تفسير رسالة أفسس 5 الأصحاح الخامس – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير رسالة أفسس 5 الأصحاح الخامس – القمص تادرس يعقوب ملطي
الأصحاح الخامس: العبادة والسلوك
إن كانت الكنيسة هي قبول دعوة الله للتمتع بالحياة الجديدة في المسيح، فإن هذه الحياة تتجلى في حياة الإنسان وعبادته وسلوكه، دون ثنائية… فتكون حياته كلها “ذبيحة لله”، أي عبادته غير منقطعة وغير منفصلة عن سلوكياته.
- الامتثال بالله “المحبة الباذلة” ١ – ٢.
- السلوك في نور قيامته ٣ – ١٤.
- التدقيق في السلوك والعبادة ١٥ – ٢١.
- العلاقات الزوجية وسرّ المسيح ٢٢ – ٢٣.
1. الامتثال بالله “المحبة الباذلة”
“فَكُونُوا مُتَمَثِّلِينَ بِاَللهِ كَأَوْلاَدٍ أَحِبَّاءَ،
وَاسْلُكُوا فِي الْمَحَبَّةِ كَمَا أَحَبَّنَا الْمَسِيحُ أَيْضًا وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِنَا،
قُرْبَانًا وَذَبِيحَةً لِلَّهِ رَائِحَةً طَيِّبَةً” ]١-٢[.
إن كانت لغة الكنيسة الجامعة هي المحبة، خلالها نُمارس وحدانية الروح، وبها تنمو الجماعة وكل عضو فيها، مشتاقًا أن يتحقق سرّ المسيح، بانفتاح باب الإيمان للجميع خلال المحبة، فإن المحبة هي أيضًا علامة امتثالنا بالله أبينا، وإقتدائنا بكلمة الله المتجسد الذي خلال المحبة أسلم نفسه لأجلنا قربانًا وذبيحة للآب رائحة سرور ورضا. وكما يقول القديس يوحنا الحبيب: “بهذا قد عرفنا المحبة أن ذاك وضع نفسه لأجلنا فنحن ينبغي لنا أن نضع نفوسنا لأجل الإخوة” (١ يو ٣: ١٦).
كما سبق فكررنا أن المسيحي يشارك السيد المسيح كهنوته (الكهنوت العام) بتقديم حياته ذبيحة حب عن الآخرين كسيده. هذه هي سمة “الإنسان الجديد” الذي لنا عوض “الإنسان العتيق” الفاسد.
- من يقطن في الحب يقطن في الله، لأن الله محبة (١يو ٤: ١٦)[1].
- لقد دُعيت ابنًا، فإن رفضت الامتثال به لماذا تطلب ميراثه؟[2]
القديس أغسطينوس
- لئلا تظن أن هذا العمل (خلاص المسيح) قد تم عن إلزام، اسمعه يقول: “أسلم نفسه”.
كما أحبك سيدك، حب أنت صديقك! بل، إن كنت لا تقدر أن تحب هكذا، فحب قدر ما تستطيع… سامح الآخرين، فإنك إذ تقتدي به تكون على مثاله.
من واجبنا أن نسامح عن الأخطاء أكثر من أن نعفو عن الديون المالية، فإنك إن تنازلت عن الديون التي لك لا تتمثل بالله، أما إن سامحت المعاصي التي ضدك فإنك تتمثل به.
لا تستطيع القول بأنك فقير وعاجز عن أن تتنازل عن الديون التي لك، إن كنت لا تسامح المعاصي التي هي ضدك، الأمر الذي في سلطانك عمله! بالتأكيد لن تتحمل أية خسارة بهذا الصنيع…
انظر، فإنه يقدم لك نصيحة أكثر نبلاً، إذ يحثك، قائلاً: “كَأَوْلاَدٍ أَحِبَّاءَ“، نعم فإنه يوجد سبب آخر مقنع لتتمثل به، ليس أنك نلت صلاحًا من يديه فقط، وإنما أيضًا دُعيت ابنه. وإذ ليس كل الأبناء يتمثلون بآبائهم بل “الأحباء” لذا يقول “كَأَوْلاَدٍ أَحِبَّاءَ“.
انظروا،هنا أساس كل عمل! فإنه حيث لا يوجد سخط ولا غضب ولا صراخ (صخب) ولا تعنيف إنما ينتزع هذا كله، لذلك يضع في النهاية النقطة الرئيسية (أي المحبة).
كيف صرت ابنًا؟ بأنه غفر لك! على نفس الأساس الذي به نلت امتيازًا عظيمًا يلزمك أنت أيضًا أن تسامح أخاك!
كن محبًا للحب،فيه قد خلصت، وبه صرت ابنًا!
إن كان في قدرتك أن تنقذ الآخرين، أفلا تستخدم معهم نفس العلاج (الذي أُستخدم بالنسبة لك) مقدمًا النصيحة للجميع: “اغفروا يُغفر لكم”[3].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- لقد أسلم بواسطة الآب (رو ٨: ٣٢)، كما أسلم نفسه بإرادته (أف ٥: ٢؛ غلا ١: ٣، ٤)، فمن الواضح أن عمل الآب وإرادته هما واحد مع الابن[4].
القديس أمبروسيوس
2. السلوك في نور قيامته
إذ بالحب العملي نتمثل بالله النور نحمل شركة طبيعته،فنُحسب “أَوْلاَدِ نُورٍ” ]٨[، لا مكان لظلمة الموت فينا، بل ننعم بنور القيامة، خلال هذا المفهوم يوصينا الرسول أن نسلك عمليًا كأولاد للنور متمتعين بقوة القيامة وبهجتها في داخلنا، معلنة في حياتنا اليومية وسلوكنا الخفي والظاهر، تاركين أعمال الظلمة غير اللائقة بنا، إذ يقول:
“وَأَمَّا الزِّنَا وَكُلُّ نَجَاسَةٍ أَوْ طَمَعٍ، فَلاَ يُسَمَّ بَيْنَكُمْ كَمَا يَلِيقُ بِقِدِّيسِينَ،
وَلاَ الْقَبَاحَةُ، وَلاَ كَلاَمُ السَّفَاهَةِ وَالْهَزْلُ الَّتِي لاَ تَلِيقُ، بَلْ بِالْحَرِيِّ الشُّكْرُ.
فَإِنَّكُمْ تَعْلَمُونَ هَذَا أَنَّ كُلَّ زَانٍ أَوْ نَجِسٍ أَوْ طَمَّاعٍ،
الَّذِي هُوَ عَابِدٌ لِلأَوْثَان،
لَيْسَ لَهُ مِيرَاثٌ فِي مَلَكُوتِ الْمَسِيحِ وَاللهِ.
لاَ يَغُرَّكُمْ أَحَدٌ بِكَلاَمٍ بَاطِلٍ،
لأَنَّهُ بِسَبَبِ هَذِهِ الأُمُورِ يَأْتِي غَضَبُ اللهِ عَلَى أَبْنَاءِ الْمَعْصِيَةِ.
فَلاَ تَكُونُوا شُرَكَاءَهُمْ.
لأَنَّكُمْ كُنْتُمْ قَبْلاً ظُلْمَةً وَأَمَّا الآنَ فَنُورٌ فِي الرَّبِّ.
اسْلُكُوا كَأَوْلاَدِ نُورٍ” ]٣– ٨[.
