تفسير العهد الجديد

تفسير رسالة أفسس – المقدمة – القمص تادرس يعقوب ملطي

تفسير رسالة أفسس - المقدمة - القمص تادرس يعقوب ملطي

تفسير رسالة أفسس – المقدمة – القمص تادرس يعقوب ملطي

تفسير رسالة أفسس - المقدمة - القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير رسالة أفسس – المقدمة – القمص تادرس يعقوب ملطي

تفسير رسالة أفسس – المقدمة – القمص تادرس يعقوب ملطي

من تفسير وتأملات الآباء الأولين

 

رسالة بولس الرسول إلى أهل أفسس

 

القمص تادرس يعقوب ملطي

كنيسة الشهيد مار جرجس باسبورتنج

 

 

من سجن روما، في أواخر حياة الرسول بولس، قدم لنا هذه الرسالة، التي مع صغر حجمها نقلت إلينا الفكر الرسولي بل والسماوي نحو مفهوم الكنيسة. جاءت هذه الرسالة فريدة في أهميتها، من هذه الزاوية، فهي رسالة ليتورچية، تحمل إلينا تعاليم لها وزنها الخاص، وتضم تسابيح وقطع ليتورچية من العصر الرسولي، وفي نفس الوقت تُحسب أشبه بدعوة حارة لتمجيد الله.

هي رسالة كنسية لاهوتية تصبغ، على المؤمنين روح البهجة والفرح، وتدخل بهم إلي سرّ الكنيسة على صعيد لاهوتي عميق روحي وواقعي. الأمر الذي دعى بعض النقاد المحدثين إلي أن يدّعوا بأن هذه الرسالة وُضعت بعد العصر الرسول بولس، وإن كان كثير من الدارسين رفضوا هذا الفكر كما سنرى.

الرب إلهنا الصالح يهبنا بروحه القدوس أن ننعم بهذا الفكر الرسولي الحيّ لنعيشه بحق وننعم به.

القمص تادرس يعقوب ملطي

 

 

رسالة بولس الرسول إلى أهل أفسس أفسس

  • “أفسس” كلمة يونانية تعني “مرغوبة”.
  • هي عاصمة المقاطعة الرومانية آسيا، على الشاطيء الأيسر من نهر الكاسيتر، في غرب آسيا الصغرى، على مسافة ثلاثة أميال من البحر، تقريبًا في المنتصف بين مدينتي سميرنا شمالاً وميليتس جنوبًا، وهي ملتقى طبيعي للطرق التجارية، خاصة الطريق الرئيسي بين روما والشرق. بُني لها مرفأ صناعي مما جعلها ميناءً بحريًا هامًا في العصور الوسطى.

اشتهرت بهيكلها العظيم أرطاميس، وهي إلهة تمثل أمًا لها في صدرها كثير من الثدي، غالبًا من أصل حثي[1]. تعتبر إلهة القمر عند اليونان، تقابل ديانا عند الرومان، تظهر كفتاة عذراء فارعة الطول وجميلة جدًا، أخت أبللو، يعتقدون أن تمثالها نزل من السماء، كثيرًا ما ترسم أيضًا في شكل صياد.

  • في القرن الحادي عشر قبل الميلاد احتلها الأيونيون Ionians الذين من أصل يوناني، وصارت إحدى إثنتي عشرة مدينة خاصة بإتحاد ولاياتهم، وصارت عاصمة أيونيا.

حوالي سنة ٥٥٥ ق.م. سقطت المدينة تحت حكم كريسس Croesus ملك ليديا (عاصمتها سادرس)، وبعد قليل سقطت تحت الحكم الفارسي. وفي عهد إسكندر الأكبر خضعت للحكم المقدوني اليوناني، وفي سنة ١٣٣ ق.م. خضعت للحكم الروماني، وصارت عاصمة ولاية آسيا.

  • في سنة ٢٩ ق.م. دُمرت المدينة بواسطة زلزال، وقام الإمبراطور طبريوس بإعادة بنائها.

تأسيس كنيسة أفسس

كان بأفسس كثير من اليهود لهم جنسية رومانية[2] (أع ١٨: ١٩؛ ١٩: ١٧). إذ كان الرسول بولس راجعًا إلي أورشليم نحو نهاية رحلته التبشيرية الثانية (حوالي سنة ٥٤م) قام بزيارة قصيرة لأفسس، حيث كرز في مجمعها. هناك ترك أكيلا وبريسكلا يكملان عمله (أع ١٨: ١٨–٢١)، ووعد اليهود أن يعود إليهم في أقرب فرصة.

في غيبته جاء أبلوس من الإسكندرية، وكان من تلاميذ القديس يوحنا المعمدان، جاهر بما عرفه من شخص السيد المسيح في المجمع، وقام أكيلا وبريسكلا بتعليمه طريق الرب بأكثر تدقيق (أع ١٨: ٢٤–٢٦).

رجع الرسول بولس حسب وعده في خريف سنة ٥٤م على الأرجح، في رحلته التبشيرية الثالثة، حيث وجد هناك بعض التلاميذ لم يقبلوا سوى معمودية يوحنا، فبشريهم بالسيد المسيح وعمدهم، وإذ وضع يديه عليهم حّل الروح القدس عليهم فطفقوا يتكلمون بلغات ويتنبأون (أع ١٩: ٣–٩).

وعظ بولس الرسول في مجمع اليهود نحو ثلاثة أشهر، ولما قاومه اليهود غير المؤمنين اعتزلهم وأخذ يعظ في مدرسة تيرانس لمدة سنتين “حتى سمع كلمة الرب يسوع جميع الساكنين في آسيا من يهود ويونانيين” (أع ١٩: ٨–١٢).

