Site icon فريق اللاهوت الدفاعي

تفسير رسالة كولوسي 3 الأصحاح الثالث – القمص تادرس يعقوب ملطي

تفسير رسالة كولوسي 3 الأصحاح الثالث – القمص تادرس يعقوب ملطي

تفسير رسالة كولوسي 3 الأصحاح الثالث – القمص تادرس يعقوب ملطي

تفسير رسالة كولوسي 3 الأصحاح الثالث – القمص تادرس يعقوب ملطي

 

الأصحاح الثالث: المسيح والحياة الداخليَّة

 

حدّثنا الرسول بولس في الأصحاحين السابقين عن سمو السيّد المسيح، فهو العمق الذي يحملنا بروح الرجاء إلى السماء. وهو العلوّ الذي إذ نتأصّل فيه ونتأسّس فلن يهتز بناؤنا. الآن يحدّثنا عن المسيح السماوي الذي يقيمنا لنختبر السماويّات، وتتجدّد حياتنا فيه كل يوم، ويقود كل مشاعرنا وسلوكنا في البيت كما في الجماعة.

لا يمكن لحياتنا أن تنمو في أعماقها ولا أن ترتفع إلى أعلى ما لم تنمو داخليًا. يجب أن نعرف أن المسيح هو حياتنا، يسكن فينا. السيّد المسيح هو قانون حياتنا والموجّه لسلوكنا الخارجي كما الداخلي.

  1. الحياة مع السماوي 1-4.
  2. خلع أعمال الإنسان 5-9.
  3. التمتّع بالإنسان الجديد 10-15.
  4. التسبيح والشكر 16-17.
  5. المسيح قانون الأسرة 18-25.

1. الحياة مع السماوي

“فإن كنتم قد قمتم مع المسيح،

فاطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله” [1].

بعد أن حذرهم من البدع التي تحط من شأن السيد المسيح وعمله الخلاصي، كشف لهم عن بركات الاتحاد مع المسيح القائم من الأموات والصاعد إلى السماوات. فالمؤمن يطلب ما هو فوق، أي يشتاق ويسأل ويجاهد بالنعمة الإلهيَّة لكي يتمتّع بما هو لمملكة المسيح. هذا يتطلّب منه رفع فكره ليستقرّ هناك.

رفع القلب والفكر هو عطية إلهيّة، لكن يلزمنا أن نسعى لنوالها. سبق فتحدث عن الدفن مع المسيح في المعمودية، لا لنبقي كما في القبر بل نقوم معه، حسب وعده الإلهي: “لأني أنا حي فأنتم ستحيون” (يو 14: 19). إنه حي قائم في السماوات، يسحب قلوبنا وأفكارنا إليه، فنحيا معه متهللين في السماويات.

إذ رأى التلاميذ الرب صاعدًا إلى السماء رجعوا إلى أورشليم بفرحٍ عظيمٍ يسبحون الله ويباركونه (لو 24: 51-53). ونحن إذ نقوم معه ونصعد بقلوبنا إليه نتحرر من سلطان الخطية التي لا موضع لها في السماويات. نترنم مع الرسول قائلين: “لأن ناموس روح الحياة في المسيح يسوع قد اعتقني من ناموس الخطية والموت” (رو 8: 2).

وإذ نحن متأصلوِّن في المسيح وحياتنا هي فيه, فنحن ليس فقط نموت معه, بل نتمتع بالوحدة معه في قيامته وتصعد قلوبنا معه, ففي موت المسيح متنا عن الخطية، وفي قيامته قمنا لنحيا حياة جديدة. وبصعوده نعاين كنوز غنى ومباهج السماويات. حياتنا الجديدة في المسيح تحررنا من الاهتمام بأمور هذا العالم، فنصير “أمواتا عن العالم” ونجد أن حياتنا الحقيقية هي في المسيح الصاعد إلى السماوات ومعه. كلما نعرفه نكتشف تدريجيًا الجمال الكامن في الشركة مع ربنا يسوع، فنتمتع بالشركة في سماته، كالحب والرحمة والرأفة والوداعة والرأفة وطول الأناة [12].

كما دخل يشوع بشعب الله إلى كنعان لينال كل واحدٍ نصيبه في أرض الموعد (يش 11: 23)، هكذا يصعد بنا ربنا يسوع إلى كنعان السماوية كقائدٍ لموكب النصرة، فينال كل مؤمن نصيبه في المجد السماوي.

اُخترعت الغواصةُ لتبحرَ تحت الماء. ومع هذا تزُوِّد الغواصة بمنظارٍ مكبر, به تفتش عن الأشياء التي على سطح المياه, فهي تمخض عباب المياه، لكن سلامتها في الداخل مرتهنة بما يتوفر لديها من معرفة للأمور العلوية. ونحن نعيش في العالم, لكن فلتملاْ السماءُ أَفكارنا. إذ نثبت أنظارنا على المسيح وهو يجتذبنا إلى أَعلى.

المسيحيةُ ليست سلسلةً من أعمال التخلي فقط، بقدر ما هي تمتع بالحياة الجديدة, فكُلَّما عرفنا المسيح أفضل لا تعود أمور كثيرة تجتذب اهتماماتنا. إذ يضيف المسيح الكثير إلى حياتنا فلا تتسع لمزيد من الأمور العتيقة. به فقدنا متعة اللذة بأعمال الإنسان العتيق, وصرنا الآن منشغلين تمامًا بالحياة الجديدة في المسيح.

ربما يتساءل البعض: مادمنا نقوم مع المسيح ونطلب ما هو فوق، فلماذا نسقط في الخطية؟

  1. اتكالنا على ذواتنا دون طلب عون النعمة الإلهية خلال الشركة المستمرة مع الله بغير انقطاع.
  2. التهاون في الصغائر. إذ نحظى بالنعم الإلهية يبيد أغلبها بسبب إهمالنا.
  3. يقول معلمنا يعقوب: “كل واحد يجرب إذا انجذب وانخدع من شهوته” (1: 14). يجب ألا يكون لنا أي ارتباط بالطبيعة العتيقة, إذ يطالبنا القديس بولس أن نميت شهواتنا الشريرة. فإذ ننال حياتنا الجديدة في المسيح يسوع, نخلع الحياة العتيقة بكل أفعالها. يحثُّنا القديس بولس أن نُميت الطبيعة القديمة، فنكُف عن كل رذائلها والتي ضمها بولس في قائمة واحدة, أي الموت والفساد والنجاسة والشهوة الردية والطمع, ثم الغضب الناجم عن الأهواء الردية والنقمة وخطايا الكلام الكثيرة, فلنكف على الدوام عن تلك الخطايا, وهذا الأمر مستطاع في المسيح. هل تتخيلون كم تكون سخافتنا إِن اشترينا ثوبًا جديدًا، لكننا رفضنا أن نخلع القديم الذي لبسناه, فنصُّر على لبس الجديد دون أن نخلع عنا القديم! إن كثيرين من المسيحيين يفعلون ذلك. إنهم يحاولون أن يلبسوا ثوب الحياة الجديدة فوق طبيعتهم القديمة. وهذا لا يحدث مطلقًا. فعلينا أولا أن نترك الخطية ونحن نلبس الحياة الجديدة.
  4. التوقف عن النمو, فمع كل يوم نتمتع بما هو جديد علينا أن نتعلمه. يليق بنا أن نتشبه بالرسول بولس فنشتهي أن ننمو لنبلغ إلى قامة ملء المسيح.

