تفسير انجيل لوقا 19 الأصحاح التاسع عشر – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير انجيل لوقا 19 الأصحاح التاسع عشر - القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير انجيل لوقا 19 الأصحاح التاسع عشر – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير انجيل لوقا 19 الأصحاح التاسع عشر – القمص تادرس يعقوب ملطي
الباب الرابع
صديقنَا المخلص
الأصحاح التاسع عشر
صديقنا في أورشليم
جاءت قصة استضافة زكا العشار للسيد المسيح في بيته تكمل قصة شفاء عيني الأعمى، فإن كان تفتيح العينين إنما يشير إلى حاجة البشرية للتمتع بالبصيرة الروحية الداخلية حتى تقدر أن تتابع رحلته الخلاصية، فتدخل معه إلى أورشليم وتقبل صليبه وتنعم بقيامته. فإن استضافة زكا له تشير إلى رغبة الرب فينا لا أن نعاينه فحسب ونتبعه أينما وُجد، وإنما نفتح قلوبنا ليدخل فيها كما إلى بيته أو إلى أورشليمه ويعلن خلاصه فينا. يعود الإنجيلي فيقدم لنا مثَلْ العشرة أمناء ليعلن السيد أنه وإن كان يود أن يدخل كل بيت حتى بيوت العشارين والخطاة لكنه يطلب القلوب الأمينة، يود أن نحمل سمته “الأمانة” ليهبنا ميراثًا أعظم وسلطانًا ومملكة على مستوى أبدي. يعطي لواحد عشر مدن ولآخر خمس الخ.
هكذا يود صديقنا أن يفتح بصيرتنا لكي نفتح بيوتنا الداخلية مع زكا فيملك فينا، ونملك نحن به وننعم بمواضعه السماوية. هذا هو غاية دخول صديقنا السماوي إلى أورشليم بل وغاية كل أعماله الخلاصية.
- إضافة زكا للسيد 1-10.
- مثل العشرة أمناء 11-27.
- تقدمه نحو أورشليم 28-40.
- بكاؤه على أورشليم 41-44.
- تطهير الهيكل 45-46.
- تعليمه في الهيكل 47-48.
- إضافة زكا للسيد
قلنا أن تفتيح عيني الأعمى يمثل تفتيح البصيرة الداخلية، للتمتع بإدراك عمل الله الخلاصي، الذي كان الرب مزمعًا أن يتممه بدخوله أورشليم، بينما استضافة زكا للسيد المسيح ترمز إلى انفتاح البيت الداخلي لسكنى الرب فيه، فيصير أورشليمه الداخلية التي يدخلها كما بموكب سماوي ليعلن أمجاد صليبه فيها.
يمكننا أن نقدم المقارنة التالية بين تفتيح عيني الأعمى واستضافة زكا للسيد المسيح:
أولاً: التقى الأعمى بالسيد وكان جالسًا على الطريق يستعطي ( لو 18: 35)، أما زكا فالتقى به داخل المدينة وكان صاعدًا على جميزة [4]، وقد تمتع الاثنان بنعمة الرب، لكن كما يقول القديس أمبروسيوس: [الرب ينتظر الأول ليرحمه، أما الثاني فيمنحه مجدًا عظيمًا بحلوله في بيته. واحد يسأله لكي يشفيه، أما الآخر فالرب يدعو نفسه عنده دون أن يسمع كلمة دعوة إذ عرف ما في قلبه[1].]
من هو هذا الذي في الطريق يستجدي تفتيح عينيه إلا كل إنسان لم يختبر داخليًا نعمة الله لكنه آمن خلال السمع فانطلق كما في الطريق يطلب نعمة الاستنارة، فيفتح الرب بصيرته ليقوده إلى مراعي كنيسته المقدسة. أما زكا الصاعد على الشجرة فيمثل كل إنسان التحم بالكنيسة “شجرة الجميز” روحيًا، أو ارتفع بالروح القدس إلى خشبة الصليب يشارك الرب آلامه فينعم بسكنى الرب في بيته الداخلي.
ثانيًا: ترك السيد المسيح الأعمى يصرخ بل ويقول الإنجيلي: “أما هو فصرخ أكثر كثيرًا” (لو 18: 39)، بينما لم ينتظر من زكا كلمة واحدة تخرج من فيه، إنما استضاف الرب نفسه في بيته. لماذا؟ ربما يشير الأول إلى الحياة العاملة المجاهدة التي خلال الحب تصرخ بلا انقطاع فيفتح الرب العينين لمعاينة ملكوته، بينما يشير الثاني إلى الحياة المتأملة المجاهدة أيضًا خلال عشق إلهي أعمق، المرتفعة بالروح القدس إلى الصليب لترى كما خلال شجرة الجميز عريسها يناجيها طالبًا الحلول فيها بلا انقطاع، يدخل قلبها ويحل في أعماقها وتدخل هي حجاله وتتذوق أسرار حبه الإلهي غير المنطوق به.
لست بهذا أعني ثنائية في مجتمع الكنيسة تنقسم إلى جماعة العاملين وأخرى المتأملين، إنما وإن كان لكل إنسان موهبته الخاصة التي يميزه بها الروح لكن يليق بالمؤمن في عمله الروحي الحق أن يحيا متأملاً أسرار الله، وفي تأمله الحق أن يبقى عاملاً مجاهدًا حتى النفس الأخير. إنها حياة واحدة “في المسيح يسوع ربنا”، خلالها نحيا عاملين بروحه، مرتفعين كما بأجنحته، للتمتع بشركة أسراره. بمعنى آخر ليتقدم كل منها صارخًا مع الأعمى بلا انقطاع، وصاعدًا مع زكا على شجرة الجميز، فتنفتح بصيرتنا وننعم بشركته وسكناه الدائم فينا.
ثالثًا: لعل هذا الأعمى الجالس على الطريق يستعطي يمثل أعضاء الكنيسة الذين جاءوا من أصل يهودي، فقد كانوا كمن على الطريق، عرفوا خلال الرموز والظلال والنبوات شخص المسّيا وعمله الخلاصي. هؤلاء كانوا تحت الناموس كمن هم عميان وجياع، غير قادرين على معاينة الأسرار الإلهية، فقراء يستعطون، إذ يعجز الناموس عن أن يرفعهم إلى الأحضان الإلهية ليروا ويشبعوا، وإنما قادهم في الطريق إلى المخلص ليفتح بصيرتهم ويعاينوه، بكونه الحق المفرح المشبع. أما زكا فيمثل أعضاء الكنيسة الذين جاءوا من أصل أممي، هؤلاء كانوا أشبه برئيس العشارين المنبوذ من اليهود. كانوا كمن هم قصيري القامة بلا خبرة روحية سابقة، لكنهم إذ ارتفعوا بالإيمان على خشبة الصليب مع فاديهم تمتعوا بالصوت الإلهي يناديهم ليحل في وسطهم ويقيمهم أهل بيته.
الأعمى كممثل لليهود المتنصرين سأل الجمع، “فأخبروه أن يسوع الناصري مجتاز” (لو 18: 37)، هذا الجمع هو الآباء والأنبياء الذين أشاروا إليهم عن يسوع الناصري الذي يجتاز بين الأمة اليهودية ليحقق عمله الخلاصي. أما زكا فلم يسأل، لأنه كان كغريبٍ عن الآباء والأنبياء، وإنما بالإيمان ارتفع على الصليب ليعاين السيد وسط الجموع، يراه معلنًا أيضًا بالآباء والأنبياء الذين تعرف عليهم خلال المسيّا وصليبه.
نعود إلى تفاصيل قصة لقاء زكا بالسيد المسيح كما رواها الإنجيلي لوقا:
“ثم دخل واجتاز في أريحا،
وإذا رجل اسمه زكا وهو رئيس للعشارين وكان غنيًا.
وطلب أن يرى يسوع من هو ولم يقدر من الجمع،
لأنه كان قصير القامة.
فركض متقدمًا وصعد إلى جميزة لكي يراه،
لأنه كان مزمعًا أن يمر من هناك” [1-4].
يلاحظ هنا الآتي:
أولاً: يرى البعض أن كلمة “زكا” تعني “المتبرر[2]“، لأن زكا يمثل الأمم المتنصرين الذين تبرروا بدم السيد المسيح.
