تفسير انجيل لوقا 22 الأصحاح الثاني والعشرين – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير انجيل لوقا 22 الأصحاح الثاني والعشرين – القمص تادرس يعقوب ملطي
الأصحاح الثاني والعشرون
الصديق المتألم
في الأصحاحات السابقة نرى كلمة الله المتجسد قد جاء إلينا يقدم لنا صداقته الإلهية، كاشفًا لنا عن ملامح طريق صداقته، ومحذرًا إيانا من معوقات الطريق، والآن يقدم بنفسه ثمن هذه الصداقة، فنراه الكاهن الأعظم الذي يقدم حياته المبذولة فصحًا، ليعبر بنا من حالة العداوة إلى الشركة مع الآب؛ إنه الكاهن والذبيحة في نفس الوقت، يقدم دم نفسه كفارة عن خطايانا.
يمكننا أن نقول بكل ثقة ويقين أن معلمنا لوقا الإنجيلي إذ يصور لنا أحداث آلام الرب وصلبه إنما يقدم لنا صديقنا الذي يحملنا إلى قدس أقداسه، ليسير بنا في مقدساته السماوية بلا حجاب أو عائق.
من أجلنا افتقر فلم يكن يملك “علية” يأكل فيها الفصح مع تلاميذه، مع أنه يقدم حياته فصحًا فريدًا قادرًا على خلاص البشرية. ومن أجلنا اجتاز وادي الدموع والألم وحيدًا مع أنه والآب واحد، يضمنا بالحب إليه؛ لقد قبل أن يكون موضع خيانة أحد تلاميذه، وموضع محاكمة أمام خليقته، يُحاكم دينيًا ومدنيًا!
- اقتراب عيد الفصح 1-2.
- خيانة يهوذا 3-6.
- الإعداد للفصح 7-13.
- الفصح الجديد 14-23.
- مناقشة حول الأعظم 24-30.
- تحذيره لبطرس 31-34.
- تحذير عام 35-38.
- صلاته على جبل الزيتون 39-46.
- تسليمه 47-53.
- محاكمته دينيًا في بيت رئيس الكهنة 54.
- إنكار بطرس له 55-62.
- جلده والاستهزاء به 63-65.
- محاكمته في المجمع 66-71.
- اقتراب عيد الفصح
“وقرب عيد الفطير الذي يُقال له الفصح.
وكان رؤساء الكهنة والكتبة يطلبون كيف يقتلونه،
لأنهم خافوا الشعب” [1-2].
كان اليهود يحتفلون بعيد الفصح في الرابع عشر من الشهر الأول “نيسان” حيث يذكرون عبور الملاك المهلك على بيوت آبائهم في مصر دون أن يمس أبكارهم، إذ يرى علامة الدم على القائمة والعارضتين. هذا وكلمة “فصح” أو “بصخة” معناها “عبور”. أمّا عيد الفطير فكان يبدأ في اليوم التالي (الخامس عشر من نيسان) ولمدة 7 أيام فيه لا يأكل اليهود خبزًا مختمرًا بل فطيرًا. وقد امتزج العيدان معًا، حتى أصبحا في عصر السيد المسيح عيدًا واحدًا يُدعى “عيد الفطير” أو “عيد الفصح”.
لا أريد الدخول في تفاصيل عيدي الفصح والفطير إذ سبق لنا الحديث عنهما في أكثر من موضع خاصة في تفسير سفر الخروج (ص 12) وتفسير سفر اللاويين (لا 23). إنما ما نقوله هنا أنه قد جاء صديقنا ليقدم نفسه فصحًا عنّا، حتى بدمه يعبر عنّا الملاك المهلك، فلا يقتل أبكار حياتنا، أو بمعنى آخر به نعبر إلى الحياة السماوية، وننتقل من الفكر الترابي إلى الملائكي.
- كانت أعمال اليهود ظلاً لأعمالنا. لذلك أن سألت يهوديًا عن الفصح أو عيد الفطير، فلا يقدم لك أمرًا ذا قيمة إنما يشير إلى الخلاص من مصر، بينما إذ يطلب أحد منّي ذلك لا يسمع عن مصر وفرعون، بل يسمع عن التحرر من الخطية وظلمة الشيطان، لا بواسطة موسى بل بابن الله[1].
القديس يوحنا الذهبي الفم
إذ كانت جماهير اليهود في العالم كله تتجه نحو أورشليم لتقدم ذبيحة الفصح بطقسها الرائع الذي يصور عمل المسيح الخلاصي، إذا برؤساء الكهنة والكتبة [2]، وهما حزبان متزاحمان في مجمع السنهدرين، يجتمعون معًا غالبًا في دار رئيس الكهنة قيافا “دار المؤامرة”، ليبحثوا كيف يتخلصون من يسوع سرًا، خشية هياج الشعب عليهم.
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم[2] أنه بحسب الشريعة الموسوية لا يوجد إلا رئيس كهنة واحد، لا يُقام آخر إلا بموته، لكنه إذ انحدر اليهود روحيًا، صار لهم أكثر من رئيس كهنة. في الواقع كان اليهود يقيمون في كل عام رئيس كهنة يمارس وظيفته لمدة عام، يلزم أن تكون السلطات الرومانية راضية عنه، بل وغالبًا ما تقوم باختياره مع قادة اليهود. على أي الأحوال كان يليق بهم أن يكون لهم رئيس كهنة واحد يرمز لأسقف نفوسنا ربنا يسوع، يقبل المشورة من الله وحسب وصيته، يخاف الله لا الناس، أمّا هؤلاء فكانوا رؤساء كهنة كثيرين يسلكون بمشورة إنسانية، يخافون الشعب لا الله.
يقول القديس كيرلس الكبير: [لننظر الدور الذي مارسه إبليس بحسده، وما هي نتائج خطته الماكرة ضد السيد. لقد غرس في رؤساء مجمع اليهود حسدًا ضد المسيح أنتج قتلاً. فإن هذا المرض (الحسد) غالبًا ما يدفع إلى جريمة القتل. هذا هو الطريق الطبيعي لهذه الرذيلة، كما حدث مع قايين وهابيل، وأيضًا ظهر بوضوح في حالة يوسف وإخوته. لهذا السبب يجعل بولس الرسول هاتين الرذيلتين متجاورتين بوضوح، كأنهما يمتان بصلة قرابة لبعضهما البعض، إذ يتحدث عن أناس مملوءين “حسدًا وقتلاً” (رو 1: 29). هكذا طلب هؤلاء قتل يسوع بإيحاء من الشيطان الذي غرس الشر فيهم، وكان قائدهم في تدابيرهم الشريرة[3].]
- خيانة يهوذا
اجتاز السيد المسيح آلامًا من كل نوع، اشترك فيها اليهود بكل فئاتهم وأيضا اشترك واحد من تلاميذه معهم، كما اشترك الأمم. يحدثنا الإنجيلي لوقا عن خيانة يهوذا، قائلاً: “فدخل الشيطان في يهوذا الذي يُدعى الإسخريوطي وهو من جملة الإثني عشر. فمضى وتكلم مع رؤساء الكهنة وقواد الجند كيف يسلمه إليهم. ففرحوا وعاهدوه أن يعطوه فضة. فواعدهم، وكان يطلب فرصة ليسلمه إليهم خلوًا من جمع” [3-6].
دخل الشيطان في يهوذا ليس إكراهًا، إنما وجد الباب مفتوحًا لديه، وجد فيه الطمع بابًا للخيانة، بالرغم من كونه أحد الإثني عشر تلميذًا. نسمع في إنجيل يوحنا: “فبعد اللقمة دخله الشيطان” (يو 13: 27)، فهل دخله الشيطان قبل الفصح أم أثناءه؟! بلا شك كان يهوذا قد سلم نفسه كإناء للشيطان مع كل فرصة ينفتح الباب بالأكثر للتجاوب مع إبليس كسيد له يملك قلبه ويوجه فكره ويدير كل تصرفاته. بمعنى آخر يمكن القول بأن يهوذا في خضوعه للعدو الشرير كان ينمو كل يوم في تجاوبه معه وممارسته أعماله الشيطانية. بمعنى آخر كما يشتاق الله أن يحل في قلوب أولاده بلا توقف ليملأهم من عمله الإلهي، هكذا يشتاق عدو الخير أن يدخل قلوب المستجيبين له بلا توقف، لينطلق بهم إلى نهاية شره، بكونهم أداته الخاصة ورعيته ومملكته.
- أنتم ترون أن الشيطان قد دخل بالفعل في يهوذا؛ دخل أولاً عندما زرع في قلبه فكر خيانة المسيح، ثم جاء إلى العشاء يحمل هذا الروح فيه. وإذ أخذ الجسد دخله أيضًا الشيطان، لا ليجرب شخصًا (غريبًا عنه) مرتبطًا بآخر، وإنما ليملك على من هو له[4].
القديس أغسطينوس
- بالطمع صار يهوذا ما هو عليه… الطمع يولِّد أهواء شريرة، يجعل البشر مجدّفين، ويدفعهم إلى فقدان معرفة الله مع أنهم ينالون منه آلاف العطايا[5].
القديس يوحنا الذهبي الفم
إن كان العدو قد اصطاد يهوذا الذي تجاوب معه في حب المال، فبث فيه السرقة (يو 12: 6)، ثم دفعه للخيانة، فصار أداته التي يستخدمها كيفما شاء، إذ سلّم يهوذا نفسه بنفسه له، لهذا يحذّرنا الرسول بولس قائلاً: “لئلا يطمع فينا الشيطان” (2 كو 2: 11). بنفس الروح يقدم لنا القديس مرقس الناسك نصيحته ألا نفتح الباب ولو قليلاً للعدو، فإنه إذ يدخل يملك ويصعب التحرر منه. لنحاربه بالرب وهو خارج عنّا يحاول خداعنا، ولا نتركه يدخل ويملك!
يقول القديس كيرلس الكبير[6] إن الشيطان دخل في قلب يهوذا دون بطرس أو يعقوب أو يوحنا. لأن قلوبهم كانت راسخة ومحبتهم للمسيح ثابتة، لكن الشيطان وجد له موضعًا في الخائن من أجل مرض الطمع المرّ، الذي يقول عنه الطوباوي بولس: “أصل كل الشرور” (1 تي 6: 10). هذا وقد أكّد الإنجيلي أن يهوذا “واحد من الإثنى عشر” ليوضح خطية الخيانة بكل جلاء. فإن الذي كرَّمه مساويًا إيّاه بالبقية، وزيَّنه بالكرامات الرسولية، وجعله المحبوب، وضمه للمائدة المقدسة صار طريقًا ووسيلة لقتل المسيح.
