تفسير انجيل لوقا 8 الأصحاح الثامن – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير انجيل لوقا 8 الأصحاح الثامن – القمص تادرس يعقوب ملطي
الأصحاح الثامن
الصديق العامل بلا انقطاع
في الأصحاح السابق رأينا السيِّد المسيح يفتح قلبه للجميع ليضم إلى صداقته الغرباء والخطاة..والآن نراه ترافقه نساء كثيرات كن يخدمْنَه من أموالهنَّ دون أن يستنكف هذا العمل [1-3]. فهو ليس فقط يقبل المرأة الخاطئة ويمتدحها أمام الفرِّيسي، إنما يهتم أن يقدِّس مواهب المرأة وإمكانيَّاتها كعضو حيّ في جسده المقدَّس. نراه في صداقته ليس فقط لا يميِّز بين جنس الرجال وجنس النساء، وإنما أيضًا لا يتحيَّز لقرابات جسديَّة حسب الدم [19-21]. أنه يطلب صداقة الكل، عاملاً بلا انقطاع من أجل المُضطهدين [22-25]، والمطرودين حتى وإن كانوا مجانين [26-39]، يُطهِّر الدنسين [43-48]، ويقيم الموتى.
- اهتمامه بخدمة المرأة 1-3.
- عمله كزارع (مثَل البذار) 4-15.
- يهب النور 16-18.
- يطلب قرابة الكل له 19-21.
- تهدئة الأمواج 22-25.
- شفاء مجنون الجدريِّين 26-39.
- إبراء نازفة الدم 43-48.
- إقامة ابنة يايرس 49-56.
- اهتمامه بخدمة المرأة
“وعلى أثر ذلك كان يسير في كل مدينة وقرية
يكرز ويبشِّر بملكوت الله،
ومعه الاثنا عشر، وبعض النساء” [1-2].
بعد وليمة سمعان الفرِّيسي التي كانت تشير إلى ظهور السيِّد المسيح في وسط خاصته اليهود (بيت سمعان) وقد حُرم خاصته منه بسبب كبرياء قلبهم، ليغتصب الأمم (المرأة الخاطئة) صداقته خلال محبَّتها النابعة عن قلب متواضع، ترك المسيح كفرناحوم ليكرز في كل مدينة وقريَّة ومعه الاثنا عشر ونسوة، وكأنه قد ترك الأمم وانطلق إلي العالم خلال كنيسته يعلن عن ملكوته.
هنا يلزمنا أن نقف قليلاً لنرى يوحنا المعمدان قد سبق فكرز باقتراب ملكوت الله، أما السيِّد المسيح فجاء يقدِّم الملكوت حالاً في وسطنا: “ها ملكوت الله داخلكم” (لو 17: 21).
انطلق للعمل ومعه الاثنا عشر وبعض النسوة، وقد ركَّز الإنجيلي لوقا علي هذا الأمر، إذ يقول:
“وبعض النسوة كنَّ قد شُفين من أرواح شرِّيرة وأمراض،
مريم التي تُدعى المجدليَّة التي أخرج منها سبعة شيَّاطين.
ويونا امرأة خوزي وكيل هيرودس، وسوسنَّة،
وأُخر كثيرات كنَّ يخدمْنه من أموالهن” [2-3].
في المقدِّمة قلنا أن الإنجيلي لوقا وهو يكتب لليونان ركَّز علي اهتمام السيِّد بالمرأة، ويلاحظ في النص الذي بين أيدينا الآتي:
أولاً: قامت رفقة هؤلاء النسوة للسيِّد المسيح علي أساس خبرة العمل الخلاصي، فقد تمتَّعت المجدليَّة بالخلاص من سبعة شيَّاطين، وذاقت الأُخريات عذوبة كلمة الله، هذه الرفقة دامت طويلاً، فقد كانت النسوة يتبَعن السيِّد حتى في لحظات الصليب، ومنهن من سبقن التلاميذ عند الدفن وزيارة قبر المخلِّص، فصرن كارزات بالقيامة. وكانت أيضًا النساء يرافِقن التلاميذ في عبادتهم، وتمتَّعن معهم بعيد العنصرة كما جاء في سفر الأعمال.
