجل مادة الجسد[22].

القديس إيريناؤس

لا تتعجب إني قلت لك: ينبغي أن تولدوا من فوق“. [7]

الريح تهب حيث تشاء وتسمع صوتها،

لكنك لا تعلم من أين تأتي، ولا إلى أين تذهب،

هكذا كل من وُلد من الروح“. [8]

كما أنه لا سلطان للإنسان على الريح الذي يهب ونشعر به دون أن نعرف أين يبدأ تمامًا ولا إلى أين ينتهي، هكذا الولادة بالروح لها قوتها وفاعليتها. هي عطية مجانية من قبل الله، لا سلطان لنا عليها، يوجهها الله، وهي تتمم كلمته (مز ١٤٨: ٨).

عمل الروح في المعمودية كالريح القوية التي تظهر من فاعليتها وآثارها. يعمل خفية سرائريًا، لكن أثره واضح في حياة المؤمن يتلامس معه كل النهار. “كما أنك لا تعلم طريق الريح.. كذلك لا تعلم أعمال الله الذي يصنع الجميع” (جا 11: 5)

القديس جيروم

القديس يوحنا الذهبي الفم

أجاب نيقوديموس، وقال له:

كيف يمكن أن يكون هذا؟” [9]

في حيرة يقف معلم إسرائيل متسائلاً: “كيف يمكن أن يكون هذا؟” لم يستطع بإدراكه المادي أن يتعرف على الأمور الروحية التي تبدو للإنسان الطبيعي كأنها جهالة. لم يستطع بالحكمة البشرية أن يعرف ما هو إلهي. لقد أوضح له السيد بما فيه الكفاية أن هذه الولادة الجديدة روحية سماوية من اختصاص روح الله القدوس، لا تخضع لقوانين الطبيعة ومنطق البشر المجرد، هي من اختصاص الله وحده الفائق القدرة.

أجاب يسوع وقال له:

أنت معلم إسرائيل ولست تعلم هذا؟” [10]

كأن السيد المسيح يوبخه قائلاً له: كيف وضعت على عاتقك أن تقود العميان إلى الحق وأنت لا تعرف الحق؟ تدعو الذين يقبلون اليهودية أن يعتمدوا بالماء كرمز للميلاد الجديد وأنت نفسك لم تتمتع بالميلاد الجديد ولا تعرفت عليه. ألم يقرأ نيقوديموس عن عمل روح الرب في حياة الناس، كما حدث في مسح شاول ملكا؟ “يحل عليك روح الرب، فتتنبأ معهم وتتحول إلى رجل آخر… وكان عندما أدار كتفه لكي يذهب من عند صموئيل أن الله أعطاه قلبًا آخر، وأتت جميع هذه الآيات في ذلك اليوم” (1 صم 10: 6، 9). وأيضا الوعد الإلهي في الأنبياء: “وأجعل في داخلكم روحًا جديدًا، وأنزع قلب الحجر من لحمهم، وأعطيهم قلب لحم” (حز 11: 19)، “أجعل روحي فيكم فتحيون” (حز 37: 14). “هل أنا أفحص ولا أولد يقول الرب؟” (إش 66: 9) “ويكون بعد ذلك أني أسكب روحي علي كل بشر” (يوئيل 2: 28).

         القديس أغسطينوس

ربما يسأل أحد: وما ارتباط الميلاد (الروحي) باليهوديات؟

لقد أعلن عن الميلاد مقدمًا خلال الرمز وعن التطهير الحادث منه، وذلك في الينبوع حيث جعل اليشع الأداة الحديدية تطفو، والبحر الأحمر حيث عبره اليهود، والبركة التي كان الملاك يحرك ماءها، ونعمان السرياني الذي طهر (من البرص) في نهر الأردن.

كما أشارت كلمات النبي إلي وسيله هذا الميلاد مثل: “يخبر عن الرب الجيل الآتي، يأتون ويخرون ببره شعبًا سيولد يصنعه الرب” (مز 22: 30؛ 30: 31)، “يجدد مثل النسر شبابك” (مز 103: 5)…

كان اسحق أيضا رمزًا لهذا الميلاد.

اخبرني يا نيقوديموس، كيف ولد؟ هل ولد حسب قوانين الطبيعة؟ مستحيل، طريقة ميلاده كانت في المنتصف بين الميلاد الذي نتحدث عنه والميلاد الطبيعي.

كان ميلادًا طبيعيا لأنه نتيجة تعايش زوجي، والميلاد الآخر لأنه لم يولد خلال الدماء (إذ كانت الأم عاقرًا والاب شيخا مسنًا) وإنما حسب مشيئة الله[26].

القديس يوحنا الذهبي الفم

الحق الحق أقول لك إننا إنما نتكلم بما نعلم،

ونشهد بما رأينا،

ولستم تقبلون شهادتنا“. [11]

هنا يتحدث السيد المسيح بصيغه الجمع، لعله يقصد أن ما ينطق به إنما باسم الثالوث القدوس الذي يشتهي ميلاد البشرية الجديد ليتمتع كل مؤمن بالشركة مع الثالوث. إذ يصعب على الإنسان الطبيعي إدراك هذا الميلاد الروحي الجديد، يقدم السيد المسيح شهادته هو والآب عن رؤيتهما لهذا الميلاد الفوقاني العجيب خلال عمل الروح القدس في مياه المعمودية.

أن كنت قلت لكم الأرضيات ولستم تؤمنون،

فكيف تؤمنون إن قلت لكم السماويات؟” [12]

         يقصد بالأرضيات الحديث عن الريح التي تهب حيث تشاء ونسمع صوتها، ولكننا لا نعلم من أين تأتي ولا إلى أين تذهب. [8]، كما أيضًا يقصد بها “نقض هيكل جسده” (2: 19)، أما السماويات فهي الميلاد بالروح وقيامة المسيح وصعوده إلى السماء.

المعمودية هي ميلاد روحي يتم على الأرض لكي يبدأ المؤمن رحلته إلى السماء خلال اتحاده بالمسيح الذي صعد إلى السماء. فمن لا يقدر أن يقبل الميلاد الروحي كيف يمكنه أن يصعد بقلبه إلى السماء؟

إنهم كجسديين لم يستطيعوا أن يقبلوا الميلاد الجديد من الماء والروح، وهذه بداية انطلاقة الإنسان بقلبه وفكره وكل أعماقه نحو السماء. إنهم لم يقبلوا بعد بدء هذه الرحلة السماوية فكيف يصعدون مع السيد المسيح إلى سماواته، بالتناول من جسد الرب ودمه والتعرف علي أسرار الثالوث القدوس وعمله في المؤمن، والشركة مع السمائيين؟

لا تتعجبوا إن دعا المعمودية هنا أمرًا أرضيًا، فقد دعاها هكذا إما لأنها تتم على الأرض، أو بالمقارنة بميلاده الكلي المهابة. فمع أن هذا الميلاد الذي لنا هو سماوي، لكن بالمقارنة بالميلاد الحقيقي الذي في ذات الآب، يحسب أرضيًا. لم يقل: “لم تفهموا” بل قال “لستم تؤمنون“، لأنه عندما يكون شخص ما ميال إلى سوء النية من جهة أمور معينة يمكن إدراكها بالعقل وغير مستعد لقبولها بحق يمكن اتهامه أنه خالٍ من الفهم، ولكن عندما لا يتقبل أمورًا لا يمكن فهمها بالعقل بل بالإيمان وحده، الاتهام الموجه ضده هو أنه خال لا من الفهم بل من الإيمان[27].