بماذا باع يهوذا سيده؟
باعه بالفضة، وكما يقول القديس ديديموس السكندري أنه يوجد نوعان من الفضة: الفضة الأصيلة المصفاة سبع مرات، وهي كلمة الله؛ والفضة الغاشة التي هي كلمة إبليس. إن كان السيد المسيح هو كلمة الله المتجسد، الفضة الحقيقية، فقد باعه يهوذا بالغاشة. هذه الخيانة يمارسها الهراطقة عبر العصور، حين يُسيئون شرح كلمة الله، مستخدمين الكتاب المقدس للتدليل على تعاليمهم الفاسدة، وكأنهم يستبدلون الفضة الإلهية الخالصة والأصيلة بفضتهم الغاشة. هذا وقول الإنجيلي “عاهدوه أن يعطوه فضة” [5]، يعني أن يعطوه مالاً بوجه عام، وقد حُدد الثمن بثلاثين من الفضة كما سبق فأنبأ عاموس النبي (2: 6) كثمنٍ لبيع البار، وهو ثمن بخس يُدفع كدية عبدٍ إذا نطحه ثور وقتله (خر 21: 32). ويقال أن هذه القطعة الفضية كانت تحمل على أحد وجهيها صورة غصن زيتون، رمز السلام، وعلى الوجه الآخر صورة مبخرة علامة العبادة، وفي أسفلها نُقش “أورشليم المقدسة”.
- الإعداد للفصح
حان وقت الفصح فكان يليق بذاك الذي جاء “فصحًا عن العالم” أن يقدم جسده ودمه المبذولين ذبيحة شكر لله الآب، وسرّ حياة لتلاميذه، ذبيحة حقيقية قادرة على المصالحة بين الآب والبشرية عبر كل العصور.
اختلف الدارسون في تحديد موعد الفصح اليهودي، هل كان يوم الخميس حيث قدم السيد المسيح، نفسه فصحًا بعد الرمز اليهودي مباشرة ليعلن تحقيقه في كمال غايته، أما أراد السيد أن يقدم فصحه مسبقًا بيوم واحد ليصلب يوم الجمعة في لحظات الفصح اليهودي. ولكل فريق جهوده لتأكيد وجهة نظره. إنما ما يشغلنا أن الفصح اليهودي قد كمل وانتهى بتحقيق فصح المسيح، سواء مارس اليهود طقس فصحهم في خميس العهد أو أثناء لحظات الصلب!
“وجاء يوم الفطير الذي كان ينبغي أن يذبح فيه الفصح.
فأرسل بطرس ويوحنا، قائلاً:
اِذهبا وأعدّا لنا الفصح لنأكل.
فقالا له: أين تريد أن نُعد؟
فقال لهما: إذا دخلتما المدينة يستقبلكما إنسان حامل جرة ماء،
اِتبعاه إلى البيت حيث يدخل.
وقولا لرب البيت يقول لك المعلم:
أين المنزل حيث آكل الفصح مع تلاميذي؟
فذاك يريكما عُليّة كبيرة مفروشة، هناك أعدّا.
فانطلقا، ووجدا كما قال لهما، فأعدّا الفصح” [7-13].
يلاحظ في هذا النص:
أولاً: يرى البعض في القول: “جاء يوم الفطير الذي كان ينبغي أن يُذبح فيه الفصح” تأكيدًا أن العشاء الأخير قد تم في يوم الفصح، وأن السيد المسيح قدم جسده ودمه بعد ذبح الخروف الرمزي. غير أن الفريق الآخر يرى أنه بحسب الطقس اليهودي كانوا يستعدون للعيد في اليوم السابق، حيث يقوم اليهود بتنظيف البيت والبحث أكثر من مرة في جوانب الحجرات لئلا يوجد خمير، فيحسبون كاسرين للناموس، ولا يُقبل الفصح عنهم. وكأن السيد قد اجتمع مع تلاميذه في اليوم السابق لذبح الخروف كما للتهيئة للفصح، لكنه عوض التفتيش في أركان العُليّة قدم الفصح الروحي غير المادي. ويُضاف إلى ذلك أنه لو كان السيد قد اجتمع بتلاميذه لممارسة طقس الفصح اليهودي فأين أصحاب البيت أنفسهم؟!
في تفسيرنا للإنجيل حسب متى تحدث عن تأسيس السيد للعشاء الأخير بعد ممارسة السيد المسيح وتلاميذه لطقس الفصح الناموسي، لكنني أكرر أن ما يشغلنا هو الفكر اللاهوتي ذاته لا تفاصيل الأزمنة.
ثانيًا: لم يحدد السيد المسيح اسم صاحب العُليّة، وكما جاء في التقليد الكنسي أنه مرقس الرسول؛ وأنه هو الشاب الذي كان يحمل الجرة. وكان يعرف السيد تمام المعرفة، لكن الرب لم يذكر اسمه ربما كما يقول القديس أمبروسيوس ليُظهر أنه يقيم فصحه في عُليّة لإنسان غير مشهور، فهو لا يطلب أصحاب المراكز والشهرة، أو كما يقول الأب ثيؤفلاكتيوس لكي لا يعرف يهوذا الموضع، فيخبر رؤساء الكهنة والكتبة، ويُلقوا القبض عليه قبل تقديم فصحه الإلهي.
ثالثًا: في تفسيرنا لإنجيل مرقس (14: 12-16)، رأينا القديسين كيرلس الكبير وأمبروسيوس يتطلعان إلى جرة الماء كعلامة لسرّ العماد، فإنه لا يسمح لنا بالتمتع بسرّ الإفخارستيا ما لم نكن قد التقينا أولا بسرّ المعمودية وتمتعنا بالتجديد الكامل الداخلي.
إن كانت الجرة من التراب والخزف، لكنها تحمل في داخلها ماءً، هكذا وإن كنا ترابيين لكننا نتقبل مياه النعمة الإلهية وعمل الروح القدس في داخلنا، حتى نستطيع أن نرتفع بالروح مع مخلصنا، ونقبل من يديه سرّ خلاصنا، أي جسده ودمه المبذولين عنّا.
رابعًا: ارتفع السيد بتلاميذه إلى العُليّة المفروشة، التي لا يوجد فيها خمير، والمتسعة لتحوي السيد وتلاميذه. هكذا يود الرب أن يحملنا كما إلى الأعالي “في عُليّة مفروشة، حيث نسكن في الأمجاد الإلهية الخفية، مرتفعين فوق دنس هذا العالم ورجاسات شهوات الجسد. هناك نلتقي به، حيث لا يوجد فينا خمير الخُبث والشر، بل زينة الروح الفاضلة، والمتِّسعة بالحب الإلهي لنحمل في داخلنا السيد وتلاميذه.
- لنصعد مع الرب، متحدين معه، إلى العُليّة…
لتكن عُليّة بيوتنا متّسعة لتستقبل في داخلها يسوع كلمة الله، الذي لا يُدرَك إلا بواسطة من لهم الفهم العظيم…
لتُعد هذه العُليّة بواسطة صاحب البيت الصالح ليأتي فيها ابن الله فيجدها مغسولة ونقية من كل خبث.
- يلزمنا أن ندرك أنه لا يرتفع أحد إلى العُليّة ممن يهتم بالولائم والاهتمامات الزمنية، ولا يكون له مع يسوع نصيب في حفظ الفصح[7].
العلامة أوريجينوس
- الفصح الجديد
أولاً: يقول الإنجيلي لوقا: “ولما كانت الساعة اتكأ والإثنا عشر رسولاً معه” [14]. لقد حانت الساعة التي حددها رب المجد ليؤسس سرّ الإفخارستيا، مقدمًا للعالم سرّ الخلاص والحياة والشبع الداخلي.
اعتاد اليهود بحسب الطقس الموسوي أن يأكلوا الفصح وهم واقفون (خر 12: 11)، إذ يذكرهم بالانطلاق من العبودية التي عاشها آباؤهم في مصر، لأنه لم يكن للعبد حق الجلوس في حضرة سادته بل يقف ليخدم، أمّا السيد إذ قدّم لنا فصحه الجديد اتكأ ومعه الرسل ليُعلن انتقالنا إلى حالة “المجد”. فصحه عبور إلى الحياة السماوية، لكي نتكئ معه في حضن أبيه، وننعم بشركة أمجاده.
ثانيًا: إذ حانت الساعة ليحقق خلاصنا ببذل حياته عنا يعلن أنه مقدم على هذا العمل بكامل إرادته، في شوقٍ حقيقيٍ وشهوةٍ، إذ يطلب ما قد هلك، لذا “قال لهم: اشتهيت أن آكل هذا الفصح معكم قبل أن أتألم” [15].
- لماذا؟ لأنه كان يرحب بصليبه، إذ يتحقق خلاص العالم، وتُسلَّم الأسرار، وتزول الأمور المحزنة.
- هذا يعني: “إني أسلمكم الطقوس الجديدة، وأهبكم الفصح الذي أقدمه لكم روحيًا[8].
القديس يوحنا ذهبي الفم
- قال هذا لأن الصليب يقترب بعد هذا الفصح مباشرة؛ فإننا نجده دائمًا يتنبأ عن آلامه مشتهيًا تحقيقها[9].
القديس يوحنا ذهبي الفم
- كأنه يقول: إنه عشائي الأخير، أنه ثمين للغاية أرحب به، ذلك كما أن الذين يرحلون إلى مكان بعيد يقدمون لأصدقائهم كلماتهم الوداعية في غاية المحبة[10].
الأب ثيؤفلاكتيوس
أما قوله: “لأني أقول لكم إني لا آكل منه بعد حتى يُكمل في ملكوت الله… إني لا أشرب من نتاج الكرمة حتى يأتي ملكوت الله” [16-18]، فقد سبق لنا تفسيره في دراستنا لسفر اللاويين (10: 9) حيث رأينا السيد يشرب نتاج الكرمة الروحي، أي يفرح حينما يكمل المختارون في ملكوت الله.