أما نتائج تبشير الرسول بولس في أفسس فقد أوضحها معلمنا لوقا البشير في سفر الأعمال، ألا وهي:

  1. قبل كثير من اليهود والأمم الإيمان بالسيد المسيح (أع ١٩: ١٠).
  2. بلغت الكرازة كل آسيا خلال عاصمتها أفسس (أع ١٩: ١٠).
  3. إذ صنع الله على يديّ الرسول بولس قوات غير المعتادة (أع ١٩: ١١)، شرع بعض السحرة في صنع عجائب باسم يسوع الذي يكرز به بولس (أع ١٩: ١٣)، بينما جاء كثيرون منهم بكتب السحر ليحرقوها علانية، قُدرت أثمانها بخمسين ألفًا من الفضة (أع ١٩: ١٩).
  4. انهارت عبادة أرطاميس، الأمر الذي دفع صنّاع الفضة أن يقوموا بثورة، حاسبين في عمل الرسول بولس إهانة شعبية للهيكل العظيم (أع ١٩: ٢٤–٢٩).
  5. يظهر تأسيس كنيسة عظيمة في أفسس لها قسوسها مما جاء في أع ٢٠، إذ أُستدعى الرسول بولس قسوس (الكهنة) الكنيسة التي في أفسس وهو في ميليتس (جنوب أفسس) عند رجوعه من الجولان في مكدونية وآخائية… وقد أنبأهم عن دخول معلمين كذبة بينهم هم ذئاب خاطفة لا تشفق على الرعية (أع ٢٠: ٢٩).

إذ ترك الرسول بولس أفسس أتى إليها تلميذه تيموثاوس وخدمها زمانًا لكي تُحفظ من التعاليم الباطلة (١ تي ١: ٣). أُرسل تيخيكس إلي أفسس مع الرسالة التي بين أيدينا (أف ٦: ٢١؛ ٢ تي ٤: ١٢) وربما قدم نسخًا منها لبقية كنائس آسيا، كما حمل رسالة خاصة بأهل كولوسي.

         كنيسة أفسس إحدى الكنائس السبع في آسيا التي وجهت إليها رسائل في سفر الرؤيا (رؤ ١: ١١؛ ٢: ١–٧). وبحسب التقليد الكنسي قضى القديس يوحنا اللاهوتي أيامه الأخيرة هناك، وتنيح في جزيرة بطمس مقابل أفسس.

في سنة ٤٣١م انعقد المجمع المسكوني الثالث بسبب نسطور بطريرك القسطنطينية، الذي جعل من يسوع المسيح شخصيتين، حاسبًا أن اللاهوت حلّ عليه عند العماد.

الآن تحقق فيها القول الإلهي بأنها تركت محبتها الأولى، وأنه مزمع أن يزحزح منارتها (رؤ ٢: ٤)، إذ تحولت إلي قرية “أفيس” التي أُقيمت في موضعها، ولا يوجد بها مسيحيون.

كاتب الرسالة

لم يطرأ أدنى شك حول هذه الرسالة من جهة أن الرسول بولس هو كاتبها، وجهها للكنيسة التي في أفسس، وذلك حتى القرن التاسع عشر. لكن جاء بعض النقاد وحاولوا التشكيك في أمر كاتبها أو في أمر الكنيسة التي أُرسلت إليها، قائلين بأن الرسالة في الغالب كتبها شخص حاول الامتثال بالرسول بولس، كتبها بعد عصر الرسول، ناقلاً الكثير من رسائل الرسول بولس، أو إن كانت من وضع الرسول فهي ليست موجهة إلي الكنيسة التي في أفسس، وقد قدموا براهين أو دلائل يمكن اختصارها في أربعة أنواع[3]، نذكرها هنا مع الرد عليها، بعد تقديم براهين إيجابية تؤكد أنها رسالة القديس بولس الرسول موجهة إلي أفسس (مع كنائس أخرى مثل كنيسة لاودكية).

وهذا هو الرأي التقليدي الذي عاشت به الكنيسة في الشرق والغرب خلال التسعة عشر قرنًا.

الأدلة الإيجابية على أنها من وضع الرسول بولس

أولاً: الشهادة الداخلية

يرى D. Guthrie أن بصمات الرسول بولس واضحة في هذه الرسالة. فنحن نعلم أن الوحي الإلهي يعمل في الكاتب ويرشده ويحفظه من الخطأ، دون أن يفقده شخصيته في كتابته، تكريمًا للإنسانية التي يستخدمها الروح القدس، ويتفاعل معها ويكرمها.

وتظهر بصمات الرسول بشكل واضح في النقاط التالية[4]:

  1. تحمل الرسالة روح بث الرجاء في النفوس مع التشجيع والشكر لله من أجل أخبار من يكتب إليهم: “إِذْ قَدْ سَمِعْتُ بِإِيمَانِكُمْ بِالرَّبِّ يَسُوعَ، وَمَحَبَّتِكُمْ نَحْوَ جَمِيعِ الْقِدِّيسِينَ، لاَ أَزَالُ شَاكِرًا لأَجْلِكُمْ، ذَاكِرًا إِيَّاكُمْ فِي صَلَوَاتِي” (١: ١٥، ١٦).
  2. يدعو نفسه “أسير المسيح يسوع” (٣: ١)، “الأسير في الرب” (٤: ١)، إذ يكتب كرسولٍ سجينٍ من أجل الإيمان.
  3. يكتب عن “سرّ المسيح” المعلن له شخصيًا، إذ يقول: “أَنَّهُ بِإِعْلاَنٍ عَرَّفَنِي بِالسِّرِّ… الَّذِي صِرْتُ أَنَا خَادِمًا لَهُ حَسَبَ مَوْهِبَةِ نِعْمَةِ اللهِ الْمُعْطَاةِ لِي حَسَبَ فِعْلِ قُوَّتِهِ” (٣: ٣، ٧).
  4. يبرز الرسول كعادته حبه العملي لمن يكتب إليهم، فيحسب شدائده إنما لأجلهم، مطالبًا إياهم ألاَّ ينشغلوا حتى بآلامه، بل ترتفع أنظارهم للمجد الأبدي فوق الآلام، حاسبًا شدائده مجدًا لا لنفسه فحسب وإنما أيضًا لهم، إذ يقول: “أَطْلُبُ أَنْ لاَ تَكِلُّوا فِي شَدَائِدِي لأَجْلِكُمُ الَّتِي هِيَ مَجْدُكُمْ” (٣: ١٣).
  5. يمارس محبته العملية نحو البشرية لا خلال الكرازة واحتمال الآلام من أجلهم فحسب وإنما أيضًا خلال الصلاة والشفاعة عنهم بروح التواضع: “بِسَبَبِ هَذَا أَحْنِي رُكْبَتَيَّ لَدَى أَبِي رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ… لِكَيْ يُعْطِيَكُمْ بِحَسَبِ غِنَى مَجْدِهِ أَنْ تَتَأَيَّدُوا بِالْقُوَّةِ بِرُوحِهِ فِي الإِنْسَانِ الْبَاطِنِ، لِيَحِلَّ الْمَسِيحُ بِالإِيمَانِ فِي قُلُوبِكُمْ…” (٣: ١٤–21).
  6. ككارزٍ للأمم دائم الدعوة للحياة الجديدة والفكر الجديد مع التخلي عن الحياة الأممية وذهنها الباطل: “لاَ تَسْلُكُوا فِي مَا بَعْدُ كَمَا يَسْلُكُ سَائِرُ الأُمَمِ أَيْضًا بِبُطْلِ ذِهْنِهِمْ… وَتَتَجَدَّدُوا بِرُوحِ ذِهْنِكُمْ، وَتَلْبَسُوا الإِنْسَانَ الْجَدِيدَ الْمَخْلُوقَ بِحَسَبِ اللهِ فِي الْبِرِّ وَقَدَاسَةِ الْحَقِّ” (٤: ١٧–٢٤).
  7. بروح التواضع يطلب الصلوات عنه وعن كل الكنيسة، إذ يقول: “مُصَلِّينَ بِكُلِّ صَلاَةٍ وَطِلْبَةٍ كُلَّ وَقْتٍ فِي الرُّوحِ، وَسَاهِرِينَ لِهَذَا بِعَيْنِه،ِ بِكُلِّ مُواظَبَةٍ وَطِلْبَةٍ، لأَجْلِ جَمِيعِ الْقِدِّيسِينَ، وَلأَجْلِي، لِكَيْ يُعْطَى لِي كَلاَمٌ عِنْدَ افْتِتَاحِ فَمِي، لأُعْلِمَ جِهَارًا بِسِرِّ الإِنْجِيلِ” ( ٦: ١٨، ١٩).
  8. كعادته يختم الرسالة بالبركة الرسولية (٦: ٢٣، ٢٤).
  9. جاءت الافتتاحية مطابقة لافتتاحية الرسالة الثانية إلي أهل كورنثوس والرسالة إلي أهل كولوسي.
  10. تظهر بصمات الرسول بولس في التكوين الهيكلي للرسالة، الأمر الذي انفرد به دون غيره، إذ جاءت الرسالة تضم الآتي: التحية الافتتاحية، الشكر، الحديث العقيدي، الحث السلوكي، التحية الختامية ثم البركة الختامية.

ثانيًا: الأدلة الخارجية

بجانب ما حملته الرسالة من شهادة داخلية أنها من وضع الرسول بولس، فإنه توجد أدلة خارجية تؤكد ذلك، نذكر منها أنه كان لهذه الرسالة انتشار واسع المدى في منتصف القرن الثاني في الكنيسة الأرثوذكسية (المستقيمة الرأي) بل وحتى بين الهراطقة. فقد اقتبس منها الآباء إكليمنضس الروماني، وأغناطيوس أسقف أنطاكية[5]، وبوليكربس أسقف سميرنا[6]، هرماس في كتابه الراعي[7]، وأيضًا اقتبست منها الديداكية (تعليم الرب للإثني عشر رسولاً). وذكرها الهرطوقي مرقيون ضمن الأسفار القانونية (حوالي سنة ١٤٠ م) تحت اسم “الرسالة إلي اللادوكيين”، كما أدرجت في القانون الموراتاني[8] Muratorian Canon حوالي ١٨٠م ضمن رسائل بولس.

الاعتراضات على كاتب الرسالة والرد عليها

أولاً: اعتراضات خاصة بلغة الرسالة وطابعها Linguistic & Stylistic Arguments

يعترض بعض الدارسين والنقاد مثل[9] Goodspeed بأن الرسالة تحوي كثير من المفردات أو الكلمات اليونانية التي لم تستخدم في رسائل بولس الرسول hapax legomena (٣٦ كلمة)، بل وبعضها لم يستخدم في العهد الجديد كله (٤٢ كلمة). فمثلاً اعتاد الرسول أن يستخدم كلمة “Satanas (Satan)”، أما هنا فيستخدم كلمة “diabolos (devil)”  (أف ٤: ٢٧)، كما أيضًا في الرسائل الرعوية.

هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن طابعها ولغتها أقرب إلي الرسالة الأولى للقديس إكليمنضس الروماني (في عصر ما بعد الرسول بولس) منها إلي رسائل القديس بولس.

ويجيب الدارسون على هذه الاعتراضات، قائلين:

  1. علّة اختلاف المفردات vocabulary يرجع إلي اختلاف طابعها، فهي فريدة بين رسائله، “كرسالة ليتورچية”، ضمت بعض المقتطفات من التسابيح والليتورچيات الكنسية، لأن موضوعها هو “الكنيسة”، فجاءت بعض المفردات مقتطفة من الليتورچيات الكنسية.

