تفسير انجيل لوقا 12 الأصحاح الثاني عشر – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير انجيل لوقا 12 الأصحاح الثاني عشر – القمص تادرس يعقوب ملطي
الأصحاح الثاني عشر
الصديق السماوي والقطيع الصغير
في الأصحاح السابق كشف الرب ضعفات بعض القيادات الدينيَّة لما حملته من شكليَّات في العبادة بلا أعماق، وحرفيَّة في فهم الناموس والوصيَّة بلا روح، مع ارتباط مرّ بمحبَّة العالم والكرامات الزمنيَّة> والآن إذ جاء هذا الصديق ليقيم لنفسه قطيعًا جديدًا ليكون جسده الواحد، أبرز سمات هذا القطيع الجديد الصغير ليكون منسجمًا ومتناغمًا مع راعيه السماوي الذي هو عريسه ومخلِّصه ورأسه العامل في الجسد.
- القطيع الجديد وخمير الفرِّيسيِّين 1-3.
- القطيع الجديد والخوف 4-5.
- القطيع الجديد والاتكال على الله 6-7.
- القطيع الجديد والشهادة 8-12.
- القطيع الجديد والطمع 13-21.
- القطيع الجديد والزمنيات 22-23.
- القطيع الجديد والسماويَّات 24-31.
- القطيع الجديد ومسرة الآب 32.
- القطيع الجديد والصدقة 33-34.
- القطيع الجديد ومجيء الصديق 35-40.
- القطيع الجديد والأمانة على الوكالة 41-48.
- القطيع الجديد ونار الروح 49.
- القطيع الجديد والألم 50-53.
- القطيع الجديد وروح التمييز 54-56.
- القطيع الجديد والحب الغافر 57-59.
- 1. القطيع الصغير وخمير الفرِّيسيِّين
إذ أراد صديقنا السماوي أن يقيم مؤمنيه قطيعًا جديدًا يحمل سماته السماويَّة، أول وصيَّة قدَّمها لكنيسته خلال تلاميذه هي عزل “الخميرة القديمة”، خميرة الفرِّيسيِّين، أي الرياء، حتى لا تقوم الكنيسة على أساس خاطئ. لقد أراد تحطيم الخميرة القديمة الفاسدة لكي تُقدَّم كفطير الفصح الجديد، وكما يقول الرسول بولس: “ألستم تعلمون أن خميرة صغيرة تخمِّر العجين كله؟ إذا نقُوا منكم الخميرة العتيقة لكي تكونوا عجينًا جديدًا كما أنتم فطير، لأن فصحنا أيضًا قد ذُبح لأجلنا، إذًا لنعيِّد ليس بخميرة الشرّ والخبث، بل فطير الإخلاص والحق” (1 كو 5: 6-8).
“وفي أثناء ذلك إذ اجتمع ربوات الشعب
حتى كان بعضهم يدوس بعضًا
ابتدأ يقول لتلاميذه:
أولاً تحرَّزوا لأنفسكم من خمير الفرِّيسيِّين الذي هو الرياء.” [1].
بالرياء أراد الفرِّسيُّون أن يصطادوا السيِّد المسيح بكلمة من فيه لكي يحجبوا الناس عنه، فلا تنهار شعبيَّتهم، ولا يفقدون كرامتهم وسلطانهم، لكن تصرُفهم جاء بنتيجة عكسيَّة، فقد جاء عشرات الألوف يزحمون السيِّد مشتاقين إلى الالتقاء معه. وهكذا قبل أن يحذِّر السيِّد المسيح قطيعه من الرياء الذي للفرِّيسيِّين أوضح الإنجيلي لوقا وبدرس عملي كيف يفشل الرياء في تحقيق غاية السالكين به، وكما يقول الأب ثيؤفلاكتيوس: [هكذا الحق قوي، وكل خداع ضعيف[1].]
بالرياء يود الإنسان أن يجتذب الكل حوله ويحرمهم من الحق، لكن الرياء ينكشف، وينفر الناس من المرائين ليلتصقوا بالحق. هذا من جانب، ومن جانب آخر فقد شبَّهه السيِّد المسيح بالخميرة التي تعمل بالرغم من صغر حجمها في العجين كله، معلنًا أنه مفسد للإنسان بكليته، يفقده كل نقاوة وفضيلة روحيَّة في القلب والفكر والأحاسيس، حتى وإن ارتدى ثوبًا من التقوى الظاهرة والقدرة على التعليم والغيرة على المقدَّسات.
- الرياء يكرهه الله، ويمقته الإنسان. لا يجلب مكافأة، وبلا منفعة تمامًا في خلاص النفس، بل بالحري يكون علَّة هلاكها.
إن كان الرياء لا ينفضح أحيانًا، لكن إلى حين، إذ لا يدوم كثيرًا، بل ينكشف كل شيء، فيجلب على صاحبه وبالاً، وهكذا يكون أشبه بامرأة قبيحة المنظر تُنزَع عنها زينتها الخارجيَّة التي وُضعت لها بطرق صناعيَّة.
- الرياء غريب عن سمات القدِّيسين، إذ يستحيل أن يفلت شيء مما نفعله أو نقوله من عيني اللاهوت، إذ “ليس مكتوم لن يُستعلن، ولا خفي لن يُعرف” [2]. كل كلماتنا وأعمالنا ستُعلن في يوم الدين. لذلك فالرياء مُتعب وبلا منفعة. يليق بنا أن نتزكَّى كعباد حقيقيِّين نخدم الله بملامح صريحة وواضحة[2].
القدِّيس كيرلس الكبير
- تُمدح الخميرة بكونها مرتبطة بخبز الحياة، وتُلام حين تعني المكر المستمر المُر.
القدِّيس غريغوريوس النزينزي
- يُسمى الرياء خميرة، إذ هو يخدع نيَّات من يمارسه ويضلِّلها. ليس شيء يُفسد شخصيَّة الإنسان مثل الرياء.
- وجَّه حديثه للفرِّيسيِّين، وكأنه يقول لهم: أيها الفريِّسيُّون، ما تتكلَّمون به في الظلمة، أي كل مساعيكم لتجرِّبونني في مخابىء قلوبكم، يُسمع به في النور، لأني أنا هو النور، فبنوري تنفضح خداعات ظلمتكم. وما تنطقون به في الأذن والمخادع، أي ما تتهامسون به في آذان بعضكم البعض سوف يُعلن على السطح، إذ هو مسموع لي كمن يصرخ بصوتٍ عالٍ من فوق السطح.
هنا أيضًا يمكن أن يُفهم بالنور “الإنجيل”، وبالسطح نفوس التلاميذ المرتفعة. فما قد دبَّره الفريِّسيُّون معًا، سيُنادى به ويُكشف خلال نور الإنجيل، بالمبشِّر العظيم، الروح القدس، الذي يسيطر على نفوس التلاميذ (العالية).
الأب ثيؤفلاكتيوس بطريرك بلغاريا
- القطيع الجديد والخوف
إذ يطلب مِن كنيسته، القطيع الجديد، ألاَّ تحمل خمير الفرِّيسيِّين الذي هو الرياء، فلا يكون خارجها غير داخلها، يسألها أن تسلك بمخافة الرب وحده، دون خوف الناس. فمن يخاف الرب لا يهتم بحكم الناس، الأمر الذي ينزع عنه كل رياء لأنه لا يطلب مدحهم ولا يضطرب لذمهم، لا يسألهم المكافأة ولا يرهب بطشهم.
“ولكن أقول لكم يا أحبائي،
لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد
وبعد ذلك ليس لهم ما يفعلون أكثر.
بل أريكم ممن تخافون:
خافوا من الذي بعد ما يقتل له سلطان أن يلقى في جهنم.
نعم أقول لكم من هذا تخافوا” [4-5].
- يلزمنا أن نخاف عذاب النفس لا قتل الجسد، فالموت يمثل نهاية طبيعيَّة للعذاب الجسدي لكن ليس نهاية للعقاب. فهو يضع نهاية لآلام الجسد (الزمنيَّة)، أما عقاب النفس فأبدي. يلزمنا أن نخاف الله وحده![3]
القدِّيس أمبروسيوس
- هذه الوصيَّة تخص الذين يحبُّونه. ولكن من هم الذين يحبُّونه؟ نقول أولئك الذين لهم فكر مشابه له، غيورون في التبعيَّة على أثر خطواته. هذا ما يحثُّنا عليه الرسول بقوله: “فإذا قد تألَّم المسيح لأجلنا بالجسد تسلَّحوا أنتم أيضًا بهذه النيَّة” (1 بط 4: 1). لقد بذل حياته لأجلنا وكان بين الأموات كمن هو حرّ (مز 88: 5). فالموت لم يهاجمه بسبب الخطيَّة مثلنا، إذ كان ولا يزال بلا خطيَّة، غير قادر على صنع شرٍ، إنما احتمل الآلام بإرادته لأجلنا من أجل محبَّته لنا غير المحدودة. لنصغ إليه، إذ قال بوضوح: “ليس لأحد حب أعظم من هذا أن يضع أحد نفسه لأجل أحبَّائه” (يو 15: 13). أفلا تحسب دناءة مُرة ألا نرُد للمسيح دينه الضروري جدًا، الذي اِقترضناه منه؟
بطريقة أخرى، نقول إننا كأحبَّاء له يلزمنا ألا نخاف الموت بل بالحري نتمثَّل بالآباء القدِّيسين. فعندما جُرِّب الأب إبراهيم قدَّم ابنه الوحيد اسحق، حاسبًا أن الله قادر أن يقيمه من الأموات (عب 11: 19). أي رعب من الخوف يمكن أن يهاجمنا وقد أبطل “الحياة (المسيح)” الموت، لأن المسيح هو القيامة والحياة (يو 11: 25).
ولنضع أيضًا في ذهننا أن الأكاليل تُقتنى بالجهاد. فإن المصارعين الأقوياء في الحلقات ينالون الكمال بالجهاد العنيف مع الخبرة. الشجاعة والذهن الشهم هما اللذان يخدمان أصحاب المهارة في المعارك. أما من يلقي عنه دِرعه يحتقره العدو، وإن عاش الهارب من المعركة، يحيا كذليلٍ. أما الذي ثبُت في المعركة، ووقف ببسالة وشهامة بكل قوَّته ضد العدو، فيُكرم بنواله النصرة، وإن سقط (جريحًا) فيكون موضع إعجابٍ. هكذا يليق بنا أن نسلك، محتملين بصبر، وثابتين في الصراع بشجاعة، فننال المكافأة العظيمة، ونكون موضع إعجاب، ونقتني لأنفسنا بركات الله، أما رفض احتمال موت الجسد من أجل محبَّة المسيح فيجلب علينا عقابًا أبديًا لا ينقطع. لأن غضب الإنسان يبلغ نهايته عند حدود الجسد، ويكون موت الجسد هو نهاية صراعهم ضدَّنا، وأما إن عاقب الله فالخسارة لا تمس الجسد وحده… بل تمس النفس البائسة أيضًا فتسقط تحت العذابات.
ليته يكون نصيبنا هو الموت المكرَّم، الذي يُصعدنا إلى بداية الحياة الأبديَّة، والذي بالضرورة يلتصق بالبركات النابعة عن الفيض الإلهي. لنهرب من الحياة المخجلة ولنحتقرها، الحياة الكريهة المؤقَّتة التي تقود إلى عذاب أبدي مرّ[4].
القدِّيس كيرلس الكبير
- اُنظر كيف جعل ربَّنا تلاميذه فوق الكل، إذ حثَّهم أن يستخفُّوا بالموت الذي يرعب الكل! وفي نفس الوقت قدَّم تأكيدات لخلود النفس[5].
القدِّيس يوحنا الذهبي الفم
- قال أحد القدِّيسين: أن الجسد بخوفه من التجارب – كي لا يتضايق أو يخسر حياته – يصبح صديقًا للخطيَّة، ولهذا يُجبره الروح القدس على الموت لأنه إن لم يمت فلا يتغلَّب على الخطيَّة.
إذ شاء أحد أن يكون مسكنًا للرب عليه أن يقهر جسده، ويخدم الرب، ويعمل وصايا الروح، ويحفظ نفسه من أعمال الجسد التي كتب عنها الرسول. الجسم الممزوج بالخطيَّة يرتاح بأعمال الجسد، أما ثماره فلا تريح روح الله…
أموت هنا حتى لا أري موت النفس الحقيقي أي الانفصال عن الله. خير لي أن أموت هنا من أجل الطهارة عن أن أعيش حياة شرِّيرة لقد اخترت هذا الموت بحرِّيتي من أجل خطاياي[6].
الأب مار اسحق السرياني
- القطيع الجديد والاتِّكال على الله
إذ أراد السيِّد المسيح أن يشجِّعنا في جهادنا الروحي فلا نخاف موت الجسد، أكد لنا رعايته حتى لأجسادنا، بل ولشعور رؤوسنا التي تبدو في أعيننا أحيانًا بلا ثمن. إنه رب النفس والجسد معًا، يهتم بحياتنا في كلِّيتها، إذ يقول:
“أليست خمسة عصافير تباع بفلسين،
وواحد منها ليس منسيًا أمام الله؟
بل شعور رؤوسكم أيضًا جميعها محصاه،
فلا تخافوا، أنتم أفضل من عصافير كثيرة” [6-7].
- تأمَّل عظم رعايته بالذين يحبُّونه. فإن كان حافظ المسكونة يهتم هكذا حتى بالأمور التي بلا قيمة ويتنازل ليتحدَّث عن طيور صغيرة (لو 12: 6-7)، فكيف يمكنه أن ينسى الذين يحبُّونه والذين يتأهَّلون لافتقاده لهم، إذ يعرف كل دقائق حياتهم حتى عدد شعور رؤوسهم؟…
ليتنا لا نشك أن يده الغنيَّة تهب نعمته للذين يحبُّونه. فإما أنه لا يسمح لنا أن نسقط في تجربة، أو إن كان بحكمته يسمح لنا أن نسقط في الفخ إنما ليتمجَّد خلال الآلام، واهبًا إيَّانا بكل تأكيد قوَّة الاحتمال. الطوباوي بولس هو شاهدنا في ذلك إذ يقول: “الله أمين (قوي)، الذي لا يدعكم تجرَّبون فوق ما تستطيعون، بل سيجعل مع التجربة أيضًا المنفذ لتستطيعوا أن تحتملوا” (1 كو 10: 13)[7].