علي أي الأحوال إن كان العهد القديم لم يتجاهل دور المرأة تمامًا، لكن العهد الجديد رفع من شأنها، فقد قيل عن هذا العهد: “ويكون بعد ذلك أنِّي أسكب روحي علي كل بَشَر فيتنبَّأ بنوكم وبناتكم” (يوئيل 2: 28). تتطلَّع الكنيسة إلي الفتيات والنساء كأعضاء في جسد المسيح يُشاركن الرجال عضويَّتهم، وقلوبِهن مذبحًا للرب، وهيكلاً للروح المقدَّس!
ثانيًا: لم تكن خدمتهن للسيِّد وقتيَّة، إذ جاء التعبير “كن يخدمْنَه” تعنى استمراريَّة العمل.
ثالثًا: إن كان السيِّد الخالق قد اِفتقر من أجلنا ليُغنينا، فإنه لم يستنكف من أن تعوله نسوة بأموالِهِنَّ. إنها محبَّة فائقة أن يقبل مُشبِع النفوس والأجساد أن تخدِمه الأيادي البشريَّة الضعيفة!
- عمله كزارع (مثال البِذار)
كصديق حقيقي يشبِّه نفسه بالزارع الذي لا يتوقَّف عن إلقاء بذار حبُّه في كل تربة، لعلَّها تتقبَّلها، فتنبت وتنمو وتُثمر بلا عائق ثمار حب لا ينقطع. وقد سبق لنا الحديث عن هذا المثَل مع عرض لتعليقات كثير من الآباء في دراستنا لإنجيل متى (13: 10)، ولإنجيل مرقس (4: 2)، أرجو الرجوع إليها.
اكتفي هنا بإبراز النقاط التالية:
أولاً: يقول الأب ثيؤفلاكتيوس[1] بطريرك بلغاريا (765-840)، أن السيِّد المسيح تحدَّث بأمثال ليجتذب السامعين، فقد اِعتاد الناس أن ينجذبوا للأمور الغامضة، وفي نفس الوقت لكي يبقى السرْ غامضًا لغير المستحقِّين، أي غير المهتمِّين بخلاص نفوسهم.
ثانيًا: لم يأتِ صديقنا السماوي ليدين البشريَّة، إنما ليقوم بزرع قلوبها ببذار فائقة. إنه الزارع الذي يغرس البذار بنفسه، وهو نفسه أيضًا البذار التي تُلقى في القلب. إنه لا يبخل علينا بنفسه، فلا يقدِّم بذارًا خارجيَّة كما فعل رجال العهد القديم، بل قدَّم ذاته حتى إن كنَّا طريقًا أو مملوءين حجارة أو أشواكًا، فإنه محبَّ للكل! يقول الأب ثيؤفلاكتيوس: ]لا يتوقَّف ابن الله عن بذر كلمة الله في نفوسنا، ليس فقط بكونه يعلِّم، وإنما بكونه يخلق مُلقِيًا البذار الصالحة فينا. [
يؤكِّد القدِّيس غريغوريوس النزينزي[2] أن هذه الأنواع من التربة الواردة في هذا المثال لا تعني وجود طبائع مختلفة بين البَشَر لا يمكن تغييرها، كما قال بعض الهراطقة حاسبين أن الإنسان مصيَّر حسب طبيعته، وإنما جاء تعبير السيِّد “قد أعطى لكم” [10] ليعلن أن المثل قُدِّم لمن لهم إرادة ويستطيعون أن يتمتَّعوا بالتغيير بالرب.
- يهب النور
يُلقي السيِّد المسيح بنفسه كبذار تعمل في داخل قلبنا لكي يظهر ثمر الروح فينا فنكون نورًا للآخرين، إذ يقول: “وليس أحد يوقد سراجًا ويغطِّيه بإناء، أو يضعه تحت سرير، بل يضعه على منارة، لينظر الداخلون النور، لأنه ليس خفي لا يظهر، ولا مكتوم لا يُعلم ويُعلن” [16-17].
