تفسير رسالة أفسس 4 الأصحاح الرابع – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير رسالة أفسس 4 الأصحاح الرابع – القمص تادرس يعقوب ملطي
الباب الثاني: الحياة الكنسية العملية
- الوحدة وإضرام المواهب ص ٤.
- العبادة والسلوك ص ٥.
3. الحياة العملية والجهاد الروحي ص ٦.
الحياة الكنيسة العامة
إذ كانت الكنيسة الجامعة في حقيقتها هي “سرّ المسيح المكتوم”، وقد أعلن لنا عن مجيء المسيح فتحققت مسرة الآب فيه، وتهلل السمائيون بنا كعروس مقدسة وكجسدٍ مقدسٍ للرأس القدوس، ضمت أعضاء الجسد من الأمم واليهود، فإن هذه الكنيسة الجامعة يلزم أن تترجم عمليًا في حياتنا الكنسية وعبادتنا وسلوكنا الأسري والاجتماعي وفي جهادنا الروحي الخفي. هذا ما أكده الرسول بولس في الأصحاحات الثلاثة الأخيرة ]٤– ٦[.
الكنيسة ليس مؤسسة، لكنها “حياة في المسيح”، تتجلى في أعماقنا كما في كل تصرف خفي أو ظاهر.
الأصحاح الرابع
الوحدة وإضرام المواهب
الله في محبته أعلن لنا “سرّ المسيح”، الذي هو سرّ الكنيسة الجامعة التي تضم الأمم لتنعم بالحياة في المسيح، لذا يليق بنا أن نقابل هذا الحب الإلهي العملي إيجابيًا باتساع قلبنا لبعضنا البعض، فنحمل وحدانية الروح. هذه الوحدانية لا تعني أن نكون نسخة متشابهة لبعضنا البعض بل نكون أشخاصًا لنا مواهبنا المتباينة التي أُعطيت لنا للعمل معًا، يكمل أحدنا الآخر لبنيان الكنيسة وبنيان نفوسنا، لعلنا نبلغ “قِيَاسِ قَامَةِ مِلْءِ الْمَسِيحِ” ]١٣[.
- المحبة ووحدانية الروح ١ – ٣.
- وحدة الإيمان وتنوع المواهب ٤ – ١١.
3. الوحدة وبنيان الكنيسة ١٢ – ١٦.
- الوحدة والحياة الجديدة ١٧ – ٣٢.
1. المحبة ووحدانية الروح
إن كان الرسول يشعر بالتزام نحوهم ليحقق فيهم بالنعمة “سرّ المسيح”، محتملاً الشدائد حتى الأسر لمجدهم، فإنه يليق بهم من جانبهم أن يدركوا الدعوة الإلهية التي دعوا إليها. فالعمل لا يكون من جانب الخادم وحده، وإنما يليق بكل عضو حيّ أن يلتزم بدوره، أو بمعنى أصح أن يعتز بعضوية الكنيسة خلال العمل الجاد. أما مركز هذا العمل فهو الالتزام بالمحبة الجادة الواهبة وحدانية الروح خلال انسجام كل الأعضاء معًا كجسدٍ واحد لرأس واحد.
يوصيهم الرسول:
“فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ، أَنَا الأَسِيرَ فِي الرَّبِّ،
أَنْ تَسْلُكُوا كَمَا يَحِقُّ لِلدَّعْوَةِ الَّتِي دُعِيتُمْ بِهَا. بِكُلِّ تَوَاضُعٍ، وَوَدَاعَةٍ، وَبِطُولِ أَنَاةٍ، مُحْتَمِلِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فِي الْمَحَبَّةِ.
مُجْتَهِدِينَ أَنْ تَحْفَظُوا وَحْدَانِيَّةَ الرُّوحِ بِرِبَاطِ السَّلاَمِ” ]١– ٣[.
لما كان موضوع “وحدانية الروح” أو رباط السلام أمرًا له تنازلاته الكثيرة من كل عضو لذا بدأ الحديث عنه بإعلان الرسول عن تنازلاته التي هي بالحق سرّ مجده وكرامته، إذ يدعو نفسه “الأَسِيرَ فِي الرَّبِّ” [1]. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [يا لها من كرامة عظيمة! إنها أعظم من كرامة الملوك أو السفراء… كان أمجد له أن يكون أسيرًا من أجل المسيح عن أن يكون رسولاً أو معلمًا أو كارزًا. من يحب المسيح يفهم ما أقوله. من دخل إلى التكريس للرب والتهب به يعرف قوة هذه القيود. مثل هذا يفضل أن يكون سجينًا من أجل المسيح عن أن تكون السماوات مسكنه. كانت اليدان أكثر مجدًا مما لو كانتا مزينتين بزينةٍ ذهبيةٍ أو بتاجٍ ملوكيٍ…[1].]
لقد خصص القديس يوحنا الذهبي الفم العظة الثامنة كلها في تفسير الرسالة إلى أهل أفسس يمجد فيها الآلام التي تُحتمل من أجل المسيح، أيًا كان نوعها أكثر من المجد الذي نتقبله حتى من يديّ السيد المسيح نفسه.
هذا بالنسبة للآلام أما بالنسبة لوحدة الكنيسة فقد امتص هذا الموضوع فكر آباء الكنيسة، فلا ندهش إن رأينا القديس يوحنا الذهبي الفم قد خصص العظة التاسعة في تفسيره للرسالة إلى أهل أفسس بأكملها لشرح العبارات الثلاث الواردة في أول هذا الأصحاح. وقد لخص القديس حديثه بكلمات قليلة في موضع آخر بقوله: [اسم الكنيسة ليس اسم الانقسام بل الوحدة والانسجام، يلزم أن تكون كنيسة واحدة في العالم، بالرغم من وجود كنائس كثيرة منتثرة في مواضع كثيرة[2].]
- الأسقفية واحدة، تتجمع أجزاؤها معًا خلال الأساقفة (الكثيرين).
الكنيسة واحدة تمتد بثمارها المتزايدة المنتشرة بين الجمهور كأشعة الشمس الكثيرة مع أن النور واحد، وكأغصان الشجرة الكثيرة لكن الجذر واحد…
هكذا غطست الكنيسة في نور الرب لذا ترسل أشعتها على العالم لكن النور واحد يبلغ كل موضع، ووحدة الجسد لا تُنتزع منها[3].
القديس كبريانوس
- ما أعظم سلطان قيود بولس كما يظهر هنا، فإنها أمجد من المعجزات. فإنه ليس عبثًا يتحدث عنها – كما يبدو – ولا بدون هدف، وإنما أراد أن يتلامس معهم خلالها فوق كل شيء. فماذا يقول: “فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ، أَنَا الأَسِيرَ فِي الرَّبِّ، أَنْ تَسْلُكُوا كَمَا يَحِقُّ لِلدَّعْوَةِ الَّتِي دُعِيتُمْ بِهَا” ]١[، كيف يكون هذا؟ “بِكُلِّ تَوَاضُعٍ، وَوَدَاعَةٍ، وَبِطُولِ أَنَاةٍ، مُحْتَمِلِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فِي الْمَحَبَّةِ” ]٢[.
لم يكن مكرمًا لمجرد كونه أسيرًا، وإنما لأنه كان هكذا من أجل المسيح! لذا يقول “فِي الرَّبِّ“، أي أنه أسير لأجل المسيح. ليس شيء ما يعادل هذا!
الآن تجتذبني القيود جدًا فتبعدني عن الحديث في الموضوع، وتدفعني للخلف (أي العودة إلى الحديث عنها من جديد)، فإنني لا أستطيع مقاومة الحديث عنها. إنني أنجذب إليها تلقائيًا، نعم وبكل قلبي، ليكون نصيبي الدائم هو الإسهاب في الحديث عن قيود بولس…
- الآن لا تملوا، فإنني أريد أن أقدم إجابة لتساؤل يثيره الكثيرون، عندما يقولون: إن الضيقات ممّجدة، فلماذا قال بولس نفسه في دفاعه أمام أغريباس: “كنت أصلي إلى الله أنه بقليل وبكثير ليس أنت فقط بل أيضًا جميع الذين يسمعونني اليوم يصيرون هكذا كما أنا ما خلا هذه القيود” (أع ٢٦: ٢٩)؟
حاشا أن يكون قد نطق بهذا للتحقير من شأن القيود، لا، فإنه لو كان الأمر هكذا لما كان يفتخر بالقيود والسجون والضيقات الأخرى، عندما قال في موضع آخر: “فبكل سرور أفتخر بالحري في ضعفاتي” (٢ كو ١٢: ٩). فماذا هو الأمر (بالنسبة لما قاله أمام أغريباس)؟… لم يكن من يتحدث أمامهم قادرين على السماع عن جمال القيود وبهائها وبركتها، لذا أضاف: “ما خلا القيود”.
عندما كتب إلى العبرانيين لم يقل هذا، بل حثهم أن يكونوا “كمقيدين” (عب ١٣: ٣) مع المقيدين…
قدير هو سلطان قيود بولس!…
إنه لمنظر جميل مشبع أن ترى بولس مقيدًا وهو خارج من السجن، كما تنظره مقيدًا وهو داخل السجن… فإن كان القديسون في كل الأوقات يحملون منظرًا مجيدًا، إذ هم مملوؤن نعمة غنية، فإنهم يكونون هكذا بالأكثر عندما يتعرضون لمخاطر من أجل المسيح، عندما يصيرون مسجونين. وكما أن الجندي الشجاع يمثل منظرًا مبهجًا في كل الأوقات وذلك من تلقاء نفسه لكل من يتطلع إليه خاصة عندما يقف في الصفوف بجانب الملك، هكذا تأملوا بولس بأية عظمة يكون عندما ترونه يعلّم وهو في قيوده!
ألعلي أشير إلى فكرة عابرة خطرت ببالي حالاً؟! فإن الطوباوي بابيلاس الشهيد قُيّد تمامًا كما قيد يوحنا (المعمدان)، لأنه وبّخ ملكًا على عصيانه. وعند موته أوصى هذا الرجل أن تبقى القيود تلازم جسده، فيُدفن جثمانه مقيدًا. وإلى اليوم لا تزال قيوده مختلطة برفاته، هكذا كانت محبته للقيود التي قُيد بها من أجل المسيح. وكما يقول النبي عن يوسف: “في الحديد دخلت نفسه” (مز ١٠٥: ١٨). حتى النساء أيضًا قُيدن قبل الآن بهذه القيود.
- على أي الأحوال نحن لسنا في قيود، ولست أوصيكم بها مادام الوقت ليس وقت قيود. قيد قلبك وفكرك لا يديك! فإنه توجد قيود أخرى؛ من لا يُقيد بالواحدة (أي الالتزام الروحي) فسيُقيد بالأخرى. اسمع ما يقوله المسيح: “اربطوا يديه ورجليه” (مت ٣٢: ١٣). الله لا يسمح لنا بهذا القيود![4]
القديس يوحنا الذهبي الفم
- يقول: “َأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ، أَنَا الأَسِيرَ فِي الرَّبِّ، أَنْ تَسْلُكُوا كَمَا يَحِقُّ لِلدَّعْوَةِ الَّتِي دُعِيتُمْ بِهَا” ]١[.
لكن ما هذه الدعوة؟ يُقال: لقد دُعيتم جسده. صار المسيح رأسًا لكم، ومع أنكم كنتم أعداء وارتكبتم شرورًا بلا حصر، غير أنه أقامكم معه، وأجلسكم معه (أف ٢: ٦). إنها دعوة عليا، دعوة لإمتيازات سامية، لا بدعوتنا لترك حالتنا السابقة فحسب وإنما بتمتعنا بإمتيازات كهذه…
لكن كيف يمكن أن نسلك فيها؟ “بِكُلِّ تَوَاضُعٍ” ]٢[. هذا هو أساس كل فضيلة. إن كنت متواضعًا وتأملت ما أنت عليه، وكيف خلصت، فإن هذه التأملات تدفعك لكل فضيلة. فإنك لا تنتفخ بالقيود ولا بهذه الإمتيازات التي أشرت إليها، وإنما تتواضع لأنك تعرف أن هذه جميعها إنما هي من قبيل النعمة.