ثانيًا: كان زكا رئيسًا للعشارين، وكما نعرف أن هذا العمل كان مرذولاً لدى اليهود، متطلعين إليه كعملٍ لحساب الدولة الرومانية المستعمرة يحمل رائحة الخيانة للأمة اليهودية، هذا مع ما اتسم به العشارون بصفة عامة من حب لجمع المال بروح الطمع والجشع بلا رحمة من جهة إخوتهم اليهود. على أي الأحوال استطاع كثير من الكتبة والفريسيين بحكم مراكزهم الدينية ونظرة الناس إليهم أن يلتقوا مع السيد حسب الجسد، بل ويدعوه أحيانًا لولائمهم. ولم يكن يرفض لعلهم ينسحبون من عبادتهم الشكلية إلى فكره الإلهي الروحي، لكن نادرًا ما تلاقوا معه على صعيد الروح والتمتع بفكره الإلهي. أما هذا العشار أو رئيس العشارين ففي نظر الجماهير يمثل الدنس بعينه والبعد الكامل عن كل ما هو إلهي. خلال اشتياقه القلبي الخفي أن يرى يسوع من هو، وترجمة هذا الشوق إلى عمل بسيط هو صعود شجرة الجميز ليرى من يحن إليه، يفتح أبواب الرجاء لكل نفس بشرية لتلتقي مع مخلص الخطاة. وكما يقول القديس أمبروسيوس: [قُدم لنا هنا رئيس العشارين، فمن منا ييأس بعد من نفسه وقد نال نعمة بعد حياة غاشة![3]]
حقًا لقد كانت فئة العشارين تُضم إلى الزناة (مت 21: 31)، بكونهما فئتين مرذولتين للغاية، الأولى منهمكة في طلب الغنى على حساب الآخرين، والأخرى في شهوات الجسد على حساب تقديس الجماعة. وكأن الفئتين مخربتين للجماعة. ومع هذا فقد استطاع رئيس العشارين أن يغتصب بالإيمان دخول السيد إلى بيته، بل وإلى قلبه. وكما يقول القديس كيرلس الكبير: [كان زكا رئيسًا للعشارين، قد استسلم للطمع تمامًا، غايته الوحيدة تضخيم مكاسبه، إذ كان هذا هو عمل العشارين، وقد دعي بولس الطمع عبادة أوثان (كو 3: 5)، ربما لأن هذا يناسب من ليس لهم معرفة الله (بانشغالهم بالطمع). وإذ كان العشارون يمارسون هذه الرذيلة علانية بلا خجل، لذا ضمهم الرب مع الزناة، قائلاً لرؤساء اليهود: “إن العشارين والزواني يسبقونكم إلى ملكوت الله” (مت 21: 31). لكن زكا لم يستمر في عداد العشارين، إنما تأهل للرحمة بيدي المسيح الذي يدعو البعيدين للقرب منه، ويهب نورًا للذين في الظلمة[4].]
يرى القديس جيروم أن شجرة الجميز هنا تشير إلى أعمال التوبة الصالحة حيث يطأ التائب الخطايا السابقة بقدميه، ومن خلالها ينظر إلى الرب كما من برج الفضيلة[5]. مرة أخرى يقول: [زكا الذي تغير في ساعة حُسب أهلاً أن يتقبل المسيح ضيفًا له[6].]
ثالثًا: يذكر الإنجيلي لوقا أن زكا “كان غنيًا” [2]، وقد “طلب أن يرى يسوع من هو” [3]، مترجمًا هذا الشوق الداخلي إلى عمل كلفه الكثير، إذ لم يكن سهلاً على رجل ذي مكانة كرئيس للعشارين أن يتسلق جميزة كصبيٍ، ويراه الجماهير عليها. ولعل الإنجيلي قد أراد أن يؤكد بأنه ليس كل غني شرير، وإنما كل إنسان – أيا كان مركزه أو إمكانياته أو ظروفه – يحمل في داخله الناموس الطبيعي يُسحب قلبه – إن أراد – نحو رؤية كلمة الله والتمتع به. الله لا يترك نفسه بلا شاهد في حياة الإنسان، يستطيع الغني كما الفقير إن أراد أن ينطلق نحو الرب والشركة بعمل النعمة المجانية.
يقول القديس أمبروسيوس: [ليعرف الأغنياء أن الغنى في ذاته ليس خطية بل إساءة استخدامه؛ فالأموال التي تمثل حجر العثرة بالنسبة للأشرار هي وسيلة لممارسة الفضيلة بالنسبة للصالحين… كان زكا غنيًا لنتعلم أنه ليس كل الأغنياء طماعين[7].] ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [إبراهيم كان يملك حقًا غنى للفقراء، وكل الذين ملكوا الغنى بطريقة مقدسة أنفقوه بكونه عطية الله لهم[8]]، كما يقول: [لم يمنع الرب البشر عن أن يكونوا أغنياء بل أن يكونوا عبيدًا لغناهم. يودنا أن نستخدمه كضرورة لا أن نُقام حراسًا عليه. العبد يحرس، أما السيد فينفق.]
رابعًا: إن كانت شجرة الجميز وهى ترمز للصليب الذي من خلاله يلتقي المؤمن بمسيحه ويسمع الصوت الإلهي، وينفتح بيته الداخلي لقبول السيد متجليًا فيه، فمن ناحية أخرى متكاملة مع هذا الفكر ترمز الشجرة إلى الكنيسة التي تحمل النفوس الخاطئة على كتفيها، كزكا على الشجرة أو كالخروف الضال على منكبي الراعي الصالح، لتقدمه ثمرة حب صادق لعريسها. بمعنى آخر عمل الكنيسة الرئيسي هو حمل العالم كله، ولو كان كرئيس للعشارين، تحمله على كتفيها لا لتدينه أو تجرح مشاعره وإنما لتهبه إمكانية الالتقاء مع مخلصه.
تحمله بالحب واللطف فتلهب قلبه بأكثر شوق نحو العريس السماوي. لهذا بحق قيل أن الكنيسة هي لقاء حق بين المسيح والخطاة التائبين، يجد فيها السيد لذته، إذ يراها تقدم له بالحب النفوس التي مات لأجلها، ويجد الخاطىء فيها أبواب الرجاء مفتوحة على مصراعيها على الدوام والقلوب والأذرع مستعدة بالحب أن تحمله لمخلصه.
خامسًا: لعل لقاء السيد المسيح بزكا الصاعد على شجرة الجميز يحمل رمزًا لعمل السيد المسيح الخلاصي. أقول أن شجرة الجميز هنا تشير إلى الكنيسة التي تقدم البشرية الخاطئة للمخلص. والعجيب أن المخلص يترك الجموع المحيطة به والمتهللة بالالتفاف حوله، أي يترك الطغمات الملائكية والأمجاد السماوية، مخليًا ذاته لينظر إلى الإنسان الساقط رغم شره وفساده، يلتقي معه على صعيد الروح ليعلن له أنه قد استضاف نفسه بنفسه في بيته ليقدسه، قائلاً: “ينبغي أن أمكث اليوم في بيتك… اليوم حصل خلاص لهذا البيت، إذ هو أيضًا ابن إبراهيم” [5، 9]. كأن هذا العمل يمثل سرّ التجسد الذي به دخل الرب بيتنا إذ حمل طبيعتنا، لا ليقطنها إلى حين، وإنما حملها فيه، واختفى بلاهوته خلالها ليقدس طبيعتنا أبديًا.
سادسًا: يمكننا أيضًا أن نقول بأن شجرة الجميز تشير إلى بذرة الإيمان التي تنمو داخل القلب لتصير شجرة كبيرة، يأوي في داخلها الإنسان ليرى من خلالها السيد المسيح الذي لم يره من قبل، عندئذ يتمتع بسكنى الرب فيه متخليًا عن شره.
خلال شجرة الإيمان التقى زكا بالسيد رغم المعوقات الخاصة به كقصر قامته، أو الخاصة بالظروف كتجمهر الناس حول السيد فيحجبونه عنه. بالإيمان الحيّ العملي نغلب كل ضعف فينا، ونرتفع فوق كل الظروف لنلتقي بربنا يسوع، نراه ويرانا أبرارًا فيه، نسمعه ينادينا فننصت لصوته ونتجاوب مع كلماته.
يقول القديس كيرلس الكبير:
[أراد (زكا) أن يرى يسوع لذا تسلق شجرة جميز، هكذا نمت في داخله بذرة الخلاص. وقد رأى المسيح بعيني اللاهوت (إيمان زكا)، وبرؤيته هذه نظره أيضًا خلال عينيّ الناسوت، فبسط له لطفه وشجعه، قائلاً له: “أسرع وانزل” [5].
طلب أن يراه، فعاقته الجموع، لكن لم تعقه الجموع مثلما عاقته خطاياه. لقد كان قصير القامة لا من جهة الجسد فحسب، وإنما روحيًا أيضًا.
لم يكن له طريق آخر ليراه سوى أن يصعد فوق الأرض متسلقًا شجرة جميز هذه التي كان المسيح مزمعًا أن يمر بها.
الآن تحمل هذه القصة في داخلها رمزًا، إذ لا يمكن لإنسان أن يرى المسيح ويؤمن به ما لم يصعد شجرة الجميز، بمعنى إقماعه لأعضائه التي على الأرض، الزنى والنجاسة الخ[9].]
هذا وقد قدم البابا غريغوريوس (الكبير) تفسيرًا مشابهًا لفكر القديس كيرلس الكبير في الفقرات الأخيرة السابقة إذ رأى في شجرة الجميزة شجرة تحمل ثمرًا ضعيف القيمة؛ بهذا لا يقدر أحد أن يعاين السيد المسيح ما لم يرتفع بالإيمان فوق الأمور الزمنية التافهة كشجرة جميزة، يعلو عليها بتأمله في الإلهيات وتمتعه بالحكمة السماوية[10].
سابعًا: يرى القديس أمبروسيوس في صعود زكا قصير القامة شجرة الجميز لرؤية السيد المسيح إشارة إلى ارتفاع المؤمن الذي بسبب الخطية صار قصير القامة محرومًا من رؤية السيد فوق حرف الناموس، فلم يعد بعد تحت الناموس بل مرتفعًا بالروح فوق الناموس ليعاين بالنعمة السيد المسيح. وكأن صعود شجرة الجميز هو انطلاق من الفكر الحرفي في تفسير الكتاب المقدس إلى التمتع بالفكر الروحي العميق خلال شجرة الصليب المقدسة.
ثامنًا: إذ دخل السيد المسيح بيت زكا سمع زكا هذه العبارة الإلهية: “اليوم حصل خلاص لهذا البيت، إذ هو أيضًا ابن إبراهيم” [8].