سلوك المسيحي هو ما يراك الناسُ تمارسه, كما تشير الملابس إلى الكثير من طباعك. إن كنت مهملاً أم مهتمًا, إن كنت جنديًا أم مدنيًا, ملكا أم مِن العامة, هكذا فإن التعبير الخارجي يُظهِر لمن تنتمي ومَن تخدم (أع 23:27).

هذه الحياة الجديدة التي نقبلها من المسيح تتجدد دومًا كلما نمونا في معرفة ربنا ومخلصنا. لكن يليق بنا ونحن ننشغل بالامتيازات العظيمة التي لنا في المسيح, لا نهمل واجبنا من نحو رفقائنا. معرفتنا للمسيح تجعلنا نفكر بالأكثر في الآخرين فنتعلم أكثر عن تلك الحياة الجديدة: كاللطف والرأفات والوداعة وطول الأناة والغفران والحب [12-14]. أجل فإن تلك هي الأمور التي يجب أن نتحلى بها. فإن عشنا هكذا نحظى بالكمال ونحن على الأرض. ويقول القديس بولس إن تلك الفضائل تشبه قطعًا من القماش منسوجةً كُلٍ منها في موضعها كما بحزام من حب (1 كو 13). وهذا الأمر يملاْ حياتنا بسلام الله.

يوصي القديس بولس أن “نطلب ما فوق“، أي “الحياة السماوية المتهللة على مستوى عالٍ. فقلب المسيحي قلب مرتل (16:3). ويريدنا المسيح أن نتعلم كلامه, ويريدنا أن نعبِّر عن فرحنا فيه بالتسابيح والترانيم فنشارك السماويين حياتهم.

الحياة السماوية ليست بالأمر الفوري ولا السهل. إنما تتطلب جهادًا مستمرًا وطلبًا له وسعيًا لأجل إتمامها. يلزمنا أن نطلب مشيئة الله السماوي, من أجَّل الله ذاته.

الأب أفراحات

القديس أمبروسيوس

القديس يوحنا الذهبي الفم

هل تشتاقون أن تصيروا سماءً؟ طهروا قلوبكم من الأرض! فإذ لا تكون لكم شهوات أرضية, ولا تنطقوا عبثا: “قلوبنا هي فوق”، تصيرون سماءً . “فإن كنتم قد قمتم مع المسيح” كما يقول الرسول للمؤمنين فتشتهون ما هو فوق، ولا تشتهون ما هو بأسفل على الأرض, أفلا تصيرون سماءً؟ أنتم تحملون جسدًا, لكن بسيرتكم تحيون حياة السماء, وإِذ أنتم هكذا, فأنتم تعلنون المسيح (للناس) لأنه مَن من المؤمنين لا يُعلن المسيح؟[6]

القديس أغسطينوس

القديس باسيليوس الكبير

القديس غريغوريوس النيسي

 القديس يوحنا الدلياتي

“اهتموا بما فوق، لا بما على الأرض” [2].

يمثل أدم الطبيعة البشرية وكل ما هو أرضي, أما المسيح, آدم الثاني، فإنه يمثل السماويات (1 كو 45:15-49)، فعلامَ نثبت فكرنا وقلوبنا؟

 يرى القديس جيروم أن الذي يرتفع قلبه وفكره إلى السماء يكون كعصفورٍ طائرٍ في السماء فلا تقدر الحية التي تزحف على الأرض أن تبتلعه. ويرى القديس أغسطينوس أن مثل هذا المؤمن يتحول من ترابٍ إلى سماءٍ، فلا يصير مأكلاً للحية التي تلحس تراب الأرض.

القديس أغسطينوس

إذ ترتفع قلوبنا إلى السماء تسمو كل انفعالاتنا وحواسنا وعواطفنا وكل طاقاتنا لتسبح في السماويات ولا تُمتص في الأمور الجسدانية.

القديس غريغوريوس النيسي

القديس يوحنا الذهبي الفم

القديس أمبروسيوس

“لأنكم قد متم،

وحياتكم مستترة مع المسيح في الله” [3].

الموت الذي يتحدث عنه هنا ليس الموت البدني، ولا هو الانفصال عن الله. فالموت انفصال, لكن الانفصال هنا عن العالم وشروره بل هو أيضًا بمعنى أن ندير ظهورنا إلى أساليب حياتنا القديمة.

يقول القديس يوحنا الذهبي الفم بأن السيد المسيح كاللؤلؤة التي تظل مختفية طالما هي في قلب القوقعة الصدفية.

القديس يوحنا الذهبي الفم

 القديس يوحنا الدلياتي

القديس أغسطينوس

وحياتكم مستترة مع المسيح في الله” أية حياة؟ بالتأكيد ليست حياة أجسادنا، بل علاقتنا الروحية بالله، وتنفيذ مشيئته فينا. المسيح هو حياتنا، وعلينا أن نحيا كما يحيا هو (1 يو 6:2).

“متى أٌظهر المسيح حياتنا،

فحينئذ تظهرون أنتم أيضا معه في المجد” [4].

القديس أمبروسيوس

القديس أغسطينوس

القديس أمبروسيوس

القديس يوحنا الذهبي الفم

القديس كيرلس السكندري

القديس أغسطينوس

استخدام بولس لضمير (المخاطب أنتم you) لا يدلل على أن الأمر يخص المجيء الثاني, بل بالحري سمو وتمجيد الرب في حياة المؤمن. وهو يستخدم هذا الضمير، لأن القديس بولس قد صار فعلاً متشبها بالمسيح لهذا قال: “تمثلوا بي” (1كو1:11)، وهو الآن يطلب نفس الأمر لأهل كولوسي. 

القديس يوحنا الذهبي الفم

2. خلع أعمال الإنسان

“فأميتوا أعضاءكم التي على الأرض:

الزنى، النجاسة، الهوى، الشهوة الردية،

الطمع الذي هو عبادة الأوثان” [5].