الإنسان المتواضع قادر أن يكون عبدًا كريمًا وشاكرًا في نفس الوقت. فإنه “أي شيء لك لم تأخذه؟” (١ كو ٤: ٧). اسمع أيضًا قوله: “أنا تعبت أكثر منهم جميعهم، ولكن لا أنا بل نعمة الله التي معي” (١كو ١٥: ١٠).
يقول “ بِكُلِّ تَوَاضُعٍ“، ليس فقط بالأقوال ولا بالأفعال وإنما بالاحتمال حتى في نغمة الصوت. لا تكن متواضعًا مع شخص وخشنًا مع آخر. بل كن متواضعًا مع جميع البشر، سواء كانوا أصدقاء أم أعداء، عظماء أم محتقرين، هذا هو التواضع.
كن متواضعًا حتى في أعمالك الصالحة. اسمع ما يقوله المسيح: “طوبى للمساكين بالروح” (مت ٥: ٣)، وقد وضع هذا في بداية (التطويبات)[5].
القديس يوحنا الذهبي الفم
إذ دُعينا جسد المسيح الواحد، فإننا لا نستطيع أن ننعم بوحدانية الروح، ونثابر عليها بدون التواضع الحقيقي، الذي هو أساس كل فضيلة، وبداية كل تطويب.
سلوكنا بالحق كما يليق بدعوة المسيح لنا يلزمنا أن ننعم “ بِكُلِّ تَوَاضُعٍ“، فإن كان كلمة الله بتواضعه أخلى ذاته، وصار كواحدٍ منا، لكي يضمنا إليه ويثبتنا فيه كجسد للرأس الواحد، هكذا إذ يكون لنا فكره ونحمل تواضعه عاملاً فينا، نحمل وحدانية الروح مع بعضنا البعض فيه. بمعنى آخر، بالتواضع نزل إلينا الكلمة الإلهي ليهبنا الوحدة فيه، وحدتنا مع الآب بروحه القدوس، ووحدتنا مع بعضنا البعض فيه.
إذ نسلك بكل تواضع في الرب نحمل وداعة تجاه إخوتنا، محتملين بعضنا بعضًا في المحبة كأساس حيّ لحفظ وحدانية الروح. يقول الرسول:
“بِكُلِّ تَوَاضُعٍ، وَوَدَاعَةٍ، وَبِطُولِ أَنَاةٍ،
مُحْتَمِلِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فِي الْمَحَبَّةِ.
مُجْتَهِدِينَ أَنْ تَحْفَظُوا وَحْدَانِيَّةَ الرُّوحِ بِرِبَاطِ السَّلاَمِ” ]٢- ٣[.
- إن كنت لا تحتمل أخاك العبد رفيقك فكيف يحتملك السيد؟ حيث توجد المحبة يمكن احتمال كل شيء!
- “مُجْتَهِدِينَ أَنْ تَحْفَظُوا وَحْدَانِيَّةَ الرُّوحِ بِرِبَاطِ السَّلاَمِ” ]٣[. اربط يديك بالاعتدال. مرة أخرى نرى هذا الاسم الحسن “ بِرِبَاطِ (قيود)“. لقد تركنا الحديث عن القيود، وهذا هو يعود ثانية من تلقاء ذاته.
كانت القيود السابقة (الخاصة بأسر الرسول) حسنة، وهذه القيود أيضًا حسنة، تلك كانت ثمار هذه (أي احتمال الآلام هو ثمرة لرباط المحبة).
اربط نفسك بأخيك؛ فالذين يرتبطون معًا بالمحبة يستطيعون أن يحتملوا كل شيء بسهولة. اربط نفسك بأخيك، وهو بك؛ أنت سيد لنفسك ولأخيك؛ فمن أشتاق أن أقيمه صديقًا لي أستطيع باللطف أن أحقق هذا معه.
بقوله “مُجْتَهِدِينَ” يُظهر أن الأمر لا يتحقق بسهولة، وليس في قدرة كل أحد.
“مُجْتَهِدِينَ أَنْ تَحْفَظُوا وَحْدَانِيَّةَ الرُّوحِ“؛ ما هي وحدانية الروح هذه؟ في الجسد البشري توجد روح تجمع الأعضاء معًا رغم تنوعها. هكذا الحال هنا، فقد أُعطى الروح (القدس) لهذا الغرض، ليوّحد الذين تفرقوا بسبب الجنس أو لأسباب أخرى، فيتحد الكبير والصغير، الغني والفقير، الطفل والشاب، المرأة والرجل، وتصير كل نفس معًا، متحدين أكثر من كونهم جسدًا واحدًا. هذه العلاقة الروحية أسمى من العلاقة الطبيعية؛ فكمال الوحدة هنا أكمل وأشد، لأن إتحاد النفس أكثر كمالاً بقدر ما أن النفس بسيطة ومتسقة.
كيف يمكن الاحتفاظ بهذه الوحدانية؟ “بِرِبَاطِ السَّلاَمِ“. فإنه لا يمكن أن يكون لها وجود متى وجدت العداوة والخصام. يقول (الرسول): “فإنه إذ فيكم حسد وخصام وانشقاق ألستم جسديين وتسلكون بحسب البشر؟!” (١ كو ٣: ٣). فكما أن النار متى وجدت قطعًا جافة من الخشب تلتهب معًا ليصعد منها لسان واحد من اللهب، أما متى كانت مبللة فلا تعمل فيها ولا توّحد بينها، هكذا هنا أيضًا، فإنه ليس شيء من الطبيعة الباردة يقدر أن يجلب هذه الوحدانية، أما إن كانت الطبيعة حارة فإنه في الغالب يستطيع ذلك. هكذا حرارة المحبة تنشيء الوحدانية، وذلك برباط السلام…
كأنه بنفس الطريقة يود أن يقول إن أردت أن تلتصق بآخر، لا تستطيع أن تتمم ذلك إلاَّ بأن تلصقه هو أيضًا بك. إن أردت أن تجعل الرباط مزدوجًا يحتاج هو أيضًا أن يلتصق بك. هكذا يريدنا أن نرتبط مع بعضنا البعض، فلا نكون فقط في سلام ولا أن نحب بعضنا بعضًا بل وأن يكون الكل نفسًا واحدة.
مجيد هو هذا الرباط، به ينبغي أن يرتبط كل أحد بالآخر كما بالله.
هذا الرباط لا يسبب “إزرقاقًا في الجلد”، ولا يشّل حركة اليد التي يربطها، بل بالحري يتركها حرة، يسهل لها الحركة، ويهبها شجاعة للعمل أكثر مما تمارسه الأيدي الحرة. إذ رُبط القوي بالضعيف أعانه ولا يدعه يهلك، وإذ ارتبط بشخص متهاون أنهضه وأحياه. لقد قيل: “إذا عضد أخ أخاه صارا مدينة حصينة” (أم ١٨: ١٩ LXX).
هذه القيود (رباط السلام) لا يزعزعها بُعد المسافة، ولا السماء، ولا الأرض، ولا الموت، ولا شيء آخر، بل هي أقوى من كل شيء[6].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- لقد برهن أنه لا وحدة ولا سلام يمكن أن يُحفظ ما لم يطلب الإخوة بعضهم البعض خلال الاحتمال المشترك، ويحفظوا رباط الاتفاق خلال المشاركة في الصبر[7].
- أتظن أنك تستطيع أن تثبت وتحيا إن انسحبت وبنيت لنفسك بيوتًا أخرى ومسكنًا مختلفًا (أي تركت رباط السلام والوحدة)، بينما قيل لراحاب التي كانت رمزًا للكنيسة: “اجمعي إليك في البيت أباكِ وأمك وإخوتك وسائر بيت أبيكِ، فيكون أن كل من يخرج من أبواب بيتك إلى خارج فدمه على رأسه” (يش ٢: ١٩)؟[8]
الشهيد كبريانوس
2. وحدة الإيمان وتنوع المواهب
الرسالة إلى أفسس هي رسالة الوحدة المسيحية، إذ يقدم لنا الرسول بولس سبعة أشكال للوحدة تتفاعل معًا لتعيش الكنيسة بالإيمان الواحد:
أولاً: “جَسَدٌ وَاحِد” ]٤[، ربما يقصد هنا وحدة الجماعة المقدسة من جهة التنظيم الكنسي، فإن كانت الوحدة في حقيقتها روحًا داخليًا لكن لا انفصال بين الروح والجسد، وبين الحياة الداخلية والتدبير الظاهر.
وربما بقوله “جَسَدٌ وَاحِد” يشير إلى الوحدة الكنيسة النابعة عن الوحدة السرائرية القدسية[9] Sacramental Unity، خاصة خلال سرّ الإفخارستيا. فالتنظيم الخارجي للكنيسة، مهما بلغ شأنه، يُعتبر ثانويًا بالنسبة لحياتها القدسية السرائرية. الروح القدس يعمل في الكنيسة خلال الأسرار المقدسة من أجل إتحاد كل إنسان في الله. والكنيسة منذ قيامها تتطلع إلى المذبح لتجد جسد الرب الذبيح الواحد، فتجد حياتها وعلّة وجودها، خلاله تنعم بالوحدة مع المسيح الواحد، وقيامها جسدًا واحدًا حيًا له. هذا ما شهدت به الليتورچيات الأولى؛ نقدم على سبيل المثال:
- كما أن الخبز المكسور،
كان مرة مبعثرًا على التلال،
وقد جُمع ليصير (خبزًا) واحدًا،
كذلك اجمع كنيستك من أقاصي الأرض، في ملكوتك.
(ليتورچيا) الديداكية
- كما أن عناصر هذا الخبز، كانت فيما مضى،
قد بُعثرت مرة في الجبال،
وقد جُمعت معًا وصارت واحدًا،
كذلك ابن كنيستك المقدسة من كل أمة،
ومدينة وبلدة وقرية وبيت،
واجعل منها كنيسة واحدة حية جامعة.
ليتورچيا الأسقف سرابيون
- الآن ما هو هذا الجسد الواحد؟ إنه المؤمنون في العالم كله، الكائنون الآن، والذين كانوا، والذين سيكونون. مرة أخرى، الذين أرضوا الله قبل مجيء المسيح هم “جسد واحد”. كيف يكون هذا؟ لأنهم هم أيضًا عرفوا المسيح. من أين يظهر هذا؟ يقول: “أبوكم إبراهيم تهلل بأن يرى يومي، فرأى وفرح” (يو ٨: ٥٦). كما قال: “لو كنتم تصدقون موسى لكنتم تصدقونني، لأنه هو كتب عني” (يو ٥: ٤٦). لم يكن ممكنًا للأنبياء أن يكتبوا أيضًا عن “الواحد” لو أنهم لم يعرفوا ما قالوه عنه، لكنهم عرفوه وعبدوه، هكذا كانوا هم أيضًا جسدًا واحدًا
ليس الجسد منفصلاً عن الروح، وإلاَّ ما كان جسدًا، هكذا جرت العادة بيننا أن ندعو الأشياء المتحدة معًا والمتجانسة تمامًا والمتلاصقة أنها جسد واحد. وأيضًا من جهة الوحدانية نقول إن ما يخضع لرأسٍ واحدٍ هو جسد؛ وحيث يوجد رأس واحد، يوجد جسد واحد.
يتكون الجسد من أعضاء، مكرمة وغير مكرمة. ليس للعضو الأعظم أن يضاد المحتقر، ولا الأخير أن يحسد الأول. حقًا لا يساهم ك عضو بنفس المقدار كغيره، لكن كل واحد يقدم ما تدعو إليه الحاجة. وإذ خُلقت جميع الأعضاء لأغراض ضرورية ومتنوعة، لذا يُحسب الكل في كرامة متساوية…
يوجد في الكنيسة أعداد كبيرة، منهم من يمثلون الرأس، مرتفعون في الأعالي، ومنهم من يشبهون العينين اللتين في الرأس، يتطلعون نحو السماويات، يقفون بعيدًا عن الأرض، ليست لهم خلطة بها، ومنهم من يمثلون الأرجل يطأون على الأرض، الأرجل السليمة، لأن السير على الأرض لا يعتبر جريمة إنما الجري نحو الشر هو كذلك. يقول النبي: “أرجلهم إلى الشر تجري” (إش ٥٩: ٧).