ثالثًا: يلاحظ هنا وجود كأسين، الأولى تناولها السيد وشكر وقال: “خذوا هذه واقتسموها بينكم” [17]، والثانية بعد العشاء قال عنها: “هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي الذي يسفك عنكم” [20]. كانت عادة اليهود في طقس الفصح أن تُستخدم ثلاث كؤوس، لذا يرى البعض أن الكأس الأولى هنا إنما هي أحد كؤوس الطقس اليهودي، أمّا الثانية فهي كأس العهد الجديد، التي جاءت لا ككأس بركة عامة، وإنما تقدست لتصير دم السيد المسيح المبذول. الأولى تشير للعهد القديم، والثانية تقدم لنا سرّ العهد الجديد.
رابعًا: قدّم السيد المسيح ذبيحته الحقيقية، قائلاً: “هذا هو جسدي الذي يبذل عنكم”، “هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي الذي يسفك عنكم” [19-20]، أمّا قوله: “اصنعوا هذا لذكري” فكما رأينا في كتاب “المسيح سرّ الإفخارستيا” أن “الذكرى” هنا في اليونانية “أنامنسيس” لا تعني مجرد التذكر لأمر نتطلع إليه غائبًا عنّا، بل تحمل إعادة دعوته أو تمثيله في معنى فعّال[11]. الأنامنسيس هنا يعني تذكر المسيح المصلوب القائم من الأموات، أو تذكر ذبيحته لا كحدثٍ ماضٍ، بل تقديم ذبيحة حقيقية حاضرة وعاملة[12]، أي ذكرى فعّالة.
- الإفخارستيا هو جسد ربنا يسوع المسيح الذي تألم عن خطايانا، الذي أقامه الله الآب[13].
القديس أغناطيوس النوراني
- الكأس الممزوج والخبز المصنوع يتقبلان كلمة الله، ويصيران إفخارستيا جسد المسيح ودمه[14].
القديس إيريناؤس
- الخبز قبل التقديس هو خبز عام، لكن إذ يقدسه السرً يُدعى جسد المسيح[15].
القديس غريغوريوس أسقف نيصص
- عندما نتناول جسد المسيح المقدس، مخلص جميعنا، ونشرب دمه الثمين يكون لنا الحياة فينا، إذ نصير كما لو كنا واحدًا معه، نسكن فيه ونمتلكه فينا.
- لا تشك في أن هذا حق، إذ قال بوضوح: “هذا هو جسدي”، إنما اقبل كلمات مخلصك بإيمان، إذ هو الحق الذي لا يكذب[16].
القديس كيرلس الكبير
- فعل المسيح ذلك ليحضرنا إلى رباط صداقة حميمة، وليعلن حبه لنا، مقدمًا نفسه لمحبيه، لا ليروه ويمسكوه فحسب، وإنما لكي يتناولوه أيضًا، ويحتضنوه في كمال قلوبهم[17].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- تعلم إذن كيف يليق بك أن تتناول جسد المسيح، أي في ذكرى طاعته حتى الموت، حتى أن الذين يعيشون لا يعيشون بعد لأنفسهم، وإنما لذاك الذي مات لأجلهم وقام[18].
القديس باسيليوس الكبير
خامسًا: يرى القديس يوحنا الذهبي الفم[19] أن السيد المسيح أعلن عن خائنه بعد تقديم الكأس واشتراك الخائن فيه، مظهرًا بأنه قد قدم له كل إمكانية للتوبة لكنه لم يرد أن يتوب. الله يفتح أبواب الرجاء للجميع، لكنه لا يُلزم أحدًا على التوبة بغير إرادته.
إذ أعلن السيد المسيح أن واحدًا منهم سيسلمه بدأ الكل يتساءل، فمع معرفتهم بحبهم الشديد له، لكنهم كانوا يثقون في كلماته أكثر من ثقتهم في أنفسهم، لذا خشي كل واحد منهم لئلا يكون هو المقصود، إذ يعرف الكل أنهم ضعفاء ومعرضون للسقوط. ليتنا نتشبه بالإحدى عشر رسولاً، فنعرف ضعفنا، ولا نتكل على ذواتنا، بل على نعمة الله التي تحفظنا من السقوط.
- مناقشة حول من هو الأعظم
بينما كان السيد المسيح بكونه كلمة الله المتجسد يعلن عن اشتياق قلبه وشهوة نفسه أن يقدم حياته فصحًا عن البشرية، طالبًا صداقتهم على مستوى أبدي، كان قادة اليهود يتآمرون لقتل المسيّا والخلاص منه، أما التلاميذ ففي ضعف بشري كانوا يتشاحنون فكريًا على المراكز الأولى في الملكوت الجديد، حاسبين إياه ملكوتًا زمنيًا ماديًا.
“وكانت بينهم أيضًا مشاجرة، من منهم يُظن أن يكون أكبر.
فقال لهم: ملوك الأمم يسودونهم، والمتسلطون عليهم يدعون محسنين.
وأما أنتم فليس هكذا، بل الكبير فيكم ليكن كالأصغر، والمتقدم كالخادم.
لأن من هو أكبر، الذي يتكئ أم الذي يخدم؟!
أليس الذي يتكئ؟! ولكني أنا بينكم كالذي يخدم.
أنتم الذين ثبتّوا معي في تجاربي.
وأنا أجعل لكم كما جعل لي أبي ملكوتًا.
لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي،
وتجلسوا على كراسي تدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر” [24-30].
أولاً: يقول القديس يوحنا الذهبي الفم أن السيد المسيح ينسب طلب المراكز الأولى للأمم[20]. وكأن العلامة الأولى للانتساب للأمم هو “التشامخ” وطلب المجد الزمني، وعلى العكس علامة الانتساب لجسد المسيح هو “التواضع” والاشتياق لاحتلال المركز الأخير في وسط الكل، لكي بالتواضع المملوء حبًا يمكننا أن نحتضن الجميع. بمعنى آخر، إن كلمة الله في محبته للبشرية أخلى ذاته، محتلاً مركز العبد لكي يحمل في جسده العبيد ويرتفع بهم إلى البنوة للآب. بذات الروح اشتاق الرسول بولس أن يستعبد نفسه ليربح الكثيرين (1 كو 9: 19)، بمعنى أنه اشتهى أن يتمثل بسيده، فيكون له هذا الشرف أن يحسب نفسه عبدًا للجميع، لا عن يأسٍ أو تحطيمٍ نفسيٍ، إنما عن حب حقيقي لربح الكثيرين.
- ليت ذلك الذي هو رئيس لا ينتفخ بسبب عمله، لئلا يهوي من طوباوية التواضع، وإنما يليق به أن يعرف التواضع الحقيقي كخدمة للكثيرين… ليت الأعظم يكون كالأصغر.
- يليق بالذين يحتلون المراكز الرئيسية أن يكونوا مستعدين أن يقدموا حتى الخدمة الجسدية على مثال الرب الذي غسل أقدام تلاميذه. لذا قيل “(ليكن) المتقدم كالخادم[21]“.
القديس باسيليوس الكبير
- احفظ الإيمان والتواضع داخل نفسك، لأنك بهما تجد الرحمة والمعونة، وتسمع أقوالاً إلهية في قلبك، ويرافقك ملاكك الحارس في الظاهر وفي الخفاء.
- التواضع وِشاح الألوهة، لأن الكلمة المتجسد تسربله، وكلّمنا عنه من خلال أجسادنا، فكل من يلبسه يتشبه حقًا بذاك الذي انحدر من علوه، وغطى فضيلة عظمته بالتواضع، وستر مجده به كي لا تلتهب الخليقة بمنظره.
- المتواضع لا يبغضه أحد ولا يوبخه ولا يحتقره، لأن سيده يحبه. يحب الجميع والجميع يحبونه ويشتهونه في كل مكان، وحيثما وُجد ينظرون إليه كملاكٍ نوراني، ويقدمون له الإكرام.
- التواضع قوة خفية يحصل عليها القديسون الكاملون بعد تمام سيرتهم، ولا تعطي النعمة هذه القوة إلا للكاملين في الفضيلة[22].
مار إسحق السرياني
- لقد فتح التلاميذ طريقًا للضعف البشري، فكانوا يتنازعون فيما بينهم عمن يكون الأعظم والأكبر من الباقين… هذا الضعف أُثير فيهم وسُجل لأجل نفعنا، حتى أن ما حدث بين الرسل يكون علة لكي ننعم بالتواضع. إذ انتهر المسيح المرض، وكطبيبٍ ناجح ٍنزعه بوصية عميقة مملوءة غيرة…
- لنوقف هذا التعالي الفاقد للشعور والباطل، هذا الذي ينبع عن حب المجد الباطل أصل الكبرياء. فإن رغبة السيطرة على الآخرين، والنزاع لبلوغ هذا الأمر، يجعل الإنسان بالحق ملومًا، مع أنه لا يخلو تمامًا مما يستحق المديح. فإن السمو في الفضيلة يستحق التقدير (التكريم)، لكن الذين يريدون بلوغ هذا يلزمهم أن يكونوا متواضعي الفكر، لهم مشاعر متواضعة، لا يطلبون أن يكونوا الأولين وذلك خلال حبهم للإخوة. هذا ما يريده فينا الطوباوي بولس، إذ كتب: “مقدمين بعضكم بعضًا في الكرامة” (رو 12: 10). هذه المشاعر يتأهل لها القديسون وبها يتمجدون، إذ تجعل تقوانا نحو الله مكرمًا، وتمزق شبكة خبث إبليس وتحطم فخاخه المتعددة، وتخلصنا من حفرة الفساد، وتجعلنا كاملين في التشبه بالمسيح مخلص جميعنا. أنصت، كيف يضع نفسه أمامنا مثالاً للفكر المتواضع وللإرادة التي لا تطلب المجد الباطل، إذ يقول: “تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب” (مت 11: 29).
- في العبارة التي قُرأت حالا يقول: “لأنه من هو أكبر، الذي يتكئ أم الذي يخدم؟ أليس الذي يتكئ؟ “ولكني أنا بينكم كالذي يخدم”. حينما ينطق المسيح بذلك من لا ينزع عنه حب المجد الباطل، ويطرد عن ذهنه محبة الكرامة الفارغة، ويبقى في عناده وتصلفه؟! لأن الذي تخدمه كل الخليقة العاقلة المقدسة، الذي يسبحه السيرافيم… المساوي مع الله الآب في عرشه وملكوته احتل مركز العبد وغسل أقدام الرسل. بمعنى آخر أخذ مركز العبودية خلال تدبير الجسد… الذي يُخدم صار خادمًا، رب المجد أصبح فقيرًا، تاركًا لنا مثلاً كما هو مكتوب (1 بط 2: 21).