يلاحظ في النص الآتي:
أولاً: أبرز أعمال الظلمة التي “لا تليق” بنا كأولاد النور، بل لا تُسم بيننا… كنا قبلاً نمارسها لأننا كنا في ظلمة، أما الآن فنحن نور في الرب. وقد ركز في حديثه عن أعمال الظلمة على ثلاث خطايا، وهي: “الزِّنَا وَكُلُّ نَجَاسَةٍ أَوْ طَمَعٍ” ]٣[، هذه الأمور الثلاثة التي لا يليق مجرد ذكر أسمائها بيننا إن كنا بالحقيقة قديسين في الرب. يعود فيكرر نفس هذه الخطايا الثلاث ]٥[ كعلة لحرمان الإنسان من ملكوت الله. وكما يقول الأب صرابيون: [يجب علينا أن نتجنب هذه (الخطايا) الثلاث على قدر متساوٍ من الحرص، فإن واحدة منها كما أن جميعها تغلق أمامنا ملكوت المسيح وتستبعدنا عنه بقدر متساوٍ[5].]
ثانيًا: يرى القديس يوحنا الذهبي الفم[6] أن الرسول بولس قدم المجموعة الأولى من الشرور: “كل مرارة وسخط وغضب الخ” (٤: ٣١)، وأن علة هذه الشرور هي الصياح أو الصخب؛ أما المجموعة الثانية “الزِّنَا وَكُلُّ نَجَاسَةٍ أَوْ طَمَعٍ” فهي تنبع عن الشهوات الجسدية وعلتها “كَلاَمُ السَّفَاهَةِ وَالْهَزْلُ” ]٤[. عوض كلمات الشكر لله.
كأن الرسول بولس وهو يقدم أعمال الشر يضع أيدينا على علة هذه الأعمال أو بدايتها التي تبدو أمرًا تافهًا ثم تستفحل… فقد يستتفه الإنسان “الصياح” أو “الصخب” عوض الهدوء والسكون… هذا الصخب يفسد عيني الإنسان أو بصيرته الداخلية فيبدأ يغضب، ثم يتحول الغضب إلى حقد ومرارة نحو الغير، وقد يتحول إلى قتل إن لم يكن جسديًا فمعنويًا. هنا أيضًا يبدأ الإنسان بكلمات المزاح غير اللائقة لتتحول إلى كلام السفاهة، فتثير شهوات الإنسان نحو الزنا والنجاسة والطمع. لذا يحذرنا الحكيم سليمان، قائلاً: “ابعد طريقك عنها، ولا تقرب إلى باب بيتها” (أم ٥: ٨).
الكلمة القبيحة أو كلام السفاهة والهزل ]٤[، علامة من علامات الفراغ الداخلي، تهدم ولا تبني، تدفع إلى الزنا وكل نجاسة وطمع، لذا يقول القديس يوحنا الذهبي الفم في تعليقه على هذه العبارات الرسولية:
[الكلمات هي الطريق للأعمال… أي نفع للنطق بالفكاهة؟ إنك مجرد تضحك!
اخبرني، هل يشغل صانع الأحذية نفسه بشيء غير ما يمس مهنته ولمنفعتها؟ هل يشتري أية آلة غير التي تخص عمله؟ لا. فإنه لا لزوم للأمور التي لا نحتاج إليها.
إذن ليتك لا تتفوه بكلمة بطالة، فخلال الكلمات البطالة تسقط في أحاديث غبية. الوقت الحاضر ليس وقت للضحك المتسيّب، إنما هو وقت للحزن والتجارب والبكاء، فهل تمزح؟
أي مصارع يدخل حلقة المصارعة ليناضل ضد خصمه، ينطق بفكاهات؟
إبليس واقف مستعد، إنه يزأر (١بط ٥: ٨) ليفترسك، إنه يجول من كل جهة، ويقلب كل الأمور ضد حياتك، ويدبر مكائد لينزعك من راحتك، يصرّ بأسنانه ويجأر، يتنفس نارًا ضد خلاصك، فهل تجلس أنت لتنطق بفكاهات وتتفوه بكلمات غبية، وتتحدث بما هو ليس للنفع؟!…
الآن وقت للحرب (الروحية) والصراع، للسهر والحراسة، لللتسلح والتسربل. لا مجال للضحك هنا، فإن هذا خاص بالعالم، اسمع ما يقوله المسيح “العالم يفرح، أنتم تحزنون” (يو ١٦: ٢٠).
المسيح صلب من أجل شرورك، وأنت تضحك؟…
اسمع ما يقوله النبي: “اعبدوا الله بخشية، هللوا له برعدة” (مز ٢: ١١). المزاح يجعل النفس رخوة وبليدة…
ليس من هو معيب مثل المازح، فإنه ليس في فمه شيء نافع بل مملوء أتعابًا[7].]
ثالثًا: قابل الرسول “القباحة وكلام السفاهة والهزل” بعمل مضاد لائق بأبناء النور ألا وهو “الشكر”. فالمؤمن لا يُسر بالأعمال السابقة، إنما بالحري بممارسته للحياة الملائكية، حياة الشكر لله والتسبيح الدائم. بهذا يُظهر فرحه الداخلي العميق الذي لا يقوم على تصرفات زمنية سخيفة وإنما على علاقته البنوية على مستوى أبدي.
في حديثه السابق قابل أعمال الإنسان العتيق من كذب وغضب وسرقة وكلام رديء بالعمل الأساسي في الإنسان الجديد ألا وهو “المحبة” التي بها نتمثل بالله (٥: ١)، الآن يقابل أعمال الظلمة من زنا وكل نجاسة وطمع وقباحة وكلام السفاهة والهزل بعمل النور الأساسي ألا وهو “الشكر”، عمل الملائكة النورانيين. بمعنى آخر بالحب نعلن بنوتنا لله، وبالشكر نعلن شركتنا مع السمائيين.
رابعًا: يعلل الرسول بولس ضم “الطمع” إلى الزنا والنجاسة، قائلاً: “فَإِنَّكُمْ تَعْلَمُونَ هَذَا أَنَّ كُلَّ زَانٍ أَوْ نَجِسٍ أَوْ طَمَّاعٍ، الَّذِي هُوَ عَابِدٌ لِلأَوْثَانِ لَيْسَ لَهُ مِيرَاثٌ فِي مَلَكُوتِ الْمَسِيحِ وَاللهِ” ]٥[، حاسبًا الطمع ليس بالأمر الهين كما يظن الكثيرون، خاصة إذا قورن بالزنا والنجاسة، فإن الطمع هو “عبادة أوثان” (كو ٣: ٥)، إذ يقيم الإنسان المال إلهًا له. فإن كان الزنا يعني عبودية الإنسان لشهوات الجسد عوض الحياة المقدسة في الرب، فالطمع هو عبودية الإنسان للأمور الزمنية عوض الحياة الأبدية والمجد السماوي في الرب. فلا يليق الاستهانة بالطمع ولا بالزنا والنجاسة… فإن هذه جميعها من سمات أبناء المعصية، تجلب الغضب الإلهي ]٦[.
خامسًا: لم يقل الرسول “كنتم قبلاً في الظلمة، وأما الآن في النور”، وإنما قال: “كُنْتُمْ قَبْلاً ظُلْمَةً، وَأَمَّا الآنَ فَنُورٌ” ]٨[. فمن يسلك في الظلمة تمتزج حياته بها فيصير هو نفسه كما لو كان ظلمة، ومن يسلك في نور الرب يصير هو نفسه نورًا وبركةً، كقول الرب: “أنتم نور العالم” (مت ٥: ١٤؛ لو ١١: ٣٣– ٣٦؛ يو ٥: ٣٥).
سادسًا: إذ صاروا نورًا بالرب “النور الحقيقي” يلتزمون بالسلوك كأبناء للنور ]٨[، فتصير الحياة المقدسة ثمرًا طبيعيًا فيهم وليس عملاً مفتعلاً! لذا يقول: “اسْلُكُوا كَأَوْلاَدِ نُورٍ. لأَنَّ ثَمَرَ النُور (الرُّوح)ِ هُوَ فِي كُلِّ صَلاَحٍ وَبِرٍّ وَحَقٍّ. مُخْتَبِرِينَ مَا هُوَ مَرْضِيٌّ عِنْدَ الرَّبِّ” ]٨–١٠[.
