Site icon فريق اللاهوت الدفاعي

تفسير انجيل يوحنا – المقدمة – القمص تادرس يعقوب ملطي

تفسير انجيل يوحنا – المقدمة – القمص تادرس يعقوب ملطي

تفسير انجيل يوحنا – المقدمة – القمص تادرس يعقوب ملطي

تفسير انجيل يوحنا – المقدمة – القمص تادرس يعقوب ملطي

من تفسير وتأملات الآباء الأولين 

الإنجيل بحسب يوحنا

الجزء الأول

أصحاحات 1- 8

 

 2003

 

القمص تادرس يعقوب ملطي

كنيسة الشهيد مار جرجس باسبورتنج

 

بسم الآب والابن والروح القدس

الله الواحد، آمين

 

 

اسم الكتاب:الإنجيل بحسب يوحنا.

المؤلف: القمص تادرس يعقوب ملطي.

الطبعة: الأولى 2003.

الناشر: كنيسة الشهيد مارجرجس باسبورتنج.

المطبعة: الأنبا رويس (الأوفست)، بالعباسية القاهرة.

 

 

أمجاد لا يعبر عنها

 

أثناء كتابتي لهذا السفر كثيرًا ما عبر بي فكر ترددت في تسجيله، إذ شعرت بشيءٍ من الأسى أنني لم أبدأ بالتمتع بإنجيل يوحنا منذ بدء حياتي لأقضي عمري كله أسبح في الأمجاد التي يقدمها لنا هذا السفر، والتي لا يمكن للغة بشرية أن تعبر عنها.

أثناء دراستي للسفر أدركت معنى ما قاله العلامة أوريجينوس حين كتب تأملاته وعظاته عن السفر بأنه يظن أنه لا يقدر أن يتمم تفسيره للسفر حتى يعبر إلى السماء ليكمل تفسيره هناك! حقًا لست أظن أن إنسانًا يقدر أن يدرك أعماق السفر بأكملها، لكنها تتجلى بالأكثر حين نلتقي بمسيحنا الممجد لنشاركه مجده السماوي، فندرك ما عناه هذا السفر في صورة أروع مما يمكن الحديث عنها هنا.

ليت روح الله القدوس يحمل كل نفس إلى الأحضان الإلهية، ويشرق على بصيرتها الداخلية فتتمتع بما يود أن يقدمه مسيحنا العجيب لنا من أمجاد ومعرفة إلهية، فنلتهب بنار الحب الإلهي، ونشتهي اللقاء مع مخلصنا.

 

كلمة شكر

 

أشكر الأحباء الذين بذلوا جهدًا في كتابة هذا الكتاب على الكومبيوتر، خاصة الأخ صفوت فرج بأورنج كاليفورنيا ومدام ماجدة حنا بستيت إن آيلند نيو يورك، الرب يعوضهما بالبركات السماوية.

مقدمة في

الإنجيل بحسب يوحنا

 

الإنجيل بحسب ما كتبه القديس يوحنا سفر يناسب الكل، البسطاء والعلماء. كلماته بسيطة للغاية، يقرأه البسطاء فيجدون نفوسهم قريبة منه فيرتاحون، ويغوص فيه أصحاب الخبرات الروحية دون أن ينتهوا إلى سبر غوره[1].

إنجيل يوحنا والكنيسة الأولى

سحب الإنجيل بحسب يوحنا قلب الكنيسة الأولى ليرفعه إلى الأسرار الإلهية الفائقة، بوحي الروح القدس، بأسلوبٍ روحيٍ جذَّاب، بعيدًا عن المصطلحات الفلسفية الصعبة ولغة اللاهوت الجافة.

فيما يلي بعض تعليقات آباء الكنيسة عنه:

العلامة أوريجينوس

مع هذا فإننا نحن الذين نزحف على الأرض ضعفاء، ونسلك بين البشر بصعوبة، نتجاسر لنتمسك بهذه الأمور ونتفهمها، حاسبين أنفسنا كما لو كنا قد أدركناها عندما نتأمل فيها، أو نتحدث عنها[3].

القديس أغسطينوس

القديس كيرلس الكبير

يحقق إنجيل يوحنا بصورة خاصة “ملء” الكتاب المقدس بعينه، وكأنه “مركز” سرّ الكتاب.

يشبه الأب مكسيموس المعترف الكتاب المقدس بالكنيسة المقدسة، وإنجيل يوحنا قدس الأقداس فيها، فيه ندخل إلى أعماق مقدسات الكتاب، ونتعرف على أسراره، ونخترق الحجاب.

بحق يدعوه القديس اكليمنضس السكندريالإنجيل الروحي”، لأنه يدخل بالنفس إلى التعرف على الأمجاد التي أعدت لها خلال محبة الله الآب، وعمل المسيح الخلاصي، وتعزيات الروح القدس. يرى أن إنجيل يوحنا بمثابة الروح، والأناجيل الثلاثة الأخرى بمثابة الجسد. قدمت الأخيرة الحقائق والوقائع الملموسة في حياة السيد المسيح وخدمته وعمله الخلاصي. وجاء إنجيل يوحنا يفسر ما وراء هذه الأحداث، ويكشف عن أعماقها ومفاهيمها. جاء السفر متناغمًا مع قول السيد المسيح: “ليعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته” (يو 8:5).

هو الإنجيل الروحي إذ يرفع المؤمن إلى عالم الروح، ولا يسمح لمؤمنيه أن يبقوا على مستوى المادة، فإذ أشبع الجموع بالخبز فرحوا (26:6)، أما هو فدعاهم إلى الطعام الأبدي (27:6).

في حديثه مع نيقوديموس عن الولادة الجديدة كان فكر نيقوديموس المعلم في إسرائيل حبيس أحشاء أمه، أما السيد المسيح فرفعه لينظر بعيني قلبه أن “المولود من الروح هو روح” (1:3-6).

وفي حديثه مع المرأة السامرية كان فكرها حبيس الدلو المادي وبئر يعقوب وماشيته، فرفع قلبها إلى الينبوع الإلهي حيث يقدم لها ماءً يفجر في داخلها ينابيع مياه حيّة تجري للحياة الأبدية.

إذ بدأ القديس يوحنا الذهبي الفم يعظ على إنجيل يوحنا، تحدث عن القديس يوحنا الإنجيلي وهو يقدم إنجيله مقارنًا بينه وبين الخطباء والممثلين كيف يجتذبون الجماهير بفن الخطابة واستخدام الموسيقى وارتداء قناعات جذابة، أما القديس يوحنا فيتقدم كما على منصة السماء، ليحدث أناسًا صار منهم كثيرون أشبه بالملائكة، ويشتهي أن يصير بقية المستمعين هكذا. إنه لا يستخدم سوي نعمة الله، يتحدث وهو في صحبة السمائيين، مقدمًا لهم رسالة المسيح المفرحة.

القديس يوحنا الذهبي الفم

كاتبه

انفرد باتكائه على صدر السيد المسيح (لو 23:13)، وقد رافق السيد حتى الصليب حيث تسلم منه القديسة مريم أمًا له (يو 20:19-27).

جاء عن القديس يوحنا أنه بعد عودته من جزيرة بطمس إلى مدينة أفسس تجوّل في بعض المناطق الوثنية المجاورة، لإقامة أساقفة في بعض الأماكن وتدبير أمور الكنائس، وإذ بلغ مدينة ليست ببعيدة (غالبًا أزمير) سلم أسقفها شابًا وثنيًا قَبِل الإيمان وكان مملوءً غيرة، مؤكدًا عليه أن هذا الشاب هو وديعة بين يديه. وبالفعل اهتم به الأسقف حتى نال سرّ المعمودية. لكن بعض الشبان الفاسدين اجتمعوا به، وأفسدوا حياته في ترفٍ وبذخٍ، وإذ احتاجوا إلى مالٍ صاروا يسرقون، فكان يشترك معهم. انحدر الشاب من جريمة إلى أخرى حتى كوَّن عصابة تحت قيادته يسلبون وينهبون ويسفكون الدماء. وإذ عاد القديس يوحنا إلى المدينة يسأل الأسقف عن الشاب أجابه: “لقد مات… مات عن اللَّه، لأنه عاد إلى شره، وأصبح خليعًا، وأخيرًا صار لصًا، وعوضًا عن الكنيسة صار يلازم الجبال مع عصابة تماثله”. لم يحتمل القديس ذلك، بل طلب فرسًا امتطاه رغم شيخوخته، وانطلق إلى الموضع حيث أسره اللصوص، وأتوا به إلى رئيسهم، الذي لما رآه اعتراه الخجل وحاول الهرب. صار القديس يجري وراءه صارخًا: “لماذا تهرب مني؟ أنا أبوك يا ابني، وأنا أعزل، طاعن في السن، وإن لزم الأمر فإنني مستعد أن احتمل الموت عنك، كما احتمل الرب الموت عنا. لأجلك أبذل حياتي. قف، آمن، فإن المسيح أرسلني إليك“. للحال خجل الشاب ووقف مطرقًا رأسه نحو الأرض، يبسط ذراعيه في رعدة، وكان يبكي بمرارة. فرح به القديس جدًا، ورجع به إلى الكنيسة، ولم يترك المدينة حتى اطمأن عليه.

مكان كتابته وتاريخ الكتابة

حسب شهادة القديس إيرينيؤس أسقف ليون (حوالي سنة 177-200م)، وهو تلميذ القديس بوليكربوس، سلّم القديس يوحنا إنجيله لأساقفة آسيا حيث كان مقيمًا معهم إلى عهد الإمبراطور تراجان، وأنه قام بنشره في أفسس[14].

وقد بقي تقليد الكنيسة في الشرق والغرب يأخذ بهذا الرأي دون اعتراض يُذكر. لكن جاء بعض النقاد المحدثين يشككون في نسبة السفر للقديس يوحنا، وبالتالي تشككوا في مكان كتابته وتاريخه.

أما من جهة مكان الكتابة فظن البعض أنه كُتب في إنطاكيا أو سوريا، يعتمدون في ذلك على ما جاء في أعمال أغناطيوس Acts of Ignatius[15]، (وهو مُستند لا يُعرف تاريخه)، بأن يوحنا كان مرتبطًا بأنطاكيا. يُرد على ذلك بأن يوحنا كان في أنطاكيا زمانًا ثم ذهب إلى أفسس واستقر هناك.

ينسب بعض النقاد السِفر إلى الإسكندرية، حجتهم في هذا أن أقدم مخطوطة للسِفر وُجدت في مصر. وأن السفر يحمل طابعًا هيلينيًا يناسب فكر الإسكندرية المتأثرة بفيلون Philo اليهودي الرمزي السكندري. يُرد على ذلك أن مناخ مصر العلمي جعلها تقتنيه في وقت مبكر وتحتفظ به، ويكون له دوره في حياة كنيستها وآبائها، لكن ليس بالضرورة أن يكون قد كُتب في مصر[16].

أما من جهة اعتراض البعض على كتابته في أفسس، فقد قام الاعتراض على أساسين:

أولاً: أكّد كثير من النقاد المحدثين خلال النصف الأول من القرن العشرين أن أسلوب السِفر غنوسي هيليني، وهو أسلوب لا يوافق القرن الأول الميلادي بل القرن الثاني. لذلك أصروا على أنه حتى وإن كانت أصوله من وضع يوحنا، فإنه قد أُعيد كتابته في القرن الثاني بيدٍ غنوسية في أنطاكية أو الإسكندرية. وجاء اكتشاف مخطوطات البحر الميت سنة 1947م وأيضًا المكتبة الغنوسية الكاملة التي اُكتشفت في تاريخ مقارب بنجع حمادي بصعيد مصر يؤكدان عكس ما أصرّ عليه النقاد. فتراجع الدارسون وشعروا بصدق التقليد الكنسي، وتيقّن غالبيتهم أنه من وضع القرن الأول، غالبًا بيد القديس يوحنا في أفسس. الأمر الذي نعود إليه عند حديثنا عن “إنجيل يوحنا والغنوسية”.

ثانيًا: حاول بعض النقاد التشكيك في كتابة هذا السِفر بواسطة القديس يوحنا في أفسس بدعوى أن القديس قد استشهد مع أخيه يعقوب على يديّ هيرودس أغريباس الأول سنة 44م في أورشليم، مُقدمين بعض الدلائل التي يمكن الرد عليها:

  1. جاء في مرقس39:10 أن يعقوب ويوحنا يشربان الكأس التي يشربها ربنا يسوع، قائلين بأن هذا يعني أن يوحنا كان يجب أن يستشهد مع أخيه، وإلا كان القديس مرقس قد التزم بتغيير النص. ويُرد على ذلك بأن القديس مرقس مُلتزم بكتابة نص كلمات السيد المسيح تمامًا، وليس من حقه تغيير النص، تاركًا للقارئ التفسير. فإن الكأس التي قصدها الرب كانت نبوة عن الآلام التي احتملها التلميذان، وليس بالضرورة البلوغ حتى الاستشهاد بسفك الدم[17]. هذا ولو أن هيرودس قتل الأخوين معًا لما اكتفى لوقا (كاتب سفر الأعمال) بذكر قتل يعقوب وحده، وإنما كان قد ذكر الأخوين معًا، “فقتل يعقوب أخا يوحنا بالسيف، وإذ رأى أن ذلك يُرضي اليهود عاد فقبض على بطرس أيضًا” (أع 2:12، 3).
  2. اعتمدوا على عبارة موجزة وردت في كتابات كاتبين متأخرين هما فيلبس الصيدي Philip of Side من القرن الخامس، وجورج همرتوليس George Hamartolus من القرن التاسع، فيها نسبا لبابياس أن يوحنا ويعقوب قتلهما اليهود. ويرد على ذلك بأن ما ورد في هذا الشأن لا يُمكن أخذه بجدية إذ عُرف عن الكاتبين أنهما غير مدققين كمؤرخين[18]. ويقول C. K. Barrett أن إيرينيؤس ويوسابيوس عرفا كتابات بابياس ولم يذكرا شيئًا عن استشهاد يوحنا[19]. ومما يشكك في الأمر أن فيلبس لقب يوحنا باللاهوتي بينما لم يكن هذا اللقب قد عُرف به القديس يوحنا في أيام بابياس (القرن الثاني)؛ أما جورج فلم يأخذ ما كتبه عن بابياس في هذا الشأن بجدية، إذ عاد فتحدث عن القديس يوحنا أنه رقد بسلام (دون استشهاد).
  3. جاء في أعمال الشهداء السرياني (سنة 411)[20] تذكار القديسين يوحنا ويعقوب في نفس اليوم، أي 27 ديسمبر، كرسولين في أورشليم، كما جاء في تقويم قرطاجنّة (حوالي 505م)[21] تذكار يوحنا المعمدان ويعقوب في نفس اليوم (27 ديسمبر)، فحسب بعض الدارسين أن التقويم أخطأ في تلقيبه بالمعمدان، كما جاء في عظة للأب أفراهات[22] أن الذين استشهدوا من الرسل غير اسطفانوس وبطرس وبولس هما اثنان يوحنا ويعقوب.

يرد على ذلك بأنه في كل هذه حدث لبس بين القديسين يوحنا المعمدان ويوحنا الرسول. أما الدلائل الإيجابية على أن الرسول يوحنا لم يستشهد مع أخيه فهي:

  1. ذُكر القديس يوحنا بين أعمدة الكنيسة في غلاطية 9:2، وكان ذلك بعد سنة 44م.
  2. جاءت اكتشافات علماء الآثار النمساويين لمقبرة القديس يوحنا بأفسس تسند الفكر الكنسي التقليدي[23].
  3. جاء عن بوليقراطيس Polycrates أسقف أفسس أنه كتب إلى فيكتورينوس أسقف روما حوالي سنة 190م، يؤكد أن الرسول يوحنا عاش في أفسس وتنيح فيها[24].