ليتنا إذن نتجنب حب المجد الباطل، ونخلص من عار الرغبة في الرئاسة. بهذا نصير مثله، ذاك الذي أخلى ذاته لأجلنا[23].
القديس كيرلس الكبير
ثانيًا: طلب العظمة الزمنية يسبب انشقاقًا بين الإخوة، أيا كان مركزهم، حتى وإن كانوا تلاميذ المسيح، وكأن هذا الاتجاه هو المحطم للجماعة المقدسة.
- إن كان التلاميذ قد تنازعوا، فهذا ليس عذرًا لك، وإنما هو تحذير. لنحذر لئلا يكون نزاعنا على المراكز الأولى هو هلاكنا.
القديس أمبروسيوس
ثالثًا: دعوة السيد المسيح لتلاميذه بعدم طلب المجد الباطل وحب الرئاسات ليس حرمانًا، وإنما هو توجيه نحو المجد الأبدي الذي نبلغه خلال الصليب. لهذا يؤكد لهم المراكز الكبرى التي ينالها الرسل بثبوتهم معه في تجاربه، أي حملهم صليبه كل يوم من أجل إيمانهم به وكرازتهم بإنجيله. يقول: “أنتم الذين ثبتوا معي في تجاربي، وأنا أجعل لكم كما جعل لي أبي ملكوتًا…” بمعنى آخر ليس فقط يدعوهم لترك المجد الباطل وإنما لحمل الصليب ومشاركة الرب آلامه ليشتركوا معه في أمجاده. وكما يقول الرسول بولس: “لأنه إن كنّا قد صرنا متحدين معه بشبه موته، نصير أيضًا بقيامته” (رو 6: 5).
رابعًا: إذ يتحدث هنا عن التمتع بالملكوت الأبدي، فلا يعني بالأكل والشرب والجلوس على الكراسي المعنى الحرفي، لأن ملكوت الله ليس أكلاً ولا شربًا (رو 14: 17)، إنما يعني حالة الشبع الأبدي والسلطان في الرب. وكما يقول القديس كيرلس الكبير أنه يصف الأمور الروحية خلال تشبيهات من الحياة الحاضرة، إذ يُحسب ذلك امتيازًا كبيرًا أن يجلس الناس مع الملوك على مائدتهم، ويشتركون معهم في طعامهم!
يقول القديس أمبروسيوس أن الرسل يدينون أسباط إسرائيل لا بجلوسهم على كراسي للقضاء بصورة مادية، وإنما يكونون علة تبكيت لهم خلال إيمانهم وفضائلهم، فينفضح جحود إسرائيل وإثمه.
- تحذيره لبطرس
أعلن صديقنا قبوله الآلام واحتماله الصلب لتقديم حياته الفصحية لأجل خلاصنا، فقد قابل قادة اليهود الحب بالبغضة ومحاولة الخلاص منه، كما قابل تلميذه يهوذا هذه الصداقة بالخيانة في أبشع صورها، الآن إذ يعلن لتلاميذه: “أنتم الذين ثبتوا معي في تجاربي” [28]، يؤكد أن هذا الثبوت في حقيقته هو عطية إلهية أو نعمة مجانية بدونها كان يمكن أن يفنى إيمانهم. بمعنى آخر أن كان سقوط يهوذا إلى الحضيض هو ثمرة شره الشخصي بالرغم من تقديم كل فرصة له للتوبة، فإن ثبات الإحدى عشر رسولاً هو هبة من الله، لكنهم يقبلون هذه الهبة في كمال حريتهم. هذا ما أعلنه السيد في تحذيره لبطرس الرسول.
“وقال الرب: سمعان سمعان،
هوذا الشيطان طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة.
ولكني طلبت من أجلك لكي لا يفنى إيمانك،
وأنت متى رجعت ثبت إخوتك.
فقال له: يا رب إني مستعد أن أمضي معك حتى إلى السجن وإلى الموت.
فقال: أقول لك يا بطرس لا يصيح الديك اليوم قبل أن تنكر ثلاث مرات أنك تعرفني” [31-35].
ويلاحظ في هذا الحوار الآتي:
أولاً: لعله اختار سمعان بطرس على وجه الخصوص، لأنه اتسم بالطموح والاندفاع، فربما كان أحد المنهمكين في الحديث عن “من هو الأكبر؟”، أو لأنه إذ سمع كلمات السيد: “أنتم الذين ثبتم في تجاربي” حسبَ نفسه أول الثابتين، فأراد الرب أن يكشف فيه ضعف الطبيعة البشرية بوجه عام، فيرى كل منا فيه ضعفه الشخصي. إن كان يهوذا يمثل “الخيانة” فإن بطرس يمثل “الضعف” الذي يحتاج إلى عونٍ إلهيٍ، فيقوم ليثبت ويثبت الآخرين معه خلال النعمة الفياضة التي ينالها.
- قيل هذا لبطرس لأنه كان أكثر جسارة من البقية، وربما يشعر بالكبرياء من أجل الوعود التي قدمها المسيح (أن يملكوا ويدينوا أسباط إسرائيل الإثني عشر).
الأب ثيؤفلاكتيوس
ثانيًا: في هذا الحديث أبرز السيد المسيح حقيقة المعركة الروحية من أجل ملكوت الله، فإن كان قلب الإنسان هو ميدانها، لكن المعركة في حقيقتها بين الله والشيطان. هنا نرى الشيطان وقد استولى على قلب يهوذا وملك فيه بالكامل، طمع أن يملك في قلوب الآخرين، وهو لا يقدر أن يقتحم حياتنا ويجربنا دون استئذان، إذ يقول السيد المسيح: “هوذا الشيطان طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة” [31]. فإن كانت تجاربه أشبه بالغربلة التي تفرز الزوان لحسابه ولا تقدر أن تمس الحنطة، لكن حتى هذه الغربلة لا تتم بدون استئذان من الرب.
هنا تبرز حقائق روحية هامة، أن عدو الخير يبذل كل الجهد ليغربل ما استطاع كل البشر بتجاربه، لكنه وإن نال سماحًا من الله أن يغربل تبقى عناية الله على حنطته فلا تُمس بالتجارب بل تُفرز عن الحنطة وتتزكّى لكي تكلل؟ أقول إننا حنطة الله، موضع عنايته، لن يمسنا العدو الشرير مهما غربلنا. إلا إذا سمحنا لأنفسنا أن نتحول من حنطة الله إلى زوان إبليس.
أيها الحبيب حتى وإن كنت زوانًا، فأعلم أن الرب قد جاء ليحوّل زواننا إلى حنطة، فينتزعنا من مملكة إبليس لنكون مملكته.
حرب العدو متنوعة وبلا هوادة، وكما يقول القديس أوغريس للرهبان: أن العدو يحاربهم في النهار خلال من هم حولهم من البشر، أمّا في الليل فيقوم بمحاربتهم بنفسه مباشرة، إذ يقول: [في الليل تطلب الشياطين أن تغربل المعلم الروحي بأنفسهم، أما في النهار فتستخدم البشر ليحيطوه بأصناف المعاكسات والافتراءات والمخاطر[24].]
ثالثًا: استخدم القديس أغسطينوس كلمات السيد المسيح لبطرس الرسول: “ولكني طلبت لأجلك لكي لا يفنى إيمانك” للرد على أتباع بيلاجيوس الذين في دفاعهم الشديد عن الحرية الإنسانية كادوا أن ينكروا عمل النعمة الإلهية، حاسبين أن الإنسان قادر على الخلاص بإرادته وبجهاده الشخصي. هنا يؤكد القديس أغسطينوس أنه حتى الإيمان هو عطية الله، إذ يطلب الابن الوحيد الجنس من أجل رسوله كي لا يفنى إيمانه.
كان الرسول بطرس يظن في نفسه أنه قادر على مشاركة السيد المسيح كل آلامه حتى الموت، ففي غيرة بشرية لكن بقلب صادق قال: “يا رب إني مستعد أن أمضي معك حتى إلى السجن وإلى الموت” [33]، ولم يدرك أنه كان في حقيقته عاجزًا حتى عن الصلاة والسهر معه في البستان، ولا أن يقف أمام جارية في بيت رئيس الكهنة. لقد اعتمد بطرس على ذاته، ولم يدرك ضعفه الحقيقي… الأمر الذي يعرفه عنه سيده أكثر من معرفته هو لنفسه.
- ماذا طلب السيد من أجله إلا أن يبقى مثابرًا حتى النهاية؟! بالتأكيد لو كان الإنسان قادرًا على ذلك من نفسه لما طُلب ذلك من الله لأجله. لذلك عندما يقول الرسول: “أصلي إلى الله أنكم لا تعملون شيئًا رديًا” (2 كو 13: 7)، بلا شك يصلّي إلى الله لأجلهم من أجل المثابرة[25].
- بهذا لا نظن قط أن إيماننا يتوقف على حرية إرادتنا دون حاجة إلى عون إلهي[26].
- لقد عرف (السيد المسيح) بطرس على الدوام؛ عرفه حين كان بطرس لا يعرف نفسه. وذلك كما يحدث دومًا مع المرضى، فإن المريض لا يعرف ما يجري في داخله بينما يعرف الطبيب ذلك، حتى وإن كان الأول يتألم من المرض بينما الطبيب لا يتألم. يقدر الطبيب أن يخبرنا بما يدور في حياة الآخرين حسنًا، بينما لا يقدر المريض نفسه أن يخبر بما يدور في داخله.
- لا يعرف الإنسان ما في داخله، لكن خالق الإنسان يعرف ما بداخل الإنسان[27].
القديس أغسطينوس
- كان يعلمنا التواضع بكل وسيلة مؤكدًا أن الطبيعة البشرية بذاتها كلا شيء[28].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- يعلمنا أنه يلزمنا أن نفكر بتواضع من جهة أنفسنا، إننا كلا شيء، وبحسب طبيعتنا البشرية واستعدادنا الفكري نسقط في الخطية، ولكن به وفيه فقط نتقوى، ونصير على ما نحن عليه. إن كنا نستعير منه خلاصنا، فنُحسب به فضلاء وأتقياء فأي مجال إذن لأفكار الكبرياء؟ كل ما لدينا هو من عنده، وليس شيء من عندنا. “أي شيء لك لم تأخذه؟! وإن كنت قد أخذت فلماذا تفتخر كأنك لم تأخذ؟!” (1 كو 4: 7)، هذا ما نطق به الحكيم بولس، كما يقول الطوباوي داود: “الله قوّتنا”؛ مرة أخرى يقول: “الله ملجأ لنا وقوتنا” (مز 46: 1). كما يقول النبي إرميا: “يا رب عِزّي وحِصني وملجأي في يوم الضيق” (إر 16: 19). وأيضًا الطوباوي بولس إذ يتقدم يقول: “أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني” (فى 4: 13). نعم والمسيح نفسه يقول لنا: “بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئًا” (يو 15: 5).
