تفسير رسالة أفسس 1 الأصحاح الأول – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير رسالة أفسس 1 الأصحاح الأول – القمص تادرس يعقوب ملطي
سرّ خطة الله “شعب الله المسياني”
- الكنيسة وسرّ المعرفةص ١.
- الكنيسة وسرّ المصالحة ص ٢.
- الكنيسة الجامعة وسرّ المسيح ص ٣.
الأصحاح الأول
الكنيسة وسرّ المعرفة
هذه الرسالة في جوهرها “تسبحة حب” تشهد النفس التي تعرفت على مركزها بثبوتها في المسيح، لا كفردٍ منعزلٍ، وإنما بالحري كعضو حيّ في الجسد المقدس خلال إتحاده بالرأس، لتكون على الدوام فيه، تنعم خلاله بمعرفة “سرّ المسيح” على مستوى الخبرة السماوية وبنظرة إنقضائية مجيدة. بمعنى آخر، حمل هذا الأصحاح خطين واضحين هما: “في المسيح“، و”معرفة سرّ الله“. فنحن كنيسة الله أو شعبه المقدس لأننا في المسيح، أما غاية إيماننا فهو المعرفة الإلهية، لا على مستوى السفسطة والجدال، وإنما على مستوى قبول إعلان الله لنا عن ذاته وأسراره.
- البركة الرسولية ١ – ٢.
- تسبحة الكنيسة: “في المسيح” ٢ – ١٤.
- شفاعة الرسول لنوال المعرفة ١٥ – ٢٣.
1. البركة الرسولية
“بُولُسُ، رَسُولُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ بِمَشِيئَةِ اللهِ،
إلي الْقِدِّيسِينَ الَّذِينَ فِي أَفَسُسَ،
وَالْمُؤْمِنِينَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ.
نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلاَمٌ مِنَ اللهِ أَبِينَا وَالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ” [١- ٢].
تحمل هذه الافتتاحية روح الرسول وفكره، فغالبًا ما يقدم الرسول نفسه للكنيسة التي يكتب إليها بكلمات بسيطة تحمل عمقًا وتناسقًا مع موضوع الرسالة وهدفها، كما يبدأ بتقديم البركة الرسولية التي هي عطية الله نفسه للكنيسة. ويلاحظ في هذه الافتتاحية الآتي:
أولا: لما كان موضوع الرسالة هو “الكنيسة الجامعة”، فإن قيام هذه الكنيسة هو من عمل الله نفسه الذي أرسل ابنه متجسدًا ليقيمها جسدًا له، واهبًا إياها حياته المقدسة حياة لها، لذلك نجده يركز على النقاط التالية:
أ. أنه رسول “بِمَشِيئَةِ اللهِ“، ليس له فضل في ممارسة العمل الرسولي، خاصة بكونه رسول الأمم، يدعوهم للإتحاد مع اليهود في جسد واحد. اختاره الله بمشيئته رسولاً ليحقق غايته الإلهية فيهم. حقًا إن تعبير “بِمَشِيئَةِ اللهِ” ليس غريبًا عن الرسول في افتتاحية رسائله، لكن ما تتسم به هذه الرسالة هو تكراره التعبير ست مرات (١: ١، ٥، ٩، ١١، ٥: ١٧، ٦: ١٦)، الأمر الذي لا نجده في الرسائل الأخرى[1]، بل وفي الأسفار الأخرى سوى إنجيل يوحنا، ذلك لأن هذه الرسالة تكشف “سرّ المسيح” بكونه سرّ الكنيسة المجتمعة من اليهود والأمم، هذا السرّ يحقق مشيئة الآب الأزلية، ويتمم مسرته نحو البشرية.
يفضل بعض الدارسين ترجمة “مشيئة الله” بـ “قرار الله[2]“، إذ يرون في النص ما يعني ليس مجرد الإرادة بل حركة عمل الله الحكيم والقدير والحيّ ككائن محب للبشر، أعلن هذه الحركة الأزلية خلال التاريخ بتدبيره الإلهي.
ب. يدعوهم “قديسين” مع أنه يكتب إلي أعضاء من أصل أممي كان لا يزال بعض المسيحيين من أصل يهودي لا يستريحون للانضمام إليهم تمامًا، لذا أراد الرسول أن يؤكد بأن الله الذي اختار شعب اليهود قبلاً كشعب مقدس خاص به، قد فتح باب الإيمان – وهذا هو سرّ دعوتهم هنا بالمؤمنين – ليضّم الأمم دون أن يفقد الشعب قدسيته. لقد كرر هذا التعبين “قديسين” ١٤ مرة في هذه الرسالة، بطريقة لا نجدها إلاَّ في الرسالة إلي أهل رومية مع ملاحظة أن الأخيرة أطول منها، بمعنى آخر تكرار هذا التعبير هنا عني تأكيد استمرارية قدسية شعب الله القديم بعد اتساعه ليتقبل معه الأمم خلال المسيح يسوع[3].
يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على تعبير “القديسين” هنا بقوله: [لاحظ أنه يدعو الرجال مع نسائهم وأطفالهم وخدمهم “قديسين”. هؤلاء الذين دعاهم بهذا الاسم كما هو واضح من نهاية الرسالة، إذ يقول: “أَيُّتهَا الزوجات (النِّسَاءُ) اخْضَعْنَ لِرِجَالِكُنَّ” (٥: ٢) وأيضًا: “أَيُّهَا الأَوْلاَدُ، أَطِيعُوا وَالِدِيكُمْ” (٦: ١)، “أَيُّهَا الْعَبِيدُ (الخدم)، أَطِيعُوا سَادَتَكُمْ” (٦: ٥). تأملوا مقدار البلادة التي استحوذت علينا الآن، كيف صارت الفضيلة نادرة الآن بينما كان الفضلاء كثيرين جدًا فقيل عن العلمانيين أنهم قديسون ومؤمنون[4].]
قرار الله أو مشيئته ليس فقط أن يختار القديس بولس رسولاً، وإنما أن يتمتع الأمم (رجالاً ونساءً، أطفالاً وشيوخًا، سادةً وعبيدًا) بالحياة المقدسة، وذلك خلال “المسيح” بالإيمان به.
الرسالة إلى أهل أفسس في مجملها يمكن أن تُفهم كمقالٍ عن أساس التقديس ووسائله وامتداده وغايته[5].
هذا ويؤكد العلامة أوريجينوس أن المؤمن إذ يُدعى هنا قديسًا، فذلك لأنه قد نال إمكانيات الحياة المقدسة (خلال مياه المعمودية وعمل الروح القدس)، يلتزم أن ينطلق في هذه الحياة المقدسة لينمو بلا توقف، وإلاَّ فقد قدسية الحياة.
ج. كثيرًا ما يربط الرسول النعمة بالسلام معًا في البركة الرسولية، بكونهما هبتا الله لكنيسته، غير أنه يكرر تعبير “السلام” في هذه الرسالة سبع مرات بطريقة فريدة (فيما عدا الرسالة إلي رومية) ليعلن أساس الرسالة وإمكانية الوحدة والانسجام بين كل البشر – يهودًا كانوا أم أممًا – وذلك في المسيح[6].
ويلاحظ أن الرسول بولس هنا ينسب “النعمة والسلام” للآب كما للابن بكونهما عطيتهما بلا مفاضلة بين الأقنومين؛ هما عطية الآب كما عطية الابن.