هذا ويرى البعض أن سرّ اختلاف المفردات يرجع إلي الناسخ الذي يمليه الرسول بولس الرسالة وهو في السجن، إذ كان يستخدم نساخًا كثيرين.

  1. إن كانت قريبة إلي الرسالة الأولى لإكليمنضس الروماني، فلأن الأخيرة أخذت الكثير من هذه الرسالة.
  2. مع أن طابع هذه الرسالة ليتورچي، مختلف عن بقية الرسائل، لكنها مع هذا فهي قريبة جدًا إلي الرسول بولس، وفي جوهرها تحمل طابع وبصمات شخصيته بطريقة يصعب على آخر انتحالها، فهي بولسية تمامًا في طابعها كما سبق فرأينا.

ثانيًا: الاعتراضات الخاصة بالجانب الأدبي Literary Arguments

ركز بعض النقاد على هذه الاعتراضات بكونها أساسية، أهم هذه الاعتراضات هو التشابه القوي بينها وبين الرسالة إلي كولوسي، فإن أكثر من ربع كلمات أفسس مقتبسة من كولوسي، بينما أكثر من ثلث كلمات كولوسي مكررة في أفسس، (كما توجد ٨٣ كلمة مشتركة بين الرسالتين دون غيرهما) الأمر الذي لا نجده في الرسائل البولسية الأخرى. يقول النقاد لا يمكن لشخص كبولس الرسول صاحب الفكر المتجدد أن يكرر عبارات في رسالتين له، خاصة وأنه أحيانًا يستخدم كلمة ما بمعنى في رسالة من الرسالتين بينما ذات الكلمة تحمل معنى آخر في الرسالة الأخرى. مثال ذلك كلمة “سرّ” في كولوسي تشير إلي “المسيح”، بينما هي بعينها تشير إلي وحدة اليهود مع الأمم في أفسس.

بلغ Goodspeed إلي نتيجة خاصة وهي أن الرسالة إلي أفسس ليست من وضع الرسول بولس، إنما هي من وضع آخر بعد عهد الرسول مباشرة، أراد محاكاته مقتبسًا عبارات من كل رسائله بعد أن جُمعت هذه الرسائل، خاصة من الرسالة إلي أهل كولوسي.

ويُرد على ذلك بالآتي:

  1. الرسالة إلي أفسس، كما يرى بعض الدارسين، هي رسالة دورية لكل كنائس آسيا الصغرى خاصة لاودكية، فهي الرسالة إلي اللاودوكيون التي أشير إليها في الرسالة إلي كولوسي (كو ٤: ١٦). وقد سُجلت “الرسالة إلي أفسس” بكونها عاصمة آسيا الصغرى. وكما كانت لاودكية وكولوسي مدينتين متجاورتين لذا طالب الرسول بتبادل الرسالتين (كو ٤: ١٦)، خاصة وأنهما كُتبتا في وقت متقارب جدًا، وحملهما شخص واحد هو “تيخيكس” (أف ٦: ٢١؛ كو ٤: ٧)، وتناولا موضوعين متكاملين، فالرسالة التي بين أيدينا تتحدث عن الجسد المسيح، بينما الرسالة إلي كولوسي فموضوعها “المسيح رأس الكنيسة”. لذا يجب أن يوجد تقارب شديد بينهما. هذا التقارب لا يشكك في أن الكاتب واحد بل بالعكس يؤكد ذلك. فما حسبه النقاد برهانًا معارضًا إنما هو برهان ضدهم.
  2. لو أن كاتب آخر اقتبس من الرسول بولس من كل رسائله، لاقتبس عبارات كاملة لها رنينها الخاص، وليس كما حاول البعض وضع أعمدة بين الكلمات التي وردت في هذه الرسالة ورسائله الأخرى، حاسبين أن مجرد وجود كلمة واحدة أحيانًا علامة على اقتباسها من الرسائل البولسية. نقول العكس أن وجود كلمات مشتركة بين هذه الرسالة والرسائل الأخرى لهو تأكيد أنها رسالة بولسية.
  3. استخدام كلمات مشتركة في الرسالتين (أف، كو) بمعنيين مختلفتين لا يمثل حجه أنها غير بولسية بل بالعكس يحمل تأكيدًا أنها للرسول صاحب الفكر المتسع الذي يعطي للعبارة أكثر من معنى. فحينما يتحدث إلي أهل كولوسي عن “المسيح رأس الكنيسة” يحدثنا عن “السرّ” بكونه “سرّ المسيح”، وحينما يحدثنا في هذه الرسالة عن “الكنيسة جسد المسيح” يحدثنا عن “السرّ” بكونه إتحاد الكنيسة معًا في المسيح، سواء الذين من أصل أممي أو يهودي… فمع اختلاف المعنيين نجد انسجامًا وتكاملاً وليس تعارضًا.

ثالثًا: الاعتراضات الخاصة بالجانب التاريخي  Historical Argument

يرى بعض النقاد أن ثمة اختلاف بين هذه الرسائل والرسائل البولسية من الجانب التاريخي، من حيث أن هذه الرسالة تُظهر أن الصراع اليهودي الأممي قد استقر بينما في الرسائل الأخرى نجد الصراع حيًا وفعالاً، هذا ما جعل النقاد ينظرون إليها كرسالة متأخرة عن عصر الرسول بولس.