أما من جهة تاريخ كتابة السفر فبحسب الفكر الكنسي كان في أواخر حياة القديس يوحنا. هذا وواضح من السفر أنه كُتب بعد خراب هيكل اليهود في أورشليم عام 70م (راجع يو 19:2، 20؛ 21:4)؛ وربما بعد طرد المؤمنين من مجامع اليهود، الأمر الذي تم حوالي سنة 85م حتى سنة 90م (راجع يو 22:9؛ 2:16).

غاية الكتابة

  1. يذكر لنا الإنجيلي غاية كتابته للسفر قائلاً: “لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن اللَّه، ولكي تكون لكم إذا آمنتم حياة باسمه” (31:20). ويلاحظ في هذا النص الإنجيلي الآتي:

أ. جاءت كلمة “تؤمنوا” في اليونانية pioteonte وذلك في النسخ السينائية والفاتيكانية وKoredethi في صيغة الحاضر لا الماضي، لتعني أن الإنجيل كتب لتثبيت إيمان قائم فعلاً[25]. فهو لم يقدم إيمانًا جديدًا، إنما أراد تثبيت إيمان الكنيسة الذي تعيشه حتى لا ينحرف أحد عنه.

ب. موضوع الإيمان أن يسوع هو المسيح، وأنه ابن اللَّه. وكما يقول[26] W. C. Van Unnik أن كلمة “المسيح” لا تعنى لقبًا مجردًا، إنما تعنى بالضرورة “الواحد الممسوح”، “الملك الممسوح”، الأمر الذي كان اليهود يدركونه دون الأمم، أما كلمة “ابن اللَّه” فيدركها بالأكثر العالم الهيليني. على أي الأحوال ارتباط اللقبين معًا كان ضروريًا لتثبيت إيمان من كانوا من أصلٍ يهوديٍ أو أمميٍ، إذ يدرك كل مؤمن أن يسوع هذا هو موضوع كل النبوات القديمة، وهو ابن اللَّه الواحد معه في ذات الجوهر، قادر على تقديم الخلاص وتجديد الخلقة.

هذا وقد لاحظ الدارسون أن كلمة “المسيا” قدمت في هذا الإنجيل وحده دون ترجمة بل كما هي، وكأن القديس يوحنا أراد أن يؤكد أن اللقب هنا إنما عني ما فهمه اليهود. لذا نجده يقدم لنا حديث فيلبس لنثنائيل: “وجدنا الذي كتب عنه موسى في الناموس والأنبياء” (45:1)؛ ودعوة أندراوس لأخيه سمعان بطرس: “قد وجدنا مسيا، الذي تفسيره المسيح” (41:1). هذه هي صورة ربنا يسوع في هذا الإنجيل منذ بدايته، صورة مسيانية[27].

هذه الصورة عن يسوع بكونه المسيا الملك الذي طال انتظار اليهود لمجيئه أكدها الإنجيلي في أكثر من موضع. ففي دخول السيد أورشليم “كانوا يصرخون: أوصنا، مبارك الآتي باسم الرب ملك إسرائيل… هذا الأمور لم يفهمها تلاميذه أولاً؛ ولكن لما تمجد يسوع حينئذ تذكروا أن هذه كانت مكتوبة عنه” (13:12-16). وأمام بيلاطس اعترف السيد بمملكته (33:18-37)؛ وقد دين كملكٍٍ لليهود (3:19، 12-15، 19، 20). القديس يوحنا وحده هو الذي أخبرنا أن الجموع طلبته لتقيمه ملكًا فانسحب من وسطهم (15:6)، لأن فهمهم للملك المسياني مختلف عن قصده هو.

هذه الصورة التي قدمها الإنجيلي يوحنا عن ربنا يسوع بكونه “المسيا الملك” الذي طال انتظار اليهود لمجيئه، جعلت بعض الدارسين ينادون بأن يوحنا كرجل يهودي كان مرّ النفس بسبب العداوة التي أظهرها اليهود نحو يسوع. هذا ما نادى به لورد شارنوود Lord Charnwood سنة 1925، غير أن بعض الدارسين مثل ف. تيلور فيرى أن هذا الهدف لم يكن رئيسيًا، إنما كان القديس يوحنا مرّ النفس من نحو كل من حمل عداوة ليسوع سواء كان يهوديًا أو غير يهودي. ودارسون آخرون مثل[28] J. A. T. Robinson نادوا بأن الرسول قصد المسيحيين الذين من أصل هيليني ولم يوجه إنجيله لليهود.

ج. غاية هذا السفر تأكيد لاهوت السيد المسيح، بكونه ابن اللَّه الوحيد الجنس، لكن لا لمناقشات نظرية أو مجادلات فلسفية، وإنما للتمتع بالحياة باسمه. إيماننا بلاهوته يمس حياتنا وخلاصنا نفسه، لذلك جاءت أول عظة بين أيدينا بعد كتابة العهد الجديد تبدأ بالكلمات[29]: [يليق بنا أيها الاخوة أن نفكر في يسوع المسيح بكونه اللَّه، ديان الأحياء والأموات. يلزمنا ألا نقلل من شأن خلاصنا، لأننا عندما نقلل من (السيد المسيح) إنما نتقبل منه القليل[30].]

كأن هذا السفر جاء يعلن بأكثر وضوحٍ وإفاضة ما قدمه لنا الإنجيليون الآخرون، معلنًا لنا الجانب اللاهوتي. وكما يقول العلامة أوريجينوس: [إن أحدًا من هؤلاء لم يعلن لنا لاهوته بوضوح كما فعل يوحنا، إذ خلاله يقول: “أنا هو نور العالم”، “أنا هو الطريق والحق والحياة”، “أنا هو القيامة”، “أنا هو الباب”، “أنا هو الراعي الصالح”، وفي الرؤيا: “أنا هو الألف والياء، البداية والنهاية، الأول والآخر”[31].]

بمعنى آخر، قدم لنا هذا السفر علاقة الابن الأزلية مع الآب، ومعنى هذه العلاقة الفريدة في حياة المؤمنين، ودورها في خلاصهم. أراد الإنجيلي بالكشف عن شخصية السيد المسيح كابن اللَّه الوحيد أن نؤمن به فنخلص، ونحيا أبديًا. وقد أبرز الإنجيلي أن معاصري السيد المسيح أنفسهم لم يدركوا كمال حقيقته كما ينبغي ولا مغزى كلماته وتصرفاته الفائقة للعقل. أقرباؤه حسب الجسد مثل أمه واخوته (أبناء خالته)، وأصدقاؤه، ومعلمو اليهود، والكهنة، وأيضًا المرأة السامرية، وبيلاطس بنطس… هؤلاء جميعًا لم يدركوا كلماته وذهلوا أمام تصرفاته[32].

القديس أغسطينوس

د- حافظ الله على حياة هذا الرسول ولم يسمح باستشهاده مبكرًا مع بقية التلاميذ ليقدم للكنيسة الصبية الحق في شيء من الإيضاح (إنجيل يوحنا)، ويدخل بها إلى يوم الرب لتعاين السماء المفتوحة (سفر الرؤيا).

القديس يوحنا الذهبي الفم

القديس أمبروسيوس

عاش القديس يوحنا حتى نهاية القرن الأول، كآخر من رقد بين تلاميذ السيد المسيح ورسله. وقد عاصر الجيل الجديد من المسيحيين، فكان هو – إن صح التعبير – حلقة الوصل بين العصر الرسولي وبدء عصر ما بعد الرسل. لقد أراد أن يقدم الكلمة الرسولية النهائية عن شخص المسيا، وأن يحفظ الكنيسة من تسلل بعض الأفكار الخاطئة.

يرى بعض الدارسين أن الإنجيلي قصد مواجهة بعض الحركات الغنوسية مثل الدوناتست (الدوسيتيون) Docetism، إذ نادى هؤلاء باستحالة أن يأخذ الكلمة الإلهي جسدًا حقيقيًا، لأن المادة في نظرهم شرّ. لذلك أكد الرسول في إنجيله أن يسوع وهو ابن اللَّه بالحقيقة قد تجسد أيضًا حقيقة، ولم يكن خيالاً، إذ يقول: “الكلمة صار جسدًا”. ما كان يمكننا أن نتمتع بالخلاص ما لم يحمل طبيعتنا فيه، ويشاركنا حياتنا الواقعية. لقد أبرز الإنجيلي السيد المسيح في عرس قانا الجليل وهو يقوم بدور خادم الجماعة. لقد حوَّل الماء خمرًا، وهو عمل فيه خلق، لكنه قام به خلال الخدمة المتواضعة غير منتظرٍ أن يأخذ المتكأ الأول. وعلى بئر سوخار ظهر متعبًا وعطشانًا، وعند قبر لعازر تأثر جدًا بعمقٍ وبكى، وفي العلية غسل أقدام التلاميذ، وعلى الصليب عطش.

غاية هذا السفر الربط بين يسوع التاريخي والمسيح الحاضر في كنيسته. محولاً الأحداث التي تمت في حياة ربنا يسوع للإعلان عن شخصه بكونه رب المجد العامل في كنيسته[36].

أهداف أخرى للسفر

يرى البعض أنه قامت خمس نظريات خاصة بغاية هذا السفر، وهم:

  1. انطلاق المؤمن بالإيمان بالسيد المسيح ابن الله المتجسد إلى عربون الحياة الأبدية والتمتع بالسماويات كما أوضح الإنجيلي نفسه (يو 20: 30-31). هذا ما تحدثنا عنه قبلاً.
  2. الرد على الهرطقات والبدع المعاصرة واليهود المقاومين، والدفاع عن الإيمان المسيحي. وسنتحدث عن هذه النظرية فيما بعد.
  3. نظرية تكميل ما ورد في الأناجيل الثلاثة الإزائية الأخرى. وقد مال إليها يوسابيوس القيصري[37] والقديس جيروم[38]. يصعب القول أن هذا هو ما هدف إليه الإنجيلي. حقًا لقد أمدنا بإعلان الروح القدس بأحاديث وحوار للسيد المسيح مع بعض الشخصيات والجماعات تكشف لنا عن شخص السيد المسيح وعمله الخلاصي وإمكانياته الإلهية التي قدمها لنا وهباته الفائقة وإرساله روحه القدوس وسكنى الثالوث القدوس فينا. قدم لنا فيضًا من اللاهوت الحي العملي الرائع، ومعرفة لاهوتية كاملة.

يوجد تقليد قديم يقول إن القديس يوحنا كتب إنجيله بناء على طلب أساقفة آسيا الصغرى شركائه في الخدمة، إذ يقول القديس أكليمنضس الإسكندري (حوالي سنة 190م): [إن يوحنا، آخر الكل، إذ أدرك الحقائق الخارجية التي كشفتها الأناجيل (الأخرى)، حثه تلاميذه كما أوحى إليه الروح ليكتب إنجيلاً روحيًا[39].] كأن تلاميذه وشركاءه في الخدمة بآسيا سألوه أن يسجل لهم تفسيرًا لاهوتيًا لما سبق فكتبه الإنجيليون الآخرون تاريخيًا. هذا وإن كان كل إنجيلي سجل سفره بالروح القدس ليحمل فكرًا لاهوتيًا متمايزًا ومتكاملاً مع الأناجيل الأخرى.

  1. مال القديس أكليمنضس السكندري إلى ما يدعوه البعض بنظرية التعليم، حيث يقدم السيد المسيح المعلم. هذه حقيقة لكنه ليس بالمعلم الذي يقدم معلومات خارجية، إنما الذي يضم تلاميذه إليه كأعضاء جسده، يختبرون حياته كحياةٍ لهم.
  2. نظرية مواجهة الفلسفات المعاصرة للتوفيق بين الفلسفة والإيمان المسيحي. لسنا نظن أن هذا هو الهدف من وحي الروح القدس لهذا السفر، إنما غايته تقديم الحق الإنجيلي الإلهي. لا يعني أن هذا الحق يرفض ويقاوم كل الفلسفات، إنما يغربلها ويرفض ما فيها من باطل. وقد انبرت مدرسة الإسكندرية، خاصة في عصر القديس اكليمنضس السكندري تكشف عن إمكانية التزاوج بين الإيمان الحي والفلسفة بما فيها من حقٍ وليس بما أفسده الإنسان من أوهامٍ وخيالاتٍ[40].

الرد على الهرطقات والبدع المعاصرة واليهود المقاومين

يرى بعض آباء الكنيسة مثل القديس إيرينيئوس أسقف ليون[41] والقديس جيروم[42] وفيكتورينوس من بيتَّاو Victorinus of Pattau وغيرهم أن غاية هذا السفر هو الرد على الهرطقات والبدع المعاصرة في أيامه واليهود المقاومين للكنيسة.

يقول فيكتورينوس من بيتَّاو في أواخر القرن الثالث وبدء القرن الرابع: [كتب يوحنا الرسول إنجيله بعد سفر الرؤيا، وذلك بعد أن نشر كل من الهراطقة فالنتينوس وكيرنثوس وإبيون وآخرون من مدرسة الشيطان تعاليمهم في كافة أنحاء المسكونة، مما اضطر الأساقفة الذين في البلاد المجاورة أن يجتمعوا إلى القديس يوحنا واضطروه أن يكتب إنجيل شهادته[43].]

حقًا لقد قام الرسول بالدفاع عن الإيمان المسيحي في مواجهة عدة جماعات مقاومة للكنيسة، لكن السفر في جوهره هو عطية الروح القدس الذي أوحى للإنجيلي أن يكشف عن الحق الإلهي الذي يمس خلاصنا، ولا يقف عند الجانب السلبي.

ومما لا شك فيه أن هذا السفر يبقى دومُا مصدرًا حيَّا تنهل منه الكنيسة في دحض البدع عبر العصور. ففي رد القديس إيرينيئوس على الهرطقات اقتبس أكثر من 100 شاهدًا منه. وأيضًا كلٍ من هيبوليتس والقديس أثناسيوس الرسولي والقديس كيرلس الكبير، كما استخدمه كثيرًا القديس اكليمنضس السكندري.

أولاً: الرد على اليهود المقاومين

وقد ظهرت مقاومتهم لشخصه في الأناجيل الثلاثة السابقة. استخدم كلمة “اليهود” 70 مرة في هذا السفر مقابل 5 أو 6 مرات في كل سفر من الأناجيل الإزائية. يستخدمها بمعانٍ كثيرة، منها:

يميز الإنجيل بين كلمتي اليهود وإسرائيل، فالأخيرة إيجابية تدل على ميراث العهد القديم الحقيقي. فقد جاء يوحنا المعمدان يعمد بالماء حتى يظهر يسوع لإسرائيل (31:1). ووصف نثنائيل أنه إسرائيلي لا غش فيه (47:1). حينما يتحدث عن أعياد اليهود وعاداتهم (6:2، 13؛ 2:7) لا نجد ما يشير إلى الازدراء.

قاوم اليهود السيد المسيح: “أنت تلميذ ذاك، أما نحن فتلاميذ موسى” (28:9)، وأرادوا قتله، فحسبهم السيد “أولاد إبليس” (44:8-47)، لأنهم يريدون أن يمارسوا عمل أبيهم القتّال منذ البدء.

إنهم ينكرون أنه المسيا ابن الله السماوي (18:5؛ 40:8-49). دبروا المؤامرات لقتله (10: 30 ـ 39؛ 11: 8 ـ50)، وحرموا من يعترف به أنه المسيا من المجمع (22:9؛ 42:12).