- يقول إنه ليس بفضلكم الذاتي، وإنما خلال نعمة الله تقتنون هذا، فقد كنتم قبلاً تستحقون العقاب، وأما الآن فلا تستحقون[8].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- إذ كنتم في الظلمة لم تكونوا في الرب، لكن إذ استنرتم فإنكم تضيئون بالرب وليس من ذواتكم[9].
القديس أغسطينوس
- [في حديثه عن بطرس الرسول الذي سار على المياه كأمر سيده]
كان قادرًا أن يعمل ما فعله الرب، لكن ليس من عندياته، وإنما في الرب…
سار بطرس على الماء كأمر الرب، مدركًا أنه يعجز عن التمتع بهذه القوة من ذاته.
بالإيمان صار لديه القوة ليحقق ما يعجز الضعف البشري عن عمله[10].
القديس أغسطينوس
إن كان السيد المسيح هو شمس البرّ، فإننا بروحه القدوس، الذي هو “النور” ننعم بثمر النور: “كل صلاح وبرّ وحق”. فكما أن الحياة الزمنية ما كان يمكن أن يكون لها وجود بدون الشمس، مع الفارق الشاسع لا حياة لنا بدون شمس البرّ واهب كل صلاح وبرّ وحق.
سابعًا: بقوله “مُخْتَبِرِينَ مَا هُوَ مَرْضِيٌّ عِنْدَ الرَّبِّ” ]١٠[ يميز بين السالكين بأعمال الظلمة والسالكين بأعمال النور، فإن الأولين يمارسون ما هو مرضي لأنفسهم أو لغيرهم، أما أولاد النور فيهتمون كيف يرضون الله، مرددين في أعماقهم عبارة الرسول: “ماذا تريد يا رب أن أفعل؟”.
ثامنًا: إذ تمتعنا بالرب النور الذي بقيامته بدّد سلطان الظلمة، فتركنا أعمال الظلمة وانتقلنا إلى النور، فصرنا به نورًا، نحمل ثمر النور، يحذرنا الرسول بولس من النكوص إلى الوراء والعودة إلى الظلمة وأعمالها، قائلاً:
“وَلاَ تَشْتَرِكُوا فِي أَعْمَالِ الظُّلْمَةِ غَيْرِ الْمُثْمِرَةِ بَلْ بِالْحَرِيِّ وَبِّخُوهَا.
لأَنَّ الأُمُورَ الْحَادِثَةَ مِنْهُمْ سِرًّا ذِكْرُهَا أَيْضًا قَبِيحٌ.
وَلَكِنَّ الْكُلَّ إِذَا تَوَبَّخَ يُظْهَرُ بِالنُّورِ.
لأَنَّ كُلَّ مَا أُظْهِرَ فَهُوَ نُورٌ” ]١١–١٣[.
بمعنى آخر أراد الرسول من المؤمنين أن يحددوا موقفهم، إن كانوا أولاد نور أم أولاد ظلمة، وذلك ليس خلال المناقشات الغبية وإنما خلال الحياة العملية. هذا ما يؤكده في أكثر من موضع، إذ يقول: “أية خلطة للبر والإثم؟! وأية شركة للنور مع الظلمة؟! وأي اتفاق للمسيح مع بليعال؟! وأي نصيب للمؤمن مع غير المؤمن؟!” (٢ كو ٦: ١٤، ١٥). وبنفس المعنى يقول يوحنا الحبيب: “بهذا أولاد الله ظاهرون وأولاد إبليس، كل من لا يفعل البرّ فليس من الله وكذا من لا يحب أخاه” (يو ٣: ١٠).
تاسعًا: بسلوكنا في النور كأولاد للنور، نأتي بثمر النور، معلنين بذلك أن أعمال الظلمة “غير مثمرة”، بالأولى (أعمال النور) تنفضح أعمال الشرير وتوبَّخ ]١١[، وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [يقول: “أنتم نور”، الآن النور يوبّخ ما يدور في الظلمة، كأنه يقول إن كنتم فضلاء واضحين لا يقدر الأشرار أن يختفوا، وذلك كما لو أضيئت شمعة، يصير الكل في نور، ولا يقدر اللص أن يدخل، هكذا إذ يشرق نوركم ينفضح الأشرار ويُمسكون. عملنا ان نكشفهم، فلماذا يقول ربنا: “لا تدينوا لكي لا تُدانوا” (مت ٧: ١، ٣)؟ لم يقل بولس: “دينوهم” بل “وبخوهم” أي أصلحوا أمرهم[11].]
عاشرًا: الآن يختم حديثه عن السلوك في النور بتأكيد تمتعنا بنور قيامته وتأكيد الغلبة والنصرة للنور على الظلمة، مقتبسًا في الغالب تسبحة كانت من صميم ليتورچية العماد، تُمجّد السيد المسيح الذي يهب البشرية الاستنارة عوض الظلمة والحياة المقامة عوض موت الخطية (يو ١١: ١١)… يهب مؤمنيه الحياة الجديدة المقامة بطريقة خلاّقة جديدة تقابل خلقة النور، إذ يقول: “لِذَلِكَ يَقُولُ: اسْتَيْقِظْ أَيُّهَا النَّائِمُ وَقُمْ مِنَ الأَمْوَاتِ فَيُضِيءَ لَكَ الْمَسِيحُ” ]١٤[.
- هذه هي قيامة القلوب أي قيامة الإنسان الداخلي، أو قيامة النفوس.
- هو بعينه الذي يهب النور للأعمى يقيم الموتى[12].
القديس أغسطينوس
- يقصد بالنائم والميت الإنسان الذي في الخطية، فإنه تفوح منه روائح كريهة كرائحة الميت، ويكون متبلدًا كمن هو نائم، فيكون كمن لا يرى شيئًا، وإنما يعيش في الأحلام والأوهام والتخيلات…
أترك الخطية فتقدر أن تعاين المسيح، “لأن كل من يعمل السيئات يبغض النور ولا يأتي إلى النور” (يو ٣: ٢٠). فمن لا يرتكبها يأتي إلى النور…
“ليس الله إله أموات بل إله أحياء” (مت ٢٢: ٣٢)، فإن كان ليس إله أموات، فلنحيا نحن[13].
القديس يوحنا الذهبي الفم
3. التدقيق في السلوك والعبادة
إن كان كلمة الله في محبته وهبنا نور قيامته مشرقًا فينا، فلنقوم من موت الخطية، فمن جانبنا نلتزم بالحياة المدققة، لا كجهلاء بل كحكماء، وقد أوضح الرسول النقاط التالية:
أولاً: “فَانْظُرُوا كَيْفَ تَسْلُكُونَ بِالتَّدْقِيقِ، لاَ كَجُهَلاَءَ بَلْ كَحُكَمَاءَ” ]١٥[.
الحياة الروحية أشبه بمبنى يُقام أساسه بقيامة الرب الواهبة النور عوض الظلمة، والحياة عوض الموت، لكي يبقى المؤمن يعمل كل أيام تغربه بكل حكمة وتدقيق، لا بذاته إنما بالنعمة المجانية، أي بالحياة المُقامة في المسيح الموهوبة له.
هذا البناء الروحي الداخلي يمارسه كل مؤمن، كما يمارسه العاملون في الكرم لحساب الجماعة كلها، كقول الرسول نفسه: “فلينظر كل واحد كيف يبني عليه” (١ كو ٣: ١٠).
هنا نلاحظ أنه لا يكفي التدقيق في السلوك وإنما تلزم “الحكمة” أيضًا في التصرف… فقد حسب البعض أن الإيمان بالمصلوب غباوة وجهالة، وأن الاتكال على الله يعني تجاهل التفكير والحكمة، لذا ركز الرسول كثيرًا على “الحكمة” و”المعرفة” فنجده بعد قليل يؤكد: “فَاهِمِينَ مَا هِيَ مَشِيئَةُ الرَّبِّ” ]١٧[. هذا الخط واضح في كل كتابات الرسول، إذ دعانا الرب للشركة معه، فننعم بالفهم وإدراك إرادته والتمتع بحكمته.