يُرد على ذلك بالآتي:

  1. إذ تحدث عن المصالحة بين اليهود والأمم الخلاص الصليب في جسد واحد “قاتلاً العداوة به” (٢: ١٤–١٦)، إنما تكلم بلغة لا يمكن إلاَّ أن تكون لغة الرسول بولس خادم الأمم الذي ركز أنظاره على “نقض حاجز السياج المتوسط” (٢: 1٤) قبل أن تُنقض أسوار أورشليم لتفتح للجميع.
  2. لو أن الرسالة قد كُتبت بعد الرسالة بولس لما حدث صمت عن سقوط أورشليم عندما حدث نقض الحجاب بين اليهود والأمم، الأمر الذي يؤكد أنها كُتبت في عصر الرسول.

3.غياب الحديث عن اضطهاد القرّاء يشير إلي أنها كُتبت في وقتٍ مبكرٍ جدًا من تاريخ الكنيسة، أي في العصر الرسولي.

رابعًا: الاعتراضات الخاصة بالجانب التعليمي Doctrinal Arguments

حاول بعض النقاد أن ينكروا نسبتها للرسول بولس بحجة اختلاف الأفكار التعليمية هنا عنها في الرسائل البولسية وذلك بخصوص “الكنيسة، المسيح، التعليم الاجتماعي”، ولا نريد هنا الخوض في التفاصيل إنما نريد توضيح الآتي أنه لا يوجد تناقض بين ما ورد في الرسائل الأخرى، إنما تباين وتمايز، يعطي للرسائل حيوية عوض التكرار، ويكشف أعماق الفكر اللاهوتي للرسول بولس دون جمود. خاصة وأن هذه الرسالة فريدة في موضوعها ألا وهو الكشف عن “جامعية الكنيسة”، وفريدة في اقتباسها من التسابيح والليتورچيات الكنسية.

نذكر على سبيل المثال بعض التباينات التي رآها النقاد:

  1. من جهة التعليم الخاص بالكنيسة، ففي الرسائل الأخرى يركز على الكنائس المحلية ويهتم بمشاكلها العقيدية والعملية، ويقدم تحيات خاصة بخدام أحباء عاملين في الكرم، أما هنا فلا نجد شيئًا من ذلك، ذلك لأن موضوع الرسالة هو “جامعية الكنيسة” (٤: ١–١٦)، فهو إذ يتحدث في هذا الأمر يرفعنا فوق كل ظروف كنيسة أفسس وأحداثها ومشاكلها والعاملين فيها ليعلن الكنيسة الواحدة، جسد المسيح وعروسه (راجع ٢: ٨–٩؛ ٤: ١٤؛ ٥: ٦). هذا هو الخط الواضح في الرسالة كلها متناسب ومتناغم مع الفكر الرسولي.

2.عندما يتحدث عن الرسل والأنبياء، يقدمهم كقديسين (٣: ٥)، وكأساس للكنيسة حيث المسيح حجر الزاوية (٢: ٢٠)، فظن البعض أن هذا الفكر الذي فيه توقير شديد للرسل والأنبياء يمثل ما بعد عصر الرسول، حيث كان الرسل قد رقدوا فكرّمتهم الكنيسة. هذا الاعتراض غير منطقي فإننا نجد الرسول بولس أحيانًا يدعو حتى المؤمنين أيضًا قديسين أو “مدعوين قديسين” (رو ١: ٧). أما حديثه عن الرسل بالأنبياء كأساس الكنيسة فهو فكر بولسي حق، سجله هنا عندما تحدث عن الكنيسة الجامعة.

3.عندما يتحدث عن الزواج (٥: ٢١–٢٣) يعطيه قدسية خاصة بربطه بمفهوم إتحاد الكنيسة بالمسيح، الأمر الذي لا نجده عند حديثه عن الزواج في ١ كو ٧. والسبب في هذا أنه هنا يقدم عرضًا عامًا لفهم سرّ الزواج، أما في ١ كو ٧، فيقدم إجابة خاصة بسؤال معين.

لمن أُرسلت؟

في بعض المخطوطات اليونانية القديمة لا توجد كلمتا “في أفسس”، لذا يرى بعض الدارسين أنها رسالة دورية وجهت إلي كل كنائس آسيا الصغرى لاسيما لاودكية، وأنا نسبت إلي “أفسس” بكونها عاصمة آسيا الصغرى في ذلك الحين.

هذه النظرية “إنها رسالة دورية” وجدت أيضًا اعتراضًا من بعض الدارسين، والكل فريق وجهة نظره ودلائله.

الفريق الأول يؤكد إنها رسالة دورية عامة مدللين على ذلك بعدم اهتمام الرسول بتقديم تحيات خاصة للعاملين في أفسس مع أن للرسول ذكريات كثيرة في هذه الكنيسة بكونه مؤسسها. هذا ولا نجد في الرسالة معالجة لمشاكل خاصة بكنيسة معينة كبقية الرسائل.

كما يقولون بأننا رجعنا إلي سفر الرؤيا (رؤ ٣: ١٦) نجد السيد المسيح القائم من الأموات يُعلن أنه ينزع اسم لاودكية من فمه، وبالفعل استبدلت لاودكية بأفسس.

بدأ مرقيون، في القرن الثاني، بفكرة إرسالها “إلي لاودكية”، وقد عارضه بعض آباء الكنيسة مؤكدين أنها أُرسلت إلي أفسس أصلاً. من بين الآباء المنادين بهذا الرأي: العلامة ترتليان[10]، والقديس إكليمنضس السكندري[11]، والقديس ايريناؤس[12]، والعلامة أوريجينوس، وأيضًا شهادة القانون الموراتاني.

أما الفريق الآخر المعارض لنظرية “دورية الرسالة”، فيرى أنها سُجلت في أواخر حياة الرسول، حين كان في سجن روما، موجهًا إياها لا إلي الكنيسة التي في أفسس ككل، وإنما إلي الأعضاء الذين هم من أصل أممي، إلي أشخاص لا يعرفهم، قبلوا الإيمان ونالوا العماد بعد رحيله النهائي من المدينة. فهو يعرف كنيسة أفسس التي أسسها، لكنه يتحدث هنا إلي الأمم.