وتقديم هذه البركة الرسولية لا يعني أن مؤمني أفسس كانوا فاقدين النعمة والسلام قبل الرسالة، وإنما كانوا يتوقون دائمًا لنوال المزيد. فالنعمة كما السلام هما عطيتان غير جامدتين ينالهما المؤمن ويفرح بهما، فيشتاق إلي المزيد، لعله بالنعمة يبلغ إلي التشبه الكامل بالسيد المسيح والتمتع بشركة سماته، وبالسلام تتحقق مصالحته مع الله والناس على مستوى أعمق. بهذا يتحقق فيه التطويب: “طوبى للجياع والعطاش إلي البرّ لأنهم يشبعون” (مت ٥: ٦)، ولا يسقط تحت التوبيخ: “لأنك تقول إني أنا غني وقد استغنيت ولا حاجة لي إلى شيء، ولست تعلم أنك أنت الشقي والبائس وفقير …” (رؤ ٣: ١٧).
ثانيًا: كما سبق فأكدنا[7] أن الرسول بولس حاول معالجة تسرب بعض الأفكار الغنوسية إلي المسيحيين مثل التمييز بين إله العهد القديم كإله عادل قاسي، وإله العهد الجديد كإله رحيم مخلص. لذا إذ يقدم النعمة الإلهية والسلام السماوي ينسبهما للآب ويدعوه “أبانا” معلنًا أبوته وحنانه، وللرب يسوع المسيح معلنًا أنه واحد مع الآب في الجوهر، يحمل ذات إرادته.
2. تسبحة الكنيسة: “في المسيح”
اقتطف الرسول جزءًا من تسبحة غالبًا ما كانت الكنيسة تترنم بها في العصر الرسولي، حملت هذه التسبحة جوًا سماويًا يليق بطبيعة الكنيسة كحياة سماوية “في المسيح السماوي”، إذ يقول:
“مُبَارَكٌ اللهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ،
الَّذِي بَارَكَنَا بِكُلِّ بَرَكَةٍ رُوحِيَّةٍ فِي السَّمَاوِيَّاتِ فِي الْمَسِيحِ” [3].
يرى كثير من الدارسين[8] أن هذه التسبحة لها سمات خاصة بالمعمودية – ربما كانت تستخدم في ليتورچية العماد – إذ تشير إلي بركات المعمودية وفاعليتها، مثل التبني للآب بيسوع المسيح، وغفران الخطايا، والتمتع بالميراث، وختم الروح [5، 7، 14، 13] .
بدأ التسبحة بالتعبير الذي كانت تستخدمه السامية: “مبارك“، معلنًا أن كل عطية أو بركة سماوية هي من مراحم الله وأعماله القديرة.
وقد دعى بركات العهد الجديد “بَرَكَةٍ رُوحِيَّةٍ فِي السَّمَاوِيَّاتِ” ليميزها عما تمتع به اليهود في العهد القديم من بركات زمنية، إذ يقول القديس يوحنا الذهبي الفم:
[هنا يلمح إلي بركات اليهود، فتلك كانت بركة أيضًا، لكنها لم تكن بركة روحية، كيف؟ “يباركك ويبارك ثمرة جسدك” (تث ٧: ١٣)، “ويبارك خروجك ويبارك دخولك” (تث ٢٨: ٦). لكن الأمر هنا مختلف، كيف؟ “بكل بركة روحية”.
ماذا يعوزك بعد؟ لقد صرت خالدًا، حرًا، ابنًا، مبررًا، أخًا، شريكًا في الميراث، تملك مع المسيح وتتمجد مع المسيح. كل شيء يُوهَب مجانًا.
قال: “كيف لا يهبنا معه أيضًا كل شيء؟!” (رو ٨: ٣٢). باكوراتك تهيم بها الملائكة والشاروبيم والسيرافيم. ماذا يعوزك بعد؟ “بكل بركة روحية“! لا شيء جسدي هنا. بهذا استبعد البركات السابقة، إذ قال: “في العالم سيكون لكم ضيق” (يو ١٦: ٣٣)، لكي يرشدنا إلي هذه. لأنه كما أن الذين نالوا الجسديات لم يقدروا أن يسمعوا عن الروحيات، هكذا من يهدفون نحو الروحيات لا يستطيعون نوالها ما لم يتركوا الجسديات.
أيضًا، ما هي البركة الروحية في السماويات؟ يعني أنها ليست على الأرض كما كان الحال مع اليهود: “تأكلون خير الأرض” (إش ١: ١٩)، “إلي أرض تفيض لبنًا وعسلاً” (خر ٣: ٨)، “يبارك الرب أرضك” (تث ٧: ١٣).
لا نرى هنا شيئًا من هذا القبيل، فماذا نرى؟ “إن أحبني أحد يحفظ كلامي ويحبه أبي، وإليه نأتي (أنا وأبي)، وعنده نصنع منزلاً” (يو ١٤: ٢٣). “فكل من يسمع أقوالي هذه ويعمل بها أشبه برجل عاقل بنى بيته على الصخر، فنزل المطر، وجاءت الأنهار، وهبت الرياح، ووقعت على هذا البيت، فلم يسقط، لأنه كان مؤسسًا على الصخر” (مت ٧: ٢٤، ٢٥).
وما هو هذا الصخر إلاَّ تلك السماويات البعيدة عن كل تغير؟ يقول المسيح. “فكل من يعترف بي قدام الناس أعترف أنا أيضًا به قدام أبي الذي في السماوات، وكل من ينكرني أنكره أنا أيضًا” (مت ٢٠: ٣٢، ٣٣). وأيضًا: “طوبى للأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله” (مت ٥: ٨). وأيضًا: “طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السماوات” (مت ٥: ٣)، وأيضًا: “طوبى للمطرودين من أجل البرّ لأن لهم ملكوت السماوات” (مت ٥: ١١). لاحظ كيف يتحدث في كل موضع عن السماء لا عن الأرض أو الأرضيات. وأيضًا: “فإن وطننا (سيرتنا) نحن، هو في السماء التي منها أيضًا ننتظر مخلصًا هو الرب يسوع المسيح” (في ٣: ٢٠)، وأيضًا: “اهتموا بما فوق لا بما على الأرض” (كو ٣: ٢)[9]].
دعاها أيضًا بركة “روحية” نسبة إلى الروح القدس، لأننا ننال عطايا الآب خلال إتحادنا بالابن وذلك بفعل الروح القدس. بمعنى آخر الروح القدس، هو روح الشركة التي يثبتنا في الابن، فننال بفيض ما هو للابن. لهذا إذ صعد السيد المسيح إلي السماء أرسل روحه القدوس على الكنيسة يحملها إليه لتنعم بالعطايا الإلهية.
إن كان الله الآب يهب كل بركة روحية في السماويات، إنما يهبها “في المسيح” [3]، فإنه إذ يرانا أبناء له بثبوتنا في الابن الوحيد “المحبوب” [6] يفيض ببركاته الإلهية علينا، كأعضاء جسد المحبوب. نصير “في المسيح” محبوبين لديه كما هو محبوب.