ثانيًا: “مُفْتَدِينَ الْوَقْتَ لأَنَّ الأَيَّامَ شِرِّيرَةٌ” ]١٦[.
علامة التعقل والحكمة مع التدقيق في السلوك هو “افتداء الوقت“. فالمؤمن يدرك أن حياته الزمنية هي ثروته الحقيقية من جهة كونها علة إكليله الأبدي أو هلاكه، إن افتدى وقته تحول جهاده الزمني السريع إلى إكليل سماوي خالد، وإن أهمل في أيامه القصيرة تحطمت أبديته الحقة!
“الأيام شريرة” لأنها تخدع الإنسان، فينجذب إلى الزمنيات كمن هو خالد في العالم، ليجد نفسه قد طُلبت فجأة لتقف أمام الديان العادل تعطي حسابًا عن وكالتها.
وللقديس البابا ثاوفيلس حديث مع الأم ثيؤدورا بخصوص هذه العبارة سبق عرضه في كتابنا: “قاموس آباء الكنيسة وقديسيها[14]“.
يقول القديس أغسطينوس: [أليست هذه أيامًا شريرة بالحق، إذ نقضيها في الجسد الفاسد أو تحت ثقله، وسط التجارب والضيقات العظيمة، فلا توجد إلاَّ المباهج الباطلة، دون فرحٍ أكيد، وإنما يوجد خوف مرعب وطمع جشع وحزن مذبل (للإنسان)؟! يا لها من أيام شريرة، ومع هذا فلا يوجد من يريدها أن تنتهي بل يطلب الناس العمر الطويل[15].]
حقًا إنها أيام شريرة ومقصرة، إذ يرى كثير من الآباء أن الأنبياء في العهد القديم والرسل في العهد الجديد بل والرب نفسه يؤكدون سرعة مجيء الرب الأخير، لكي نكون دومًا على استعداد لملاقاته، حاسبين أن الزمن، مهما طال، فهو أيام شريرة إن قرون بالأبدية المطوّبة. لذا جاء في نص منسوب للقديس هيبوليتس الروماني: [حقًا، أي عذر لإنسان يسمع هذه الأمور في الكنيسة من الأنبياء والرسل ومن الرب نفسه دون أن يعطي اهتمامًا لنفسه ولا لنهاية الأزمنة والاقتراب من الساعة التي فيها يقف أمام كرسي المسيح؟![16]]
يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على العبارات السابقة ]١٥– ١٧[، قائلاً إنه يطالبهم بالسلوك بتدقيق وبحكمة دون جهالة لينزع عنهم جذور المرارة وكل أساس للغضب، فإنهم قد دعوا كحملان يعيشون وسط ذئاب، يجدون مقاومة من الخارج كما من أهل البيت أيضًا، لذا يحتاج الأمر منهم إلى السلوك بتدقيق وبحكمة، حتى لا يتسرب الغضب إلى قلوبهم، بل يهتموا بإعلان رسالة الإنجيل خلال الحب العملي حتى للمقاومين، وأن نعطي لكل ذي حقٍ حقه (رو١٣: ٧)… ويختم حديثه بالقول: [عندما يرى بقية العالم أننا نحتمل بصبر يخجلون[17].]
يكمل القديس يوحنا الذهبي الفم تعليقه موضحًا السلوك بحكمة وافتداء الوقت بالقول:
[الوقت ليس ملككم! في الوقت الحاضر أنتم غرباء ورحّل وأجنبيون، فلا تطالبوا الكرامات، ولا تبحثوا عن المجد ولا السلطة أو الانتقام، احتملوا كل شيء “مفتدين الوقت”.
أقول إنني أتصور إنسانًا له بيت عظيم وقد ذهب إليه أناس ليقتلوه، فالتزم بدفع مبلغ كبير ليفدي حياته. هكذا أيضًا أنت لك بيت عظيم وإيمان حقيقي في خزانتك. إنهم يريدون الحضور ليسحبوا هذا كله. أعطهم ما يريدون وإنما احفظ الأمر الرئيسي، أقصد “الإيمان”.
يقول “لأَنَّ الأَيَّامَ شِرِّيرَةٌ“…
ما هو شر الجسد؟ المرض!
ما هو شر النفس؟ الشر (الخطية)!
ما هو شر الماء؟ المرارة.
شر كل شيء يناسب طبيعته ويفسده…
بنفس الطريقة كما اعتدنا نقول: “قضيت يومًا رديئًا وشريرًا”. الأحداث الصالحة التي تتم في اليوم هي من عند الله، أما الشريرة فهي من الناس الأشرار. إذن فالشرور التي تحدث في الأزمنة هي من صنع البشر، لذا قيل أن الأيام شريرة، كما يقال ان الأزمنة شريرة[18].]
ثالثًا: “وَلاَ تَسْكَرُوا بِالْخَمْرِ الَّذِي فِيهِ الْخَلاَعَةُ، بَلِ امْتَلِئُوا بِالرُّوحِ” ]١٨[.
لوط الذي عذب نفسه بأفعال سدوم وعمورة الأثيمة، حين سكر أنجب من ابنتيه موآب وعمون، فكانا ونسلهما من بعدهما مقاومين لعمل الله ولشعبه عبر الأجيال. وهكذا كل من ينحرف نحو السكر يثمر مقاومة ومضادة لأعمال الله. لذا يحذرنا القديس چيروم، قائلاً: [لقد وجد الموآبيين والعمونيين أصلهم في السُكر (تك ١٩: ٣٠ – ٣٨)[19].]
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم:
[يليق بالإنسان العادي أن يتحفظ من السًكر من كل جانب، فكم بالأكثر يلزم بالجندي (الروحي) الذي يعيش بين السيوف، ويتعرض لسفك دمه والقتل…
اسمع ما يقوله الكتاب: “أعطوا مسكرًا لهالك، وخمرًا لمرّي النفس” (أم ٣: ٦)…
لقد أُعطيت الخمر لنا لا لهدف سوى صحة الجسد (أي لنواح طبية)، لكن هذا الهدف فسد بسبب سوء الاستخدام. اسمع ما يقوله رسولنا الطوباوي لتيموثاوس: “استعمل خمرًا قليلاً من أجل معدتك وأسقامك الكثيرة” (١تي ٥: ٢٣)…
يقول: أتريد أن تكون فرحًا؟ أتريد أن تشغل اليوم؟ أعطيك المشروب الروحي. لأن السكر يفقدنا حتى صلاح لساننا الواضح، فيجعلنا متلجلجين ومتلعثمين، ويشّوه العينين وكل الملامح. تعلّم التسبيح بالمزامير فتلمس عذوبة العمل. فإن الذين يسبحون بها هم مملوؤن بالروح القدس كما أن الذين يتغنون بالأغاني الشيطانية هم مملوؤن بالروح النجس[20].]
إذن عوض البهجة بالسُكر هذا العالم لنمتليء بعمل روح الله القدوس الساكن فينا فتسكر نفوسنا بحب الله بلا انقطاع، وتهيم دائمًا في السماوات تطلب البقاء في أحضانه أبديًا.
هنا يليق أن نشير إلى أن الامتلاء بالروح لا يعني حلولاً خارجيًا نتقبله وإنما هو قبول عمل الروح فينا والتمتع بقوته العاملة داخل النفس. لقد عبّر القديس باسيليوس في كتابه عن الروح القدس عن هذا الامتلاء بقوله إن الروح يُعطي للإنسان قدر استعداد الإنسان، وكأن الروح لا يكف عن أن يعطي ما دام الإنسان يفتح قلبه لعمله فيه ويتجاوب معه.
يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على العبارة: “وأما شاول الذي هو بولس أيضًا فامتلأ بالروح القدس وشخص إليه، وقال: أيها الممتليء كل غش وكل خبث يا ابن إبليس يا عدو كل برّ إلاَّ تزال تفسد سبل الله المستقيمة؟!” (أع ١٣: ٩، ١٠): [لا يفتكر أحد أن بولس لم يكن مملوءً من الروح عندما تحدث مع الساحر، لكن الروح القدس الساكن فيه ملأه قوة ليقف أمام الساحر؛ فكما أن الساحر يحمل قوة الشر قدم له الروح قوة… [21].]
رابعًا: “مُكَلِّمِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِمَزَامِيرَ وَتَسَابِيحَ وَأَغَانِيَّ رُوحِيَّةٍ، مُتَرَنِّمِينَ وَمُرَتِّلِينَ فِي قُلُوبِكُمْ لِلرَّبِّ. شَاكِرِينَ كُلَّ حِينٍ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فِي اسْمِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، لِلَّهِ وَالآبِ” ]١٩-٢٠[.
لقد أعطانا الرسول نفسه مثلاً إذ قدم لنا في نفس الرسالة الكثير من المقتطفات عن التسابيح الكنسية، موضحًا بطريقة عملية كيف أن هذا التسبيح مبهج للنفس وللجماعة ككل، فقد كانت الكنيسة الأولى “جماعة مقدسة دائمة التسبيح”، يصفها الإنجيلي لوقا، قائلاً: “كانوا يتناولون الطعام بابتهاج وبساطة قلب، مسبحين الله ولهم نعمة لدى جميع الشعب” (أع ٢: ٤٦، ٤٧).
التسبيح والشكر هما من عمل الكنيسة السماوية، أو من عمل السمائيين، فإن قبلنا في المسيح الحياة السماوية صار التسبيح نابعًا من أعماق القلب طبيعيًا، يتجاوب معه كل كيان الإنسان، حتى إن كان وسط الضيق. هذا ما هزّ الوثنيون إذ رأوا المسيحيين يسبحون الله داخل السجون، خاصة حين يصدر الحكم بقتلهم.
في القرنين الرابع والخامس على وجه الخصوص كانت الأديرة المصرية وبراريها فراديس لا تسمع فيها سوى صوت التسبيح غير المنقطع، كما أخبرنا القديس يوحنا كاسيان. والكنيسة تعلن طبيعتها المتهللة بالرب بالتسبيح في كل ليتورچياتها، كما في الصلوات الخاصة بكل عضو…
يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على العبارات الرسول السابقة، قائلاً:
[ماذا تعني “في قلوبكم للرب” ]19[؟ إنها تعني أن يكون (التسبيح) بإصغاء شديدٍ وفهمٍ، فمن لا يصغي تمامًا يترنم ناطقًا بالكلمات بينما يجول قلبه هنا وهناك.
يقول: “شَاكِرِينَ كُلَّ حِينٍ...” ]٢٠[، بمعنى: “لتعلم طلباتكم لدى الله بالشكر” (راجع في ٤: ٦)، فإنه ليس شيء يسرّ الله مثل إنسان شاكر.
نصير نحن قادرين على تقديم الشكر لله بسحب نفوسنا من (الخطايا) السابق ذكرها، وتطهيرها بالوسائل التي أخبرنا (الرسول) عنها.
يقول: “بَلِ امْتَلِئُوا بِالرُّوحِ” ]١٨[. هل الروح فينا؟ نعم، بالحق هو فينا، فإننا إذ ننزع الكذب والمرارة والزنا والنجاسة والطمع عن نفوسنا، وإذ نصير هكذا متحننين، مسامحين بعضنا البعض، ليس فينا مزاح، بهذا نحسب مؤهلين، فما الذي يمنع الروح من حلوله فينا وإنارتنا؟
إنه ليس فقط يحل وإنما يملأ قلوبنا، وإذ يلتهب فينا نور عظيم هكذا لا يكون طريق الفضيلة صعبًا بل سهلا ً وبسيطًا.
يقول: “شَاكِرِينَ كُلَّ حِينٍ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ” ]٢٠[.
ما هذا؟ هل نشكر على كل ما يحل بنا؟ نعم، حتى وإن حلّ بنا مرض أو فقر. فإن كان في العهد القديم ينصحنا الحكيم: “اقبل ما يحل بك بفرح وصبر حينما تصير إلى حال أقل” (ابن سيراخ ٢: ٤) فكم بالأولى في العهد الجديد؟!
نعم، قدم التشكرات حتى لو لم تعرف الكلمة (التي تقدمها)!…
إن كنت تشكر في الراحة والرخاء والنجاح والغنى فهذا ليس بالأمر العظيم، ولا هو بالعجيب، إنما يلزم الإنسان أن يشكر حين يكون في أحزان وضيقات ومتاعب. ليست كلمة أفضل من القول: “أشكرك أيها الرب”…
لنشكر الرب على البركات التي نراها والتي لا نراها أيضًا، والتي نتقبلها بغير إرادتنا، فإن كثيرًا من البركات ننالها بغير رغبتنا ودون معرفتنا…
حينما نكون في فقر أو مرض أو نكبات فلنزد تشكراتنا، لا أقصد بالتشكرات خلال الكلمات واللسان وإنما خلال العمل والأفعال، وفي الذهن وبالقلب. لنشكره بكل نفوسنا، فإنه يحبنا أكثر من والدينا، وكبُعد الشر عن الصلاح هكذا الفارق الشاسع بين حب الله لنا وحب آبائنا. هذه ليست كلماتي إنما هي كلمات المسيح نفسه الذي يحبنا. اسمعه يقول: “أم أي إنسان منكم إن سأله ابنه خبزًا يعطيه حجرًا؟!… فإن كنتم وأنتم أشرار تعرفون أن تعطوا أولادكم عطايا جيدة فكم بالحري أبوكم الذي في السماوات يهب خيرات للذين يسألونه؟!” (مت ٧: ٩، ١١).
اسمع أيضًا ما قيل في موضع آخر: “هل تنسى المرأة رضيعها فلا ترحم ابن بطنها؟! حتى هؤلاء ينسين وأنا لا أنساك” (إش ٤٩: ١٥).
إن كان لا يحبنا فلماذا خلقنا؟ هل من ضرورة تلزمه على خلقتنا؟ هل نحن نقدم له عونًا أو خدمة؟ هل يحتاج منا أن نرد له شيئًا؟
اسمع ما يقوله النبي: “قلت للرب: أنت ربي، خيري لا شيء غيرك” (مز ١٦: ٢)…
لنمجد الله على كل شيء!
يقول: “خَاضِعِينَ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ فِي خَوْفِ اللهِ” ]٢١[.
إن كنت تخضع من أجل الحاكم، أو من أجل المال، أو من أجل التكريم، فبالأولى من أجل مخافة المسيح. ليكن بيننا تبادل الخدمات مع الخضوع، فلا تكون بيننا أنانية. لا يجلس أحد كمن من طبقة الأحرار والآخر كمن من طبقة العبيد، فمن الأفضل أن يخدم السادة والعبيد بعضهما البعض. من الأفضل أن تكون عبدًا بهذه الكيفية عن أن تكون حرًا بالطريقة الأخرى، كما يظهر من المثل التالي:
افترض إنسانًا له مئة عبد يخدمونه بكل طريقة، وآخر له مئة صديق الكل يخدم بعضه البعض، أي الحياتين أسعد؟… في الأولى الكل مُلزمون بالعمل أما في الثانية فيعملون بحرية اختيارهم… الله يريدنا هكذا، لذا غسل أقدام تلاميذه[22].]