ماذا يعني بخلاص هذا البيت:
أ. حينما يتقدس عضو في الأسرة يستطيع بالسيد المسيح الساكن فيه أن يكون سرّ بركة وخلاص بقية الأعضاء. وقد جاء سفر الأعمال يكشف بقوة كيف كان لقاء البعض مع السيد المسيح يدفع أهل بيتهم إلى اللقاء أيضًا معه والتمتع بخلاصه في حياتهم. لا نستطيع أن ننكر أنه قد يقبل عضو السيد المسيح ويرفض الآخر حتى حذرنا السيد بقوله أن أعداء الإنسان أهل بيته، وأنه يقوم الأب على ابنه والابن على أبيه الخ. هذا التحذير يكمله حديث السيد المسيح نفسه عن رسالة المؤمن كنورٍ للعالم قادر بالمسيح النور الحقيقي أن يجتذب أهل بيته لشمس البرّ!
ب. حينما يتقدس الإنسان بدخول السيد المسيح إلى حياته يتقدس أهل بيته الداخلي، أعني أنه إذ يقبل المؤمن السيد المسيح يقدم كل أهل بيته للرب، أي جسده بكل طاقاته ودوافعه وأحاسيسه ومشاعره وفكره وقدراته. فالله لا يقدس الروح وحدها وإنما معها الجسد والنفس أيضًا.
ج. يدعو البيت “ابن إبراهيم“، وهو بلا شك لا يقصد المبنى المادي، إنما الساكن فيه أو السكان فيه الذين تمتعوا بعمل السيد المسيح فيهم. دُعي زكا ابنًا لإبراهيم ليس لانتسابه إليه حسب الجسد، وإنما ما هو أعظم لأنه حمل ذات إيمانه الحيّ العامل. فبالإيمان ترك إبراهيم أرضه وعشيرته وأهل بيته منطلقًا وراء الدعوة الإلهية إلى أرض يجول فيها ليقدمها ميراثًا لأبنائه، وها هو ابنه زكا يحمل ذات الإيمان، فقد ترك كل ممتلكاته التي سبق فتعلق بها كأرض يعيش فيها، وكعشيرةٍ تعلق بها بل وكانت كأهل بيته، ارتبط بممتلكاته بعنف، لكنه الآن ينحل من هذه الارتباطات ليقدم نفس ممتلكاته للفقراء، ويقدم الباقي لرد أضعافًا مضاعفة لمن سبق فظلمهم.
يمكننا أيضًا أن نقول بأن زكا حين كان رئيسًا للعشارين كان ابنًا لإبراهيم حسب الجسد، أما الآن إذ تعرف على السيد صار ابنًا له حسب الإيمان، بل صار ابنًا لله في المسيح يسوع.
تاسعًا: يرى القديس يوحنا الذهبي الفم[11] أن حلول السيد المسيح في بيت زكا قد أعطى زكا فرحًا [6]، فصار كما بجناحين منطلقًا إلى فوق الزمنيات، لذا قال: “يا رب أعطي نصف أموالي للمساكين…” يمكننا أن نقول بأن الخطية تجرح النفس وتفقدها فرحها، فتعيش مرتبطة بالعالم والزمنيات فاقدة رجاءها الأبدي وبهجتها الداخلية. لكن تجلي الرب في النفس وسماعها صوته يملأها رجاءً، ويرفعها فوق كل تعلق زمني، لتحيا كما بجناحي الروح، مرتفعة من مجدٍ إلى مجدٍ، ومتمتعة بنعمةٍ فوق نعمةٍ، ومنطلقة من قوةٍ إلى قوةٍ بفرحٍ حقيقيٍ.
عاشرًا: يقارن القديس أغسطينوس بين زكا الذي استضاف السيد بفرح وبين قائد المائة الذي حسب نفسه غير أهل أن يدخل السيد بيته (مت 8: 8) قائلاً له: [لا يوجد تناقض بين الاثنين… ولا يُحسب أحدهما أفضل من الآخر، فبينما تقبل الأول الرب بفرح في بيته [6]، قال الآخر: “لست مستحقًا أن تدخل تحت سقفي” (مت 8: 8). كلاهما يكّرم المخلص وإن كان بطريقين مختلفين… كلاهما كانا بائسين بالخطية، ونالا الرحمة التي طلباها[12].]
أحد عشر: إذ لم يدرك اليهود غاية المسيح وعمله “تذمروا قائلين إنه دخل ليبيت عند رجل خاطئ” [7]. عوض أن يفرحوا بخلاص الخطاة تذمروا على المخلص، لأنه يفتح قلبه لهم، ويدخل بيوتهم ليملك على قلوبهم، أو حسب تعبير القديس كيرلس الكبير يقيمهم من الأموات، إذ يقول: [لماذا يلومون المسيح إن كان ذلك يمكن أن تقول قد سقط ودفن في الفساد الروحي، فأقامه المسيح من هوة الهلاك؟! ولكي يعلمهم ذلك قال: “اليوم حصل خلاص لهذا البيت، إذ هو أيضًا ابن إبراهيم” [9]. لأنه حيث يدخل المسيح بالضرورة يوجد الخلاص. ليكن في داخلنا؛ إن آمنا يكون فينا، بالإيمان يسكن في قلوبنا، ونكون نحن مسكنه. كان يليق باليهود أن يفرحوا، لأن زكا قد خلص بطريقة عجيبة، إذ حُسب هو أيضًا من بين أبناء إبراهيم الذي وعده الله بالخلاص في المسيح بواسطة الأنبياء القديسين، قائلاً: “ويأتي الفادي إلى صهيون، وإلى التائبين عن المعصية في يعقوب، يقول الرب” (إش 59: 20). لقد قام المسيح ليخلص سكان الأرض من خطاياهم، يطلب من قد فُقدوا، ويخلص من قد هلكوا. هذا هو عمله، قل هذا هو ثمرة لطفه الإلهي[13].]
ثاني عشر: إذ دخل السيد المسيح بيت زكا أشرق عليه بنور بره، فطرد منه كل ظلمة دون أن يبكته بكلمة، أو حتى يقدم له وصية. كان حضرة المسيح نفسه “كلمة الله المتجسد” قوة قادرة على انتشال زكا من محبة المال إلى حبه للفقراء وشوقه لرد أضعاف مضاعفة لمن سبق فظلمهم، حتى وإن دفع كل ما يملكه ثمنًا لذلك.
في نص منسوب للقديس يوحنا الذهبي الفم قيل: [لم ينتظر زكا حكم الناموس بل حكم على نفسه بنفسه]، كما قيل: [أنظر هنا معجزة، فإنه يطيع دون أن يتعلم. كما أن الشمس تلقي بأشعتها على البيت فتضيئه بالعمل لا بالكلام، هكذا يلقي المخلص بأشعة بره ليحطم ظلمة الخطية، فيشرق النور في الظلمة.]
هذا، ويليق بنا أن نلاحظ أن زكا لم يقدم ماله للفقراء والمظلومين، وإنما قدم أولاً قلبه لله، عندئذ جاءت عطايا طبيعية وبلا كلفة، ومفرحة لله. يقول القديس جيروم: [إن قدمنا للمسيح نفوسنا كما نقدم له غنانا، يتقبل التقدمة بفرح[14].]
ثالث عشر: يكشف ربنا يسوع المسيح عن رسالته الخلاصية، فاتحًا باب الرجاء للكل بقوله: “لأن ابن الإنسان قد جاء لكي يطلب ويخلص ما قد هلك” [10].
يستخدم العلامة ترتليان هذه العبارة للرد على أصحاب الفكر الغنوسي الذين يحقرون من شأن الجسد ويحسبونه لا يتمتع بالخلاص ولا يقوم في اليوم الأخير، قائلاً: [ماذا تظن في الذي هلك؟ إنه الإنسان بلا شك، الإنسان بكليته وليس جانبًا منه. بالطبع الإنسان كله… فإن كانت الخطية أهلكته بكليته، فإنه سيخلص بكليته[15].]
ويستخدم القديس أغسطينوس ذات العبارة في توبيخ أتباع بيلاجيوس منكري الخطية الأصلية، لذا يخاطب السيد المسيح على لسانهم قائلاً: [إن كنت قد جئت لتطلب وتخلص ما قد هلك، فإنك لم تأتِ للأطفال، لأنهم لم يهلكوا بل ولدوا في حالة خلاص؛ اذهب إذن إلى الكبار[16].]
يحدثنا القديس أغسطينوس عن عمل السيد المسيح الخلاصي، ومجيئه طالبًا من قد هلك، قائلاً: [لقد وجد المفقودين أيضًا. إنهم اختفوا هنا وهناك بين الأشواك، وتشتتوا بسبب الذئاب. اختفوا بين الأشواك، فجاء إليهم ليجدهم، وقد تمزق بأشواك آلامه. جاء فعلاً ووجدهم، مخلصًا إياهم… لقد خلصوا بذاك الذي ذُبح لأجلهم[17].]