يرى الرسول بولس أن سرّ عضويتنا الكنسية وسرّ حياتنا مع الله وتمتعنا بكل بركة هو أننا “في المسيح“، الأمر الذي امتص كل تفكيره، حتى قال أحد الدارسين ان كل أفكار الرسول بولس اللاهوتية يمكن أن تتلخص في كلمتين “في المسيح“. فحين يتحدث عن لاهوتيات أو كنسيات أو سلوكيات خاصة أو علاقات أسرية أو اجتماعية إنما من خلال هذه النظرة أننا “في المسيح”، نحمل فكر المسيح وحياته عاملة فينا. فلا عجب إن رأيناه في هذه الرسالة القصيرة يكرر هذه العبارة ومرادفاتها مثل “في المحبوب” أو “فيه” أكثر من ثلاثين مرة. ولعل تكرارها هنا على وجه الخصوص إنما لتأكيد أن إتحاد الجماعة المقدسة المختارة من الأمم يتحقق فيه وتحت قيادته.
“في المسيح” ليس فقط نلنا كل بركة روحية وإنما تمتعنا باختيار الآب لنا كبنين له، إذ سبق فعرفنا كأعضاء في جسد ابنه المحبوب. هذا ما يؤكده الرسول بقوله:
“كَمَا اخْتَارَنَا فِيهِ قَبْلَ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ،
لِنَكُونَ قِدِّيسِينَ وَبِلاَ لَوْمٍ قُدَّامَهُ فِي الْمَحَبَّةِ” [4].
ماذا عني الرسول بهذا الاختيار الذي شغل فكره وقلبه وكل أحاسيسه ليتكلم عنه بطرق متنوعة في مواضع كثيرة في رسائله؟
بلا شك لا يقصد تجاهل “الحرية الإنسانية” في قبول الإيمان أو رفضه، فإن الله في محبته للإنسان لا يتعامل معه كما مع آلة جامدة أو كما مع قطع من الشطرنج يحركها بإصبعه إنما يتعامل مع كائن عاقل وهبه الحرية، له أن يقبل الله ويتجاوب مع محبته ودعوته أو يرفض دون إلزام.
إنما ما عناه الرسول أن الله الذي يريد أن الكل يخلصون، والذي في محبته يدعو الجميع لنوال فيض نعمته المجانية بسابق معرفته رآنا في ابنه المحبوب فعيننا بلا فضل فينا، اختارنا دون إلزام من جانبه عارفًا أننا نقبل دعوته، إذ يقول الرسول: “لأن الذين سبق فعرفهم سبق فعينهم ليكونوا مشابهين صورة ابنه، ليكون هو بكرًا بين إخوة كثيرين، والذين سبق فعينهم فهؤلاء دعاهمٍ أيضًا، والذين دعاهم فهؤلاء بررهم أيضًا، والذين بررهم فهؤلاء مجدهم أيضًا” (رو ٨: ٢٩، ٣٠).
لقد أراد الرسول أن يؤكد حقيقة هامة وهي أنه وإن كنا قد تجاوبنا مع دعوة الله لكن الفضل ليس فينا، وإنما ما نناله هو هبة مجانية، أُعطيت لنا في استحقاقات الابن الباذل حياته عنا، الفضل كله يرجع إلي مقاصد الله الخلاصية ونعمته، كقول الرسول: “الذي خلصنا دعانا دعوة مقدسة لا بمقتضى أعمالنا بل بمقتضى القصد والنعمة التي أُعطيت لنا في المسيح يسوع قبل الأزمنة الأزلية، وإنما أُظهرت الآن بظهور مخلصنا…” (٢ تي ١: ٩، ١٠).
هذا ما أحسه القديس إكليمنضس السكندري حينما تحدث عن الإيمان والحرية الإنسانية، مؤكدًا أن الحرية الإنسانية والعقل هما هبة إلهية، لا يقدران أن يقدما للإنسان حياة الشركة دون العون الإلهي. فإن كان الإيمان من صنع الإرادة الحرة، لكنه هبة إلهية[10]. إنه يشبه لاعب الكرة الذي له الحرية أن يمسك بالكرة أو يرفض، لكنه لا يقدر أن يمسك بها ما لم تُقذف إليه[11]. هكذا يمكننا أن نمسك بالإيمان أو نرفضه، لكننا في حاجة إلي يد الله تقدمه لنا. هذا الفكر استقاه تلميذه العلامة أوريجينوس الذي تحدث بفيض عن نعمة الله المجانية مؤكدًا: [ليس شيء من عطايا الله للبشرية يُعطى كوفاء لدين، بل كلها تُعطى من قبيل نعمته[12]]. وفي نفس الوقت يؤكد: [إن نزع عنصر حرية الإرادة عن الفضيلة تدمر كيانها[13]].
يؤكد الرسول أن اختيارنا هذا قد تحقق “فيه“، وأنه لم يحدث جزافًا بل بخطة إلهية “قَبْلَ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ” [٤]. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [ماذا يعني: “اختارنا فيه”؟ يعني أنه تم بواسطة الإيمان فيه (به) أي في المسيح. فقد دبر هذا لنا بغبطة قبل أن نولد بل وأكثر من هذا “قبل تأسيس العالم”. ما أجمل هذه الكلمة: “تأسيس“. كأنه يشير إلي العالم على أنه ساقط من ارتفاع شاهق جدًا. نعم، إن سمو الله عالٍ جدًا بطريقة تفوق الوصف، سموه بعيد جدًا لا من جهة المكان، وإنما من جهة إمكانية الطبيعة للحديث عنه[14].]
ماهو غاية الإختيار؟
يجيب الرسول: ” لِنَكُونَ قِدِّيسِينَ وَبِلاَ لَوْمٍ قُدَّامَهُ فِي الْمَحَبَّةِ” [4]. يمكننا أن ندرك مقاصد الله منا في هذه العبارة الرسولية العميقة، إذ نلاحظ:
أولاً: يريد فينا أمرين، أن يرانا الآب نحمل سماته، فنكون قديسين كما هو أيضًا قدوس، إذ يوصينا: “إني أنا الرب إلهكم فتتقدسون وتكونون قديسين لأني أنا قدوس” (لا ١١: ٤٤)؛ ويقول القديس بطرس: “لأنه مكتوب كونوا قديسين، لأني أنا قدوس” (١بط ١: ١٦). وأيضًا أن نكون “بلا لوم”؛ هذه السمة كانت لازمة وضرورية في ذبائح العهد القديم (لا ١: ٣، ١٠).
كأنه يريدنا أن نقدم أنفسنا ذبائح حية بلا عيب خلال الكاهن الأعظم والذبيح في نفس الوقت ربنا يسوع. يريدنا “َبِلاَ لَوْمٍ قُدَّامَهُ فِي الْمَحَبَّةِ”، أي ذبيحة حب دائمة تحمل رائحة المسيح الذكية. هذه هي غاية الله فينا أن يرانا نحمل سماته (القداسة) وأن نتحد بالذبيح كذبيحة حب دائمة يشتمها رائحة رضا. لذلك يقول الرسول بولس: “فأطلب إليكم أيها الإخوة برأفة الله أن تقدموا أجسادكم ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله عبادتكم العقلية” (رو ١٢: ١).
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم ارتباط القداسة بالحياة التي بلا لوم تحمل إشارة إلي وحدة الإيمان مع الحياة العملية، فإن كانت القداسة هي عطية الله القدوس، خلال هذه العطية يلزمنا أن نسلك بلا لوم، بمعنى آخر نترجم عطيته في سلوكنا العملي، إذ يقول: [القديس هو ذاك الشريك في الإيمان؛ والذي بلا لوم هو ذاك الذي يسلك حياة لا غبار عليها[15].]