4. العلاقات الزوجية وسرّ المسيح
لقد تحدث الرسول بولس عن الكنيسة من الجانب العملي، خلال سلوك المؤمن اليومي، بنزع أعمال الإنسان القديم وممارسته أعمال الإنسان الجديد، رافضًا أعمال الظلمة كابن للنور، ممتليء بعمل الروح القدس. هذا السلوك يرتبط بعبادته أيضًا فتتحول إلى تسبيح حقيقي داخلي وتشكرات لا تنقطع تنبع لا عن الفم واللسان فحسب وإنما خلال القلب والفكر، وكل الأحاسيس الداخلية كما خلال العمل. الآن يقدم لنا الرسول انعكاسات هذه المفاهيم على حياتنا الأسرية، التي لا تنفصل عن جهادنا الروحي ولا عن حياتنا الكنسية.
إن كانت الكنيسة الجامعة – كما أعلنها الرسول بولس في هذه الرسالة – هي كشف عن سرّ المسيح، أي سرّ حب الله الفائق للبشرية خلال ذبيحة المسيح يسوع ربنا، فإن هذا السرّ الإلهي يقدم لنا مفاهيم عميقة وجديدة للعلاقات الزوجية والأسرية والاجتماعية. ففي الحياة الزوجية نحمل صورة لعلاقتنا مع الآب في المسيح يسوع ربنا، علاقة الحب والوحدة، كما نرى في العرس الأرضي أيقونة للعرس السماوي، والبيت المسيحي ظلاً لبيت الله الأبدي[23]. من هنا فالشريعة الخاصة بالزواج والناموس الخاص بالبيت المسيحي إنما يُستمدان من عمل السيد المسيح الخلاصي.
“أَيُّهَا النِّسَاءُ (الزوجات) اخْضَعْنَ لِرِجَالِكُنَّ كَمَا لِلرَّبِّ…” ]٢٢[
ويلاحظ على النص الرسولي الذي بين أيدينا الآتي:
أولاً: الكشف عن الوحدة الزوجية بين الرجل والمرأة بكونها أيقونة للوحدة مع السيد المسيح وعروسه الكنيسة، الأولى تستمد كيانها من الثانية، لذا وجب أن يتم العرس في ظل الصليب، خلال وحدة الإيمان بالسيد المسيح المصلوب، والارتباط بكنيسته.
- كيف يمكننا أن نعبر عن السعادة الزوجية التي تعقدها الكنيسة، ويثبتها القربان، وتختمها البركة؟![24]
العلامة ترتليان
- يجب على المتزوجين والمتزوجات أن يجروا إتحادهم برأي الأسقف، لكي يكون الزواج مطابقًا لإرادة الله لا بحسب الشهوة[25].
القديس أغناطيوس النوراني
- إذا كان لابد أن يعقد الزواج بحلة كهنوتية وبركة، فكيف يمكن أن يكون زواج حيث الإيمان مختلف؟![26]
القديس أمبروسيوس
ثانيًا: مفهوم الخضوع
كثيرون يسيئون فهم العبارة الرسولية: “أَيُّهَا النِّسَاءُ (الزوجات) اخْضَعْنَ لِرِجَالِكُنَّ كَمَا لِلرَّبِّ” ]٢٢[، فيحسبونها دعوة لخنوع المرأة واستسلامها، ولبث روح السلطة للرجل.
“الخضوع” في المسيحية ليس خنوعًا ولا ضعفًا، ولا نقصًا في الكرامة، هذا ما أعلنه كلمة الله المتجسد حين أعلن طاعته للآب وخضوعه له مع أنه واحد في الجوهر، رافعًا من فضيلة “الخضوع” ليجعلها موضع سباق لعلنا نبلغ سمة المسيح الخاضع والمطيع. والعجيب أن الإنجيلي لوقا يقول بأن “يسوع” كان خاضعًا للقديسة مريم والقديس يوسف النجار (لو ٣: ٥١)، مع كونه خالقهما ومخلصهما، وخضوعه لم يعيقه عن تحقيق رسالته التي غالبًا لم يدركاها في كمال أعماقها، إذ قال بتواضع وصراحة: “لماذا كنتما تطلبانني؟ ألم تعلما أنه ينبغي أن أكون في ما لأبي” (لو ٣: ٤٩). فالخضوع ليس استسلاما على حساب رسالة الشخص، ولا طاعة عمياء دون تفكير، وإنما اتساع قلب وقبول لإرادة الغير بفكر ناضج متزن.
قدم لنا القديس هيبوليتس الروماني فهمًا لخضوع الابن للآب، ليس علامة عن انتقاص لأقنومه وإنما على تناغمه واتفاقه ووحدته مع الآب، إذ يقول: [يرتد تدبير الاتفاق إلى الله الواحد. فإن الله واحد: الآب يوصي والابن يطيع والروح يهب فهمًا… الآب أراد والابن فعل والروح أعلن، هذا ما يوضحه الكتاب المقدس كله[27].]
إذن فخضوع الزوجة لرجلها هو مشاركة السيد المسيح طاعته وخضوعه للآب كعلامة الحب والوحدة، وليس إهدارًا للكرامة أو كإنقاصٍ من شأنها.
والقديس يوحنا الذهبي الفم يرى أن المرأة وهي موضع حب رجلها الشديد يلزمها ألاَّ تقابل هذا الحب بكبرياء بل بخضوع كرد فعل لمحبته، إذ يقول: [المحبة من اختصاص الرجال، أما الخضوع فمن اختصاص النساء، فإن قدم كل إنسان ما يلتزم به تثبت الأمور، فالرجل بحبه للمرأة تصيره هي محبة له، والمرأة بطاعتها للرجل يصير وديعًا معها. لا تنتفخي لأن الرجل يحبك، فقد جعله الله يحبك لتطيعيه في خضوع بسهولة. لا تخافي من خضوعك له، لأن الخضوع للمحب ليس فيه صعوبة[28].]
والقديس أغسطينوس يطالب الزوجات أن يقتدين بالقديسة مريم التي اتسمت بالتواضع المقدس، فقدمت يوسف رجلها عنها (لو ٢: ٤٨) مع أنها نالت شرف ولادتها للسيد المسيح[29].
بهذا فهم الآباء خضوع الزوجة بمنظار روحي خلال الصليب، لا يفقدها مساواتها له ولا مشاركته التدبير وتحمل المسئولية إنما يزينها بالفضيلة ويمجدها لتكسب أيضًا محبته.
يقول القديس أمبروسيوس: [ليت الرجل يقود زوجته كربانٍ، يكرمها كشريكة معه في الحياة، يشاركها كوارثه معه في النعمة[30].]
وقد سبق لنا الحديث في شيء من الإفاضة عن خضوع الزوجة في كتاب “الحب الزوجي”.
ثالثًا: رئاسة الرجل وحبه
كثيرًا ما يتمسك الرجل بالرئاسة بكونها “سلطة” ودكتاتورية، لذا ربط الرسول بولس الرئاسة بالحب الباذل، إذ يقول: “لأَنَّ الرَّجُلَ هُوَ رَأْسُ الْمَرْأَةِ كَمَا أَنَّ الْمَسِيحَ أَيْضًا رَأْسُ الْكَنِيسَةِ، وَهُوَ مُخَلِّصُ الْجَسَدِ” ]٢٣[.
فرئاسة السيد المسيح لكنيسته أعلنت خلال محبته الباذلة على الصليب لخلاصها، وهكذا إذ يريد الرجل أن يكون رأسًا فليقدم حبًا باذلاً عمليًا! وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [اهتم بها بنفس العناية التي تعهد بها المسيح الكنيسة. نعم، حتى وإن احتاجت أن تقدم حياتك! نعم، وإن احتاجت أن تتقطع أجزاء ربوات المرات! نعم، لتحتمل أي ألم مهما كان ولا تمتنع[31].]
إن كان الرجل هو الرأس فلا مكان للرأس بدون الجسد، ولا حياة للرأس بدون الجسد. يقول القديس أمبروسيوس: [الرجل بدون زوجته يحسب كمن هو بلا بيت[32].]