القديس يوحنا الذهبي الفم

وليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء،

ابن الإنسان الذي هو في السماء“. [13]

ربما يشير هنا إلى مفهوم خاطئ لدى بعض اليهود وهو أن موسى صعد إلى السماء حيث استلم الناموس ونزل به إلى إسرائيل. يصحح السيد مفهومهم مؤكدًا أنه ليس أحد يصعد إلى السماء إلاَّ ابن الإنسان الذي نزل من السماء، وبقي بلاهوته يملأ السماء. هو وحده يقدر أن يكشف عن الأسرار السماوية، ويحمل المؤمنين إلى السماء، ويقدم لهم إرادة الآب.

لقد تحدث نيقوديموس مع السيد بكونه نبيًا من عند الله، فكان يليق به أن يدرك أن السيد أعظم من نبي، بتجسده نزل من السماء، وبلاهوته قائم في السماء. إنه الرب من السماء (١ كو ١٥: ٤٧).

أعرفت كيف أن المسيح ليس هو في السماء فقط، لكنه حاضر في كل مكان مالئ خلائقه كلها؟

القديس يوحنا الذهبي الفم

ليتك تجري بعاطفة القلب، لتسير في الرحلة في رفقة الحب، لتصعد بالمحبة.

لماذا تبحث عن الطريق؟ التصق بالمسيح الذي بنزوله جعل من نفسه “الطريق”.

أتريد أن تصعد؟ تمسك بذاك الذي يصعد. بذاتك لن تقدر أن ترتفع… إن كان لا يصعد أحد إلاَّ الذي نزل، أي ابن الإنسان، ربنا يسوع المسيح، فهل تريد أن تصعد أنت أيضًا؟

كن عضوًا في ذاك الذي وحده يصعد. لا يصعد إلاَّ الذي يكون عضوًا في جسده، فيتحقق القول: “لا يقدر أحد أن يصعد إلاَّ الذي نزل“…

لقد ترك أباه وأمه والتصق بزوجته لكي يصير الاثنين واحدًا (أف ٥: ٣١). لقد ترك أباه لا لكي يظهر نفسه مساويًا للآب، وإنما لكي يخلي نفسه آخذًا شكل العبد (في ٢: ٧).

لقد ترك أمه أيضًا، المجمع الذي منه وُلد حسب الجسد. لقد التصق بزوجته التي هي كنيسته.

الآن في الموضع الذي في المسيح نفسه هذه الشهادة، لقد أظهر أن رباط الزواج لا ينحل (مت ١٩: ٤)… “ليسوا بعد اثنين بل جسد واحد”، هكذا “لا يصعد أحد إلاَّ الذي نزل“.

لكي تعرفوا أن العريس والعروس هما واحد حسب جسد المسيح، وليس حسب لاهوته… لكي تعرفوا أن هذا الكامل هو مسيح واحد، قال بإشعياء: “وضع عمامة عليّ كعريسٍ، وكساني بالزينة كعروس” (إش ٦١: ١٠ LXX)[29].

القديس أغسطينوس

2. الميلاد الجديد وذبيحة الصليب

وكما رفع موسى الحية في البرية،

هكذا ينبغي أن يُرفع ابن الإنسان“. [14]

يقدم لنا غاية نزوله من السماء، أن يرتفع على الصليب ليقدم الخلاص للبشرية.

آخر معجزة صنعها موسى النبي قبل نياحته هي رفع الحية النحاسية في البرية لشفاء الشعب من لدغات الحيات (عد ٢١: ٦–٩). هكذا بالصليب يخلصنا من لعنة الناموس الذي كسرناه فصارت كلدغات الحيات النارية القاتلة. هذا هو البلسان الذي في جلعاد الشافي من الأمراض القاتلة (إر ٨: ٢٢، ٤٦: ١١).

رُمز للسيد المسيح المصلوب بالحية النحاسية التي تحمل شكل الحية النارية القاتلة، لكنها لا تحمل سمها، بل تشفي من السم. هكذا حمل سيدنا شبه جسد الخطية، لكنه بلا خطية، لكي إذ صار خطية لأجلنا يكسر شوكة الخطية عنا.

إذ صارت الحية تحت اللعنة، صار المسيح لعنة من أجلنا لكي يحررنا من دائرة اللعنة ويدخل بنا إلى عرش مجده. رفعت الحية النحاسية بواسطة موسى النبي، وخضع السيد المسيح للناموس وشهد موسى له.

للعلامة أوريجينوس تعليق رائع بخصوص الصليب، فيرى فيه حقيقتان: الأولي ظاهرة وهى أن يسوع المسيح في حبه للبشرية وطاعته للآب رُفع على الصليب بإرادته. والثانية خفية أن الذي صلب وفقد حركته وسلطانه هو إبليس، إذ سُمر الصك الذي علينا بالصليب، وتجردت الرئاسات والسلاطين من سلطانهم وشُهر بهم في هزيمة مرة (كو 2: 14-15). فالحية التي رُفعت من جانب تمثل السيد المسيح حامل خطايانا ومن جانب آخر تمثل الحية القديمة التي سمرها السيد المسيح بصليبه وجردها من سلطانها على المؤمنين.

على أي الأحوال كانت الحياة تأتي من وسائط خشبية، ففي زمان نوح كانت الحياة تُحفظ في فلك خشبي. وفي أيام موسي كان عبور البحر بواسطة عصا موسي الخشبية التي ضرب بها البحر. فهل لعصا موسي قوة، وصليب المخلص بلا قوة؟! بالخشبة في أيام موسى صار الماء حلوًا، أما مع يسوع فقد تدفقت على خشبة الصليب المياة “من جنبه”[30].

القديس كيرلس الأورشليمي

القديس يوحنا الذهبي الفم

ما هي الحيّة التي رُفعت؟ موت الرب على الصليب. كما جاء الموت بالحيّة، رُمز له بصورة حيّة.

لدغة الحيّة مميتة، وموت الرب محيي. إذ ينظر إلى حيّة تفقد الحيّة سلطانها. ما هذا؟ إذ ينظر إلى الموت، يفقد الموت سلطانه. ولكن موت من؟ موت الحياة…

بموت المسيح (الحياة) مات الموت.

موت الحياة ذبح الموت، ملء الحياة ابتلعت الموت.

انحل الموت في جسم المسيح.

لذلك نقول في القيامة إذ يتغنى المنتصرون: “أين شوكتك يا موت؟ أين غلبتك يا هاوية؟ أين شوكتك يا موت؟” (1 كو 15: 54)…

يوجد فارق بين الصورة الرمزية والشيء الحقيقي، الرمز يبعث حياة وقتية، والحقيقة التي لها الرمز تبعث حياة أبدية[32].

      من أجل النطق ببرّ اللَّه يقول أن عينيه قد ذبلتا من النظر بغيرةٍ وحماسٍ، بينما يتذكر الضعف البشري، متطلعًا إلى النعمة الإلهية في المسيح.