سبق لنا التعليق علي هذه العبارات الإلهيَّة في تفسيرنا (مت 5: 15)، (مر 4: 21)، لذا نكتفي هنا بإبراز النقاط التالية:
أولاً: ما هو السِراج المتَّقد إلا القلب المُلتهب بنار الروح القدس، إذ نلنا في سِرَيّ العماد والميرون الروح الناري القادر أن يجعل منَّا خدام لله ملتهبين نارًا؟ لقد أكَّد السيِّد: “قد جئتُ لأُلقي نارًا”، وقد ألقى النار في حياتنا الداخليَّة، هذه التي تبقى ملتهبة فينا إن تَجاوَبنا مع عمل روح الله القدُّوس، فنُحسب سراجًا منيرًا، أما إذا تَغطِّينا بإناء، أو وُضعنا تحت سرير عوض وضْعنا علي منارة نفقد هذا النور. لذا يقول الرسول: “لا تطفئوا الروح ” (1 تس 5: 19).
إن كان الرسول قد دعا الجسد إناءً خزفِيًا يحمل قوَّة الله فيه ككنز لا يقيَّم (2 كو 4: 7)، فإن إخفاء السراج داخل الإناء يعني عزل عمل الروح خلال شهوات الجسد، عوض تقديس الجسد بنار الروح! بمعنى آخر، ليتنا لا نُبطل عمل الروح فينا خلال أعمال الجسد، إنما نقبل تقديس الجسد بكل طاقاته وأحاسيسه بنار الروح!
إن كان الإناء يمثِّل الجسد، فإن السرير يمثِّل حياة “النوم” والرخاوة، فإنه ليس شيء يفسد حياتنا الروحيَّة مثل التراخي والكسل. بمعنى آخر ليتنا لا نحطِّم النار المقدَّسة فينا خلال سرير إهمالنا وتراخينا، بل بالحري نتجاوب معها خلال السهر والجهاد.
أما المنارة فتُشير لحياة الكرازة والشهادة للحق، فإن النور الذي فينا يتوهَّج بالأكثر خلال الخدمة الروحيَّة والشهادة للرب المصلوب.
ثانيًا: ما هو الخفي الذي يظهر والمكتوم الذي يُعلَم ويُعلَن، إلا حياة السيِّد المسيح نفسه التي يقدِّمها كبذار في داخلنا، إذ تنبت وتنمو شجرة حياة، تملأ القلب ثمرًا روحيًا سماويًا لا يُمكن إخفائه. يُعلن السيِّد المسيح فينا خلال حياتنا الداخليَّة من محبَّة وفرح وسلام وطول أناة ولطف وصلاح وإيمان ووداعة وتعفُّف (غلا 5: 13)، هذه التي تترْجم خلال سلوكنا الظاهر وتحرُّكاتنا! فما نتقبَّله خلال حياتنا السرِّيَّة وعبادتنا الشخصيَّة يُعلَن خلال تصرفاتنا.
ثالثًا: يقدِّم لنا السيِّد المسيح مبدأً أساسيًا في حياتنا الروحيَّة، هو: “من له سيُعطى، ومن ليس له فالذي يظنُّه له يُؤخذ منه” [18]. يمكننا أن ندعو هذا المبدأ “ديناميكيَّة الشركة مع الله في ابنه”، بمعنى أننا إن كنَّا أمناء نقبل “حياة المسيح فينا” بأمانة، فإن هذه الحياة لا تقف خاملة أو جامدة، إنما تنمو علي الدوام فينا. إذ لنا “الحياة في المسيح”، فإنه يُعطي لنا النمو الدائم لعلَّنا نبلغ قياس ملء قامة المسيح. يهبنا المسيح ما له ليصير في ملكيَّتنا “ما لنا”، كبذار حيَّة تُثمر فينا ويتزايد الثمر بلا توقُّف. أما من ليس له، أي الذي لا يقبل عمل الله فيه، فإن ما يظنه له من مواهب طبيعيَّة وبركات وراثيَّة حتى هذه الأمور تُنزع عنه! بمعنى آخر حياتنا في المسيح حركة لا تتوقَّف، والشر أيضًا حركة لا تتوقَّف، فمن يتجاوب مع السيِّد ينمو بلا انقطاع ومن يقبل الشرّ ينحدر فيه بلا حدود.