القدِّيس كيرلس الكبير
- إن كان الله لا ينسى العصافير، فكيف ينسى الإنسان؟ وإن كانت عظيمة هكذا وأبديَّة حتى أن العصفور وعدد شعور رؤوسنا ليس مخفيًا أمام علمه فكم يُحسب بالأكثر جاهلاً من يظن أن الرب يجهل القلوب الأمينة أو يتجاهلها؟…
العصافير الخمسة على ما يبدو لي هي حواس الجسد الخمس: اللمس والشم والتذوق والنظر والسمع. العصافير كالجسدانيين تنقر قذارة الأرض لتطلب غذائها في الأراضي البور ذات الرائحة النتنة، وتخطىء فتسقط في الشباك فلا تقدر على الارتفاع نحو الثمار العالية والوليمة الروحيَّة. فإغراءات الشباك تسبي في ثناياها تحركات أرواحنا. والتهاب طبيعتنا ونشاطنا وطهارتنا هذه كلها تتبدد خلال الاهتمام بالأرضيات والماديات واقتنائنا ترف هذا العالم. والآن بعد سبينا صار أمامنا نوعان من الملذّات، إما العبوديَّة للخطيَّة أو التحرَّر منها، فالمسيح يحرَّرنا والعدو يبيعنا. يعرضنا للبيع ليميتنا بينما يفدينا المسيح ليخلصنا. وقد ذكر متى عصفورين (مت 10: 29) إشارة إلى الجسد والروح…
لقد أُعطينا بالنعمة أن نطير، لكن اللذة تسبينا، فتصير الروح ثقيلة بفخاخ الشر وتنحدّر إلي مستوى طبيعة الجسد الثقيلة.
قيل أنه لا يسقط واحد منها بدون إذن الله، فالساقط ينحدر نحو الأرض، أما الذي يطير فتحمله النعمة الالهيَّة… فلا تخشى إذن سطوة الشيطان بل خف غضب الله.
النفس أيضًا شُبهت بعصفورٍ، إذ قيل: “نجت أنفسنا مثل العصفور من فخ الصياد” (مز 123: 7)، وفي موضع آخر: “كيف تقولون لنفسي: اهربوا إلي جبالكم كعصفورٍ” (مز 11: 1)، كما شُبه الإنسان بالعصفور: “أما أنا فكعصفورٍ منفرد علي السطح” (مز 102: 7)، إذ الإنسان مكون من عصفورين في واحدٍ، كإتحاد الجناحين اللذين يتعاونا في خفة ليرتفع فيغلب الطبع الروحي علي المادي.
يوجد عصفور صالح يقدر بالطبيعة (الروحيَّة) أن يطير، وعصفور شرِّير لا يقدر أن يطير بسبب النجاسات الأرضية، وهذا الأخير يُباع بفلسين… ما أبخس ثمن الخطايا؟ فالموت يشمل الجميع، أما الفضيلة فثمينة! يعرضنا العدو للبيع كالعبيد الأسرى ويّقيمنا بثمن بخس، أما الرب فيعاملنا كعبيد صالحين خلقهم علي صورته ومثاله، يّقيمنا بثمنٍ عظيمٍ، إذ يقول الرسول: “قد اُشتريتم بثمن” (1 كو 6: 20). نعم أنه ثمن غالٍ لا يحُسب بفضة بل بالدم الثمين. لأن المسيح مات لأجلنا وحرَّرنا بدمه الثمين، كما يشير القدِّيس بطرس في رسالته: “عالمين أنكم أفتديتم، لا بأشياء تفنى بفضة أو ذهب من سيرتكم الباطلة التي تقلدتموها من الآباء، بل بدمٍ كريمٍ كما من حمل بلا عيب ولا دنس دم المسيح” (1 بط 1: 18-19)، نعم هو دم ثمين لأنه دم جسد بلا دنس، دم ابن الله الذي فدانا ليس فقط من لعنة الناموس (غل 3: 13) بل ومن موت الخطيَّة الأبدي[8].
القدِّيس أمبروسيوس
- العصافير الخمس تُفهم بطريقة سريَّة الحواس الخمس التي لها إدراكات علويَّة للأمور السماويَّة: ترى الله، وتسمع الصوت الإلهي، وتتذوق خبز الحياة، وتشتم رائحة المسيح، وتمسك كلمة الحياة. هذه الحواس تُباع بفلسين، إذ تُحسب رخيصة بواسطة الذين يُهلكون ما هو من الروح وهم غير منسيين أمام الله[9].
العلامة أوريجينوس
- هذه الحواس تُباع بفلسين أي بالعهدين الجديد والقديم، ولذلك فهم غير منسيين من الله[10].
الأب ثيؤفلاكتيوس
- رأس الإنسان – سريًا – هو فمه، وشعره هي أفكاره المكشوفة في عيني الله.
القدِّيس كيرلس الكبير
- 4. القطيع الجديد والشهادة
“وأقول لكم كل من اعترف بي قدام الناس
يعترف به ابن الإنسان قدام ملائكة الله.
ومن أنكرنى قدام الناس ينكر قدام ملائكة الله.
وكل من قال كلمة علي ابن الإنسان يُغفر له، وأما من جدف علي الروح القدس فلا يغُفر له.
ومتى قدَّموكم إلي المجامع والرؤساء والسلاطين فلا تهتموا كيف أو بما تحتجون أو بما تقولون.
لأن الروح القدس يعلمكم في تلك الساعة ما يجب أن تقولوه” [8-12].
إن كانت الخطيَّة قد أفسدت العصافير الخمسة أي حواسنا الداخليَّة، فعوض انطلاقها بالروح القدس نحو الإلهيات لترى وتسمع وتتذوق وتلمس وتشتم ما هو أبدى وإلهي، إذا بها تسقط في فخاخ الملذّات وترتبط بحبال العالم، وتصير عاجزة عن الطيران أسيرة فخاخ العدو تحت سلطانه العنيف المهلك. لهذا فإن الإنسان حتى في تدينه لم يقدر أن يرتفع إلي فوق بل صار في عبادته وكرازته أسير المجد الباطل والرياء وأحيانا الطمع المادي الأمور التي وهبته فكرًا فرِّيسيا ناموسيًا، يهتم بالحرف القاتل عوض الروح العميق الذي يبنى. وقد افتدانا الرب ليطلقنا من هذه الفخاخ لنحيا في هذا العالم شهود حق للمخلِّص خلال حياتنا السماويَّة وفكرنا الجديد وإنساننا الروحي الذي هو من عمل إلهنا… نشهد له هنا فيشهد لنا ابن الإنسان في المقادس السماويَّة عينها.
لقد دفع دمه ثمنًا لانتزاعنا من فخ الرياء، مؤكدًا لنا أن ما نقوله في الظلمة يُستعلن في النور، وما ننادى به الأذن يعلن علي السطوح… والآن هاهو يؤكد أن ما نفعله هنا كما في الظلمة أو في الأذن يعلنه ربَّنا يسوع نفسه أمام ملائكته وقدِّيسيه في الرب العظيم.
إن كان المراؤون يفعلون الشر خفيَّة فينفضحون، فعلم الكنيسة الظاهر والخفي هو الاعتراف بالمخلِّص لكي تتمجد حقيقة!
- الرب غير مقتنع بالإيمان الداخلي وحده، إنما يسألنا الاعتراف الظاهر، حاثًا إيَّانا علي الثقة والحب العظيم. ولما كان هذا نافعًا للجميع قال: “كل من اعترف بي…”[11]
القدِّيس يوحنا الذهبي الفم
- “لأنك أن اعترفت بفمك بالرب يسوع، وآمنت بقلبك أن الله أقامه من الأموات، خلصت” (رو 10: 9). لقد وضح سّر المسيح في هذه الكلمات بطريقة رائعة.
أول كل شيء من واجبنا أن نعترف بأن الابن المولود من الله الآب، الابن الوحيد الذي من جوهره، الله الكلمة، هو رب الكل، ليس كمن نال الربوبية من الخارج بل تُنسب له بكونه الرب بالحق بالطبيعة، كما الآب أيضا. ثانيًا يليق بنا أن نؤمن بأن الله أقامه من الأموات، بمعنى أنه إذ صار إنسانًا تألَّم في الجسد من أجلنا وقام من الأموات، لذلك كما قلت الابن هو الرب… هو وحده الرب بالطبيعة بكونه الله الكلمة فوق كل خليقة. هذا ما يعلمنا إيَّاه الحكيم بولس، قائلاً: ” لأنه وإن وُجد ما يُسمى آلهة سواء كان في السماء أو علي الأرض كما يوجد آلهة كثيرون وأرباب كثيرة، لكن لنا إله واحد الآب الذي منه جميع الأشياء ونحن له، ورب واحد يسوع المسيح الذي به جميع الأشياء ونحن به” (1 كو 8: 5-6)…
من يعترف بالمسيح أمام الناس أنه الله الرب، يعترف به أمام ملائكة الله ولكن أين؟ وكيف؟ واضح أنه في ذلك الوقت عندما ينزل من السماء في مجد أبيه مع الملائكة القدِّيسين في نهاية هذا العالم، حيث يكلل المعترفين به الحقيقيين الذين لهم الإيمان الأصيل غير المتردد… هناك تتلألأ جماعة الشهداء القدِّيسين الذين احتملوا الجهاد حتى بذل الدم، وقد كرموّا المسيح بصبرهم، ولم ينكروا المخلِّص، ولم يكن مجده غير معروف لديهم، بل وقدَّموا ولاءهم له. مثل هؤلاء يمدحهم الملائكة القدِّيسون الذين يمجدون المسيح مخلِّص الكل من أجل الكرامات التي يهبها لقدِّيسيه والتي يستحقونها. هذا ما يعلنه المرتل: “تخبر السماوات بعدله (ببره)، لأن الله هو الديان” (مز 50: 6). هذا هو نصيب المعترفين به.
أما البقيَّة التي جحدته واستهانت به فستنكر، عندما يقول لهم كما سبق فقيل بأحد الأنبياء قديمًا: “كما فعلت يُفعل بَك، عملك يرتد علي رأسك” (عو 15). وينكرهم بهذه الكلمات: “لا أعرفكم… تباعدوا عنى يا جميع فاعلي الظلم” (لو 13: 27).
من هم هؤلاء الذين يُنكرون؟
أولاً، الذين عندما يسقطون تحت ضغط الاضطهاد وتحل بهم ضيقة ينكرون الإيمان، هؤلاء يفقدون الرجاء كلية من جذوره، فلا توجد كلمات بشريَّة يمكن أن تعبر عن ذلك إذ ينالون غضبًا ودينونة ونارًا لا تُطفأ.
بنفس الطريقة الذين يتبعون هرطقة والذين يعلّمون بها، هذه الهرطقة تنكره كأن يتجاسر البعض فيقول أن كلمة الله، الابن الوحيد، ليس هو الله بالطبيعة والحق[12].
القدِّيس كيرلس الكبير
- [إنكار المسيح خلال الحياة الفاسدة التي لا تليق بنا].
توجد أيضًا وسائل أخرى للإنكار يصفها القدِّيس بولس، قائلاً: “يعترفون بأنهم يعرفون الله، ولكنهم بالأعمال ينكرونه” (تى 1: 16)، وأيضا: “وإن كان أحد لا يعتني بخاصته ولاسيما أهل بيته فقد أنكر الإيمان، وهو أشر من غير المؤمن” (1 تي 5: 8)، وأيضا: “(هربوا من) الطمع الذي هو عبادة الأوثان” (كو 3: 5).
وكما توجد أنواع مختلفة من الإنكار، فمن الواضح أيضًا توجد أنواع مختلفة من الاعتراف به، لاحظوا الاهتمام بالتحذير من الأعمال.
في اليونانية يقول: “من يعترف فيّ in me” مظهرًا أن الاعتراف (بالمسيح) لا يتحقَّق بقوَّة الإنسان الذاتيَّة إنما بعون النعمة العلويَّة، فالإنسان يعترف بالمسيح. أما عن الإنكار فيقول “ينكرني”، فإن حُرم من النعمة ينكر، ومع هذا فهو يُدان لأن الحرمان تحقَّق بواسطته (إذ رفض النعمة) فالخطأ يُنسب له[13].
القدِّيس يوحنا الذهبي الفم
ليتنا إذن نشهد للرب ونعترف به بفمنا وقلبنا وبإيماننا الحق وسلوكنا اللائق خلال عمل نعمته الواهب قوَّة الشهادة والعمل، ليظهر مسيحنا القائم من الأموات متجليًا في أعماقنا واضحًا في حياتنا اليومية خلال الحياة الجديدة التي لنا فيه. بهذه الشهادة وهذا الاعتراف اليومي نتأهل أن يعترف ربَّنا نفسه بنا أمام ملائكته، إذ يحسبنا ورثة الله، ووارثون مع المسيح، وشركاء في المجد الأبدي، لنا موضع في حضن الآب!
ولما كان الاعتراف بالسيِّد المسيح مكافأته العلنية الأبديَّة بلا رجعة، وأيضا للانكار جزاءه الأبدي بلا رجعة لهذا خشى لئلاَّ ينهار أحد بروح اليأس أن ضعف مرة وسقط في الجحود، فيظن أنه لايقدر أن يرجع ويتوب بل يسقط تحت هلاك ابدى لهذا يؤكد: “وكل من قال كلمة علي ابن الإنسان يُغفر له” [10]، فاتحًا أبواب الرجاء علي مصراعيه خلال التوبة. وقد جاءت تكملة حديثه تؤكد ذلك، بقوله: “وأما من جدف علي الروح القدس فلا يُغفر له” [10]. بمعنى أن من يرفض عمل الروح القدس واهب التوبة والمغفرة يفقد غفرانه. وقد سبق لنا الحديث في شيء من الاستفاضة عن “التجديف علي الروح القدس”، مؤكدين أن التجديف الذي لا يُغفر هو الإصرار علي عدم التوبة[14].