- مثل العشرة أمناء
لقاء السيد المسيح بزكا رئيس العشارين في بيته وإعلان السيد المسيح عن الخلاص لأهل هذا البيت تحقيق لملكوت الفرح الحقيقي حتى ارتفع قلب زكا فوق كل فكر أرضي، فقدم أكثر مما يطلبه الناموس بكثير، قدم نصف أمواله للمساكين وطلب أن يرد لكل من ظلمه أربعة أضعاف. هكذا يعلن السيد المسيح عن الرغبة الإلهية في تقديس كل نفس ليكون الكل ملكوتًا حقيقيًا له. والآن بعد إعلان هذا الملكوت الحاضر والعامل في حياة البشرية يود السيد أن يعلن أنه ليس إلا عربونًا للملكوت الأبدي، مقدمًا لنا مثل العشرة الأمناء لنعرف أننا وإن كنا نفرح هنا باللقاء مع السيد المسيح لكي نحيا مجاهدين نمارس الحياة الأمينة لننعم بكمال مجد الملكوت الأبدي.
“وإذ كانوا يسمعون هذا عاد فقال مثلاً،
لأنه كان قريبًا من أورشليم،
وكانوا يظنون أن ملكوت الله عتيد أن يظهر في الحال” [11].
يبدو أن فكرًا بدأ يسود بين اليهود عندما رأوا ما صنعه رب المجد يسوع من أعمال عجيبة أن الملكوت قد اقترب جدًا، بمعنى أن السيد يملك في أورشليم، ويقيم مملكته أرضيًا. لهذا انشغل حتى التلاميذ في بعض الأحيان عن مركز كل واحدٍ منهم في هذه المملكة المنتظرة سريعًا. وكأن السيد المسيح أراد أن يوجه أنظارهم عن التفكير في عظمة المملكة بفكر زمني إلى التهيئة للملكوت الأبدي بحمل سمة “الأمانة”. وقد سبق لنا الحديث عن هذا المثل في دراساتنا السابقة مت 25: 18، والآن نكتفي بإبراز النقط التالية:
أولاً: يقول السيد المسيح: “إنسان شريف الجنس ذهب إلى كورة بعيدة ليأخذ لنفسه مُلكا ويرجع. فدعا عشرة عبيد له وأعطاهم عشرة أمناء، وقال لهم: تاجروا حتى آتي” [12-13]. من هو هذا الإنسان الشريف الجنس إلا رب المجد نفسه، الكلمة الذي صار جسدًا. إنه شريف الجنس، بل “وحيد الجنس”، فريد في بنوته الأزلية للآب، أخلى ذاته بالتجسد لكي ينقلنا نحن الذين صرنا عبيدًا للخطية إلى البنوة لله باتحادنا معه، وثبوتنا فيه، فنصير نحن به شرفاء الجنس أو أحرارًا.
يعلق القديس كيرلس الكبير على تعبير “شريف الجنس“، بالقول:
[مجال هذا المثل إنما يمثل في اختصار عصب التدبير الذي قُدم لأجلنا، أي سرّ المسيح من بدايته حتى نهايته.
الله الكلمة صار إنسانًا، ومع كونه قد صار في شبه جسد الخطية لذا دُعيَ عبدًا (في 2: 7) لكنه وُلد حرًا “شريف الجنس” (لو 19: 12)، إذ ولد من الآب ميلادًا غير منطوق به. نعم، إنه الله الذي يعلو الكل في الطبيعة والمجد، يسمو علينا بل وعلى كل الخليقة بكماله الذي لا يُقارن.
إنه شريف الجنس بكونه ابن الله، حمل هذا اللقب ليس مثلنا من قبيل صلاح الله وحبه للبشر، وإنما لأن هذا يخصه بالطبيعة، كمولود من الآب، عالِ فوق كل خليقة.
إذن عندما صار الكلمة الذي هو صورة الآب والمساوي له مثلنا إنسانًا “أطاع حتى الموت موت الصليب، لذلك رفعه الله أيضًا وأعطاه اسما فوق كل اسم، لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض، ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب المجد الله الآب” (في 2: 8-11)…
بالتأكيد الابن هو الله بالطبيعة فكيف أعطاه الآب ذاك الاسم الذي فوق كل اسم؟ نقول أنه عندما صار جسدًا، أي عندما صار إنسانًا مثلنا أخذ اسم العبد، وقبل فقرنا ومذلتنا، وبعد تتميم سرّ تدبير التجسد رُفع إلى المجد الذي له بالطبيعة وليس كأمر غريب عنه لم يعتد عليه، ولا كأمر خارج عنه مقدم إليه من الغير، إنما نال المجد الذي له خاصًا به. ففي حديثه مع الآب السماوي يقول: “مجدني أنت أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم” (يو 17: 5). كان يرتدي مجد اللاهوت بكونه الكائن قبل الدهور قبل العوالم، بكونه الإله المولود من الله؛ وعندما صار إنسانًا كما قلت لم يحدث فيه تغيير ولا تبديل بل بقى كما هو عليه على الدوام بكونه المولود من الآب، مثله في كل شيء. إنه “صورة جوهره” (عب 1: 3)، يحق له كل ما للآب بكونه واحدًا معه في الجوهر، مساوٍ له في عدم التغيير، مثله في كل شيء[18].]
يعلق أيضًا القديس باسيليوس الكبير على تعبير “شريف الجنس“، قائلاً: [إنه شريف ليس فقط من جهة لاهوته، وإنما من جهة ناسوته أيضًا بكونه من نسل داود حسب الجسد[19].]
إن كان هذا الإنسان الشريف الجنس هو كلمة الله المتجسد، فماذا يعني بقوله: “ذهب إلى كورة بعيدة ليأخذ لنفسه مُلكًا ويرجع” [12]؟ لعله يقصد بالكورة البعيدة الطبيعة البشرية التي صارت بالعصيان مبتعدة عن الله، وكأنها كورة غريبة بالنسبة له، خاصة جماعات الأمم التي قاومت العبادة الإلهية وعزلت نفسها بنفسها بعيدًا عن ملكوت الله. لقد جاء إلينا نحن الذين كنا غرباء وبعيدين لكي يملك علينا مقربًا إيانا إليه كأعضاء جسده، فيحملنا فيه كرأس لنا، ويرجع بنا إلى ملكوته، لنجد لنا به موضعًا في حضن الآب. هذا ما أعلنه الرسول بولس بوضوح، قائلاً: “اذكروا أنكم أنتم الأمم قبلاً في الجسد المدعوين عزلة… إنكم كنتم في ذلك الوقت بدون مسيح أجنبيين عن رعوية إسرائيل وغرباء عن عهود الموعد، لا رجاء لكم، وبلا إله في العالم، ولكن الآن في المسيح يسوع أنتم الذين كنتم قبلاً بعيدين صرتم قريبين بدم المسيح… فلستم إذًا بعد غرباء ونزلاء بل رعية مع القديسين وأهل بيت الله” (أف 2: 11-19).
يقول القديس باسيليوس الكبير: [ذهب إلى كورة بعيدة (لو 19: 12)، ليس خلال بعد المسافة المكانية بل بعد الحالة الفعلية. فإن الله نفسه قريب جدًا لكل واحدٍ منا متى ارتبطنا به خلال الأعمال الصالحة، ويكون بعيدًا جدًا متى تركناه وابتعدنا عنه جدًا بالتصاقنا بالهلاك. لقد جاء إلى هذه الكورة البعيدة الأرضية لكي يتقبل مملكة الأمم كقول المزمور: “اسألني فأعطيك الأمم ميراثًا لك” (مز 2: 8)[20].] ويقول القديس أغسطينوس: [الكورة البعيدة هي كنيسة الأمم الممتدة إلى أقصى الأرض. فقد جاء لكي يتم ملء الأمم، وعندئذ يرجع لكي يخلص كل إسرائيل (بقبولهم الإيمان الحق ورفضهم الفكر الصهيوني المتعصب)[21].]
نزل الرب إلينا كما إلى كورة بعيدة بحمله ناسوتنا، وأقام مملكته فينا ليرجع حاملاً إيانا إلى سماواته كمملكة خاصة به. وكما يقول القديس أمبروسيوس: [وصف نفسه من جهة لاهوته وناسوته، فهو غني من جهة كمال لاهوته وقد صار فقيرًا لأجلنا. فمع أنه الغني والملك الأبدي، وابن الملك الأبدي، قال أنه ذهب إلى كورة بعيدة (لو 19: 12) بأخذه جسدنا، إذ سلك طريق البشر كما في رحلة غريبة، وجاء إلى هذا العالم ليعد لنفسه مملكة منا. إذن قد جاء يسوع إلى هذه الأرض ليتقبل لنفسه مملكة منا نحن الذين قيل لنا: “ملكوت الله داخلكم”. عندئذ يسلم الابن مملكته للآب، وبتسليمه إياها لا يخسرها المسيح بل تنمو… نحن ملكوت المسيح وملكوت الآب، إذ قيل: “ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي” (يو 14: 6). عندما أكون في الطريق فأنا للمسيح، وإذ أعبر به فأنا للآب، لكن أينما وجدت فأنا خلال المسيح وتحت سلطانه[22].]
والآن ماذا يعني بالعشرة عبيد الذين وهبهم عشرة أمناء ليتاجروا حتى يأتي إليهم ثانية؟ يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن رقم 10 يشير إلى الكمال، وكأن السيد المسيح قدم إلى كل العبيد أي إلى جميع البشرية بلا تمييز بين جنس وآخر، أو شعب وشعب، مواهبه الكاملة المتباينة لكي يضرموها حتى يجئ فيكافئهم على أمانتهم في العمل. أعطى للعشرة عبيد فلا يستطيع أحد أن يحتج بأن رسالة الله الخلاصية لا تخصه شخصيًا. لقد وهب لكل عبدٍ واحدًا من العشرة أمناء، أي قدم عمله وعطاياه لكل من يريد أن يأخذ بلا محاباة ولا تمييز.