- يطلب قرابة الكل له
إن كان السيِّد المسيح كصديقٍ حقيقيٍ يعمل فينا بلا انقطاع، فقد أراد الإنجيلي إبراز مستوى صداقته، أنها لا تنحاز لقرابةٍ جسديَّةٍ، إذ يريد الكل أقرباء له، أعضاء في العائلة السماويَّة. لهذا لما جاءت أُمُّه واخوته (أبناء خالته) يطلبونه ولم يقدروا أن يصِلوا إليه بسبب الجمع، أجاب وقال: “أُمّي وإخوتي هم الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها” [21].
لا يقصد السيِّد المسيح التحقير من الروابط العائلية، وإنما وهو يحب أُمُّه ويهتم بها حتى في لحظات صلبه، يريد أن يرفعنا إلى القرابة علي مستوى الاتحاد معه، لا خلال الاستماع للكلمة فحسب، وإنما بالعمل بها أيضًا (راجع تفسير مت 12: 46، مر 3: 31).
- لم يقل هذا كمن يجحد أُمُّه، إنما ليُعلن كرامتها التي لا تقوم فقط علي حملها للمسيح، وإنما علي تمتُّعها بكل فضيلة.
الأب ثيؤفلاكتيوس بطريرك بلغاريا
- ألا ترى أنه في كل مناسبة لم يُنكر القرابة حسب الطبيعة، لكنَّه أضاف إليها ما هو بواسطة الفضيلة؟[3]
القدِّيس يوحنا الذهبي الفم
- يليق به كمعلِّم أن يقدِّم الرب نفسه مثالاً للآخرين، فهو يأمر وينفِّذ ما يأمر به. فإنه إذ يوصي بأنه إن لم يترك الإنسان أباه وأُمُّه لا يستحق ابن الله (مت 10: 37، لو 14: 26) أراد أن يكون أول من يخضع لهذه الوصيَّة، لا ليقاوم إكرام الأم اللائق، إذ سبق فقال أن من لا يُكرم أباه وأُمُّه موتًا يموت (خر 20: 2، تث 27: 6) وإنما كان عالمًا أنه ينبغي أن يكون فيما لأبيه أكثر من عواطفه نحو أُمُّه، فرباطات الروح أقدس من رباطات الجسد.
ما كان يجب علي الذين يطلبون يسوع أن يقفوا خارجًا، لأن الكلمة قريبة منك، في فمك وفي قلبك (تث 30: 14، رو 11: 8). الكلمة تسمعها من الداخل، والنور أيضًا في الداخل، لذلك قيل: “اقتربوا إلىّ واستنيروا” (مز 33: 6)، فإنه إن كان لا يعرف أهله إن وقفوا خارجًا، فكيف يعرفنا نحن إن وقفنا نحن في الخارج؟…
لم يتعالَ المسيح علي أُمّه هنا، فقد عرفها وهو علي الصليب (يو 19: 26)، إنما أراد تمييز الوصايا الإلهيَّة عن الرباطات الجسديَّة.
يشير المسيح بأهله أنه سيُفضِّل الكنيسة التي آمنت به عن اليهود الذين جاء منهم المسيح حسب الجسد[4].
القدِّيس أمبروسيوس
- تهدئة الأمواج
الآن إذ أبرز صداقته العاملة بلا انقطاع لكي يدخل الكل إلى القرابة معه خلال سماع الوصيَّة وممارستها، بدأ يظهر إمكانيَّاته للعمل فينا لتحقيق غايته فينا. ففي إعلان سلطانه علي الطبيعة يأمر الرياح والماء فتُطعيه يعلن إمكانيَّته للعمل فينا حتى وإن بدت الطبيعة مقاوِمة، أنه صاحب سلطان يدخل إلى قلبنا كما إلى السفينة ليأمر الرياح الداخليَّة أن تهدأ والأمواج أن تتوقَّف، مقيمًا سلامه الفائق للعقل داخل قلوبنا! (راجع تفسير مت 8: 23، مر 4: 35).