فأميتوا أعضاءكم“: لا يعني هنا تدمير الأعضاء الجسدية، بل إماتة الإنسان العتيق أو الطبيعة الفاسدة التي ورثناها عن آدم، وتغلغلت فينا، وملكت على أعماقنا، فأفسدت إرادتنا وأفكارنا وعواطفنا وأحاسيسنا. وظهر آثارها على كل حياة الإنسان الداخلية وسلوكه، لهذا دعيت “الإنسان القديم“. إنها الطبيعة الفاسدة التي تثير الزنى والنجاسة والهوى والشهوة الرديئة والطمع، إن لم يكن في السلوك الظاهر ففي الفكر، وإن لم تكن بالفكر، تبقي كامنة في اللاشعور حتى تتحين الفرصة لتسيطر وتوجه كل كيان الإنسان.

ويذكر الرسول تلك الرذائل ويعددها – كما في ا تس3:4-8، لكنه يضيف هنا “عبادة الأوثان“. وفي الحقيقة, فإن أي شيء يملاْ قلوبنا وعقولنا ويحل محل الله يمكن أن يُسَّمى الشهوة أو الهوى.

لا يليق بنا أن نتهاون مع أي فكر شرير خاطئ، فهو وإن كان قد مات فإن لبعضها قوة قيامة هائلة. ففي مقدورنا أن نميتها، وفي لحظة تنبعث فيها الحياة من جديد!

القديس باسيليوس الكبير

القديس أغسطينوس

القديس أغسطينوس

القديس كيرلس السكندري

إنه أسوأ من أية شهوة. إنه مثير للحزن أكثر من الجنون الذي أتحدث عنه, وأخطر من الضعف السخيف أمام الملل إذ يقول: “الطمع الذي هو عبادة الأوثان” أرأيتم إِلام يقود الشر… لا أقول لكم هذا بسبب أحزان الفقراء بل لخلاصكم، لأنه سيهلك أولئك الذين لم يقوتوا المسيح…

أخبروني إذن حينما قال: “أميتوا أعضاءكم التي على الأرض”, فهل اتهم الأرض أيضًا؟ أو هل يتكلم عن الأمور الأرضية كأنها خطايا؟

هاهو يسرد كل القائمة معًا, لأن الحسد والغضب والهوى كلها شهوات رديئة ولم يقل “عليكم” بل “على أبناء المعصية” [6][32].

القديس يوحنا الذهبي الفم

القديس غريغوريوس النيسي

القديس دوروثيوس من غزة

القديس جيروم

القديس ايريناوس

والشهوة تشمل الدنس، وحينما يسقط الناس مع الداعرات، فيدنسون أعضاء المسيح التي يجب أن تكون “ذبيحة حية مقبولة أمام الله”.

والخداع أيضًا عبادة أوثان، وفي سفر الأعمال نقرأ عن الذين تبرعوا بممتلكاتهم، لكن البعض منهم حجزوا جزءًا منها أو من ثمنها، فهلكوا بموت ردي في الحال.

إذن اعلموا جيدا يا إخوتي, أن لا شيء لكم لتحجزوه، إذ يقول الرب: “إن كان أحد منكم لا يترك كل ما له, لا يقدر أن يكون لي تلميذًا” فلماذا تكون مسيحيًا منقسم القلب؟ half – hearted[37]

القديس جيروم

القديس يوحنا كاسيان

“الأمور التي من أجلها يأتي غضب الله على أبناء المعصية” [6].

ماذا يعني بغضب الله؟ الله الكلي الحب والقداسة لا يحطم أحدًا، لكن إذ يعطي الإنسان لله القفا لا الوجه، يحطم الإنسان نفسه بنفسه، إذ تثمر الخطية موتًا وفسادًا. هذا ما عبر عنه الكتاب المقدس بغضب الله أو تركه لهم. فإذ يختار الإنسان الفساد يسلمه الله لشهوة قلبه. “أسلمهم الله أيضًا في شهوات قلوبهم إلى النجاسة لإهانة أجسادهم بين ذواتهم” (رو 1: 24).

لعل أوضح مثل معاصر هو الأمراض الجنسية كالإيدز التي تحطم حياة الإنسان جسديًا ونفسيًا وروحيًا، مالم يقدم الإنسان توبة ورجوع إلى الله مصدر حياته.

تشير الكلمة إلى موقف الله تجاه الذين يتمردون, أولئك الذين يرفضون أعز هباته.

“الذين بينهم أنتم أيضًا سلكتم قبلاً،

حين كنتم تعيشون فيها” [7].

يقدم لهم حياتهم قبل الإيمان مثلاً عمليًا حين كانوا يعيشون في الخطية، حتى دخلت نعمة الله في حياتهم وانتشلتهم من قيودها وحررتهم، لكن بقي لهم أن يجاهدوا بالنعمة لكي يعيشوا كما يليق بأبناء الله المقدسين.

القديس أغسطينوس

“وأما الآن فاطرحوا عنكم انتم أيضًا الكل:

الغضب، السخط، الخبث، التجديف، الكلام القبيح من أفواهكم” [8].

يطالبهم الرسول أن يطرحوا عنهم ما لا يليق بهم.

الغضب“: هو انفعال الإنسان للأحداث بسبب تطلعه إلى الأحداث المحيطة به عوض الانشغال بالمسيح الساكن فيه، لهذا يفقد سلطانه في المسيح يسوع، مبررًا بأنه إنسان بطبعه انفعالي: “البطيء الغضب خير من الجبار، ومالك روحه خير ممن يأخذ مدينة” (أم 16: 32).

السخط “: حيث يتحول الغضب إلى ثورة انفعالية.

الخبث“: وهو أخطر من الغضب والسخط، إذ يلبس الإنسان صورة الهدوء والسكون بينما يحمل في داخله روح الكراهية والانتقام، وذلك كما دبر أبشالوم لقتل أخيه أمنون (2 صم 13).

التجديف“: التهجم الكاذب على الله وتدبيره وخطته من جهة البشرية، والأمجاد المعدة للقديسين.

الكلام القبيح“: كالهزل والفكاهة غير الهادفة والتهكم على الآخرين. “لا القباحة ولا كلام السفاهة، والهزل التي لا تليق، بل بالحري الشكر” (أف 5: 4).

 وقد يمدحنا الناس كحكماء، ولكننا لن نكون حكماء إذا لازمنا الغضب، لأنه مكتوب: “الغضب يسكن مستريحًا في صدر الأحمق” (جا 7: 9 LXX). وهو ما يعرضنا لفقدان ميراث الحياة الأبدية. وقد يظهر لنا أننا نفهم الطبيعة الإنسانية وندرك أسرارها، ولكن إذا ظل الغضب فينا، تم فينا ما هو مكتوب: “الغضب يدمر الحكماء” (أم 15: 1 LXX). ويحرمنا الغضب من إدراك “برّ الله”، لأننا بسبب الغضب نفقد الإفراز، ومع أن الناس قد يقولوا عنا أننا قديسون وكاملون إلا أنه مكتوب “غضب الإنسان لا يصنع برّ الله.” (يع 1: 20)[42].