القديس أغسطينوس

القديس أمبروسيوس

العلامة أوريجينوس

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

القديس أبيفانيوس أسقف سيلامس

لكي لا يهلك كل من يؤمن به،

بل تكون له الحياة الأبدية“. [15]

القديس يوحنا الذهبي الفم

لأنه هكذا أحب اللَّه العالم،

حتى بذل ابنه الوحيد،

لكي لا يهلك كل من يؤمن به،

بل تكون له الحياة الأبدية“. [16]

         ركز هذا السفر على مجد الصليب حيث عليه يُرفع ابن الإنسان لكي يجتذب الجميع ويخلصهم، وقد تكرر ذلك أربع مرات (8: 28؛ 12: 32-34). الحب الإلهي هو العنصر الديناميكي الدائم الحركة لتمتع العالم بالخلاص.

في حديث القديس أمبروسيوس عن التوبة يوجه أنظارنا إلى أنه بالإيمان يتمتع الإنسان بالحياة الأبدية، فكيف نكف عن الصلاة من أجل غير المؤمنين، حتى يتمتعون بعطية الإيمان الإلهية فينالوا الحياة الأبدية[34]؟

إن قلت فمن أية جهة أحب الله العالم؟ أجبتك: لم يحبه من جهة أخرى إلا من جهة صلاحه وحده.

القديس يوحنا الذهبي الفم

بتعبير”هكذا أحب” والتعبير الآخر “الله العالم” يظهر عظمة قوة حبه. الفاصل بين الاثنين عظيم وغير محدود. هو الخالد  ذاك الذي بلا بداية، صاحب الجلالة غير المحدود. وأما هم فتراب ورماد، إنهم مشحونون بربوات الخطايا، جاحدون، عاصون له على الدوام، هؤلاء قد أحبهم! مرة أخرى الكلمات التي أضافها بعد ذلك تحمل معنى متشابهًا، إذ يقول: “بذل ابنه الوحيد“، وليس خادمًا، ولا ملاكًا ولا رئيس ملائكة. لا يظهر أحد اهتمامًا بابنه كما يظهر الله نحو عبيده الجاحدين.

لأنه لم يرسل اللَّه ابنه إلى العالم ليدين العالم،

بل ليخلص به العالم“. [17]

على الصليب قدم السيد المسيح الخلاص علانية أمام العالم كله. “قد شمر الرب عن ذراع قدسه أمام عيون كل الأمم، فترى كل أطراف الأرض خلاص إلهنا” (إش 52: 10)

سبق فأعلن الجانب السلبي أن من يؤمن به لا يهلك، وألحقه بالجانب الإيجابي “له الحياة الأبدية”. هنا أيضًا من الجانب السلبي “لا يدين” والإيجابي “يخلصه“. أما قول السيد ” “ليخلص به العالم“، فكانت ليست فقط جديدة علي مسامع اليهود من قادة وشعب، بل ومعثرة لهم. فقد فسر المعلمون نبوات العهد القديم الخاصة بالمسيا المنتظر أنه يقيم ردم خيمة داود، ويرد الملك والعظمة والمجد لبني إسرائيل، ليدين الأمم ويسحق الشعوب الأخرى. أما أن يخلص العالم فهذا ما لم يكن ممكنًا للعقلية اليهودية أن تقبله بأي شكل من الأشكال.

القديس يوحنا الذهبي الفم

إنه يقول: “من يؤمن بي لا يمكث في الظلمة” (يو 47:12)، أي أنه إن كان في الظلمة لا يبقى فيها، بل يصلح خطأه ويصحح نقائصه، ويحفظ وصاياي، إذ قلت: “لا أشاء موت الشرير بل إصلاحه” (راجع حز11:23). لقد قلت أن من يؤمن بي لا يُدان، وأنا أحقق ذلك لأني لم آتِِ لكي أدين العالم بل أن يخلص العالم بي [17]. أود أن أعفو بسرعة، أغفر. “أريد رحمة لا ذبيحة” (هو 6:6)… “ما جئت لأدعو أبرارًا بل خطاة” (مت 13:9). الذبيحة هي تحت الناموس، والرحمة في الإنجيل. “الناموس بموسى أُعطيَ، وأما النعمة فهي بي” (راجع يو 17:1)[36].

القديس أمبروسيوس

3. الاستنارة والإيمان

الذي يؤمن به لا يدان،

والذي لا يؤمن قد دين،

لأنه لم يؤمن باسم ابن اللَّه الوحيد“. [18]

الإيمان بالسيد المسيح ليس عقيدة نظرية مجردة، بل اتحاد عملي معه وشركة، فمن يختفي فيه ويثبت حتمًا يُعتق من دائرة الدينونة. “إذا لا شيء من الدينونة الآن على الذين هم في المسيح يسوع، السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح” (رو 8: 1). وقد أكد السيد مرة أخري: “الحق الحق أقول لكم إن من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني، فله حياة أبدية، ولا يأتي إلى دينونة، بل قد انتقل من الموت إلى الحياة” (يو 5: 24).

القديس يوحنا الذهبي الفم

وهذه هي الدينونة:

أن النور قد جاء إلى العالم،

وأحب الناس الظلمة أكثر من النور،

لأن أعمالهم كانت شريرة“. [19]

هنا يشير إلى اللصوص وقطاع الطرق، غالبًا ما يمارسوا شرهم في الظلام بالليل. فقد وهب الله الإنسان الشمس لكي تنير، فيعمل الإنسان نهارًا ويستريح ليلاً. أما الذي يختار أن ينام نهارًا لكي يمارس شره ليلاً، فإنه مستحق للعقوبة ككاسرٍ لناموس إلهي.

إنجيل المسيح نور، إذ جاء إلى العالم، أشرق عليه ليعطي البشرية بهجة للعمل لحساب ملكوت الله. وفي نفس الوقت أوجب القضاء العادل على السالكين في الظلمة، مبغضي النور الحقيقي. بمعنى آخر تجسد الكلمة، وحلول النور الحقيقي بيننا فرز محبي النور من عاشقي الظلمة، وبدأ روح القضاء يعمل. لذلك قيل: “رئيس هذا العالم قد دين” (يو16: 11)، ” الآن دينونة هذا العالم، الآن يطرح رئيس هذا العالم خارجا” (يو 12: 31).

لأن أعمالهم شريرة“، إذ يصممون علي السلوك في الظلمة والالتصاق بإبليس ورفض “النور” مخلص العالم.

القديس يوحنا الذهبي الفم

لأن كل من يعمل السيئات يبغض النور،

ولا يأتي إلى النور،

 لئلا تُوبخ أعماله“. [20]

يحب الأشرار الظلمة، لأنها أفضل لممارسة شرهم، ويبغضون النور لأنه يفضحهم. الإنجيل مرعب بالنسبة للعالم الشرير، الذي يتطلع إليه كعدوٍ يفضحه ويبكته. من يمارس العادات السيئة لا يطيق النور فيرتمي في الظلمة عوض أن يعترف بها ويطلب النور. “لأن الأمور الحادثة منهم سرًا ذكرها أيضًا قبيح، ولكن الكل إذا توبخ يظهر بالنور، لأن كل ما أظهر فهو نور. لذلك يقول استيقظ أيها النائم وقم من الأموات فيضيء لك المسيح” (أف 5: 12-14).