ثانيًا: يؤكد الرسول أن هذه القداسة والحياة بلا لوم، إنما تكون “قدامه“، بمعنى أن ما تحمله الكنيسة من قداسة وحياة بلا لوم هو موضع اعتزاز الله نفسه، كالعريس الذي يريد جمال عروسه وزينتها الداخلية لنفسه كما يقدم عذوبة حبه العميق لها. ما أصعب على نفس الرجل أن يجد زوجته تحمل صورتين: إحداهما مشرقة أمام الغير والأخرى كئيبة في لقائها معه على إنفراد. فإن ما يبهجه اللقاء الداخلي والعلاقة الزوجية على صعيد الوحدة العميقة الصادقة. فالله يريدنا نحن، لنكون له، كما هو لنا. هذا ما تؤكده هذه الرسالة، إذ جاء فيها: “لِكَيْ يُحْضِرَهَا لِنَفْسِهِ كَنِيسَةً مَجِيدَةً، لاَ دَنَسَ فِيهَا وَلاَ غَضْنَ أَوْ شَيْءٌ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ، بَلْ تَكُونُ مُقَدَّسَةً وَبِلاَ عَيْبٍ” (٥: ٢٧).
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [إنه لا يتطلب مجرد القداسة والخلو من اللوم، إنما يريدنا أن نظهر هكذا “أمامه”. يوجد أشخاص يبدون أمام الناس قديسين وبلا لوم مع أنهم يشبهون القبور المبيضة ولابسي ثياب الحملان. لا يكن الأمر هكذا، وإنما كما يقول النبي: “كطهارة يدي” (مز ١٨: ٢٤). أية طهارة؟ التي تكون “أمامه”، إذ يطلب القداسة التي تتطلع إليها عين الله[16]].
ثالثًا: يؤكد الرسول أن نكون قديسين بلا لوم قدامه “فِي الْمَحَبَّةِ” [٤]. لعله يقصد أن اختيار الله تم خلال محبته الإلهية الباذلة (يو ٣: ١٨)، وأيضًا تقديسنا وسلوكنا بلا عيب يتحققان خلال نعمته المجانية التي تفيض خلال محبته الدائمة. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [ما كان يمكن للفضيلة وحدها أن تخلص أحدًا بدون المحبة. اخبرني، ماذا كان ينفع بولس لو أظهر ما أظهره لو لم يدعه الله في البداية حيث أحبه واجتذبه إلي نفسه؟![17]]
ربما قصد بالمحبة أن ما يشتمه الله فينا، إذ نقف أمامه قديسين بلا لوم هذه هي “المحبة” بكونها علامة التصاقنا به وإتحادنا معه.، بل وعلامة تشبهنا به بكونه “الله محبة” (١ يو ٤: ٨). نقف قدامه، فيزول كل ماضينا لتبقى المحبة التي لا تسقط أبدًا (١كو ١٣: ٨).
رابعًا: تحققت محبة الآب الفائقة نحونا، كما تتحقق محبتنا لله خلال الحياة المقدسة التي بلا لوم خلال نعمة البنوة التي ننالها بالمسيح يسوع ابن الله “المحبوب”، إذ يقول:
“إِذْ سَبَقَ فَعَيَّنَنَا لِلتَّبَنِّي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ لِنَفْسِهِ،
حَسَبَ مَسَرَّةِ مَشِيئَتِهِ،
لِمَدْحِ مَجْدِ نِعْمَتِهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْنَا فِي الْمَحْبُوبِ” [5-6].
إن كان القول “في المحبوب” هو تعبير ليتورچي خاص بالمعمودية في غاية القوة (مر ١: ١١) كما يرى كثير من الدارسين الغربيين، بهذا نرى أن الله قد عيّن كنيسته لتنال البنوة خلال المعمودية، فتتحقق مسرة مشيئة الآب بقبول أعضاء جدد كأبناء له، لا لفضل فيهم وإنما خلال نعمة المعمودية المجانية، فيعلن بالأكثر “ِمَدْحِ مَجْدِ نِعْمَتِهِ“، بتجلي محبة الله الفائقة والمستمرة.
في المحبوب نلنا التبني فصرنا أبناء، لنا حق شركة الميراث، لكن شتان ما بين الابن المحبوب وحيد الجنس، وبين الأبناء بالتبني، إذ يقول القديس أغسطينوس: [أقام الآب شركاء في الميراث مع ابنه الوحيد، لكنهم ليسوا مولودين مثله من جوهره، إنما تبناهم ليصيروا أهل بيته[18]]، [نحن أبناء ذاك الذي أقامنا هكذا بإرادته، لكننا لسنا مولودين من ذات طبيعته. في الحقيقة نحن ولدنا لكن كما قيل بالتبني، نحن مولودون خلال نعمة تبنيه لنا وليس بالطبيعة[19].]
خامسًا: تحققت محبة الآب بقبولنا أبناء لكن “بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ” [5]. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [أما تلاحظ أنه لا يتحقق شيئًا خارج المسيح؟ وأيضًا خارج الآب؟ واحد سبق فعيّن، والثاني يقربنا إليه… عظيمة حقًا هي البركات الممنوحة، ومما يزيدها عظمة أنها خلال المسيح، إذ لم يرسل عبدًا مع أنه مُرسل للعبيد، وإنما أرسل الابن الوحيد نفسه[20].]
سادسًا: إن ما تحقق بالنسبة لنا خلال محبة الآب الأزلية ونعمة ابنه وحيد الجنس لننال البنوة إنما هو موضع سرور لله، إذ يقول “حَسَبَ مَسَرَّةِ مَشِيئَتِهِ” [5]. هنا يميز القديس يوحنا الذهبي الفم بين مشيئة الله السابقة حيث يريد بغيرة أن الكل يخلصون، وبسرور أن يهب البنوة للجميع، وبين المشيئة (السماح) الذي صار خلال إصرارنا على الشر، فنسقط تحت الهلاك. بمعنى آخر حسب مسرة الله وغيرته يود لنا البنوة والقداسة المتجلية في المحبة، لكنه لا يلزمنا قسرًا، فإن رفضنا يسقطنا تحت الهلاك بسماحٍ إلهيٍ كثمرة طبيعية لما قبلناه بإرادتنا.
سابعًا: إن كان الله في مسرة مشيئته قدم لنا هذه النعمة السماوية المجانية، فهي أيضًا: “لِمَدْحِ مَجْدِ نِعْمَتِهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْنَا فِي الْمَحْبُوبِ” [6]. إذ تتجلى نعمته المجانية التي تمجده أمام الكل، خاصة الخليقة السماوية التي تدهش لغنى حبه نحو الإنسانية.
يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على هذه العبارة، قائلاً:
[الآن إن كان بيّن لنا نعمته لمدح مجد نعمته، لكي يعلن نعمته، فعيلنا إذن أن نقطن فيها.
“لمدح مجده” ما هذا؟ ومن هم الذين يمدحونه؟ ومن الذين يمجدونه؟ هل نحن أم الملائكة أم رؤساء الملائكة أم كل الخليقة؟ وماذا يكون هذا؟ إنه لا شيء، إذ لا يعوز الطبيعة الإلهية شيء. إذن هل يريدنا أن نمدحه ونمجده؟ إنما لكي تشتعل محبتنا له بالأكثر في داخلنا. هو لا يطلب منا شيئًا، لا خدمتنا ولا مدحنا ولا ما هو من قبيل ذلك. لا يريد سوى خلاصنا. هذه هي غاية كل ما يعمله. فإن من يمدح النعمة التي بيّنها ويُعجب بها إنما يزداد تقوى وغيرة[21]].