لقد أساء البعض فهم هذه العبارة الإلهية حاسبين أن من يقول كلمة على ابن الإنسان تُغفر له بينما من يقول كلمة على الروح القدس لا تُغفر، بمعنى أن من يخطئ ضد السيِّد المسيح بكونه قد تجسد مختفيًا يغفر له حين يكتشف الحق ويتوب، بينما من يخطئ ضد الروح القدس فلا توبة له. هذا التفسير لا يمكن قبوله، إذ أكّد الكتاب المقدَّس أن كل خطيَّة نقدَّم عنها توبة تُغفر، هذا أيضًا ما أعلنه آباء الكنيسة فاتحين أبواب الرجاء حتى أمام الهراطقة الذين جدفوا ضد الروح القدس وأتباعهم أن رجعوا عن خطأهم، وقد قبلتهم الكنيسة فعلاً عند توبتهم.
يؤكد القدِّيس أمبروسيوس أن التمايز هنا يقوم علي أساس تمايز أعمال الثالوث القدُّوس، وأن الإنكار للروح القدس أو التجديف عليه إنما يعنى رفض عمله تمامًا، أي رفض عمل التوبة الذي يبعثه الروح فينا. هذا ما يوضحه نفس حديث السيِّد، إذ يكمل قائلاً: [“لأن الروح القدس يعلمكم في تلك الساعة ما يجب أن تقولوه” [12]. فمن يرفض عمله الخفي في القلب لا ينال غفرانًا حتى يرجع ويقبله من جديد.]
ولما كانت الشهادة للسيد المسيح تضع تلاميذه أمام المجامع والرؤساء والسلاطين، فقد وهبهم إمكانية لهذا العمل، إذ عهد بهم في يدّي روحه القدُّوس، قائلاً: “لأن الروح القدس يعلمكم في تلك الساعة ما يجب لأن تقولوه” [12].
- يقول أن ما ننطق به ونجيب به (وقت الضيق) يوهب لنا في تلك الساعة من السماء التي تمدنا، فلا نتكلم نحن بل روح الله الذي لا يفارق من يعترفون به، ولا ينفصل عنهم، بل يتكلَّم فيهم ويتّوج فيهم.
- إن عمله هو أن نغلب وننال النصرة بإخضاع العدو في الصراع العظيم[15].
القدِّيس كبريانوس
- عندما تثور خلافات أو صراعات بين الأصدقاء يأمرنا الرب أن نفكر جيدًا في الأمر، لكن حينما يصير رعب محاكم العدالة وتثور المخاوف من كل جانب، فإنه يعطينا قوَّته واهبة الشجاعة وما ننطق به وعدم ثبط الهمة[16].
القدِّيس يوحنا الذهبي الفم
- 5. القطيع الجديد والطمع
كان حديثه السابق كله يحثُّنا علي الشهادة للرب والاعتراف به بالقلب كما باللسان، حتى في أحلك الظروف وعند شدة الضيق. الآن يسألنا الشهادة له خلال الحياة العملية الفاضلة، محذرًا من أخطر عدو يمكن أن يصيب المؤمن ألا وهو الطمع ومحبَّة العالم، إذ يمكن أن يربك حتى خدام الكلمة في الأمور الزمنيَّة ليسحب قلوبهم عن حمل سمات عريسهم السماوي.
إذ تشاجر أخان علي الميراث جاء أحدهما يطلب من السيِّد أن يقضي له، فأجابه: “يا إنسان من أقامني عليكما قاضيًا أو مقسمًا؟ وقال لهم: “أنظروا وتحفظوا من كل طمع” [14–15]. ولعل إجابة السيِّد المسيح هذه هدف بها إلي الآتي:
أولاً: أن يرفع عمل الكرازة بالكلمة فوق المشاكل الماديَّة، لكي يتفرغ خدام الكلمة للاهتمام بالدخول بكل نفسٍ إلي العمل الخلاصي والاهتمام بالأبديات.
ثانيًا: ألا نستغل الإيمان لحساب الاهتمام بالحقوق الزمنيَّة، وإنما تركيز الاهتمام بالفرح الأبدي.
ثالثًا: يحذِّر قطيعه الجديد من الطمع المفسد للحياة الجماعيَّة كما للقلب.
- أعطيت لنا العبارة السابقة كلها لتعدنا لاحتمال الألم من أجل الشهادة للرب، وللاستخفاف بالموت أو بترجي المكافأة أو عدم السقوط تحت العقوبة التي تنتظر من لا ينال الغفران. ولما كان الطمع بوجه عام مفسد للفضيلة لذلك أضيفت وصيَّة خاصة به مع مثال… “يا إنسان من أقامني عليكما قاضيا أو مقسمًا؟”
حسنًا، لقد تجنب الأمور الأرضية ذاك الذي نزل لأجل الأمور الإلهية، فلم يقبل أن يكون قاضيًا للنزاعات يفصل في القوانين الخاصة بغنى هذا العالم وهو ديّان الأحياء والأموات الذي يجازى الكل علي أعمالهم. فعندما تطلب منه تأمَّل في العاطى لا في العطيَّة، ولا تظن أن الفكر الذي يهتم بالأمور العالية يمكن أن يضطرب للأمور الدنيا. لهذا صرف الرب هذا الأخ الذي اهتم بتحصيل الخيرات الفانية دون السمائية.
رأي أنه ينبغي ألا يتدخل بين الإخوة كقاضٍ، وإنما يلزم أن يكون الحب (لا القضاء) هو وسيطهم في التفاهم، وتقسيم الميراث الأبدي لا ميراث الفضة، إذ باطل هو تكريس الأموال أن كان الإنسان لا يعرف كيف يستخدمها[17].
القدِّيس أمبروسيوس
- حقا لقد ظهر الابن في شكلنا، وأقامه الآب رأسًا وملكًا علي صهيون جبل قدسه ككلمات المرتل (مز 2: 6)، وقد أظهر طبيعة عمله بوضوح، إذ يقول: “جئت لأكرز بوصيَّة الرب”. ما هذا؟ يريد لنا سيدنا محب الفضيلة أن نترك الأمور الأرضية الزمنيَّة، وأن نهرب من محبَّة الجسد، ومن القلق الباطل علي العمل، ومن الشهوات الدنيئة، ولا نبالي بالمخازن، بل نحتقر الغنى ومحبَّة الربح (القبيح)، إنما نكون صالحين محبين لبعضنا البعض، وألا نجمع كنوزًا علي الأرض بل نرتفع فوق الصراعات والحسد، فلا نتنازع مع الإخوة، بل بالحري نرحب بهم حتى وإن أرادوا استغلالنا، إذ يقول: “من أخذ الذي لك فلا تطالبه” (لو 6: 30)، بل بالحري نصارع ونجاهد من أجل الأمور النافعة والضروريَّة لخلاص النفس…
لم يتركنا بدون تعليم، إذ وجد الفرصة سانحة ليقدَّم حديثًا نافعًا ومخلِّصا… معلنًا: “انظروا وتحفظوا من كل طمع“. لقد أظهر أن الطمع هو الوجرة (الحفرة الخاصة بصيد الوحوش) التي يقيمها الشيطان، وهو أمر مكروه من الله، وقد دعاه الحكيم بولس عبادة أوثان (كو 3: 5)، ربَّما لأنه يناسب فقط الذين لا يعرفون الله، أو لأنه مساوِ للرجاسات التي يفعلها من يعبد الأصنام والحجارة.
الطمع هو فخ الأرواح الشرِّيرة، به يسبحون نفس الإنسان إلي شباك الهاويَّة. لهذا بعدل حقيقي لكي يجعلهم في آمان يقول: “انظروا وتحفظوا من كل طمع“، أي من الطمع الكثير أو القليل، ومن خداع الإنسان للآخر أيا كان هذا الإنسان. فكما قلت أن الطمع مكروه من الله والناس…
هذا نتعلمه من الله نفسه الذي يقول علي فم أنبيائه القدِّيسين: “لذلك من أجل أنكم تدوسون (رأس) المسكين وتأخذون منه هديَّة مختارة، بنيتم بيوتًا من حجارة منحوته ولا تسكنون فيها، وغرستم كرومًا شهية ولا تشربون خمرها، لأني علمت أن ذنوبكم كثيرة وخطاياكم وافرة” (عا 5: 11-12). وأيضًا: “ويل للذين يصلون بيتًا ببيت، ويقربون حقلاً بحقل حتى لم يبقَ موضع. هل تسكنون وحدكم في وسط الأرض؟ فقد بلغت هذه في أذني قال رب الجنود. فمع أن بيوتكم كثيرة تصير خرابًا، بيوت كبيرة وحسنة بلا ساكن. لأن عشرة فدادين كرم تصنع بثًا واحدًا، وحومر بذار يصنع إيفة” (إش 5: 8-10). فمع أنهم بظلم الآخرين يقتنون بيوتًا وحقولاً، لكنها تكون باطلة بلا ساكن، لا تنفع شيئا لصانعي الشر لأن غضب الله يحّل عليهم بعدل. لذلك فلا منفعة للطمع بأي طريق كان.
من وجهة نظر أخرى فإن الطمع لا ينفع شيئًا لأن حياة الإنسان كما يقول الرب لا تقوم علي ممتلكاته [15]، بتمتعه بالفيض. هذه حقيقة واضحة فإن حياة الإنسان لا تمتد مدتها حسب غناه، ولا مجموع حياته يتناسب مع ربحه القبيح[18].
القدِّيس كيرلس الكبير
- ” فإنه متى كان لأحد كثير، فليست حياته من أمواله” [15]. يقول ربَّنا هذا ليوبخ دوافع الطامعين الذين يجمعون الغنى كمن يعيشون زمانًا طويلاً. لكن هل الغنى يجعلك تعيش لمدة أطول؟ فلماذا إذن تظهر شرورًا من أجل راحة غير مضمونه؟
الأب ثيؤفلاكتيوس
إذ أعلن السيِّد المسيح أن حياة الإنسان لا ترتبط بغناه، أراد تأكيد ذلك بمثل، إذ قال الإنجيلي:
“ضرب لهم مثلاً، قائلاً: إنسان غني أخصبت كورته.
ففكر في نفسه، قائلاً: ماذا أعمل لأن ليس لي موضع أجمع فيه أثماري.
وقال: أعمل هذا. أهدم مخازني، وابني أعظم، وأجمع هناك جميع غلاتي وخيراتي.
وأقول لنفسي: يا نفسي لك خيرات كثيرة موضوعة لسنين كثيرة،
استريحي وكلي واشربي، وافرحي.
فقال له الله: يا غبي هذه الليلة تطلب نفسك منك، فهذه التي أعددتها لمن تكون؟
هكذا الذي يكنز لنفسه، وليس هو غنيًا لله” [16–21].
يلاحظ في هذا المثل الآتي:
أولاً: يرى القدِّيس يوحنا الذهبي الفم أن هذا الغني قد أخطأ إذ دعا غناه “خيرات”، فإن الغنى ليس خيرًا في ذاته ولا يُحسب شرًا. الخير هو الفضيلة مثل العفة والتواضع وما إلى ذلك، أن اختاره الإنسان يصير صالحًا، والشر هو الرذيلة ومن يختاره يُحسب شرِّيرا، أما الأمور الأخرى فهي طبيعيَّة ليست صالحة ولا شرِّيرة، إنما يمكن توجيهها للخير كما للشر، فالغنى أن استخدمناه في العطاء صار خيرًا، وإن حمل طمعًا صار شرًا. وقد وأضح القدِّيس هذا المفهوم في أكثر من موضع، خاصة في مقالة: “لا يقدر أحد أن يؤذى إنسانًا ما لم يؤذِِ الإنسان نفسه” موضحًا أن الغنى كما الفقر لا يؤذيان الإنسان، لكن ما يؤذيه هو شر قلبه الداخلي وإساءة استخدام الغنى أو الفقر.
وكما أن الغنى في ذاته ليس خيرًا يؤكد القدِّيس إكليمنضس السكندري في كتابه: “من هو الغني الذي يخلص؟” أن الغنى ليس شرًا، بل هو نافع أن أُحسن استخدامه، وأن أغنياء كثيرين أيضًا يتمتعون بالملكوت خلال محبَّتهم للعطاء.
ثانيًا: انصرف قلب هذا الغني الذي ذكره السيِّد المسيح إلي الغنى الأرضي فأُتخم قلبه جدّا بمحبَّة الزمنيات وتفجرت مخازن نفسه الشرِّيرة بالطمع، وظن أنه قادر أن يقيم لنفسه مخازن جديدة فإذا بنفسه تُطلب منه وقد تحطمت مخازنها تمامًا.
يقول القدِّيس باسيليوس الكبير: ]إنه لم يذكر إخوته في الخليقة، ولا حسب أنه يجب أن يعطي من فائضه للمحتاجين. كانت مخازنه تتفجر من فيض المخزون، أما جشع ذهنه فلم يشبع بأية وسيلة… يقول: أعمل هذا، أهدم مخازني… حسنًا تفعل، فإن مخازنك الشرِّيرة تستحق الهدم. تهدم مخازنك التي لا تقدَّم راحة لأحد[19].[
ثالثًا: لم يدرك هذا الغني أن الله هو سّر حياة النفس البشريَّة، من يقتنيه في داخله يقتنى الحياة علي مستوى أبدي، فلا يغلبه الموت، بل ينطلق مرتفعًا بالحق فوق حدود الزمن. لقد أخطأ إذ حسب أن حياته تقّيم حسب غناه، فلما صار له فيض من الغنى حسب أن لنفسه خيرات لسنوات طويلة، ولم يدرك أنها تُطلب منه في ذات الليلة يقول القدِّيس إكليمنضس السكندري: ]لا تقوم حياة الإنسان على فيض ما يملكه من الأشياء[20].] ويقول القدِّيس كيرلس السكندري: ]حقًا أن حياة الإنسان لا تقوم علي ممتلكاته خلال مالديه من فيض، إنما يُحسب مطّوبًا وذا رجاء مجيد من كان غنيًا بالله[21].]