أيضًا الأبيونيون وهم جماعة من المؤمنين من أصل يهودي اعتبروا التمسك بالفروض اليهودية وطقوس الآباء ضرورة يلتزم بها المسيحيون. وفي حماسهم الزائد لموسى والأنبياء اعتبروا أن السيد المسيح مجرد ابن لداود بدون وجودٍ له قبل التجسد، ومجرد نبي ممتاز كانوا ينتظرونه، ودعوا أنفسهم الأبيونيين من الكلمة العبرانية ebyon ومعناها “فقير”.

في هذا السفر أوضح:

 ثانيًا: المتشيعون ليوحنا المعمدان

يرى البعض أن بعض تلاميذه كوّنوا جماعة تعظم يوحنا المعمدان على حساب شخص ربنا يسوع المسيح. كانوا يحسبونه أعظم من المسيح، لأنه جاء قبله، ولأنه عمده. جاء في “التعارفات Recognitions المنسوب لإكليمنضس أنهم يدَّعون أن معلمهم هو المعمدان وليس يسوع. هؤلاء عاشوا في العالم المسيحي وعارضوا المسيحية. وكان لهم تأثيرهم، خاصة في أفسس (أع 19: 1 ـ 8).

يرى أصحاب هذا الرأي (أن السفر قد كُتب لمقاومة المتشيعين ليوحنا المعمدان) أن الإنجيلي قد أكد أن يسـوع المسيح وليس يوحنا المعمدان هو نور العالم (8:1-9). وأنه جاء بعده، لكنه هو سابق له، وأعظم منه (30:1) مع تأكيد أن يسوع وليس يوحنا هو المسيح (20:1؛ 28:3). وأن يوحنا المعمدان جاء شاهدًا ليسوع ينبغي أن الأخير يزيد والأول ينقص (30:3).

أكد القديس يوحنا بشهادة يوحنا المعمدان نفسه عن عظمة المسيح: فالمعمدان ليس بالنور بل هو شاهد للنور (1: 6ـ 8)، وأنه ليس بالعريس بل صديقه (2: 28ـ30)، ليس بحامل خطايا العالم، إنما المسيح وحده هو حمل الله الذي يحمل خطية العالم (29:1).

حقًا لقد أعلن هذا الإنجيلي مشاعر السيد المسيح العميقة أكثر من بقية الأناجيل، وظهر ذلك بقوة في صلاته الوداعية في الإصحاح السابع عشر حيث صلى بصوتٍ عالٍ. بهذا يقدم لنا الإنجيلي صورة السيد المسيح الفائق الإدراك، والتي لا يمكن التعبير عنها، إذ يدخل بنا إلى كمال أسرار اللاهوت فنقف خاشعين، وإلى كمال ناسوته فنقف مذهولين!

لم يتجاهل القديس يوحنا الإنجيلي عظمة يوحنا المعمدان، فهو مُرسل من قبل اللَّه (6:1)، وهو السراج المنير الساطع (35:5).

ثالثًا: الرد على بعض أصحاب البدع

جاء في كتاب “ضد الهرطقاتللقديس إيرينيؤس، وهو من رجال القرن الثاني، أن إنجيل يوحنا كُتب ضد كيرنثوس. وهو صاحب نزعة غنوصية، من آسيا الصغرى. في رأي القديس إيرينيؤس أن كيرنثوس ادعى بأن يسوع هو ابن ليوسف، وأن المسيح عنصر سماوي حلّ على يسوع في وقت العماد وتركه بعد موته. كما ادعى أن الخلق قد تم بواسطة قوة خلاّقة لا بواسطة اللَّه.

إذ يذكر القديس إيرينيؤس أسقف ليون أبيون مع كيرنثوس، لذا ظن القديس جيروم أن إنجيل يوحنا جاء ردًا على أبيون وأتباعه، وهي شيعة مسيحية متهودة.

قيل أيضًا أنه موجه ضد الدوسيتيين Docetists الظاهرين، القائلين بالخيالية في جسد الرب. وهو يدعون أن يسوع المسيح لم يأتِ حقًا بالجسد. فجسده ليس جسدًا حقيقيًا بل ظاهرًا أو غازيًا أو أثيريًا. يبدو كأنه إنسان، وبهذا كان تألمه وموته ظاهريين.

رابعًا: نداء إلى المسيحيين الذين من أصل يهودي في الشتات

يشير مرتين إلى الذين آمنوا بالسيد المسيح ولم تكن لهم الشجاعة أن يعلنوا إيمانهم خوفًا من الطرد من مجمع السنهدرين. الأولى في 42:12 إذ “آمن به كثيرون من الرؤساء أيضًا غير أنهم لسبب الفريسيين لم يعترفوا به لئلا يصيروا خارج المجمع”. والثانية في 38:19 “ثم أن يوسف الذي من الرامة وهو تلميذ يسوع، ولكن خفية لسبب الخوف من اليهود سأل بيلاطس أن يأخذ جسد يسوع”.

خامسًا: مساندة المسيحيين في العالم أيا كان أصلهم

جاء يسوع إلى العالم ليكون نورًا لكل إنسان (9:1)، وهو حمل اللَّه الذي يحمل خطية العالم (29:1)، جاء ليخلص العالم (16:3). متى ارتفع على الصليب يجذب إليه كل إنسانٍ (32:12). فهو مسيح العالم. في استهزاء قال اليهود إنه ربما يذهب إلى الشتات لكي يعلم اليونانيين (35:7)، فتنبأوا عن عمله بين الأمم وهم لا يدرون، كما نسمع عن بعض اليونانيين الذين قالوا لفيلبس: “يا سيد، نريد أن نرى يسوع” (20:12-21). وفي حديثه عن عمله كراعٍ صالحٍ يؤكد أن له خرافًا ليست من هذا القطيع يجعلها جزءً من رعية واحدة لراعٍ واحدٍ (16:10). وفي 35:4 نرى السيد المسيح قد جاء ليس لفداء الأمة اليهودية وحدها بل ليجمع أبناء اللَّه المشتتين ويوّحدهم. لقد تعرف بعض السامريين عليه، وعرفوا أنه مخلص العالم (42:4)، وقد رأى السيد حقول السامرة قد ابيضّت للحصاد (35:4).

إنجيل يوحنا والأناجيل الثلاثة الإزائية[44] Synoptic Gospels

إن كان الإنجيل بحسب يوحنا يختلف عن الأناجيل المتشابهة أو الإزائية (متى ومرقس ولوقا) Synoptic Gospels، لكننا لا نستطيع أن نبتره عنها تمامًا، إذ يفترض معرفة الإنجيلي يوحنا للأناجيل الثلاثة السابق كتابتها أو على الأقل للتقليد الذي اعتمدوا عليه[45].

كان الرأي الكنسي الأول يمثله قول القديس اكليمنضس الإسكندري[46]، وهو أن القديس يوحنا أراد أن يقدم تفسيرًا روحيًا للأناجيل الثلاثة السابقة له. هذا الرأي ساد عبر العصور ولازال يقبله كثير من الدارسين، وإن كان بعض النقاد المحدثين يرون أنه لا علاقة بين هذا السفر والأناجيل الثلاثة لا بالإيجابية ولا بالسلبية، ورأى بعضهم أن يوحنا عرف مرقس ولوقا دون متى.

ويلاحظ في هذا السفر أنه يفترض في القارئ معرفته للأناجيل الثلاثة الأخرى؛ نذكر على سبيل المثال في يو 40:1 يقدم لنا أندراوس هكذا: “كان أندراوس أخو بطرس…”، دون أن يشير قبلاً إلى القديس بطرس. وفي 67:6 يفترض في القارئ أنه يعرف الاثنى عشر تلميذًا. وفي 32:1-34 إذ يسجل لنا شهادة يوحنا المعمدان عن السيد، يفترض في القارئ معرفته عن عماد السيد بواسطة يوحنا دون الإشارة إليه.

يعتبر البعض الأناجيل الثلاثة أشبه برحلة السيد المسيح من الجليل إلى أورشليم، فتركز على صعوده الأخير إلى المدينة المقدسة حيث قدم نفسه ذبيحة الفصح الفريدة. أما إنجيل يوحنا فيتحدث عن مناسبات عديدة أقام فيها السيد المسيح في أورشليم، ويذكر عيد الفصح في ثلاث سنوات متوالية، وفي ليلة الفصح الأخير مات المسيح “حمل اللَّه” ليُقدم احتفالاً جديدًا للعالم كله يملأه ببهجة قيامته التي صار تذكارها هو “عيد الفصح المسيحي”.

سجل لنا القديس يوحنا الحبيب بإعلان الروح القدس هذا السفر بعد كتابة الأناجيل الإزائية الثلاثة، سجله للكنيسة الجامعة موضحًا شخص المخلص بكونه الكلمة الأزلي الإلهي، ابن اللَّه مخلص العالم.

القديس يوحنا الذهبي الفم

القديس أغسطينوس

لم يشترك مع الأناجيل الثلاثة إلا في:

* عماد السيد المسيح (بالتلميح) 32:1-34؛

* تطهير الهيكل 13:2-16؛

* إشباع الجموع 1:6-13؛

* المشي على المياه 16:6-21؛

* سكب الطيب في بيت عنيا 1:12- 8؛

* دخول المسيح أورشليم منتصرًا 12:12-19؛

* إعلان الخيانة 21:13-30؛

* آلامه وقيامته، قدمت بطريقة خاصة.

هذا ولم يذكر الإنجيلي يوحنا سوى سبع آيات فقط، اختارها من بين الآيات والعجائب التي بلا حصر. وقد جاءت هذه الآيات أو المعجزات جديدة لم يذكرها غيره من الإنجيليين، سوى إشباع الجماهير التي سجلها كمقدمة لحديثه الصريح عن الإفخارستيا، والسير على المياه.

ذكر الإنجيلي يوحنا حوادث وأحاديث لم يذكرها غيره من الإنجيليين، فجاء جديدًا على مسامعنا. لم يكرر ما جاء قبلاً مثل ميلاد السيد المسيح، نسبه، التجربة، الموعظة على جبل، التجلي، الأمثال، العشاء الأخير، الآلام في جثسيماني، الصعود الخ. مكتفيًا أحيانًا بالتلميح.

إنجيل يوحنا بين اللاهوت والتاريخ

بلا شك أن إنجيل يوحنا له طابع متميز عن بقية الأناجيل، فإن كانت الأخيرة قد سجلها الوحي الإلهي بغرض تاريخي مع اهتمام كل إنجيل بالكشف عن أحد جوانب السيد المسيح، فإن هذا الإنجيل يغلب عليه الطابع اللاهوتي، وإن كان في عرض تاريخي أيضًا.

في إنجيل مرقس يذكر رحلة واحدة من الجليل إلى أورشليم (مر 1:10)، أما في يوحنا فيذكر ثلاث رحلات (يو 13:2؛ 1:5؛ 10:7). في إنجيل مرقس يأتي تطهير الهيكل في أواخر السفر (مر 15:11)، أما في يوحنا فيأتي في قرب بدايته (يو 13:2 الخ).

لقد ركز الإنجيلى يوحنا على شخص السيد المسيح ليعلن أنه كلمة اللَّه الذي فوق الزمن وقد خضع للزمن، وصار له موضع في تاريخ البشرية. حقًا لم يُقصد بالإنجيل أن يستعرض تاريخ حياة السيد، بل أبرز حقيقته بكونه اللوغس “الكلمة الإلهى”، النور، الحق، الحياة، القيامة الخ. وكأن هذا السفر أراد تأكيد أن التمتع بملكوت اللَّه الداخلي إنما هو تعرُف على شخص المسيا المخلص، وإدراك أسراره عاملة فينا. من أجل هذا خضع للزمن، إذ “صار الكلمة جسدًا” (14:1).

إن كنا نحن كبشرٍ نحمل جسدًا يخضع للزمن، فبخضوع السيد المسيح بإرادته للزمن واقتحامه تاريخنا خلال تجسده لم يحطم الزمن بل أعطاه قدسية خاصة. ولعله لهذا السبب نجد الرسول يوحنا يهتم بالتدقيق في الحديث عن الأزمنة والأوقات، إذ يقول:

“وكان نحو الساعة العاشرة” (39:1)؛

“كان نحو السادسة” (6:4؛ 14:19)؛

“في ست وأربعين سنة بُني هذا الهيكل” (20:2)؛

“وكان شتاء” (23:10)؛

“وكان ليلاً” (30:13)؛

ولعل اهتمام الرسول بتحديد الأزمنة تأكيد أن السيد المسيح قد حمل جسدًا حقيقيًا، ودخل في التاريخ البشري، ولم يكن جسده خيالاً كما ادعى البعض مثل الدوناتست.

إذ يسبح القديس يوحنا في اللاهوتيات، بكونه اللاهوتي الأول، يشرح لنا قصد اللَّه و”تدبيره” (باليونانية eikos ecomomia، eikos أي بيت؛ وnomos أي قانون أو ناموس): “الحكمة بنت لها بيتًا” (أم 1:9). فالحكمة هي المسيح، وأول بيت لها هو العذراء مريم التي بتجسده منها جاء المسيح إلى العالم. والعذراء صورة الكنيسة التي هي أيضًا بيت اللَّه (1 كو 9:3-17)[51].

تزايد الاهتمام بالجانب التاريخي

إن كان بعض الدارسين المحدثين أرادوا تفسير إنجيل يوحنا من الجانب اللاهوتي البحت، متجنبين قيمته التاريخية، لكنهم وجدوا أنفسهم أمام هذه الحقيقة: أن هذا اللاهوت سُجَل في قالب تاريخي[52]. لذلك نما الاتجاه نحو الاهتمام بالجانب التاريخي والاجتماعي والجغرافي لهذا السفر خاصة في الأحداث التي وردت في هذا السـفر وحده دون بقية الأناجيل، من ذلك دراسات كل من Albright وHiggins وLeal وPallard و Stauffer وغيرهم. هؤلاء ركزوا على الآتي[53]:

1- ما جاء في الاصحاح الرابع بخصوص السامريين، وفكرهم اللاهوتي، وممارستهم للعبادة على جبل جرزيم، وموقع بئر يعقوب بدقة.

2- في الاصحاح الخامس نجد معلومات دقيقة عن بركة بيت حسدا، من جهة اسمها وموقعها وأبنيتها.

3- مقالات لاهوتية خاصة بعيد الفصح (إصحاح 6)، وعيد المظال (ص 7، 8)، تقدم لنا معلومات دقيقة عن الاحتفالات الخاصة بالأعياد وقراءات المجمع اليهودي في أثنائها.

4- تفاصيل خاصة بأورشليم، مثل الإشارة إلى بركة سلوام (7:9)، وإلى رواق سليمان كملجأ في الشتاء (22:10-23)، وإلى الممر الحجري في بلاط بيلاطس (13:19). بمعنى آخر يمكننا القول إن هذا السفر قدم لنا معرفة دقيقة خاصة بفلسطين قبل دمار أورشليم سنة 70م وتحطيم معالمها.

سماته

1- إنجيل القداسة الإلهية

يكشف لنا هذا السفر عن قداسة اللَّه بطريقة رائعة مفرحة. فكلمة قداسة في اليونانية ayios تعني “لا أرضي”. فالقداسة اسم يخص اللَّه، ليُعلن لنا ما هو فوق إدراكنا، وقد ارتبطت قداسة اللَّه قديمًا بالخوف:

“فارتعد كل الشعب الذي في المحلة… وارتجف كل الجبل جدًا” (خر 12:19- 25).

“أما وجهي فلا تستطيع أن تراه، لأنه لا يراني إنسان ويعيش” (خر 20:23).

“ويلي قد هلكت، لأني رجل دنس الشفتين… وقد رأت عيناي الملك رب الجنود” (إش 5:6).