هذا من جانب ومن جانب آخر فإنه إذ يكتب عن مفهوم “الكنيسة الجامعة” أراد ألاَّ يذكر أسماء ليرتفع بهم إلي ما فوق العلاقات الشخصية، بينما في الرسائل الأخرى يكتب عن مشاكل محلية، فأراد تأكيد علاقة المحبة الشخصية. إنهما فكران متكاملان ومتلازمان واضحان في حياة الرسول بولس الذي يود كراعٍ حقيقيٍ أن يعرف الرعية، إن أمكن شخصًا شخصًا، وذلك في المسيح يسوع، وفي نفس الوقت يرتفع بنظره فوق الأحداث ويرى كنيسة المسيح الواحدة والجامعة دون التحيّز لشخص أو أشخاص.

هذا ويرى هذا الفريق إن كان بعضًا من السكندريين قدموا الرسالة دون أن تعنوّن لكنسية معينة، فذلك لأنهم استخدموها في الليتورچيات الكنسية.

تاريخ كتابتها

لم يُظهر الرسول في هذه الرسالة متى كتبها ولا أين كتبها، لكنه أوضح أنه كان أسيرًا بدليل قوله: “أنا بولس أسير يسوع المسيح لأجلكم” (٣: ١)؛ “أطلب إليكم أن لا تكلوا في شدائدي لأجلكم” (١: ١٣)؛ “أنا الأسير في الرب” (٤: ١)؛ “أنا سفير في سلاسل” (٦: ٢٠).

الرأي الأرجح إنها كتبت حوالي سنة ٦٣م، حين أُذن له أن يستأجر بيتًا في روما لمدة سنتين، وقبل جميع الذين أتوا إليه، كارزًا بملكوت الله، بكل مجاهرة بلا مانع (أع ٢٨: ٣٠). في هاتين السنتين كتب كل رسائل الأسر: “كولوسي، أفسس، فيلبي، فليمون“.

غير أن الباحثين من أمثال Reuss وMayer يعتقدون أن الرسول بولس كتب الرسائل إلي أهل أفسس وإلي أهل كولوسي وإلي فليمون أبان سجنه في قيصرية (أع ٢٣: ٣٥؛ ٢٤: ٢٧) ما بين سنة ٥٨م و سنة ٦٠م. قدم ماير أربعة براهين يمكن الرد عليها[13]:

  1. أنه أكثر قبولاً أن يكون أنسيموس قد رحل إلي قيصرية عن أن يكون قد قطع رحلة طويلة ليذهب إلي روما، ويُرد على ذلك بأنه على العكس الأكثر قبولاً أن يتجه أنسيموس العبد السارق إلي روما، أولاً لبعدها عن مكان سيده (فليمون) لئلا يجده فيقتله، وثانيًا لأن روما متسعة يمكن أن يختفي فيها وليس مثل قيصرية المدينة الصغيرة حيث يمكن أن تنكشف قصته هناك.
  2. لو أن هذه الرسائل كتبت من روما كان من الطبيعي أن يعبر أنسيموس وتيخيكس حاملاً الرسائل على أفسس قبل وصولهما إلي كولوسي، وكان من الطبيعي أن يشير إليهما الرسول بولس في الرسالة إلي أفسس كما فعل في الرسالة إلي كولوسي (٤: ٩)، أما كونه لم يشر إلي الاثنين في الرسالة إلي أفسس فلأنهما جاءا من قيصرية إلي كولوسي أولاً حيث استقر أنسيموس ولم يذهب مع تيخيكس إلي أفسس، لهذا لم تكن هناك حاجة إلاَّ إلى ذكر تيخيكس، ويُرد على ذلك بأن الرسالة إلي أفسس غالبًا رسالة دورية إلي كل كنائس آسيا الصغرى فلا حاجة لذكر أنسيموس.
  3. في قوله: “ولكن لكي تعلموا أنتم أيضًا أحوالي...” (أف ٦: ٢١)، ما يشير إلي أن تيخيكس عبر أولاً على كولوسي وأخبرهم ثم ذهب إلي أفسس يخبرهم هم “أيضًا” بأحواله. وهذا يتحقق بمجيئه من جهة قيصرية لا روما. يُرد على ذلك بأن كلمة “أيضًا” تحمل تفاسير كثيرة، منها أنها تشير إلي أن الرسالة إلي أهل كولوسي قد كُتبت أولاً وحملت أخباره إلي المنطقة ككل، وجاءت هذه الرسالة تكمل الحديث لتعلن أن تيخيكس سيخبرهم بأمور جديدة أيضًا.
  4. طلب الرسول بولس من فليمون أن يعد له منزلاً (فل ٢٢) تعني أنه بالقرب منه في قيصرية. ويُرد على ذلك بأن الرسول لم يكن يتحدث عن مجيء سريع.

هذا وقد جاء التقليد الكنسي يؤكد أن رسائل الأسر كُتبت من روما وليس من قيصرية، خاصة وأن ما ورد في أف (١٦: ١٩، ٢٠) يوضح أن الرسول بولس كان يتمتع ببعض الحرية يستغلها في الكرازة بالإنجيل، هذا يناسب حاله في روما (أع ٢٨: ١٦) لا في قيصرية (أع ٢٤: ٢٣).

موضوع الرسالة

تُعتبر هذه الرسالة “كنسية” في جوهرها، موضوعها الرئيسي هو “الكنيسة” وعلاقة المسيح بها. الكنيسة بالنسبة للسيد المسيح هي الجسد بالنسبة للرأس (١: ٢٣)، والعروس لعريسها (٥: ٢٣–٣٢).

