تفسير رسالة كولوسي 2 الأصحاح الثاني – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير رسالة كولوسي 2 الأصحاح الثاني – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير رسالة كولوسي 2 الأصحاح الثاني – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير رسالة كولوسي 2 الأصحاح الثاني – القمص تادرس يعقوب ملطي
الأصحاح الثاني: المسيح هو العلو
في الأصحاح السابق حدّثنا الرسول عن عظمة شخص السيّد المسيح، وبالتالي عظمة عمله في حياة البشريَّة. رأيناه هو العمق الذي بدخل بنا إلى معرفة سرّ الحكمة الأزلية المكتومة، ويهبنا رجاءً للتمتّع بالسماويّات الفائقة. الآن في هذا الأصحاح يحدّثنا عنه بكونه العلو. فإذ نتأسس ونتأصّل فيه لا يمكن أن يهتز بناء نفوسنا، ولا نشعر بعوزٍ إلى شيء.
إنّه يسمو بنا فوق تقاليد الناس الكاذبة، ويرفعنا فوق الحكمة الباطلة والفلسفات الخادعة. يرفعنا فوق الحرف اليهودي، فنتمتّع فيه بالختان الروحي الذي يتحقق بالمعمودية لننال البنوّة للآب. يمحو الخطية فينا وآثارها، فنعيش بروحه القدّوس وننال حكمة الغلبة والنصرة على قوّات الظلمة.
أمّا غاية الكتابة في هذا الأمر فهو تمتّع الكل بسرّ معرفة الآب والابن لنوال كنوز الحكمة في داخلنا.
هكذا يكتب الرسول ويعمل مجاهدًا من أجل محبّته لمخدوميه.
- الحب هو الدافع، وغنى المعرفة هو الغاية 1-5.
- المعرفة الإلهيَّة والسلوك 6-7.
- التحفّظ من خداع الفلاسفة 8.
- حياة الملء في المسيح 9-10.
- الختان الروحي والمعموديّة 11-13.
- الغلبة على الظلمة 14-15.
- لا عودة للظلال 16-17.
- عبادة الملائكة 18-19.
- عظمة الموت مع المسيح 20-23.
1. الحب هو الدافع وغنى المعرفة هو الغاية
يكشف القديس بولس عن اهتمامه العظيم بالكنيسة في كولوسي كما بكل الكنائس، فهو يشتاق أن يتثبت المسيحيون ويترسخون في إيمانهم، وأن يحذروا من جهة الفلاسفة ورجال الناموس المخادعين. أما أفضل الطرق للتحفظ من مهالك شباك العالم وفلسفاته ومن الحرف القاتل للناموس فهو فهم سرّ المسيح؛ لأنه هو الكل في الكل. لذلك يسألهم الرسول أن يتأصلوا في الكلمة “اللوغوس” لئلا يجرفكم المعلمون الزائفون.
كان بعض الفلاسفة المعروفين آنذاك يُعلَّمون بأن الإنسان لا يستحق أن يصل إلى الله مباشرة، بل يحتاج إلى الملائكة للبلوغ إليه (18:2). لم يدركوا حقيقة قوة السيد المسيح أنه الوسيط الوحيد بين الله والإنسان، القائل: “أنا هو الطريق… ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي” (يو 6:14) وقد وبخ القديس بولس أهل كولوسي لإخفاقهم في التعرف على شخص السيد المسيح، وإدراك أنه الرأس الأعلى للكنيسة والوسيط الوحيد بين الله والإنسان.
“فإني أريد أن تعلموا أي جهاد لي لأجلكم،
ولأجل الذين في لاودكية،
وجميع الذين لم يروا وجهي في الجسد” [1].
بالرغم من وجود القديس بولس في السجن، لم يعقه شيء عن الصلاة الحارة لأجلهم، ومع صلواته الكثيرة من أجلهم بعث إليهم برسالةٍ، وبأحد معاونية في الخدمة “تيخيكُس” ليشجعهم (4: 7-8).
لاودكية أو اللاذِّقية وهي مدينة على بعد 10 أو 12 ميلاً من كولوسي وأكثر اتساعًا وازدهارًا، وهي غير اللاذِّقية الميناء السوري المعروف حاليًا.