- يظهر المسيح أنه حتى ذاك الذي يبدو عظيمًا فهو كلا شيء وضعيف… إن كان الشيطان قد اعتاد أن يهاجم أناسًا ذوي سمو ممتاز غير عادي، فإنه يقيم معركة فريدة شرسة وبربرية ضد من لهم سمعة طيبة في الحياة التقوية[29].
القديس كيرلس الكبير
رابعًا: لقد طلب السيد المسيح من الآب لأجل بطرس، وكما يقول القديس كيرلس الكبير، أنه يتواضع لأجلنا، فيتحدث السيد هنا كما في حدود الإنسان، فإن كان هو الله بطبيعته، حتى وإن كان قد صار جسدًا، وهو قوة الآب الذي به يُحفظ كل شيء، ومنه ننال قدرة العمل الصالح، لكنه إذ صار إنسانًا يطلب من الآب. [كان ضروريًا، نعم كان لائقًا بذاك الذي لأجل التدبير أن يصير إنسانًا مثلنا أن يمارس أيضًا أعمالنا عندما يستلزم الأمر ذلك[30].]
خامسًا: يرى القديس أغسطينوس[31] إن طلبة السيد المسيح من أجل بطرس لم تقيد حرية إرادة بطرس، فإنه لا يلزمه بعدم السقوط. إنه يقدم العون الإلهي، ومن حق بطرس أن يقبل هذا العون أو يرفضه. في موضع آخر يؤكد ذات القديس[32] أن الله يهتم بحرية الإنسان، وإلا كانت وصاياه بلا نفع، لكنه يحتاج إلى النعمة الإلهية لتسنده على تنفيذ الوصية.
سادسًا: يميز القديس باسيليوس الكبير بين سقوط المندفعين مثل القديس بطرس وسقوط الآخرين، قائلاً بأن الله يسمح للمندفعين (في الغيرة) بالسقوط أحيانًا كعلاج لهم من الاتكال على الذات، وغالبًا ما يتم ذلك خفية وعن ضعف الإنسان وليس عن جحود وإصرار، أما الآخرون، فيسقطون عن جحود وإصرار. لهذا فالأولون يحتاجون إلى عون إلهي مع رقة لإِقامتهم، أما الآخرون فغالبًا ما يحتاجون إلى توبيخ شديد وتأديب حتى يدركوا أن الله ديان، ويرتعبوا فيتوبوا.
سابعًا: يربط السيد المسيح التوبة أو الرجوع إليه بالعمل الإيجابي في خدمة النفوس، إذ يطالب السيد المسيح سمعان بطرس: “وأنت متى رجعت ثبت إخوتك“. هذه التوصية الإلهية عاشها داود النبي في لحظات توبته، إذ كان يصرخ في مزمور التوبة، قائلاً: “فأُعلم الآثمة طرقك” (مز 50: 13).
يقول القديس كيرلس الكبير[33] أن السيد المسيح وإن كان قد حذر من التجارب الشيطانية، لكنه قدم كلمة تعزية. بمعنى آخر، مسيحنا كصديقٍ حقيقيٍ وهو يحذرنا من الضعف، لكنه لا يقف عند الجانب السلبي بل يسندنا ويشجعنا لممارسة العمل الإيجابي بقوة، فلا نخف الحرب الشيطانية أو سلطان الخطية، إنما نؤمن بذاك الذي يسكن فينا ويعمل في داخلنا بسلطان للبناء الروحي.
أسلوب السيد المسيح في معاملاته معنا يدفعنا إلى “الرجاء الحيّ”، فمع التحذير يعطي قوة، ويدفعنا للعمل بلا تخوف أو تخاذل.
ثامنًا: إذ كان القديس بطرس بعد هذا الحديث لا يزال يظن أنه قادر على التبعية مع المسيح خلال غيرته البشرية، أكدّ له السيد أنه سينكره ثلاث مرات، وقد سبق لنا الحديث في هذا الأمر في تفسير مت 26: 34؛ مر 14: 30.
- تحذير عام
إذ قدم السيد المسيح تحذيره للقديس بطرس الرسول مؤكدًا له أنه سينكره ثلاث مرات قبل أن يصيح الديك، معلنًا له أنه سيرجع عن هذا الضعف خلال عمل الله ونعمته، الآن يطلب من تلاميذه ككل أن يتسلحوا بسيفي الإيمان والجهاد الروحي، أي بالإيمان العامل بالمحبة.
“ثم قال لهم: حين أرسلتكم بلا كيس ولا مزود ولا أحذية
هل أعوزكم شيء؟ فقالوا: لا.
فقال لهم: لكن الآن من له كيس فليأخذه، ومزود كذلك،
ومن ليس له فليبع ثوبه ويشترِ سيفًا.
لأني أقول لكم أنه ينبغي أن يتم فيّ أيضًا هذا المكتوب:
وأُحصيَ مع آثمة،
لأن ما هو من جهتي له انقضاء.
فقالوا: يا رب هوذا هنا سيفان.
فقال لهم: يكفي” [35-38].
أولاً: في إرساله لهم لم يسألهم شيئًا سوى التخلي عن كل شيء حتى الضروريات ليكون هو سرّ شبعهم والمدبّر لحياتهم الخاصة وعملهم الكرازي، أما الآن وقد حان وقت الصليب وجّه أنظارهم للجهاد، لا ليحملوا سيفًا ويحاربوا به كما ظن التلاميذ، وإنما ليحملوا سيف الإيمان الحيّ العامل بالمحبة. لهذا عندما قالوا له أنه يوجد سيفان، قال لهم: يكفي. وقد حسبوه أنه يقصد السيفين الماديين.
يشبه القديس يوحنا الذهبي الفم تصرفِ المسيح هذا أشبه بمدرب السباحة الذي يضع يديه تحت جسم من يدربهم وهم في المياه فيشعروا براحة وثقة، ثم يسحب يديه قليلاً قليلاً فيجاهدوا ويتعلموا. هكذا في البداية لم يحثهم السيد عن الجهاد الروحي، إنما أرسلهم للكرازة محمولين على يديه لا يحتاجون إلى شيء، والآن يسألهم الجهاد الروحي بسيف الروح الحق، ليواجهوا الضيقات ويحتملوا الصلب معه بفرح ولا يتعثروا.
لم يتركهم السيد المسيح في عوزٍ إلى شيء، بل بفيض أشبع كل احتياجاتهم حين كان معهم بالجسد، والآن لمحبته أراد لهم أن يتركهم ليحمل هو الصليب، ويصيرون كما في عوز، لكي ينعموا بخبراتٍ جديدةٍ وسط العوز والألم. المحبة التي من خلالها عاشوا فترة من الزمن في راحة بلا عوز هي بعينها التي سمحت لهم أن يمارسوا الشركة معه في آلامه. لهذا السبب كما يقول القديس أنبا أنطونيوس الكبير في رسائله أن الله غالبًا ما يعطي للتائبين في بداية توبتهم تعزيات كثيرة ليرفعهم ويسندهم، لكنه يسمح فينزع هذه التعزيات إلى حين، لكي يجاهدوا وسط الآلام فيتزكون، وينالون تعزيات أعظم من الأولى.
ثانيًا: يرى القديس أمبروسيوس أن السيف الذي طلب السيد من تلاميذه أن يقتنوه هو “كلمة الله” التي تُحسب كسيفٍ ذي حدين.
- “ومن ليس له، فليبع ثوبه ويشترِ سيفًا” [36].
لماذا تأمرني يا رب بهذا الشراء، بينما تمنعني من الضرب (مت 26: 52)؟
لماذا تأمرني باقتناء ما تمنعني عن إخراجه من غمده، حتى ولو للدفاع عن النفس؟!
كان الرب قادرًا على الانتقام، لكنه فضل أن يُذبح! يوجد أيضًا السيف الروحي الذي يجعلك تبيع ميراثك لتشتري الكلمة التي تكتسي بها أعماق الروح.
يوجد أيضًا سيف الألم الذي به تخلع الجسد لتشتري بنفايات جسدك المذبوح إكليل الاستشهاد المقدس…
ربما يقصد بالسيفين العهد القديم والعهد الجديد، اللذين بهما نتسلح ضد مكائد إبليس (أف 6: 11)، لذا قال الرب “يكفي” حتى نفهم أن التعلم الوارد في العهدين ليس فيهما نقص[34].
القديس أمبروسيوس
هذا ويرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن هذين السيفين لم يكونا سوى سكينين كبيرين كانا مع بطرس ويوحنا، اُستخدمتا في إعداد الفصح (إن كان قد قُدم يوم خميس العهد).
ثالثًا: يلاحظ أن السيد المسيح يحدث التلاميذ عن الجهاد الروحي حالاً بعد مناقشتهم بخصوص أحاديثهم عمن يحتل المركز الأول، وكأنه يريد أن يوجههم إلى الجهاد عوض الانشغال بالكرامات الزمنية. كأنه يقول لهم أنه ليس وقت لطلب المجد، وإنما للصراع ضد عدو الخير، والجهاد لحساب الملكوت، وكما يقول القديس يوحنا كاسيان إننا الآن في وادي الدموع الذي يعبر بنا إلى الأمجاد الأبدية.
- بينما كانوا يتشاحنون فيما بينهم من يكون الأكبر، قال لهم: أنه ليس وقت الكرامات إنما هو وقت الخطر والذبح. انظروا، أنا سيدكم أُقاد للموت البشع، مُحتقرًا من العصاة!
الأب ثيؤفلاكتيوس
رابعًا: إذ حلّ وقت آلامه وصلبه، تحدث عن السيف لكي يهيئ أذهانهم لما سيحل به من أتعاب، فلا تكون مفاجئة لهم.