يرى البعض أن “المنا” يوازي 100 درهمًا، وهو رقم يمثل عظمة الكمال، فكأن السيد حين قدم الأمناء أراد في الكل أن يتاجروا في عطاياه العظيمة لينالوا كرامة ومجدًا على مستوى فائق.
يعلق القديس كيرلس الكبير على هذه الأمناء التي وزعت على العبيد، قائلاً: [يوزع المخلص عطاياه الإلهية المتنوعة على الذين يؤمنون به، فإننا نؤكد أن هذا هو معنى الأمناء… إنه إلى اليوم مستمر في التوزيع كما يظهر الكتاب المقدس بوضوح، إذ يقول الطوباوي بولس: “فأنواع مواهب موجودة ولكن الروح واحد، وأنواع خدم موجودة، ولكن الرب واحد، وأنواع أعمال موجودة ولكن الله واحد الذي يعمل الكل في الكل” (1 كو 12: 4-6). يعود فيوضح ما قاله بإبراز أنواع المواهب هكذا: “فإنه لواحد يُعطى بالروح كلام حكمة، ولآخر كلام علم بحسب الروح الواحد، ولآخر إيمان بالروح الواحد، لآخر مواهب شفاء بالروح الواحد” (1 كو 12: 8-9)، وهكذا أنه يبرز بهذه الكلمات تنوع المواهب بوضوح[23].]
ثانيًا: ميّز السيد المسيح بين عبيده الذين تسلموا الوزنات المتنوعة هؤلاء الذين يشيرون للمؤمنين منهم من يجاهد بالروح ليكسب عشرة أمناء، ومنهم من يكسب خمسة، وأيضًا منهم من يتراخى ويهمل ويضع الوزنة كما في منديل، وبين الذين رفضوه تمامًا، إذ يقول: “وأما أهل مدينته فكانوا يبغضونه، فأرسلوا وراءه سفارة، قائلين: “لا نريد أن هذا يملك علينا” [14]. وكما يقول القديس كيرلس الكبير: [حقًا عظيم هو الفارق بين هؤلاء (الذين تسلموا الأمناء) وبين الذين جحدوا مملكته تمامًا. هؤلاء هم متمردون يلقون عنهم نير صولجانه، بينما يمارس الآخرون مجد خدمته[24].] لعله قصد بالرافضين مملكته شعب اليهود الذين هم “أهل مدينته”، إذ قال: “وأما الآن فقد رأوا وأبغضوني أنا وأبي” (يو 15: 24). وكما يقول الإنجيلي يوحنا: “أجاب رؤساء الكهنة: ليس لنا ملك إلا قيصر” (يو 19: 15).
ماذا يعني السيد بقوله: “أرسلوا وراءه سفارة” [14]؟ يجيب القديس أغسطينوس: [أرسلوا سفارة وراءه، لأنهم بعد قيامته اضطهدوا رسله، ورفضوا الكرازة بالإنجيل[25].]
ثالثًا: يقول السيد: “ولما رجع بعدما أخذ المُلك أمر أن يُدعى إليه أولئك العبيد الذين أعطاهم الفضة ليعرف بما تاجر كل واحدٍ” [15]. ماذا يعني “بعد ما أخذ المُلك”؟ يمكننا أن نقول مع القديس يوحنا الذهبي الفم[26] أن السيد المسيح ملك على كل البشر بحق الخلقة إذ هو خالق الكل، وهو ملك أيضًا بحق التبرير، إذ يملك على الأبرار، فيخضعون له طوعًا. بهذا له مملكتان، الأولى إلزامية علينا كخليقة، والثانية اختيارية، فنقبل مُلكه علينا خلال عمل نعمته، وهذه هي التي يقصدها بالقول: “أخذ المُلك”.
يقول القديس أغسطينوس: [إنه يرجع بعدما يأخذ مُلكه، إذ يأتي بكل المجد ذاك الذي سبق فظهر لهم متواضعًا، قائلاً: “مملكتي ليست من هذا العالم” (يو 18: 36)[27].]
رابعًا: من هو ذاك الذي ربح بالأمناء الفضية الذي لسيده عشرة أمناء؟ وذاك الذي ربح بأمناء سيده خمسة أمناء؟ وذاك الذي استلم منا سيده الفضي ووضعه في منديل أو دفنه في التراب (مت 25: 18)؟ بلا شك أن الأمناء العشرة الفضية التي وزعها السيد على عبيده ما هي إلا “كلمة الله” التي قيل عنها أنها كالفضة المصفاة بالنار (مز 121: 3)، خاصة الناموس الذي يرمز له بالرقم 10 بكونه يحوي في جوهره الوصايا العشرة! الأول أخذ الوصية الإلهية لا ليدفنها بل لتربح عشرة أمناء، أي ليبلغ الحياة الملائكية بكون الطغمات السمائية هي تسع (بما فيها الشاروبيم والسيرافيم)، فيصير هو الطغمة العاشرة. أما الثاني الذي ربح خمسة أمناء، فيشير إلى ذاك الذي بكلمة الله الحية تتقدس الحواس الخمس، أي تقديس الجسد بحواسه، أما الذي دفن الوزنة الفضية في منديله أو في أرضه، فهو ذاك الذي يدفن كلمة الله في سجن ذاته أو في حدود الجسد كما كان يفعل زكا قبلاً حين كان محصورًا داخل شهواته الذاتية (الطمع).
يرى البعض أن الرجل الأول الذي ربح عشرة أمناء يشير إلى الخادم الكارز بالحق، إذ يكسب بروح الإنجيل الفهم الروحي للناموس (رقم 10)، أما المكافأة فهي مُلكه على عشر مدن، وكما يقول القديس أمبروسيوس أن هذه المدن هي النفوس التي تعهد بين يديه بإضرامه الوزنة الإلهية أو العملة المسيحانية، كلمة الإنجيل. ليست هناك مكافأة للخادم الحقيقي أعظم من أن يرى النفوس قد قبلت الكلمة، وخضعت لروح الحق، فيحسب نفسه كمن ملك بالمسيح عليها لا ليسيطر، وإنما ليبذل بالحب. أما الرجل الثاني الذي ربح خمسة أمناء فأظن أنه يمثل الإنسان التقي الذي وإن كان ليس له موهبة التعليم والكرازة بالكلمة لكنه خلال تقديس حواسه الخمس يشهد فيكسب نفوسًا للرب، فيصير كمن يملك على خمس مدن. أما الأخير الذي وضع الموهبة في منديل، فكما يقول الأب ثيؤفلاكتيوس أن المنديل تستخدم في ربط وجه الميت… وكأن ذاك الرجل حسب موهبة الرب ميتة يدفنها ويضمرها.
أما بقية المثل فيمكن الرجوع إلى تفسيره في كتابنا “الإنجيل بحسب متى 25: 14-30” منعًا للتكرار، مكتفيًا هنا بالتعليقين التاليين:
- “إن كل من له يُعطى” [26]. من له الإيمان يُعطى معرفة، ومن له معرفة يُعطى حبًا، ومن له الحب يُعطى الميراث[28].
القديس إكليمنضس السكندري
- “وأما أعدائي أولئك الذين لم يريدوا أن أملك عليهم، فأتوا بهم إلى هنا، واذبحوهم قدامي” [27].
ليته لا يهمل أحد في مقابلة الملك لئلا يُطرد من حجال العريس.
ليته لا يوجد بيننا من يستقبله بكآبة، لئلا يُدان كمواطنٍ شرير يرفض استقباله كملكٍ عليه.
لنأتِ إليه معًا ببهجة، ولنستقبله بفرح، ونتمسك بوليمتنا بكل أمانة[29].
الأب ميثوديوس
- تقدمه نحو أورشليم
سبق لنا الحديث عن دخول السيد المسيح إلى أورشليم في دراستنا لإنجيل معلمنا متى البشير (21: 1-11) وإنجيل معلمنا مرقس البشير (11: 1-10)، لذا أكتفي هنا بعرض الآتي كتكملة للتفسيرين السابقين:
أولاً: صديقنا الأعظم فتح عيني الأعمى لكي يدرك الصداقة الإلهية، ويبصر بأعماقه محبة الله له، فيقبل صداقته (18: 35-42). ودعى نفسه بنفسه ليدخل بيت زكا ليعلن شوقه للدخول إلي بيتنا الداخلي، مقدسًا إيانا مهما بلغت خطايانا. وكأنه قد سمع صوت استجابة زكا للدعوة هذا الصوت الداخلي الذي عبّر عنه عمليًا بصعوده الجميزة، ففرح به وقدم الخلاص له ولأهل بيته، معلنًا صداقته له. وقدم مثل العشرة أمناء موضحًا أن هذه الصداقة التي بادر بها السيد ليقدمها إلينا مجانًا تلتزم من جانبنا جانب الجدية، فهو يهبنا عطاياه الإلهية بلا مقابل من جانبنا سوى قبول العطايا وإضرام الموهبة، يصادقنا على أساس قبولنا التجاوب معه وحمل سماته فينا. الآن يدخل أورشليم ليعلن ثمن هذه الصداقة من جانبه ألا وهو تقديم حياته مبذولة فدية عنا. لذا يقول الإنجيلي: “ولما قال هذا تقدم صاعدًا إلى أورشليم” [28]. لقد نزل إلينا لكي يصعد بنا إلى أورشليم، مقدمًا لنا صداقته وملكوته!