القديس يوحنا كاسيان

“لا تكذبوا بعضكم على بعض،

إذ خلعتم الإنسان العتيق مع أعماله” [9].

الكذب“: إن كان السيد المسيح هو الحق، فإن إبليس هو الكذاب وأب الكذابين. “لم يثبت في الحق، لأنه ليس فيه حق، متى تكلم بالكذب فإنما يتكلم مما له، لأنه كذاب وأبو الكذاب” (يو 8: 44).

القديس إيريناؤس

هيلاري أسقف آرل

خلع الإنسان القديم“: جاء فعل “خلع” في اليونانية في الماضي ولكن مفعوله قائم، فقد تم الخلع في المعمودية، ويبقي يمارسه الإنسان بالتوبة بكونها معمودية ثانية. يبقي الإنسان في حالة خلع مستمر لهذه الطليعة الفاسدة كي لا تنحل ربطها وتقوم من جديد، بل على العكس ينمو الإنسان الجديد في برّ المسيح وقداسته.

يقول القديس يوحنا الذهبي الفم أن العماد هو بداية الطريق لا نهايته. فيه يُولد الإنسان كطفلٍ صغيرٍ، إن لم ينمو يوميًا يموت. العماد أشبه بغرس زرع جديد يحتاج إلى سقي مستمر، لكن الله هو الذي ينمي. “ونحن جميعا ناظرين مجد الرب يوجه مكشوف، كما في مرآة، نتغير إلى تلك الصورة عينها، من مجد إلى مجد، كما من الرب الروح” (2 كو 3: 18).

القديس كيرلس الأورشليمي

لتمت، لا لأجل الإنسان العتيق، بل لأجل الذي يموت لأجل أمر زمني، يموت من أجل الإنسان العتيق، ولكن عندما تجرّد نفسك من ذلك الإنسان العتيق كله فإنك تقلّد حكمة الحيّة[49].

القديس أغسطينوس

القديس مقاريوس الكبير

القديس غريغوريوس النيسي

القديس جيروم

القديس هيلاري أسقف بواتييه

3. التمتّع بالإنسان الجديد

“ولبستم الجديد الذي يتجدد للمعرفة

حسب صورة خالقه” [10].

تجديد الإنسان الجديد للمعرفة علامة الحياة، فإنه ليس من حياة في المسيح دون نمو، وليس نمو دون استنارة بقوة الروح القدس، حتى يتشكل الإنسان الداخلي على صورة خالقه، فيصير أيقونة حية للسيد المسيح العريس السماوي.

القديس غريغوريوس النيسي

“اخلعوا الإنسان العتيق الفاسد حسب شهوات الغرور” (أف 22:4) بالاعتراف “حتى تلبسوا الإنسان الجديد الذي يتجدد للمعرفة حسب صورة خالقه” [10].

بالإيمان خذوا “عربون الروح القدس” (2 كو 22:1) “لكي يقبلونكم في المظال الأبدية” (راجع لو 9:16)[56].

القديس كيرلس الأورشليمي

القديس أغسطينوس

القديس كيرلس السكندري

“حيث ليس يوناني ويهودي،

ختان وغرلة،

بربري وسكيثي،

عبد حر،

بل المسيح الكل وفي الكل” [11].

القديس يوحنا الذهبي الفم

لعل أكثر الحواجز خطورة كان الجنس “اليهودي والأممي” أو “الختان والغرلة”، كما أيضًا الحواجز الطبقية، طبقة السادة الأحرار وطبقة العبيد.

في العهد الجديد تشير كلمة “يوناني” إلى الأمم (رو 16:1). البرابرة هم كل من كان لا يتكلم اليونانية كلغة الثقافة في ذلك الحين، والسكيثيون حسبوا بدائيين وكانوا مشهورين بالخشونة والوحشية، وكانوا موضع سخرية وهزأ من الناطقين باليونانية. الآن وقد جاء السيد المسيح قدم نعمته لكل البشرية دون محاباة

لا عجب إن كانت نعمة المسيح قد أزالت الفوارق، فيكتب القديس بولس رسالة إلى فليمون بخصوص أنسيمس عبده الهارب الذي سرقه “أطلب إليك من أجل ابني أنسيمس، لأنه افترق عنك إلى ساعة لكي يكون لك إلى الأبد، لا كعبدٍ في ما بعد بل أخًا محبوبًا”. واستشهدت بلاندينا جنبًا إلى جنب مع سيدتها، وكانت أكثر بطولة منها. واستشهدت فيلتيا العبدة مع سيدتها بربتوا بروح الأخوة المتبادلة.

المسيح هو الكل وفي الكل لا بالمعنى الحرفي لمصطلح الوجودي[59] panlleistic، بل هو كل شيء بالنسبة لنا ولأجلنا: الخالق والمخلص والأخ والشفيع الوسيط والهدف, فلا حاجة لنا أن نطلب آخر سواه.

القديس أمبروسيوس

القديس أمبروسيوس

نصائح إيجابية

“فالبسوا كمختاري الله القديسين المحبوبين،

أحشاء رأفات ولطفا وتواضعًا ووداعة وطول أناة” [12].

كمختاري الله الذين في المسيح, هم مقدسَّون ومحبوبون, كما هو أيضًا القدوس موضع سرور الآب وحبه, يتطلب هذا منا لبس ثياب الفضيلة. إن الرسول بصدد تقديم قائمة بالفضائل تكون بمثابة ثوب المسيحي في حياته. بل ويذكر نصائح معينة عن الصبر والغفران، ويشير إلى الحب كأعظم فضيلة, تقيم البنية من الفضائل وتكملها (1 كو 13:13, 1 بط 8:4)

من الجانب السلبي يطالبنا بخلع الإنسان القديم، ومن الجانب الايجابي يأمرنا أن نلبس ما يليق بالإنسان الجديد الذي نلناه في المعمودية، لأننا مؤهلون لنوال نعم متزايدة، فإنه ليس بكيلٍ يعطي الرب الروح. نحن مختارون من الله لنكون قديسين محبوبين فيلزمنا أن نلبس الرب يسوع (رو 13: 14)، نحمل شركة سماته من أحشاء رأفات ولطف وتواضع ووداعة ودول أناة.

أحشاء رأفات“، تقوم الرأفة على الأحشاء الداخلية، فالحنو نابع عن الطبيعة الجديدة التي صارت لنا، فيتسع قلبنا بالحب والحنو نحو كل بشرٍ كشركة في سمة محب البشر.

القديس يوحنا الذهبي الفم

اللطف“: إن كانت الرأفة تحمل حنوًا وترفقًا على الغير، فإن اللطف يحمل مشاعر الرغبة في الستر على أخطاء الآخرين وخطاياهم، لكن بروح الحكمة، لأجل خلاصهم.