خامسًا: بلا شك وجود سيفين في أيدي أثنى عشر صيادًا لا يساويان شيئًا أمام جماهير اليهود وجنود الرومان القادمين للقبض عليه، خاصة إن كان السيفان مجرد سكينتين، حتى إن كانا سيفين حقيقيين فإن هؤلاء الصيادين بلا خبرة في استخدام السيوف، لهذا يرى البعض أن كلمة السيد المسيح “يكفي” إنما ترجمة للكلمة العبرية “دَييّر” التي كان معلمو اليهود يستخدمونها ليسكتوا بها جهالة بعض تلاميذهم. وكأن السيد المسيح أراد أن يسكت تلاميذه الذين انصرفت أفكارهم إلى السيف المادي لا سيف الروح.
- صلاته على جبل الزيتون
إذ أسس السيد المسيح سرّ الإفخارستيا، مقدمًا جسده ودمه المبذولين سرّ حياة لمؤمنيه قدم لتلاميذه حديثًا وداعيًا جاء في شيء من التفصيل في الإِنجيل بحسب معلمنا يوحنا (ص 14-16) وأيضًا صلاته الوداعية مع الآب (ص 18)، ثم انطلق مع تلاميذه إلى بستان جثسيماني بوادي قدرون، يبعد حوالي نصف ميل عن أورشليم.
في هذا البستان، الذي على ما يُظن أنه ملك القديس مرقس الرسول، كثيرًا ما اجتمع السيد المسيح مع تلاميذه (يو 18: 2)، لكن أحدًا من الإنجيليين لم يخبرنا عن تفاصيل هذه اللقاءات ولا ذكرياتها أو المواضيع التي دار الحديث عنها، إنما ركز الكل على الاجتماع الأخير الفريد قبيل القبض على السيد المسيح.
لقد سحب هذا البستان بأحداثه الأخيرة في ليلة الجمعة الكبيرة قلوب الكثير من آباء الكنيسة ليروا فيه مقدسًا إلهيًا، يتحقق فيه، لا عمل تاريخي فريد، وإنما عمل إلهي فائق للفكر البشري، إذ فيه التقى الابن بأبيه الذي لا ينفصل عنه، ليحمل كأس الألم، ويعلن قبوله الصليب ويمارسه بالحق، حانيًا رأسه وكتفيه ليرفع عنا ثقل خطايانا، فيردنا لا إلى جنة عدن بل إلى الفردوس السماوي.
دخل السيد المسيح البستان في هذه المرة الأخيرة كما إلى هيكله المقدس ليترك ثمانية من تلاميذه كما في الدار الخارجية، ويدخل بثلاثة إلى القدس، وأخيرًا ينطلق بمفرده ليجثو في قدس الأقداس كرئيس كهنة أعظم يقدم ذبيحة فريدة عن العالم، يقدم حياته مبذولة طاعة للآب وحبًا للبشرية.
وإنني أرجو في الرب أن أترك الحديث عن هذا البستان في هذه اللحظات العجيبة إلى دراستنا في إنجيل يوحنا إن أذن الرب وعشنا، مكتفيًا هنا بما ورد في إنجيل معلمنا لوقا البشير مع تقديم بعض التعليقات البسيطة:
أولاً: يقول الإنجيلي: “وخرج ومضى كالعادة إلى جبل الزيتون، وتبعه أيضًا تلاميذه، ولما صار إلى المكان قال لهم: صلوا لكي لا تدخلوا في تجربة” [39-40].
كلمة “جثسيماني” آرامية تعني “معصرة زيت”. وكأن السيد قد دخل المعصرة بإرادته ليجتازها من أجلنا. حقًا لقد تبعه تلاميذه، لكن بقي ثمانية في موضع بعيد وثلاثة يقتربون إليه، إنما لا يجسر أحد، ولا يقدر أحد أن يحتمل لحظات قبول السيد الكأس من يدي الآب، وحمله صليبه كفارة عنا، إذ يقول: “قد دست المعصرة وحدي ومن الشعوب لم يكن معي أحد” (إش 63: 3).
نستطيع بنعمته أن ندخل معه وبه إلى جثسيماني، وندخل المعصرة، كل قدر قامته الروحية أما مع الثمانية تلاميذ أو الثلاثة، أما العمل الكفاري فمن اختصاص السيد وحده. نحن بالحب نصلب معه ونشاركه آلامه ونقبل الدفن معه لنقوم معه، لكن يبقى الصليب في جوهره كعمل مصالحة بين الآب والبشرية من اختصاص المسيّا وحده.
هذا والعجيب أن السيد المسيح إذ قدم سرّ الفصح الجديد أخذ تلاميذه إلى البستان، وهناك حذرهم: “صلّوا لكي لا تدخلوا في تجربة” فإن كان الفصح الجديد يعطي سلامًا داخليًا وبهجة قلب، لكنه يجعلنا بالأكثر في موضع عداوة بالنسبة لعدو الخير، فيبذل الشيطان كل طاقاته ليدخل بنا في تجربة ويحطم شركتنا مع الله وثبوتنا في المسيح يسوع ربنا. بمعنى آخر بعد التناول يريدنا السيد ألا ننام ونستكين، بل ننطلق معه إلى المعصرة لنسهر ونصلي، لكي ننال الغلبة والنصرة على هجمات العدو التي تتزايد ضدنا بتمتعنا بهذا السرّ.
ثانيًا: “وانفصل عنهم نحو رمية حجر وجثا على ركبتيه وصلّى” [41]. وكأنه قد ترك الثمانية عند مدخل البستان والثلاثة في داخله، لكنه انطلق بعيدًا عنهم نحو رمية حجر كمن يدخل قدس الأقداس، لكي بصليبه يمزق الحجاب الحاجز، ويفتح الأبواب الدهرية لمؤمنيه.
لماذا جثا على ركبتيه وصلّى؟ أولا، ليؤكد لنا ناسوتيته، فقد صار إنسانًا بحقٍ، وليس كما ادعى بعض الغنوسيين أنه حمل جسدًا خياليًا غير مادي. لقد شاركنا ناسوتيتنا، ودخل معنا في بوتقة الألم ليس مثلنا بسبب خطية ارتكبها، وإنما من أجل حبه لنا. كان متألما، لكنه في آلامه كان فريدًا، لأنه بلا خطية وحده. من هذا الجانب ومن جانب آخر أراد أن يعلمنا عمليًا ألا نكف عن الصلاة، خاصة وقت الضيق.
أما انفصاله “نحو رمية حجر” فكما يقول القديس أغسطينوس أن “الحجر” هنا يذكرنا بالشريعة الموسوية التي نُقشت على حجر، فقد انفصل بهذا المقدار ليعلن أن غاية الشريعة هي السير نحو المسيح الذي ليس ببعيدٍ عنهم، لكن كان يمكنهم خلال ما ورد في الناموس أن يتعرفوا عليه ويقبلوه في حياتهم.
هذا ويرى القديس غريغوريوس أسقف نيصص أن السيد جثا على ركبتيه وصلى بمفرده دون التلاميذ، لأنه لم يكن ممكنًا لهم أن يشاركوه هذه اللحظات التي حمل فيها ضعفنا، وشفع عنّا بدمه لدي الآب. وكأن عمله هذا كان فريدًا في نوعه.
ثالثًا: “وصلى قائلاً: يا أبتاه إن شئت أن تجيز عني هذه الكأس، ولكن لتكن لا إرادتي بل إرادتك” [42]. سبق لنا ترجمة مقال للقديس يوحنا الذهبي الفم ونشره في كتاب “الحب الإلهي” يفسر هذه الصلاة، لذا أكتفي هنا بتعليقات خفيفة لبعض الآباء في هذا الأمر:
أ. يرى بعض الآباء أن تعبير “تجيز” أو “تعبر عني“، لا تعني امتناع السيد عن قبول الكأس، إنما يعلن أن كأس الألم تجتاز به أو تعبر دون أن يكون لها سلطان عليه. هكذا يليق بنا أن نطلب من الله أنه وإن سمح لنا بكأس الآلام، لكننا نطلب ألا يحطمنا الألم، ولا يحني نفوسنا بالضيق والتبرم، إنما يجتاز الألم كأمرٍ عابرٍ مؤقت يزكينا ويكلننا!
- العبارة “لتعبر هذه الكأس” لا تعني أنها لا تقترب منه، فإنه ما كان يمكن للكأس أن تعبر به أو تجتازه ما لم تقترب منه أولاً… فإنها إن لم تصل إليه لا تعبر عنه.
القديس ديونسيوس السكندري
ب. يرى القديس أمبروسيوس أن ما حدث يؤكد أن السيد المسيح حمل جسدًا حقيقيًا، وأنه جاء نيابة عن البشرية يحقق إرادة الآب[35].
جوهر هذه الصلاة هو تصحيح السيد المسيح لوضعنا، فعوض العصيان الذي مارسه آدم الأول ويعيشه البشر، جاء آدم الثاني، نائبنا ليصحح موقفنا بتسليم الإرادة للآب، مع أن إرادته واحدة مع أبيه. وكما يقول القديس ديونسيوس السكندري: [إذ صار إنسانًا حمل ما هو للإنسان… وها هو يسأل الأمور الخاصة بالآب (إرادة الآب) مع أنه من جهة لاهوته إرادته واحدة مع الآب… بالتأكيد لم يطلب المخلص ما هو مستحيل ولا ما هو ليس بعملي، ولا ما هو مخالف لإرادة الآب.] ويقول القديس أمبروسيوس: [لا توجد إرادة للآب تختلف عن إرادة الابن، بل لهما مشيئة واحدة، لاهوت واحد، ومع ذلك تعلم الخضوع لله[36].] ويقول القديس أغسطينوس: [أنه قادر أن يحضر جيوش من الملائكة ليهلك أعداءه، لكنه كان يجب أن يشرب الكأس التي يريد الآب أن يقدمها له. بهذا يقدم نفسه مثالاً لشرب هذه الكأس، مسلمًا إياها لتابعيه معلنًا نعمة الصبر بالكلمات كما بالعمل[37].]
يشجعنا القديس يوحنا الذهبي الفم على الإقتداء بالسيد المسيح، قائلاً: [إن سقطت في خوفٍ، فانطق بما قاله هو[38].]
رابعًا: “وظهر له ملاك من السماء يقويه” [43]. لم يكن السيد المسيح محتاجًا إلى ملاك يقويه، لكنه كممثل للبشرية حمل صورة ضعفنا، فقبل حضرة ملاك من السماء يخدمه. ما حدث للسيد كان لحسابنا نحن الذين نحتاج إلى الملائكة الذين يخدمون “العتيدين أن يرثوا الخلاص” (عب 1: 14).