يكمل الإنجيلي حديثه قائلاً: “وإذ قرب من بيت فاجي وبيت عنيا عند الجبل الذي يدعى جبل الزيتون، أرسل اثنين من تلاميذه…” [29]. وكما سبق فقلنا أن رقم 2 يشير إلى الحب، إذ يجعل الاثنين واحدًا، ولأن الحب جاء في وصيتين: محبة الله ومحبة الغريب، لذلك بدأ إرساليته للتلاميذ لإحضار الأتان والجحش وهو بالقرب من قريتين، أي خلال الحب، الذي بدونه لا ننعم بدخول السيد إلى أورشليمنا.
قيل أن بيت فاجي قرية عند جبل الزيتون خاصة بالكهنة، بينما بيت عنيا ضمت بيت لعازر ومريم ومرثا وهم من الشعب، وقد تمت إرسالية التلميذين بالقرب من القريتين. هنا يمكنني أن أتجاسر فأقول أن العمل الرسولي في الكنيسة لا يقف عند بيت فاجي، أي العمل الكهنوتي وحده، أو التدبيري، وإنما يتكامل بعمل الشعب أيضًا. كنيستنا الرسولية هي جسد المسيح الذي يضم الكهنة كخدام للشعب عاملين لحساب خلاصهم وبنيانهم، كما يضم الشعب لا كمستمعين سلبيين، وإنما كعاملين مع الكهنة في وحدة الروح، كشهود حق للعمل الخلاصي. ففي الكنيسة الأولى إذ حدث “اضطهاد عظيم على الكنيسة التي في أورشليم فتشتت الجميع في كور اليهودية والسامرة ماعدا الرسل” (أع 8: 1)، انطلق هؤلاء المشتتون يبشرون بالكلمة (أع 8: 4). بقي الرسل في أورشليم يواجهون الاضطهاد بقوة، وانطلق الشعب لا ليهرب بل ليكرز ويشهد. أقول ما أحوج الكنيسة في كل عصر إلى كل عضو فيها أن يعمل، سواء كان طفلاً أو شيخًا، لا لعوز الجماعة إليه فحسب، وإنما ليمارس عضويته الحقيقية فيكون عاملاً حيًا، وإلا ففي سلبيته يفقد حيويته وتشل حركته ويمثل ثقلاً في عيني نفسه كما في أعين الآخرين.
ثانيًا: كان السيد المسيح منطلقًا إلى أورشليم يبذل حياته لأجل أصدقائه، مقدمًا الثمن كله، محتملاً الصليب حتى النهاية. وفي محبته الفائقة أراد أن يشرك تلاميذه في هذا العمل فطالبهم بقليل القليل، إذ في حبه للإنسان يود أن يكون للإنسان دور، أيا كانت قيمته الظاهرة، لكنه دور حيوّي في عيني الرب محب البشر. لذا قال لإثنين من تلاميذه: “اذهبا إلى القرية التي أمامكما وحين تدخلانها تجدان جحشًا مربوطًا لم يجلس عليه أحد من الناس قط، فحلاه وأتيا به…” [30]. وقد سبق لنا الحديث عن المعنى الرمزي لهذا التصرف، إنما ما نود توضيحه هنا أن الرب يطلب عملهما مهما كان في نظرنا قليل القيمة، وذلك كالأب الذي يقدم ما استطاع لابنه ثم يعود فيسأله أمرًا يبدو تافهًا جدًا حتى يرد الابن لأبيه الحب بالحب، ويتجاوب مع صداقته بالصداقة وليدربه على العمل بغيرة.
يقول القديس باسيليوس الكبير: [يليق بنا حتى إن أوكل إلينا أقل الأعمال أن نمارسه بغيرةٍ عظيمةٍ وحبٍ، عالمين أن ما يُصنع بالله ليس تافهًا، بل يقابله ملكوت السماوات[30].[
ثالثًا: ماذا يعني هذا الجحش المربوط الذي لم يجلس عليه أحد من الناس قط [30]، الذي حله التلميذان وجاءا به إلي السيد المسيح؟ في دراساتنا السابقة لإنجيلي متى ومرقس رأينا كيف رمز الأتان والجحش إلي اليهود والأمم، إذ كان الجميع خارجًا في الطريق مربوطين بقيود العصيان، محتاجين إلي خدام الإنجيل لحلهم من الرباطات بروح الله القدوس، فيصيروا مركبة المسيح الوديعة والملتهبة أيضًا، المنطلقة إلي أورشليم الأبدية.
للقديس أمبروسيوس تفسير آخر، إذ يقول: [يشير الجحش والأتان إلى آدم وحواء اللذين طُردا من الفردوس. طُرد الجنسان، وقد دُعي الجنسان في هذين الحيوانين… يقول مرقس إنه كان “مربوطًا عند الباب خارجًا” (مر 11: 4)، لأن من هو ليس مع المسيح يبقى خارجًا في الطريق، وأما من كان في المسيح فيبقى داخلاً. لقد كان مربوطًا عند الباب ليس له إقامة ولا مزود ولا طعام. يربطه الآخرون ليمتلكوه، أما ذاك فيحلنا ليحفظنا في يده؛ فالنعمة أعظم من القيود[31].[
رابعًا: ما أجمل هذه العبارة: “وأتيا به إلى يسوع، وطرحا ثيابهما على الجحش، وأركبا يسوع” [35]! لقد أتيا بالجحش الذي للغير لكنهما لم يقدماه للسيد ليركبه إلا بعد طرح ثيابهما عليه، فإنه وإن كان يليق بالكاهن أن يحث الكل على التقدمة للرب خلال كرازته الإنجيلية، لكنه يليق به وهو يقدم للسيد تقدمات الآخرين أن يشترك هو أيضًا في العطاء. قد لا يكون له جحش يقدمه، فليقدم ثيابه! ربما ليس له مال فليقدم إماتة جسده! بمعنى آخر الكاهن لا يأخذ لنفسه بل ليقدم للسيد المسيح لا مما هو للغير فحسب وإنما مما وهبه الله ولو كانت ثيابه الضرورية.
يرى القديس أمبروسيوس ما هو أكثر من ذلك، فإن الثياب إذ هي تشير للجسد، فخلع التلاميذ للثياب إنما يشير إلي تقديم التلاميذ الشهادة للسيد المسيح ببذل أجسادهم حتى الموت.
خامسًا: بلا شك كانت ثياب التلميذين من الأنواع الرخيصة، بلا قيمة خاصة كثيابٍ مستعملة، لكنها صارت أشبه بعرش يجلس عليه الرب نفسه وهو قادم إلي أورشليم! هكذا إذ يرمز الثوب للجسد، فإن جسدنا بكل أعمال البرّ والصلاح يُحسب بلا قيمة مادام خارج المسيح، أما إن قدمناه للرب فهو يقبله عطية حب، فيقدس الجسد بأحاسيسه وعواطفه وأعماله الصالحة ويشتم في ذلك كله رائحة سرور!
يمكننا أيضًا أن نقول أنه لا قبول لعملٍ صالحٍ مادام ملتحمًا بجسدنا أو بذاتيتنا لكننا إن خلعنا عنا “ذاتيتنا” يتقبل الرب كل عملٍ صالحٍ كثوب يجلس عليه، ويباركه!
إن كان التلميذان يشيران إلي الإرسالية للأمم والإرسالية لليهود، فإن الثياب تشير إلي العمل الكرازي ذاته، فلا نجاح ولا قبول لعملٍ كرازيٍ ما لم يعمل الرسل في خضوع للسيد المسيح العامل فيهم؛ هذا ما يرمز إليه وضع الثياب تحته!
إن كان التلميذان يشيران إلي رجال العهد القديم من آباء وأنبياء ورجال العهد الجديد من رسل وتلاميذ، فإن غاية رجال العهدين أن يقدموا أعمالهم من نبوات وكرازة للسيد المسيح لتختفي فيه وتحته، فيجلس ويملك! إنهم لا يعملون لحساب أنفسهم، إنما لكي يستريح الرب بملكه علي قلوب المؤمنين في العهدين.
إن كان التلميذان يشيران إلي الحب (بكونهما اثنين) فإن وضع ثيابهما تحت السيد المسيح، إنما يشير إلي ترجمة الحب إلي عملٍ! فإن السيد المسيح يريد أن يستريح على حبنا العامل لا النظري.
سادسًا: استراح السيد المسيح علي الجحش الذي وضع التلميذان ثيابهما عليه، لكن كما يقول القديس أمبروسيوس: [ليس ما يفرح رب العالم امتطاؤه ظهر حيوان ما لم يحمل هذا سرًا خفيًا، وهو أن يجلس داخليًا كملكٍ يتربع علي عرشه في أعماق نفوس البشر، يجلس كفارس إلهي بقوة لاهوته يقود خطوات العقل. طوبى لمن حملوا على ظهر أرواحهم مثل هذا الفارس! حقًا طوبى لمن وضع في أفواههم لجام الكلمة الإلهية عوض النطق بالأباطيل![32] [
يعود فيكمل القديس أمبروسيوس تعليقًا جميلاً على حملنا للسيد المسيح سريًا، فيقول: [تعلم كيف تحمل المسيح فقد حملك هو كراع يرد الخروف الضال (لو 15: 6) متهللاً بتطهيره لنفسك. تعلم أن تكون تحت المسيح فيصعدك إلي فوق لله (الآب).]