يوجد اختلاف بين الذين يدركون اللوغوس (كلمة اللَّه)، فالبعض يدركه مصباحًا والآخرون يدركونه نورًا… العذارى الجاهلات كان لهن مصابيح منطفئة (مت 2:25)، “لأن كل من يعمل السيئات يبغض النور، ولا يأتي إلى النور، لئلا توبخ أعماله” (يو 20:3). كذلك يوبخ يسوع الذين لا ينتفعون دائمًا من النور، الذي معهم إلى ساعة أو لحظة (يو 35:5) عند استخدامهم هذا السراج. يقول ربنا يسوع: “كان هو السراج الموقد المنير، وأنتم أردتم أن تبتهجوا بنوره ساعة” (يو 35:5).

         القديس أغسطينوس

العلامة أوريجينوس

وأما من يفعل الحق فيقبل إلى النور،

لكي تظهر أعماله أنها باللَّه معمولة“. [21]

جاء “من يفعل الحق” مقابل من يعمل السيئات و”أعمالهم شريرة”. الحق بصيغة المفرد لأنه حياة واحدة في المسيح، التصاق بشخصه، أما السيئات والأعمال فبصيغة الجمع حيث الدخول في سلسلة لا تنقطع من أعمال الظلمة. والعجيب أن من يفعل الحق، أي يلتصق بالمسيح، يقبل إلى النور الذي هو شخص المسيح، وكأن كل التصاق عملي بالرب يلهب القلب بالأكثر مشتاقًا إلى دخول عملي واتحاد أقوى مع السيد. فيبقى المؤمن منجذبًا يومًا فيومًا لعله يبلغ إلى “قياس قامة ملء المسيح” (أف 4: 13).

من يمارس الحق يُُقبل إلى نور لكي تظهر أن أعماله تتم في حضرة الرب وبعونه ونعمته. هذه هي خاتمة حديث السيد المسيح مع نيقوديموس، إنه يليق بالمؤمن إذ يتمتع بالبنوة لله أن ينعم بإمكانيات الله عامة به وفيه.

نور الحق الذي يفرح قلب المؤمن هو بعينه يبغضه الشرير ولا يطيقه، بل يحسبه كعدوٍ مقاومٍ له.

أما قوله: ” بالله معمولة“، فيؤكد السيد المسيح أن برّ المؤمن يقوم على عمل الله فيه، “الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا من أجل المسرة” ( في 2: 13).

 أمحِ ما تفعله أنت لكي يخَّلص اللَّه ما قد فعله.

يليق بك أن تكره عملك الذاتي فيك، وتحب عمل اللَّه فيك.

عندما لا تسرك أعمالك الذاتية، في هذا تبدأ أعمال الله الصالحة، إذ تجد خطأ في أعمالك الشريرة.

الاعتراف بالأعمال الشريرة بداية الأعمال الصالحة.

إنك تعمل الحق وتأتي إلى النور. كيف تعمل الحق؟ إنك لا تدلل نفسك ولا تهادنها ولا تتملقها، ولا تقول: “إني بار”، بينما أنت غير بار؛ هكذا تبدأ تفعل الحق.

إنك تأتي إلى النور لكي ما تعلن أعمالك أنها باللَّه معمولة، لأن خطيتك، الأمر ذاته الذي تكرهه، لا يمكنك أن تبغضه ما لم يشرق اللَّه فيك ويظهره الحق لك.

أما من يحب خطاياه حتى بعد نصحه، فهو يبغض النور الذي ينصحه ويهرب منه، فالأعمال التي يحبها لا تظهر له أنها شريرة. من يفعل الحق يتهم أعماله الشريرة فيه ولا يبرر نفسه، ولا يصفح عن نفسه حتى يغفر له اللَّه.

فمن يرغب في أن يغفر له اللَّه هو نفسه يعرف خطاياه ويأتي إلى النور، حيث يشكر على إظهار ما يلزمه أن يبغضه في نفسه. إنه يقول للَّه: “ردّ وجهك عن خطاياي”. ولكن بأي وجه يقول هذا ما لم يضف “لأني أنا عارف بآثامي، وخطيتي أمامي في كل حين” (مز51: 11)؟

لتكن آثامك أمامك يا من لا تريدها أن تكون أمام اللَّه.

لكن إن وضعت خطاياك خلفك، فسيدفعها اللَّه ليجعلها أمام عينيك، يحدث هذا في الوقت الذي لا يعود يوجد فيه ثمر للتوبة[39].

         القديس أغسطينوس

القديس يوحنا الذهبي الفم

4. موقف المعمدان من معمودية المسيح

وبعد هذا جاء يسوع وتلاميذه إلى أرض اليهودية،

ومكث معهم هناك وكان يعمد“. [22]

ترك السيد المسيح أورشليم “في أرض اليهودية” حيث تم فيها الحوار مع نيقوديموس، وانطلق إلى مناطق أخرى في اليهودية. كثيرًا ما يميز الكتاب بين أورشليم واليهودية (أع ١: ٨؛ ١٠: ٣٠؛ ١ مك ٣: ٣٤؛ ٢ مك ١: ١، ١٠).

لم يكن السيد المسيح بنفسه يعمد بل تلاميذه (يو ٤: ٢) بسلطانه وأمره، لذلك حُسب كأنه هو الذي يعمد.

القديس يوحنا الذهبي الفم

القديس أغسطينوس

وكان يوحنا أيضًا يعمد في عين نون بقرب ساليم،

لأنه كان هناك مياه كثيرة،

وكانوا يأتون ويعتمدون“. [23]

يبدأ السيد المسيح يعمد بواسطة تلاميذه قبل إلقاء يوحنا المعمدان في السجن، حتى يسحب تلاميذ يوحنا إليه، فلا يتشتتوا بعد استشهاده. ومن جهة أخرى لكي لا تتوقف عجلة العمل باستشهاد يوحنا. وقد بقي يوحنا يكرز ويعمل في توافق تام وتهيئة جادة لملكوت المسيح حتى النفس الأخير.

عين نون: تبعد حوالي ثمانية أميال جنوب Scythopolis ما بين ساليم والأردن.

واضح أن معمودية يوحنا كانت دائمًا بالتغطيس، إذ قيل: “لأنه كان هناك مياه كثيرة، وكانوا يأتون ويعتمدون” [٢٣].

هل كانت معمودية التلاميذ أفضل من معمودية يوحنا؟ لا ليس في شيء ما، كلاهما كانا دون موهبة الروح، كانتا متشابهتين، لهما ذات الهدف، وهي أن تقود الذين يعتمدون إلى المسيح[41].

القديس يوحنا الذهبي الفم

لأنه لم يكن يوحنا قد أُلقي بعد في السجن“. [24]

وحدثت مباحثة من تلاميذ يوحنا مع يهود من جهة التطهير“. [25]

بدأوا يتحاورون مع الذين اعتمدوا كما لو أن عمادهم أفضل من معمودية تلاميذ المسيح. أخذوا واحدًا من المعمدين وسعوا إلى أن يقنعوه بهذا فلم يستطيعوا. اسمعوا كيف جعلنا الإنجيلي نفهم أنهم بدأوا أولاً بمهاجمة (يسوع)… لم يقل أن يهوديًا سألهم بل هم أثاروا التساؤل، صدر التساؤل من تلاميذ يوحنا إلى يهودي[42].