تُستخدم كلمة “جهاد” الواردة هنا في الأصل اليوناني في تصوير المصارعة في حلبة الوحوش المفترسة. هكذا دخل الرسول كما في حلبة الصراع ضدّ التعاليم الكاذبة، فكان كمن يصارع وحوشًا فتّاكة. ما يقوم به من صراع هو من أجل أبوّته لهم، معرّضًا حياته للموت لأجل إنقاذهم من الضلال.
“وجميع الذين لم يروا وجهي في الجسد” [1]. وكما كتب إلى أهل كورنثوس: “كأني غائب بالجسد، ولكن حاضر بالروح” (1 كو 5: 3). بهذا يشير إلى وحدة المسيحيين في جسد المسيح، الكنيسة، حيث لا يستطيع البعد المكاني عن عزلهم عن بعضهم البعض. وكأنه يقول: “وإن كنتُ غائبًا عنكم في الجسد، لكنني معكم في الروح، فرحًا وناظرًا ترتيبكم ورسوخ إيمانكم في المسيح [5].
- حبه لكل كنيسة وشوقه لحل مشاكلهم، جعله حاضرًا روحيًا مع جميعهم (1 كو 5 :3).
- إن صلاتي بحرارة هي أن تتثبت صداقتنا ثبوتا متينًا كما في المسيح، فلا تهتز بسبب بعد الزمان أو المكان[1].
القديس جيروم
- لماذا يقول: “إن كثيرين لم يروا وجهي في الجسد“؟ إنه يوضح بطريقة إلهية أنهم يرونه على الدوام بالروح (القدس)، وأنه يشهد لحبهم العظيم[2].
القديس يوحنا ذهبي الفم
“لكي تتعزى قلوبهم،
مقترنة في المحبة لكل غنى،
يقين الفهم لمعرفة سرّ الله الآب والمسيح” [2].
القُلب هو عرش المشاعر. إن كانت الشهوات الشريرة تقود الذهن إلى مسالك وعرة ونتائج سيئة وانقسامات، فإن تعزية القلب تتحقق بالاتحاد معًا. فالحب مع التواضع يحفزاننا على الجهاد، ليتصالح الكل معًا، ويحملون فكرُا إيمانيًا واحدًا صادقًا.
موضوع جهاد الرسول خاصة في الصلاة من أجلهم، ومن أجل إخوتهم الذين في لاودكيّة والذين لم يرهم ولم يعرفهم بالاسم، هو تمتّعهم بتعزيات إلهيّة داخليّة، وحب صادق، فيدركوا غنى الفهم لسرّ اللَّه الفائق، وينالوا معرفة صادقة لسرّ خطة اللَّه الآب والابن الوحيد الجنس. فلا يكون للشك أو الارتياب أي موضع فيهم.
إن كانت عاصفة هؤلاء المعلّمين الكذبة غاية في الخطورة، لكنّها فرصة لطلب غنى نعمة اللَّه، فيقف الكل كما بقلبٍ واحدٍ محبٍ لمواجهة قوّات الظلمة. خلال هذا الحب وتلك الوحدة الصادقة يتأهّلون لإعلان الحق الإلهي دون مباحثات ومماحكات غبيّة (1 تي 6: 4).
مفتاح ذخائر المسيح هو الإيمان العامل بالمحبّة، فإنّهم إذ يمارسون الحب لا يُحرمون من الدخول إلى المسيح مصدر كل غنى حقيقي وحكمةٍ وفهمٍ.
كثيرًا ما يقدّم لنا الرسول بولس الحب كمفتاح للإعلانات الإلهيّة والتمتّع بالملء. “وأنتم متأصّلون ومتأسّسون في المحبّة، حتى تستطيعوا أن تدركوا مع جميع القدّيسين… وتعرفوا محبّة المسيح الفائقة المعرفة، لكي تمتلئوا إلى كل ملء اللَّه” (اف3: 18-19).
عاش شاول الطرسوسي زمانًا تحت الظلال، ظانًّا أن ناموس موسى فيه كل الكفاية. لكن إذ التقى بالسيد المسيح، والذي رفعه من الظل إلى الحق، صارت له معرفة بأسرار عجيبة يشتهي أن يتمتّع الكل بها.