- لكي يظهر لنا قوة الصلاة فنمارسها أثناء صراعنا، ظهر ملاك لربنا ليقويه.
الأب ثيؤفلاكتيوس
يرى البعض أن ملاكًا ظهر ليمجده، قائلاً له: “لك القوة يا رب، فإنك قادر أن تغلب الموت وتخلص البشرية الضعيفة. هذا ما قاله الأب ثيؤفلاكتيوس، ولعله لهذا السبب جعلت الكنيسة تسبحتها طوال أسبوع الآلام تحمل ذات الروح، إذ تردد: “لك القوة والمجد والبركة والعز إلى الأبد، آمين…”
خامسًا: “وإذ كان في جهاد كان يصلّي بأشد لجاجة، وصار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض، ثم قام من الصلاة، وجاء إلى تلاميذه، فوجدهم نيامًا من الحزن فقال لهم: لماذا أنتم نيام؟ قوموا وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة” [44-46]. هذا وصف يسجله لوقا البشير بلغة الطب: “كان في جهاد“، فقد دخل السيد المسيح في صراع حقيقي حتى صار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض. لقد صار هابيل الجديد الذي تتقبل الأرض دمه، لكن الأول تقبلته كثمرة حسد وحقد في قلب قايين أخيه، أما الثاني فتتقبله ثمرة حب حقيقي نحو البشرية كلها. دم هابيل يطلب النقمة من قاتله، أما دم السيد المسيح فيطلب النعمة لكل مؤمن به.
كان المعلم يصارع بحق، وكان التلاميذ في عجز غير قادرين حتى على مقاومة النوم، لذا جاء السيد يعاتبهم ويوصيهم بالسهر مع الصلاة حتى لا يدخلوا في تجربة.
- لقد حمل في نفسه آلامي، لكي يمنحني فرحه!
بثقة اذكر حزنه، إذ أكرز بصليبه،
كان يلزم أن يحمل الأحزان لكي يغلب…
لقد أراد لنا أن نتعلم كيف نغلب الموت، بالأكثر نحطم الموت القادم (الأبدي).
لقد تألمت أيها الرب لا بآلامك، وإنما بآلامي، إذ جُرح لأجل معاصينا…
ليس بعيدًا عن الحق أنه قد تألم من أجل مضطهديه، إذ يعرف أنهم يعانون العقوبة من أجل تدنيسهم للمقدسات.
القديس أمبروسيوس
- كان العرق يتصبب كالدم وربنا يصلي، ممثلاً الاستشهاد الذي يحل بكل جسده، أي الكنيسة.
القديس أغسطينوس
- فاضت قطرات العرق منه بطريقة عجيبة كقطرات دم، كما لو أنه استنزف دمه، مفرغًا ينبوع الخوف اللائق بطبيعتنا.
- (لئلا تدخلوا في تجربة)
من يثبت في التجربة ويحتملها، فمثل هذا وإن كان بالحقيقة يُجرب لكنه لا يدخل في تجربة، ولا يسقط تحتها. هكذا اقتاد الروح يسوع لا ليدخل في تجربةk وإنما لكي يجربه الشيطان (مت 4: 1). وإبراهيم أيضًا لم يدخل في تجربة، ولا قادة الله في تجربة إنما جربه (امتحنه) دون أن يسحبه في التجربة (أي تحتها)…
الشيطان يسحبنا بالقوة لكي يهلكنا، لكن الله يقودنا بيده ليدربنا على خلاصنا.
القديس ديونيسيوس السكندري
- تسليمه
“وبينما هو يتكلم إذا جمع
والذي يُدعى يهوذا واحد من الإثنى عشر يتقدمهم،
فدنا من يسوع ليقبله.
فقال له يسوع: يا يهوذا، أبقبلة تسلم ابن الإنسان؟
فلما رأى الذين حوله ما يكون، قالوا يا رب، أنضرب بالسيف؟
وضرب واحد منهم عبد رئيس الكهنة فقطع أذنه اليمنى.
فأجاب يسوع وقال: دعوا إلىّ هذا، ولمس أذنه وأبرأها” [47-51].
أولاً: جاء الجمع يضم رؤساء الكهنة وقواد جنود الهيكل ومعهم بعض جند الرومان والشيوخ (يو 18: 12) تحت قيادة يهوذا. حمل قادة اليهود سلاح الكراهية والبغضة في قلوبهم، وأمسك الجند بالسيوف والعصي، أما يهوذا فتقدم بقبلة من شفتيه كانت أكثر مرارة من كل الأسلحة، قبلة غاشة من تلميذ نحو معلمه! كان يهوذا بشعًا في خطئه، فمن جانب قدم القبلة علامة الحب والولاء علامة للتسليم، قدمها في عيد الفصح حيث كان يليق به أن يكون ورعًا وتقيًا يخشى حرمة أعظم عيد يهودي، قدمها في البستان وهو يعلم أنه موضع الصلاة بالنسبة لمعلمه. انتهك التلميذ كل المقدسات، انتهك حرمة التلمذة، وحرمة العيد، وحرمة الصلاة، وبلا ثمن، إذ طلب منهم ثمن عبد!
يقول داود النبي على لسان السيد المسيح الذي خانه تلميذه: “لأنه ليس عدو يعيرني فأحتمل، ليس مبغضي تعظّم علىّ فأختبئ منه، بل أنت إنسان عديلي، ألفي وصديقي الذي معه كانت تحلو لنا العشرة” (مز 55: 12-14).
- لم يكف يهوذا عن خيانته مع أن المسيح حذره بكل وسيلة (إذ قال له في اللحظات الأخيرة: يا يهوذا أبقبلة تسلم ابن الإنسان؟)
القديس يوحنا الذهبي الفم
- لم يقل له: “أيها الفظ”، مع أنه هو خائن فظ حقًا، هل هذا هو ما تقدمه مقابل اللطف العظيم؟ إنما في بساطة قال: “يا يهوذا”، مستخدمًا الاسم اللائق واللقب اللطيف، إذ لا ينطق بغضب، إنما يريده أن يراجع نفسه.
لم يقل له: “تسلم سيدك أو ربك أو من له الفضل عليك”، إنما في بساطة قال “تسلم ابن الإنسان”، أي تسلم ذاك اللطيف الوديع. كأنه يقول له: افترض إنني لست سيدك ولا ربك ولا من له الفضل عليك، أتسلم شخصًا بريئًا ولطيفا معك، فتقبله في ساعة خيانتك له، وتجعل من القبلة علامة الخيانة؟
مبارك أنت يا رب! يا لك من مثال عظيم في احتمال الشر، أظهرته لنا في شخصك! يا لعظم مثال تواضعك! لقد أعطانا الرب هذا المثال مظهرًا لنا أنه يجب ألا نكف عن تقديم المشورة الصالحة لإخوتنا، حتى وإن بدت كلماتنا بلا نفع نهائيًا.
القديس يوحنا الذهبي الفم
- يليق بنا ألا نكف عن نصح إخوتنا حتى وإن بدت نصائحنا بلا ثمر، فإن مجاري المياه تفيض حتى وإن لم يشرب منها أحد؛ ومن لا يسمع اليوم ربما يتعظ غدًا. الصياد قد تبقى شباكه فارغة طول اليوم، وفي اللحظات الأخيرة يصطاد سمكة. هكذا ربنا مع معرفته أن يهوذا لا يرجع لكنه لم يكف عن تقديم نصائح له[39].
القديس يوحنا الذهبي الفم
ثانيًا: “القبلة” علامة الحب والصداقة والشوق، استخدمها يهوذا لتسليم سيده، فصارت بالنسبة له علامة الخيانة والجحود. لهذا يوصينا الآباء ألا نحمل في سلوكنا علامات لطيفة ورقيقة تخفي قلبًا قاسيًا وعنيفًا، إنما ليحمل الخارج انعكاسًا حقيقيًا للأعماق الداخلية… من أمثلة ذلك الصمت الظاهري كعلامة للصفح أو الاحتمال بينما الأعماق تغلي كراهية، أو الصمت الخارجي لا رغبة في اللطف وإنما كنوع من الإِغاظة…
- باطلاً نلجم ألسنتنا، إن كان صمتنا يقوم بنفس الدور الذي يقوم به الصراخ[40].
الأب يوسف
ثالثًا: إذ رأى التلاميذ هذا الهياج العام ضد سيدهم البريء، قالوا في غيرة بشرية خاطئة: “يا رب أنضرب بالسيف؟” [48]. كان ذلك على لسان بطرس، فجاءت الإِجابة واضحة وصريحة: “ردّ سيفك إلى مكانه، لأن كل الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون، أتظن إني لا أستطيع الآن أن أطلب إلى أبي فيقدم لي أكثر من أثنى عشر جيشًا، فكيف تكمل الكتب أنه هكذا ينبغي أن يكون؟!” (مت 26: 53-54)، “الكأس التي أعطاني الآب ألا أشربها؟!” (يو 18: 11).
رابعًا: لم ينتظر بطرس إجابة السيد حين سأله: “يا رب أنضرب بالسيف؟” وربما لم يسمع الإِجابة إذ كان قد أُمتص كل فكره بالمنظر المثير، أو لعله كان لم يستيقظ تمامًا. فضرب “ملخس” عبد رئيس الكهنة وقطع أذنه اليمنى.
خامسًا: السيد المسيح بطبيعته صالح ولطيف، لا يكف عن عمل الخير حتى في لحظات الضيق. بينما كان المضطهدون يظهرون كل كراهية وبغضة اهتم السيد المسيح أن يشفي جراحات هذا العبد القادم بثورة ليقتله. يعلق القديس أغسطينوس على شفاء أذن هذا العبد “ملخس”، قائلاً: [“ملخس” تعني “الذي يعين ليملك”. إذن، ماذا تعني الأذن التي قُطعت من أجل الرب وقام الرب بإبرائها، إلا تجديد السمع الذي يُقطع عنه، قدمه لكي يصير في جدة الرب لا في قدم الحرف؟ من يستطيع أن يشك في أن هذا الذي يتمتع بهذا الأمر بالمسيح يُعاق لكي يملك معه؟![41]]
لماذا قطعت الأذن اليمنى للعبد، وقام الرب بشفائها؟ يشير العبد للأمة اليهودية التي كانت في مركز العبودية، لم تنعم بعد بالبنوة لله. هذه الأمة أُعطيت لها الأذن اليمنى لكي تسمع الصوت الإلهي الروحي خلال الناموس، لأنه إن كانت الأذن اليسرى تعني السماع المادي، فاليمنى تعني الروحي. كان يلزمهم أن ينصتوا للناموس روحيًا بختان القلب والأذن، لكن بقسوة قلوبهم فسدت آذانهم إذ كانت غرلة غير مختونة روحيًا. لقد سمح السيد بقطع الغرلة لكي يموت السمع الحرفي، وتختن الأذن الداخلية فتسمع صوت الرب.