القديس يوحنا الذهبي الفم

انزعج تلاميذه يوحنا، وبدأوا يتباحثون مع اليهود كما يحدث عادة.

لتفهم أن اليهود أعلنوا بأن المسيح أعظم، وأن الشعب يلزم أن يتجه إلى معموديته. لقد فهم أيضًا تلاميذ يوحنا ذلك، ومع هذا فقد دافعوا عن معمودية يوحنا. جاءوا إلى يوحنا نفسه لكي يحل السؤال.

لتفهموا أيها الأحباء. هنا أعطي لنا أن نرى استخدام التواضع، وعندما يخطئ الشعب في موضوع المباحثة يظهر إن كان يوحنا يطلب مجد نفسه…

لقد عرف حسنًا أمام من يتواضع، أمام ذاك الذي يعرف أنه جاء بعده بالميلاد، وقد اعترف باختياره بأسبقيته معترفًا به. لقد فهم أن خلاصه هو في المسيح. لقد سبق فقال قبلاً: “ونحن جميعًا من ملئه أخذنا”. بهذا يعترف أنه هو اللَّه. إذ كيف يمكن لكل البشر أن يقبلوا ملئه لو لم يكن هو اللَّه؟…

إنه الينبوع، وهم الشاربون منه. الذين يشربون من ينبوع يعطشون ويشربون، أما الينبوع فلن يعطش قط، ولا يحتاج إلى ذاته، بل يحتاج البشر إلى الينبوع. بالمعدة العطشى والشفاه الجافة يجرون إلى الينبوع ليرتوون، والينبوع يفيض لكي ينعش؛ هكذا يفعل الرب يسوع[43].

         القديس أغسطينوس

فجاءوا إلى يوحنا وقالوا له:

يا معلم، هوذا الذي كان معك في عبر الأردن،

الذي أنت قد شهدت له هو يعمد،

والجميع يأتون إليه“. [26]

تقدم بعض تلاميذ يوحنا الذين في محبتهم لمعلمهم وغيرتهم إليه أساءوا إليه إذ كرموه عندما تحدثوا بكل احترام “يا معلم Rabbi” بينما لم يذكروا حتى اسم يسوع المسيح، بل في استخفاف قالوا: “الذي كان معك“. حسبوا أن ما يفعله يسوع فيه جحود لذاك الذي عمده وشهد له. ولم يدركوا أنه لم يكن محتاجًا إلى شهادة يوحنا، ولا إلى تكريم بشر، فإن الآب نفسه شهد له، والروح القدس ظهر مستقرًا عليه. ظنوا أن ممارسة تلاميذ المسيح للمعمودية إهانة لمعمودية يوحنا، كما لو وجدت منافسة بين الفريقين.

القديس يوحنا الذهبي الفم

أجاب يوحنا وقال:

لا يقدر إنسان أن يأخذ شيئًا،

إن لم يكن قد أُعطي من السماء“. [27]

لم يرتبك يوحنا ولا اضطرب، بل بروح الفرح والتهليل أعلن أن ما يمارسه يسوع المسيح إنما هو من السماء. لقد وجد الفرصة سانحة لتأكيد وتوضيح شهادته للسيد المسيح مرة أخرى.

اسمع ما قاله يوحنا المعمدان لتلاميذه، لأنه لم يوبخهم توبيخًا شديدًا خشية أن ينفصلوا عنه ويعملوا عملاً آخر رديئًا، بل قال لهم: “لا يقدر إنسان أن يأخذ شيئًا إن لم يكن قد أُعطى من السماء“… أراد أن يضربهم إلى حين بالخوف والرعب، وأن يظهر لهم أنهم إنما يحاربون الله وحده، عندما يحاربون المسيح. هنا أسس هذه الحقيقة بطريقة خفية، هذه التي أكدها غمالائيل:” إن كان من الله فلا تقدرون أن تنقضوه، لئلا توجدوا محاربين الله أيضًا” (أع 5: 39). فإن القول: “لا يقدر إنسان أن يأخذ شيئًا إن لم يكن قد أعطى من السماء” ليست إلا أعلانًا عن أنهم يحاولون المستحيلات، ويوجدون محاربين الله.. لاحظوا أيضًا كيف أنهم إذ قالوا: “قد شهدت له”‘ [26] انقلب ضدهم إذ ظنوا أنهم يحطون من قدر المسيح، وأبكمهم مظهرًا أن مجد المسيح لم يقم على شهادته. إذ يقول: “لا يقدر إنسان أن يأخذ شيئا إن لم يكن قد أعطى من السماء” [27]. “إن كنتم تتمسكون بشهادتي وتحسبونها صادقة، فلتعلموا بهذه الشهادة. يلزمكم ألا تفضلوني عنه، بل تفضلونه عني. لأنه بماذا شهدت له؟ إني أدعوكم أنتم شهودا لذلك [28][45].

القديس يوحنا الذهبي الفم

         يرى القديس أغسطينوس أن يوحنا المعمدان يتحدث عنا عن نفسه أنه كإنسانٍ ينال من السماء، وأنه ليس المسيح. [كأنه يقول: لماذا تخدعون أنفسكم؟ انظروا كيف تضعون هذا السؤال أمامي، ماذا تقولون لي؟… لأني قد نلت شيئًا من السماء لكي أصير شيئًا، أتريدون مني أن أفرغ نفسي منه بأن أنطق بما هو ضد الحق؟… إني المذيع، وهو الديّان[46].]

“أنتم أنفسكم تشهدون لي إني قلت:

لست أنا المسيح،

بل إني مرسل أمامه“. [28]

كأن يوحنا المعمدان يقول هنا: “أنا خادم أقوال مرسلي”. جاء تعبير “مرسل أمامه” في اليونانية يحمل استمرارية العمل والثمر لعمله.

القديس يوحنا الذهبي الفم

من له العروس فهو العريس،

وأما صديق العريس الذي يقف ويسمعه،

فيفرح فرحًا من أجل صوت العريس.

إذًا فرحي هذا قد كمل“. [29]

صديق العريس عند اليهود يُدعى showshabiyn وعند اليونانيين paranymphos. كان عادة يوجد صديق للعريس وآخر للعروس. غالبًا ما يكون الأخ هو صديق أخيه العريس.

أحيانًا لا يوجد شخص معين كصديقٍ للعريس أو للعروس، أما في حفلات الزواج الخاصة بالملوك والأمراء وأصحاب المراكز الكبرى كان لابد من وجود صديق للعريس. يرى اليهود أن هذه العادة أسسها الله، إذ كان هو نفسه صديق العريس shashobin لآدم في زواجه. لكن جاء في Bereshith Rabba كان آدم له صديقان في عرسه هما ميخائيل وجبرائيل.

كان دور صديق العريس هامًا لا يمكن الاستغناء عنه، وكان يُعفى من بعض الالتزامات الدينية ليتفرغ لمساعدة المتزوجين حديثًا خاصة في السبعة أيام الأولى للزواج. أما عمله قبل الزواج فهو أن يهتم بالمخطوبة ويحرسها ويقدم شهادة للعريس عنها؛ كما يقوم بحلقة الصلة بينهما، فيحمل رسائل كل منهما للآخر، حيث لم يكن يسمح للمخطوبة أن تفارق البيت.