“وفي أحد الأيام دخل سفينة هو وتلاميذ،
وقال لهم: لنعبر إلى عبر البحيرة، فأقلعوا” [22].
إذ وقف أقرباؤه خارجًا ترك الموقع وانطلق مع تلاميذه في سفينة، متَّجِهًا إلى البر الآخر للبُحيرة. إنها صورة رمزيَّة لعمله الإلهي عندما وقف اليهود خاصته خارج الإيمان، فانطلق بتلاميذه خلال كنيسته أو صليبه (السفينة) إلي الأمم، الَبر الآخر من بحيرة هذا العالم. وإلي الآن السيِّد المسيح منطلق علي الدوام يعمل خلال خُدَّامه في كنيسته بلا توقُّف مشتاقًا إلي تجديد حياة الكل.
“وفيما هم سائرون نام،
فنزل نوء ريح في البحيرة” [23].
هذه هي المرَّة الوحيدة التي قيل فيها عن السيِّد أنه نام، ربَّما ليؤكِّد الإنجيلي حقيقة تجسَّده أنه أكل وشرب ونام وتألم الخ. ولعلَّ تعبير “نام” يشير هنا إلي الراحة، فالسيِّد إذ يدخل بتلاميذه إلى سفينته منطلقًا بهم إلي الخدمة يستريح فيهم، لا نوم الخمول، إنما نوم الراحة من جهتهم. ولعلَّ كلمة “نام” هنا ترمز لما يبدو لنا حين تهب الزوابع علينا حتى تكاد سفينة حياتنا تمتلئ، بينما يبدو الرب نائمًا لا يبالي أننا نهلك، مع أنه ضابط الكل، وكل ما يحدِّث بسماحٍ من عنده. فنومه يعني تأجيل ظهوره لكتم الضيقات، مع تركنا للجهاد بنعمته حتى نصرخ إليه وبه نغلب ونتكلل.
يرى القدِّيس يوحنا الذهبي الفم[5] أن السيِّد نام لكي يعطي للتلاميذ فرصة لاكتشاف خوفهم وظهوره فيعالجه فيهم. أما القدِّيس أغسطينوس[6] فيرى في نوم السيِّد رمزًا لنوم إيماننا به في داخلنا، إذ بالإيمان يحل السيِّد المسيح في قلوبنا (أف 3: 17)، فإن نام هذا الإيمان وفتر تهيج الأمواج ضدَّنا وتصير الحاجة مُلحَّة أن نوقظه بصراخنا إليه، أي بتذكُّر كلماته التي فاعليتها في حياتنا. أما القدِّيس أمبروسيوس فيُعلِّق علي نوم السيِّد أثناء اجتياز البحيرة، قائلاً:
]لا يستطيع أحد أن يجتاز هذا العالم بدون المسيح.
إن كان الذين معهم المسيح غالبًا ما يجدون مصاعب في مواجهة تجارب الحياة، وإن كان المسيح قد تصرف هكذا مع تلاميذه إنما ليسحب أنظارك، فتدرك أنه لا يستطيع أحد أن ينطلق من هذا العالم دون أن تعيقه التجارب فيتزكَّى فيه عمل الإيمان.
إن كنا نؤمن أن لله هدف وراء هذه العواصف فلنوقظ القبطان! إن كان حتى قادة السفينة عادة يتعرَّضون للخطر، فإلى من نلجأ، إلا إلي ذاك الذي لا تأسره الرياح، بل يأمر، ذاك الذي كُتب عنه أنه قام واِنتهر الريح؟…
كان نائمًا بالجسد لكنه مهتم بهم بلاهوته…
كان الكل خائفًا، وكان هو وحده نائمًا بلا اضطراب، فهو لا يشاركنا طبيعتنا فحسب، وإنما يكون معنا وسط الخطر ولو كان نائمًا بالجسد، إذ هو عامل بلاهوته…
لقد استحقُّوا اللوم، إذ قال لهم: “يا قليلي الإيمان” (مت 8: 26؛ 14: 31)، لأنهم كانوا خائفين مع أن يسوع كان معهم. أنهم لم يدركوا أن من يثبت فيه لا يمكن أن يهلك.