التواضع“: مسيحنا تواضع حين اتحد بناسوتنا وارتضي أن يخفي مجد لاهوته ليكون كأقل من الملائكة (عب 2: 7، 9)، بل وصار عبدا كأقل إنسان (في 2: 6-7). أما بالنسبة لنا فالتواضع هو اكتشاف حقيقتنا، مدركين أننا لا نقدر ان نفعل شيئا بدون النعمة الإلهية.

الوداعة” هي انعكاس لهدوء النفس الداخلي، متى اتكأت على مخلصها في تسليمٍ كاملٍ لحياتها بين يديه مع ثقة في تدبيره الإلهي. ومن جانب آخر هي شركة مع المسيح يسوع في وداعته حتى في لحظات محاكمته (1 بط 2: 21- 23)، وهو الذي دعانا ان نقتدي به : “تعلموا مني، فإني وديع ومتواضع القلب”.

طول الأناة“: أي الشركة مع مسيحنا الطويل الأناة مترقبًا خلاص الخطاة والآثمة.

“محتملين بعضكم بعضًا،

ومسامحين بعضكم بعضًا،

 إن كان لأحد على أحد شكوى،

كما غفر لكم المسيح هكذا أنتم أيضًا” [13].

في طول الأناة نحتمل بعضنا البعض، كما غفر لنا مسيحنا؛ وفي احتمالنا لإخوتنا نحمل ذات غاية المسيح وهو طلب خلاص كل نفسٍ لمجد الآب وبنيانًا نفوسنًا.

إذ نركز أنظارنا على السيد المسيح الذي يشتهي أن يسكن فينا ويحل في وسطنا، لا نجد صعوبة في الاحتمال وطول الأناة، بل نجد فيها مسرة الله ومسرة نفوسنا أن نحتمل المسيئين مهما تكررت الإساءة، مشتهين أن ننال كرامة الشركة مع مسيحنا بأن نضع أنفسنا من أجل الإخوة.

لقد دفع (الرب) ثمنًا باهظًا لغفران خطايانا ولم يلزمه أحد بل فعل ذلك حبًا. سدد الثمن الكامل “للشكوى” المرفوعة ضدنا ومحا الصك واسترددنا إلى يمين الله، ولهذا يسألنا بولس أن نسامح الآخرين بنفس الطريقة: “هكذا اغفروا أنتم“.

القديس يوحنا الذهبي الفم

القديس أغسطينوس

“وعلى جميع هذه البسوا المحبة

التي هي رباط الكمال” [14].

المحبة هي تاج كل الفضائل، والمؤشر الحقيقي لارتداء الإنسان الجديد، هي رباط الكمال. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم بدون المحبة تصير كل الفضائل السابقة بلا قيمة ولا منفعة.

تحتضن المحبة كل النعم معًا في الإنسان الجديد وتجذب المسيحي من خلالها إلى الكمال. والكلمة المترجمة “رباط” هي نفسها الواردة في أف 3:4؛ وأع 3:8, وتعني “تضم معًا كما بسلسلة”. هكذا عظيمة هي المحبة للغاية، بدونها تصبح الفضائل الأخرى مدعاة للسخرية.

القديس جيروم

القديس يوحنا الذهبي الفم

القدّيس يوحنّا كليماكوس

“وليملك في قلوبكم سلام الله،

الذي إليه دعيتم في جسد واحد،

وكونوا شاكرين” [15].

 إذ نتحلى بالفضائل السابقة، خاصة المحبة، يحل سلام الله الثابت غير المتغير. هذا السلام الذي يحل بين النفس والله، ينعكس على سلام النفس مع الجسد، فيصير الإنسان في تناغم بلا صراع بين الجسد والنفس، وينطلق إلى الآخرين فلا يستطيع المؤمن إلا أن يعيش في سلام مع إخوته تحت كل الظروف.

هذا السلام الذي يتربع في القلب مع الله ومع الجسد ومع البشر بل وكل الخليقة يحول قلب الإنسان إلى قيثارة يعزف عليها الروح القدس تسبحة شكر لا تنقطع.

لا تغضبوا, كما يقول, بل احكموا في المنازعات, ولا تخضعوا للأحقاد, ولا للسلام البشري, فالانتقام سمة البشر وعواقبه وخيمة, لكنه يقول ليس ذلك ما أقصده بل ذلك السلام الذي تركه لنا الرب بنفسه.

لأننا بواسطة السلام نحن جسد واحد, ولأننا جسد واحد فنحن في سلام… وحسنًا أضاف: “وكونوا شاكرين“، لأن الشاكرين والمملوءين مودة يعاملون رفقاءهم كما يفعل الله معهم, خاضعين للسيد, مطيعين معبرين عن شكرنا في كل شيء حتى إن أهاننا أحد أو اعتدى علينا بالضرب[69].

القديس يوحنا الذهبي الفم

 

4. التسبيح والشكر

“لتسكن فيكم كلمة المسيح بغنى

وانتم بكل حكمة معلمون ومنذرون بعضكم بعضًا

بمزامير وتسابيح وأغاني روحية بنعمة،

مترنمين في قلوبكم للرب” [16].

شهوة قلب الرسول أن تسكن كلمة المسيح أو تستقر بغنى في المؤمنين. فيتقبلون الحق الإلهي، لا ليقتنعوا به فكريًا فحسب، بل ويعيشوا به، فيكون دستور حياتهم وقائدًا داخليًا يوجه الفكر والكلمات والسلوك. وكما يقول المرتل: “خبأت كلامك في قلبي حتى لا أخطئ إليك”. تقتني خزانة القلب والفكر بكنز الكلمة. يطالبنا القديس يوحنا الذهبي الفم أن نقتني الكلمة وندخل في أعماقها، وكما يقول أن عدم معرفة الكتاب هي سبب كل الشرور، فيكون الشخص كمن يذهب إلى المعركة بلا سلاح، فهل يرجع سالما؟ سيف الروح هو كلمة الله (أف 6: 17).

إن كانت كلمة الله هي سلاح المؤمن في معركته ضد قوات الظلمة، فإن حياة التسبيح هي الوليمة المشبعة للنفس. تحول حياتنا إلي عيد داخلي مستمر، وتقدس كل أعمالنا وكلماتنا لنقدمها لحساب المسيح [7].

التسبيح يثير في النفس فرح الروح السماوي: “لأن ليس ملكوت الله أكلا وشربا، بل هو بر وسلام وفرح في الروح القدس” (رو 14: 17). يقول القديس انطونيوس الكبير أن النفس تتربي بالفرح الروحي، وتسعد به، وتصعد به إلى السماء. كتب العلامة ترتليان يصف اجتماعات المسيحيين بعدما يغسلون الأيادي (بعد ولائم الأغابي) يأتون بالشموع ثم يدعى كل واحد ليقدم أغنية لله أمام الجميع من تأليفه الخاص يكون قد اقتبسها من كلمات الإنجيل، معبرًا فيها عن مشاعره الخاصة نحو الله.