ليت الرأس لا تتشامخ على الرجلين، ولا تتطلع الرجلان بالشر نحو الرأس، وإلاَّ تشوه الجمال الخاص بكل عضو وتعطّل كمال عمله.
طبيعي أن من ينصب الشراك لقريبه إنما ينصبها لنفسه أولاً، وإن رفضت الرجلان أن تحملا الرأس بعيدًا عن قصدها، فإنهما في نفس الوقت تؤذيان نفسيهما بتكاسلهما وبعدم الحركة. أيضًا إذا رفضت الرأس الاهتمام بالرجلين أصابها الأذى هي أولاً …[10]
القديس يوحنا الذهبي الفم
ثانيًا: “َرُوحٌ وَاحِدٌ” ]٤[؛ الوحدة في جوهرها ليست تنظيمات خارجية، وإنما حياة داخلية يقودها روح الله القدوس الواحد، ليهب الكل روحًا واحدًا، وحياة داخلية متناسقة ومتناغمة معًا.
- بالروح القدس، الذي يجمع شعب الله في واحد، يُطرد الروح الشرير المنقسم على ذاته.
- من اختصاص الروح القدس الشركة التي بها صرنا جسدًا واحدًا لابن الله الواحد الوحيد، إذ مكتوب: “فإن كان وعظ ما في المسيح، إن كانت تسلية ما للمحبة، إن كانت شركة ما للروح” (في ٢: ١)[11].
القديس أغسطينوس
- عندما نزل العليّ وبلبل الألسنة قسّم الأمم.
لكنه عندما وزّع ألسنة النار (الروح القدس)، دعى الكل إلى الوحدة.
لهذا باتفاق واحد، نمجد الروح كلي القداسة.
لحن عيد البنطقسطي Kantakon
(بالكنيسة الأرثوذكسية اليونانية)
- يقول الله: “في بيت واحد يؤكل، لا تُخرج من اللحم من البيت إلى خارج” (خر ١٢: ٤٦). جسد المسيح، جسد الرب المقدس لا يمكن أن يُحمل خارجًا، لا يوجد بيت للمؤمنين غير كنيسة واحدة. هذا البيت، هذا المأوى لوحدة الروح القدس أُشير إليه وأعلن عنه حين قال: “الله مسكن المتوحدين (ذوي الفكر الواحد) في بيته” (مز ٦٧: ٦). ففي بيت الله، في كنيسة المسيح، يسكن ذوو الفكر الواحد، يحتفظون باتفاق معًا وببساطة[12].
- إذ تتقبل الكنيسة هذه الكرازة وهذا الإيمان، فإنها وإن كانت مبعثرة في العالم كله لكنها تكون كمن تقطن في بيت واحد، بدقة تحرص على ذلك. إنها تؤمن بهذه التعاليم كما لو كان لها نفس واحدة، ولها ذات القلب الواحد؛ وهي تعلن هذه التعاليم وتعلمها وتسلمها بتناسق كامل كما لو كان لها فم واحد[13].
القديس إيريناؤس
- الحب الذي يطلبه بولس ليس حبًا عامًا، إنما الحب الذي يثبتنا في بعضنا البعض، ويجعلنا ملتحمين معًا بغير انشقاق، فيقيم وحدة كاملة كما بين عضو وعضو. مثل هذا الحب ينتج ثمارًا عظيمة ومجيدة، لذا قال: “جَسَدٌ وَاحِدٌ“… وقد أضاف بطريقة جميلة: “َرُوحٌ وَاحِدٌ“، مُظْهِرُ أن يكون الجسد الواحد أيضًا روحًا واحدًا. إذ يمكن أن يوجد جسد واحد ولا يكون الروح واحدًا، كأن يصادق إنسان هراطقة.
بهذا التعبير أراد أن يكشف عن تظاهرهم بالاتفاق، كأنه يقول: “لقد قبلتم روحًا واحدًا، وشربتم من ينبوع واحد، لذا يجب ألاَّ تنقسموا في الفكر“. ولعله أراد بالروح هنا غيرتهم[14].
القديس يوحنا الذهبي الفم
ثالثًا: ” رَجَاء وَاحِد” ]٤[، عمل الروح القدس قائد الكنيسة الداخلي بعث روح الرجاء الواحد نحو الميراث السماوي، والتمتع بشركة المجد الأبدي. هذا الرجاء الواحد الذي دعينا إليه ينزع عن الإنسان رغبته في الكرامات الزمنية وحب السلطة، فيطلب الكل ما هو غير منظور، ويتسابق الكل في احتلال المركز الأخير الذي احتله الرب حين صار عبدًا وأطاع حتى الموت موت الصليب.
- لقد أضاف: “كَمَا دُعِيتُمْ أَيْضًا فِي رَجَاءِ دَعْوَتِكُمُ الْوَاحِدِ” ]٤[، بمعنى أن الله دعا الكل بذات الشروط. لا يمنح واحدًا شيئًا غير الآخر، إنما يعطي الخلود للجميع مجانًا، يهب الكل الحياة الأبدية، والمجد الخالد، والأخوّة، والميراث.
إنه رأس الجميع، يقيم الجميع معه ويجلسهم معه (أف ٢: ٦) …
هل يمكن القول بأنك دُعيت بواسطة إله أعظم وغيرك دُعي بواسطة إله أقل؟! هل أنت خلصت بالإيمان وغيرك خلص بالأعمال (الناموسية)؟! هل نلت أنت المغفرة في المعمودية وغيرك لم ينل؟! …[15]
القديس يوحنا الذهبي الفم
رابعًا: “رَبٌّ وَاحِدٌ” ]٥[.
- يود لنا إتحادًا مع بعضنا البعض على نفس المثال الذي لوحدة الثالوث القدوس… هذه الوحدة هي أكمل إتحاد يلزم أن تنعكس على وحدة المؤمنين[16].
القديس كيرلس الكبير
- عمل الرب الواحد أن يضمنا معًا فيه لنصير فيه كاملين وسمائيين بروح الوحدة. إنه يطلب الكل، يرغب أن يخلص الكل، يود أن يجعل الكل أبناء الله، ويدعو كل القديسين في رجل واحد كامل.
يوجد ابن الله الواحد، الذي به نتسلم التجديد خلال الروح القدس، يود أن يأتي الكل في إنسانٍ واحد كامل سماوي[17].
القديس هيبوليتس الروماني
خامسًا: “إِيمَانٌ وَاحِدٌ” ]٥[.
عمل الكنيسة الأول هو تقديم الإيمان الحق والثابت للعالم، لذا يدعوها القديس كبريانوس: “بيت الإيمان[18]“. هذا الإيمان تقبلته الكنيسة كوديعة تحفظه عبر الأجيال دون انحراف، وكما يقول القديس أيريناؤس: [الكنيسة الأولى الجامعة هي وحدها تعمل في وحدة الإيمان الواحد[19].]
عبر العلامة أوريجينوس في إحدى عظاته عن الفصح عن الإيمان الواحد الذي تعيشه الكنيسة الواحدة لتخلص معلقًا على ممارسة الفصح لكل عائلة في بيت واحد (خر ١٢: ٤٦)، قائلاً: [هذا يعني أنه بيت واحد له الخلاص في المسيح، أعني الكنيسة التي في العالم، هذه التي كانت متغربة عن الله والآن تتمتع بقرب فريد لله، إذ تقبلت رسل الرب يسوع كما تقبلت راحاب قديمًا في بيتها جاسوسيّ يشوع، فتمتعت وحدها بالخلاص وسط خراب أريحا[20].]
سادسًا: ” مَعْمُودِيَّةٌ وَاحِدَةٌ” ]٥.[
في سرّ المعمودية يتقبل المؤمنون – من أمم كثيرة – العضوية في جسد المسيح الواحد، ويشاركونه دفنه، وينعمون بحياته المقامة التي تهيئهم ليصيروا العروس السماوية الواحدة للعريس الواحد.
- إذ ليس لنا نحن والهراطقة إله واحد، ولا رب واحد، ولا كنيسة واحدة، ولا إيمان واحد، ولا روح واحد، ولا جسد واحد، فمن الواضح أنه لا يمكن أن تكون المعمودية مشتركة بيننا وبين الهراطقة، إذ ليس بيننا وبينهم شيء مشترك[21].
القديس كبريانوس
سابعًا: “إِلَهٌ وَآبٌ وَاحِدٌ” ]٦[. ترتبط الكنيسة الجامعة بالراعي الواحد والآب بالرغم من وجود قيادات كنسية كثيرة، فيبقى أبوها سرّ وحدتها، إذ يقول الرسول:
“َآبٌ وَاحِدٌ لِلْكُلِّ،
الَّذِي عَلَى الْكُلِّ وَبِالْكُلِّ وَفِي كُلِّكُمْ” ]٦[.
أبوة الله نحو المؤمنين عجيبة، تضمنا معًا تحت حبه وعنايته فنَظْهر أبناء لأب واحد “على الكل“، يدبر كل حياتنا خلال أبوته. أما قوله “بالكل”، فإنه كأبٍ محبٍ يعمل ليس فقط كمدبر “على الكل” وإنما بالكل، أي بنا، ومن خلالنا كأعضاء في جسد ابنه المحبوب. وبقوله: “في كلكم” يؤكد سكناه فينا. بمعنى آخر أبوته تظهر في جوانب ثلاثة متكاملة:
أ. رئاسته الأبوية (على الكل).
ب. عمله بنا خلال تقديره لنا كأبناء له (بالكل).
ج. سكناه في داخلنا (في كلكم).
وقد لاحظ بعض الدارسين أن عبارات الرسول في هذا الأصحاح عن الوحدة شملت ثلاثة ثلاثيات:
أ. من جهة الكنيسة: جسد واحد، روح واحد، رجاء الدعوة الواحد ]٤[.
ب. من جهة الإيمان: رب واحد، إيمان واحد، معمودية واحدة ]٥[.
ج. من جهة أبوة الله لنا: على الكل، بالكل، في الكل ]٦[.
إذ تحدث الرسول عن سرّ الوحدة الكنسية التي تقوم خلال وحدة الجسد والروح والرجاء والإيمان والمعمودية، بإتحادنا في الله الواحد، وتمتعنا بأبوته الواحدة للكل. الآن يؤكد الرسول أن الوحدة لا تعني ذوبان الأشخاص وتطابق الكل ليكون الجميع صورة لشكلٍ واحدٍ، وإنما هي وحدة متناغمة ومنسجمة خلال المواهب المتنوعة. ففي أكثر من موضع يؤكد الرسول بولس تنوع المواهب كعلاقة على حيوية الكنيسة (رو ١٢: ٣ – ٨؛ ١ كو ١٢: ١ – ٣١). هذه المواهب تُعطى للأعضاء كهبة إلهية حسبما يرى الله بحكمته وأبوته. كأب حكيم يهب كل أحد بما يناسبه، وليس عن محاباة؛ إنه يعطي بفيض حسب كرمه الإلهي، إذ يقول الرسول: “وَلَكِنْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا أُعْطِيَتِ النِّعْمَةُ حَسَبَ قِيَاسِ هِبَةِ الْمَسِيحِ” ]٧[.
يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم قائلاً:
[لاحظ أنه لم يقل “حسب إيمان كل واحد”، لئلا يسقط الذين ليس لهم معارف كثيرة في اليأس، لكنه ماذا قال؟ “حَسَبَ قِيَاسِ هِبَةِ الْمَسِيحِ“. يقول أن النقطة الرئيسية والأساسية هي أن الكل يشترك معًا في المعمودية والخلاص بالإيمان وأخذ الله أبًا لنا والشركة في الروح الواحد. فإن كان لهذا الإنسان أو ذاك موهبة روحية سامية لا تحزن قط، فإنه يُطالب بمتاعبٍ أكثر. فالذي أخذ خمس وزنات كان مطالبًا بخمس، أما الذي نال وزنتين فأحضر فقط وزنتين (أخريتين) ومع هذا نال مكافأة لا تقل عن الأول. لذلك فإن الرسول هنا أيضًا يشجع السامع على نفس الأساس، مظهرًا أن المواهب تُعطى لا لتكريم شخص عن آخر، وإنما لأجل العمل في الكنيسة، كما يقول بعد ذلك: “لأَجْلِ تَكْمِيلِ الْقِدِّيسِينَ، لِعَمَلِ الْخِدْمَةِ، لِبُنْيَانِ جَسَدِ الْمَسِيحِ” ]١٢[. لذلك يقول حتى عن نفسه: “ويل لي إن كنت لا أبشر” (١ كو ٩: ١٦). كمثال: نال هو موهبة الرسولية، لذلك الويل له – لا لأنه تقبلها – (وإنما إن كان يهمل فيها)، أما أنت فلا تسقط تحت هذا الخطر.
“حَسَبَ قِيَاسِ” ]٧[. ماذا يعني “حسب قياس”؟
إنها تعني “ليس حسب استحقاقنا”، وإلاَّ ما كان أحد قد نال ما ناله، وإنما حسب العطية المجانية التي نلناها.
إذن لماذا ينال أحد أكثر مما ينال آخر؟
يود أن يقول بأنه ليس شيء يسبب ذلك، وإنما الأمر هو مجرد تنوّع، لكي يساهم كل أحد في “البناء”. بهذا يُظهر أن الإنسان لا ينال أكثر وغيره أقل حسب استحقاقه الذاتي، وإنما من أجل (نفع) الآخرين، حسب قياس الله، إذ يقول في موضع آخر: “وأما الآن فقد وضح الله الأعضاء كل واحد منها في الجسد كما أراد” (١ كو ١٢: ١٨)[22].]
القديس يوحنا الذهبي الفم
إذن فالعطية إلهية تُعطى حسب حكمة الله الفائقة أو حساب قياس المسيح كما يقول الرسول، لكن دون شك إضرامنا للمواهب المجانية وأمانتنا تفتح بابًا لنوال عطايا مجانية أكثر، وكما يقول القديس چيروم: [هذا لا يعني أن قياس المسيح يتغير، لكن قدر ما نستطيع أن نتقبل يسكب نعمته فينا[23].]
على أي الأحوال، ليس المجال للافتخار ولا لليأس، فإن مواهبنا هي عطية الله المجانية التي يهبها لنا لا عن استحقاقات ذاتية، وإنما لأجل العمل معًا لبناء الكنيسة الروحي. هو الذي نزل إلينا وقدم محبته العملية على الصليب وصعد ليوزع مواهبه المجانية حسب غنى حكمته. يقول الرسول: “لِذَلِكَ يَقُولُ: إِذْ صَعِدَ إِلَى الْعَلاَءِ سَبَى سَبْيًا وَأَعْطَى النَّاسَ عَطَايَا” ]٨[.
- “سَبَى سَبْيًا وَأَعْطَى النَّاسَ عَطَايَا” ]٨[.
عندما ارتفع على الصليب المقدس سمّر الخطية التي انتزعتنا من الفردوس على الصليب، وسبى سبيًا كما هو مكتوب.
ماذا سبي سبيًا؟ نتيجة سقوط آدم سبانا عدونا، وأمسك بنا، وجعلنا تحت سلطانه. عندئذ صارت نفوس البشر بعد تركها الجسد تذهب إلى الجحيم، إذ أُغلق الفردوس أمامها. لذلك إذ ارتفع المسيح على الصليب المقدس واهب الحياة اختطفنا بدمه من السبي الذي اُستعبدنا فيه خلال سقوطنا. بمعنى آخر أمسك بنا من يد العدو، وجعلنا مسبيين له بغلبته وطرده ذاك الذي سبق فسبانا. هذا هو السبب الذي لأجله يُقال: “سبي سبيًا“[24].
الأب دوروثيؤس من غزة
- “وَأَمَّا أَنَّهُ صَعِدَ، فَمَا هُوَ إِلاَّ إِنَّهُ نَزَلَ أَيْضًا أَوَّلاً إِلَى أَقْسَامِ الأَرْضِ السُّفْلَى. اَلَّذِي نَزَلَ هُوَ الَّذِي صَعِدَ أَيْضًا فَوْقَ جَمِيعِ السَّمَاوَاتِ، لِكَيْ يَمْلأَ الْكُلَّ” ]٩-١٠[.
عندما تسمع هذه الكلمات لا تفكر في مجرد تحرك من مكان إلى مكان، وإنما ما قد قرره بولس في الرسالة إلى أهل فيلبي (٢: ٥ – ٩) يركز عليه هنا (أي الإخلاء حتى الموت موت الصليب وارتفاعه ليخضع الكل له)…
لقد أطاع حتى الموت… فبقوله “أقسام الأرض السفلى” عني قبوله الموت وذلك حسب مفاهيم البشر… فقد قال يعقوب: “تنزلون شيبتي بحزن إلى الهاوية” (تك ٤٢: ٣٨)، وجاء في المزمور: “أشبه الهابطين في الجب” (مز ١٤٣: ٧)، أي يشبه الموتى.
لماذا نزل إلى هذه المنطقة؟ وعن أي سبي يتحدث؟ إنه يتحدث عن الشيطان، إذ سبي الطاغية، أي الشيطان أو الموت واللعنة والخطية…
يقول أنه نزل إلى أقسام الأرض السفلى فلا يكون بعده أحد، وصعد إلى فوق الكل حيث لا يكون بعده أحد. هكذا يظهر طاقته الإلهية وسمو سلطانه!…
- نزوله إلى أقسام الأرض السفلى لم يضره، ولا كان ذلك عائقًا له عن صيرورته أعلى من السماوات. هكذا كلما تواضع الإنسان بالأكثر يتمجد! ذلك كما في الماء كلما ضغط الإنسان على الماء إلى أسفل ارتفع إلى أعلى[25].
القديس يوحنا الذهبي الفم
إذ أوضح الرسول الثمن الذي دفعه السيد المسيح ليقدم لنا هبات العهد الجديد أو المواهب المتنوعة، بنزوله إلى أقصى أقسام الأرض السفلى، أي الموت، لكي يرتفع فيرفعنا معه إلى السماوات عينها، الآن يعلن أن عطايا الله لأعضاء كنيسته ليست قاصرة على أشخاص دون سواهم بل يفيض بالعطاء على الكل، وإن اختلفت العطية؛ ليس من عضو بلا موهبة أو عطية وإلاَّ فقد وجوده كعضوٍ وصار يمثل ثقلاً على الجسد عوض ممارسته العضوية، إذ يقول: “لِكَيْ يَمْلأ الْكُلَّ. وَهُوَ أَعْطَى الْبَعْضَ أَنْ يَكُونُوا رُسُلاً، وَالْبَعْضَ أَنْبِيَاءَ، وَالْبَعْضَ مُبَشِّرِينَ، وَالْبَعْضَ رُعَاةً وَمُعَلِّمِينَ” ]١٠-١١.
إنه “يملأ الكل”… يملأهم هبات وعطايا ليمارسوا عملهم بروحه القدوس، كأعضاء حقيقيين في جسد المسيح الدائم العمل والحركة، الجسد الذي لن يتوقف عن الحياة ولا يُصاب بشيخوخة أو يفقد سمة العمل الدائم.
- “فوضع الله أناسًا في الكنيسة، أولاً رسلاً، ثانيًا أنبياء، ثالثًا معلمين” (١ كو ١٢: ٢٨)، وكل وسائل أعمال الروح الأخرى. فمن لا يشترك في عمل الكنيسة لا يشارك هذا الروح… إذ حيث توجد الكنيسة يوجد روح الله، وحيث يوجد روح الله توجد الكنيسة وكل نوع من النعمة[26].
القديس إيريناؤس
- أنت نفسك صرت كاهنًا في المعمودية … صرت كاهنًا من جهة أنك تقدم نفسك تقدمة لله[27].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- لقد أكمل الحديث مظهرًا عناية الله وحكمته، لأن من قام بأعمال كهذه، وله هذه القدرة، ذاك الذي لم يرفض أن ينزل حتى إلى أقسام الأرض السفلى لأجلنا لا يمكن أن يقوم بتوزيع المواهب الروحية بلا هدف.
يخبرنا في موضع آخر أن هذا من عمل الروح، قائلاً: “أقامكم الروح القدس أساقفة لترعوا كنيسة الله“. هنا (أف ٤: ١١) ينسب العمل للابن، وفي موضع آخر لله (الآب) (١ كو ٣: ٦ – ٨).
يقول: “لأَجْلِ تَكْمِيلِ الْقِدِّيسِينَ، لِعَمَلِ الْخِدْمَةِ، لِبُنْيَانِ جَسَدِ الْمَسِيحِ” ]١٢[. هل تدركوا كرامة هذه الوظيفة؟ كل عمل هو للبنيان، الكل يكمّل، الكل يخدم[28].
القديس يوحنا الذهبي الفم
3. الوحدة وبنيان الكنيسة
إذ تحدث الرسول بولس عن الوحدة الكنسية التي تُدعَّم أساسًا على وحدة الإيمان ]١– ٦[، عاد ليؤكد وحدة العمل بالرغم من تنوع المواهب ]٧– ١١[ حيث يتسلم الكل دوره في بناء الكنيسة من يد المسيح الواحد الذي نزل حتى الموت وصعد ليفيض على كنيسته مواهبه الإلهية. الآن ]١٢– ١٦[ يحدثنا عن وحدانية الهدف. فإن كانت المواهب متعددة، لكن الغاية واحدة هي “بيان جسد المسيح الواحد” ]١٢[.
المواهب هي عطية الثالوث القدوس، تارة ينسبها الرسول للروح القدس وأخرى للسيد المسيح، وثالثة للآب، لأنها هي عطية الروح القدس التي قدمت للكنيسة خلال استحقاقات الابن الذي قدم حياته مبذولة لأجلنا، تُوهب بتدبير الآب محب البشر. يقدمها الثالوث القدوس لبنيان الكنيسة كلها، كما يقول الرسول: “لأَجْلِ تَكْمِيلِ الْقِدِّيسِينَ، لِعَمَلِ الْخِدْمَةِ، لِبُنْيَانِ جَسَدِ الْمَسِيحِ” ]١٢[، وفي نفس الوقت لبنيان كل عضو فيها. بمعنى آخر وحدة الهدف تمجّد الكنيسة الجامعة كما تمجد كنيسة القلب الداخلي، تحقق النمو الروحي للجماعة مع بنيان كل إنسان روحيًا لكي يبلغ الكل إلى “قِيَاسِ قَامَةِ مِلْءِ الْمَسِيحِ” ]١٣[.
أولاً: من جهة بنيان الجماعة ككل
الآن يوضح الرسول، بشيءٍ من الإسهاب، ماذا يقصد ببنيان جسد المسيح، إذ يقول: “إِلَى أَنْ نَنْتَهِيَ جَمِيعُنَا إِلَى وَحْدَانِيَّةِ الإِيمَانِ وَمَعْرِفَةِ ابْنِ اللهِ. إِلَى إِنْسَانٍ كَامِلٍ. إِلَى قِيَاسِ قَامَةِ مِلْءِ الْمَسِيحِ” ]١٣[.
بمعنى آخر إذ تنوعت المواهب، إنما لكي يعمل الكل بهدفٍ واحدٍ، بغية الوصول “إِلَى وَحْدَانِيَّةِ الإِيمَانِ“. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [بمعنى إلى أن نُظهر أن لنا جميعنا الإيمان الواحد، حينما نكون كلنا واحدًا، ونكون كلنا متشابهين في معرفة الرباط المشترك. هكذا يليق بك أن تتعب عاملاً بهذا الهدف. فإن قبلت الموهبة بهذا الهدف أي بنيان الغير، فإنك لن تتوقف عن العمل إن حسدك الآخرون. لقد كرمك الله، وسامك لكي تبني غيرك. نعم بهذا الهدف كان الرسول منشغلاً، وبذات الهدف كان النبي يتنبأ ويعمل والإنجيلي يكرس بالإنجيل والراعي والمعلم يعملان، الكل يتعهد عملاً مشتركًا واحدًا. الآن إذ نؤمن كلنا إيمانًا متشابهًا توجد وحدانية، ويتحقق “الإِنْسَانٍ الكَامِلٍ“[29].]