الآن يحدثنا عن فاعلية نعمة الله المجانية التي ننالها في المحبوب، والتي أبرزها في النقاط التالية:
أولاً: التمتع بالفداء إذ يقول:
“الَّذِي فِيهِ لَنَا الْفِدَاءُ،
بِدَمِهِ غُفْرَانُ الْخَطَايَا،
حَسَبَ غِنَى نِعْمَتِهِ،
الَّتِي أَجْزَلَهَا لَنَا بِكُلِّ حِكْمَةٍ وَفِطْنَةٍ” [7-8].
في القديم عني بالفداء تحرير الله لشعبه من عبودية فرعون ليقتنيه لنفسه (خر ١٥: ١٣؛ تث ٧: ٨)، أما في العهد الجديد فإننا إذ نجد لنا موضعًا في المسيح الفادي أو المحرّر يعتقنا من عبودية الخطية، غافرًا خطايانا بفيض غنى نعمته الفائقة، واهبًا إيانا مع غفران الخطايا كل حكمة سماوية وتمييز أو فطنة.
بمعنى آخر لم يعٌد المحرّر خارجًا عنا، بل فينا ونحن فيه، يحررنا لا من عبودية بشرية زمنية، بل بنعمته ينزع عنا خطايانا التي سقطنا تحت أسرها بإرادتنا، بل يزيننا بكل حكمة وفطنة، إذ يسكن فينا ويعلن جماله السماوي في حياتنا الداخلية.
أما قوله “الَّتِي أَجْزَلَهَا” فتعني العطاء المجاني بفيض، وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم عن هذه العطية الإلهية: [إنها غنى، وهي جزيلة، انسكبت علينا بقياس فائق الوصف، لا يمكن للكلمات أن تعبر عن البركات التي اختبرناها فعلاً، فهي حقًا غنى، وغنى جزيل.]
ثانيًا: التمتع بمعرفة الأسرار الإلهية، إذ يقول:
“إِذْ عَرَّفَنَا بِسِرِّ مَشِيئَتِهِ،
حَسَبَ مَسَرَّتِهِ الَّتِي قَصَدَهَا فِي نَفْسِهِ،
لِتَدْبِيرِ مِلْءِ الأَزْمِنَةِ” [9-10].
إن كان الغنوسيون يعتزون بالمعرفة “gnosis” حتى احتلت في فكرهم عوض الإيمان، وحسبوا أنهم بعقولهم وحدها قادرون على التمتع بالخلاص، فإن الرسول بولس يصحح الوضع معلنًا أن المسيحي الحقيقي “صاحب معرفة“، لكن على مستوى فائق، فإن الله لا يهبه فقط غفران خطاياه، وإنما يرفعه كابن لله إلي السماويات ليعلن له سرّ معرفته. ينال المعرفة gnosis كهبة إلهية وكإعلان سماوي حسب مسرة الله الذي له مقاصده التي تتحقق في ملء الأزمنة.
لعل الرسول يقصد هنا بالسرّ الذي يعلنه للمؤمنين هو على وجه الخصوص تحقيق خطة الله في ملء الأزمنة، حيث يعمل بكمال سلطانه وملئها لخلق جماعة مسكونية من المؤمنين في المسيح، مقدسة فيه.
في دراستنا لمدرسة الإسكندرية رأينا كثير من آبائها الأولين كانوا يتطلعون إلي “المعرفة الإلهية” كأثمن ما يقدمه المسيح للنفس البشرية، فإذ تتحد به كعروس مع عريسها يقدم لها ذاته فتتعرف على أسراره في حجاله السماوي. لذا يقول القديس إكليمنضس السكندري وتلميذه العلامة أوريجينوس أن هذه المعرفة هي هبة الله للكاملين.
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [عجبًا! أية صداقة هذه؟! إذ يخبرنا بخفاياه، إذ يقول “بسرّ مشيئته“، لأن أحدًا يقول بأنه عرّفنا بالأشياء التي في قلبه. هنا حقًا السرّ المملوء حكمة وفطنة. فأية حكمة مثل هذه؟ الذين كانوا لا يساوون شيئًا رفعهم في لحظة إلي الغنى والفيض. أي تدبير حكيم هكذا؟! الذي كان عدوًا ومُبغضًا في لحظة ارتفع إلي العلا… هذا تم في الوقت المعين؛ إنه عمل الحكمة، تحقق بواسطة الصليب.]
ثالثًا: أن يجمع الكل فيه، قائلاً:
“لِتَدْبِيرِ مِلْءِ الأَزْمِنَةِ،
لِيَجْمَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ،
مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الأَرْضِ، فِي ذَاكَ” [10].
جاءت كلمة “أزمنة” هنا Kairos لا تحمل المعنى البسيط المزمن مثل كلمة Chronos، وإنما تشير إلي حقبة جديدة يعمل الله فيها بكل سلطانه ليجمع كل شيء في المسيح، كما تحت رأس واحد.
يُسر المؤمن ليس فقط بتحريره من خطاياه، وتمتعه بالبنوة الإلهية، وإدراكه سرّ مشيئة الله، أي نواله المعرفة، وإنما أيضًا بنظره أن الكل يجتمع معًا – على مستوى الأرضيين والسمائيين – تحت قيادة الرأس المسيح. هذا هو ما يفرح قلب المؤمنين، أن تتحقق مشيئة الله خلال إتحاد الخليقة العاقلة المؤمنة، لتعيش كلها معًا بروح الوحدة تنعم بالحضرة الإلهية. فالمؤمن بثبوته في المسيح يفقد الأنانية والفردية ليتسع قلبه بالحب للجماعة كلها دون أن يفقده علاقته الشخصية بمسيحه.
يفرح المؤمن الحقيقي إذ يرى في مسيحه أنه لا يضمه وحده إليه لكنه يجمع مختاريه الأرضيين ليقيمهم شعبًا سماويًا، يشاركون العلويين حياتهم الفائقة.
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [عانى السمائيون من الأرضيين، ولم يعد لهم رأس واحد. إلي ذلك الوقت كان نظام الخلقة هو أن إلهًا واحدًا فوق الجميع هو للكل، لكن انتهى نظام “البيت الواحد” حيث انتشر خطأ الأمم وسقطوا في العصيان… الآن أقام رأسًا واحدًا بعينه على الكل، أي المسيح حسب الجسد، فوق الملائكة والبشر. بمعنى آخر جعل للملائكة والبشر مملكة واحدة… جمع الكل تحت رأس واحد بعينه مقيمًا رباط الوحدة من فوق[22].]
يقدم لنا القديس يوحنا الذهبي الفم في نفس العظة تفسيرًا آخر لمعنى” لِيَجْمَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ“، إذ يقول: [جمع المسيح في نفسه التدابير التي استغرقت فترة طويلة (منذ السقوط حتى مجيئه متجسدًا) قاطعًا إياها.] بمعنى أن بمجيئه تحققت الوعود والعهود والنبوات التي طال انتظار تحقيقها.