فلتسكن فيكم كلمة الرب بغنى“، هذه هي الوصية الأخيرة في نمو الشخصية المسيحية.

يعرض القديس بولس ثلاث طرق بها يمكن أن نعلِّم الآخرين وننذرهم: المزامير والترانيم والأغاني الروحية. وتشير المزامير إلى الأغاني المقدسة, المقتبسة من العهد القديم,خاصة من سقر المزامير. والترانيم تشير إلى أغاني التسبيح والعبادة الكنسية لله (أع 25:16؛ عب 12:2). أما الأغاني الروحية فتشير إلى الأغاني التي تنشد بشكل طبيعي من المؤمن. يطلب الله صدور تلك الترانيم من القلب.

القديس أمبروسيوس

القديس إكليمنضس السكندري

هذا هو سبب كل الشرور أن نجهل الكتاب المقدس، فنخرج للقتال بدون أسلحة، فكيف لنا أن نعود سالمين؟…

إنكم تلقون كل شيء علينا, وعليكم وحدكم أن تتعلموا منا, وزوجاتكم منكم, وأولادكم منكم, لكنكم تتركون كل شيء لنا, لهذا تضاعفت متاعبنا.

تأملوا أيضًا مراعاة بولس لمشاعر الآخرين, فإذ يرى أن القراءة مجهدة, تثير الضجر إلى حد بعيد, فإنه لم يوجه أنظارهم إلى بالأسفار التاريخية بل إلى المزامير, حتى تبهجوا نفوسكم بالترنيم وبرقة تسلّون رفقاءكم, إذ يقول “بترانيم وأغاني روحية” لكن أولادكم الآن يتفوهون بأغاني ورقصات الشيطان, فالطهاة والخدم والموسيقيون, ليس منهم أحد يعرف أي مزمور, لكنه أمر يخجلون منه بل ويسخرون منه ويتهكمون عليه. وهنا مكمن كل الشرور…

علِّمه أن يرِّنم تلك المزامير الملآنة بحب الحكمة, إذ تخص العفة أو بالحري ومثل كل شيء لا تجعله يصاحب الأشرار, ما إن يستهل قراءة الكتاب (سفر المزامير)…

وحينما يتعلم بواسطة المزامير, سيعرف الترانيم أيضًا, كشيء مقدس. لأن القوات العلوية تنشد الترانيم، وليس المزامير. إذ يقول الجامعة “أن الترنيمة ليست حلوة في فم الخاطىء”

فما هي ترنيمة العلويين؟ يعرفها المؤمن. ماذا يقول الشاروبيم في العلاء؟ ماذا يقول الملائكة؟ “المجد لله في الأعالي” لهذا بعد الابصلمودية (المزامير) تأتي الترانيم, كشيء أكثر كمالاً…

حتى وإن كنتم في السوق, يمكن لكم أن تتماسكوا وترنموا لله دون أن يسمعكم أحد. لأن موسى أيضا قد صلى هكذا, وسمعه الله إذ يقول له الله, “لماذا تصرخ إلىّ”؟ (خر 15:14) مع أنه لم يقُل شيئًا. بل صرخ بأفكاره، فلم يسمعه إلا الله وحده، إذ كان يصرخ بقلب منسحق. فليس محرمًا أن يصلي الإنسان بقلبه حتى وهو سائر على قدميه, إذ يسكن (بفكره) العلاء[74].

القديس يوحنا الذهبي الفم

“وكل ما عملتم بقول أو فعل

فاعملوا الكل باسم الرب يسوع،

شاكرين الله والآب به” [17].

جوهر الحياة هو الشركة مع السيد المسيح، فيختم كلماته وأعماله بختم اسم يسوع المسيح لتفوح منه رائحة الشكر، موضع سرور الآب.

باسم” معناه “لمجد” (يو 13:14).

يليق بنا أن نكون متهللين وشاكرين الله حتى نسلك السبيل الذي يؤهلنا لاستحقاق المسيح (12:1). فبمعزل عن المسيح ليس لنا دخول إلى الله ولا حتى إلى شكره.

وحيث يوضع الاسم في أي مكان, يبشر بكل الخير, فإن كان يطرد الأرواح الشريرة, وإن كان يشفي الأمراض, فكم بالحري يجعل العمل أكثر يسرًا…

انظروا كيف أنه باسم الرب أرسل إبراهيم خادمه وباسم الرب قتل داود جليات. عجيب هو اسمه وعظيم…

لا شيء يعادل هذا الاسم. عجيب هو في كل مكان, يقول: “اسمك دهن مهراق” (نش 3:1) من ينطقه يمتلأ فورا بأريجه ومكتوب” لا أحد يمكنه أن يقول إن يسوع رب إلا بالروح القدس (1 كو 3:12) حقا إن هذا الاسم يصنع أعمالاً عظيمة. فإن قلتم باسم الآب والابن والروح القدس, بإيمان لأنجزتم كل شيء. فما أعظم الأمور التي فعلتموها…

لقد تجددنا بهذا الاسم (خُلقنا من جديد). إن كان لنا هذا الاسم, نشرق أمام الآخرين. إنه يصنع الشهداء والمعترفين. إنه قد وهبنا عطية عظيمة, حتى نحيا في مجد, ونرضي الله. ونُحسب متأهلين للخيرات التي وعد بها الذين يحبونه, بالنعمة والرأفات[75].

القديس يوحنا الذهبي الفم

 

5. المسيح قانون الأسرة

“أيتها النساء اخضعن لرجالكن،

كما يليق في الرب” [18].

إذ يرفعنا الرسول بولس إلى السماء ليكون لنا عربون السماويات، يترجم هذه الحياة في الواقع الأسري، لتصير الأسرة أيقونة الأسرة السماوية.

يطالب الرسول الزوجة أن تتشبه بالكنيسة الخاضعة لعريسها المسيح، فإن هذا الخضوع ليس مطلقًا، وإنما “كما يليق في الرب“.

هذا الخضوع هو مشاركة الكنيسة سماتها الفائقة، وفي نفس الوقت هو رد فعل طبيعي لتكريم رجلها لها وحبه وتقديره لها، إذ يليق بالرجال أن يعطوهن “الكرامة كوارثات معهم نعمة الحياة” (1 بط 3: 7). فإن كان الرجل لا يسلك كما يليق تشعر الزوجة بتكليف من ربنا يسوع للخضوع لا عن خنوع وإنما كشاهدة لإنجيل المسيح، وكما ينصحهن الرسول: “وإن كان البعض لا يطيعون الكلمة، يُربحون بسيرة النساء بدون كلمة” (1 بط 3: 1-2).