يكشف إنجيل يوحنا العهد الجديد في أعماقه حين نزل السماوي إلى الأرضيين، وأعلن قداسته مقرونًا بالمجد لا بالرعد: “حلّ بيننا ورأينا مجده (14:1).

2- إنجيل الإيمان العامل بالمحبة Redemptive love، واهب الحياة

اتسم هذا السفر بوجود مصطلحات معينة متكررة تختلف عما وردت في الأناجيل الأخرى. ولعل من أهم الكلمات التي تكررت فيه هي: يؤمن (98 مرة)، يعرف (55 مرة)، يحيا (55 مرة)، يحب (20 مرة)، يشهد (21 مرة). تكرار هذه الكلمات لم يأتِ مصادفة أو بدون حكمة، فقد أراد الوحي الإلهي أن يكشف عن غاية هذا السفر، ألا وهو الإيمان القائم على المعرفة الروحية، لكي يحيا الإنسان بروح الحب.

فإن كانت كلمة “يؤمن” قد تكررت 98 مرة في السفر كله، فإنها تكررت 74 مرة في الإثني عشر إصحاحًا الأولى، هذه الإصحاحات التي تُدعى “كتاب الآيات أو المعجزات”، شملت سبع آيات صنعها السيد المسيح. وكأن غاية هذه الآيات هي “الإيمان” بكونه سرّ حياتنا وخلاصنا. ويلاحظ أن الكلمة: “يؤمن” جاءت في هذا السفر 39 مرة لتعني ليس مجرد تصديق أقوال السيد، وإنما إعطاء الإنسان ذاته للًّه أو تحركه عمليًا نحوه كما جاء في 11:12 “لأن كثيرين من اليهود كانوا بسببه يذهبون ويؤمنون بيسوع“. وربما جاءت الكلمة عن أصل عبري يعني أن الشخص يسلم نفسه بثقة للغير[54].

تكررت أيضًا كلمة “يعرف“، ليؤكد الرسول أن الإيمان وهو يحمل معنى التسليم مع الثقة في اللَّه، هو تسليم النفس العاقلة التي تتقبل حب اللَّه، وتتعرف على أسراره، فترتمي في أحضانه. الإيمان لا يتقبله الأغبياء، ولا يعني الجهالة، بل يسير جنبًا إلى جنب مع المعرفة الحقيقية، خاصة التي يعلنها اللَّه نفسه ليتقبلها العقل، وإن كانت فائقة عن قدراته، لكنها ليست متعارضة معه أو مناقضة له.

المعرفة هنا لا تعني مجرد الإدراك الذهني النظري، إنما تعني الاتحاد الكامل في الحق والحب، أو شركة الحياة، الأمر الذي أوضحه الإنجيلي في رسالته الأولى: “الذي رأيناه وسمعناه نخبركم به، لكي يكون لكم أيضًا شركة معنا، وأما شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح” (1 يو 3:1).

أما غاية المعرفة فهي “الشركة مع اللَّه” ليمارس حياته فينا، فنحمل طبيعة محبته. هذا هو الحب الخلاصي الذي يسكبه فينا لنختبره ونعيشه. جاء الإنجيل يعلن لنا: “هكذا أحب اللَّه العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية” (16:3). هذا الحب الخلاصي قدمه الابن، إذ يقول: “وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إلى الجميع” (32:12). “أما يسوع… وهو عالم أن ساعته قد جاءت لينتقل من هذا العالم إلى الآب، إذ كان قد أحب خاصته الذين في العالم، أحبهم إلى المنتهى” (1:13). الإيمان بالصليب ينير بصيرتنا، فنتعرف على اللَّه، بكونه محب البشر الباذل، لذا يؤكد السيد: “متى رفعتم ابن الإنسان، فحينئذ تفهمون إني أنا هو” (28:8). نعرفه أنه اللَّه الكائن، الذي يحب خليقته حتى النهاية.

هكذا يرتبط الإيمان بالمعرفة والحب ليحيا الإنسان بالإيمان الحي خلال المعرفة الروحية، ممارسًا طبيعة الحب.

الحب الخلاصي الذي نتذوقه فنتجاوب مع اللَّه بالحب، إنما ينبع عن طبيعة الحب الأزلية التي بين الآب والابن (35:3؛ 9:15). وخلاله نمارس حبنا أيضًا لبعضنا البعض (14:13).

كأن الانجيلي يوحنا، وهو رسول الحب، يحدثنا عن:

– حب الآب للسيد المسيح.

– حب الآب للبشرية خلال بذل ابنه وحيد الجنس.

– حب السيد المسيح الخلاصي للبشر، خاصة في حديثة الوداعي.

– حبنا للَّه.

– حبنا لبعضنا البعض كعلامة شركتنا في الحب الإلهي.

3- إنجيل الحق

جاءت كلمة “الحق” 25 مرة في هذا السفر. و”الحق” هنا يختلف عما يعنيه الغنوسيون أو الهيلّينيون[55]، إذ هو ليس ثمرة فكر بشري بحت، أو فلسفة إنسانية يتعرف عليها، وإنما “الحق الإنجيلي” يعني الآتي:

أولاً: الكلمة الإلهي نفسه الذي يحرر النفس من ظلمة الخطية: “وتعرفون الحق، والحق يحرركم” (32:8). الكلمة الإلهي الذي فيه نتقدس، كما جاء في صلاته الوداعية: “قدسهم في حقك، كلامك هو حق” (17:17).

ثانيًا: يُعلن لنا إلهيًا، إذ يقول السيد المسيح: “الذي من اللَّه يسمع كلام اللَّه، لذلك أنتم لستم تسمعون لأنكم لستم من اللَّه” (47:8). “وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي فهو يعلمكم كل شيء، ويذكركم ما قلته لكم” (26:14).

ثالثًا: الحق هو حياة تُعاش وتُمارس: “وأما من يفعل الحق، فُيقبل إلى النور، لكي تظهر أنها باللَّه معمولة” (21:3). “سالكين في الحق” (2 يو 4).

4- إنجيل الروح

يرتفع بنا الإنجيلي إلى اللاهوتيات لنتعرف على أسرارها فنعيشها ونختبرها، فالحاجة هنا لا إلى مجادلات فكرية بشرية وفلسفية، وإنما إلى الروح القدس الذي ينير لنا البصيرة الداخلية. فإن كان الروح هو الذي يوحي للرسول بما يكتب، يطلب من قارئيه أن يتمتعوا بعمل الروح، فيدركوا أسرار الكتابة، ويتعرفوا خلال الأحداث على العمل الإلهي الخلاصي.

لم يدرك التلاميذ بالروح كلمات السيد المسيح حتى تمجد، إذ يقول: “قال لهم انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه… فلما قام من الأموات تذكر تلاميذه أنه قال هذا، فآمنوا بالكتاب والكلام الذي قاله يسوع” (19:2، 22). “وهذه الأمور لم يفهمها تلاميذه أولاً ولكن لما تمجد يسوع حينئذ تذكروا أن هذه كانت مكتوبة عنه” (16:12). “لأنهم لم يكونوا بعد يعرفون الكتاب أنه ينبغي أن يقوم من الأموات” (9:20).

لقد سمعوا كلمات السيد ورأوا الأحداث، لكنهم كانوا في حاجة أن يفتح الروح بصيرتهم الداخلية ليدركوا ويؤمنوا؛ لهذا أكد الإنجيلي أن الرؤية الجسدية وحدها لا تكفي، إنما يلزم الإيمان الذي يفتح البصيرة للرؤية الداخلية:

“فقال لهم يسوع… إنكم قد رأيتموني ولستم تؤمنون” (36:6).

“لأن هذه هي مشيئة الذي أرسلني أن كل من يرى الابن ويؤمن به تكون له حياة أبدية، وأنا أقيمه في اليوم الأخير” (40:6).

“لأنك رأيتني يا توما آمنت، طوبى للذين آمنوا ولم يروا” (29:20).

“وخرج دم وماء، والذي عاين شهد، وشهادته حق، وهو يعلم أنه يقول الحق لتؤمنوا أنتم” (34:19، 35).

“دخل أيضًا التلميذ الآخر الذي جاء أولاً إلى القبر ورأى فآمن” (8:20).

يوضح الإنجيل أنه يوجد من يرى بعيني جسده، ولا يرى ببصيرته الداخلية: “فقال يسوع: أتيت أنا إلى هذا العالم حتى يبصر الذين لا يبصرون، ويعمى الذين يبصرون”. إذ بالإيمان أبصر الأمم الذين لم يبصروه حسب الجسد، بينما أصيب قادة اليهود بالعمى مع أنهم أبصروه بأعينهم الجسدية.

وما نقوله عن الرؤية الجسدية والروحية هكذا أيضًا بالنسبة للسماع. إذ يوجد من يسمع الصوت بأذنيه ولا تنفتح أذناه الداخليتان، كما قيل: “فجاء صوت من السماء: مجدت وأمجد أيضًا، فالجمع الذي كان واقفًا وسمع قال: قد حدث رعد…” (28:12-29).

القديس يوحنا الذهبي الفم

5- إنجيل الشهادة للسيد المسيح

الشهادة للسيد المسيح تمثل بلا شك عصب الحياة الرسولية، وقد جاء القديس يوحنا في إنجيله يعلن الشهادة للسيد بكونه “المسيا ابن اللَّه“، قدمها بما يناسب العقلية اليهودية الناموسية، فقدم لنا عدة شهادات متباينة:

  1. شهادة الناموس له، موضحًا أن فيه قد تمت الكتب والنبوات، خاصة في قصة آلامه (38:12؛ 18:13؛ 25:15؛ 12:17؛ 9:18؛ 24:9؛ 24:19، 36). يطالبنا السيد المسيح نفسه بتفتيش الكتب (39:5).

ب. شهادة يوحنا المعمدان (7:1، 15، 19 الخ؛ 26:3 الخ؛ 53:5 الخ).

ج. شهادة المرأة السامرية (39:4).

د. شهادة الجموع له (17:12).

ه. إذ يعلن السيد أن الإنسان لا يشهد لنفسه، أوضح أن الآب يشهد له خلال الأعمال (31:5-36، 17:8 الخ؛ 37:10؛ 10:14 الخ).

و. شهادة الروح القدس عنه (26:15 الخ).

ز. شهادة التلاميذ له (27:15).

وإنني أترك الحديث عن الشهادة لبنوة السيد المسيح للآب وتأكيد لاهوته لصُلب شرح الإنجيل منعًا من التكرار وتحاشيًا للإطالة، إذ يعتبر هذا الموضوع في صلب الإنجيل نفسه افتتح به الإنجيلي السفر وختمه به، موضحًا العلاقة الأزلية بين الآب والابن، الأمر الذي أثار اليهود وأرادوا رجم السيد (18:5).

ويلاحظ أن القديس يوحنا الحبيب يُسقط على الأشخاص نور السيد المسيح وينسبهم إليه، فيدعو القديسة مريم: “أم يسوع”، ويدعو نفسه: “التلميذ الذي كان يسوع يحبه”. وكأن القديسين يحملون أسماءً هي عبارة عن نسبهم إلى السيد المسيح.

6- إنجيل الوصية الجديدة أو إنجيل المحبة

إن كان هذا السفر لم يقدم لنا الموعظة على الجبل، ولا أمثال السيد المسيح ولا شرائع خاصة به، لكنه قدم وصية جديدة ركز عليها، هذه الوصية ليست دستور قوانين أو شرائع code of laws وإنما طريق محبة way of love؛ ليست ثقلاً يلتزم به الإنسان، بل شركة في طبيعة المسيح محب البشر، إذ يقول: “وصية جديدة أنا أعطيكم أن تحبوا بعضكم بعضًا؛ كما أحببتكم أنا تحبون أنتم أيضًا بعضكم بعضًا، بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي إن كان لكم حب بعضنًا لبعض” (34:13، 35).

تكلم كثيرًا عن علاقة الرب بالكنيسة والعالم أنها علاقة محبة. فالاتحاد بالكنيسة يشبه اقتران العروسين. فلقد قال عنه المعمدان أنه عريس الكنيسة “من له العروس فهو العريس… إذًا فرحي هذا قد كمل” (يو 25:3-28). كما أكد النمو بأكل جسده: “أنا هو خبز الحياة. أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء. إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد” (48:6-51). لقد شبَّه نفسه بالراعي (11:10)، وأيضًا بالبواب (3:10)، والباب (7:1). ثم اعتبر نفسه الكرمة والكنيسة الأغصان (إصحاح 15).

وصف هذا الإنجيل كاتبه بأنه كان يتكئ على صدر الرب، وكان الرب يحبه. ووصف الرب يشارك الناس ظروفهم كما في العرس بقانا الجليل (يو 2)، وفي الأحزان مثلما بكى عند قبر لعازر (يو 11). وحين يضعف إيمان البعض مثلما حدث مع توما فيثبت إيمانه (27:20-28) ومع بطرس حين يسقط فيشجعه على عدم التراجع ويسنده بالحديث عن المحبة (15:21-18). ويصدر حديثه الوداعي للتلاميذ بقوله إنه “أحب خاصته الذين في العالم. أحبهم إلى المنتهى” (1:13) ولا غرو فهو الذي بذل ذاته عنا، “لأنه هكذا أحب اللَّه العالم حتى بذل ابنه الوحيد كي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية” (16:3).

هذا ولم يذكر إنجيل يوحنا مثلاً صريحًا سوى في حديثه عن الراعي الصالح (يو 10).

7- مسيح الشباب المفرح

افتتح خدمته بحضور عرس في قانا الجليل، فهو صديق الشباب، ومصدر فرحهم. لم يذكر معلمنا يوحنا اسمي العروسين اللذين حضر السيد المسيح عرسهما وصنع أول معجزة (يو 2)، غالبًا ما كان أحد أقرباء يسوع المسيح حسب الجسد، لذا دُعي مع أمه للحضور.

8- إنجيل أحاديث للسيد المسيح

جاءت غالبيتها خلال أسئلة أو اعتراضات وجهت إليه، خلالها كشف السيد عن حقيقة نفسه وعن أعماله، نذكر على سبيل المثال:

* نثنائيل: “من أين تعرفني؟” (48:1)

* اليهود: “أية آية ترينا حتى تفعل هذا؟” (18:2)

* نيقوديموس: “كيف يمكن أن يكون هذا؟” (9:3)

* السامرية: “كيف تطلب مني لتشرب، وأنت يهودي، وأنا امرأة سامرية؟” (9:4)

* اليهود: “كيف يقدر أن يعطينا جسده لنأكل؟” (52:6)

* في عيد المظال: “كيف هذا يعرف الكتب وهو لم يتعلم؟” (15:7)

* الجمع: “بك شيطان؛ من يطلب أن يقتلك؟” (20:7)

* الكتبة والفريسيون: “يا معلم، هذه المرأة أمسكت وهي تزني في ذات الفعل، وموسى في الناموس أوصانا أن مثل هذه تُرجم، فماذا تقول أنت؟” (5:8)

* اليهود: “إننا ذرية ابراهيم ولم نُستعبد لأحد قط، كيف تقول أنت إنكم تصيرون أحرارًا؟” (23:8)

“ألسنا نقول حسنًا إنك سامري وبك شيطان؟” (48:8)

“ألعلك أعظم من أبينا ابراهيم الذي مات، والأنبيـاء ماتوا، من تجعل نفسك؟” (53:8)

“ليس لك خمسون سنة بعد، أفرأيت إبراهيم؟” (57:8).