رابعًا: يرى القدِّيس يوحنا كاسيان أن سّر انحراف هذا الغني هو اهتماماته بالغد، إذ يقول: ]ليتنا لا نهتم بالغد فلا نسمح لأنفسنا قط بانحرافها عن قواعد التجرد والنسك[22]. [ويرى القدِّيس أغسطينوس أن اهتمامه بنوال الكماليَّات هو سّر انحرافه، إذ يقول: ]ألا ترى أن الطمع – أن طلبنا ما هو أكثر من الضروريات – يجعلنا نخطىء؟ لنحذر كل طمع أن أردنا التمتع بالحكمة الأبديَّة[23]. [
خامسًا: في مقدَّمة هذا السفر قلنا أنه “إنجيل الفرح”، فقد جاء صديقنا السماوي ليهبنا خلال صداقته فرحًا أبديًا لا يُنزع عنا، وقد رأينا أن هذا السفر أفتتح بالفرح والتسبيح وخُتم بالفرح. وإذ أراد أن يميز بين فرح الصديق وفرح العالم، قدَّم لنا هذا المثل، فيه يناجى الغني نفسه، قائلاً لها: “افرحي“، لكنه لم تمضِ ربَّما ساعات وقد فقدت نفسه ينبوع فرحها الزمني، بل وفقدت حياتها كلها لأنها جعلت من غنى هذا العالم علَّة لفرحها.
الإنسان الجسداني يفرح حين ينال زمنيات مهما كانت قيمتها لكنه سرعان ما يحزن حين يخسر ولو القليل مما ربح، يفقد فرحه وسلامه. لعل هذا ما أراد تأكيده القدِّيس جيروم حين قال: ]حينما نربح فلسًا نمتلئ فرحًا، وحينما نخسر نصف فلس نغرق في الحزن[24] .[
سادسًا: يُعلِّق الأب غريغوريوس (الكبير) علي قول السيِّد “هذه الليلة تطلب نفسك منك“، قائلاً: [تُطلب النفس بالليل هذه التي سلكت في ظلمة قلبها، إذ لم ترد أن نسلك في نور التأمَّل[.
ويُعلِّق القدِّيس يوحنا الذهبي الفم علي قول السيِّد: فهذه التي أعددتها لمن تكون؟” قائلاً: ]إنك تترك كل الأشياء هنا، فلا تخرج صفر اليدين فحسب، وإنما تخرج مثقلاً بحمل خطايا علي كتفيك، وما جمعته هنا غالبًا ما يقع في أيدي الأعداء، وفي نفس الوقت تُطالب أنت به[25].[
- 6. القطيع الجديد والزمنيات
“وقال لتلاميذه: من أجل هذا أقول لكم، لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون،
ولا للجسد بما تلبسون.
الحياة أفضل من الطعام، والجسد أفضل من اللباس” [22-23].
إذا يريد ربَّنا يسوع المسيح صديقنا السماوي أن يرتفع بقطيعه الجديد ليحمل سمات لائقة به يرتفع به تدريجيًا، فبعد أن حثه علي الاعتراف بالإيمان حذره من الطمع كعدوٍ خطير يفقد الإنسان علاقته بالله والناس، ويحطم حياته الداخليَّة، ثم قدَّم له مثل الغني الغبي الذي وضع قلبه في مخازن ترابية، حاثًا إيَّانا ألا نهتم بالكماليَّات، والآن يرتفع بنا إلي مستوى أعلى، وهو ألا نرتبك حتى بالضروريات كالطعام والملبس. أنه يؤكد لنا أنه خالقنا وهبنا الحياة أفلا يهتم بإطعامنا وإن كان قد صنع لنا الجسد أما يهتم بملبسنا… أنه يود أن يكون قطيعه لا في حالة تواكل أو تراخٍ، وإنما في اتزان الفكر بلا همّ أو قلق، يتكئ علي صدر راعيه الصالحة بلا اضطراب.
- الكلمات “لا تهتموا…” لا تعني “لا تعملوا”، إنما لا تكن أفكاركم مرتبطة بالأرضيات، إذ يمكن للإنسان أن يعمل دون أن يهتم[26].
القدِّيس يوحنا الذهبي الفم
- لم يقل “لا تهتموا” فقط وإنما “لحياتكم” أي لا تركزوا حرصكم علي هذه الأمور، بل ليكن شغفكم منصبًا علي أمور أعظم. فإن الحياة حقًا هي أفضل من الطعام، والجسد أفضل من اللباس. فإن كان يوجد خطر علي حياتنا وأجسادنا فيسقط السالكون الحياة شرِّيرة تحت الألم والعقاب لذا يلزم تجنب الاهتمام بالملبس والطعام.
بجانب هذا؛ يا له من أمر دنيء لمحبي الفضيلة ولتابعي الفضائل الجادة بغيرة لكي يُحسبوا ممتازين ومزكين أمام الله أن يرتبكوا بلباس جميل كأطفال صغار، أو يجروا وراء ولائم مكلّفة. فإنه يتبع هذه الأمور جمهور آخر من الشهوات العنيفة وتكون النتيجة ارتداد عن الله، إذ قيل: “لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم” (ا يو 2: 15)، وأيضًا: “أما تعلمون أن محبَّة العالم عداوة لله؟” (يع 4: 4). فمن واجبنا إذن أن نحفظ أقدامنا بعيدًا عن الشهوات العالمية، بل بالحري أن نبتهج بالأمور التي تسرّ الله.
ربما تسأل: فمن إذن يعطينا ضروريات الحياة؟ فنجيب هكذا: ليكن الرب موضع ثقة، فقد وعدك بوضوح بهذه الأمور مقدَّما لك بأمور صغيرة (اهتمامه بالغربان وزنابق الحقل) تأكيدًا أنه صادق في الأوامر الكبرى[27].
القدِّيس كيرلس الكبير
يرى القدِّيس أمبروسيوس[28] أن الله خلق النفس والجسد معًا في وحدة، فالجسد هو لباس النفس، والنفس هي حياة الجسد، وكأنه يريدنا ألا نهتم بالطعام والملبس بل بالنفس والجسد معًا لأجل بلوغنا الحياة الأبديَّة الدائمة.
يريد لنا أن نرتفع حتى فوق الضروريات لا لنهملها، وإنما لكي لا تمتص تفكيرنا وتحطم سلامنا الداخلي، وإنما نمارسها بفكر مقدَّس، فنرى مع الرسول أننا إن أكلنا أو شربنا نفعل ذلك لمجد الله، حتى تعزيتنا ففي المسيح يسوع ربنا. بهذا يحيا الإنسان في العالم بلا هّم فينجح هنا وينال مئة ضعف خلال سلامه الداخلي ويُحسب هذا له رصيدًا علي مستوى أبدي! الحياة التي بلا هم هي سّر نجاح المؤمن وسلامه وفرحه في هذا العالم ومجده في العالم الأبدي.
- القطيع الجديد والسماويَّات
الله لا يريد أن يحرم قطيعه العاقل من شيء، إذ خلق كل شيء من أجل الإنسان، لكنه إذ رأى الإنسان قد تعلق بالعالم فأفسد قلبه بالطمع ونفسه بالهم وحياته بانشغاله عن خالقه، أوصاه أن يترك الزمنيات لكي ينعم بالسماويات. أراده أن يترك العطيَّة من قلبه ليلتصق بالعاطي، فيكون له فيض من العطايا. لهذا أكمل السيِّد المسيح حديثه معنا مؤكدًا لنا ثلاثة أمور:
أولاً: أن الله ليس جامدًا من جهتنا، بل هو محب للبشر، إن كان من أجلنا يهتم بخليقته غير العاقلة، فيقوت الغربان ويلبس زنابقِ الحقل جمالاً فائقًا، أفلا يهتم بالأولى بالإنسان الذي من أجله خلق الغربان والزنابق [24]؟
ثانيًا: أن الاهتمام لا يُصلح من أمرنا، فلا نستطيع أن نزيد علي قامتنا ذراعًا واحدة، فلماذا نعيش مهمومين نفقد سلامنا الداخلي وعلاقتنا بالله دون نفعٍ زمنيٍ أيضًا [25]؟
ثالثًا: أنه لا يود الحرمان لأجل الحرمان، بل يود أن يهب ما هو أعظم: “اطلبوا ملكوت الله وهذه كلها تزاد لكم” [31]. بمعنى آخر ليكن قلبنا متفرغًا من الزمنيات، فيدخل الرب ويقيم مملكته دون أن يحرمنا حتى مما تركنا”.
إن عدنا إلي النص الإنجيلي نجده هكذا:
“تأمَّلوا الغربان إنها لا تزرع ولا تحصد،
وليس لها مخدع ولا مخزن، والله يقيتها،
كم أنتم بالحري أفضل من الطيور؟
ومن منكم إذا اهتم يقدر أن يزيد علي قامته ذراعًا واحدة.
فان كنتم لا تقدرون ولا على الأصغر،
فلماذا تهتمون بالبواقي؟
تأمَّلوا الزنابق كيف تنمو، لا تتعب ولا تغزل،
ولكن أقول لكم أنه ولا سليمان في كل مجده كان يلبس كواحدة منها.
فإن كان العشب الذي يوجد اليوم في الحقل
ويطرح غدًا في التنور
يلبسه الله هكذا فكم بالحري يلبسكم أنتم يا قليلي الإيمان؟
فلا تطلبوا أنتم ما تأكلون وما تشربون ولا تقلقوا.
فإن هذه كلها تطلبها أمم العالم،
وأما أنتم فأبوكم يعلم أنكم تحتاجون إلي هذه.
بل أطلبوا ملكوت الله وهذه كلها تزاد لكم” [24-31].
سبق لنا عرض مقتطفات من تعليقات لبعض آباء الكنيسة علي هذه العبارات الإنجيلية[29]، أضيف عليها المقتطفات التالية:
- إن كانت طيور السماء التي لا تزرع ولا تحصد محاصيل وفيرة والعناية الإلهيَّة تعولها علي الدوام، يليق بنا نحن بالحري أن نرى في طمعنا علامة من علامات فقرنا.
مصادر قوت الطيور كثيرة ووفيرة ليست من صنعها، لأنها لا تعرف ملكيَّة خاصة بها، والثمار التي تُعطى لها مشتركة للجميع، أما نحن ففقدنا الخيرات المشتركة مطالبين بالملكيات الخاصة…
ليتك لا تتطلع إلي الخيرات كملكٍ خاصٍ بك، فقد أراد الرب أن يكون الطعام مشتركًا بينك وبين الطيور والحيوانات.
طيور السماء لا تطلب ملكًا خاصًا بها، لذلك فهي لا تعرف العوز للطعام، كما لا تحسد الآخرين.
“تأمَّلوا الزنابق كيف تنمو…”، بهذه الكلمات يدعونا الرب للثقة فيه. إنه يهبنا رحمته. المعنى الحرفي لهذه العبارات يعني أننا لا نستطيع أن نضيف شيئًا لقامة أجسادنا، وأما المعنى الروحي فهو أننا لا نستطيع أن نتخطى حدود مستوانا دون معونة الله…
وضع الرب الزنبقة كما في مرتبة أعلى من الإنسان ذاته وجعلها أكثر مجدّا من الناس الذين يمثلهم سليمان الذي تمتع بامتياز بنائه هيكل الرب في الظاهر الممثل لكنيسة المسيح رمزيًا.
ألوان الزنبقة الزاهية تشير لمجد ملائكة السماء الذين هم زهور هذا العالم، إذ أضاءوا العالم بنورهم رائحة المسيح الذكيَّة. وإذ تسندنا طلباتهم ومعونتهم يمكننا أن نقول: “لأننا رائحة المسيح الذكيَّة لله في الذين يخلصون” (2 كو 2: 15)، فلا تعوقنا أية عاطفة ولا نضطرب لضرورة عملٍ، بل نحتفظ في أنفسنا ببركات الحريَّة الإلهيَّة ومواهب الطبيعة الإلهيَّة.
حقًا أنه من المناسب جدّا أن يشير الرب إلي سليمان وقد لبس المجد… إذ كان يغطي طبيعته الجسديَّة بقوَّة الروح، ويلبسها بهاء أعمال الروح[30].
- هذا حق، فإن الزنابق وغيرها من الزهور التي تنبت في الحقول تحمل جمالاً عجيبًا في رونق ألوانها سواء بتنوعها وتنسيقها وبهائها في ثوب طبيعي… هذا كله يقلده الإنسان بفنه سواء بالرسم بمهارة أو بالتطريز، لكنه لا يبلغ الحقيقة، مهما بلغ العمل الفني من نجاح، فلن يصل إلي الحقيقة نفسها… إذن باطل هو تعبنا مهما حمل من مظهر جميل![31]
القدِّيس كيرلس الكبير
- ليتنا لا نطلب مثل هذا الطعام الذي هو ليس بضروري بل نافلة، إنما نطلب الطعام الذي يمس خلاص النفس. لا نطلب الثياب الثمينة بل نطلب كيف ننقذ جسدنا من النار والدينونة. لنفعل هذا، طالبين ملكوته وكل ما يعيننا لنكون شركاء ملكوت المسيح[32].
القدِّيس كيرلس الكبير
- الارتباك بالأمور المنظورة هو من نصيب الذين بلا رجاء في الحياة العتيدة، والذين بلا مخافة من جهة الدينونة المقبلة.
القدِّيس غريغوريوس أسقف نيصص
هكذا يريد السيِّد المسيح أن يرفعنا نحن قطيعه الجديد لنحيا كطيور السماء المرتفعة نحو السماويات، لا نهتم بملكيَّة خاصة، وبلا مخازن ترابية، إنما نحلق كما في الأبديَّة في جو حبّي كامل؛ وأن نعيش كزنابق الحقل نحمل المجد الملائكي البهي الذي ليس هو من صنع أيدينا، بل من عمل نعمته الفائق. نرى في الله أبانا [31] المهتم بشركتنا في ملكوته، مقدَّما لنا الأمور الزمنيَّة كأمر ثانوي وزهيد بالنسبة لعطاياه الأبويَّة الخالدة.
- 8. القطيع الجديد ومسرة الآب
“لا تخف أيها القطيع الصغير، لأن أباكم قد سّر أن يعطيكم الملكوت” [32].