غاية الرسالة إعلان عن خطة الله في خلق شعب مسياني لله، جماعة مقدسة جديدة، متحدة بالرأس المسيح. هذا هو “سرّ محبة الله البشرية”.

بعد أن أكدّ الرسول في الأصحاحات الثلاثة الأولى عمومية الخلاص اليهودي كما للأممي أوضح في الأصحاحات الثلاثة الأخيرة (٤–٦) أن وحدة الإيمان والقداسة والسلوكيات الشخصية والاجتماعية وأيضًا أسلحة المؤمن الروحية يلزم أن تمارس من خلال الكنيسة وداخلها[14]. وقد دعاها بعض الدارسين “إكليل البولسية Crown of Paulinism”.

سماتها

اتسمت هذه الرسالة عن بقية الرسائل البولسية بالاهتمام بالفكر الكنسي الرسولي، لذا جاءت تحمل طابعًا خاصًا بها وسمات فريدة، نذكر منها:

أولاً: تمثل هذه الرسالة أنشودة كنسية أو تسبحة يلهج بها الرسول بولس المتهلل بالروح، إذ يرى الحجاب الحاجز بين اليهود والأمم قد انشق، والعداوة قد بطلت بالصليب، فجاءت رسالة ليتورچية Liturgical تسبيحية[15] Hymnodic، إذ فيها يشجع الرسول أن يتكلم كل واحد بالمزامير والتسابيح (٥: ١٩).

ثانيًا: ضمت هذه الرسالة بعض التسابيح كانت مستخدمة في عصره، أو مقتطفات منها، مثل: ١: ٣–١٤، ٢٠–٢٣؛ ٢: ٤–٧، ١٠، ١٤–١٨، ٢٠–٢٢؛ ٣: ٥، ٢٠–٢١؛ ٤: ٤–٦، ١١–١٣؛ ٥: ٢، ١٤، ٢٥–٢٧. هذه المقتطفات كان لها أثرها على لغة الرسالة كما رأينا وأسلوبها، نضيف إليها الآتي:

  1. كثرة الأفعال عن الأسماء بخلاف بقية الرسائل البولسية، فهنا نجد ٢٣١ فعلاً مقابل ١٥٨ اسمًا، بينما في غلاطية ١٣٩ فعلاً مقابل ٣٠٢ اسمًا، وفي رومية ٣٦٣ فعلاً مقابل ٣٧٧ اسمًا.
  2. كثرة حروف الجر مثل: “مثل، لأن، هكذا، لذلك الخ.”، تُستخدم في بداية المقتطف أو نهايته.
  3. تأتي العبارات المقتطفة أحيانًا في شكل عارض وسط النص.
  4. كثيرًا ما لا يذكر اسم الله إنما يكتفي بالقول: “الذي” أو “فيه” أو “خلاله”.
  5. يتحدث عن المنتفعين بإمكانيات الله في صيغة الشخص الأول الجمع، مثل “أبينا، ربنا، اختارنا الخ”.

ثالثًا:  إذ يتحدث عن الكنيسة عروس المسيح المتحدة مع الآب في ابنه، لذا أبرز الله ليس فقط كمجيدٍ (١: ١٧) وقديرٍ (١: ١٩) وإنما أيضًا كرحيمٍ (٢: ٤ الخ). تحدث عن الكنيسة بكونها “في المسيح”، إذ فيه تنال كل بركة سماوية (١: ٣)، وفيه تم اختيارها (١: ٤)، وفيه نالت الفداء (١: ٧) الخ[16]. كما أعلن قوة صليبه في المصالحة (ص ٢)، وأبرز عمل الروح القدس (٢: ١٨؛ ٣: ٥؛ ٤: ١ الخ؛ ٥: ١٨). بمعنى آخر الكنيسة هي من صنع محبة الآب محب البشر، وعمل الابن الذي ضمها إليه خلال الصليب بفعل الروح القدس واهب الشركة.

رابعًا: مادام الرسول يعلن عن الكنيسة الجامعة في إتحادها الخفي بعريسها السماوي، فقد أكدّ طبيعتها السماوية، ساحبًا قلوبنا إلي السماويات عينها. ففي الافتتاحية إذ يسبح الله يقول: “مُبَارَكٌ اللهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بَارَكَنَا بِكُلِّ بَرَكَةٍ رُوحِيَّةٍ فِي السَّمَاوِيَّاتِ فِي الْمَسِيحِ” (١: ٣). نستطيع أن نقول أنه عني بقوله “في السماويات” أي “في الحياة الكنسية” بكونها تمتع بعربون السماء!

وعندما تحدث عن عمل الآب في المسيح رأس الكنيسة، قال: “أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ، وَأَجْلَسَهُ عَنْ يَمِينِهِ فِي السَّمَاوِيَّاتِ” (١: ٢٠) لكي به نقوم نحن من موت الخطية ونجلس في السماويات، أي نمارس الحياة الكنسية بكونها “حياة في المسيح السماوي”.

هذا ما عاد ليؤكده بقوله: “َأَقَامَنَا مَعَهُ، وَأَجْلَسَنَا مَعَهُ فِي السَّمَاوِيَّاتِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ” (٢: ٦).

في الأصحاح الثالث يعلن: “لِكَيْ يُعَرَّفَ الآنَ عِنْدَ الرُّؤَسَاءِ وَالسَّلاَطِينِ فِي السَّمَاوِيَّاتِ بِوَاسِطَةِ الْكَنِيسَةِ بِحِكْمَةِ اللهِ الْمُتَنَوِّعَةِ” (٣: ١٠).