* التلاميذ: “يا معلم، من أخطأ هذا أم أبواه حتى وُلد أعمى؟” (1:9)

هكذا سار السفر في غايته يحمل أسئلة أو اعتراضات والرب يجيب ويعلن أسراره!

حوى السفر عدة أحاديث عامة أو موجهة لاشخاص:

1- المعمودية والميلاد الجديد (3: 1-21).

2- الحياة الأبدية (4: 5-21).

3- مصدر الحياة الأبدية (5: 19-47).

4- خبز الحياة (6: 29-59).

5- معلم الحق (7: 14-29).

6- نور العالم (8: 12-20).

7- المسيح المصلوب غاية الإيمان (8: 21-30).

8- المحرر الروحي (8: 31-59).

9- الراعي الصالح (10: 1-18),

10 – وحدة اللاهوت (22:10-38).

11 – مخلص العالم (20:12-36).

كما قدم أحاديث وداعية لتلاميذه:

12- موته عن كل البشرية (12: 20-36).

13- التقديس والتكريس (31:13-31:14).

14- الاتحاد مع المسيح (1:15-27).

15- الروح المعزي (1:16-33).

 

9- إنجيل ليتورجي

إنجيل يوحنا أكثر الأناجيل “ليتورجية”، أي إعلان حضور السيد المسيح سريًا، فيعلن عن حضوره في عرس قانا الجليل لا كمدعو فحسب، وإنما كسرّ فرح خفي بتحويل الماء إلى خمرٍ، ويتحدث عن حضوره السري خلال حديثه مع نيقوديموس ليلاً عن سرّ المعمودية، كذلك في شفائه مفلوج بيت حسدا.

ما أن أسلم السيد المسيح الروح حتى طعنه واحد من العسكر في جنبه بحربة وللوقت خرج دم وماء (34:19)، دم الإفخارستيا وماء العماد. وكأنها لحظات ولادة الكنيسة، فقد وُلدت حواء الجديدة من جنب آدم الثاني.

جاءت الأحداث والأحاديث المسيانية في السفر لها طابع ليتورجي سرائري كنسي، مثل حوار السيد المسيح مع نيقوديموس عن الولادة الجديدة أو المعمودية (يو 3)، كما تحدث مع الجمهور حديثًا أفخارستيًا (يو 6).

10- إنجيل القوة والحركة

يتميز إنجيل يوحنا بالحركة “الديناميكية” الجلية، فيقدم لنا حركة الخليقة نحو الآب في المسيح. “يسوع وهو عالم… أنه من عند اللَّه خرج وإلى اللَّه يمضي” (13: 1، 3). إنها حركة فصحية حقيقية خلالها يُصعد السيد المسيح المؤمنين إلى حضن الآب بالصليب. يقول السيد المسيح: “إبراهيم أبوكم ابتهج بأن يرى يومي، فرأى وفرح” (56:8).

إن كان إنجيل مرقس يشَّبه بالأسد حيث يفرح المؤمنون مع السمائيين بتسبيح الظفر كأسودٍ غالبة، وإنجيل لوقا يشَّبه بوجه الثور مقدمين حياتهم ذبيحة حب للَّه في المسيح الذبيحة الحقيقية، وإنجيل متى بوجه إنسانٍ، فإن إنجيل يوحنا يشَّبه بالنسر الذي يحلق بنا في اللاهوتيات، ويرتقي بنا إلى السماء عينها لنعرف أسرار اللَّه الفائقة، قائلين: “رأينا مجده!” (14:1).

11- اهتمامه بأرقام معينة

كمثال رقم 3، إذ نجده:

* يحدثنا عن ذهاب السيد المسيح إلى الجليل ثلاث مرات؛

* ويختار في الجليل ثلاث معجزات؛

* كما ذهب إلى اليهودية ثلاث مرات؛

* ويُجري السيد بها ثلاث معجزات؛

* يسجل لنا من كلمات السيد المسيح السبع على الصليب ثلاث كلمات؛

* ويُقدم لنا ثلاثة ظهورات للسيد المسيح بعد قيامته.

واهتم أيضًا برقم 7، إذ نجده:

* يأتي بسبعة شهود للسيد المسيح (راجع إنجيل شهادة للسيد المسيح)؛

* ويختار في كل السفر سبع معجزات أو آيات صنعها السيد المسيح.

* وترد فيه كلمة “اليوم الأخير” سبع مرات.

12- أسلوبه إعجازي مطلق

يجد المؤمن في الإنجيل بحسب القديس يوحنا متعة خاصة، فهو ذروة الوحيّ الإنجيلي، أسلوبه إعجازي مطلق بكونه السهل الممتنع، مادته هو “المسيح” نفسه بكونه “كلمة اللَّه” الذي يرفع النفس لتكتشف الأسرار الإلهية فيه كما بدون وسيط.

عاش القديس يوحنا هذا الإنجيل أكثر من نصف قرنٍ بعد صعود السيد المسيح يتأمله بالروح القدس الذي وعد به السيد: “لأنه ماكث معكم ويكون فيكم… يعلمكم كل شيء، ويذكركم بكل ما قلته لكم” (17:14، 26)، “يرشدكم إلى جميع الحق” (13:16). تحولت خبرته الشخصية مع السيد المسيح أثناء وجوده على الأرض، ودالته لديه إلى انطلاقة بالروح القدس لتهيم نفسه في السماوات، تنعم بالسيد المسيح محبوبها الممجد. لذا كتب بالروح هذا السفر ليرفع كل نفس إلى ذات الخبرة.

13- آخر ما كُتب من أسفار الكتاب المقدس

قلنا أن هذا الإنجيل جاء متمايزًا عن الأناجيل الإزائية Synoptic Gospel، بكونه قد كُتب في أواخر القرن الأول، غالبًا آخر ما كُتب من أسفار الكتاب المقدس، فجاء لا ليكرر ما ورد في الأسفار الأخرى بل ليكملها، لهذا جاء يحمل السمات التالية:

14- وحدة فنية وزمنية معًا

يمثل إنجيل يوحنا وحدة فنية وزمنية معًا بطريقة فريدة ورائعة. ففيه ترتبط موعظة السيد وأحاديثه بالأحداث ربطًا زمانيًا ومكانيًا وموضوعيًا. يضم هذا الإنجيل سبع معجزات ترتبط بسبعة أحاديث تكشف عن شخص السيد المسيح وأسراره الإلهية.

15- استخدام طريقة المقابلة

اتسم الإنجيل بحسب يوحنا باستخدامه طريقة المقابلة، نذكر على سبيل المثال:

16- تنوع في الأسلوب

من جهة الأسلوب حمل هذا السفر تنوعًا في الأسلوب، كأن يستخدم أحيانًا الرمزية، وأحيانًا الأسلوب القصصي، وأيضًا الحوار الجدلي، والخطابة، والأسلوب الباطني (الصوفي)، والتعليمي… بتناسقٍ وتناغمٍ مع وحدة اللغة مما يدل على أن الكاتب واحد.

من العلامات المميزة لإنجيل يوحنا لغته، فبينما يتكرر تعبير “ملكوت اللَّه” و”ملكوت السماوات” في الأناجيل الإزائية، لا نجده في هذا السفر إلا مرتين. وعلى العكس يتكرر هنا تعبير “أنا هو…” بينما لا نجده في الأناجيل الإزائية[57].

إنجيل يوحنا والعهد القديم

يعتبر إنجيل يوحنا أقل الأناجيل اقتباسًا من عبارات العهد القديم بطريقة مباشرة، ففي النص اليوناني: “Nestle Greek Text” نجد فقط 14 عبارة مقتبسة، وفي نص “Westcott-Hort” نجد إشارة إلى 27 عبارة في إنجيل يوحنا مقتبسة عن العهد القديم، يقابلها 70 في مرقس، 109 في لوقا، 124 في متى. مع هذا يرى كثير من الباحثين الارتباط الشديد بين إنجيل يوحنا والعهد القديم، إذ قدم لنا السيد المسيح بكونه المسيا، العبد المتألم، ملك إسرائيل، النبي، الأمر الذي يُطابق الصورة التي قدمها لنا العهد القديم[58].

يقول Donald Guthrie[59] إن التركيز الشديد الذي وُجه نحو مدى أثر الهيلينية على إنجيل يوحنا جعل دراسة أفكار العهد القديم في هذا السفر لم تستوفِ حقها. ففي الحقيقة قدم لنا الإنجيل شخص يسوع المسيح كجزءٍ من التاريخ اليهودي. وحينما رفضه اليهود، إنما رفضوا شخصًا ينتمي إليهم: “إلى خاصته جاء، وخاصته لم تقبله” (11:1). جاء إلى الهيكل، ومارس سلطانه الذي من حقه، إذ “صنع سوطًا من حبال وطرد الجميع من الهيكل؛ الغنم والبقر…” (15:2) الخ. لقد أدرك نيقوديموس وهو رئيس لليهود حق السيد كمعلم (1:3، 2)، وقد حسب السيد نفسه من بين اليهود الذين لديهم سرّ الخلاص، قائلاً للسامرية: “أما نحن، فنسجد لما نعلم، لأن الخلاص من اليهود” (22:4).

يرى بعض الدارسين أن أسفار العهد القديم، خاصة سفريّ التكوين والخروج وراء هذا السفر، خلال العبور من الحرف إلى الروح، ومن الظل والرمز إلى الحق:

  1. يفتتح سفر التكوين بالحديث عن اللَّه كخالق، أوجد العالم كله من أجل محبته للإنسان، ويفتتح إنجيل يوحنا بالحديث عن كلمة اللَّه (اللوغوس) الذي به كان كل شيء. هو الخالق ومُجدد الخليقة، ينير كل إنسانٍ ببهائه.
  2. أبرز إنجيل يوحنا الصراع بين السيد المسيح وإبليس الذي كان قتَّالاً للناس منذ البدء (تك 3، يو 44:8)؛ أعطانا الغلبة عليه، قائلاً: “الآن يُطرح رئيس هذا العالم خارجًا” (31:12)، فقد جاء من هو من نسل المرأة ليسحق رأس الحية (تك 15:3).
  3. في سفر الخروج كان تابوت العهد يمثل مقدسًا ليسكن اللَّه في وسطهم، وجاء إنجيل يوحنا يُعلن مجد ابن اللَّه المتجسد الحال في وسطنا (14:1).
  4. الحيَّة النحاسية الشافية (عد4:21-9) رمز للسيد المسيح مخلصنا (يو 14:3).
  5. المن السماوي (خر 16) رمز لجسده المبذول (يو 25:6-58).
  6. الصخرة واهبة الماء (خر1:17-7) رمز للسيد المسيح القائل: “إن عطش أحد فليقبل إليّ ويشرب” (37:7).
  7. عمود النار الذي كان يضيء لهم (خر21:13-22) يشير إلى القائل: “أنا هو نور العالم” (12:8؛ راجع 35:12).
  8. في سفر الخروج أعلن اللَّه ذاته لموسى قائلاً: “أنا هو“، أو “أهيه الذي أهيه” (14:3)، وجاء السيد المسيح في إنجيل يوحنا يؤكد” “أنا هو” أكثر من مرة.
  9. احتل الفصح مركز الصدارة في سفر الخروج (ص 12)، خلاله عبر شعب إسرائيل من مصر حيث العبودية لينطلقوا نحو أرض الموعد. وقد جاء إنجيل يوحنا يكشف لنا عن العبور الحقيقي. إنه عبور من هذا العالم إلى الآب (1:13، 28:16).

ذكر الإنجيلي أعياد الفصح الثلاثة التي أقيمت أثناء خدمة السيد المسيح، وبدون ذكرها هنا لما استطعنا معرفة مدة إقامته على الأرض نحو ثلاث سنوات ونصف بعد الثلاثين السابقة لعماده.

  1. أعطى مفاهيم جديدة للعهد القديم، فإذ كان اليهود يعتزّون بأنهم أبناء إبراهيم صاحب العهد، وحافظو الشريعة خاصة يوم السبت. أوضح لهم أنه هو الابن الوحيد الجنس واهب البنوة الحقيقية، وأنه هو رب السبت؛ أما هم فليسوا أبناء إبراهيم بل أبناء إبليس بسبب جحودهم ورغبتهم في قتله، وأنهم ليسوا حافظي السبت بل موسى نفسه يشكوهم (45:5).
  2. حث السيد المسيح اليهود على قراءة العهد القديم، ليُدركوا أنها تشهد له، إذ يقول: “فتشوا الكتب لأنكم تظنون أن لكم فيها حياة أبدية، وهي تشهد لي، ولا تريدون أن تأتوا إلىّ لتكون لكم حياة” (39:5، 40). لقد أكد لهم أن من يُصدق موسى يُصدقه هو، لأن موسى كتب عنه (46:5)، وهو بهذا يعني بوضوح الاستمرارية بين العهدين.
  3. في وضوح أظهر هذا الإنجيل أن ما تحقق بالسيد المسيح من أحداث تمس خلاصنا سبق فأنبأ عنها أنبياء العهد القديم، مثل:

يقول Guthrie: [إن استخدام ربنا للعهد القديم وتعليقات الإنجيل تفترض أن الكتاب المقدس كله يشير إلى المسيح، فهو متمم للقديم؛ الحقيقة التي نسترشد بها في تفسيرنا مفاهيم الإنجيل[60].]

إنجيل يوحنا والغنوسية[61]

مجرد نظرة سريعة على إنجيل يوحنا تكشف لنا عن سمة مختلفة تمامًا عن بقية الأناجيل. وإن كان قد قدم حياة السيد المسيح في فلسطين، وأوضح أن فيه قد تحققت نبوات العهد القديم، لكن إلى وقت قريب كان النقاد المحدثون يحسبون أن شخصية السيد المسيح كما عرضها هذا الإنجيل أقرب إلى الجو الهيليني الغنوسي منه إلى مسيح الأناجيل الأخرى. وإن كانت هذه النظرة قد تغيرت تمامًا لدى كثير من الدارسين كما سنرى.

ظن بعض النقاد أن الغنوسية التي تشدد على المعرفة الباطنية كطريق للخلاص لها تأثيرها على كاتب السفر. غير أن الغنوسية ظهرت في القرن الثاني الميلادي، بينما سُجل السفر في نهاية القرن الأول. قد يعترض البعض بأن جذور الغنوسية بدأت في الوثنية واليهودية مبكرًا جدًا، وقبلها بعض المسيحيين بطريق أو آخر منذ القرن الأول.

على أي الأحوال جاء الإنجيل يحارب الأفكار الغنوسية التي تنكر حقيقة بشرية المسيح وآلامه. ففي يو34:19 طعنه أحد الجنود بحربة في جنبه فخرج للحال دم وماء. أية واقعية لبشريته مثل هذه الواقعة؟ كما قال أيضًا: “الكلمة صار جسدًا” (يو14:1). وفي رسالتيه الأولى (2:4-3) والثانية (ع7) أن من لا يعترفون بيسوع الذي جاء في الجسد فهم مضلّون وليسوا من اللَّه.

يدعي بعض الدارسين أننا لا نجد في هذا السفر مسيح الأناجيل الأخرى حيث الأمثال والتعاليم السلوكية البسيطة، إنما نجد رموزًا وتعاريف معينة: مثل أنا هو الخبز، أنا هو النور، الباب، الراعي، الحق، الحياة، الطريق، الكرمة، كما نجد أسماء مثل “اللوغوس”، “الحق”، “المعرفة”. مع استخدام الثنائية مثل: النور والظلمة، الحق والباطل، الروح والجسد… هذا كله دفع الدارسين للقول بأن السيد المسيح في هذا الإنجيل كأنما يسير في العالم الهيليني في القرن الثاني، أو أن الكاتب يحمل فكرًا غنوسيُا.