رابعًا: الآن إذ يعلن الرسول بولس عن نعمة الله التي جمعت السمائيين مع الأرضيين كما في جسد واحد للرأس الواحد السماوي، وفيه تحققت النبوات والمواعيد التي طال انتظار تحقيقها، أراد أن يثير الأمم بالغيرة ليدركوا غنى هذه النعمة متمسكين بها كعربون للميراث الأبدي أو النصيب السماوي، إذ يؤكد أنه كيهودي قد نال بالمسيح النصيب المعين الذي سبق اليهود الأولون فترجوه، هذا النصيب بعينه يناله الأمم خلال كلمة الحق إنجيل الخلاص. فما ناله اليهود بعد انتظار طويل عبر الآباء والأنبياء لم يُحرم منه الأمم خلال قبولهم الإنجيل. هذا ما عناه الرسول بقوله:
“الَّذِي فِيهِ أَيْضاً نِلْنَا (نحن اليهود) نَصِيباً،
مُعَيَّنِينَ سَابِقاً حَسَبَ قَصْدِ الَّذِي يَعْمَلُ كُلَّ شَيْءٍ حَسَبَ رَأْيِ مَشِيئَتِهِ،
لِنَكُونَ لِمَدْحِ مَجْدِهِ،
نَحْنُ الَّذِينَ قَدْ سَبَقَ رَجَاؤُنَا فِي الْمَسِيحِ.
الَّذِي فِيهِ أَيْضاً أَنْتُمْ (الذين من أصل أممي)،
إِذْ سَمِعْتُمْ كَلِمَةَ الْحَقِّ، إِنْجِيلَ خَلاَصِكُمُ،
الَّذِي فِيهِ أَيْضاً إِذْ آمَنْتُمْ خُتِنتُمْ بِرُوحِ الْمَوْعِدِ الْقُدُّوسِ،
الَّذِي هُوَ عَرْبُونُ مِيرَاثِنَا، لِفِدَاءِ الْمُقْتَنَى، لِمَدْحِ مَجْدِهِ” [11-14].
يلاحظ في هذا النص الآتي:
أ. إن كان الرسول يردد – في هذا النص – كلمتي “نحن” و”أنتم”، قاصدًا بكلمة “نحن” اليهود، وكلمة “أنتم” الأمم، لكنه أكد أن اليهود وإن كانت لهم الأولوية من جهة الزمن لقبول المسيح المخلص، فإن الطرفين – اليهود والأمم – يشتركان معًا في التمتع بذات الحب الإلهي والاختيار ونعمة الله والعضوية في الجسد الواحد.
ب. كلمة “نصيب” هنا في اليونانية Kleroó تعني “يلقي قرعة[23]“، فنوالهم للعطايا الإلهية جاء ميراثًا أو نصيبًا تحقق كما بإلقاء قرعة. لعله بهذا يريد أن يسترجع اليهود إلي أيام آبائهم حين دخلوا أرض الموعد، وصار كل واحدٍ ينتصر بنواله نصيبه خلال القرعة، دون أي فضل له في الاختيار. فما حدث في القديم كان رمزًا لا قيمة له إلاَّ في الإعلان عن ميراث العهد الجديد. هنا أيضًا لا فضل للمتمتع بالنصيب في شيء بل غنى نعمة الله هي التي قدمت له هذا النصيب.
ولئلا يُظن أن ما يحدث الآن يتم اعتباطًا بكونه أشبه بإلقاء قرعة تتم دون تخطيط معين أكد الرسول أن ذلك يتحقق “حَسَبَ قَصْدِ الَّذِي يَعْمَلُ كُلَّ شَيْءٍ حَسَبَ رَأْيِ مَشِيئَتِهِ“. فما يتم الآن، إن كان لا يدّ لنا فيه/ لكنه في خطة الله السابقة ومشيئته الحكيمة نحونا.
يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على هذه العبارة، بقوله:
[استخدم قبلاً الكلمة “اختارنا” [4]، أما هنا فيقول: “نِلْنَا نَصِيباً (ميراثًا)” [11]، ولما كانت القرعة مسألة مصادفة لا تتم عن اختيار مقترن بتدقيق، ولا مسألة فضيلة (إذ تُقترن القرعة غالبًا بجهل ما سنصل إليه بالصدفة، وكثيرًا ما تتخطى الفضلاء وتستقر على من لا قيمة لهم). لاحظ كيف صحح هذه النقطة بالذات، إذ يقول: “مُعَيَّنِينَ سَابِقاً حَسَبَ قَصْدِ الَّذِي يَعْمَلُ كُلَّ شَيْءٍ” [11].
يمكننا أن نقول إننا لم نكن مجرد أصحاب نصيب، ولا مجرد مختارين (لأن الله هو الذي يختار)، ولا مجرد أصابتنا قرعة (لأن الله هو الذي يحدد النصيب)، وإنما تحقق الأمر “حَسَبَ قَصْدِ الَّذِي يَعْمَلُ“. هذا ما يقوله أيضًا في الرسالة إلي أهل رومية: “الذين هم مدعوون حسب قصده، لأن الذين سبق فدعاهم فهؤلاء بررهم، والذين بررهم فهؤلاء مجدهم أيضًا” (رو ٨: ٢٨ – ٣٠)… كأنه يقول: لقد ألقيت القرعة والله اختارنا، فتم كل شيء باختيار دقيق. لقد سبق فعيّن أناسًا اختارهم لنفسه وأفرزهم له. رآنا – كما من خلال القرعة – قبل أن نُولد، لأن علم الله سابق عجيب، فهو عالم بكل شيء قبل أن يبدأ كيانه[24].
ج. إذ يتحدث عن الأمم الذين قبلوا الإيمان يقول: “فِيهِ أَيْضاً أَنْتُمْ، إِذْ سَمِعْتُمْ… إِذْ آمَنْتُمْ خُتِمْتُمْ بِرُوحِ الْمَوْعِدِ الْقُدُّوسِ” [13]. فالأمم سمعوا فآمنوا ثم خُتموا. قبلوا الإيمان خلال السمع، لأن السيد المسيح ظهر بين اليهود خاصته، وخاصته رفضته، أما هؤلاء فلم يروه وإنما خلال السماع آمنوا، وإذ آمنوا نالوا عطية الروح القدس بختم روح الموعد القدوس.
خامسًا: التمتع بختم الروح كعربون للميراث الأبدي، إذ يقول:
“خُتِمْتُمْ بِرُوحِ الْمَوْعِدِ الْقُدُّوسِ،
الَّذِي هُوَ عَرْبُونُ مِيرَاثِنَا،
لِفِدَاءِ الْمُقْتَنَى،
لِمَدْحِ مَجْدِهِ” [13-14].
كان الختم علامة عامة عن الملكية، فكان بعض المكرسين للآلهة الوثنية أحيانًا يسِمون أنفسهم بعلامة في جسدهم تحمل اسم الإله الذي ينتمون إليه ويحتمون فيه. العماد بالروح هو العلامة المنظورة (الختم) لعدم الفساد في المسيح[25]. وقد سبق لنا الحديث في هذا الشأن[26]، حيث قدمنا مقتطفات لبعض أقوال الآباء عن المعمودية كختم، كعلامة الدخول في ملكية الله، والدخول تحت حمايته، والدخول في الجندية الروحية، والامتثال بالسيد المسيح، وأخيرًا كختم روحي أبدي لا يمكن أن ينفك.
في العهد القديم كان الختان الجسدي هو الختم كعلامة للعضوية في شعب الله، وبالتالي الدخول في ملكية الله، كقول الكتاب: “إن قسم الرب هو شعبه، يعقوب جبل نصيبه” (تث ٣٢: ٩).