سابعًا: كان السيد المسيح يقترب عند منحدر جبل الزيتون [37]، وقد سبق فقلنا في تفسير إنجيل مرقس الرسول أن هذا الجبل يشير إلي الكنيسة التي فيها يغرس الرب مؤمنيه كشجر زيتون حاملاً زيت النعمة الإلهية (زيت الزيتون) متى اجتاز المعصرة مع عريسه السماوي. هذا الجبل المرتفع بالروح يدفع قلوب الكل لتعيش فوق الأرضيات، وهو جبل دائم الخضرة علامة حياة الكنيسة الدائمة.
عند الاقتراب من هذا الجبل يقول الإنجيلي: “ابتدأ كل جمهور التلاميذ يفرحون ويسبحون الله بصوت عظيم، لأجل جميع القوات التي نظروا. قائلين: مبارك الملك الآتي باسم الرب، سلام في السماء ومجد في الأعالي” [37-38]. إذ يقترب الرب إلينا كما إلي جبل الزيتون يعلن عن صداقته الإلهية وفاعليتها في أعماقنا الداخلية، فتتهلل كل طاقاتنا الداخلية وتطرب أحاسيسنا ومشاعرنا وتبتهج نفوسنا. فيتحول كل كياننا إلي قيثارة الروح القدس التي تعزف تسبحة فائقة لا يمكن للغة التعبير عنها، فيصير كل منا وكأنه قد حمل في داخله جمهور تلاميذ للرب يفرحون ويسبحون. تنفتح البصيرة لترى القوات العجيبة، وينطلق كل الكيان ليعلن قبوله السيد المسيح ملكًا وربًا، قائلاً: “مبارك الملك الآتي باسم الرب“، وترتفع النفس لترى موضعها في السماء، حيث تنعم بسلام صديقها السماوي وشركة أمجاده العلوية، قائلة: “سلام في السماء ومجد في الأعالي“.
يقول القديس كيرلس الكبير: [سبح التلاميذ مخلص الكل ودعوه الملك والرب وسلام السماء والأرض. ليتنا نحن أيضًا نسبحه كما بقيثارة المرتل، قائلين: ما أعظم أعمالك يا رب، بحكمة صنعتها! (مز 104: 24)[33].]
جاءت التسبحة “سلام في السماء ومجد في الأعالي” [38]. فدخول السيد المسيح إلي أورشليم لتقديم نفسه فصحًا عنا نزع العداوة التي كانت قائمة بين الآب والبشرية، أو بين السماء والأرض، فصار سلام في السماء، إذ لم يعد الله يمثل عدوًا لنا بل صار أبًا بالحق، أما المجد الذي في الأعالي، فيعني انفتاح السماء بأمجادها علي الإنسان ليتمجد في الأعالي. سلامنا ومجدنا هو سلام ومجد للسماء في الأعالي. يمكننا أن نقول أيضا مع القديس أغسطينوس أن السماء هي النفس البشرية، فعمل المسيح الفادي ردّ للنفس سلامها الداخلي، وتمتعها بأن ترتفع في الأعالي، لتمجد عريسها الأبدي.
ثامنًا: يقدم لنا الإنجيلي لوقا ردّ الفعل لدى الفريسيين، قائلاً: “وأما بعض الفريسيين من الجمع فقالوا له: يا معلم انتهر تلاميذك. فأجاب وقال لهم: أقول لكم إن سكت هؤلاء فالحجارة تصرخ” [39-40]. لقد أراد الفريسيون أن يسكت هؤلاء، فأجابهم السيد المسيح أن الحجارة نفسها تصرخ شاهدة لمملكته، وكما يقول كثير من الآباء أن الأمم إذ عبدوا للحجارة صاروا حجارة من جهة الروح. هؤلاء الذين تحجرت أرواحهم وقلوبهم وأفكارهم، قبلوا الإِيمان بالسيد المسيح فصاروا يصرخون. حقًا لقد سكت هؤلاء، إذ جحدته الأمة اليهودية عندما رأته مصلوبًا، سكت اليهود فصرخ الأمم بقبولهم الإيمان.
يرى القديس أمبروسيوس أن قول السيد تحقق أيضًا حرفيًا عندما سكت اليهود عن تسبيحه وتمجيده في لحظات الصلب، فقد نطقت الحجارة فعلاً، إذ حدثت زلزلة والصخور تشققت والقبور انفتحت الخ.
- ما هي هذه الحجارة إلا الذين يعبدون الحجارة؟! فإن صمت أبناء اليهود تصرخ الأمم كبارًا وصغارًا.
- من بين الأمم جئنا نحن، آباؤنا كانوا يعبدون حجارة[34].
القديس أغسطينوس
- بكاؤه على أورشليم
طلب الفريسيون أن يسكت هؤلاء، وفي مرارة قال السيد: “إن سكت هؤلاء فالحجارة تصرخ” [40]. وبالفعل سكت هؤلاء عن التسبيح رافضين العمل الخلاصي وانطلقت الحجارة (الأمم) تصرخ للرب شاهدة له بإيمانها. هذا الأمر محزن لقلب ربنا يسوع المسيح الذي جاء يمد يده بالصداقة للجميع، فإذا بخاصته لم تقبله بل عادته عوض مصادقته. لذا صار يرثيها، كما يقول الإنجيلي:
“وفيما هو يقترب نظر إلي المدينة وبكى عليها.
قائلاً: إنكِ لو علمتِ أنتِ أيضًا حتى في يومك هذا ما هو لسلامك؛
ولكن الآن قد أُخفى عن عينيك.
فإنه ستأتي أيام ويحيط بك أعداؤك بمترسة ويحدقون بك،
ويحاصرونك من كل جهة.
ويهدمونك وبنيكِ فيكِ،
ولا يتركون فيكِ حجرًا على حجر،
لأنك لا تعرفي زمان افتقادك” [41–44].
- أكدّ يسوع كل التطويبات التي أوضحها في إنجيله بتقديم نفسه مثالاً؛ فقد أعلن “طوبى للودعاء” ثم عاد بعد ذلك ليثبت ذلك بقوله: “تعلموا مني لأني وديع” (مت 11: 29). وإذ قال “طوبى للباكين” بكى هو أيضًا على المدينة.
- لست أنكر أن أورشليم الأولى قد خُربت بسبب شر سكانها، لكنني أتساءل: ألا يليق بك البكاء على أورشليمك الروحية؟!
إن أخطأ أحد بعد قبوله أسرار الحق، فإنه يُبكي عليه، لأنه كان من أورشليم ولم يعد بعد…
ليُبك على أورشليمنا، لأنه بسبب الخطية يحيط بها الأعداء (الأرواح الشريرة) بمترسة ويحاصرونها، ولا يتركون فيها حجرًا على حجرٍ، خاصة لو أن هذا الإنسان كان قد سبق فمارس العفة زمانًا والطهارة سنوات طويلة، فتثور فيه شهوات الجسد ويفقد نقاوته وعفته ليسقط في الزنا ولا يُترك فيه حجر علي حجر كقول حزقيال: “كل بره الذي عمله لا يُذكر” (حز 18: 24).
العلامة أوريجينوس
- أدان إرميا النبي جهل اليهود وكبرياءهم علانية، موبخًا إياهم هكذا: “كيف تقولون نحن حكماء وشريعة الرب معنا، حقًا إنه إلى الكذب حولها قلم الكتبة الكاذب. خزي الحكماء، ارتاعوا وأُخذوا، ها قد رفضوا كلمة الرب” (إر 8: 8-9). لقد رفضوا كلمة الله بسبب عدم حكمتهم وعدم إدراكهم للكتب المقدسة بالرغم مما تظاهر به الكتبة والفريسيون من تمتعهم بسمعة طيبة إنهم متبحرون في الشريعة. لم يقبلوا ابن الله الوحيد عندما صار جسدًا، ولا أحنوا رقابهم بالطاعة لنصائحه التي قدمها بالإنجيل. بسلوكهم الشرير رذلوا كلمة الله، فصاروا مرذولين بحكم الله العادل. يقول الله بإرميا: “فضة مرفوضة يُدعون، لأن الرب قد رفضهم” (إر 6: .3). كما قيل: “جزي شعرك واطرحيه، وارفعي على الهضاب مرثاة، لأن الرب قد رفض ورذل جيل رجزة” (إر 7: 29)… أما ثمر ضلالهم فهو حلول النكبات عليهم، محتملين كل بؤس نتيجة تذمرهم على الرب.
سقوطهم في هذا الأسى ليس حسب إرادة الله الصالحة، إذ يريدهم أن ينالوا الطوباوية بالإيمان والطاعة… فإذ قيل: “نظر إلى المدينة وبكى عليها” إنما لنعلم مشاعر حزنه، إن صح هذا القول عن الله الذي هو فوق الكل. فلو لم يعلن حزنه بتصرف بشري لما أمكننا أن نلمس ذلك… هكذا بكى أيضا على لعازر لكي نفهم حزنه علي سقوط طبيعة الإنسان تحت سلطان الموت، “إذ هو خلق كل الأشياء بغير فساد، وبحسد إبليس دخل الموت إلي العالم” (حك 2: 23-24)… هكذا أيضًا بكى على أورشليم إذ أراد لها الطوباوية – كما قلت – بقبولها الإيمان به وترحيبها بالسلام مع الله. هذا هو ما دعاهم إليه بإشعياء، قائلاً: “لنصنع معه سلامًا” (إش 27: 5 الترجمة السبعينية)… لنصنع سلامًا مع الله بالإيمان، كما علمنا الحكيم بولس حيث كتب: “فإذ قد تبررنا بالإيمان لنا سلام مع الله بربنا يسوع المسيح” (رو 5: 1). أما هم فكما قلت أسرعوا نحو التمرد والاستهزاء في عنف بلا ضابط، مستخفين بخلاص المسيح ومقاومين له. لهذا يلومهم المسيح قائلاً لهم: أما تعرفون ما هو لسلامكم؟! أما تعرفون الأمور النافعة والضرورية لصنع سلامكم مع الله؟…
لقد برهن الإسرائيليون حتى قبل التجسد إنهم غير أهل لخلاص المسيح، إذ رذلوا الشركة مع الله وأقاموا لأنفسهم آلهة كاذبة وقتلوا الأنبياء مع أنهم كانوا يحذرونهم من ترك الإله الحيّ، ويوصوهم بالالتزام بوصايا الله المقدسة. ومع هذا لم يستجيبوا، بل أحزنوا الله بطرق كثيرة حتى عندما دعاهم للخلاص.