يا لها من عبارة معزية فإنه يدعو الله “أبانا“، فنطمئن من جهة رعايته واهتمامه وتدابيره لحسابنا. حقًا تبقى الكنيسة على الدوام “القطيع الصغير” لأن كثيرين يُدعون وقليلين ينتخبون. تختفي هذه القلة في العالم، لكنها محصاة في عيني الله، إذ يقول الرب لإيليا الذي ظن أن القطيع قد فني تمامًا: “قد أبقيت في إسرائيل سبعة آلاف كل الركب التي لم تجثُ للبعل، وكل فم لم يقبله” (ا مل 19: 18).
إنه قطيع ليس فقط من جهة العدد، ولكن من جهة الإمكانيات البشريَّة، لا حول له ولا قوَّة زمنيَّة، لكنه موضع سرور الآب، ووارث الملكوت الأبدي! إنه القطيع الصغير في عيني العالم لكنه علي صدر الله يتمتع بنعمته الإِلهيَّة، ويغتصب بالحب ملكوت السماوات!
- هذه بالحقيقة هي تعزية روحيَّة، والطريق الذي يقودنا إلي الإيمان الأكيد… بقوله: “لا تخف” يقصد أنه يجب أن يؤمنوا بهذا الأمر المؤكد الذي لا يحمل شكًا وهو أن أباهم السماوي يهب طريق الحياة للذين يحبُّونه. أنه لن يتجاهل خاصته، بل يفتح يده التي تشبع المسكونة بالصلاح…
الذي يهب هذه الأمور العظيمة والثمينة، ويمنح ملكوت السماوات هل يمتنع من جانبه عن أن يترفق بنا؟ أو هل لا يمدنا بالطعام والملبس؟ أي خير أرضي يعادل ملكوت السماوات؟ ماذا يمكن أن يُقارن بما سيمنحه الله من أمور لا يمكن إدراكها ولا أن ينطق بها؟ “ما لم تر عين، ولم تسمع أذن ولم يخطر علي بال إنسان ما أعده الله للذين يحبُّونه” (1 كو 2: 9). عندما تمتدح الغنى الأرضي وتعجب بالسلطان الزمني فإن هذه لا تقارن بالنسبة لما قد أُعد، إذ قيل: “لأن كل جسد كعشب وكل مجد إنسان كزهر عشب” (1 بط 1: 24). فإن كنت تتحدَّث عن الغنى والترف والولائم، فقد قيل: “العالم يمضي وشهوته” (1 يو 2: 17). الأمور الإلهيَّة لا تقارن بما للعالم. فإن كان الله يهب ملكوته لمحبيه أفلا يريد أن يقدَّم لهم طعامًا وثيابًا؟
لقد دعاهم “قطيعًا صغيرًا”، لأننا أقل من جموع الملائكة غير المحصيَّة، التي تفوق في القدرة أمورنا المائتة بما لا يقاس. هذا ما علمنا إيَّاه المخلِّص بنفسه في المثل المذكور في الأناجيل، إذ يقول: “أي إنسان منكم له مئه خروف وأضاع واحدًا منها ألا يترك التسعة والتسعين في البريَّة (علي الجبال) ويذهب من أجل الضال حتى يجده؟ وإذا وجده فالحق أقول لكم يفرح به أكثر من التسعة والتسعين الذين لم يضلوا (لو 15: 4 الخ). لاحظوا إن كان عدد الكائنات العاقلة يمتد إلي عشرة مضروبة في عشرة، فإن القطيع الذي علي الأرض ليس إلا واحدًا من مئة.
مع أنه صغير من جهة الطبيعة والعدد والكرامة أن قورن بطغمات الأرواح العلويَّة التي بلا عدد لكنه بصلاح الآب الذي يفوق كل وصف ويُعطى له نصيب مع الأرواح الفائقة، أقصد ملكوت السماوات[33].
القدِّيس كيرلس الكبير
- يعني ربَّنا بالقطيع الصغير أولئك الذين يريدون أن يصيروا تلاميذه (القليلي العدد)، أو ليظهر أن القدِّيسين في العالم يبدون صغارًا بسبب مقرهم الإختياري، أو لأنهم يُضمون إلي جموع الملائكة الذين يفوقوننا في كل ما نعتز به بما لا يقارن.
لقب “الصغير” أعطاه ربَّنا لمختاريه بمقارنتهم بالأعداد الضخمة من الأشرار، أو ربَّما من أجل تواضعهم الورع[34].
الأب ثيؤفلاكتيوس
- انظر أن تنتمي إلي القلة المختارة، ولا تسلك ببرود متمثلاً بتراخي الكثيرين. عش كالقلة حتى تتأهل معهم للتمتع بالله “لأن كثيرين يدعون وقليلين ينتخبون” (مت 20: 16)[35].
القدِّيس يوحنا كاسيان
- لكل واحد منا قطيع يقوده إلي المراعي الخضراء[36].
القدِّيس يوحنا الذهبي الفم
- 9. القطيع الجديد والصدقة
إن كان السيِّد المسيح قد دعا قطيعه بالصغير ليُحسب أهلاً لمسرة الآب الذي يهبهم الملكوت، فإنه يليق بهذا القطيع أن يعلن شوقه لهذا الملكوت المجاني بتخليه عن كنوز العالم وتقديمها للفقراء كمن يحفظونها لهم في البيت الجديد أي في السماء. بهذا يقدَّم لنا السيِّد المسيح مفهومًا جديدًا للعطاء أو الصدقة، ألا وهو الكشف عن تفريغ القلب من حب الزمنيات بقصد الشبع السماوي.
“بيعوا مالكم وأعطوا صدقة.
أعملوا لكم أكياسًا لا تفنى، وكنزًا لا ينفذ في السماوات،
حيث لا يقرب سارق، ولا يبلى سوس.
لأنه حيث يكون كنزكم هناك يكون قلبكم أيضًا” [33– 34].
يقول القدِّيس أغسطينوس: ]ليت أعماله تعلن صوته[37] [، بمعنى أن كان المؤمن يتحدَّث عن الملكوت، فليعلن حديثه هذا عمليًا بالعطاء.
- ليكن شغفنا نحو الأمور المقبلة ثابتًا، لنخزن الرجاء في الأمور العتيدة ككنزٍ لنا. لنجمع أمامنا لأنفسنا كل هذه الأمور التي بها نتأهل لعطايا الله[38].
القدِّيس كيرلس الكبير
- الصدقة دواء لكل جرح. لكن الصدقة لا تُمارس بالعطاء المالي وحده، بل بكل ما يمكن للإنسان أن يريح به آخر، فالطبيب يعالج والحكيم يقدَّم مشورة[39].
القدِّيس يوحنا الذهبي الفم
- قد يسأل أحد: على أي أساس يلزمنا أن نبيع مالنا؟ هل لأنها أمور ضارة بطبعها؟ أو لأنها تمثل تجربة لنفوسنا؟
نجيب علي ذلك أولا بأن لو كان كل ما في العالم شرِّيرا في ذاته لما حُسبت خليقة الله، لأن خليقة الله صالحة (1تى 4: 4). ثانيًا أن وصيَّة ربَّنا تعلمنا أن ننزع الشر الذي فينا لا أن نقدَّمه للغير، قائلاً “اعطوا صدقة“[40].
القدِّيس باسيليوس الكبير
- 10. القطيع الجديد ومجيء الصديق
إذ يرفع السيِّد قلب قطيعه الصغير نحو السماء، ويسأله أن يقدَّم كل كنوزه إلي المخازن السماويَّة حيث لا ينفذ إليها سوس، ولا يقترب منها سارق، يلهب القلب بمجيء العريس السماوي، راعي القطيع الجديد، فيبقى الجسد متمنطقًا كمن هو مستعد للرحيل معه، والنفس كسراج متقد بحب العريس القادم، وكل ما في كيان الإنسان في حالة سهر ويقظة ليرحل الكل إلي حيث يوجد العريس.
لتكن أحقاؤكم ممنطقة وسرجكم موقدة.
وأنتم مثل أناس ينتظرون سيِّدهم متى يرجع من العريس
حتى إذا جاء وقرع يفتحون له للوقت” [35–36].
ما هي الأحقاء الممنطقة إلا الجسد العفيف الذي يسلك كما في حالة انضباط وتأدب؟ وما هي السرج الموقدة إلا النفوس الملتهبة بروح الله واهب الإنارة؟ ومن هم الأناس الذين ينتظرون سيِّدهم إلا طاقات الإنسان ودوافعه بكل عواطفه وأحاسيسه ومواهبه؟… الكل يعمل كما في يقظة من أجل العريس القادم ليملك.
- تمنطق الأحقاء وربطها بجلد ميت (حزام جلدي يسمى المنطقة) من حولها يعني أن الإنسان يمارس إماتة هذه الأعضاء التي تضم بذار الشهوة والدنس، فيعرف علي الدوام وصيَّة الإنجيل: “لتكن أحقاؤكم ممنطقة”، مطبقًا ذلك كتفسير الرسول: “فأميتوا أعضاءكم التي علي الأرض الزنا النجاسة الهوى الشهوة الرديَّة” (كو 3: 5). نجد في الكتاب المقدَّس الذين يمنطقون أحقاءهم هم وحدهم الذين يهلكون بذار الشهوة الجسديَّة، مترنمين بقوَّة، مرددين كلمات الطوباوي داود: “قد صرت كزقٍ في الدخان” (مز 119: 83)[41].
القدِّيس يوحنا كاسيان
- ماذا يعني: “أحقاؤكم ممنطقة”؟ اترك الشر (مز 34: 14).
ماذا يعنى “سرجكم موقدة”؟ اصنع الخير[42].
القدِّيس أغسطينوس
- الأحقاء الممنطقة تعني البتولية (أو العفة)، والسرج الموقدة الأعمال الصالحة[43].
القدِّيس أغسطينوس
- ماذا يعني أن نمنطق أحقاءنا؟ أن نضبط شهواتنا، الذي هو عمل العفة. أما إبقاء سرجنا يعني أن نشعلها ونوهجها بالأعمال الصالحة، أي بعمل البر[44].
القدِّيس أغسطينوس
- “لتكن أحقاؤكم ممنطقة”، أي تكونون دائمًا علي استعداد لتمارسوا عمل ربكم. “وسرجكم موقدة” أي لا تسلكون الحياة في ظلمة، إذ يكون لكم نور التعقل الذي يكشف ما يجب أن تفعلوه وما تمتنعوا عنه. فإن هذا العالم هو ليل، فمن لهم الأحقاء ممنطقة يمارسون حياة عملية نشطة. لأن هذا هو حال الخدم الذين يجب أن تكون لهم المصابيح الموقدة أي عطيَّة التمييز، فيكون الإنسان العامل قادرًا علي تمييز ليس فقط ما يجب أن يفعله، وإنما كيفيَّة ممارسته حتى لا يسقط مندفعًا في هوة الكبرياء.
لنجاهد ممارسين الفضائل، فيكون لنا سراجان منيران هما الفهم العقلي الذي يشرق في النفس فنستنير، والتعليم الذي به ننير للآخرين[45].
الأب ثيؤفلاكتيوس
- يليق بالرسل أن يتمنطقوا ليحملوا سرج الإنجيل[46].
القدِّيس جيروم
- لا يقل أحد أن السيِّد يريدنا أن نمنطق جسدنا، ونمسك بسرج في أيدينا (بالمعنى الحرفي)، فإن هذا التفسير يناسب غباوة اليهود وحدهم، أما بالنسبة لنا فالأحقاء الممنطقة تعنى استعداد الذهن للعمل بقوَّة في كل ما هو ممدوح… والسراج يمثل يقظة الذهن والفرح العقلى[47].
القدِّيس كيرلس الكبير
يمكننا أيضًا أن نقول أن هذين الأمرين يشيران إلي شركة الجسد مع النفس في الحياة المقدَّسة، فمنطقة الأحقاء تشير إلي الجسد الذي قمعه الرسول، واستعبده لا ليحطمه، وإنما ليربيه بالروح القدس فيحيا مقدَّسا للرب، والسرج المنيرة هي النفس بكل طاقاتها تضيء داخل الجسد ليعيش الإنسان في وحدة وتناسق تحت قيادة الروح لحساب مملكة النور.
إن كان هذان العملان يمارسهما الإنسان بالعمل الروحي، فإن وصيَّة الرب جاءت تعلن الالتزام بالعمل خلال اليقظة والسهر المستمر حتى يأتي السيِّد ويحلّ في الوسط عريسًا للنفس، إذ يقول: “وأنتم مثل أناس ينتظرون سيِّدهم متى يرجع من العرس حتى إذا جاء وقرع يفتحون له للوقت” [36].
- يليق بنا أن نتطلع إلى مجيء المسيح الثاني من السماء، فإنه سيأتي في مجد الآب مع الملائكة القدِّيسين… سيأتي المسيح كما من وليمة، لهذا يظهر بوضوح أن الله سكن كما في أعياد (عرس)، الأمر الذي يليق به. فإنه لا يوجد حزن قط في الأعالي، إذ لا يوجد قط شيء يحزن الطبيعة التي فوق الأهواء والتي لا تتأثر بها قط[48].
القدِّيس كيرلس الكبير
- عندما صعد ربَّنا إلي السماوات ذهب إلي العرس، كعريس التصق بجموع الملائكة السمائيين[49].
البابا غريغوريوس (الكبير)
إنه يأتي كما من فرحٍكعريس يطلب عروسه البشريَّة؛ إه يقرع فيفتحون له للوقت [36]. ماذا يعني قرعه علي الباب إلا إصداره الأمر بالقيامة! وفتح الباب للوقت إلا استعدادهم السريع لملاقاته، إذ رقدوا على هذا الرجاء منتظرين يوم العرس الأبدي. يفتح المؤمنون الحقيقيون الباب ليدخل العريس كما في مملكته، ويفتح هو لهم لينعموا بأحضان الآب، أما الأشرار فيقومون لكن كما في موتٍ أبديٍ، لا يحملون بهجة القيامة، ولا يتمتعون برؤية الأمجاد الإلهيَّة… وهكذا تبقى أبوابهم مغلقة لا يدخلها العريس، وأبواب العريس الدهريَّة مغلقة لا يقدرون العبور فيها.