ثبَّت الرب إيمانهم وأعاد الهدوء وأمر الريح أن تسكت… الريح الذي قال له الملاك ميخائيل: “لينتهِرك الرب” (يه 9)…
لينتهر الرب فينا هذه العواصف الثائرة، فلا تخشى الغرق، بل تهدأ حياتنا المضطربة!
إن كان السيِّد لا ينام الآن، لكننا ليتنا نسهر لئلاَّ نراه نائمًا فينا، حين ينتاب جسدنا نوم الغفلة[7].[
- شفاء مجنون الجدريِّين
سبق لنا عرض تعليقات كثير من آباء الكنيسة على شفاء مجنون الجِدريِّين (تفسير مت 8: 28؛ مر 5: 1)؛ أما ما نود أن نؤكِّده هنا أن الإنجيلي لوقا يبرز شخص المخلِّص كصديقٍ عاملٍ بلا انقطاع، يعمل من أجل إنسان أو إنسانين ولو كانا مجنونين مرذولين يسكنان القبور، حتى وإن كان عمله معهما يحطِّم آلاف من الخنازير أو يسبب له طردًا من الكورة. هكذا يقّيم السيِّد المسيح النفس البشريَّة ويقدِّرها، عاملاً فيها مهما كلَّفه الثمن! مستعد أن يربحها على حساب خليقته وعلى حسب مجاملات الكثيرين له.
من هو هذا المجنون الذي بقى زمانًا طويلاً عريانًا لا يلبس ثوبًا، بلا مأوى لا يسكن بيتًا، بل يعيش في القبور، مقيَّدًا بسلاسل وقيود، لا يقوى على العمل أو التفكير؟ إنه يمثِّل البشريَّة التي بقيت زمانًا طويلاً مستعبَدة لعدو الخير، مقيَّدة بسلاسل الخطيَّة وقيود الشرّ، لا تقوَى على العمل لحساب مملكة الله لبنيانها ولا التفكير في السماويَّات. لقد صارت خارج المدينة، خارج الفردوس الذي أقيم لأجلها، بلا بيت، إذ حرمت نفسها من السُكنى مع الله في مقدِسه الحقيقي، تعرَّت من ثوب النعمة الإلهيَّة، تؤذي نفسها بنفسها، تهرب نحو البراري، إذ لا تطيق حياة الحب والشركة مع الله والناس!
يعلق القدِّيس أمبروسيوس على هذا الرجل قائلاً:
[العريان هو مَن فقَدَ ثوب طبيعته (الأولى) وفضيلته…
الرجل الذي به شيطان يشير إلى شعب الأمم وقد غطته الرذائل فتعرَّى بجهالاته، وخُلعت عنه ثوبه…
تعمَّد القدِّيس متَّى أن يذكر أنه كان ساكنًا في القبور، فإن مثل هذه النفوس تبدو كأنها ساكنة في قبور. فإن أجساد غير المؤمنين ليست إلا نوعًا من القبور يُدفن فيها الأموات (النفوس الميِّتة)، حيث لا تسكن فيها كلمة الرب.
لقد اِندفع إلى الأماكن الخالية، أي الأماكن القفرة من فضائل الروح، التي تجنَّبت الناموس وانفصلت عن الأنبياء، فرفضتهم النعمة.
لم يعذِّبه شيطان واحد بل يهاجمه لجيئون[8].]
هكذا إذ صارت البشريَّة أُلعوبة لا في يد شيطان، بل شيَّاطين كثيرة، تلهو بها وتتبادلها لإذلالها، خرج إليها السيِّد ليحرَّرها من هذا العدو، ويرد لها الثوب الملوكي والبيت الإلهي ويهبها عقلاً وحكمة، وينعم عليها بالشركة معه.