هكذا يتناغم تنوع المواهب في الكنيسة – جسد المسيح الواحد – مع وحدانية الإيمان، إذ يعمل الكل معًا، كل في موهبته، خلال عضويته الصادقة في جسد المسيح لبنيان الجماعة المقدسة، بهذا يدخل الكل إلى “َمَعْرِفَةِ ابْنِ اللهِ“، “إِلَى إِنْسَانٍ كَامِلٍ“. بمعنى أن الوحدة الكنسية القائمة على تنوع المواهب مع وحدة الهدف ووحدانية الإيمان تنطلق بالمؤمنين من حالة الطفولة الروحية إلى النضوج الروحي، إذ ينطلق الكل معًا من معرفة روحية اختيارية حية إلى معرفة أعمق فأعمق، لعلهم يبلغون “قِيَاسِ قَامَةِ مِلْءِ الْمَسِيحِ“.
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [يقصد هنا بالملء المعرفة الكاملة، فكما يقف الرجل (الإنسان الكامل) بثبات بينما يتعرض الطفل للفكر المتردد، هكذا أيضًا بالنسبة للمؤمنين[30].]
نحن الآن كمن هم في حالة طفولة نامية للبلوغ إلى النضوج الكامل، لذا يدعونا الرسول في موضع آخر “أطفالاً” (١كو ١٣: ١١)، وحينما يقارن بين ما نلناه من معرفة روحية وما نكون عليه من معرفة مقبلة يحسبنا هكذا، قائلاً: “لأننا نعلم بعض العلم ونتنبأ بعض التنبؤ، ولكن متى جاء الكامل فحينئذ يبطل ما هو بعض، لما كنت طفلاً كطفل كنت أتكلم وكطفل كنت أفطن وكطفل كنت أفكر، ولكن لما صرت رجلاً أبطلت ما للطفل، فإننا ننظر الآن في مرآة في لغز لكن حينئذ وجهًا لوجه، الآن أعرف بعض المعرفة لكن حينئذ سأعرف كما عرفت” (١ كو ١٣: ٩ – ١٢).
هكذا مادمنا في جهادنا، نعمل معًا بهدف واحد في وحدانية الإيمان، ننطلق دائمًا من حالة الطفولة إلى النضوج لنبلغ “قِيَاسِ قَامَةِ مِلْءِ الْمَسِيحِ“.
ثانيًا: من جهة كل عضو
لا يمكن فصل العضو عن الجماعة، ولا الجماعة عن العضو، كل نموٍ في حياة الجماعة هو لبنيان الأعضاء، وكل نموٍ حقيقيٍ في حياة الأعضاء هو لبنيان الجماعة. لذلك إذ نسمع تعبير “قِيَاسِ قَامَةِ مِلْءِ الْمَسِيحِ” لا نحسبه خاص بالكنيسة كجماعة فحسب، ولا كأعضاء منعزلين، إنما هو حث للجماعة ككل ولكل عضو لعله يبلغ المرتفع الشاهق.
هنا المرتفع شاهق جدًا، لأن الرسول يريدنا بإرادتنا الحرة أن نجاهد بقوة النعمة بلا انقطاع سالكين في هذا الطريق بلا توقف. ليتنا إذ نسمع هذا لا نيأس، متذكرين كلمات الأب سيرينيوس: [يليق بنا ألاَّ ننسحب من جهادنا في السهر بسبب اليأس الخطير، لأن “ملكوت السماوات يُغصب والغاصبون يختطفونه” (مت ١١: ١٢). فلا يمكن نوال فضيلة بدون جهاد[31].] ويحدثنا الأب ثيوناس[32] عن الجهاد معلنًا أن الله لا يُلزمنا على صعود مرتفعات الصلاح العالية والسامية لكنه يحثنا بنصائحه وشوقنا لبلوغ الكمال بإرادتنا الحرة.
الآن بعد أن شوّقنا الرسول للارتفاع على الجبال السماوية الشاهقة لنبلغ “قِيَاسِ قَامَةِ مِلْءِ الْمَسِيحِ” حذرنا من المعوقات، مطالبًا إيانا بالجهاد بلا انقطاع، كأطفال صغار يحتاجون إلى النمو بغير توقف بالرغم من الصعاب التي تواجهنا، إذ يقول:
“كَيْ لاَ نَكُونَ فِي مَا بَعْدُ أَطْفَالاً مُضْطَرِبِينَ وَمَحْمُولِينَ بِكُلِّ رِيحِ تَعْلِيمٍ،
بِحِيلَةِ النَّاسِ، بِمَكْرٍ إِلَى مَكِيدَةِ الضَّلاَلِ.
َلْ صَادِقِينَ فِي الْمَحَبَّةِ، نَنْمُو فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَى ذَاكَ الَّذِي هُوَ الرَّأْسُ:
الْمَسِيحُ” ]١٤-١٥[.
كأن السيد المسيح يعمل في أناس هم أطفال غير ناضجين، يسندهم وينميهم ليقيمهم رجالاً ناضجين روحيًا، وعوض الضعف يهبهم قوة. بمعنى آخر، يعيش كل عضو داخل الكنيسة في حركة مستمرة بلا انقطاع، ناميًا في المحبة، أي في المسيح الذي لم يرضِ نفسه (رو ١٥: ٣)، بل أحب الكل، باذلاً حياته ليقيم الكنيسة.
يقارن الرسول بولس الكنيسة بالسفينة وسط مياه هذا العالم، فإن لم يعمل كل البحارة معًا بروح واحد يصيرون كأطفال يتعرضون لمتاعبٍ كثيرةٍ، ولا يقدرون على مقاومة الرياح والأمواج فيهلكون.
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن الرسول هنا يتحدث عن الكنيسة كبناء واحد، إن لم يعمل الكل معًا فيه يتعرض للهدم ويفقد الكل حياته، إذ يعلق على هذا النص، قائلاً:
[بقوله: “لاَ نَكُونَ فِي مَا بَعْدُ” يظهر أنهم كانوا هكذا في القديم، حاسبًا نفسه أيضًا موضوع تصحيح معهم. يود أن يقول بأنه يوجد عاملون كثيرون كي لا يهتز البناء، فتكون الحجارة مثبتة لا محمولة (إلى هنا وهناك). هذه هي سمة الأطفال أن يُحملوا إلى هنا وهناك فيضطربون ويهتزون… لقد قدم هذا التشبيه ليشير إلى الخطر العظيم الذي تتعرض له النفوس[33].]
إذ كشف الرسول عن خطورة الحياة بغير وحدانية الإيمان والهدف، مشبهًا العاملين كأطفال يلهون، كل في واديه، يُحملون بريح التعاليم الباطلة، ويسقطون تحت خداع الناس، وينحرفون إلى الضلال، أوضح الالتزام بالسلوك في طريق “الوحدانية” بارتباط الكل بالحب معًا تحت قيادة “الرأس المسيح” الواحد، مشبهًا الكنيسة بالجسد فتنمو الأعضاء معًا خلال إتحادها فيه، وتنال بنيانها خلال عمله فيها ]١٥، ١٦[.
الجسد كله ينمو معًا، دون أن يفقد العضو كيانه بل يتمتع قدر قياسه، قدر ما يتسع ينال من الرأس نموه. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [تعتمد نفوس البشر عليه كأعضاء، فينعم كل عضو منفرد بعنايته الإلهية وعطية المواهب الروحية قدر ما يناسب قياسه، هذا يؤدي إلى نموهم… يليق بكل عضو ليس فقط أن يكون متحدًا بالجسد، وإنما يكون أيضًا في مكانه اللائق به، وإلاَّ فقد إتحاده بالجسد وحُرم من تقبل الروح[34].]
خلال وحدانية الهدف ننعم بالمحبة التي تربطنا معًا بالرأس، فيعمل هو فينا، كل في موقعه بما يناسبه لبنيان الجسد كله، فلا نكون مجرد جماعة عاملة معًا، وإنما أعضاء لبعضنا البعضK يعمل الرأس فينا بالحب، كل حسب موهبته التي يهبها إياه بروحه القدوس.
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم:
[إن رغبنا في نوال نفع الروح (القدس) الذي من الرأس، فلنلتصق كل بالآخر.
يوجد نوعان من الانفصال عن جسد الكنيسة: الأول حين تبرد المحبة والآخر حين نجسر ونرتكب أمورًا لا تليق بانتمائنا لهذا الجسد. فإننا بإحدى الطريقتين نقطع أنفسنا عن “ملء المسيح”…
ليس شيء يسبب انقسامًا في الكنيسة مثل حب السلطة!
ليس شيء يثير غضب الله مثل انقسام الكنيسة! نعم وإن مارسنا ربوات الأعمال المجيدة فإننا إن مزقنا ملء الكنيسة نسقط تحت عقوبة لا تقل عن تلك التي يسقط تحتها من أفسدوا جسده[35].]
4. الوحدة والحياة الجديدة
لكي تكون الوحدة حياة ديناميكية متحركة بغير جمود يختم الرسول حديثه عن الوحدة الكنسية بالتجديد الدائم المنطلق خلال الإنسان القديم ولبس الإنسان الجديد في مياه المعمودية. وكما يقول كثير من الدارسين الغربيين هذا النص الخاص بالحياة الجديدة جاء يحمل تعبيرات تخص ليتورچية العماد، نذكر على سبيل المثال:
” تَخْلَعُوا (الإنسان القديم)” ]٢٢[؛ ” َتَتَجَدَّدُوا بِرُوحِ ذِهْنِكُمْ” ]٢٣[؛ “َتَلْبَسُوا الإِنْسَانَ الْجَدِيدَ” ]٢٤[.
لكي يبرز قوة “الحياة الجديدة” التي صارت لنا في المسيح يسوع خلال مياه المعمودية بروحه القدوس، والتزامنا بالنمو في هذه الحياة الجديدة، أبرز أولاً الإنسان العتيق الذي خلعناه، وقد وضح بقوة في حياة الأمم وسلوكهم.
يبدأ الرسول حديثه بالقول:
“فَأَقُولُ هَذَا وَأَشْهَدُ فِي الرَّبِّ،
أَنْ لاَ تَسْلُكُوا فِي مَا بَعْدُ كَمَا يَسْلُكُ سَائِرُ الأُمَمِ أَيْضًا بِبُطْلِ ذِهْنِهِمْ، إ
ِذْ هُمْ مُظْلِمُو الْفِكْرِ،
وَمُتَجَنِّبُونَ عَنْ حَيَاةِ اللهِ لِسَبَبِ الْجَهْلِ الَّذِي فِيهِمْ بِسَبَبِ غِلاَظَةِ قُلُوبِهِمْ.
اَلَّذِينَ إِذْ هُمْ قَدْ فَقَدُوا الْحِسَّ،
أَسْلَمُوا نُفُوسَهُمْ لِلدَّعَارَةِ لِيَعْمَلُوا كُلَّ نَجَاسَةٍ فِي الطَّمَعِ” ]١٧– ١٩[.
ويلاحظ في هذا النص الآتي:
أولاً: لما كان الأمر خطيرًا للغاية، أراد الرسول أن يُشهد الرب نفسه على قوله هذا، حتى يستطيعوا في جدية أن يقارنوا بين الحياة الأممية خارج المسيح والحياة الجديدة التي في المسيح.
ثانيًا: يحذرهم الرسول بولس من السلوك كسائر الأمم “بِبُطْلِ ذِهْنِهِمْ” ]١٧[. ماذا يعني بطل الذهن إلاَّ انشغال الذهن وارتباكه في الأمور الباطلة الزمنية عوض التأمل في السماويات والانشغال بالحياة الأبدية الدائمة؟!