يكمل السيِّد المسيح حديثه، قائلاً: “الحق أقول لكم أنه يتمنطق ويتكئهم، ويتقدَّم ويخدمهم” [37]. يا للعجب العريس يتمنطق مكرمًا عروسه التي يتكئها، ويقوم فيخدمها بنفسه. إنه يخدم الذين سبقوا فتمنطقوا في العالم وقاموا يخدمون الآخرين لحساب العريس السماوي فتأهلوا لأن يخدمهم هو… يشعل هذا المنظر قلب القدِّيس يوحنا الذهبي الفم، فيقول: ]إذ نسمع عن هذه الأمور يليق بنا ألا نهتم بأهل الإيمان وحدهم (غل 6: 10) مهملين الآخرين. أن رأيت أحدًا في ضيق فلا تكن محبًا للاستطلاع فتكثر الأسئلة، بل مادام في ضيق فاحسب هذا فيه كفاية لينعم بعونك. أنه إنسان الله سواء كان وثنيًا أو يهوديًا، حتى أن كان كافرًا فهو محتاج إلي عونك[50]. [
- إننا ننال مكافأة مشابهة، إذ يتمنطق هو بالنسبة للذين منطقوا أحقاءهم.
القدِّيس كيرلس الكبير
- يمنطق حقويه بالبرّ.
العلامة أوريجينوس
- يمنطق حقويَّة بمعنى أنه يستعد للدينونة[51].
البابا غريغوريوس (الكبير)
إنه يتمنطق ويتقدَّم للخدمة بعد أن يتكئهم أو يجلسهم [37].
- يتكؤهم كمن يلطف من تعبهم، مقدَّمًا أمامهم الملذّات الروحيَّة، ويعد لهم مائدة عطاياه الفاخرة.
القدِّيس كيرلس الكبير
- الاتكاء هنا يعني الراحة من أتعاب كثيرة، والحياة بلا قلق، والتغير لطبيعة الذين يقطنون في النور فتغتنى بكل المشاعر المقدَّسة وتفيض عليها كل العطايا، فيمتلئون فرحًا. فيسوع يتكئهم ليهبهم راحة أبديَّة ويوزع عليهم بركات بلا عدد[52].
القدِّيس ديونسيوس الأريوباغى
إذ كشف عن حال القطيع الصغير المترقب مجيء صديقه الفريد وراعيه الواحد وعريسه السماوي، بدأ يؤكد الالتزام بالسهر وترقب هذا المجيء، بقوله:
“وإن أتى في الهزيع الثاني أو أتى في الهزيع الثالث
ووجدهم هكذا فطوبى لأولئك العبيد.
وإنما اعلموا هذا أنه لو عرف رب البيت في أية ساعة يأتي السارق
لسهر ولم يدع بيته يُنقب.
فكونوا أنتم إذًا مستعدين
لأنه في ساعة لا تظنون يأتي ابن الإنسان” [38-40].
يرى الأب ميثوديوس[53] أن السيِّد المسيح قد يأتي في الهزيع الأول عندما يكون الإنسان في طفولته، وربما ينتظرنا حتى الهزيع الثاني، أي عندما نبلغ النضوج (الرجولة) أو في الهزيع الثالث أي في الشيخوخة. إذن لنستعد لملاقاته إن كنا أطفالاً أو كبارًا أو شيوخًا. وقد قدَّم لنا القدِّيس كيرلس الكبير[54] ذات التفسير.
- 11. القطيع الجديد والأمانة علي الوكالة
سحب السيِّد قلب قطيعه إليه ليترقب مجيئه الأخير، فيتمتع القطيع الجديد بملكوت الله. الآن يعلن السيِّد المسيح لقطيعه الإلتزام بالأمانة حتى يكون له نصيب في هذا الملكوت.
“فقال له بطرس: يا رب ألنا تقول هذا المثل أم للجميع أيضًا؟
فقال الرب: فمن هو الوكيل الأمين الحكيم الذي يقيمه سيِّده علي خدمه
ليعطيهم العلوفة في حينها؟” [41–42].
إذ سمع القدِّيس بطرس المثل الخاص بيوم مجيء الرب والذي فيه يعلن السيِّد مجيئه فجأة، سائلاً إياهم السهر واليقظة والترقب لهذا المجيء، سأل القدِّيس بطرس سيِّده أن كان هذا المثل خاص بالتلاميذ وحدهم أم عام للكل؟
لعل القدِّيس بطرس تساءل في أعماق نفسه: ماذا يقصد السيِّد بقوله “أولئك العبيد”؟ ألعله يقصد التلاميذ الذين يؤتمنون علي “بيت الله” كخدام ورعاة حتى يأتي “رب البيت”، أم يقصد بهم كل مؤمن بكونه قد أؤتمن علي حياته كبيت الله كخادم وراعٍ للجسد والنفس والطاقات والمواهب وكل الإمكانيات لتعمل معًا لحساب رب البيت، السيِّد المسيح نفسه؟
جاءت إجابة السيِّد: “فمن هو الوكيل الأمين الحكيم، الذي يقيمه سيِّده علي خدمه، ليعطيهم العلوفة في حينها؟” [42]. وكما يقول القدِّيس يوحنا الذهبي الفم[55] لم يقدَّم ربَّنا هذا السؤال لأنه يجهل من هم مؤمنين ووكلاء حكماء، إنما أراد أن يكشف عن ندرة وجودهم خاصة لكي يؤتمنوا علي خدمة الكنيسة.
- من يُوجد أمينًا ووكيلاً حكيمًا فليتسلم تدبير بيت الرب ليعطي العلوفة (نصيبهم في الطعام) في حينها، الذي هو كلمة التعليم المغذي لنفوسهم، أو القدرة العملية التي تشكّل حياتهم.
الأب ثيؤفلاكتيوس
- لقد سام المخلِّص الرسل كوكلاء علي خدمه، أي على أولئك الذين رُبحوا بالإيمان لمعرفة مجده – أناس أمناء وذو فهم عظيم، مثقفون حسنًا بالتعليم المقدَّس.
لقد سامهم، آمرًا إياهم أن يقدَّموا الطعام المسموح به، ليس بدون تمييز، وإنما في حينه. أقصد الطعام الروحي الذي يقدَّم بما يليق بكل فرد وما يشبعه. فإنه لا يليق تقديم التعليمات في كل النقاط بطريقة واحدة لكل الذين يؤمنون بالمسيح، إذ كُتب: “معرفة اعرف نفوس غنمك” (أم 27: 23). فعندما نقدَّم طرق الحق لإنسان صار تلميذًا حديثًا نستخدم معه التعليم البسيط الذي لا يحمل أمرًا يصعب فهمه أو إدراكه… الأمر الذي يختلف تمامًا عن الطريق الذي نستخدمه في تهذيب الذين ثبتوا بالأكثر في الفكر والقادرون علي إدراك العلو والعمق والطول والعرض لمفاهيم اللاهوت السامي، وكما سبق فقلنا: “الطعام القوي فللبالغين” (عب 5: 14)[56].
القدِّيس كيرلس الكبير
مجىء السيِّد يفرز الوكلاء الأمناء والحكماء من الوكلاء المتهاونين العنفاء والعاملين لحساب بطولتهم لا لحساب موكلهم، إذ يقول:
“طوبى لذلك العبد الذي إذا جاء سيِّده يفعل هكذا.
بالحق أقول لكم أنه يقيمه علي جميع أمواله.
ولكن أن قال ذلك العبد في قلبه سيدي يبطىء قدومه،
فيبتدىء يضرب الغلمان والجواري ويأكل ويشرب ويسكر.
يأتي سيد ذلك العبد في يوم لا ينتظره،
وفي ساعة لا يعرفها، فيقطعه ويجعل نصيبه مع الخائنين” [43-46].
- من يعطي الخدم رفقاءه نصيبهم من الطعام بحكمة في حينه حسب احتياجهم يكون مطوّبًا جدّا كقول المخلِّص، إذ يُحسب أهلاٍ لأمور أعظم، ويتقبل مكافأة تليق بأمانته… هذا ما علمنا إيَّاه المخلِّص في موضع آخر حين مدح العبد العامل والأمين، قائلاً: “نعمًا أيها العبد الصالح والأمين، كنت أمينًا في القليل فأقيمك علي الكثير، أدخل إلي فرح سيدك” (مت 25: 21).
أما أن أهمل واجبه فلم يكن مجتهدًا ولا أمينًا، مستخفًا بالسهر علي هذه الأمور كأنها تافهة، يترك ذهنه يرتبك بالاهتمامات الأرضية، ويفسده بأمور غير لائقة، فيستخدم العنف والقسوة مع الخاضعين تحته، ولا يقدَّم لهم نصيبهم، فسيكون في بؤس مطبق. فإن هذا هو معنى أنه “يقطعه”، كما أظن، “ويجعل نصيبه مع الخائنين”. فإن من يسيء إلي مجد المسيح أو يتجاسر فيستهين بالقطيع الموكل إليه لا يختلف عن الذين لا يعرفون المسيح، ويُحسب هؤلاء مع الذين لا يحبُّونه. فإن المسيح قال للطوباوي بطرس: “يا سمعان بن يونا أتحبني؟ ارع خرافي، ارع غنم” (يو 21: 15-16). فمن يرعى غنمه إنما يحبها، ومن يهملها ويترك رعاية الخراف الموكل بها إليه يبغضها. وإن كان يبغضها فسيُعاقب ويحسب مع غير المؤمنين[57].
القدِّيس كيرلس الكبير
- “يقيمه علي جميع أمواله” [44]، ليس فقط علي بيته، وإنما علي الأمور الأرضية كما السماويَّة فتطيعه. وذلك كما حدث مع يشوع بن نون وإيليا، واحد أمر الشمس، والآخر أمر السحب؛ وكل القدِّيسين كأصدقاء لله استخدموا ما لله. من يعبر حياته بطريقة فاضلة ويخضع خدمه بطريقة لائقة مثل الغضب والشهوة، ويمدهم بالطعام في حينه؛ فبالنسبة للغضب يستخدمه ضد مبغضي الله (لتوبتهم)، وبالنسبة للشهوة يمارسها في حدود الضرورة اللازمة للجسد، مخضعًا إيَّاها لله؛ مثل هذا أقول يقيمه الله علي جميع أمواله إذ يُحسب أهلاً أن يتمتع بنظر كل الأمور (الإلهيَّة) خلال نور التأمَّل[58].
الأب ثيؤفلاكتيوس
ليتنا إذن نكون وكلاء أمناء ليس فقط كخدام نقدَّم الطعام الروحي اللائق بكل نفس في حينه، وإنما حتى بالنسبة لنا، فنكون أمناء علي الخدام الذين تحت أيدينا، كالجسد بكل أعضائه وأحاسيسه، والفكر بكل طاقاته، والقلب بكل عواطفه والغرائز. ليكن كل ما هو بين أيدينا أمانة تسلمناها من قبل الرب، يلزمنا أن نخدمها بالروح القدس، فنعطيها شبعًا لا بأمور هذه الحياة الباطلة، وإنما بطعام الروح، كلمة الله التي تُشبع كل كياننا. عندئذ يقيمنا الله علي جميع أمواله، إذ تخضع السماء والأرض لإشتياقاتنا في الرب، ويعمل الكل لبنياننا، ويصير كل منا أشبه بملكٍ صاحب سلطان في الرب، ملك الملوك ورب الأرباب.
إنه لا يليق بنا أن نضرب “الغلمان والجواري“، فإن كانت الغلمان تشير إلى طاقات النفس فإن الجواري تشير إلي طاقات الجسد، لأننا كما سبق في دراساتنا السابقة رأينا أن النفس يُرمز لها بالذكر والجسد بالأنثى، فالغلمان هم أبناء النفس، والجواري هن بنات الجسد؛ ونحن مطالبون ألا نحطم هؤلاء ولا أولئك، بل نقوَّتهم ونربيهم، ليكون الكل مقدَّسًا للرب، عاملاً بروحٍ منسجمٍ لحساب ملكوت الله.
يقدَّم لنا السد مبدأ هامًا في المكافأة أو الجزاء وهو أنه كلما زادت المعرفة صارت المسئولية أعظم وبالتالي تكون المكافأة أو يكون الجزاء أكثر، إذ يقول:
“وأما ذلك العبد الذي يعلم أرادة سيِّده
ولا يستعد ولا يفعل بحسب أرادته فيضرب كثيرًا.
ولكن الذي لا يعلم ويفعل ما يستحق ضربات يُضرب قليلاً،
فكل من أُعطي كثيرًا يطلب منه كثير
ومن يودعونه كثيرًا يطالبونه بأكثر” [47–48].
- لا يُناقش في جريمة من يعرف إرادة سيِّده ويهملها ولا يعمل ما هو لائق بها كواجب ملتزم به، إذ يُحسب في عار واضح ويستحق ضربات كثيرة. لكن لماذا يتحمل ضربات ولو قليلة من لا يعلم إرادة سيِّده ولا يفعلها؟ لأنه لم يرد أن يعرفها مع أنه في قدرته أن يعرفها…
إنها لدينونة عنيفة يسقط تحتها من يعلمون. هذا ما يظهره تلميذ المسيح القائل: “لا تكونوا معلمين كثيرين يا إخوتي، عالمين أننا نأخذ دينونة أعظم” (يع 3: 1). فإن عطيَّة المواهب الروحيَّة وفيرة للذين هم رؤساء الشعب، إذ يكتب الحكيم بولس إلي الطوباوي تيموثاوس: “فليعطك الرب فهمًا في كل شيء” (2 تى 2: 7)، “لا تهمل أيضًا موهبة الله التي فيك بوضع يديّ” (راجع 2 تى 1: 6). من هذا يظهر أن مخلِّص الكل إذ يعطيهم أكثر يطالبهم أكثر. ما هي الفضائل التي يطالبهم بها؟ الثبات في الإيمان، التعليم الصحيح، التأسيس حسنًا في الرجاء، الصبر بلا زعزعة، القوَّة الروحيَّة التي لا تُغلب، الفرح والشجاعة في كل تقدَّم حسن، بهذا نصير قدوة للآخرين في الحياة الإنجيلية. فإن عشنا هكذا يمنحنا المسيح الإكليل، الذي به ومعه السبح والسلطان للآب والروح القدس إلي أبد الأبد آمين[59].