حقًا إن يسوع بحسب إنجيل يوحنا يُقدم نفسه بالعبارة الخشوعية القدسية المتكررة: “أنا هو“. جاء إلى عالم ظلمة يكره النور، ودخل عالم الباطل بكونه الحق، وعالم الكراهية والبغضة بكونه الحب؛ بحضرته ميّز البشرية إلى فريقين: فريق يقبل النور وآخر يهرب من النور، الأول يؤمن بالحق والآخر يرفضه. لكن هذا الفكر يختلف عن الثنائية الغنوسية، إذ لم يُقدم إنجيل يوحنا فكرًا خاصًا بأصل النور وأصل الظلمة، وهذا ما كان يشغل بال الغنوسيين.

كان يمكن لهذه الدراسات أن تبقى عقبة تشكك بعض البسطاء في قانونية هذا السفر، ونسبه للقديس يوحنا الإنجيلي، لكن اللَّه أراد أن يحوّل هذه الدراسات إلى تثبيت المؤمنين بالأكثر خلال اكتشافين هامين في حوالي سنة 1947.

أولاً: ظهور مخطوطات البحر الميت، والتي تُسمى مخطوطات قمران التي قدمت للعالم مكتبة عن الجماعة الأسينية كشفت عن حقبة زمنية من حوالي سنة 140ق.م إلى 68م. هذه المستندات أظهرت أن الأفكار والتعبيرات التي وردت في إنجيل يوحنا هي فلسطينية ترجع إلى القرن الأول الميلادي.

ثانيًا: اكتشاف مكتبة كاملة غنوسية في منطقة نجع حمّادي بصعيد مصر، قدم للعالم الغنوسية من مصادرها الرئيسية لأول مرة، بعد أن كنا نتعرف عليها خلال كتابات الآباء المقاومين لها، ونسمع عن أسماء كتبها دون وجود نصوصها كاملة. هذا الاكتشاف عرّفنا الفارق الشاسع بين عالم الغنوسية وإنجيل يوحنا، والتمييز القاطع بينهما، إذ لم يعد هناك بعد أي شك بأن الإنجيل اعتمد على مصادر غنوسية، بل ظهر أن ما جاء في السفر من كلمات غنوسية هي يهودية فلسطينية بحتة اُستخدمت في القرن الأول.

قام بعض الدارسين مثل Quispel وBarret وBraun بدراسات مقارنة بين إنجيل يوحنا والمخطوطات الغنوسية التي وُجدت في نجع حمّادي مثل “إنجيل الحق” (يرجع لسنة 140م)، “إنجيل توما”، من جهة الأفكار والتعبيرات، فخرجوا بالنتائج التالية:

  1. أنه يستحيل وضع إنجيل يوحنا وسط الأعمال الغنوسية التي وُجدت بنجع حمّادي، لكن يمكن القول بأن الأعمال الغنوسية استخدمت إنجيل يوحنا في القرن الثاني وقدمت أفكارًا غير ما وردت بالإنجيل.
  2. هناك تمايز قوي بين الإنجيل وهذه الأعمال من جهة الأفكار ومن جهة التعبيرات.
  3. توجد بعض تعبيرات مشتركة بين الإنجيل وهذه الأعمال، لكن الإنجيل قدمها بمفهومٍ معين والأعمال الغنوسية قدمتها بمفاهيم أخرى وباستعمالات مختلفة تمامًا.

هذا بالنسبة للعلاقة بين إنجيل يوحنا وبين الأعمال الغنوسية المسيحية (الهرطوقية). لكن ربما نتساءل: هل يمكن أن يكون هذا الإنجيل قد فتح الباب للغنوسية؟ أو أعدّ الطريق لها؟

إنجيل يوحنا والهيلينيّة

أُتهم القديس يوحنا – أو كاتب السفر – أنه قام بتقديم مسحة هيلينية للمسيحية حتى يمكن للعقل الهيليني أن يتقبلها، مقدمين في ذلك دليلاً وهو استخدامه لتعبير “الكلمة” أو “اللوغوس” نقلاً عن الفلسفة اليونانية.

يُرد على ذلك بأن القديس يوحنا لم يستخدم هذا التعبير كما جاء في الفلسفات اليونانية أو في الغنوسية أو كما جاء عند فيلون (مفكر يهودي إسكندري قدم الفكر اليهودي بطريقة هيلينية رمزية)، وإنما حمل مفهومًا كتابيًا، على ضوء ما جاء في العهد القديم عن “الحكمة” التي خرجت إلى البشرية لتقيمهم مسكنًا إلهيًا، كما يقول سفر الأمثال:

“الحكمة تنادي في الخارج، في الشوارع تُعطي صوتها”؛

“الحكمة بنت بيتها، نحتت أعمدتها السبعة” (1:9).

اللوغوس” في الفكر الهيليني يمثل العقل المدبّر الكامن في الكون، وهو أول الخليقة، أما القديس يوحنا فيحدثنا عن “اللوغوس” بكونه نطق اللَّه الذاتي، فهو الابن الوحيد، من ذات الآب وفي ذاته، وليس خارجًا عنه، بل هو واحد معه في الجوهر. لا نجد في الفكر الهيليني كلمة اللَّه متجسدًا يحلّ بين البشر الذي يعلن لهم أسراره الإلهية، هذا تمايز بين “الكلمة” في الفكر الهيليني و”الكلمة” في الإنجيل.

إذا دققنا في “اللوغوس” كما أعلنه القديس يوحنا في إنجيله نجده مرادفًا للحكمة كما جاء في العهد القديم:

ا. أزلي (أم 22:8؛ ابن سيراخ 9:24؛ حك 5:9) [راجع يو1:1].

ب. قائم في السموات، ينزل إلى الأرض، ليسكن وسط إسرائيل (أم 31:8؛ باروخ 37:3؛ ابن سيراخ8:14 ) [يو 14:1؛ 41:3؛ 38:6؛ 28:16].

ج. فيض مجد القدير (حك 25:7) [يو 14:1؛ 15:8؛ 4:11؛ 5:17].

د. يعلم الناس الإلهيات (حك 16:9)، وما يُرضي اللَّه (حك 4:8)، ويقودهم إلى الحياة (أم 25:8، ابن سيراخ 12:4) [يو 19:3؛ 40:7؛ 19:14].

ه. ينطق بصيغة المتكلم “أنا” (أم 8، ابن سيراخ 24).

ز. ينادي الإنسان ويخرج إليه (أم 1:8 ، حك 16:6) [يو 14:5؛ 35:9]. ويدعو تلاميذه “أبنائي” (أم 32:8؛ ابن سيراخ 18:6) [يو 33:13].

إنجيل يوحنا والسيد المسيح

للأسف انهمك كثير من النُقاد المحدثين في الكشف عن مدى ارتباط هذا السفر بالفكر الهيليني واللغة والثقافة الهيلينية، حتى ظن البعض أن الكاتب لا يمكن أن يكون يهوديًا. غير أن دراسة هذا السفر في علاقته بالسيد المسيح تكشف عن الإنجيلي وقد انشغل بالكشف عن شخص ربنا يسوع المسيح:

أولاً: بكونه ملك اليهود، الملك الروحي، المسيَّأ الذي ترقبه الأنبياء وانشغل به العهد القديم.

“يا معلم أنت ابن اللَّه، أنت ملك إسرائيل” (49:1)؛

“مبارك الآتي باسم الرب ملك إسرائيل” (13:12)؛

“قال له: أنت ملك اليهود… أفأنت ملك؟ فأجـاب يسوع: أنت تقول إني ملك” (33:18-37)؛

“كل من يجعل نفسه ملكًا يُقاوم قيصر” (12:19)؛

“أأصلب ملككم؟!” (15:19)؛

“كان مكتوبًا: يسوع الناصري ملك اليهود” (19:19).

ثانيًا: جاء السفر يؤكد أن يسوع هو المسيّا 21 مرة، بينما في إنجيل متى 19 مرة؛ فما نطق به السيد وما فعله إنما يحقق الرجاء المسياني لشعب اللَّه[62]:

ثالثًا: اتسم هذا السِفر بدعوة السيد المسيح نفسه: “أنا هو“، أو تقديم ذاته للبشرية. فإن “أنا هو” في العهد القديم تُشير إلى اللَّه الواحد العامل المخلص (خر 14:3؛ 2:10؛ إش 8:42؛ 10:43-11؛ حز 7:6) لذا جاءت كلمات السيد المتكررة في هذا السفر “أنا هو” تُعلن شخصه الإلهي كمصدر الخلاص:

“أنا هو خبز الحياة” (35:6)؛

“أنا هو نور العالم” (12:8؛ 5:9)؛

“أنا هو الشاهد لنفسي” (18:8)؛

“أنا باب الخراف” (7:10)؛

“أنا هو الراعي الصالح” (11:10، 14)؛

“أنا الكرمة الحقيقية” (1:15، 5)؛

“إني ملك” (37:18).

رابعًا: الخط الواضح في هذا الإنجيل منذ بدايته حتى نهايته هو تقديم السيد المسيح بكونه الملكوت بعينه، فلم يأتِ بذكر الملكوت إلا مرتين (3:3-5؛ 36:18) لكنه يُعلن عنه خلال تمتعنا بالمسيح نفسه ملكوتنا الأبدي.

“كل من يرى الابن ويؤمن به تكون له حياة أبدية” (40:6)؛

“ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي” (6:14)؛

“الذي رآني فقد رأى الآب” (9:14 الخ.)

هذا الخط الواضح في كل السفر قدمته الأناجيل الأخرى كنتيجة نهائية ظهرت في أواخر أيام السيد المسيح على الأرض.

خامسًا: لم يُقدم السيد المسيح كمشرّع لوصايا أو طقوس قدر ما قدم شخصه كسرّ حياة. السيد المسيح هو “الحياة” (6:14؛ 4:1)؛ يُعلن لقطيعه سرّ مجيئه: “أما أنا فقد أتيت لتكون لهم حياة، وليكون لهم أفضل” (10:10)، “إني أنا حيّ، فأنتم ستحيون” (19:14). وقد أكّد لمرثا: “أنا هو القيامة والحياة” (25:11)، جاء ليغرسنا فيه كأغصان في الكرمة، فنحمل حياته فينا (1:15-8).

يتحقق تمتعنا بالسيد المسيح “الحياة” خلال التغيير الكامل لطبيعتنا في سرّ المعمودية (3:3-8)، واتحادنا معه وثبوتنا فيه في سرّ الأفخارستيا (52:6-58)، ونوالنا المغفرة المستمرة في سرّ التوبة (23:20). هذه جميعها تحققت بقوة الصليب واستحقاقات الدم.

سادسًا: مع كل اصحاح يقدم لنا القديس يوحنا شخص يسوع المسيح من زاوية معينة تمس خلاصنا وتشبع كل احتياجاتنا.

القديس أغسطينوس

 

من هو يسوع؟

يو 1: الكلمة الإلهي المتجسد، واهب سلطان البنوة لله.

يو2: ابن الإنسان صاحب السلطان الإلهي، مفرح النفوس ومجددها.

يو3: المعلم الإلهي القدير، واهب الميلاد الجديد.

يو4: رابح النفوس العجيب.

يو5: الطبيب العظيم.

يو6: خبز الحياة.

يو7: ماء الحياة.

يو8: نور العالم.

يو9: واهب الاستنارة.

يو10: الراعي الصالح.

يو11: واهب الحياة والقيامة.

يو12: ملك إسرائيل.

يو13: غاسل الأرجل.

يو14: المعزي السماوي.

يو15: الكرمة الحقيقية.

يو16: مُرسل الروح القدس.

يو17: رئيس الكهنة العظيم.

يو18: المسيا المتألم.

يو19: الملك المرفوض.

يو20: غالب الموت.

يو 21: مقيم النفوس الساقطة ورافعها إلى السماء.

لقد حلق فيما وراء الجسد، وراء الأرض التي وطأ عليها، وراء البحار التي تطلع إليها، وراء الهواء الذي تطير فيه الطيور، وراء الشمس والقمر والكواكب، وراء كل الأرواح غير المنظورة، وراء ذهنه، وذلك بذات نفسه العاقلة، بسموه فوق كل هذه سكب نفسه عاليًا أينما وجد[64].

القديس أغسطينوس

إنجيل يوحنا والآب

إن كان السيد المسيح هو مركز هذا السفر، فقد أكّد الإنجيلي أنه هو كلمة اللَّه الأزلي. جاء إلينا يُعلن لنا عن ذاته ليُمارس العمل المسياني لحسابنا، مقدمًا لنا الخلاص (47:20)، واهبًا إيّانا الحياة (10:10)، بكونه من فوق وفوق الكل (3:3). لكن الإنجيلي أكّد دور الآب حتى لا نسقط فيما سقط فيه الغنوسيون، فالابن الواحد مع أبيه بكونه كلمته وابنه في نفس الوقت قد أرسله الآب (36:5؛ 57:6؛ 42:11؛ 21:20). جاء يُعلن كلماته (34:3؛ 29:6؛ 3:17)، ويمارس أعماله (36:10). من يراه يرى الآب، ومن يؤمن به ينظر الآب (23:5 الخ؛ 44:12 الخ، 9:14).

إن كان هذا السفر هو إنجيل المسيّا كلمة اللَّه المخلص، فهو واحد مع أبيه يتمم إرادة الآب التي هي واحدة مع إرادته. هذا ما سنلاحظه بأكثر توسع خلال دراستنا للسفر.

القديس جيروم

إنجيل يوحنا والروح القدس

يسمى البعض هذا السفر: “إنجيل الروح القدس“، فقد جاء الحديث عن الروح القدس خلال السفر واضحًا وبقوة.

في حوار السيد المسيح مع نيقوديموس تحدث السيد عن دور الروح القدس في الولادة الجديدة (ص 3). لقد أوضح الرب الفارق بين الولادة الطبيعية (الجسدية) والولادة الروحية، وكان يصعب حتى على هذا المعلم اليهودي نيقوديموس أن يتفهم عمل الروح القدس، فقدم له السيد مثلاً ملموسًا مشبهًا الروح بالريح التي “تهب حيث تشاء وتسمع صوتها لكنك لا تعلم من أين تأتي ولا إلى أين تذهب، هكذا كل من وُلد من الروح” (8:3).

حديث السيد هنا عن الميلاد بالروح القدس يعتبر أحد معالم إنجيل يوحنا الرئيسية. وقد جاء منسجمًا مع السفر ككل، فإننا لن ندرك لاهوت السيد المسيح بدون الروح القدس، ولا أن نمارس العبادة للَّه بالروح والحق (24:4) من عندياتنا، وإنما بروح الرب الساكن فينا.

لقد رأى السيد المسيح الجماهير تمارس العيد بطقوسه دون الشبع الروحي الداخلي، لذا وقف في اليوم الأخير من العيد يَعد بتقديم روحه القدوس كمياه حيّة تنفجر في داخل المؤمنين (37:7-39).

وفي حديثه الوداعي (ص14-17) لم يجد السيد المسيح ما يقدمه لتعزية تلاميذه قبيل تسليمه سوى الوعد بالروح القدس، بكونه الباراقليط المعزي الذي سلمه السيد المسيح لكنيسته، ليعمل فيها ويُشكّلها على الدوام، فتصير على مثال عريسها:

 

إنجيل يوحنا والكنيسة

يرى كثير من الدارسين أن الأناجيل المقدسة السابقة قُدمت للعالم، سواء اليهودي أو الروماني أو اليوناني، ليتعرف على السيد المسيح بكونه الملك الروحي والخادم الحقيقي والصديق الفريد لكل البشر، فيتقبل الكل الإيمان به، وينعمون بعمله الخلاصي، فيرتفعون من العبودية إلى البنوة للَّه. أما إنجيل يوحنا فكُتب في النهاية للكنيسة، لذا دُعي “إنجيل الكنيسة“، يقدم لنا “مسيح الكنيسة“، بالرغم من عدم استخدامه لتعبير “الكنيسة”.