رابعًا: الشركة في الصليب
حينما تمارس الزوجة خضوعها لرجلها في الرب، ويمارس الرجل حبه لعروسه من أجل الرب، إنما يشترك الاثنان معًا بصورة أو بأخرى في عمل السيد المسيح الذبيحي بالبذل الحقيقي، فتصير حياتهما الزوجية علامة منظورة عن شركتهما في عمل السيد المسيح المبذول الخفي. بمعنى آخر يرى الزوجان في ذبيحة المسيح، ذبيحة الحب عن الآخرين، نموذجًا حيًا ورصيدًا لحياتهما الأسرية. هذا ما نلمسه في حديث الرسول بولس: “وَلَكِنْ كَمَا تَخْضَعُ الْكَنِيسَةُ لِلْمَسِيحِ، كَذَلِكَ النِّسَاءُ لِرِجَالِهِنَّ فِي كُلِّ شَيْءٍ. أَيُّهَا الرِّجَالُ، أَحِبُّوا نِسَاءَكُمْ كَمَا أَحَبَّ الْمَسِيحُ أَيْضًا الْكَنِيسَةَ وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِهَا” ]٢٤-٢٥[.
تحت ظل الصليب تقدم الزوجة خضوعها بفرح من أجل الرب، ويعلن الزوج حبه لزوجته مهما كان تصرفها. ممتثلاً بالسيد المسيح الذي قدم حياته لتقديس المؤمنين.
من كلمات القديس يوحنا الذهبي الفم للزوج: [إن رأيتها تزدري بك وتأنف منك وتحتقرك، فتفكيرك العظيم تجاهها ومودتك ولطفك تقدر أن تخضعها لك، فإنه ليس شيء أعظم قوة في الاستمالة أكثر من هذه الرباطات، خاصة من الزوج والزوجة!… نعم فإنه بالرغم مما تعانيه من بعض الأمور من ناحيتها فلا تعنفها، لأن المسيح لم يفعل ذلك[33].]
في قوة ووضوح تحدث الرسول بولس عن حب المسيح لكنيسته كمصدر حيّ لحب الرجل لزوجته، قائلاً:
“وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِهَا،
لِكَيْ يُقَدِّسَهَا، مُطَهِّرًا إِيَّاهَا بِغَسْلِ الْمَاءِ بِالْكَلِمَةِ،
لِكَيْ يُحْضِرَهَا لِنَفْسِهِ كَنِيسَةً مَجِيدَةً،
لاَ دَنَسَ فِيهَا وَلاَ غَضْنَ أَوْ شَيْءٌ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ،
بَلْ تَكُونُ مُقَدَّسَةً وَبِلاَ عَيْبٍ” ]٢٥–٢٧[.
ويلاحظ في محبة السيد المسيح لكنيسته الآتي:
أ. أنه أسلم نفسه لأجلها، لأن المحبة “لا تطلب ما لنفسها” (١ كو ١٣: ٥). المسيح في علاقته بنا يطلب خلاصنا، لننعم بشركة الميراث معه؛ هو لا يحتاج إلينا لكنه بالحب يبذل عنا. هكذا ليت الرجل في علاقته بزوجته يحبها لأجل شخصها كمحبوبة لديه، لا لأجل إشباع مطالب معينة بالنسبة له، أيًا كان نوعها!
ب. غاية السيد المسيح من عروسه أن يقدسها ويطهرها بمياه المعمودية وذلك بالكلمة، إذ تتقدس المياه خلال السيد المسيح الكلمة، مقدمًا صليبه ثمنًا لتقديسنا.
كانت – كما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم – مملوءة عيبًا وبشعة وملومة، فلم يشمئز منها ولا مقتها، إنما أسلم نفسه من أجلها، كقول الرسول: “وإذ كنا خطاة مات المسيح عنا” (رو ٥: ٥). [وبالرغم من كونها هكذا أخذها وكساها بالجمال، وغسلها، ولم يرفض أن يسلم نفسه من أجلها[34].]
في قوة تحدث الرب على لسان حزقيال عن هذا الحب الباذل، قائلاً:
“هكذا قال السيد الرب لأورشليم، مخرجك ومولدك من أرض كنعان، أبوك أموري وأمك حثية. أما ميلادك يوم وُلدت فلم تُقطع سرتك، ولم تُغسلي بالماء للتنظف، ولم تملحي تمليحًا، ولم تقمطي تمقيطًا.
لم تشفق عليك عين لتصنع لك واحدة من هذه، لترق لك، بل طُرحت على وجه الحقل بكراهة نفسك يوم وُلدت.
فمررت بك ورأيتك مدوسة بدمك، فقلت لك: بدمك عيشي…
جعلتك ربوة كنبات الحقل، فربوت وكبرت وبلغت زينة الأزيان.
نهد ثدياكِ، ونبت شعرك، وقد كنت عريانة وعارية.
فمررت بك ورأيتك، وإذا زمنك زمن الحب.
فبسطت ذيلي عليك وسترت عورتك، وحلفت لك، ودخلت معك في عهد يقول السيد الرب، فصرت لي.
فحممتك بالماء وغسلت عنك دماءك ومسحتك بالزيت،
وألبستك مطرزة، ونعلتك بالتخس، وآزرتك بالكتان، وكسوتك بزًا، وحليتك بالحلي، فوضعت أسورة في يديك، وطوقًا في عنقك، ووضعت خزامة في أنفك، وأقراطًا في أذنيك، وتاج جمال على رأسك…
وأكلت السميذ والعسل والزيت،
وجملت جدًا جدًا، فصلحتِ لمملكة.
وخرج لك اسم في الأمم لجمالك، لأنه كان كاملاً ببهائي الذي جعلته عليك يقول السيد الرب” (حز ١٦: ٢ – ١٤).
إنها صورة رائعة لعمل الله الفائق خلال محبته الباذلة بالصليب!
ج. يقول: “يُحْضِرَهَا لِنَفْسِهِ“، ففي طقس الزواج اليهودي كانت هناك فترة بين عقد الزواج واستلام العروس؛ هكذا وقع السيد عقد الزوجية بدمه الطاهر على الصليب، اشترانا وقبلنا عروسًا له، وفي مجيئه الأخير يستلم العروس حيث يجتمع كل المختارين معه على السحاب، وكأنه يُحضر عروسه لنفسه. لقد أحبها بلا مقابل، لكنه ينتظرها عروسًا له تجاوبه الحب بالحب، وتشاركه المجد الأبدي!
هنا يلزمنا أن نقف قليلاً، فإن كان السيد المسيح في محبته بذل حياته عن عروسه، فهو يطلب تقديسها، فلا ينعم بالعرس إلاَّ المقدسون فيه. وكما يقول القديس أغسطينوس إن بعض السمك الرديء يدخل شبكة المسيح في الكنيسة، لكنه لابد أن يفرز فلا يكون له نصيب مع السمك الجيد[35].
يقول الأب دوروثيؤس من غزة: [تجسد الرب يسوع المسيح ليعيد الإنسان إلى صورته الأولى. ولكن كيف نرجع إلى تلك الصورة الأولى؟ حين نتعلم من الرسول القائل: “لنطهر ذواتنا من كل دنس الجسد والروح” (٢ كو ٧: ١). لنتطهر فيظهر الشبه (بالله) الذي نلناه. لنعزل عنه دنس الخطية فيظهر بكل جماله خلال الفضيلة. يقول داود في صلاته من أجل هذا الجمال: “أعطيت جمالي قوة” (مز ٢٩: ٨). إذن فلنطهر أنفسنا لنعود إلى التشبه بالله، الأمر الذي أقامه فينا[36].]
د. إذ تحدث عن تقديس الكنيسة خلال محبة المسيح الباذلة، أشار إلى المعمودية، قائلاً: “بِغَسْلِ الْمَاءِ بِالْكَلِمَةِ” ]٢٦[.