القدِّيس كيرلس الكبير
- انظر كيف يكشف بوضوح أنه لأمر خطير أن يخطئ إنسان بمعرفةٍ عن أن يخطئ بجهلٍ. ومع هذا فليس لنا أن نحتمي تحت ظلال الجهل، لأنه يوجد فارق بين أن تكون جاهلاً، وأن تكون غير راغب في المعرفةٍ. فالإنسان الذي قيل عنه أنه “كف عن التعقل عن عمل الخير“ (مز 36: 3) إرادته مخطئة وليس له حق الاعتذار بالجهل. ومع هذا فالجهل لا يبرر أحدًا أو يعفيه عن عقاب النار الأبديَّة… وإنما ربَّما يخفف عن العقوبة، إذ لم يقل عبثًا… “معطيًا نقمة للذين لا يعرفون الله” (2 تس 1: 8)[60].
القدِّيس أغسطينوس
- أي عذر لنا الذين دخلنا القصر وحُسبنا أهلاً أن ندخل الهيكل، وصرنا شركاء في التمتع بالأسرار غافرة الخطايا ومع هذا نسلك أشر من اليونانيين (الأمم) الذين لم يشتركوا في شيء من هذا القبيل؟[61]
القدِّيس يوحنا الذهبي الفم
- القطيع الجديد ونار الروح
إذ طالبنا السيِّد أن نحيا كوكلاء أمناء وحكماء، فمن أين نقتني الأمانة والحكمة؟ أنهما عطيَّة الروح القدس الناري، الذي بعثه السيِّد المسيح لكنيسته لكي يحول أعضاءها إلى أشبه “بعرش شاروبيمي ملتهب نارًا”، فنتأهل ليملك الرب علينا، جالسًا في داخلنا كما علي عرشه. هذه النار الإلهيَّة هي عطيَّة الرب لنا، إذ يقول: “جئت لألقي نارًا علي الأرض، فماذا أريد لو اضطرمت؟” [49].
- أراد بهذا أن يقدَّم لنا تلميذا مملوءًا حرارة ونارًا، مستعدًا لاحتمال كل خطر[62].
القدِّيس يوحنا الذهبي الفم
- لهذا السبب ظهر الروح في نار، لكننا نحن نزداد برودة أكثر من الرماد، وعدم حيويَّة أكثر من الموتى، بينما نرى بولس يحلق في أعلى السماوات وسماء السماوات، أكثر غيرة من اللهيب، يغلب كل شاء، ويتخطى كل الأمور: السفلية والعلويَّة، الحاضرة والمستقبلية، والكائنة غير الكائنة…
لنترك بولس ونذكر المؤمنين الأولين الذين تركوا كل ممتلكاتهم ومكاسبهم وكل الاهتمامات الأرضية والراحة الزمنيَّة، مكرسين أنفسهم لله بالكلية، معطين كل اهتمامهم لتعليم الكلمة ليلاً ونهارًا. هذا هو نار الروح الذي لا يسمح لنا أن تكون فينا شهوة لأمرٍ من أمور هذه الحياة، بل ينقلنا إلي حب آخر[63].
- قال هذا ليعلن عن التهاب الحب وحرارته الذي يطلبه فينا. فكما أحبَّنا كثيرًا جدّا هكذا يريدنا أن نحبه نحن أيضًا[64][65].
القدِّيس يوحنا الذهبي الفم
- إله الكل هو “الصانع ملائكته رياحًا وخدامه نارًا ملتهبة” (مز 104: 4)… عندما رغب بولس الطوباوي ألا تبرد نعمة الروح المعطاة لنا، حذرنا قائلاً: “لا تطفئوا الروح” (1 تس 5: 19)، حتى نبقى شركاء مع المسيح، ذلك أن تمسكنا حتى النهاية بالروح الذي أخذناه، إذ قال: “لاتطفئوا” ليس لأن الروح موضوع تحت سلطان الإنسان أو أنه يحتمل آلامًا منه، بل لأن الإنسان غير الشاكر يرغب في إطفاء الروح علانية، ويصير كالأشرار الذين يضايقون الروح بأعمال غير مقدَّسة…
لقد أمسكت نار كهذه بإرميا النبي عندما كانت الكلمة فيه كنارٍ، إذ قال أنه لا يمكن أن يحتمل هذه النار (إر 20: 9)… وقد جاء سيدنا يسوع المسيح المحب للإنسان لكي يلقي بهذه النار علي الأرض، قائلاً ماذا أريد لو اضطرمت؟[66]“
القدِّيس البابا أثناسيوس
- ليعيننا الفهم الصالح ملهبًا أذهاننا ومنقيها، ذاك الذي جاء ليرسل نارًا علي الأرض لتبدد العادات الشرِّيرة مسرعًا بإشعالها[67].
القدِّيس غريغوريوس النزينزي
- عندما حلّ الروح القدس قيل: “وظهرت ألسنة منقسمة كأنها من نار واستقرت علي كل واحد منهم” (أع 2: 3)… من ثم يقول الرسول أيضًا: “حارين في الروح” (رو 12: 11)، لأن منه تأتي غيرة الحب: “لأن محبَّة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المُعطى لنا” (رو 5: 5). وعلى نقيض هذه الغيرة ما قاله الرب: “تبرد محبَّة الكثيرين“ (مت 24: 14)، لأن الحب الكامل هو عطيَّة الروح القدس الكاملة[68].
القدِّيس أغسطينوس
- هذه هي النار التي اضطرمت في قلوب التلاميذ، فألزمتهم بالقول: “ألم يكن قلبنا ملتهبًا فينا إذ كان يكلمنا في الطريق ويوضح لنا الكتب؟“ (لو 24: 32)[69].
القدِّيس جيروم
- لا يقصد النار المحرقة للخير، وإنما النار التي تحث علي الأعمال الصالحة، التي تجعل الأواني الذهبية التي في بيت الرب في حالٍ أفضل، بحرق العشب والقش (1 كو 3: 12) وحرق كل مخبأ زمني تكدست فيه الملذّات الجسديَّة الزمنيَّة التي مصيرها الفناء.
هذه النار الإلهيَّة أشعلت عظام الأنبياء، كما قال إرميا: “كان في قلبي كنار محرقة محصورة في عظامي فمللت من الإمساك ولم أستطع” (إر 20: 9).
توجد نار للرب قيل عنها: “النار تحرق قدامه” (مز 96: 3).
الرب نفسه نار، إذ يقول عن نفسه أنه نار آكلة (مز 3: 2؛ 24: 17؛ تث 42:4؛ عب 12: 29).
نار الرب هي النور الأبدي، بهذه النار تُشعل السرج التي سبق فقيل عنها: “لتكن أحقاءكم ممنطقة وسرجكم موقدة”. يشهد كليوباس وزميله أن الرب وضع فيهما هذه النار بقولهما: “ألم يكن قلبنا ملتهبًا فينا؟” (لو 24: 32)، معلنين عن عمل هذه النار التي تنير أعماق القلب. ربَّما لأجل هذا سيأتي الرب في نار (إش 46: 15-16) ليحرق كل الرذائل في القيامة ويملأ بوجوده إشتياقات كل أحد (من مؤمنيه) ويشرق بنوره علي الأعمال والسرائر[70].
القدِّيس أمبروسيوس
- إننا نؤكد أن هذه النار التي أرسلها المسيح هي لخلاص البشر ونفعهم، الله يهب كل قلوبنا أن تمتلئ بها. فإن النار هنا – كما أقول – هي رسالة الإنجيل الخلاصيَّة وقوَّة وصاياه، فإننا جميعًا نحن الذين علي الأرض باردون وأموات بسبب الخطيَّة وفي جهالة… نلتهب بالحياة التقويَّة ونصير “حارين في الروح” (رو 12: 11) كتعبير الطوباوي بولس. بجانب هذا نصير شركاء في الروح القدس الذي هو مثل نارٍ في داخلنا…
هذه هي عادة الكتاب المقدَّس الإلهي المُوحى به أنه يلقب الكلمات الإلهيَّة المقدَّسة أحيانا باسم “نار“، ليظهر فاعلية الروح القدس وقوَّته، الذي به نصير نحن حارين في الروح.
تحدَّث أحد الأنبياء القدِّيسين في شخص الله عن المسيح مخلِّص الجميع: “يأتي بغتة إلي هيكله السيِّد الذي تطلبونه وملاك العهد الذي تسرون به، هوذا يأتي قال رب الجنود؛ ومن يحتمل يوم مجيئه؟ ومن يثبت عند ظهوره؟ لأنه مثل نار الممحص ومثل اشنان القصّار، فيجلس ممحصًا ومنقيًا للفضة” (ملا 3: 1-3). يقصد بالهيكل الجسد الذي هو مقدَّس بالحق ليس فيه دنس، وُلد من العذراء القدِّيسة بالروح القدس بقوَّة الآب. فقد قيل للعذراء الطوباويَّة: “الروح القدس يحل عليكِ وقوَّة العلي تظللك” (لو 1: 35). وقد حسبه “ملاك (رسول) العهد، إذ جاء يكشف لنا عن إرادة الآب الصالحة ويخدمنا. كما يقول بنفسه: “لأني أعلمتكم بكل ما سمعته من أبي” (يو 15: 15)… وكما أن الذين يعرفون كيف ينقون الذهب والفضة يستخدمون النار… هكذا يطهّر مخلِّص الكل فكر كل الذين يؤمنون به بتعاليم بقوَّة الروح…
بماذا نفسر الجمرة التي لمست شفتي النبي (إش 6: 6-7) وطهرته من كل خطيَّة؟ إنها رسالة الخلاص، والاعتراف بالإيمان بالمسيح، من يتقبل هذا في فمه يطهر. هذا ما يؤكده لنا بولس: “لأنك إن اعترفت بفمك بالرب يسوع، وآمنت بقلبك أن الله أقامه من الأموات خلصت” (رو 10: 9).
إذًا نقول أن قوَّة الرسالة الإلهية تشبه جمرة حيَّة ونارًا. يقول إله الكل للنبي إرميا: “هأنذا جاعل كلامي في فمك نارًا وهذا الشعب حطبًا فتأكلهم” (إر 5: 14)، “أليست هكذا كلمتي كنار يقول الرب؟” (إر 23: 29)[71].
القدِّيس كيرلس الكبير
- 13. القطيع الجديد والألم
إذ يهب الرب قطيعه الجديد روحه القدُّوس الناري، مقدَّما لهم كلماته أيضًا الناريَّة، وواهبًا إياهم الحب الناري، إنما لكي يعيش القطيع على مستوى سماوي ناري لا تستطيع أحداث هذا العالم أن تعوقه عن الانطلاق نحو الأبديات. حقًا إن مجيء السيِّد يلهب القلوب بالحب، لكنه أيضًا يثير غير المؤمنين حتى الأقرباء لمضايقتهم، فيحتمل المؤمنون كل ألم وضيق بقلب متسع كسيِّدهم. يقول السيِّد المسيح:
“ولي صبغة أصطبغها، وكيف أنحصر حتى تُكمل؟
أتظنون إني جئت لأعطي سلامًا على الأرض؟
كلا، أقول لكم، بل انقسامًا.
لأنه يكون من الآن خمسة في بيت واحد منقسمين، ثلاثة على اثنين، واثنان على ثلاثة.
ينقسم الأب على الابن، والابن على الأب،
والأم على البنت، والبنت على الأم،
والحماة على كنتها، والكنة على حماتها” [50-53].
ما هي الصبغة التي اصطبغ بها السيِّد إلا احتماله الألم حتى الموت، باذلاً دمه من أجلنا، لذا يليق بنا أن نحمل سمته، فنقبل من أجله الجهاد الروحي حتى الدم، أي حتى الموت. وكما يقول الرسول: “من أجلك نمات كل النهار” (رو 8: 36).
لقد دُعيت المعموديَّة صبغة، إذ بها نحمل سمات السيِّد المسيح. بدفننا معه لنقوم أيضًا معه، حاملين قوَّة قيامته فينا. هذه الصبغة كما يقول العلامة ترتليان[72] تكون في مياه المعموديَّة أو خلال الاستشهاد، هاتان المعموديتان– في رأيه– أخرجهما من جنبه المطعون، إذ خرج منه دم وماء (يو 19: 34).
- يقصد بمعموديته (صبغته) موته بالجسد، وبانحصاره إذ حزن وتضايق حتى أكملها. ماذا حدث عندما أكملت؟ صارت رسالة الإنجيل الخلاصيَّة معلنة لا في اليهوديَّة وحدها، بل في كل العالم… فقّبل الصليب الثمين وقيامته من الأموات كانت وصاياه ومجد معجزاته الإلهيَّة في اليهوديَّة وحدها، لكن إذ أخطأ إسرائيل في حقه، وقتلوا رئيس الحياة… أعطى الوصيَّة لتلاميذه هكذا: “اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس، وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به” (مت 28: 19-20). انظروا ها أنتم ترون النار الإلهيَّة المقدَّسة قد انتشرت بواسطة الكارزين القدِّيسين[73].
القدِّيس كيرلس الكبير
الآن إذ يرش الرب دمه كصبغة مقدَّسة نصطبغ بها، خلاله يلتهب قلبنا بنار روحه القدُّوس يلزمنا كما “انحصر” هو حتى أكمل عمل الفداء أن ننحصر نحن خلال الألم حتى نعلن كمال حبنا له، محتملين الضيق حتى ممن هم أقرب الناس إلينا، من أهل بيتنا.