كأن الفكرة اللاهوتية الرئيسية هنا هي الربط بين السيد المسيح التاريخي كما ظهر في حياته على الأرض، وبين مسيح الكنيسة الحال فيها ليعمل فيها. بمعنى آخر، إن كان السيد المسيح “كلمة اللَّه المتجسد” هو مركز الإنجيل، فإن كنيسته بكرازتها وعبادتها خاصة الأسرار الكنسية تحتل مركزًا رئيسيًا فيه، إذ يحدثنا عن:

  1. إرساليتها (يو31:4 الخ؛ 20:12 الخ).
  2. عبادتها “بالروح والحق“، حيث أُنتزع المجد عن هيكل أورشليم ليُعلن خلال كنيسة المسيح المصلوب القائم من الأموات (14:1، 51؛ 13:2 الخ؛ 19:4 الخ).
  3. من جهة أسرار الكنيسة، نجد القديس يوحنا يعطي أهمية خاصة بالحديث عن الأسرار الكنسية مثل المعمودية والأفخارستيا والكهنوت:
  1. 4. في الأناجيل السابقة تُقسَّم البشرية إلى صالحين وأشرار، أما هنا فيكتب عن “مسيح الكنيسة“، مميزًا بين مؤمنين وغير مؤمنين. بالإيمان لا نُدان (18:3)، بل ننال الحياة الأبدية (36:3)، وننتقل من الموت إلى الحيـاة، لكنه ليس الإيمان النظري المجرد (34:13، 35)، بل الإيمان الحي المرتبط بالحب وحفظ وصايا الرب (14:21-24).
  2. الوعد بالروح القدس في حديث السيد المسيح الوداعي، بكونه معزي الكنيسة وشفيعها والقائد لها (ص14-17).
  3. قدم المسيح نفسه تكرارًا “أنا هو“، بكونه موضوع حياة ومجد ورجاء في الحياة العتيدة، كما في حياة كنيسته الحاضرة.

إنجيل يوحنا وجامعية الكنيسة

إذ كُتب هذا السفر للكنيسة في العالم كله، حمل فكر “الكنيسة الجامعة“، ولم يحدّها بجماعة اليهود. يظهر هذا الفكر واضحًا خلال السفر كله، إذ نجد على سبيل المثال:

  1. يقدم المسيح بكونه:

“حمل اللَّه الذي يرفع خطية العالم” (29:1).

“كان النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان آتيًا إلى العالم” (9:1).

“وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد اللَّه، أي المؤمنون باسمه” (12:1).

“هكذا أحب اللَّه العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية” (16:3).

“وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إليّ الجميع” (32:12).

“أن يسوع مزمع أن يموت عن الأمة، وليس عن الأمة فقط، بل ليجمع أبناء اللَّه المتفرقين إلى واحد” (51:11، 52).

“لأن هذه هي مشيئة الذي أرسلني: أن كل من يرى الابن ويؤمن به تكون له حياة أبدية، وأنا أقيمه في اليوم الأخير” (40:6).

“لي خراف أخر ليست من هذه الحظيرة، ينبغي أن آتي بتلك أيضًا، فتسمع صوتي، وتكون رعيّة واحدة وراعٍ واحدٍ” (16:10).

“لست أسأل من أجل هؤلاء فقط، بل أيضًا من أجل الذين يؤمنون بي بكلامهم، ليكون الجميع واحدًا” (20:17، 21).

“طوبى للذين آمنوا ولم يروا” (19:20).

  1. ظهرت جامعية الكنيسة من رفض اليهودية، وطن المسيح، لمخلصها، ورغبتها في قتله (3:4، 44، 1:7-8؛ 7:11-16). لقد صارت أورشليم عاصمة إسرائيل ومدينة المسيّا (12:12-19)، مدينة عدم سلام (19:1 الخ، 23:5). الرب يرفض هيكلها (59:8)، وينطلق من أسوارها إلى الجلجثة (17:19).
  2. عوض “هيكل أورشليم” بيت أبيه (16:2) المجيد (14:12)، والذي يأتي منه الخلاص (22:4)، يعلن مجد هيكل جسده (23:2 الخ) المقدم سرّ قيامة لكل البشرية.
  3. تحول المدينة الهرطوقية “السامرة” إلى موضع للعبادة بالروح والحق (4: 23 الخ).
  4. الحقول المبيضة للحصاد تشير إلى الحصاد المقبل، رمز العالم غير اليهودي.
  5. إذ يكتب الإنجيلي للكل حتى غير اليهود يقدم تفسيرًا للكلمات: Rabbi 38:1، مسيا (41:1)، قيافا (42:1). كما يوضح طرق اليهود في التطهير (6:2)، وفي الدفن (40:9)، وعلاقتهم بالسامريين (9:4)، والفصح كعيدٍ يهودي (4:6). نجده أيضًا يقدم شرحًا جغرافيًا لبيت حسدا (2:5) وبلاط بيلاطس بنطس الذي يدعى بالعبرانية جباثا (13:19)… هذا كله يكشف أنه يكتب للناطقين باليونانية في أفسس سواء كانوا من أصل يهودي أو أممي، مؤمنًا بالكنيسة الجامعة التي لا تحد بالشعب اليهودي.

إنجيل يوحنا والحياة الإنقضائية (الأخروية)

بينما توجه الأناجيل الإزائية إلى ملكوت الله الذي يتحقق بالأكثر في الأيام الأخيرة حيث مجيء المسيح الثاني القريب، إذا بالإنجيلي يوحنا يؤكد أن المؤمن يدخل إلى الحياة الأبدية خلال حياته اليومية.

لم يصف لنا هذا الإنجيل انقضاء الدهر ونهاية العالم، أو مجيء السيد المسيح الأخير للدينونة، لكنه كشف عن الحياة الإنقضائية خلال العمل الخلاصي الذي نتمتع به بالصليب، فنتذوق الحياة الأبدية خلال عربونها هنا، ونختبر أمجادها كحياة تمارس هنا:

أ – أن رئيس هذا العالم قد دين (18:3، 19).

ب- أن رئيس هذا العالم يطرح خارجًا (31:12؛ 33:16).

من يتذوق “إنجيل يوحنا” يجد نفسه قد ارتفع إلى الحياة الإنقضائية فعلاً – خلال عربونها – فيشاهد في أعماقه المسيح الممجد، ويختبر الغلبة الحقيقية على الموت كما على محبة هذا العالم، وعلى عدو الخير إبليس الذي تسلط على العالم زمانًا، والآن قُيّد وطرح خارجًا، ليس له موضع في داخلنا. صليب ربنا يسوع المسيح دخل بنا إلى هذه الخبرة السماوية الحية.

القديس يوحنا الذهبي الفم

ظنC.H. Dodd [67] أن يوحنا أراد تصحيح مفهوم النظرة الكنسية الاسخاتولوجية (الإنقضائية)، فقدم “إسخاتولوجي محقق realized eschatology “، بمعنى أن الاسخاتولوجي هو حقيقة حاضرة أكثر منه مجرد رجاء مستقبلي. لكن الدارسين رفضوا هذا كغاية رئيسية للإنجيل، خاصة وأن السفر مع تقديمه للحياة الأخروية كحياة تُختبر في الحاضر خلال عربونها لم يتجاهل الحياة الأبدية الأخروية المستقبلية (25:5-29)، إنما يسير الاتجاهان جنبًا إلى جنب[68].

إنجيل يوحنا والآيات

نجد في الأناجيل السابقة فيضًا من الآيات التي صنعها السيد المسيح، خلالها يعلن حنانه الإلهي ومحبته الفائقة للبشر، والرسول هنا بالرغم من معرفته لآياتٍ كثيرة صنعها رب المجد لكنه انتقى منها سبع آيات (والبعض يعتبرها ثمان آيات) ليعرضها في إنجيله، فنتقبل الإيمان بالسيد المسيح. إذ يقول: “وآيات أخر كثيرة صنع يسوع قدام تلاميذه لم تكتب في هذا الكتاب، وأما هذه فقد كُتبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن اللَّه، ولكي تكون لكم إذا آمنتم حياه باسمه” (30:20، 31). “وأشياء أُخر كثيرة صنعها يسوع إن كُتبت واحدة واحدة، فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة” (25:21).

واضح إذن أن السيد قدم آيات ليدخل بنا إلى الإيمان، فننعم بالحياة الأبدية، الأمر الذي لمسه نيقوديموس، فقال: “ليس أحد يقدر أن يعمل هذه الآيات التي أنت تعمل إن لم يكن اللَّه معه” (2:3). كما أكد السيد المسيح نفسه: “لا تؤمنون إن لم تروا آيات وعجائب” (48:4). فقد أشهد هذه الآيات ضد الجاحدين، قائلاً: “لو لم أكن قد عملت بينهم أعمالاً لم يعملها أحد غيري لم تكن لهم خطية” (24:15).

لقد أدرك رؤساء الكهنة والفريسيون دور هذه الآيات في حياة الناس، إذ قالوا: “ماذا نصنع، فإن هذه الإنسان يعمل آيات كثيرة، إن تركناه هكذا يؤمن الجميع به؟!” (47:11، 48).

 

المعجزة

المعنى

1- تحويل الماء خمرًا 1:2-11.

تجديد الطبيعة البشرية واتسامها بالفرح الأبدي.

2- شفاء ابن الغني 47:4-54.

الإيمان شرط الحياة الأبدية.

3- شفاء مفلوج بيت حسدا 1:5-9.

قوة الحياة الجديدة.

4- إشباع الجموع 14:6-1 (مـت 13:14-21؛ مر 32:6-44؛ لو 10:9-17).

المسيح الخبز الحي.

5- المشي على المياه 15:6-21 (مت 22:14-36، مر 45:6-56).

المسيح قائدنا في الطريق الملوكي.

6- شفاء المولود أعمى 1:9-41.

المسيح نور الحياة.

7- إقامة لعازر 1:11-44.

المسيح قيامتنا غالب الموت.

8- صيد السمك 1:21-14.

الشركة الكاملة في الحياة الجديدة.

 

قانونية السفر

قبلت الكنيسة الجامعة هذا الإنجيل سفرًا قانونيًا منذ البداية ولم يلحق ذلك أدنى شك. فقد جاءت الشهادات الكنسية، حتى من الهراطقة والوثنيين تنسب السفر للقديس يوحنا الرسول، منذ بدء القرن الثاني، أي بعد كتابته بفترة وجيزة، ولم يشذ عن ذلك سوى جماعة الألوجين “Algi” كما أشار القديس أبيفانيوس[69]، الذين رفضوا السفر لتعارضه مع عقيدتهم في اللوغوس Logos. ولا يُعرف إن كان الألوجيون هؤلاء هم جماعة أم مجرد شخص، لكن على أي الأحوال لم يكن لهم صوت مسموع في العالم أو في الكنيسة.

أولاً: شهادة الكنيسة الجامعة والهراطقة

جاء إنجيل يوحنا ضمن المخطوطات اليونانية القديمة الخاصة بالعهد الجديد كالنسختين السينائية والفاتيكانية، المنسوختين عن أقدم منهما. كما جاءت المخطوطات الخاصة بالترجمة للعهد الجديد والتي ترجع أحيانًا للقرن الثاني أو الثالث مثل السريانية واللاتينية تضم هذا السفر. أما عن شهادة آباء الكنيسة الأولي، فلا نجد بينهم صوتًا يتشكك في قانونيته أو نسبته لغير القديس يوحنا، نذكر على سبيل المثال:

ثانيًا: شهادة الوثنيين

استمد الفيلسوف الوثني صلسس، عدو المسيحية، في كتابه ضدها حوالي سنة 178م المادة التي هاجم بها من الأناجيل الأربعة، ويذكر تفاصيل لم ترد إلا في إنجيل يوحنا.

اعتراضات على نسبته للقديس يوحنا

ناقش كثير من النقاد والدارسين موضوع نسبة هذا السفر للقديس يوحنا بن زبدي، وقدموا نظريات كثيرة ومعقدة، إذ حاول البعض نسبة هذا السفر للكنيسة الرسولية ككل وليس لشخصٍ معينٍ، وافترض البعض أن السفر بصورته هذه من وضع كاتب في القرن الثاني كما لاحظنا في تعليقنا على مدى ارتباط السفر بالغنوسية، وحاول البعض تأكيد أن الكاتب ليس يهوديًا. وقد قدم لنا E. Haenchen ملخصًا للمشاكل النقدية الخاصة بهذا الأمر منذ عام 1929 حتى الخمسينات[71].

فيما يلي موجز للرد على المعترضين على نسبة هذا السفر للقديس يوحنا:

تلميحات في السفر عن شخصية كاتبه

إن كان الإنجيلي لم يذكر اسمه في السفر، لكنه قدم تلميحات عن شخصيته منها يمكن التعرف عليه، ألا وهى:

أ- انه شاهد عيان

في مقدمة السفر يقول الإنجيلي: “رأينا مجده” (14:1). حاول البعض تفسير صيغة الجمع “رأينا” بمعنى أنه يقصد المسيحيين جميعًا، وليس الكاتب، فتكون الرؤيا هنا بالمعنى الروحي لا المادي، بهذا يكون كاتب السفر هو “الكنيسة الرسولية” وليس شاهد عيان[72]. هذا الفكر لم يقبله كثير من الدارسين، خاصة وأن الفعل اليوناني يعني الرؤيا الجسدية لا الروحية، حتى وإن فسرت بالرؤيا الروحية[73]. في أكثر من موضع يؤكد أنه شاهد عيان يكتب ما هو حق:

“الذي عاين شهد وشهادته حق، وهو يعلم أنه يقول الحق لتؤمنوا أنتم” (19: 35).

“هذا هو التلميذ الذي يشهد بهذا وكتب هذا، ونعلم أن شهادته حق” (21:24).

واضح أن كاتب السفر “تلميذ“، “شاهد عيان“، هذا ينطبق على القديس يوحنا، الذي حمل ذات اللهجة في مقدمة رسالته الأولى: “الذي كان من البدء، الذي سمعناه، الذي رأيناه بعيوننا، الذي شاهدناه، ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة، فإن الحياة أُظهرت، وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية…” (1 يو 1).

ب. التلميذ المحبوب

من الشهادات الداخلية في السفر أن الكاتب هو القديس يوحنا تلقيب نفسه في تواضعٍ، بعدم ذكر اسمه: “التلميذ الذي كان يسوع يحبه” (20:21، 26:19). حاول البعض النقاد المحدثين التشكيك في هذا الأمر، وقد اختلفوا في تحديد شخصية هذا التلميذ، إذ قيل:

هذا عن الاعتراضات أما الدلائل الإيجابية على أن التلميذ الذي كان يسوع يحبه هو القديس يوحنا فهي:

ج- الخلفية الفلسطينية

يتساءل البعض، إن كان الكاتب يوحنا بن زبدي، فهل يحمل السفر دلائل على أن الكاتب يهودي عاش في فلسطين، وكان شاهد عيان للسيد المسيح، أم أنه أحد رجال القرن الثاني من أنطاكية أو الإسكندرية؟

جاءت إجابة الدارسين أن السفر يحمل دلائل كثيرة وشهادات على أن كاتبه عاش في فلسطين في القرن الأول، وأنه يهودي، منها:

كثيرًا ما يقدم لنا تفاصيل دقيقة عن الحياة اليهودية وتقاليدها في فترة ما قبل خراب أورشليم، مثل:

يعرف بوجه الدقة السنوات التي تم فيها بناء الهيكل (20:2)، والعداوة التي كانت قائمة بين اليهود والسامريين (9:4)، وأن رئيس الكهنة عن نفس السنة التي صُلب فيها السيد (49:11،13:18 الخ) هو قيافا وحماه هو حنَّان.