- أثناء العماد، عندما تأتي إلي حضرة الأساقفة أو الكهنة أو الشمامسة… اقترب إلي خادم العماد ولا تفكر في الوجه المنظور بل تذكر الروح القدس، هذا الذي نتكلم عنه الآن، لأنه حاضر ليختم نفسك. إنه سيهبك الختم الذي يرعب الأرواح الشريرة، وهو ختم سماوي مقدس، كما هو مكتوب: “الذي فيه أيضًا (إذ آمنتم) ختمتم بروح الموعد القدوس”[27].
القديس كيرلس الأورشليمي
- كما يطبع المالك على قطيعه علامة خاصة يتعرف بها عليه، خلالها تظهر أنها ملك له، هكذا يختم الروح القدس من له في المعمودية بواسطة مسحة الزيت المقدس التي يتقبلونها في العماد[28].
القديس مار افرآم السرياني
- النفس التي لم تستتر ولا تجملت بنعمة الميلاد الجديد، لا أعرف إن كانت الملائكة تتقبلها بعد تركها الجسد! حقًا إنهم لا يستطيعون أن يتقبلوها ما دامت لا تحمل الختم Asphragiston، ولا أي علامة خاصة بمالكها. حقًا إنها تصير محمولة في الهواء، وتتجول بغير راحة، دون أن يتطلع إليها أحد، إذ هي بلا مالك. إنها تطلب الراحة فلا تجدها؛ تصرخ باطلاً، وتندم بلا فائدة[29].
القديس غريغوريوس النيسي
- كما يُطبع الختم على الجند هكذا يُطبع الروح القدس على المؤمنين[30].
القديس يوحنا الذهبي الفم
3. شفاعة الرسول لنوال المعرفة
بعد أن قدم الرسول هذه التسبحة الكنسية، التي تحمل “سرّ المسيح”، فتكشف عن فيض عمل الله المجاني في جمع الكل – يهودًا كانوا أم أممًا – لتحقق فيهم مقاصد الله الآب في المسيح يسوع، ويصير الكل شعبًا واحدًا مقدسًا، وجسدًا للرأس، وأبناءً للآب في الابن المحبوب، الآن يقدم الرسول صلواته وشفاعته لدى الله عن مخدوميه ليهبهم استنارة روحية، فيفتح عيون قلوبهم ويدركوا بحق “سرّ المسيح”، فتكون لهم “المعرفة” الحقيقية.
ولئلا يظنوا أنه إذ يصلي عنهم في هذا الشأن يعني عدم إيمانهم أو عدم معرفتهم، قال:
“لِذَلِكَ أَنَا أَيْضاً إِذْ قَدْ سَمِعْتُ بِإِيمَانِكُمْ بِالرَّبِّ يَسُوعَ،
وَمَحَبَّتِكُمْ نَحْوَ جَمِيعِ الْقِدِّيسِينَ،
لاَ أَزَالُ شَاكِراً لأَجْلِكُمْ،
ذَاكِراً إِيَّاكُمْ فِي صَلَوَاتِي” [15-16].
نلاحظ في هذا النص:
أولاً: يبرز الرسول كعادته الجوانب الطيبة، فلا يتجاهل إيمانهم ومحبتهم لذا بفرح يشكرهم… إنه يصلي من أجلهم لأجل الاستزادة. حقًا ما أحوج الكنيسة إلي رعاة كالقديس بولس الذي يسند ويعين ببث روح الرجاء بفرح، دون توقف عن الصلاة من أجل الرعية للنمو على الدوام في النعمة والمعرفة.
- لم يكن يوجد ما يعادل حنين الرسول، ولا ما يشبه حنو وعواطف بولس الطوباوي، الذي قدم كل صلاة من أجل جميع الأمم والشعوب، حيث كتب نفس الكلمات للجميع: “لا أزال شاكرًا إلهي من أجلكم، ذاكرًا إياكم في صلواتي” (رو ١: ٩؛ ١ كو ١: ٤؛ في ١: ٣، 4؛ كو ١: ٣؛ ١ تس ١: ٢).
تأمل كيف كانوا في ذهنه، إذ يحتاج الأمر إلي تعب لتذكرهم. ما أكثر الذين كان يذكرهم في صلواته، مقدمًا الشكر لله من أجل جميعهم[31].
القديس يوحنا الذهبي الفم
ثانيًا: يربط الرسول بولس بين الإيمان بالرب يسوع والمحبة نحو جميع القديسين، فعضويتنا في المسيح لا تنفصل عن عضويتنا في الكنيسة، إيماننا بالرأس يجب أن يُترجم عمليًا بالحب لجميع القديسين.
هذا من جانب، ومن جانب آخر، إذ يربط الإيمان بالمحبة، إنما يود تأكيد الإيمان الحيّ العامل حتى لا يكون إيمانًا ميتًا خلال عقمه…
- في كل المناسبات يقرن الإيمان بالمحبة كزوجين مجيدين[32].
القديس يوحنا الذهبي الفم
ماذا يطلب في صلواته عنهم؟
أولاً: “كَيْ يُعْطِيَكُمْ إِلَهُ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، أَبُو الْمَجْدِ، رُوحَ الْحِكْمَةِ وَالإِعْلاَنِ فِي مَعْرِفَتِهِ” [17].
يطلب لهم “روح الحكمة“، كما يطلب لهم “الإعلان في معرفته“. لم يقل “في معرفة أسراره”، وإنما “في معرفته” هو، إذ يشتاق أن يدركوه هو شخصيًا ويتعرفوا عليه ككائن يتحدون معه. نحن نحتاج أن يهبنا الله روح الحكمة والمعرفة، فإن كان قد وهبنا العقل من عندياته، لكننا إن سلكنا بالعقل وحده دون الالتجاء إلي الله ننحرف عن الحكمة والمعرفة الحقة.
ثانيًا: “مُسْتَنِيرَةً عُيُونُ أَذْهَانِكُمْ، لِتَعْلَمُوا مَا هُوَ رَجَاءُ دَعْوَتِهِ، وَمَا هُوَ غِنَى مَجْدِ مِيرَاثِهِ فِي الْقِدِّيسِينَ، وَمَا هِيَ عَظَمَةُ قُدْرَتِهِ الْفَائِقَةُ نَحْوَنَا نَحْنُ الْمُؤْمِنِينَ، حَسَبَ عَمَلِ شِدَّةِ قُوَّتِهِ” [18-19].
يطلب من أجل استنارة عيونهم الداخلية، أي تكون لهم البصيرة الروحية القادرة أن ترى الله بالإيمان وتتمسك بمواعيده، وتدرك غنى مجد ميراثه المُعد للقديسين فتمتلىء النفس رجاءً وتتشدد بالقوة الإلهية.
- يحوي القلب العيون التي تنظر الله… إنها تستنير الآن بالإيمان، الأمر الذي يناسب ضعفها، أما فيما بعد فتستنير برؤية الله إذ تكون قوية. “فإذًا… ونحن مستوطنون في الجسد فنحن متغربون عن الرب، لأننا بالإيمان نسلك لا بالعيان” (١ كو ٥: ٦، ٧)[33].
القديس أغسطينوس
تسمى المعمودية “سرّ الاستنارة” كقول الرسول بولس: “الذين استنيروا مرة” (عب ٦: ٤)، إذ خلالها تفتح بصيرتنا الداخلية بنور الروح القدس لندرك الأمور الثلاثة المذكورة هنا:
أ. نعلم ما هو رجاء دعوته، فإننا إذ ندخل إلي العضوية في جسد المسيح بالمعمودية نعلم – بالخبرة الحية – دعوته لنا لنكون أبناء الآب وورثة مع المسيح فيمتليء قلبنا رجاءً فيه.