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [ما هو بطل الذهن؟ إنه انشغال الذهن بالأمور الباطلة. وما هي الأمور الباطلة سوى كل أمور الحياة الحاضرة؟! يقول عنها المبشر: “باطل الأباطيل الكل باطل” (جا ١: ٢). لكن قد يقول قائل: “إن كانت هذه الأمور باطلة فلماذا خُلقت؟ إن كانت هي خليقة الله، فلماذا باطلة؟… “ليست خليقة الله هي التي ندعوها باطلة؛ حاشا! السماء ليست باطلة، ولا الأرض باطلة؛ حاشا! ولا الشمس ولا القمر ولا النجوم ولا جسدنا، لا، فإن هذه كلها حسنة جدًا” (تك ١: ٣١). فما هو الباطل إذن؟ لنسمع ما يقوله المبشر: “(فعظمت عملي)، بنيت لنفسي بيوتًا، غرست لنفسي كرومًا… اتخذت لنفسي مغنين ومغنيات، عملت لنفسي برك مياه، وكانت لي أيضًا قنية بقر وغنم، جمعت لنفسي أيضًا فضةً وذهبًا، فإذا الكل باطل” (راجع جا ٢: ٤ – ١١). اسمع أيضًا النبي: “يذخر ذخائر ولا يدري من يضمها” (مز ٣٩: ٦). هذا هو باطل الأباطيل: المباني الفخمة والغنى السريع الفائض، قطعان العبيد والمظاهر الصاخبة (الاستعراضات) في الميادين العامة، كبرياؤك ومجدك الباطل وتشامخ فكرك والمباهاة. هذه الأمور باطلة لم تأتِ من يد الله، إنما هي من صنعنا نحن. لماذا هي باطلة؟ لأنها بلا غاية مفيدة. فالغنى يكون باطلاً متى أُنفق على الترف بينما لا يُحسب كذلك إن وُزع وقدم للمحتاجين (مز ١١٢: ٩)[36].]
ثالثًا: ربما يتساءل البعض: لماذا يُلام الأمم ما داموا مظلمي الفكر ومتغربين عن حياة الله بسبب الجهل وغلاظة قلوبهم؟
يجيب الرسول بولس مؤكدًا مسئوليتهم، إذ يقول: ” إِذْ هُمْ قَدْ فَقَدُوا الْحِسَّ، أَسْلَمُوا نُفُوسَهُمْ لِلدَّعَارَةِ لِيَعْمَلُوا كُلَّ نَجَاسَةٍ فِي الطَّمَعِ” ]١٩[. بمعنى آخر ان ما يمارسونه من فساد، وما يسقطون فيه من ظلمة وتجنب عن “حياة الله” إنما ينبع عن “فقدانهم الحس” بإرادتهم فيسلمون أنفسهم بأنفسهم للدعارة والطمع.
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [“إِذْ هُمْ قَدْ فَقَدُوا الْحِسَّ، أَسْلَمُوا نُفُوسَهُمْ” ]١٩[، بينما تسمعون: “أسلمهم الله إلى ذهن مرفوض” (رو ١: ٢٨). فإن كانوا قد أسلموا أنفسهم فكيف أسلمهم الله؟ وأيضًا إن كان الله قد أسلمهم فكيف أسلموا هم أنفسهم؟… كلمة “أسلمهم” (في رو ١: ٢٨) تعني أن الله سمح لهم أن يُسلموا[37].]
رابعًا: يربط الرسول بولس بين الإيمان الفاسد أو الفكر الفاسد وبين السلوك الفاسد؛ فالفكر والسلوك أشبه بسلسلة مترابطة كل يؤثر في الآخر؛ حينما يمتليء الفكر بالأمور الزمنية الباطلة يُصاب بالظلمة والجهل، وحينما يصاب بالظلمة ينحدر للفساد، وهكذا يدفعه الفساد إلى ظلمة أعمق.
في هذا يقول القديس أغسطينوس أن وراء كل إلحاد (فساد فكر) شهوة! وبصورة أخرى يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [ألا ترى أن الحياة الفاسدة هي أساس لتعاليم هكذا (فاسدة) أيضًا؟! إذ يقول الرب: “لأن كل من يعمل السيئات يبغض النور ولا يأتي إلى النور” (يو ٣: ٢٠)… كما لو أننا غطسنا في أعماق المياه فلا نقدر أن نعاين الشمس بسبب كثافة المياه التي فوقنا، فتصير عائقًا، هكذا تُصاب عينا الفهم بعمى القلب وفي فقداننا للحسّ لا توجد مخافة (الله) في نفس. لقد قيل: “ليس خوف الله أمام عينيه” (مز ٣٦: ١)، وأيضًا: “قال الجاهل في قلبه ليس إله” (مز ١٤: ١). الآن فإن العمى لا يصدر إلاَّ من عدم الحسّ[38].]
خامسًا: إذ يربط الرسول بأن عمى الفكر أو انحرافه بفساد السلوك، ربما يتساءل البعض كيف أستطيع أن أحفظ حياتي من الدنس؟ لذا يربط الرسول الدنس بالطمع، قائلاً: “لِيَعْمَلُوا كُلَّ نَجَاسَةٍ فِي الطَّمَعِ” ]19[. فإن كانت قداسة الحياة تبدو صعبة للإنسان، فهل السقوط في الطمع أمر إلزامي؟! بمعنى آخر ما هي حجة الأمم أو عذرهم من جهة الطمع؟ في هذا يقول الأب مرقس الناسك إنه إذ يتمم الإنسان الوصية التي في مقدوره، يعمل الله فيه ويسنده في تتميم الوصية التي ليست في قدرته. بمعنى آخر إن كنا نضبط أنفسنا من جهة الطمع فهو يضبط مشاعرنا وأحاسيسنا بعيدًا عن كل نجاسة. لنكن أمناء في الرب فيما بين أيدينا فيعمل بغنى نعمته فينا.
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [كان في قدرتهم أن يشتركوا في الاعتدال في الغنى حتى في المباهج والترف، لكنهم انغمسوا بغير اعتدال فهلكوا تمامًا[39].]
بعدما عرض الرسول فساد الأمم في الذهن كما في السلوك، في نجاسات ورجاسات، عاد ليؤكد أن هذا الحال لا يليق بالمؤمنين الذين التقوا بالسيد المسيح كمعلم ومعين، واهب التجديد الذهني المستمر بروحه القدوس، إذ يقول:
“وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلَمْ تَتَعَلَّمُوا الْمَسِيحَ هَكَذَا،
إِنْ كُنْتُمْ قَدْ سَمِعْتُمُوهُ وَعُلِّمْتُمْ فِيهِ كَمَا هُوَ حَقٌّ فِي يَسُوعَ،
أَنْ تَخْلَعُوا مِنْ جِهَةِ التَّصَرُّفِ السَّابِقِ الإِنْسَانَ الْعَتِيقَ الْفَاسِدَ بِحَسَبِ شَهَوَاتِ الْغُرُورِ،
وَتَتَجَدَّدُوا بِرُوحِ ذِهْنِكُمْ،
وَتَلْبَسُوا الإِنْسَانَ الْجَدِيدَ الْمَخْلُوقَ بِحَسَبِ اللهِ فِي الْبِرِّ وَقَدَاسَةِ الْحَقِّ” ]٢٠– ٢٤[.
هذا النص في حقيقته هو تسبحة العهد الجديد حيث يمجد المؤمن أعمال الله الفائقة في حياته، ويمدح غنى نعمة الله الفياضة التي يهبنا إياها حسب مسرته. وكما سبق فقلنا إنها في الغالب جزء من ليتورچية قداس المعمودية في العصر الرسولي، حيث تعلن عمل الله فيها. وهنا نلاحظ في النص الآتي:
أولاً: لم يقل الرسول “تتعلموا من المسيح” وإنما “ تَتَعَلَّمُوا الْمَسِيحَ“، فإن كان السيد المسيح هو المعلم الذي تلمذ الرسل والتلاميذ، فهو لا يزال حيًا في كنيسته يعلم خلال خدامه، لا يعلمنا عن آخرين إنما يعلمنا “ذاته” حيًا فينا. ربما هذا ما عناه الرسول بقوله: “ تَتَعَلَّمُوا الْمَسِيحَ“.
لقد تمتعت البشرية منذ بدء انطلاقها بالوصية يسندها الناموس الطبيعي، ثم الناموس الموسوي فيما بعد، لكن السيد المسيح جاء ليقدم أولاً “حياته” ننعم بها. نناله برًا وقداسة وقيامة تعمل فينا. لقد سمعناه وتمتعنا به فشاهدنا “الحَقٌّ فِي يَسُوعَ“، إذ قال: “أنا هو الحق”… بهذا الحق الذي صار لنا فيه لا يُمكن للباطل أن يرتبط بنا، ولا للحياة الباطلة أن يكون لها وجود في داخلنا.
ثانيًا: للمرة الثانية يربط الرسول بين التعاليم الصادقة “الحق” وبين الحياة المقدسة، إذ يؤكد أننا ما دمنا ننعم بالحق أي بالإيمان الصادق في المسيح يسوع ربنا، لابد أن نخلع الإنسان العتيق.
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم:
[ما يوجد بيننا ليس بالباطل بل الحق. كما أن التعاليم حقة هكذا الحياة أيضًا حقة!
الخطية هي “باطل” وبطلان، أما الحياة المستقيمة فهي “حق”.
العفة بالحقيقة هي حق، إذ لها غاية عظيمة، أما الفجور فتنتهي إلى لا شيء[40].]
إذن ليت إيماننا الصادق بالسيد المسيح “الحق” يلتحم بسلوكنا فيه بالحق، فيتجلى فينا بالإيمان العملي الحيّ أو العامل بالمحبة كقول الرسول بولس.
ثالثًا: إذ يحملون السيد المسيح في داخلهم يلتزمون برفض أعمال الإنسان العتيق، سالكين حسب الإنسان الجديد الذي صار لهم هبة مجانية خلال مياه المعمودية. هذا الإنسان الداخلي الجديد يلزم أن ينمو بلا توقف خلال تجديده اليومي غير المنقطع كعلامة على حيوية المؤمن. هذا ما عبّر عنه الرسول بولس هنا بقوله: “َتَتَجَدَّدُوا بِرُوحِ ذِهْنِكُمْ” ]٢٣[. وإذ يقصد بالذهن هنا “الإنسان الداخلي ككل”، فإن روح الذهن غالبًا ما يعني تجديد أعمال الروح القدس الساكن فيكم بالتجاوب معه؛ فالتجديد لا يمس الروح بل الذهن؛ فبالروح أو في الروح يتجدد إنساننا الداخلي كل يوم، كقول الرسول: “لذلك لا نفشل بل وإن كان إنساننا الخارج يفنى، فالداخل يتجدد يومًا فيومًا” (٢ كو ٤: ١٦).
يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على هذه العبارة (أف ٤: ٢٣) بالقول: [كيف يتم التجديد إذن؟ “في رُوحِ ذِهْنِكُمْ“، إذ من له الروح لا يتمم عملاً قديمًا إذ لا يحتمل الروح أعمال الإنسان القديم. يقول “في روح ذهنكم”، أي الروح الذي في ذهنكم[41].]
يكمل الرسول بولس حديثه، قائلاً: “وَتَلْبَسُوا الإِنْسَانَ الْجَدِيدَ الْمَخْلُوقَ بِحَسَبِ اللهِ فِي الْبِرِّ وَقَدَاسَةِ الْحَقِّ” ]٢٤[. فإن كان قد طالبنا بخلع أعمال الإنسان العتيق الفاسد ]٢٢[ لم يتركنا عراه، بل أسرع بالمطالبة بلبس الإنسان الجديد الحامل برّ المسيح وقداسته. ويلاحظ هنا الآتي:
أ. أنه لا توجد حالة وسطى، إما أن يُوجد الإنسان لابسًا الإنسان العتيق الفاسد لحساب عدو الخير المفسد، أو الإنسان الجديد لحساب الله. بمعنى آخر، لا يقبل الرسول أنصاف الحلول، إما أن يحمل الإنسان أسلحة الفساد أو أسلحة البرّ، منتميًا لإحدى المملكتين: مملكة إبليس أو مملكة الله!