حتى جهادنا ضد الشياطين إنما يتحقق لأجل السماويات، “فَإِنَّ مُصَارَعَتَنَا لَيْسَتْ مَعَ دَمٍ وَلَحْمٍ، بَلْ… مَعَ أَجْنَادِ الشَّرِّ الرُّوحِيَّةِ فِي السَّمَاوِيَّاتِ” (٦: ١٢).

هكذا نرى الخط السماوي واضحًا، فالكنيسة حياة سماوية، وأبونا سماوي، ومسيحنا يجلس في السماويات ليُجلسنا معه، وعدو الخير يقاتلنا ليحرمنا من السماويات.

خامسًا: أبرزت الرسالة قدسية الكنيسة كحياة مع المسيح، حياة فائقة علوية لكنها واقعية ومُعاشة. لعل القديس يوحنا الذهبي الفم في عظته عن سقوط أتروبيوس إذ تحدث عن الكنيسة بفيض استوحى مفاهيمها القدسية من هذه الرسالة، فق جاء فيها:

[ليس شيء مستقر مثل الكنيسة، إنها خلاصكم وملجأكم!

عالية أعلى من السموات، وقريبة أقرب من الأرض.

إنها لا تشيخ، بل تبقى مزدهرة على الدوام…

آلاف الأسماء تحاول أن تعبّر عن سموها، كما يُلقب الرب بأسماء كثيرة… إنها عروس في وقتٍ ما، وابنة في وقت آخر، عذراء وأمة وأيضًا ملكة[17].]

هي عالية أعلى من السماء، لأنها ترفعنا إلي العضوية في جسد المسيح، الأمر الذي يشتاق السمائيون أن يدركوا أسراره، وهي قريبة منا جدًا أقرب من الأرض لأنها تمثل حياة نعيشها واقعيًا ونمارسها في حياتنا في الداخل كما في السلوك الظاهر.

سادسًا: لاحظ كثير من الدارسين أن هذه الرسالة، دون غيرها من رسائل معلمنا بولس الرسول، قد ركزت على السيد المسيح الممجد لا المتألم، وذلك لأنها رسالة الكنيسة الخفية التي وإن شاركت مسيحها آلامه لكنها ترجو التمتع بشركة أمجاده السماوية…

إنها رسالة إله المجد، الآب الممجد والابن الممجد. لذا في الأصحاح الأول نجده يكرر “مدح مجده” ثلاث مرات (١: ٦، ١٢، ١٤). فبممارستنا الحياة الكنسية نقدم أنشودة “مدح مجده” لا بألسنتنا فحسب، وإنما بكل حياتنا.

سابعًا: منذ سنة ١٨٣٥ حيث اعتقد F.C. Baur أن الرسالة إلي أفسس تحمل اتجاهات غنوسية ظهرت في النصف الثاني من القرن الثاني، اهتم الدارسون بمدى علاقة هذه الرسالة بالكتابات الغنوسية، خاصة بعد ظهور مخطوطات نجع حمادي الغنوسية المشهورة.

وقد ظن البعض أن الرسالة حملت أفكارًا غنوسية وضد غنوسية في نفس الوقت[18]، والسبب في ذلك أنه استخدم عباراتهم لكن بمفاهيم مختلفة تمامًا عن مفاهيمهم، وقد سبق لنا الحديث في هذا الشأن[19]، نذكر على سبيل المثال أن الرسول بولس كثيرًا ما تحدث في هذه الرسالة عن “المعرفة” لكنه لا يقدم “معرفة gnosis” حسب الفكر الغنوسي التي تعني احتلال العقل والمعرفة البشرية محل الإيمان، وإنما يتحدث عنها كعطية علوية تعلن ما هو خفي، غايتها الخلاص، تربط مقتنيها بالله كطريق حياة روحي، مركزها السيد المسيح.

أقسام الرسالة

الباب الأول: سرّ خطة الله، “شعب الله المسياني”        ص ١ – ٣.

  1. الكنيسة وسرّ المعرفة ص ١.
  2. الكنيسة وسرّ المصالحة ص ٢.
  3. الكنيسة الجامعة وسرّ المسيح ص ٣.

الباب الثاني: الحياة الكنسية العملية                    ص ٤ – ٦.

  1. الوحدة وإضرام المواهب ص ٤.
  2. العبادة والسلوك ص ٥.
  3. الحياة العملية والجهاد الروحي ص ٦.

[1] New Westminster Dictionary of the Bible, p 271.

[2] Jos. Antiq. 14: 10, 11, 13.

[3] Donald Guthrie: The N.T. Introd., p 479 ff.

  1. Cullmann: N.T. Introd., 1968 (Ep. To Ep.)

[4] الثمان نقاط الأولى مقتبسة من دونالد جاثري في كتابه “مقدمات في العهد الجديد، بشيء من التصرف”.

[5] Ep. ad Eph. 12.

[6] Ep. ad Phil 12: 1.

[7] SIm 13: 5.

[8] Line 51.

[9] Key to Ephes. 1956, VI.

[10] Adv. Marc. V: 17.

[11] Stromata 4: 6: 1.

[12] Adv. Haer. 5: 2: 36.

13 راجع مذكرة الدكتور موريس تاوضروس: “دراسات في الرسالة إلي أفسس”، ص ٩، ١٠.

[14] Oscar Cullmann: The New Testament Intr., 1968, p 78.

[15] The Anchor Bible, Ephesians, vol 1, p 6 (N.Y. 1980)

[16] للمؤلف: القديس بولس الرسول ومنهجه الإنجيلي…، ١٩٨٥، ص ٤٠.

[17] P.G. 52: 402.

[18] The Anchor Bible, p 12 – 18

[19] للمؤلف: القديس بولس الرسول ومنهجه الإنجيلي…، ص ٣٠، ٣١.

تفسير رسالة أفسس – المقدمة – القمص تادرس يعقوب ملطي