ولا أعني ذلك الخضوع كما لعبيد أمام سيدهم، وليست خضوع تحتمه طبيعتهن، بل هو لأجل الرب…

لأنه يمكن للإنسان الذي يحب أن يكون قاسيًا بعض الشيء, وما يقصده إذن هو, لا تتشاجرا, لأنه ما من شيء أحَّر من ذلك الشجار وخاصة حينما يقع من جانب الزوج ضد زوجته…

وإذ تجد الزوجة نفسها محبوبة, فإنها أيضا تحب وتخضع, فيبذل رجلها لأجلها ويرضخ. تأملوا كيف تسير الطبيعة نسقها: أن واحدًا يخضع والآخر يحب. لكن, إذ تخضع لكم زوجاتكم, لا يليق أن تستبدوا, وأنتن إذ يحبكن رجالكن لا تنتفخن متكبرات, وليت حب الرجل لا يصيب المرأة بالخيلاء, ولا خضوع الزوجة يجعل الزوج ينتفخ متغطرسًا… لا تخشين من خضوعكن, لأن خضوعكن لمن يحبكن لا يشكل صعوبة. ولا تخشوا الحب, إذ بالحب ترضخ لكم نساؤكم. وفي كلا الحالين يتوثق رباط (العلاقة الزوجية)[76].

القديس يوحنا الذهبي الفم

“أيها الرجال أحبوا نساءكم،

ولا تكونوا قساة عليهن” [19].

يطالب الزوج أن يعامل زوجته كسفير المسيح، ليصير البيت كنيسة مقدسة. خلال هذه الحياة المقدسة يتقدس الاثنان، ويكون لكل منهما أثره على الآخر. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم أن الزوجة المحبوبة تصير محبة، فإن أطاعت رجلها تصيره لينًا.

غالبا ما يخفق خضوع المرأة كميلٍ طبيعي لديها, إذا ما فشل الرجل في استيعاب مضمون هذه الآية. أحبنا المسيح إلى الحد الذي بذل حياته لأجل الكنيسة عروسه. هكذا فليحب الزوج زوجته كنفسه (أف 29,28:5) بل وأكثر من نفسه. ومن يحب زوجته بهذا الشكل لا يقسو عليها ولا يكون خشنًا معها. فكل هذا لا يتفق مع الحب.

“أيها الأولاد أطيعوا والديكم في كل شيء،

لأن هذا مرضي في الرب” [20].

يقوم الأبناء بالطاعة للوالدين ليس إرضاء لهم، وإنما للرب إذ يشاركون السيد المسيح سمة الطاعة. فلا تكون الطاعة بالنسبة لهم مهانة ولا تحطيمًا لشخصياتهم، بل شركة مع المسيح في سماته.

هذا والأبناء الذين يرون في الأم طاعتها للزوج، وفي الأب حب صادق للزوجة، يعيشون كما في السماء، فتصير الطاعة سمة طبيعية للجو السماوي الذين يعيشونه.

يوصي هنا بالاستماع والطاعة في خضوع، وقبول الوصية (أع 7:6؛ 13:12؛ مت 27:8)، ولا يليق بنا أن نطيع في تذمر, بل بالحري يريد الله أن يقدم كل منا طاعته بإرادته وبحب لوالديه.

القديس يوحنا الذهبي الفم

“أيها الآباء لا تغيظوا أولادكم لئلا يفشلوا” [21].

كان الأب في المجتمعات القديمة هو رأس العائلة بلا منازع, وكل من يعصى أوامره يعتبر مذنبًا.

لا تغيظوا أولادكم, أي لا تضايقوهم فوق احتمالهم أو تثيرونهم. لا تدفعوهم إلى إتيان أفعال عنيفة. عاملوهم ككائنات آدمية, احترموا أفكارهم, فلا تتوقعوا منهم أشياء غير معقولة.

حقا يقول الحكيم: “لا تمنع التأديب عن الولد، لأنك إن ضربته بعصا لا يموت” (أم 23: 13). لكن لا يليق بالوالدين المبالغة في التأديب حتى وإن كان الدافع هو تربيتهم في مخافة الرب. يقول المرتل: “كما يتراءف الأب على البنين يتراءف الرب على خائفيه” (مز 103: 13). لنتشبه بالله في أبوته الحانية حتى في تأديبه لأولاده: “الرب رحيم ورؤوف، طويل الروح، وكثير الرحمة ؛ لا يحاكم إلى الأبد، ولا يحقد إلى الدهر” (مز 103: 8-9). العقاب هو لأجل التعليم وتحسين خصال الطفل, وليس لقهره أو فقدانه ثقة واحترام أبويه.

كلمة “تغيظ” تعنى التحقير أو التشهير أو التهديد أو النقد اللاذع أو الشتيمة أو تحطيم نفسه كفاشلٍ، وهذا يتنافي مع ما تتطلبه “وداعة الحكمة بالتصرف الحسن” (يع 3: 13). قيل عن الآباء المبالغين في الحزم: “وباء الشباب هو انكسار قلوبهم”.

القديس يوحنا الذهبي الفم

وصايا للعبيد

“أيها العبيد أطيعوا في كل شيء سادتكم حسب الجسد،

لا بخدمة العين كمن يرضي الناس،

بل ببساطة القلب،

خائفين الرب” [22].

يوجه الرسول وصايا خاصة بالعبيد الذين تحطمت نفوسهم حيث كانوا يُباعون ويشترون كسلعة، ليس لهم أية حقوق، إذ يستطيع سيده إن أراد أن يقتله.

لم يكن يتوقع العبيد أن يجدوا إنسانًا حرًا روماني الجنسية يهتم بأمرهم، ويوجه إليهم حديثًا خاصًا بهم. لكنهم وجدوا في الرسول بولس الحر حامل الجنسية الرومانية يضم نفسه إليهم كواحد منهم. “فإننا لسنا نكرز بأنفسنا، بل بالمسيح ربًا، ولكن بأنفسنا عبيدًا لكم من أجل يسوع” (2 كو 4: 5).

مرة أخري إذ يضم الرسول نفسه إلى طبقتهم يرفع أنظارهم إلى السيد المسيح ليدركوا أنهم يطيعون سادتهم ليس إرضاء لهم بل لرب كل البشرية، لا ليقدم لهم أجرة، بل كأبناء ينالون ميراثًا أبديًا. أما السادة الظالمون فيدينهم سيد كل البشرية الذي لا يحابي الوجوه.

من يرضون الناس” هم الذين لا يهتمون بالوظيفة ذاتها. فكل مقصدهم أن يروا أن عملهم ظاهر، وفي نفس الوقت ينجزونه بأقل قدر مستطاع.

القديس يوحنا الذهبي الفم

اسمعوا النبي يقول: “بدد الله عظام الذين يرضون الناس” (مز 6:53 سبعينية) فهل رأيتم كيف يحافظ على مشاعرهم وكيف يوصيهم بالنظام. وكيف يحدث ذلك (بوحدانية القلب) “خائفين الرب“، لأن ما فعلته لم يكن بوحدانية القلب بل عن الرياء أن تتمسك بشيء وأنت تمارس شيئا آخر. وأن تظهر بمظهر حينما يأتي السيد, ثم لا يلبث أن تنقلب مواقفك إذا ما غاب[80].