أما بعد الزواج فيقوم بتعزيز شخصية العروس، ينام في شقة مجاورة لمسكن العروسين ليمنع حدوث أية أذية للعروس. وألا يسمح لأحد الطرفين أن يخدع الآخر، كما كان من واجبه فحص طهارة العروس، فمتى تأكد من ذلك تهلل وفرح. ولعل هذا ما قصده القديس يوحنا بقوله: “إذا فرحي هذا قد كمل” [٢٩]. يقوم بتقديم الهدايا القادمة للعروسين، وأخيرًا يساهم في الاحتفال المبهج للزواج لمدة سبعة أيام.

بعد هذا الاحتفال الممتد لمدة أسبوع يصير صديق العريس أشبه بالمدافع عن العروس (٢ كو ١١: ٢)، ويقوم بحل أية مشاكل زوجية تقوم بينهما ومصالحتهما.

يحتفظ صديق العريس بعقد الزواج، فإذا وجد العروس غير أمينة يقوم بتمزيقه، فيُحسب الزواج قد انحل. أما إن تركها العريس وطلقها فيقوم الصديق بدور الأخ الشرعي (أخ زوجها)[48].

يعلن القديس يوحنا المعمدان فرحه بمجيء العريس الإلهي، وهو في هذا يعَّبر عن مشاعر رجال الله في العهد القديم نحو العرس. يعبر القديس غريغوريوس أسقف نيصص في تفسيره نشيد الأناشيد عن هذه الحقيقة، فيقول:

[إن الذين يخدمون الخطيبة البكر ويلازمونها هم البطاركة والأنبياء ومعلمي الناموس. إنهم يقدمون للعروس هدايا العرس، كما كانت. (من أمثلة هذه الهدايا: غفران المعاصي، نسيان الأعمال الشريرة، غسل الخطايا، تغيير الطبيعة، أي تصير الطبيعة الفاسدة طاهرة، التمتع بالفردوس، وكرامة ملكوت اللّه، والفرح اللانهائي.)

عندما تتقبل العروس كل هذه الهدايا من النبلاء الحاملين لها والذين يقدمونها خلال تعاليمهم النبوية حينئذ تعترف باشتياقاتها، ثم تسرع لتتمتع بامتياز جمال الواحد طالما اشتاقت إليه.

يصغي خدام البتول ومرافقوها إليها ويحثونها بالأكثر لاشتياق متزايد. ثم يصل العريس قائدًا جوقة من المغنين فيما بينهم أصدقاؤه والذين يترجون خيره. هؤلاء يمثلون الأرواح الخادمة التي تنقذ الإنسان أو الأنبياء الأطهار.

عند سماع صوت العريس يفرحون (يو 29:3)، إذ يتحقق الاتحاد الطاهر وتصير النفس الملتصقة بالرب روحًا واحدًا معه كما يقول الرسول (1 كو 17:6)[49].]

بالرغم من خطأنا وعبادتنا للأصنام، وقد طردنا اللّه، حظينا بالميلاد الجديد وصرنا أبكارًا بعد غسل كل فساد فينا. لذلك تمت كل احتفالات الزواج، وارتبط كلمة اللّه بالكنيسة. وكما يقول القديس يوحنا: “من له العروس فهو العريس” (يو 29:3).

واُستقبلت الكنيسة العروس في حجرة العرس المقدسة، وتوقعت الملائكة رجوع الملك أثناء قيادته للكنيسة كالعروس، وجعل طبيعتها مستعدة للنعمة. فقال أن حياتنا يجب أن تكون خالية من الشر والخداع، حتى نكون مستعدين لاستقبال الرب عند مجيئه الثاني.

وعندما نحرس أبواب مساكننا فإننا نُجهز أنفسنا لوصول العريس، عندما ينادينا ويقرع على الباب. “طوبى لأولئك العبيد الذين إذا جاء سيدهم يجدهم ساهرين” (لو 37:12). لأنه مبارك ذاك الذي يطيع ذاك الذي يقرع.

إن النفس تتطلع إلى هذه البركة بأن تستقبل عريسها الواقف على الباب.

إنها تراقب باب بيتها بيقظة قائلة: “صوت حبيبي قارعًا” (نش 2:5). كيف نفي العروس حقها إذ قد ارتفعت إلى ما هو أكثر قداسة؟[50]

القديس غريغوريوس النيسي

القديس يوحنا الذهبي الفم

الآن أرى زناة كثيرين يرغبون أن يقتنوا العروس التي اُشتريت بثمنٍ عظيمٍ هكذا، صارت محبوبة حين كانت مشوّهة، وذلك لكي تصير جميلة، أُشتريت ونالت خلاصًا وتزينت بذاك الواحد.

وأما هؤلاء الزناة فيصارعون بكلماتهم لكي يُحبوا عوض العريس…

لنسمع صديق العريس لا للزناة ضد العريس.

لنسمع لذاك الغيور، ولكن ليس لحساب نفسه[51].

لماذا يقف؟ لأنه لا يسقط.

كيف لا يسقط؟ لأنه متواضع.

انظروا فإنه يقف على أرض صلبة: “أنا لست أهلاً أن أحل سيور حذائه”. حسنًا تفعل إذ تتواضع، فتتأهل لعدم السقوط، تتأهل للوقوف، وتسمعه وتفرح جدًا بصوت العريس[52].

من الأفضل أن تكون إصبعًا في الجسم، من أن تكون عينًا ومبتورًا من الجسم.

لذلك لا يخدعكم أحد يا اخوتي، لا يغرّكم أحد. حبّوا سلام المسيح الذي صلب عنكم وهو اللَّه. يقول بولس: “ليس الغـارس شيئًا، ولا الساقي، بل اللَّه الذي ينمّي” (1 كو 4: 7)…

لتحب الأعضاء بعضها البعض، وليحيا الكل تحت الرأس.

في حزنٍ يا اخوتي التزمت أن أتحدث معكم كثيرًا، ومع هذا فإنني تكلمت قليلاً، فإنني غير قادر على التوقف في الحديث[53].

هذا قد كمل فيّ، لقد صارت لي نعمتي، إنني لا انتحل لنفسي ما هو ليس لي، لئلا أفقد ما أنا عليه…

ليفهم الإنسان أنه لا يفرح بحكمته الذاتية، بل بالحكمة التي ينالها من اللَّه.

لا يطلب أحد أمرًا أكثر (مما عليه) فلا يفقد ما قد وجده. فإن كثيرين إذ يؤكدون أنهم حكماء يصيرون أغبياء. يوبّخهم الرسول قائلاً لهم: “إذ معرفة اللَّه ظاهرة فيهم، لأن اللَّه أظهرها لهم” (رو 1: 19)…

يلزمهم ألا ينسبوا لأنفسهم ما لم ينالونه من أنفسهم، بل ينسبوه لهذا وهو ما وهبه اللَّه مجانًا يأخذه من الجاحدين. لم يرد يوحنا أن يكون هكذا، بل أراد أن يكون شاكرًا. لقد اعترف أنه نال، وأعلن أنه قد فرح بصوت العريس، قائلاً: “إذًا فرحي هذا قد كمل” [29][54].