سادسًا: كما اهتم السيد المسيح بمحبته أن يعاتب يهوذا في اللحظات الأخيرة قبيل تسليمه لعله يرجع ويتوب، دون أن يجرح مشاعره بكلمة قاسية أو عنيفة، اهتم أيضًا بتلميذه بطرس فسأله ألا يضرب بسيفٍ ماديٍ، كما اهتم أيضًا بملخس عبد رئيس الكهنة فشفى أذنه اليمنى كي يسمع الصوت الإلهي. الآن يعلن أيضًا اهتمامه بالثائرين ضده، معاتبًا إيّاهم لأجل خلاصهم، إذ يقول الإنجيلي: “ثم قال يسوع لرؤساء الكهنة وقواد جند الهيكل والشيوخ المقبلين عليه: كأنه على لص خرجتم بسيوف وعصى. إذ كنت معكم كل يوم في الهيكل لم تمدوا عليّ الأيادي، ولكن هذه ساعتكم وسلطان الظلمة” [52-53].
إنه يعاتبهم لأنهم جاءوا إليه ليلاً… ليمارسوا أعمال الظلمة والشر، منقادين بإبليس “سلطان الظلمة”، مع أنه كان يليق بهم أن يكونوا أبناء النور وأبناء النهار يلتقون به في الهيكل ليتمتعوا بأشعة برِّه واشراقات محبته. لقد دعي هذا العمل “ساعة“، لأن أعمال الظلمة مهما امتدت فهي إلى حين وتنتهي. سُمح لهم أن يمارسوا أعمال الظلمة لكن إلى حين!
[راجع أقوال الآباء خاصة القديسين كيرلس الكبير وأمبروسيوس في تفسيرنا مت 26: 47 الخ؛ مر 14: 43 الخ.
- محاكمته دينيًا في بيت رئيس الكهنة
سبق لنا عرض أقوال الآباء في محاكمة السيد المسيح الدينية أثناء تفسير مت 26: 57 الخ؛ مر 14: 66) الخ.
لقد أُقتيد أولاً إلى حنان حما قيافا رئيس الكهنة، ومن هناك اُقتيد إلى قيافا، ليمزق رئيس الكهنة ثيابه فيتنبأ وهو لا يدري تمزيق الكهنوت اللاوي وإبطاله (مت 26: 63). هناك وُجه إليه اتهامان أنه قال بأنه ينقض الهيكل وفي ثلاثة أيام يبني آخر غير مصنوع بأيدٍ، والثاني إنه مجدف. كان لابد أن يحاكم أمام خاصته ليرفضوه، فيُفتح باب الخلاص للأمم.
- إنكار بطرس له
سبق لنا الحديث عن إنكار بطرس (مت 26: 57 الخ؛ مر 14: 48 الخ)، حيث رأينا أن بطرس “تبعه من بعيد” [54]، بهذا أنكر، ولما اقترب منه لم ينكر. إذ جلس بطرس يستدفئ بالنار بين العبيد والجواري فقد حرارة الروح الداخلي. وأخيرًا تاب وندم إذ “التفت الرب ونظر إلى بطرس” [68]. بمعنى آخر يليق بنا لكي لا ننكر الرب أن نقترب منه ولا نتبعه من بعيد. وأن نطلب حرارة الروح الداخلي لا دفئ العالم الكاذب. وأن نطلب من الرب أن يلتفت إلينا بعين رحمته وينظر، فيلهب قلبنا بالتوبة ويهب عيوننا دموعًا صادقة مقبولة لدى الله.
- كانت هذه التجربة بحق درسًا لخلاصنا، فنتعلم أننا إذا استهنا بضعف جسدنا نُجرب. إن كان بطرس قد جُرب فمن منا يمكنه أن ينتفخ؟… لقد أخبرنا عن بطرس الذي جُرب لكي نتعلم منه كيف نقاوم التجارب، وإننا وإن كنا نجرب لكن يمكننا أن نغلب شوكة التجارب بدموع الصبر[42].
القديس أمبروسيوس
ماذا يعني “فالتفت الرب ونظر إلى بطرس” [61]، سوى أنه قد أعاد إليه الوجه الذي حوله عنه منذ قليل؟! لقد صار مضطربًا لكنه تعلم ألا يثق في ذاته فكان هذا نافعًا له.
- لا يمكن أن يقال أنه التفت إليه (تحوّل إليه) ونظره بعينيه الجسديتين… بل تحقق هذا داخليًا؛ تمّ في الذهن، في عمل الإرادة. اقتربت إليه مراحم المسيح بصمت وسريةَ، ولمست قلبه، وذكرّته بالماضي. افتقد الرب بطرس بنعمته الداخلية، وأثار فيه دموع مشاعر الإنسان الداخلي عاملاً فيه.
أنظر بأية وسيلة الله حاضر بمعونته ليعمل في إرادتنا وأعمالنا، انظر كيف يعمل فينا أن نريد وأن نعمل![43]
القديس أغسطينوس
- كان في عوز إلى أن يذّكره سيده، فكانت نظرته إليه عوض الصوت، فامتلأ خوفًا متزايدًا[44].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- مراحم الله ضرورية ليس فقط عندما يتوب الإنسان وإنما لكي تقتاده للتوبة… قبل أن يبكي بطرس بمرارة يخبرنا الإنجيلي أن الرب التفت ونظر إليه[45].
القديس أغسطينوس
يمكننا أيضًا أن نقول بأن بطرس الرسول إذ حدد نظرته إلى ما هو حوله، ومن هم حوله ارتجف أمام كلمات جارية وانهار، لكنه إذ نظر إلى الرب رآه يتحول إلية ليضمه بالحب فندم وتاب!
- بكى بطرس، بكى لأنه أخطأ، بكى لأنه ضلّ كإنسان، بكى دون أن يعتذر، لأن الدموع تغسل ما تخجل أن ننطق به بأفواهنا…
الدموع تعترف بالجرم دون أن تؤذي الحياء.
الدموع لا تسأل الغفران لكنها تناله[46].
القديس أمبروسيوس
- جلده والاستهزاء به
“والرجال الذين كانوا ضابطين يسوع كانوا يستهزئون به وهم يجلدونه.
وغطّوه وكانوا يضربون وجهه ويسألونه، قائلين:
تنبأ، من هو الذي ضربك؟
وأشياء أخر كثيرة كانوا يقولون عليه مجدّفين” [63-65].
- احتمل يسوع، رب السماء والأرض سخرية الأشرار مقدمًا لنا نفسه مثالاً للصبر.
القديس يوحنا الذهبي الفم
- محاكمته في المجمع
“ولما كان النهار اجتمعت مشيخة الشعب رؤساء الكهنة والكتبة،
وأصعدوه إلى مجمعهم.
قائلين: إن كنت أنت المسيح فقل لنا.
فقال لهم: إن قلت لكم لا تصدقون.
وإن سألت لا تجيبونني ولا تطلقونني.
منذ الآن يكون ابن الإنسان جالسًا عن يمين قوة الله.
فقال الجميع: أفأنت ابن الله؟
فقال لهم: أنتم تقولون إني أنا هو.
فقالوا: ما حاجتنا بعد إلى شهادة؟!
لأننا نحن سمعنا من فمه” [66-71].
يقول الأب ثيؤفلاكتيوس أن السيد المسيح كان يعلم أن الذين لم يصدقوا أعماله لن يصدقوا كلماته.
لقد سبق فأعلن عن نفسه أن المسيح، “واحد مع الآب” (يو 10: 30)، وأوضح أنه ابن داود وربه. لكنهم كانوا يريدون فرصة للحكم عليه لا لإدراك الحق، ومع هذا أعطاهم السيد المسيح فرصة للتوبة، معلنًا لهم الحق، حتى لا يكون لهم عذر فيما يرتكبوه ضده.
[1] Catena Aurea.
[2] In Matt. Hom.79.
[3] In Luc hom 140.
[4] Ser . on N.T. 62: 2.
[5] In Matt hom 80.
[6] In Luc hom 140.
[7] In Matt 26،18.
[8] In Matt hom 81: 3،82: 1.
[9] Catena Aurea.
[10] Catena Aurea.
[11] قدم جريجوري دكس في كتابه “شكل الليتورجيا” أمثلة من العهدين القديم والجديد تؤكد ذلك p. 161.) (Dix
[12] Jean Danielou: The Bible& The LiTurgy، p136-7.
[13] Ep. Ad Sym.6: 2.
[14] Adv. Hear 5: 2: 3.
[15] Orat. de Bapt. Christ.
[16] In Luc hom 142.
[17] In Loan hom 46.
[18] Catena Aurea.
[19] In Matt . hom 82.
[20] In Matt . hom 65.
[21] In Reg. Fus. Dis. Int 30، 31.
[22] إسحق السرياني: نسكيات، منشورات النور 1983، ص77،70-79.
[23] In Luc hom 143.
[24] On Prayer 139.
[25] On Rebuke & Grace 10.
[26] In loan . 53: 8.
[27] Ser. On N.T. Lessons 87: 3.، In loan. Tr 11: 2.
[28] In loan. Hom 73: 1.
[29] In Luc hom 144.
[30] In Luc hom 144.
[31] On Rebuke & Grace 16.
[32] Grace & Freewill 9.
[33] In Luc hom 144.
[34] In Luc 22: 14-38.
[35] Of Christian Faith 5.
[36] In Luc 22: 39: 53.
[37] Reply to Faustus 22: 76.
[38] In Matt . hom 78: 4.
[39] Conc. Lazer.1.
[40] Cassian: Conf. 16: 18.
[41] In Loan 112: 5.
[42] On Belief of Resur. 2: 27.
[43] On Rebbuke & Grace 24; On the Grace of Christ 1: 49.
[44] In Matt. Hom 85: 1.
[45] Enchiridion 82.
[46] In Luc 22: 54-62.