القديس يوحنا الذهبي الفم

“وكل ما فعلتم فاعملوا من القلب،

كما للرب ليس للناس” [23].

قد يكون شخص ما هو رئيس العمل أو قاض اليوم وغدًا, لكن الله هو رأسنا وهو قاضينا إلى الأبد، فهو إلى الأبد على العرش وهذا هو محور اهتمامنا.

القديس يوحنا الذهبي الفم

“عالمين أنكم من الرب ستأخذون جزاء الميراث

لأنكم تخدمون الرب المسيح” [24].

“وأما الظالم فسينال ما ظلم به وليس محاباة” [25].

ليس عند الله محاباة. فالخطية هي الخطية, حتى إن اقترفها مؤمن (عب29,28:12).

القديس يوحنا الذهبي الفم

من وحي كو 3

لأخلع رداء الذل،

وألبس ثوب العرس!

 

 وأنت السماوي لم تستكنف من بشريتنا.

 قدمتك ذاتك لباسًا إلهيًا بهيًا!

 

 ليس لأعماله لذة في داخلي،

 ولا لشهواته سلطان على أعماقي.

 أنت قوتي وخلاصي!

 أنت قاطن في أعماقي.

 

 لأبقى بطبيعتي الفاسدة تحت قدميك.

 لأهرب إليك يا أيها الجبل الفريد،

 أهرب لحياتي فلا أهلك مع سدوم وعمورة.

 

 أرتديك فأختفي فيك.

 عوض ترابي يشرق بهاؤك فيّ!

 عوض الأرض بوحلها،

 أنعم بالسماويات بمجدها.

 

 عوض القلق والإحباط والفشل،

 تتهلل نفسي بالتسبيح والشكر!

 

 يلهج قلبي بلغة الشكر التي لن يفهمها غيرك!

 أشارك طغمات السمائيين تسابيحهم،

 وأنطق في أعماقي بلغة السماء!

 

 في كل تصرف تقودني بنفسك!

 أراك في أسرتي، كنيستك المقدسة.

 أسلك فيك ولأجلك،

 فتتحول حياتي إلى سماءٍ جديدةٍ!

 

[1] Demonstrations 6 on Monks, 1.

[2] Escape from the World 7:44.

[3] Homilies on Col., Hom. 7.

[4] City of God, 20:10.

[5] On Ps. 71.

[6] On Ps. 97.

[7] City of God, 20:9.

[8] Sermons on N.T. Lessons, 3 :14.

[9] Hexmarion, Hom. 9:2.

[10] Homilies on Song of Songs, 9. ترجمة الدكتور جورج نوّار

[11] الأب سليم دكاش اليسوعي: الشيخ الروحاني- مجموعة الرسائل الروحية، بيروت 1992، رسالة 49: 9.

[12] On Ps. 104.

[13] On Creation of Man, 5.

[14] Homilies on Col., Hom. 7.

[15] On Christian Faith 2:12 (103).

[16] Homilies on Col., Hom. 7.

[17] الرسالة 43 عن التوبة ومواساة الخطاة، 24.

[18] On Ps. 124.

[19] Death is Good, 12:56.

[20] On Ps. 123.

[21] On Ps. 37.

[22] Duties of Clergies, 3:5 (36).

[23] Homilies on 2 Cor., Hom. 5:15.

[24] Sermons on John, 4:7.

[25] Sermons on N.T. Lessons, 66 :2.

[26] Homilies on 1 Cor., Hom. 7:20.

[27] Letters, 53:2.

[28] 10 Homilies on Epistles of John, 9:2.

[29] Comm. on Luke, Sermon 118.

[30] Sermons on John, 1:16.

[31] Sermons on John, 11:7, 17

[32] Homilies on Col., Hom. 8.

[33] Homilies on Song of Songs, 6.  ترجمة الدكتور جورج نوّار

[34] تأملات في مديحه للقديس غريغوريوس النزيانزي (ترجمة القمص إشعياء ميخائيل).

[35] Letters, 22:17.

[36] Adv. Haer. 5:12;3.

[37] Letters, 14:5.

[38] الدساتير، كتاب 7، فصل 21.

[39] الدساتير، كتاب 7، فصل 22.

[40] الدساتير، كتاب 7، فصل 27.

[41] On Ps. 62.

[42] De institutis caenoborum, Book 8:1.

[43] De institutis caenoborum, Book 8:2.

[44] De institutis caenoborum, Book 8:4.

[45] Adv. Haer. 3:5:1.

[46] Introductory Commentary on 1 John.

[47] في سفر النشيد (3:5) يشير النص إلى الانتظار إلى عدم القيام من السرير للسير مع الرب، لكن القديس يستخدمه هنا بمعنى مغاير.

[48] مقالات لطالبي العماد 3 :7.

[49] Sermons on N.T. Lessons, 14 :3.

[50] Homilies, 2:2. ترجمة مركز دراسات الآباء بالقاهرة

[51] Against Eunomius, 4:3.

[52] In Creation of Man, 33.

[53] Against Jovinianus 1:16.

[54] On Trinity 11:49.

[55] Against Eunomius, 2:1.

[56] مقالات لطالبي العماد 1 :2.

[57] On Ps. 6.

[58] Sermons on John, 9:14.

[59] الوجودي هو الذي يتبع المذهب القائل بأن الله والوجود أو الإنسان والطبيعة كيان واحد.

[60] Letters, 63:36.

[61] On Virgins 3:5 (24).

[62] Homilies on Col., Hom. 8.

[63] Homilies on Col., Hom. 8.

[64] Sermons on N.T. Lessons, 33:3.

[65] Sermons on N.T. Lessons, 64:3.

[66] Letters, 82:11.

[67] Homilies on Col., Hom. 8.

[68] Ladder, 26:67.

[69] Homilies on Col., Hom. 8.

[70] Homilies on Col., Hom. 8.

[71] Homilies on Col., Hom. 8.

[72] Isaac or the Soul, 8:70.

[73] Paedagogus, 2:4.

[74] Homilies on Col., Hom. 9.

[75] Homilies on Col., Hom. 9.

[76] Homilies on Col., Hom. 10.

[77] Homilies on Col., Hom. 10.

[78] Homilies on Col., Hom. 10.

[79] Homilies on Col., Hom. 10.

[80] Homilies on Col., Hom. 10.

[81] Homilies on Col., Hom. 10.

[82] Homilies on Col., Hom. 10.

 

تفسير رسالة كولوسي 3 الأصحاح الثالث – القمص تادرس يعقوب ملطي

Exit mobile version