         القديس أغسطينوس

القديس يوحنا الذهبي الفم

ينبغي أن ذلك يزيد،

وإني أنا أنقص“. [30]

         يدرك القديس يوحنا المعمدان أن ذاك يزيد وهو ينقص. هذا ظهر بكل قوة في موتهما. الأول استشهد وهو في السجن خفية، ولم يدرك أمره غير قليلين، أما السيد المسيح فمات علانية على الصليب، ورفع رأسه نحو السماء، وبسط يديه ليحتضن بحبه الإلهي كل البشرية. الأول مات ودفن مقطوع الرأس، والثاني مات ودفن وقام ليقيم معه الأموات.

            كلمات القديس يوحنا المعمدان تمس حياة كل مؤمن صادق ونامٍ في شركته مع السيد المسيح. فمع كل لحظة من لحظات عمره يتخلى عما هو مادي فيه، بل ويشعر كأنه يتخلى عما هو بشري، لا ليعيش بلا إرادةٍ بشرية أو عواطفٍ بشرية أو فكرٍ بشري، وإنما تتجلى إرادة المسيح فيه، وتتقدس عواطفه فيه، ويحمل فكر المسيح. هكذا يجد المؤمن عذوبة في نقصه، لكي يزيد المسيح فيه.

نجاح السيد المسيح في خدمته هو بدء لنشر برّه المجيد وسلامه والحق الذي له بين البشر.

يُسر القديس يوحنا حين ينقص عدد القادمين إلى معموديته، حيث يتوجهون إلى يسوع المسيح، فيحققون ما تهدف إليه خدمته ومعموديته.

كيف يزيد يسوع؟ كيف يزيد اللَّه؟ اللَّه لا يزيد ولا ينقص. لأنه إن كان يزيد فهو ليس بكاملٍ، وإن كان ينقص فهو ليس اللَّه…

هل كان بحالته كإنسان حيث تنازل وصار إنسانًا؟ كان طفلاً، ومع أنه حكمة اللَّه رقد في المذود كرضيعٍ. ومع أنه خالق أمه، رضع لبن الطفولة منها، ثم نما يسوع في الجسد، ولعلّه لهذا قيل: “ينبغي أن ذاك يزيد وأني أنا أنقص“. ولكن لماذا هذا؟ إذ هما من جهة الجسد كانا في ذات العمر، الفارق بينهما ستة أشهر، وقد نميا معًا… إذن ما هو معنى “ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا أنقص“؟

هذا سرّ عظيم!

قبل مجيء الرب يسوع كان البشر يمجدون أنفسهم.

جاء كإنسانٍ ليقلل من مجد الإنسان، ويزيد مجد اللَّه. الآن جاء بغير خطية، ووجد كل البشر في الخطية. إن كان هكذا قد جاء لينزع الخطية، فاللَّه يعطي مجانًا والإنسان يعترف. اعتراف الإنسان هو نزول به، حنو اللَّه هو ارتفاع.

لذلك إذ جاء ليغفر خطايا الإنسان، فليعترف الإنسان بانحطاطه، وليظهر اللَّه حنوه.

“ينبغي أن ذاك يزيد وأني أنا أنقص“، أي ينبغي أن يعطي وأنا أن استلم، هو يتمجد، وأنا اعترف. ليعرف الإنسان حاله، ويعترف للَّه. لتسمع ما يقوله الرسول للإنسان المتكبر المتشامخ الذي يُفخم نفسه: “وأي شيء لك لم تأخذ؟ وإن كنت قد أخذت، فلماذا تفتخر كأنك لم تأخذ؟” (1 كو 4: 7)[56].

القديس أغسطينوس

القديس يوحنا الذهبي الفم

الذي يأتي من فوق هو فوق الجميع،

والذي من الأرض هو أرضي،

ومن الأرض يتكلم.

الذي يأتي من السماء هو فوق الجميع“. [31]

العريس النازل من السماء (يو ٣: ١٣) هو فوق الكل، أعظم من موسى والأنبياء ومن يوحنا المعمدان نفسه.

يتحدث يوحنا عن نفسه عندما يقول: “الذي من الأرض“، لأنه وُلد كسائر البشر؛ لا يقدر أن يتكلم بما ينطق به المسيا السماوي، إنما يمهد للسماوي. ليس من وجه مقارنة بين الأنبياء (ومن بينهم يوحنا المعمدان) والسيد المسيح. فالأنبياء وإن شهدوا للحق لكنهم كبشر يتكلم الله بهم على الأرض، أما المسيح فيتكلم من السماء لأنه سماوي.

القديس يوحنا الذهبي الفم

لو لم يستنر لبقي أرضًا ومن الأرض يتكلم…

لتأتِ نعمة اللَّه وتنير ظلمته، كما قيل: “أنت تنير سراجي يا رب، لتنر ظلمتي يا إلهي” (مز 18: 28).

لتأخذ فكر الإنسان وتحوله إلى نورها، ففي الحال يبدأ يقول مع الرسول: “لا أنا بل نعمة اللَّه التي معي” (1 كو 15: 10)، “فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيّ” (غلا 2: 20)…

هكذا يوحنا، بكونه يوحنا هو من الأرض، ومن الأرض يتكلم، وأما ما تسمعه من إلهيات من يوحنا، فهو من ذاك الذي ينيره، وليس من ذاك الذي يستلمه[60].

القديس أغسطينوس

وما رآه وسمعه به يشهد،

وشهادته ليس أحد يقبلها“. [32]

ما ينطق به الأنبياء إنما يشهدون لما يخبرهم به الله بطريقة أو أخرى، أما ما ينطق به السيد المسيح فهو يعلن ما يراه ويسمعه، إذ هو غير منفصل عن الآب، هو الحق ذاته.

القديس أغسطينوس

ومن قبل شهادته، فقد ختم أن اللَّه صادق“. [33]

القديس يوحنا الذهبي الفم

لأن الذي أرسله اللَّه يتكلم بكلام اللَّه،

لأنه ليس بكيلٍ يعطي اللَّه الروح“. [34]

تتقبل البشرية روح الله بكيل حسب ضعف إمكانياتها، أما السيد المسيح فيتقبله بغير كيلٍ لأنه واحد معه، مستقر فيه.

يقول: “لأنه ليس بكيل يعطى الله الروح“، أي أننا أخذنا كلنا فعل الروح بكيل وبمقدار، أما المسيح فقد امتلك الروح كله كاملاً دون أن يكون بمقدار.

القديس كيرلس الكبير

الأب غريغوريوس بالاماس

         يميز القديس يوحنا المعمدان بين إرساليته وإرسالية السيد المسيح. إرسالية يوحنا المعمدان هي إرسالية اللَّه لرسول بشري، يتكلم ويشهد قدر ما ينال من نعمة. أما إرسالية المسيح فهي إرسالية ابن اللَّه وكلمته الواحد معه، وحده يرى الآب كما هو، وقادر أن يشهد له، روحه القدوس هو روح الآب القدوس، لذا لا يناله بكيلٍ كما الأنبياء أو الرسل أو المؤمنون بوجه عام.

القديس أغسطينوس

الآب يحب الابن،

وقد دفع كل شيء في يده“. [35]

يظهر يوحنا المعمدان أن يسوع فوق كل معلمٍ أو نبيٍ أو رسولٍ إلهيٍ بغير حدود. نال بعض الأنبياء مواهب معينة وآخرون رؤى معينة وآخرون أحلامًا، وآخرون موهبة التعليم، وآخرون موهبة التعزية الخ، أما السيد المسيح فهو وحده فله كل شيء في يده.