في هذا يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لا يمكن أن يظهر الإنسان بلا عمل]، إما أن يكون عاملاً للرذيلة أو الفضيلة!
ب. الإنسان الجديد الذي نلبسه ليس من عندياتنا بل هو “الْمَخْلُوقَ بِحَسَبِ اللهِ فِي الْبِرِّ وَقَدَاسَةِ الْحَقِّ” ]٢٤[. إنه عمل خلقة، وكما يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم: [لقد خلقه (الله) في الحال، ليكون ابنًا، وذلك في المعمودية[42].]
البرّ الذي صار لنا في العهد الجديد هو في “َقَدَاسَةِ الْحَقِّ“، وليس كبرّ اليهود الرمزي، لأننا تمتعنا بالحق ذاته ساكنًا فينا، وعاملاً بنا على الدوام.
إن كنا قد نلنا عطية “الإنسان الجديد” كلباس برٍّ في المسيح يسوع برّنا، يليق بنا أن نجاهد لنوجد دائمًا بهذا اللباس، وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [كيف يتحدث مع أولئك الذين لبسوا (الإنسان الجديد) فعلاً؟ إنه يتحدث معهم عن الثوب النابع عن الحياة والأعمال الصالحة (في الرب). قبلاً (نالوا) الثوب خلال المعمودية، أما الآن فخلال الحياة اليومية والعمل، ليس “بِحَسَبِ شَهَوَاتِ الْغُرُورِ” ]٢٢[، وإنما “بِحَسَبِ اللهِ”
]٢٣[[43].]
يكمل القديس يوحنا الذهبي الفم حديثه، قائلاً: [من جانبنا يليق بنا ألاَّ نخلع ثوب البرّ الذي يدعوه النبي: “ثوب الخلاص” (إش ٦١: ١٠)، فنصبح على شبه الله؛ فإنه بالحق يلبس ثوب البرّ. إذن، فلنلبس هذا الثوب. كلمة “نلبس” إذن واضحة أنها لا تعني سوى عدم الخلع نهائيًا. استمع إلى النبي القائل: “لبس اللعنة مثل ثوبه، فدخلت في حشاه” (مز 109: 18)، وأيضًا: “اللابس النور كثوبٍ” (مز ١٠٤: ٢)… إذن ليتنا لا نلتحف بالفضيلة يومًا أو يومين أو ثلاثة بل نلتحف بها أبدًا، ولا نخلع هذا الثوب قط. فالإنسان لا يشوهه خلع ثوبه مثلما يشوهه خلع الفضيلة. بالأمر الأول يرى العبيد رفقاؤه عريه، أما بالأمر الثاني فيرى ربه والملائكة عريه. إن رأيت إنسانًا يذهب إلى الحمامات العامة عاريًا ألا تتضايق؟ فإن ذهبت أنت خالعًا هذا الثوب (الذي للبرّ) فماذا تقول؟[44].]
ج. دعوة الرسول بولس هنا لخلع كل تصرف خاص بالإنسان العتيق الفاسد وتجديد الذهن المستمر في حقيقتها هي دعوة لممارسة الحياة الجديدة أو المتجددة المستمرة والمنطلقة نحو السماويات عينها حيث تكون لنا هناك التسبحة الجديدة أيضًا. بمعنى آخر هي انطلاقة روحية نحو الأبديات خلال ترك الحرف القاتل والتمتع بجدة الحياة. يقول القديس چيروم: [حيث تكون التسبحة التي نترنم بها جديدة (رؤ ١٤: ٣) ويُنزع الإنسان العتيق نسير في جدة الروح لا عتق الحرف[45].] بهذا تتحول حياتنا إلى أغنية جديدة نترنم بها أو تسبحة عملية يعزفها روح الله على أوتار حياتنا الداخلية وتصرفاتنا الظاهرة مهيئًا إيانا للحياة الأخروية حيث التسبحة جديدة غير المنقطعة.
هذه الدعوة في حقيقتها تعلن مفهوم التقدم أو النمو الروحي أو التجديد المستمر. يقول الأب ثيؤدور في مناظرته مع القديس كاسيان: [إننا نحتاج إلى ما يقوله الرسول: “وَتَتَجَدَّدُوا بِرُوحِ ذِهْنِكُمْ” (أف ٤: ٢٣)، إلى التقدم الروحي، فنفسي ما هو وراء (في ٣: ١٣). فإن تغاضي الإنسان عن ذلك تكون النتيجة الحتمية هي النكوص والتقهقر من سيء إلى أسوأ… والفشل في اقتناء سمات جديدة، يعني وجود خسارة… إذ تبطل الرغبة في التقدم يوجد خطر التقهقر إلى الوراء[46].]
بعد أن تحدث عن النمو الروحي خلال تجديد الذهن المستمر ولبس أعمال الإنسان الجديد مع خلع أعمال الإنسان القديم، بدأ في شيء من التفصيل يقول:
أولاً: “لِذَلِكَ اطْرَحُوا عَنْكُمُ الْكَذِبَ وَتَكَلَّمُوا بِالصِّدْقِ كُلُّ وَاحِدٍ مَعَ قَرِيبِهِ، لأَنَّنَا بَعْضَنَا أَعْضَاءُ الْبَعْضِ” ]٢٥[.
يلاحظ في حديثه عن أعمال الإنسان الجديد ]٢٥–٣٢[ يتحدث عن علاقتنا بالغير، فالحياة المقدسة تمس أعماقنا الخاصة كما تمس علاقتنا بإخوتنا، فالكذب يسيء إلى عضويتنا المشتركة القائمة على الحق، والسرقة تسلب حق الغير عوض الاهتمام باحتياجات الآخرين… وهكذا كل تصرف خاطيء إنما يحزن روح الله الساكن فينا وفي الآخرين ]٣[.
الآن يحدثنا عن طرح الكذب والنطق بالصدق، فلا يكفي الجانب السلبي إنما نلتزم بالعمل الإيجابي، لنرفض الباطل ونقبل الحق، لأننا بعضنا أعضاء البعض، وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم ان الرسول يقول: [ليت العين لا تكذب على القدم، ولا القدم على العين. فإنه لو وجدت حفرة عميقة… فهل تكذب القدم على بقية الأعضاء ولا تنطق بالحق؟ لو شاهدت العين حية أو حيوانًا مفترسًا هل تكذب على الرِجْل؟![47]] وحدة الأعضاء معًا كجسد متكامل تستلزم بالضرورة صدق الأعضاء فيما بينها وإلاَّ انهار الجسد كله خلال الخداع والكذب. لذلك يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [ليته لا يخدع أحد قريبه، كما يقول المرتل هنا وهناك: “بشفاة ملقة، بقلب فقلب يتكلمون” (مز ١٢: ٢). فإنه ليس شيء، ليس ما يجلب عداوة أكثر من الخداع والخبث[48].]
ثانيًا: “اِغْضَبُوا وَلاَ تُخْطِئُوا. لاَ تَغْرُبِ الشَّمْسُ عَلَى غَيْظِكُمْ وَلاَ تُعْطُوا إِبْلِيسَ مَكَانًا” ]٢٦-٢٧[.
ليس مجال يهب لإبليس مكانًا بيننا مثل الغضب، فإن وجد الغضب له موضعًا ولم يشرق علينا السيد المسيح – شمس البرّ – بأشعة محبته فينا لينزع روح الغضب يستقر العدو ويملك!
- ماذا نفعل في يوم الدينونة، نحن الذين لم تغرب الشمس على غضبنا يومًا واحدًا بل سنوات كثيرة؟!
- أن تكون غضوبًا فهذا أمر بشري، أما أن تضع حدًا للغضب فهذا أمر مسيحي[49].
القديس چيروم
- الغضب المملوء عنادًا يجلب بالتأكيد ضررًا للنفس الغضوبة، أيا كان الشخص الذي تغضب عليه[50].
الأب يوسف
- أثناء النهار يقدر الكثيرون منا أن يسكنوا غضبهم، ويتغلبوا عليه، أما في الليل، فالمرء عند إنفراده، يرخي العنان لأفكاره، إذ يشتد هياج الأمواج وتثور الزوبعة بعنف عظيم، فلكي تتلافى، لذلك يطلب منا بولس الرسول أن نستقبل الليل متسالمين لكي لا يغتنم الشيطان فرصة إنفرادنا فيشعل فينا نار الغضب[51].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- إن كنتم غاضبين فلا تدعوا هذه الشمس تغرب على غيظكم… لئلا تكونوا غضبى فيغرب شمس البرّ (ملا ٤: ٢) عنكم وتمكثون في الظلام[52].
القديس أغسطينوس
- “اِغْضَبُوا وَلاَ تُخْطِئُوا” ]٢٦[.
لاحظ حكمته، فإنه يتحدث لكي يمنع خطأنا، ولكن إن كنا لا نصغي لا يتخلى عنا. من أجل أبوته الحانية لا يهجر من يخطىء.
كما أن الطبيب يصف العلاج للمريض، فإن لم يخضع لذلك لا يقسو عليه بل يحاول أن يقنعه حتى يحقق له الشفاء، هكذا يفعل بولس…
إنه يقول: “اطْرَحُوا عَنْكُمُ الْكَذِبَ” ]٢٥[. فإن كان الكذب ينتج غضبًا لذلك يكمل حديثه لعلاج الغضب. ماذا يقول؟ “اِغْضَبُوا وَلاَ تُخْطِئُوا“. حقًا إنه لأمر حسن ألاَّ تغضب قط، لكن إن سقط أحد في الألم (الغضب) ليته لا يسقط إلى درجة كبيرة؛ إذ يقول: “لاَ تَغْرُبِ الشَّمْسُ عَلَى غَيْظِكُمْ“. هل أنت مملوء غضبًا؟ يكفيك ساعة أو ساعتين أو ثلاث ساعات، لكن لا تدع الشمس ترحل وأنتما في حالة عداوة.
من أجل صلاح الله أشرق (شمس البرّ)، لا تدعه يرحل، بل يشرق…
إن كان الرب قد أرسله من أجل صلاحه العظيم (ليشرق عليك)، وقد غفر لك خطاياك، وأنت لا تريد أن تغفر لأخيك، فانظر أي شر عظيم هذا؟! …
“َلاَ تُعْطُوا إِبْلِيسَ مَكَانًا” ]٢٧[. إذ تكون في حرب مع آخر: “تعطي مكانًا لإبليس… فإنه ليس لإبليس مكانًا مثلما في عداوتنا…
كن في عداوة، لكن ضد إبليس، وليس ضد عضو معك[53].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- بإرادتك الشريرة تعطه مكانًا، فيدخل ويملك ويستغلك، إنه لا يمتلكك ما لم تعطه مكانًا[54].
القديس أغسطينوس
- [بخصوص الهروب من الشر]
ليس أحد يقترب نحو الخطر ويبقى في أمان لمدة طويلة، ولا يقدر خادم الله أن يهرب من إبليس إن أعاق نفسه بشباك إبليس[55].
الشهيد كبريانوس
ثالثًا: “لاَ يَسْرِقِ السَّارِقُ فِي مَا بَعْدُ، بَلْ بِالْحَرِيِّ يَتْعَبُ عَامِلاً الصَّالِحَ بِيَدَيْهِ، لِيَكُونَ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ مَنْ لَهُ احْتِيَاجٌ” ]٢٨[.
لا يكف السارق عن عمل الإنسان العتيق الذي هو جمع ما ليس له لحسابه الذاتي ظلمًا، وإنما يلزمه أيضًا أن يمارس أعمال الإنسان الجديد بالبذل والعطاء، فيعمل ويجاهد لكي يعطي.
يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم، قائلاً: [“لاَ يَسْرِقِ السَّارِقُ فِي مَا بَعْدُ” هذا لا ينزع الخطية، وإنما كيف تُنزع؟ إن عملوا، ومارسوا علاقات الحب مع الآخرين! إنه لا يريدنا أن نعمل فحسب وإنما نعمل ونتعب. لكي نمارس علاقات ودية مع الغير. فإن السارق أيضًا له أعمال لكنها أعمال شريرة[56].]
رابعًا: “لاَ تَخْرُجْ كَلِمَةٌ رَدِيَّةٌ مِنْ أَفْوَاهِكُمْ، بَلْ كُلُّ مَا كَانَ صَالِحًا لِلْبُنْيَانِ، حَسَبَ الْحَاجَةِ، كَيْ يُعْطِيَ نِعْمَةً لِلسَّامِعِينَ” ]٢٩[.
مرة أخرى لا يقف الأمر عند الجانب السلبي بالامتناع عن الكلمة الرديئة، إنما الالتزام بالكلمة البنّاءة لحساب الجماعة المقدسة، أو لحساب السامعين لها.
- لنطلب معونته لكي نتمم اجتهادنا بالعمل، ولنحفظ فمنا جاعلين عقلنا مزلاجًا له، لا يكون موصدًا دائمًا، بل ليفتح في الوقت الملائم… لذلك يقول الحكيم سليمان: “للسكوت وقت وللتكلم وقت” (جا ٣: ٣).
لو كان واجبًا أن يُفتح الفم دائمًا لما لزم له وجود باب، ولو كان واجبًا أن يغلق دائمًا لما لزمت له حراسة. فالباب والحراسة ليعمل كل شيء في وقته. يقول آخر: “اجعل لكلامك ميزانًا ومعيارًا” (سيراخ ٢٨: ٢٩)، أي أن نلفظ كلامنا باحتراس وازنين إياه ومفكرين فيه[57].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- تكلم بما يبني أخاك، ولا تزد كلمة واحدة على ذلك. فإن الله وهبك فمًا ولسانًا لهذا الهدف أن تشكره وتبني أخاك. فإن كنت تحطم هذا البناء، فخير لك أن تصمت ولا تتكلم قط… يقول المرتل: “يقطع الرب جميع الشفاه الملقة” (مز ١٢: ٣).
الفم هو علة كل الشرور؛ بالحري ليس الفم وإنما إساءة إستخدامه[58].
القديس يوحنا الذهبي الفم
إن كان الفم المقدس بروح الرب يبني الإخوة، فإن الفم الدنس يحطم البناء الإلهي فيهم، فيُحسب مقاومًا لعمل الروح القدس، لذا يحذرنا الرسول بولس، قائلاً:
“وَلاَ تُحْزِنُوا رُوحَ اللهِ الْقُدُّوسَ
الَّذِي بِهِ خُتِمْتُمْ لِيَوْمِ الْفِدَاءِ” ]٣٠[.
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم:
[هذا الأمر أكثر رعبًا وتحذيرًا، وذلك كما يقول في الرسالة إلى أهل تسالونيكي: “من يرذل لا يرذل إنسانًا بل الله (الذي أعطانا أيضًا روحه القدوس)” (١ تس ٤: ٨). هكذا هنا أيضًا، فإنك إن تفوهت بكلمة قاسية وضربت أخاك، فإنك لست تضرب أخاك إنما تُحزن الروح القدس. وقد أظهر بعد ذلك ما وُهب لك من نفع لكي يتشدد التوبيخ، قائلاً: “َلاَ تُحْزِنُوا رُوحَ اللهِ الْقُدُّوسَ، الَّذِي بِهِ خُتِمْتُمْ لِيَوْمِ الْفِدَاءِ“. إنه هو الذي يجعلنا قطيعًا ملوكيًا. هو الذي يفصلنا عن الأمور الماضية ولا يسمح لنا أن نسقط بين ما يعرضنا لغضب الله، فهل تحزنه؟
أنظر كيف أن كلماته محذرة، إذ يقول: “لأن من يرذل لا يرذل إنسانًا بل الله”، ويقطع بذلك هنا: “َلاَ تُحْزِنُوا رُوحَ اللهِ الْقُدُّوسَ، الَّذِي بِهِ خُتِمْتُمْ“. ليكن هذا الختم باقيًا على فمك؛ لا تحطم بصماته، فإن الفم الروحي لا ينطق بأمر كهذا.
لا تقل: “ماذا يعني إن نطقت بكلمة غير لائقة وشتمت إنسانًا، إنها كلا شيء!” إنه شر عظيم حتى وإن بدا لك كلا شيء…
لك فم روحي، فلتفكر أية كلمات تنطق بها وذلك حالما تتولد فيك، أية كلمات التلاميذ بفمك؟! أنت تدعو الله “أبًا”، فهل تهين أخاك في نفس الوقت؟!…
ليحفظ إله السلام ذهنك ولسانك ويحصنك بحصن منيع بمخافته، بربنا يسوع المسيح الذي له المجد مع الروح القدس إلى الأبد، آمين[59].]
إذ يذكر المؤمن أنه قد لبس الإنسان الجديد بالروح القدس الذي ختمه كقطيع ملوكي، فصار في ملكية المسيح لا في ملكية عدو الخير، لذا يليق به ألاَّ يرتد إلى أعمال الإنسان العتيق الخاصة بختم إبليس لا ختم روح الله القدوس، لهذا يقول الرسول:
“لِيُرْفَعْ مِنْ بَيْنِكُمْ كُلُّ مَرَارَةٍ وَسَخَطٍ وَغَضَبٍ وَصِيَاحٍ وَتَجْدِيفٍ مَعَ كُلِّ خُبْثٍ.
وَكُونُوا لُطَفَاءَ بَعْضُكُمْ نَحْوَ بَعْضٍ، شَفُوقِينَ،
مُتَسَامِحِينَ، كَمَا سَامَحَكُمُ اللهُ أَيْضًا فِي الْمَسِيحِ” ]٣١-٣٢[.
هكذا وضع كل أنواع الشر الخاصة بعلاقتنا بالآخرين خاصة خلال الفم في كفة واللطف والشفقة في الكفة الأخرى المقابلة، إذ خلط بين أعمال الظلمة وأعمال النور، وبين تصرفات الإنسان القديم الفاسد والامتثال بالسيد المسيح خلال الإنسان الداخلي الجديد الموهوب لنا بروحه القدوس.
إذ يعمل روح الله فينا يتجلى “السيد المسيح” مشتهي الأمم، فنحمل عذوبة داخلية لا مرارة، نحيا في شركة الحياة السماوية العذبة عوض الحياة المرة، لذا قيل: “لِيُرْفَعْ مِنْ بَيْنِكُمْ كُلُّ مَرَارَةٍ” ]٣١[.
في شيء من التفصيل يحدثنا القديس يوحنا الذهبي الفم عن “المرارة” التي هي داخل الجسد متى أفرزت مادة المرارة أفسدت الجسم كله، هكذا النفس متى قدمت أعمالاً مرة، أُصيبت بمرارة داخلية ومررّت حياة الكثيرين… [ليس شيء فاقد القوة مثل المرارة، فإنها تجعل البشر أغبياء وفاقدي الحس[60].]
لننزع عنا أعمال الإنسان القديم فلا نحمل مرارة من جهة إنسان، وبالتالي لا توجد جذور للسخط أو الغضب أو الصياح أو التجديف بخبث من جهة إخوتنا، بل على العكس نحمل لطفًا وشفقةً وتسامحًا كما سامحنا الآب بدم ابنه الوحيد.
- إذ يقودنا الطوباوي بولس بعيدًا عن الخطية يدخل بنا إلى الفضيلة. لأنه أية منفعة لانتزاع كل الأشواك إن لم تُبذر البذور الصالحة؟…
الذي لا يحمل “مرارة” ليس بالضرورة يكون “لطيفًا”، وغير “الغضوب” ليس بالضرورة يكون “شفوقًا”، فالحاجة ماسة للجهاد حتى نبلغ هذا السمو (اللطف والشفقة)… لقد انتزع البذور الرديئة، الآن يحثنا أن نضع البذور الصالحة.
“َكُونُوا لُطَفَاءَ“، لأنه إذ نُزعت الأشواك بقي الحقل عاطلاً، وسينتج أعشابًا غير نافعة من جديد، الحاجة ملحة لإشغاله بما هو صالح…
لقد أنتزع “الغضب” ليضع “اللطف”، وأزال “المرارة” ليضع “الشفقة”، وخلع “الخبث” و”الدهاء” ليزرع “العفو” عوضًا عنهما[61].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- هنا نجد الحكم، إن كان المسيح غفر لك خطاياك التي هي أكثر من سبعين مرة سبع مرات، إن كان يسامحك هكذا… فهل تهمل أنت في الغفران (لأخيك)؟…
قد وجد المسيح آلاف من الخطايا فوق الخطايا، ومع ذلك غفرها جميعًا، إذن لا تنزع رحمته عنك، بل اطلب غفران هذه الخطايا الكثيرة[62].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- “كَمَا سَامَحَكُمُ اللهُ أَيْضًا فِي الْمَسِيحِ” ]٣٢[.
هذا يحوي مقصدًا عاليًا، لم يقل سامحنا فحسب، دون مخاطرة أو تكلفة، وإنما خلال ذبيحة ابنه، فلكي يسامحك قدم ابنه ذبيحة، بينما حينما تسامح أنت غالبًا ما يتحقق ذلك دون مخاطرة من جانبك أو تكلفة، ومع ذلك فلا تهب السماح[63].
القديس يوحنا الذهبي الفم
[1] In Eph. hom 8.
[2] In 1Cor. hom 1: 1, PG 61: 13.
[3] Unity of Church 5.
[4] In Eph. hom 9.
[5] In Eph. hom 9.
[6] In Eph. hom 9.
[7] On the advantage of Patience, 15.
[8] Unity of Church 8.
[9] للمؤلف: مقدمات في علم الباترولوچى، طبعة ١٩٨٠، ص ١٣٦.
[10] In Eph. hom 10.
[11] Ser. on N.T. 21.
[12] Unity of Church 8.
[13] Adv. Haer 1: 10: 1.
[14] In Eph. hom 11.
[15] Ibid.
[16] Comm. on St. John 2: 2.
[17] Treat. on Christ and Antichrist 3.
[18] On Mortality 6.
[19] Adv. Haer 3: 3: 1.
[20] Source Chret. Vol 36, p 65.
[21] Ep. 73: 26.
[22] In Eph. hom 11.
[23] Against Jovinainus 2: 23.
[24] Comm..on Easter Hymn.
[25] In Eph. hom 11.
[26] Adv. Haer 3: 24.
[27] In 2Cor. PG 61: 417
[28] In Eph. hom 11.
[29] In Eph. hom 11.
[30] In Eph. hom 11.
[31] Cassian: Conf. 7: 6.
[32] Ibid. 21: 5.
[33] In Eph. hom 11.
[34] In Eph. hom 11.
[35] In Eph. hom 11.
[36] Ibid 12.
[37] Ibid 13.
[38] Ibid.
[39] Ibid.
[40] Ibid.
[41] Ibid.
[42] Ibid.
[43] Ibid.
[44] Ibid.
[45] Ep. 69: 7.
[46] Cassian: Conf. 6: 14.
[47] In Eph. hom 14.
[48] Ibid.
[49] Ep 13; 130: 13.
[50] Cassian: Conf. 16: 7
[51] المطران ابيفانيوس: الآمالي الذهبية في مقالات لأبينا الجليل في القديسين يوحنا الذهبي الفم، ١٩٧٢، ص ١٣٩، ١٤٠.
[52] Ser. on N.T. Lessons 8: 7.
[53] In Eph. hom 14.
[54] Ser. on N.T. 17: 4.
[55] Ep. 61: 2.
[56] In Eph. hom 14
[57] المطران يبيفانيوس، ص ٣٩.
[58] In Eph. hom 14.
[59] In Eph. hom 14.
[60] Ibid 15.
[61] In Eph. hom 16.
[62] Ser. on N.T. 33: 3.
[63] In Eph hom 17.