والعجيب أن العدو إذ أدرك خلاص الإنسان على يديّ السيِّد، حسب خلاصنا هلاكًا له. يجد العدو لذّته في عذابنا، وعذابه في خلاصنا، إذ قال الشيطان: “أطلب منك أن لا تعذِّبني” [28]. ولعلَّه أدرك أنه عند تمام العمل الخلاصي يسقط هو تحت الدينونة، إذ يكون قد امتلأ كأسه.
على أي الأحوال مع ما يظهر عليه عدو الخير من قوةٍ وعنف وقسوة، وضحت في حياة هذا الرجل قبل شفائه، وفي قطيع الخنازير الذي هلك في الحال، إلا أنه أمام السيِّد المسيح في غاية الضعف، لا يقدر أن يدخل خنزيرة – كما يقول القدِّيس يوحنا الذهبي الفم[9] – ما لم يسمح له الرب!
ليتنا لا نكون كخنزيرة في حياتنا الروحيَّة، نتمرَّغ في حمأة الخطيَّة، لئلا يجرفنا العدو وينحدر بنا إلي الهاوية، فنغرق ونهلك!
أخيرًا، إذ طلب الرجل من السيِّد أن يرافقه ليكون وسط الجماهير، قال له: “اِرجع إلي بيتك وحدِّث بكم صنع الله بك” [39]. وكما يقول القدِّيس يوحنا الذهبي الفم: [لننسحب من كل الأمور العالميَّة، ونكرِّس أنفسنا للمسيح، فنُحسب مساوين للرسل حسب إعلانه، وننعم بالحياة الأبديَّة[10]]. بمعنى آخر ليتنا لا نهتم بالمظاهر الخارجيَّة، بل ننسحب إلي بيتنا الجديد، الذي هو “حياتنا في المسيح”، نمارس حقِّنا في العبادة والشهادة، فيتمجَّد الله فينا وتظهر أعماله نورًا يضيء في هذا العالم!
- إبراء نازفة الدم
سبق لنا الحديث عن هذه المرأة (تفسير مت 9: 18؛ مر 5: 22)، لكن ما نود توضيحه هنا أن إبراء نازفة الدم جاء في الطريق ما بين لقاء يايرس للسيِّد، وإقامة ابنة يايرس، بينما كان السيِّد في طريقه إلى بيت يايْرُس. وقد تمَّ ذلك بهدف خاص وهو أن يايْرُس مع كونه رئيسًا للمجمع لكن إيمانه كان أضعف من إيمان قائد المائة. كان الأول يطلب من السيِّد أن يأتي بيته ليشفي ابنته التي أوشكت على الموت، أما الثاني فآمن أن السيِّد قادر أن يشفي غلامه بكلمة، وأنه لا حاجة لمجيئه إلى البيت، خاصة وأنه لا يستحق أن يدخل السيِّد هذا البيت!
كان قلب يايْرُس مضطربًا جدًا، وكانت اللحظات تعبر كسنوات طويلة، يشتاق أن يُسرع السيِّد لينقذ ابنته لئلا تموت، إذ لم يكن بعد يؤمن أنه قادر على الإقامة من الأموات. من يستطيع أن يُعبِّر عن نفسيَّة يايْرُس حين أوقف السيِّد المسيح الموكب كله ليقول: “من لمسني؟“، بينما كان يتعجَّل اللقاء؟ على أي الأحوال، أعطي الرب لهذا الرئيس درسًا في الإيمان، كيف اغتصبت امرأة مجهولة القوَّة خلال لمسِها هدب ثوبه، ونالت ما لم تنَلْه الجموع الغفيرة، معلنًا له إمكانيَّة التمتُّع بعمل المسيَّا وقوَّته.
ولعل السيِّد وهو منطلق إلى بيت يايْرُس رئيس المجمع أراد أن يقدِّم له كما للجماهير درسًا في “صداقته العاملة”، وأنه وهو يهتم برئيس المجمع لا يتجاهل امرأة مجهولة دنِسة حسب الشريعة، يعمل لحساب الكل ومن أجل الجميع.