القديس أغسطينوس

الذي يؤمن بالابن له حياة أبدية،

والذي لا يؤمن بالابن لن يرى حياة،

بل يمكث عليه غضب اللَّه“. [36]

لقد جاء في الإنجيل العبارة التالية: “الذي لا يؤمن بالابن لن يرى حياة، بل يمكث عليه غضب الله” (يو 36:3). فالآب يغضب عندما يُستهان بالابن الوحيد. فإن الملك يحزن لمجرد إهانة أحد جنوده. فإن كان الملك يحزن لمجرد إهانة أحد جنوده، فإن احتقر أحد ابنه الوحيد فمن يقدر أن يطفئ غضب الآب من أجل ابنه الوحيد؟![66]

القديس كيرلس الأورشليمي

القديس يوحنا الذهبي الفم

القديس أمبروسيوس

آمنوا بالمسيح، فمن أجلكم صار قابلاً للموت.

لقد عاش وأنت كنت ميتًا.

لقد مات لكي ما تحيا أنت.

لقد جلب نعمة اللَّه ونزع غضب اللَّه.

غلب اللَّه الموت، لئلا يغلب الموت الإنسان[68].

القديس أغسطينوس

 

من وحي يو 3

ليحملني روحك الناري إلى العالم الجديد!

 

   سيطرت المادة على أعماقي،

   لكن نعمتك انتشلتني.

   وهبتني ميلادًا من الماء والروح!

   صرت لي أبًا سماويًا، وكنيستك أمًا خالدة.

   لم يعد لي عذر بعد، ولا مبرّر،

   ليحملني روحك الناري إلى العالم الجديد!

   لكي بروحك القدوس تهبني ميلادًا علويًّا!

   غسلتني بالتمام في مياه المعمودية،

   ووهبتني النصرة على التنين القديم.

   رويتني بالمياه الحيّة، فكيف أعطش بعد؟

   دفعتني معك في القبر،

   وأقمتني لأتمتع بحياتك المقامة!

   أعطيتني حياة جديدة وروحًا جديدًا، وقلبًا جديدًا.

   فلم يعد لي على الأرض ما يسحب قلبي أو فكري!

   أراك وحدك صاعدًا إلى السماء، يا قاطن السماء !

   اقبلني عضوًا في جسدك، فلا تقدر الأرض أن تسعني!

   نزلت إلى أرضي وخبأتني فيك،

   وصعدت إلى سماواتك لأكون معك، حيث أنت كائن!

   وقتلتُ نفسي بإنصاتي إليها.

   ها أنت ترتفع على الصليب كالحيّة النحاسية.

   أراك بعيني قلبي، وقد مزقت صك الدين الذي علي!

   رفعتني بصليبك، واجتذبتني إلى حضن أبيك!

   ارتفع معك متحديًّا قوّات الظلمة.

   موتك أمات موتي، وحطّم كل سلطانه!

   صليبك صلب العالم لي، وصلبني للعالم!

   ليس للعالم موضع فيّ؛ وليس فيه لي موضع!

   صليبك فتح قلبي، ليحتضن إن أمكن كل بشرٍ!

   صليبك أزاح عنّي الخوف من الدينونة،

   وألهب قلبي نحو يوم مجيئك!

   فتبددت كل ظلمة في داخلي.

   أقبلت إليك يا نور قلبي!

   أشرق الحق في داخلي،

   فأدركت أنك أنت العامل بالبرّ في حياتي!

   ينبغي لي أن أنقص، وأنت تزيد،

   لأُدرك على الدوام ضعفاتي،

   ولتنمو نعمتك فيّ بلا توقف!

   أنا أنقص، حيث أُدرك بالأكثر جهالاتي،

   وأنت تزيد، إذ تملك بالأكثر في أعماقي،

   تتجلّى بالأكثر في أعماقي،

   وتملك بالكامل على كل جوانب حياتيّ

[1] Homilies on St. John, 24:1. 

[2] Homilies on St. John, 24:2. 

[3] Homilies on St. John, 24:2. 

[4] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 11:4.

[5] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 11:5.

[6] Letters, 166:9.

[7] Homilies on St. John, 24:2. 

[8] Homilies on St. John, 24:3. 

[9] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 11:6.

[10] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 11:6.

[11] On the Mysteries, 4:20.

[12] Letter 72 to Stephen: 1.

[13] On the Holy Spirit, Book 3:10:64.

[14] القمص تادرس يعقوب ملطي، الروح القدس عند  العلامة أوريجينوس، تعريب دكتور جورج بطرس.

[15] القمص تادرس يعقوب ملطي، الروح القدس عند  العلامة أوريجينوس، تعريب دكتور جورج بطرس.

[16] In Lucam 22:8.

[17] الدرر الثمين في ايضاح الدين، 1952، ص 121.

[18] المؤلف: اللّه مقدسي، ص 52.

[19] St. Jerome: Letter 69:6.

[20] Homilies on St. John, 26:1. 

[21] Homilies on St. John, 26:1. 

[22] Adv. Haer. 5:9:2.

[23] Letter 58:3.

[24] Homilies on St. John, 26:1. 

[25] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 12:6.

[26] Homilies on St. John, 26:2. 

[27] Homilies on St. John, 27:1. 

[28] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 12:8-9.

[29] Sermon on N.T. Lessons, 41:7-8.

[30] مقال 13: 20.

[31] Homilies on St. John, 27:2. 

[32] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 12:11.

[33] Vita Moysis. PG 44:413, 315.

[34] Concerning Repentance, 1:10:48.

[35] Hom. 28. PG 29: 195.

[36] Concerning Repentance, Book 1:12:54.

[37] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 12:14.

[38] Peri Pascha 4 (Translated by Robert J. Daly – ACW).

[39] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 12:13.

[40] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 13:4.

[41]Hom. 29.PG 59: 165.

[42] Hom. 29. PG 59: 165-166.

[43] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 13:8.

[44] Homilies on St. John, 27:1. 

[45] Homilies on St. John, 29:2. 

[46] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 13:9.

[47] Homilies on St. John, 29:2. 

[48] Adam Clark Comm.

[49] نشيد الأناشيد للقديس غريغوريوس أسقف نيصص، تعريب الدكتور جورج نوّار، 1993، عظة 1.

[50] نشيد الأناشيد للقديس غريغوريوس أسقف نيصص، تعريب الدكتور جورج نوّار، عظة 11.

[51] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 13:10.

[52] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 13:12.

[53] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 13:17-18.

[54] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 14:3

[55] Homilies on St. John, 29:2. 

[56] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 14:4.

[57] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 14:5.

[58] Homilies on St. John, 29:3. 

[59] Hom. 30 PG 59: 170.

[60] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate  14:6.

[61] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 14.

[62] Hom. 30. PG 59: 172.

[63] The One Hundred and Fifty Chapters, Ch.95. St. Chry 505 tom. hom 30: 2 PG 59:173.

[64] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 14:10.

[65] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 14:11.  

[66] مقال 10: 1.

[67] Concerning Repentance, Book 1:12:53-54.

[68] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 14:13.  

تفسير انجيل يوحنا 3 الأصحاح الثالث – القمص تادرس يعقوب ملطي

Exit mobile version