للكاتب معرفة دقيقة بفلسطين، فيعرف الاسم العبراني لبركة بجوار باب الضأن، ويعرف أن لها خمسة أروقة. يعرف وجود قريتين باسم “بيت عنيا” (12: 1؛ 28: 1)، و”عين نون” بقرب ساليم (23:3)، وأن بحر الجليل هو بحيرة طبرية (4: 21)، ومدينة أفرايم بالقرب من البرية (54:11).

وإن كان قد كتب إنجيله باليونانية لكنه حمل طابع اللغة العبرية. إذ لا يقدر الكاتب أن يتخلص من لغته الأصلية. يظهر ذلك في الألفاظ التي استخدمها والعبارات نفسها، واهتمامه بالأرقام.

أيضًا سجل تفاصيل دقيقة للأحداث لا يكتبها إلا من كان شاهد عيان، كذكر عدد الأجران أنها ستة (6:2)، وانطلاق التلاميذ بعيدًا عن البر نحو مائتي ذراع (21: 8)، وكان عدد السمك مئة وثلاثًا وخمسين (11:21). وأيضًا ذكره أن الخبز كان من الشعير (9:6)، وأن الرائحة ملأت البيت (3:12)، وتأثر الجند عند القبض على السيد (6:18)، ووزن الحنوط التي استخدمت في التكفين (39:19).

وصفه بدقة انفعالات التلاميذ (11:2 الخ؛ 27:4؛19:6؛16:12؛22:13 الخ) وتأثر السيد المسيح (11:2،24،15:6،61،1:13)…

هذه وغيرها من تفاصيل كثيرة تؤكد أنه كان شاهد عيان لما كتبه في السفر.

الإنجيل بحسب يوحنا وصياد السمك

يعترض بعض الدارسين على نسبة هذا السفر للقديس يوحنا بالقول: هل من المعقول أن يكتب صيّاد أمي مثل هذا الإنجيل، وهو من أرفع ما كتب الفلاسفة الصوفيون، بإعجاز من “السهل الممتنع” الذي لا مثيل له؟![78]

يُرد على ذلك:

أولاً: إن كان الرسول أميًا، فإننا نؤمن بأن الكتاب المقدس كله مُوحى به من الروح القدس (2 بط 21:1)، الذي وإن كان لا يفقد العنصر الإنساني لكنه يقدسه ويرفعه ويهبه إمكانيات فائقة، ويحوط به كي لا يخطئ.

ثانيًا: أن القديس يوحنا الرسول كان بالحق أهلاً لكتابة هذا “الإنجيل الروحي” الفائق، من جهة:

ثالثًا: رأينا مدى ارتباط هذا السفر بالعهد القديم، فقد أبرز أنه حمل الله الحقيقي، لا الفصح الرمزي، فيه تحققت النبوات. كما أبرز حوار السيد المسيح مع اليهود ليعلن عن نفسه انه أعظم من إبراهيم وموسى… هذا يناسب يوحنا كرجلٍ يهودي دخل إلى الأسرار الإلهية، مشتاقًا أن يتمتع كل يهودي كما كل أممي بمن هو “موضوع النبوات”.

رابعًا: رأينا أيضًا أن هذا السفر لا يحمل غنوسية هيلينية كما ادّعى كثير من الدارسين قبل اكتشاف المكتبة الغنوسية بنجع حمادي، إنما في أسلوبه يتشابه مع كتابات الجماعة الأسينية Essene أو رهبان أهل قمران اليهود كما كشفت ذلك مخطوطاتهم التي ظهرت إلى النور حوالي عام 1947. هذا يناسب شخصية القديس يوحنا الرسول الذي تتلمذ على يدي القديس يوحنا المعمدان ساكن البرية، وقد عرف الكثير عنهم بحكم الجوار. كان الأسينيون يتطلعون إلى الدين بنظرة روحية صوفية (باطنيّة mystical ) رمزية أكثر منها حسية، تدور حياتهم حول الصراع بين النور والظلمة، وبين الحق والباطل… وكأن القديس يوحنا جاء يعلن لهم أنه قد وجد من يحقق لهم شهوة قلوبهم، لا من يدخل بهم إلى معرفة النور والحق، وإنما يقدم نفسه لهم بكونه “النور الحقيقي”، و”الحق”، خلاله نستنير وننعم بالحق!

أقسامه

اتفق الدارسون على أن هذا السفر يمتاز بتقسيمه الدقيق الهادف، وإن كانوا قد اختلفوا فيما بينهم بخصوص التقسيم، نذكر على سبيل المثال التقسيم الذي رآه D. Mollat، وهو أن السفر بعد المقدمة ينقسم إلى تسعة أقسام حسب الليتورجيات الخاصة بالأعياد اليهودية الرئيسية:

أ- مقدمة السفرص 1:1-18.

ب- الأقسام التسعة

غير أن التقسيم السائد بالأكثر هو الذي رآه A. Feuillet ، C.H. Dodd، R.E. Brown، وهو عبارة عن قسمين رئيسيين مع مقدمة وخاتمة:

أ- المقدمة ص 1:1-18.

ب- كتاب الآيات ص 19:1 – ص 12.

ج- كتاب الآلام ص 13 – ص 20.

د- الخاتمة ص 21.

يرى Feuillet أن السفر في مجمله يحمل أمرين، هما إعلان السيد المسيح، واحتماله الآلام حتى الموت من أجل هذا الإعلان، بهذا يمكن تقسيم السفر هكذا:

الكتاب الأول: كتاب الآيات

وأنه خبز الحياة ص 6.

وأنه نور العالم ص 7-12.

الكتاب الثاني: كتاب الآلام

يمكننا تقديم التقسيم التالي لتسهيل الدراسة:

أولاً: مقدمة: الكلمة المتجسد ص 1:1-18.

ثانيًا: آياته وأعماله تعلن عن لاهوته ص 19:1- ص 12.

ثالثًا: إعلانه عن ذاته لخاصته ص 13- ص 17.

رابعًا: ابن الله الذبيح ص 18- ص 19.

خامسًا: قيامته تشهد للاهوته ص20.

سادسًا: خاتمة ص 21.

 

من وحي إنجيل يوحنا

هب لي أن أُحلّق مع نسورك في سمائك!

 

وأرافقك حتى الصليب.

وأتسلّم منك أمك أمًا لي.

نعم، هب لي جناحيّ الروح فأصير معه كالنسر،

أطير في سمائك، فأتمتع بشركة أمجادك.

أعيش مع ملائكتك،

فأتعرف على أسرارك الإلهية خبزًا سماويًا مشبعًا لأعماقي!

 

هذه التي لن يدركها كائن سماوي أو أرضي.

أقف لأتمتع بسرّ ولادتك الأزلية،

تشرق عليّ يا كلمة اللَّه مع أبيك وروحك القدوس،

فتمتلئ نفسي من بهاء الثالوث.

أطأ ظلمة العالم حتى قدميّ،

وأحلق في هذا البهاء العجيب!

 

وأنرت عليّ فلا أعود بعد أُحسب من هذا العالم،

بل أتمتع بالبنوة الإلهية بنعمتك،

أصير ابنًا للَّه، فلا يجد العالم له موضعًا في داخلي!

 

أراك ملكًا معلقًا على الصليب!

لست أطلبك لتملك كما طلبتك بقية الجماهير،

وإنما تُقيم عرش ملكك في أعماقي فأعتزّ به.

لن أدخل بعد في مجادلات فلسفية،

فقد عرفتك أنت المسيح الملك واهب الملوكية.

أراك ملك الملوك تهب الحياة الملوكية.

 

ارتفعت على الصليب، فصالحتنا مع أبيك.

اجتذبتنا إليك، لنحمل برَّك عِوض خطايانا.

بسطت يديك، لتضم اليهود والسامريّين والأمم معًا فيك.

بصليبك سكبت الحب فينا، يا أيها الحب الحقيقي،

صرنا أيقونة لك لن نقدر أن نفارق الحب ولا هو يفارقنا.

نلنا شركة طبيعتك، فجرى الحب في عروقنا.

لن تستطيع الكراهية أو الحقد أو الحسد أن يتسلل إلينا.

 

هب لي مع نيقوديموس أن اكتشف سرّ الميلاد الجديد.

هب لي مع السامرية أن أشرب من ينابيع روحك القدوس.

هب لي مع المولود أعمى البصيرة فأراك داخلي.

هب لي مع مريض حسدا أن أثبّ متهللاً،

أذهب إلى بيتي الحقيقي، أحضانك الإلهية.

 

لكلمتيك “أنا هو” عذوبة خاصة، فأنت يهوه الكائن فيّ!

حسب وعودك اسمعني صوتك، قائلاً:

أنا هو الخبز السماوي، من يأكلني يتمتع بالوليمة الأبدية.

أنا هو الحياة، بدوني لا وجود لك.

أنا هو نور العالم، أشرق عليك فتختبر نور الأبدية.

أنا هو الحق، أدخل بك إلى الأسرار الإلهية.

أنا هو القيامة، لن يقدر الموت أن يسبيك بعد!

أنا هو الباب، أدخل بك فيّ لتبلغ إلى أحضاني.

أنا هو الراعي الصالح، أحملك على منكبيّ بكل ضعفاتك!

أنا هو الكرمة الحقيقية، لتثبت فيّ وأثبت فيك!

 

وانطلق معك حيث تُحاكم وتُصلب،

واجلس عند القبر أترقب قيامتك.

لتُظهر ذاتك لي، وتُشرق بقيامتك في داخلي!

نعم أبقى كل أيام غربتي أتأمل كل لحظة من لحظات عملك العجيب.

تبقى هذه الأحداث موضوع تسبيحي مع كل صفوف السمائيين.

لك المجد يا أيها الحب الحق، والحق واهب الحب والحرية!

 

[1] الخوري بولس الفغالي: إنجيل يوحنا، الرابطة الكتابية، 1992، ص 14.

[2] Commentary on John, Book 1:23.

[3] On the Gospel of St. John, tr. 36:5

[4] القديس كيرلس الكبير: شرح إنجيل يوحنا، ترجمة مركز دراسات الآباء، يناير 1989، ص12. اقتبست الكثير من أقوال القديس كيرلس الكبير عن هذه الترجمة.

[5] Homilies on St. John, Hom. 1:2.

[6] Homilies on St. John, Hom. 1:3.

[7] St. Jerome: Comm. On Galat. 6:10.

[8] Eusebius: Hist. Ecc. 3:23.

[9] Collat. XXIV c. 2.

[10] Eusebius: Hist. Ecc. 3:28.

[11] راجع أيضًا يوسابيوس 14:4.

[12] Eusebius: Hist. Ecc. 5:18:4.

[13] Tertullian: Praescrip, Haer., 36.

[14] Adv. Haer. 3:1:1 PG 7:844.

[15] PG 5:984.

[16] See Jerome Biblical Commentary, p. 416.

[17] Donald Guthrie: N.T. Introduction, 1975, p. 262.

[18] Ibid.

[19] The Gospel according to St. John, 1965, p.87.

[20] Cf. H. Lietzmann: Die drei altesten Marttyrologein (Kleine Texte, 2), 1911, p. 7f.

[21] Ibid, p. 5.

[22] Hom. 21.

[23] Nelson: A New Catholic Commentary on the Holy Scripture, 1969, p. 1033.

[24] Eusebius: H.E. 3:31:3; 5:24:3f. PG 20:485.

[25] Guthrie, p.271.

[26] “The purpose of St. John’s Gospel,” Studia Evangelica. 1959, p. 382-411.

[27] Guthrie, p.272.

[28] دراسات في العهد الجديد، عدد 6، سنة 1960، ص 117- 131.

[29] Jaroslav Pelikan: The Christian Tradition, vol. 1, p. 173.

[30] 2 Clem. 1:1L2.

[31] Commentary on the Gospel of John. P1, 6.

[32] C.M. Laymon: The Interpreter’s One-volume Commentary on the Bible, 1980, p.707.

[33] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 1:1.

[34] Homily on St. John, 2:8.

[35] Letter, 22:5

[36] Cf. Oscar Cullmann: The N.T., 1968, p. 46.

[37] Eusebius: H. E. 3:24.

[38] Comm. on Matt., Prolong.

[39] Eusebius: H.E. 6:14:5-7.PG 20:552.

[40] Fr. Tadros Y. Malaty: The School of Alexandria, Introduction.

[41] Against Heresies, 3:11:1.

[42] Comm. on Matt., prolong.

[43] PG 5:333.

[44] سبق لنا الحديث عن الأناجيل الإزائية في مقدمة كتاب: الإنجيل بحسب متى، 1983، ص 18-23.

[45] Cullmann, p.45.

[46] Eusebius: H.E. 6:14:5-7.

[47] Hom 4. PG 59:27.

[48] Homily 4:1.

[49] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 18:1.

[50] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 36:1.

[51] دير مارجرجس الحرف بيروت، إنجيل يوحنا، قراءة وتعليق، 1986، ص 10.

[52] The Anchor Bible: R.E. Brown: The Gospel According to John, (1-XII), 1981, p. XLI.

[53] The Anchor Bible: R.E. Brown: The Gospel According to John, (1-XII), 1981, p. XLII.

[54] Nelson: A New Catholic Commentary on the Holy Scripture, 1969, p. 1035.

[55] Nelson: A New Catholic Commentary on the Holy Scripture, 1969, p. 1035.

[56] Homilies on St. John, Hom. 1:4.

[57] J.C. Fenton: The Gospel According to John, Oxford 1970.

[58] F.M. Braum: Jean le Theologein, t. II, Les grandes traditions d’Asrael, 1964.

[59] Guthrie, p. 237.

[60] Guthrie, p. 238.

[61] Jerome Biblical Commentary, p. 416-7.

 The Anchor Bible: R.E. Brown: The Gospel According to John, (1-XII), 1981, p. XLIII, LII, LXV.

[62] Nelson: A New Catholic Commentary on the Holy Scripture, 1969, p. 1023.

[63] Sermon on N.T. Lessons, 67:1.

[64] St. Augustine: On the Gospel of St. John, tractate 20:13.

[65] Against Jovinianus, 1:26.

[66] Homilies on St. John, Hom. 2:8.

[67] The Apostolic Teaching and its Development, 1944, p. 65 ff.

[68] Cf. L. van Hartingsveld: Gie Eschatologie des Johannesevangeliums, 1962.

[69] Adv. Haer. 2:31.

[70] Adv. Haer. 3:1:1.

[71] Theologische Rundschau, n.f., 1955, p.295-335.

[72] C.K. Barett: The Gospel According to St. John, 1956, p.138.

[73] Guthrie,, p. 242.

[74] دافع J.N. Senders عن هذا الرأي في مواضعٍ كثيرة، منها:

B.A. Mastin: The Gospel According to St. John, 1986.

تبعه كل من E.F. Harrison وF.V. Fison.

[75] Cf. Correll: Consummatum Est, 1958, p. 204 ff.

[76] M.F. Wiles: The Spiritual Gospel, 1960, p. 9 ff.

[77] راجع حديثنا في هذا المقال عن شخصية يوحنا.

[78] دراسات إنجيلية: مصادر الوحي الإنجيلي 4، صوفية المسيحية 1، ص 70 الخ.

 

تفسير انجيل يوحنا – المقدمة – القمص تادرس يعقوب ملطي

Exit mobile version