قلنا أنه الصديق العامل بلا انقطاع… يعمل لحساب رئيس مجمع جاء يتوسَّل إليه من أجل ابنته، ويعمل أيضًا من أجل امرأة مجهولة، يعمل علانيَّة بانطلاقه إلى بيت يايْرُس، ويعمل خِفية، إذ قال أن قوَّة خرجت منه! هذا ومن ناحيَّة أخرى أراد أن يؤكِّد أنه ليس من وقت معيَّن للعمل، إنما كل وقته هو للعمل. أنه يشفي واهبًا قوَّة خلال الطريق لإقامة ابنة!
هذه المرأة التي فقدت رجاءها في الأذرع البشريَّة، إذ أنفقت كل أموالها على الأطبَّاء، لم تفقد ثقتها وإيمانها بالمخلِّص. لقد لمستْه، فنالت ما لم يناله الذين يزحِمونه، لذلك أراد الرب أن يتمجَّد فيها، فأعلن عن القوَّة التي خرجت منه، أما هي فجاءت مرتعدة [47] تحمل خوف الله، متعبِّدة إذ خرَّت له، شاهدة للحق إذ أخبرت قدام جميع الشعب عن سبب لمسها إيّاه وكيف برِئت في الحال.
لم يرد الرب أن يحاسبها، إنما أن يزكِّيها، إذ صارت تمثِّل الكنيسة الحاملة لخوف الله، العابدة بالحق، الشاهدة لعمل مسيحها.
أمام هذا المنظر الذي سحَب قلوب الكل فاض عليها الصديق الأعظم بهبات محبَّته، إذ قال لها: “ثقي يا ابنة، إيمانك قد شفاكِ، اذهبي بسلام” [48]. هي آمنت وهو يُزيد إيمانها أكثر فأكثر بقولِه “ثِقي“، فالإيمان هو عطيَّة الله لمن يسأله، والنمو في الإيمان هو هِبة لمن يمارس الإيمان. يهبنا الإيمان إن سألناه، ويُزيد إيماننا إن أضرمنا ما أعطانا إيَّاه.
وهبها النمو في الإيمان، كما أعلن عطيَّة البنوَّة بقوله: “يا ابنة”… هذه العطيَّة التي تفوق كل عطيَّة أو موهبة. هي آمنت ونالت، فمجَّدته بإيمانها، ويمجِّدها أيضًا هو بقوله: “إيمانك قد شفاكً“. أخيرًا قدَّم لها عطيَّة السلام الروحي والنفسي: “أذهبي بسلام“.
يا للعجب، فإنه كصديق اِهتمَّ بجسدها فشفاه، وبنفسها فأعطاها السلام، وبروحها فجعلها ابنة له تشارِكه أمجاده السماويَّة!
- إقامة ابنة يايْرُس
رأى يايْرُس هذا المنظر، ولعلَّه بعدما اِضطرب في البداية إذ خشي التأخير، امتلأ إيمانًا، فصارت المرأة نازفة الدم معلِّمًا لرئيس المجمع عن طريق الإيمان.
لقد أراد الرب أيضًا أن يُزيد إيمان يايْرُس أكثر فأكثر، فسمح له بضيقة أمَرْ، إذ جاء واحد من داره يقول له: “قد ماتت ابنتك لا تتعِب المعلِّم” [49]. وقبل أن ينطق بكلمة سمع المعلِّم يقول: “لا تخف، آمن فقط فهي تُشفي” [50]. وقد سبق لنا الحديث عن إقامة ابنة يايْرُس (تفسير مت 9، مر 5)
[1] Catena Aurea Luc 8.
[2] Catena Aurea.
[3] In Matt. hom 32:11.
[4] In Luc 8:19-36.
[5] In Matt. hom 28:1.
[6] In Loan tr 49:9.
[7] In Luc 8:19-36.
[8] In Luc 8:19-36.
[9] In Matt. hom 19: 10.
[10] In Matt. hom 19: 10.