- يعلن الرسول الطوباوي ويؤكد أن المعمودية هي التي فيها يموت الإنسان القديم ويولد الإنسان الجديد، قائلاً: “خلصنا بغسل الميلاد الثاني” (تي ٣: ٥). فإن كان الميلاد الثاني (التجديد) يتم في الجرن أي في المعمودية، فكيف يمكن لهرطقة – وهي ليست عروس المسيح – أن تلد بنينًا لله خلال المسيح؟
إنها الكنيسة وحدها التي التصقت واتحدت بالمسيح تلد روحيًا أبناءً، كقول الرسول: “أحب المسيح أيضًا الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها، لكي يقدّسها، مطهرًا إياها بغسل الماء” (أف ٥: ٢٥، ٢٦). إن كانت هي المحبوبة والعروس، وحدها تتقدس بالمسيح، ووحدها تتطهر بجرنه، فمن الواضح أن الهرطقة – التي ليست عروس المسيح – لا يمكن أن تتطهر ولا أن تتقدس بجرنه ولا أن تلد أبناءً لله[37].
الشهيد كبريانوس
هـ. إذ أقام السيد المسيح كنيسته جسدًا مقدسًا له، بكونه رأسها، هكذا يرى الزوج في زوجته جسده، فيحبها ويهتم بها، إذ يقول الرسول:
“كَذَلِكَ يَجِبُ عَلَى الرِّجَالِ أَنْ يُحِبُّوا نِسَاءَهُمْ كَأَجْسَادِهِمْ.
مَنْ يُحِبُّ امْرَأَتَهُ يُحِبُّ نَفْسَهُ.
فَإِنَّهُ لَمْ يُبْغِضْ أَحَدٌ جَسَدَهُ قَطُّ بَلْ يَقُوتُهُ وَيُرَبِّيهِ، كَمَا الرَّبُّ أَيْضًا لِلْكَنِيسَةِ.
لأَنَّنَا أَعْضَاءُ جِسْمِهِ، مِنْ لَحْمِهِ وَمِنْ عِظَامِهِ” ]٢٨–٣٠[.
هنا يقدم الرسول ثلاث مقارنات: المسيح والكنيسة، الرجل وزوجته، الرأس والجسد.
في الوقت الذي في أبرز مدى إتحاد الزوج بزوجته بكونها جسده، حتى قال القديس يوحنا الذهبي الفم: [ليس هنا شيء يلحم حياتنا مع بعضنا البعض هكذا مثل حب الرجل وزوجته[38]]، فقد أعلن الرسول أمرين: الأول مدى إتحادنا بالسيد المسيح “لأَنَّنَا أَعْضَاءُ جِسْمِهِ، مِنْ لَحْمِهِ وَمِنْ عِظَامِهِ” والثاني نظرتنا القدسية لجسد: “فَإِنَّهُ لَمْ يُبْغِضْ أَحَدٌ جَسَدَهُ قَطُّ بَلْ يَقُوتُهُ وَيُرَبِّيهِ“.
فمن جهة إتحادنا بالسيد المسيح بكوننا أعضاء جسمه، فهو الغاية الأولى والرئيسية في عمل الله الخلاصي وتمتعنا بإنجيله. إذ يريدنا واحدًا معه، ننعم بالشركة معه أبديًا كأبناء روحيين وورثة. هذا الخط واضح جدًا في كل رسائل بولس الرسول، خاصة هذه الرسالة مادام يتحدث عن الكنيسة جسد المسيح.
أما من جهة قدسيتنا للجسد، فقد أوضح أننا لا نبغض الجسد بكونه خليقة الله المقدسة، إنما نبغض شهواته الدخيلة. الجسد لا يمثل عائقًا نود الخلاص منه خلال معادتنا له، بل هو عطية إلهية تبقى مقدسة مادمنا نسلك بالروح. وقد ركز الآباء على هذا الاتجاه الإنجيلي حتى لا ننحرف إلى الأفكار الغنوسية المعادية للجسد بكونه – في نظرهم – عنصر ظلمة يجب إهلاكه.
يقول القديس أغسطينوس: [لنهتم بالجسد، وإنما فقط في حدود الصحة[39].]
و. إذ يتحدث الرسول عن الوحدة القائمة بين الزوجين يقدم لنا مفهومًا لهذه الوحدة منذ بدء الحياة الإنسانية، يتحقق خلال عمل المسيح، إذ يقول: “مِنْ أَجْلِ هَذَا يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ، وَيَكُونُ الاثْنَانِ جَسَدًا وَاحِدًا” ]٣١[. وقد اقتبس الرسول ذلك عن سفر التكوين (٢: ٢٤).
هذه الوحدة تظهر بصورة فريدة بين السيد المسيح وكنيسته، حيث دعاها الرسول “سرًّا”، إذ يقول: “هَذَا السِّرُّ عَظِيمٌ، وَلَكِنَّنِي أَنَا أَقُولُ مِنْ نَحْوِ الْمَسِيحِ وَالْكَنِيسَةِ. وَأَمَّا أَنْتُمُ الأَفْرَادُ، فَلْيُحِبَّ كُلُّ وَاحِدٍ امْرَأَتَهُ هَكَذَا كَنَفْسِهِ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلْتَهَبْ (تحترم) رَجُلَهَا” ]٣٢-٣٣[.
لقد قدم السيد المسيح نفسه مثلاً ففي إتحاده بالكنيسة العروس، كما يقول القديس أغسطينوس قام بترك الآب إذ أخلى ذاته عن الأمجاد وأخذ شكل العبد (في ٢: ٧)، وإن كان يبقى واحدًا معه في الجوهر بلا انفصال، كما ترك أمه أي الشعب اليهودي الذي أخذ عنه الجسد خلال القديسة مريم اليهودية الجنس، ليصير هو مع عروسه جسدًا واحدًا[40].
[1] Ep. 148: 5.
[2] Ser. on N.T. 64: 3.
[3] In Eph. Hom 17.
[4] Of the Christian Faith 17: 109.
[5] Cassian: Conf. 5: 11
[6] In Eph. hom 17.
[7] In Eph. hom 17.
[8] Ibid 18.
[9] Ser. on N.T. 17: 5.
[10] Ibid 26: 5, 6.
[11] In Eph. hom 18.
[12] Ser. on N.T. 77: 7; 38: 3.
[13] In Eph. hom 18
[14] حرف “ث”، الأم ثيؤدورا.
[15] Ser. on N.T. 34: 2.
[16] Ante Nicene Prs, vol 5, p 245.
[17] In Eph. hom 19.
[18] In Eph. hom 19.
[19] Ep. 108: 12.
[20] In Eph. Hom 19.
[21] للمؤلف: الروح القدس بين الميلاد الجديد والتجديد المستمر، ١٩٨١، ص ٢٢٦ – ٢٢٨..
[22] In Eph. Hom 19.
[23] للمؤلف: الحب الزوجي، ١٩٨٤، ص ١٢ – ١٦..
[24] To his wife 2: 9.
[25] Ad. Polyc. 5.
[26] Ep. to Wegelius 19, 23: 7.
[27] Against the heresy of one Noetus 14.
[28] للمؤلف: الحب الزوجي، ١٩٨٤، ص 39.
[29] للمؤلف: الحب الزوجي، ١٩٨٤، ص ٣٨ – ٣٩.
[30] Ep. 63.
[31] In Eph. Hom 20.
[32] On Paradise 11: 50.
[33] In Eph. Hom 20.
[34] Ibid.
[35] Ep. 93: 34.
[36] Com. on an Easter Hymn.
[37] Ep. 74.
[38] In Eph. Hom 20.
[39] Ep 130: 7.
[40] راجع للمؤلف: سفر التكوين، ١٩٨٤، ص ٦٥، ٦٦.
St. Augustin: Ser. On Nt Lessons, 41: 7.