هذا ما يعلمنا إياه المخلص نفسه، بقوله: “يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا؛ هوذا بيتكم يترك لكم خرابًا” (مت 23: 37-38).
ها أنت تراه كيف يريد حقًا أن يهبهم رحمته، لكنهم رذلوا عونه. لهذا سقطوا تحت دينونة ناموس الله المقدس، ونُزعت عنهم العضوية في رعويته الروحية. قال أحد الأنبياء القديسين للشعب اليهودي: “أقارن أمك بالليل، لأنك أنت رفضت المعرفة أرفضك أنا حتى لا تكهن لي، ولأنك نسيت شريعة إلهك أنسى أنا أيضًا بنيك” (هو 4: 6).
انظروا فإنه يقارن أورشليم بالليل، لأن ظلمة الجهل قد حجبت قلب اليهود وأعمت بصيرتهم، لذا سُلموا للخراب والقتل… هكذا سقطت أورشليم المدينة المقدسة الشهيرة تحت كارثة الخراب، كما يظهر من التاريخ، وقد سبق فأكد إشعياء ذلك، إذ صرخ بصوت عالِ وسط جموع اليهود، قائلاً: “بلادكم خربة، مدنكم محرقة بالنار، أرضكم تأكلها الغرباء قدامكم، وهى خربة كانقلاب الغرباء” (إش 1: 7). هذه هي أجرة المجد الباطل الذي لليهود، وعقوبة عصيانهم، والألم الذي حّل بعدل عليهم بسبب تشامخهم. أما نحن فلنا رجاء القديسين، وكل طوباوية، لأننا نكرم المسيح بالإيمان[35].
القديس كيرلس الكبير
- بكى المخلص الرحوم على سقوط المدينة الغاشة، هذه التي لم تكن تعرف ما كان سيحل بها، إذ قيل: “إنك لو علمتِ أنتِ أيضًا (لكنتِ تبكين)“. ها أنتِ تفرحين الآن لأنك لا تعلمين ما قد أوشك أن يحل بك. يردف قائلاً: “حتى في يومكِ هذا” [42]، لأنها إذ سلمت نفسها للشهوات الجسدية نالت في يومها ما هو فيه سلامها (الزمني). وقد أوضح ما تقدمه هذه الأمور لها، بقوله: “ولكن الآن قد أخفى عن عينيك” [42]، فلو أن عيني قلبها لم يُخف عنها ما سيحل بها من شرور مقبلة لما كانت تفرح بالترف الحاضر. ولهذا أضاف في الحال العقوبة التي ستحل بها: “فإنه ستأتي (عليكِ) أيام” [43]… هنا يشير إلى ما تم بواسطة القيصرين الرومانيين فسبنيان وتيطس من تدميرهما لأورشليم…
لا يكف مخلصنا عن البكاء حتى الآن خلال مختاريه متى رأى إنسانًا يترك الحياة الصالحة ويسلك في الطرق الشريرة!…
حقًا إن النفس الشريرة لها يومها، فإن كانت تفرح في الزمن العابر حيث تجد سلامها في الأمور الزمنية حاسبة أنها تنال بهجتها في الزمنيات، لكنها تتحاشى النظرة المستقبلية التي قد تربك طربها الحاضر[36].
البابا غريغوريوس (الكبير)
- تطهير الهيكل
جاء السيد المسيح ليقيم صداقته مع الإنسان، وإذ رفضت أورشليم صداقته عرَّضت نفسها بنفسها للتحطيم الكامل في غباوة، فلم يقف الرب مكتوف الأيدي، إنما قدم عملين: قام بتطهير الهيكل من الباعة والمشترين [45-46]، كما قام بالتعليم فيه كل يوم [47-48]. إن كان العمل الأول سلبيًا فيه طرد الشر، فالثاني إيجابي فيه أعلن الرب صداقته لسامعيه.
“ولما دخل الهيكل ابتدأ يخرج الذين يبيعون ويشترون فيه.
قائلاً لهم: مكتوب أن بيتي بيت الصلاة،
وأنتم جعلتموه مغارة لصوص” [45-46].
لقد سبق لنا الحديث بتوسع عن تطهير الهيكل في تفسيرنا مت 21: 12-13؛ مر 11: 15-17.
- إذ روى الشرور التي ستحل بالمدينة في الحال دخل الهيكل ليطرد الذين كانوا يبيعون ويشترون فيه، مظهرًا أن دمار الشعب يحل بصورة رئيسية بسبب خطايا الكهنة… الذين كانوا يجلسون في الهيكل يتقبلون المال بلا شك كانوا يمارسون ضغوطًا تضر الذين لا يقدمون شيئًا[37].
البابا غريغوريوس (الكبير)
- الله لا يريد أن يكون هيكله موضع تلاقٍ للباعة، بل مسكنًا للقداسة، مؤكدًا أن خدمة الكهنوت لا تتم خلال التجارة بالدين بل بالبذل الإرادي مجانًا[38].
القديس أمبروسيوس
يرى القديس كيرلس الكبير في تعليقاته على إنجيل لوقا[39] أن طرد الباعة يحمل عملاً رمزيًا، فقد جاء المسيح فصحنا ليُبذل، لذا كان يجب إبطال الذبيحة الدموية فلا حاجة لحيوانات أو طيور تُذبح… ويرى العلامة أوريجينوس أن البيع والشراء هنا يرمزان لتحويل الخدمة الروحية إلى عمل تجاري، خاصة بيع الحمام إذ يشير إلى بيع مواهب الروح القدس.
لماذا قال السيد عن الهيكل: “أنتم جعلتموه مغارة لصوص“؟ لأن اللص لا يبالي بمن حوله بل ينهب ويقتل، هكذا تحول قادة اليهود عن رسالتهم فعوض تقديم كلمة الحق واهبة الحياة صاروا يستغلون مراكزهم في الاتجار، يقتلون إخوتهم روحيًا خلال العثرة، ويقتلون الإيمان بتصرفاتهم. إن كان الإيمان بالنسبة للهيكل يمثل النفس بالنسبة للجسد فتصرفات القادة تطرد الإيمان خارجًا ليبقى الهيكل قتيلاً. هذا هو عمل اللصوصية بمفهومه الروحي.
- تعليمه في الهيكل
“وكان يعلم كل يوم في الهيكل،
وكان رؤساء الكهنة والكتبة مع وجوه الشعب يطلبون أن يهلكوه.
ولم يجدوا ما يفعلون،
لأن الشعب كله كان متعلقًا به يسمع منه” [47-48].
- لم يبطل مخلصنا كلمة الكرازة حتى بالنسبة لغير المستحقين والجاحدين.
البابا غريغوريوس (الكبير)
لقد تعلق كل الشعب في بساطته بالسيد المسيح بينما حُرم أصحاب المعرفة – رؤساء الكهنة والكتبة مع وجوه الشعب – أنفسهم من نعمة السيد المسيح وعطاياه السماوية. دخل البسطاء في الصداقة الإلهية، وفقد حكماء هذا العالم هذه العطية الإلهية. وكما يقول القديس كيرلس الكبير أليس هذا يزيد من عقوبتهم؟! فقد صار الذين يليق بهم أن يكرزوا عائقين للعمل.
[1] In Luc 19: 1-10.
[2] Catena Aurea.
[3] In Luc 19: 1-10.
[4] Hom 127.
[5] Ep. 108 : 12
[6] Ep 71 : 2.
[7] In Luc 19: 1-10.
[8] In 1 Cor. hom 24.
[9] Hom 127.
[10] Morals 27: 46
[11] In Matt hom 30: 3.
[12] Ep. 54: 3.
[13] Hom 127.
[14] Ep. 54: 3.
[15] Resur. Of Flesh 34.
[16] On Marriage & Concus. 2: 9.
[17] Ser. On N.T. 39: 1.
[18] Hom 129
[19] Esai 13: 13.
[20]Esai 13: 13.
[21] Quaest Ev 2: 40.
[22] Of the Chrishian Faith 5: 12.
[23] Hom 129.
[24] Hom 129.
[25] Quaest Ev 2: 40.
[26] In 1 Cor. hom 39
[27] Quaest Ev 2: 40
[28] Storm. 7:10.
[29] Orat. On Palms 1,
[30] Catena Aurea.
[31] In Luc 19:28-38.
[32] In Luc 19:28-38.
[33] Hom 130.
[34] Ser. On N.T. 71:3.
[35] Hom 131.
[36] In Evang. Hom 39.
[37] In Evang. Hom 39.
[38] In Luc 19:45,46.
[39] Hom 131.