ب. غنى مجد ميراثه في القديسين. بالمعمودية ننعم بعربون الميراث الأبدي المُعد لقديسين، خلاله نختبر الغنى الأبدي غير المنطوق به.
ج. عظمة قدرته الفائقة نحونا نحن المؤمنين حسب عمل شدة قوته. إذ بالمعمودية يقيمنا كما من الموت، ويهبنا البنوة لله واهب الحياة …
- الاستنارة وهي المعمودية… هي معينة الضعفاء… مساهمة النور… إنتفاض الظلمة.
الاستنارة مركب يسير تجاه الله، مسايرة المسيح، أُس الدين، تمام العقل!
الاستنارة مفتاح الملكوت واستعادة الحياة…
نحن ندعوها عطية، وموهبة، ومعمودية، واستنارة، ولباس الخلود وعدم الفساد، وحميم الميلاد الثاني، وخاتمًا، وكل ما هو كريم[34].
القديس غريغوريوس النزينزي
إن كنا بالمعمودية نلنا الاستنارة يمتلىء قلبنا رجاءً ونتلمس غنى مجد ميراثه، وندرك عظمة قدرته الفائقة نحونا نحن المؤمنين حسب عمل شدة قوته، فإن هذه الاستنارة لا تُعطى في المعمودية بطريقة جامدة وساكنة، إنما تُعطى لكي تتجدد أذهاننا يومًا فيومًا لندخل إلي أعماق جديدة يوميًا خلال إيماننا العامل بالمحبة، وجهادنا بنعمته المجانية الفائقة. لهذا لا يكف الرسول عن أن يصلي من أجل من يكتب إليهم – والذين بلا شك نالوا سرّ العماد – لكي لا تتوقف عطية الله هذه بل تبقى منسكبة بفيض لا ينقطع.
إذ يتأمل القديس يوحنا الذهبي الفم هذه العطية الإلهية يجدها فائقة للغاية لا يمكن للغة البشرية لا أن يعبر عنها. لهذا نقول إننا نبقى نطلب من الله أن يعمل فينا على الدوام لننعم بهذه العطية لعلنا نبلغ كمالها.
ثالثًا: “الَّذِي عَمِلَهُ فِي الْمَسِيحِ، إِذْ أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ، وَأَجْلَسَهُ عَنْ يَمِينِهِ فِي السَّمَاوِيَّاتِ، فَوْقَ كُلِّ رِيَاسَةٍ وَسُلْطَانٍ وَقُوَّةٍ وَسِيَادَةٍ، وَكُلِّ اسْمٍ يُسَمَّى لَيْسَ فِي هَذَا الدَّهْرِ فَقَطْ، بَلْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَيْضاً” [20-21].
يكشف لنا عن عمل الآب في الابن المتجسد لحسابنا، إذ أقامه وأجلسه وأخضع كل شيء تحت قدميه ]٢٢[… وهو لا زال يعمل هذا في جسده الذي هو الكنيسة، يقيمنا ويجلسنا في السماويات ويخضع كل شيء تحت أقدامنا. هكذا يؤكد السيد المسيح: “أبي يعمل حتى الآن” (يو ٥: ١٧).
هذا العمل مستمر ودائم، لا يقدر شيء ما أن يوقفه حتى يتحقق جسد المسيح، أي الكنيسة في ملئها، ويكمل المختارون.
يتطلع المؤمن إلي كلمة الله الذي بتجسده نزل إلينا وصار كواحدٍ منا، إذ أُقيم من الأموات (في طاعة الآب مات وقام، لكن بقوة لاهوته وليس كعطية مستمدة من الغير) وأُجلس عن يمينه في السماوات وصار فوق كل رئاسة. إنما حدث هذا كله لحسابنا، أي لحساب كل مؤمن، فينعم بهذه الإمكانيات “في المسيح”، أي خلال ثبوته فيه كعضو في جسده.
هذا وقد حمل النص: “وَإِيَّاهُ جَعَلَ رَأْساً فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ لِلْكَنِيسَةِ” [22] رجاءً حقيقيًا في قلب الكنيسة أن الله لابد أن يتمم مشورته، وأن عمل المسيح في الكنيسة لابد أن يتحقق ويكمل ليعلن المسيح رأسًا للمختارين. هذا الرجاء عاشته الكنيسة الأولى وسط العقبات والإضطهادات، وقد عبّر عنه كثير من الآباء من بينهم القديس إيريناؤس، حين قال: [لابد أن يجتذب كل شيء إليه في الوقت المناسب[35].]
بقوله “ لِلْكَنِيسَةِ” يعني أن ما تحقق للرأس إنما هو لحساب الكنيسة، لذا يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم، قائلاً: [إنه لأمر مذهل أيضًا، إلي أين رُفعت الكنيسة؟! إنه كمن رفعها بآلة وأقامها في أقصى الأعالي، وجعلها على العرش هناك، فإنه حيث يوجد الرأس يكون الجسد أيضًا. لا انعزال بعد أو فُرقة بين الرأس والجسد… لقد هيأ كل جنس البشر عامة أن يتبعه ويلتصق به ويصحبه في ركبه. “الَّتِي هِيَ جَسَدُهُ“؛ (يقول هذا) لكي إذ تسمعون عن الرأس لا تفكرون في فكرة الرئاسة فحسب، وإنما في الثبوت فيه أيضًا، فلا تتطلعون إليه فقط كقائدٍ سامٍ وإنما كرأسٍ لجسد أيضًا[36]].
[1] Jerome Biblical Commentary, p 343.
[2] The Anchor Bible, p 65.
[3] Jerome Bib. 343.
[4] الرسالة إلي أفسس، عظة ١، قام قداسة القمص مرقس داود بترجمة عشر عظات من تفسير القديس يوحنا الذهبي الفم لهذه الرسالة، وقد استعنت أحيانًا به مع الرجوع لنصوص أخرى..
[5] The Anchor Bible, p 67.
[6] Jerome Bib. 343.
[7] للمؤلف: القديس بولس الرسول ومنهجه الإنجيلي …، ص ٣٠، ٣١..
[8] Jerome Biblical Commentary, p 343.
[9] In Eph. hom 1.
[10] Stromata 2: 4; 3: 7.
[11] Strom. 2: 6.
[12] Comm. Rom 22 on 4: 4.
[13] Contra Celsus 4: 3.
[14] In Eph. hom 1.
[15] In Eph. hom 1.
[16] Ibid.
[17] Ibid.
[18] Ser. on N.T. 67: 9.
[19] Ibid 89: 1.
[20] In Eph. hom 1.
[21] In Eph. hom 1.
[22] Ibid.
[23] Anchor Bible, p 92.
[24] In Eph. hom 2.
[25] Jerome Bible, p 344.
[26] للمؤلف: الروح القدس بين الميلاد الجديد والتجديد المستمر، طبعة ١٩٨١، ص ٦٢: ٦٨..
[27] Cat. Lect. 17: 15.
[28] Enchir. Patr. 712
[29] P.G. 46: 424 C.
[30] P.G. 61: 418.
[31] In Eph. hom 3.
[32] Ibid.
[33] Ser. on N.T. 3: 6.
[34] للمؤلف: الحب الإلهي، الإسكندرية، 1967، ص ٨٥٥ – ٨٥٦.
[35] Adv. Hear 3: 16: 6.
[36] In Eph. hom 3.