- هل تظن أنه يأمر بتفكك الرباطات بين أبنائه المحبوبين؟ كيف يكون هذا وهو نفسه سلامنا الذي جعل الاثنين واحدًا؟ (أف 2: 14)، والقائل: “سلامًا أترك لكم، سلامي أعطيكم” (يو 14: 27)؟ إن كان قد جاء ليفرق الآباء عن الأبناء والأبناء ضد الآباء فكيف يلعن من لا يكرم أباه (تث 27: 16)؟
يريد أن يكون الله في المرتبة الأولى وبعد هذا تأتي محبَّة الوالدين… ينبغي أن نفضل ما لله عما للبشر، لأنه أن كان للوالدين حقوق، يلزمنا أن نشكر من وهبنا الوالدين… أضف إلى هذا قوله في إنجيل آخر: “من أحب أبًا أو أمًا أكثر مني فلا يستحقني“ (مت 10: 37). الله لا يمنعك عن محبَّة والديك، إنما عن تفضيلهما عن الله، فالعلاقة الطبيعيَّة هي من بركات الرب، فلا يليق أن يحب الإنسان العطيَّة أكثر من واهب العطيَّة وحافظها[74].
القدِّيس أمبروسيوس
- عندما تجحد أبًا أرضيًا من أجل تقواك نحو المسيح فستقتني ذاك الذي من السماء أبًا لك، وإن رفضت أخًا لأنه يهين الله ولا يخدمه فسيقبلك المسيح كأخٍ له… اترك أمك التي حسب الجسد واقتن الأم العلويَّة أي أورشليم السماويَّة التي هي “أمنا” (غل 4: 26). وهكذا تجد نسبًا مجيدا وقويًا في عائلة القدِّيسين، معهم تصير وارثًا هبات الله التي لا ُتدرك ولا يمكن للغة أن تعبر عنها[75].
القدِّيس كيرلس الكبير
يتسائل القدِّيس أمبروسيوس[76] عن السبب الذي لأجله يقول السيِّد المسيح: ” لأنه يكون من الآن خمسة في بيت واحد منقسمين، ثلاثة على اثنين، واثنان على ثلاثة [52] مع أنه ذكر ستة أشخاص (الأب والابن والأم والبنت والحماة والكنة)؟ وجاءت الإجابة هكذا:
أولاً: يحتمل أن تكون الأم والحماة شخصًا واحدًا، بكون والدة الابن هي حماة زوجته.
ثانيًا: يقدَّم لنا تفسيرًا رمزيًا، فالبيت هي الإنسان ككل كقول الرسول بطرس: “كونوا أنتم أيضًا مبنين كحجارة حيَّة بيتًا روحيًا، كهنوتًا مقدَّسًا، لتقديم ذبائح روحيَّة مقبولة عند الله بيسوع المسيح” (1بط 2: 5). في هذا البيت يوجد إثنان هما الجسد والنفس، أن اتفقا معا باسم يسوع يكون الرب في وسطهما (مت 18: 19)، هذا الذي يجعل الاثنين واحدًا (أف 2: 14)، خلال هذه الوحدة يُستعبد الجسد لخدمة النفس (1 كو 9: 27). هذان الاثنان يقفان ضد الثلاثة: الفكر المنحرف والشهوة والطبع الغضوب.
ثالثًا: يرى أيضًا أن هذا البيت يحوي خمس حواس: الشم واللمس والتذوق والنظر والسمع. فإن كنا خلال السمع والنظر نعزل هاتين الحاستين معًا ليتقدسا مقاومين الملذّات الجسديَّة الخاطئة خلال التذوق (النهم) واللمس والشم فقد انقسم اثنان على ثلاثة.
يرى البعض أن البيت يشير إلى العالم كله، وإن الاثنين يشيران إلى اليهود والأمم الذين يقاومون المسيحيين الذين يؤمنون بالثالوث القدُّوس. الأب الذي يقوم ضد ابنه، هو الشيطان الذي أقام نفسه أبًا على الوثنيين، فوجد ابنه يتركه خلال الإيمان المسيحي ليقبل أبًا سماويًا. الأم التي تقوم ضد البنت هي المجمع اليهودي الذي هاج ضد الكنيسة الأولى خاصة الرسل والتلاميذ الذين خرجوا عن أمهم بقبولهم الإيمان بالمسيا المصلوب. الحماة التي قامت ضد كنتها هي أيضًا المجمع اليهودي الذي ثار ضد كنيسة الأمم، التي قبلت الإتحاد بالعريس السماوي يسوع المسيح الذي جاء كابنًا لليهود حسب الجسد. وكأن المجمع اليهودي ثار على ابنته كما على كنته… على الكنيسة التي من أصل يهودي كما على كنيسة الأمم. الابنة والكنة ثارتا على هذا المجمع (الأم والحماة)، إذ رفضت الكنيسة أعمال الناموس الحرفيَّة كالختان والغسالات والتطهيرات الجسديَّة!
- القطيع الجديد وروح التمييز
إذ يواجه القطيع الجديد الألم ليشترك مع عريسه في آلامه، يليق به أن يسلك بحكمة وأن يكون له روح التمييز.
“ثم قال أيضًا للجموع:
إذا رأيتم السحاب تطلع من المغارب
فللوقت تقولون أنه يأتي مطر، فيكون هكذا.
وإذا رأيتم ريح الجنوب تهب تقولون أنه سيكون حرُ فيكون.
يا مراءون تعرفون أن تميزوا وجه الأرض والسماء،
وأما هذا الزمان فكيف لا تميزونه؟” [54- 56].
- يوبخ الرب الذين يعرفون أن يميزوا وجه السماء ولا يعرفون كيف يكتشفون وقت الإيمان، إذ اقترب ملكوت السماوات[77].
القدِّيس أغسطينوس
- يركز البشر انتباههم على مثل هذه الأمور وخلال الملاحظة الطويلة والخبرة يخبرون مقدَّمًا بسقوط الأمطار أو هبوب ريح عاصف، هذا والملاحون بصفة خاصة ماهرون جدّا في هذا الأمر. حسنًا يقول السيِّد يفعل هؤلاء الذين يستطيعون أن يقدروا حسابات هذه الأمور، ويتنبأون عنها مثل حدوث عواصف إن ركزوا فكرهم بنظرة ثاقبة إلى أمور هامة. ما هي هذه الأمور الهامة؟ لقد تنبأ الناموس مقدَّمًا عن سرّ المسيح، وأظهر أنه سيشرق في أواخر الدهور على سكان الأرض، ويقدَّم نفسه ذبيحة لخلاص الجميع. فإن كان الناموس قد أمر بتقديم خروف كرمزٍ للمسيح عند المساء عند إضاءة السراج، إنما لنفهم أنه عندما يميل العالم إلى الانتهاء كالنهار، فستتحقَّق الآلام العظيمة والثمينة المخلِّصة حقًا، ويُفتح بابا الخلاص على مصراعيه لكل من يؤمن به ويكون نصيبهم السعادة الوفيرة.
وفي نشيد الأناشيد نجد المسيح يدعو العروس الموصوفة في السفر والتي تمثل شخص الكنيسة، قائلاً: “قومي يا حبيبتي يا جميلتي وتعالي، لأن الشتاء قد مضى، والمطر مرّ وزال؛ الزهور ظهرت في الأرض، بلغ أوان القضب” (نش 2: 10-12). وكما قلت أن نوعًا من هدوء الربيع يحل بالذين يؤمنون به…
تنبأ الأنبياء الطوباويون بطرق كثيرة، كارزين بسرّ المسيح، الأمر الذي لا يمكن لأحد أن يشك فيه…
يقول السيِّد، كان من واجبهم نعم من واجبهم إذ لهم الفهم والقادرون على تمييز وجه السماء والأرض أن يختبروا الأمور المقبلة ولا تفلت العواصف القادمة على هذا العالم من ملاحظتهم، إذ ستهب الريح الجنوبية ويسقط المطر، أي يحل العذاب الناري، لأن الريح الجنوبية حارةٍ، هكذا سيكون العقاب عنيفًا لا يفلت منه أحد كالمطر الذي يسقط حتمًا عليهم. لهذا كان يليق بهم ألا يجتازوا زمان الخلاص دون ملاحظتهم إياه، أي زمان مجيء مخلِّصنا حيث يقدَّم للبشريَّة معرفة كاملة للحق، وتشرق النعمة لتطهر الأشرار[78].
القدِّيس كيرلس الكبير
إن كان القدِّيس كيرلس الكبير يرى في هذا تحذير من السيِّد المسيح نحو اليهود الذين كانوا يهتمون بالتنبؤ، عن الأحوال الجويَّة دون الاهتمام بالنبوات الخاصة بمجيئه، فسقطوا تحت مطر الغضب الإلهي ونار العقاب خلال جحودهم، فإنه يمكننا أيضًا أن نتطلع إلى حديث السيِّد المسيح من زاويَّة أخرى. إنه يود في قطيعه أن يحمل روح التمييز، لا لأجل التحفظ من الأحوال الجويَّة، وإنما للتمتع بالجو الروحي السماوي. فالمطر كما سبق في دراستنا لكثير من أسفار الأنبياء كان يرمز لعطيَّة الروح القدس، فالمطر المبكر هو عطيَّة الروح في العهد القديم قبل السيِّد المسيح، أما المطر المتأخر الذي يهب الزرع نضوجًا، فهو عطيَّة الروح في العهد الجديد، عندما أرسله السيِّد على كنيسته في يوم العنصرة رصيدًا لا ينقطع، يتمتع به كل عضو خلال مياه المعموديَّة. هذا المطر الذي يروي النفس ويحولها من قفر إلى جنة أو فردوس مثمر لحساب الرب حلّ علينا خلال السحاب القادم من المغارب، أي خلال السيِّد المسيح الذي جاءنا خلال الطبيعة البشريَّة. أما “الحرّ” فيشير إلى الروح الناري الذي يلهب القلب كما سبق فرأينا في نفس الأصحاح [49]. فنحن نحتاج إلى المطر والنار، أو الماء والنار… والاثنان يشيران إلى عطيَّة الروح خاصة خلال مياه المعموديَّة.
- القطيع الجديد والحب الغافر
لعل غاية “روح التمييز” أن يحمل هذا القطيع روح الحب الغافر لأخطاء الآخرين لكي يتأهل لحمل سمة عريسه السماوي محب البشر. لذا يقول:
“ولماذا لا تحكمون بالحق من قبل نفوسكم؟
حينما تذهب مع خصمك إلى الحاكم
ابذل الجهد وأنت في الطريق لتتخلص منه،
لئلاَّ يجرك إلى القاضي،
ويسلمك القاضي إلى الحاكم،
فيلقيك الحاكم في السجن.
أقول لك لا تخرج من هناك حتى توفي الفلس الأخير” [57-59].
- لننظر من هو هذا الخصم الذي يجب أن نتفق معه حتى لا يسلمنا للقاضي… أن كنت تخطئ فكلمة الله تكون هي خصمك… إنها خصم لإرادتك حتى تصير مصدرًا لخلاصك. يا له من خصم صالح ومفيد!… إنه خصمنا مادمنا نحن خصمًا لأنفسنا، أي مادمت أنت عدو لنفسك، فستكون كلمة الله عدوًا لك. كن صديقًا لنفسك، فتكون في اتفاق مع كلمة الله … أما الطريق فهو هذه الحياة…
إن صارت لك إرادة صالحة مع خصمك واتفقت معه، فستجد عوض القاضي أبًا، وعوض الشرطي القاسي ملاكًا يحملك إلى حضن إبراهيم، وعوض السجن تجد الفردوس. أنظر كيف تتغير الأمور كلها سريعًا. في الطريق لأنك اتفقت مع الخصم![79]
القدِّيس أغسطينوس
[1] Catena Aurea.
[2] In Luc Ser 86.
[3] In Luc 12:1-7.
[4] In Luc Ser 87.
[5] In Matt. hom 22.
[6] مقال [منشورات النور: إسحق السريانى: (نقله إلي العربية الأب اسحق عطالله)، بيروت].
[7] In Luc hom 87.
[8] In Luc 12.
[9] Catena Aurea.
[10] Catena Aurea
[11] In Matt. hom 34.
[12] In Luc Ser 88.
[13] Catena Aurea.
[14] راجع تفسير مت 12: 22-37 .
[15] Ep 55: 5; 76:5.
[16] In Matt. Hom 33.
[17] In Luc 12: 13-34.
[18] In Luc Ser. 89.
[19]Catena Aurea.
[20] Strom 4: 6.
[21] In Luc Ser. 89.
[22] Inst. 9: 30.
[23] Ser on N.T. 57: 9.
[24] Ep. 43: 2.
[25] In Gen. Hom 23.
[26] In Matt. Hom 21.
[27] In Luc Ser 90.
[28] In Luc 12: 13-48.
[29] الانجيل بحسب متى، ص 169-172.
[30] In Luc 12: 13-48.
[31] In Luc Ser 90.
[32] In Luc Ser 90.
[33] In Luc Ser 90.
[34] Catena Aurea.
[35] Inst. 4: 38.
[36] In Matt. Hom 77: 5.
[37] Ser. On N.T. 38:12.
[38] In Luc Ser 91.
[39] In Act. Hom 25.
[40] Catena Aurea.
[41] Inst. 1: 11.
[42] Ser. on N.T. 58: 2.
[43] Ser. on N.T 43: 3.
[44] On Continence 17.
[45] Catena Aurea.
[46] Ep 22: 11.
[47] In Luc hom 92.
[48] In Luc hom 92.
[49] In Evang. Hom 13.
[50] In Hebr. Hom 10: 8.
[51] In Evang. Hom 13.
[52] In Ep. Ad Titus.
[53] Banquet of 10 Virgins 5: 2.
[54] In Luc Ser 92.
[55] In Matt. Hom 77.
[56] In Luc Ser 93.
[57] In Luc Ser 93.
[58] Catena Aurea.
[59] In Luc Ser 93.
[60] On Grace & Freewill 5.
[61] In Ioan hom 34: 1.
[62] In Ioan hom 84: 4.
[63] In Matt. Hom 6: 7.
[64] In Matt. Hom 35: 2.
[65] In Matt. Hom 6: 7.
[66] Fest. Lett. 3: 4.
[67] Oration on Easter 2: 16.
[68] Ser on N.T. 21: 19.
[69] Ep. 52:3.
[70] In Luc 12:49,50
[71] In Luc Ser 94.
[72] On Baptism 16.
[73] In Luc Ser 94.
[74] In Luc 12:12-53.
[75] In Luc Ser 94.
[76] In Luc 12:12-53.
[77] Ser. on N. T. 59:1 .
[78] In Luc Ser 95 .
[79] Ser. on N. T. 59:3-4 .