في هذه الرسالة يحدّثنا الرسول عن سرّ له جوانب ثلاثة، تتكامل معًا في حياة المؤمن:
ا. سرّ الكنيسة جسد المسيح (1: 24)، حيث ينفتح باب الإيمان للأمم أيضًا.
ب. سرّ الحياة في المسيح: “المسيح فيكم، رجاء المجد” (1: 27).
ج. سرّ اللَّه الآب والمسيح (2: 2). فإنّه يحلّ في المسيح كل ملء اللاهوت، وهو الذي يهبنا حياة الملء. ما هو سرّ اللَّه الآب والمسيح؟ هو سرّ خطة عمله، موضوع مسرّة الآب والابن معًا، وسرّ معرفة الأب خلال إعلان الابن عنه لمؤمنيه. وكما يقول السيد المسيح: “اللَّه لم يره أحد قط، الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبَّر” (يو1: 18). قبل الصليب ما كان يمكن للبشر إدراك سرّ العلاقة بين الآب والابن، التي انكشفت بالصليب والقيامة.
- يقول “أجاهد” – لأية غاية؟ أن تجمعكم أواصر الائتلاف معًا، وما يعنيه هو شيء من هذا القبيل أن يرسخوا في الإيمان ثابتين… وأن يتحدوا بالحب لا بالقسر ولا بالإلزام… أريدكم أن تبلغوا غاية اليقين الكامل، لا “بالغنى” فقط بل “بكل غنى” حيث يكون يقينكم الكامل يقينا عظيمًا، كما في كل شيء[3].
القديس يوحنا ذهبي الفم
“المذخر فيه جميع كنوز الحكمة والعلم” [3].
كل من الحكمة والعلم أو المعرفة هو من إعلان الله عن ذاته لنا، نقتنيه فنحمل الحكمة الإلهية والمعرفة السماوية. يرى القديس أغسطينوس أن الحكمة هي القدرة على تذوق الحقائق الروحية، والتمتع بالحق يؤدي إلى مجد الله والتعبد له بمخافة البنين. ويرى القديس يوحنا الذهبي الفم الحكمة هي الإنجيل، أي التمتع بخطة الله الخلاصية المفرحة. أما العلم فهو الحيدان عن الشر (أي 28: 28)، وتقديم كلمة الخلاص للبشر.
هنا يصحح الرسول بولس مفاهيم الفلاسفة الذين يظنون أنهم قادرون بجهادهم البشرى البحت، وقدراتهم الفكرية الذاتية أن يتعرفوا على الحق ويبلغوا الخلاص. فالإنسان عاجز بذاته أن يدرك الله وتدبيره، ما لم يعلن هو عن ذاته. وكما يقول السيد المسيح: “الابن الوحيد الذي في حضن الآب هو خبر” (يو 1 : 18). وقد وعد تلاميذه بإرسال روحه القدوس الذي يأخذ مما له ويخبرهم ( يو 16: 14- 15).
كشف العهد الجديد عن الحكمة التي صارت لنا في المسيح يسوع التي من بينها الأمور الآتية:
- دم يسوع المسيح ابنه يطهرنا من كل خطية (1 يو 1: 7).
- كلما كثرت الخطية ازدادت النعمة جدًا” (رو 5: 20).
- الإيمان العامل بالمحبة (غل 5: 6).
- يخبرنا بأمور آتية ( يو 16: 13).
- السماء الجديدة والأرض الجديدة، وأورشليم أمنا العليا (رؤ 21).
- يقول: “المذخر” أو “مخبأ”، حتى لا تظنوا أنكم قد أدركتم كل الحقيقة، فإن الحق مَّخبأ حتى عن الملائكة، وليس عنكم وحدكم، حتى تسألوه عن كل شيء فهو وحده يعطي الحكمة والمعرفة[4].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- تلك الأشياء يهبها المخلَّص نفسه إذ يقول: “أُعطى لكم أن تعرفوا أسرار ملكوت السماوات”. ويقول الإنجيل إن المخلص قال للرسل الكلمة في سرٍ. إذ تقول النبوة عنه” يفتح بالأمثال فمه وينطق بأسرار منذ تأسيس العالم”[5].
القديس إكليمنضس السكندري
- اعلموا إذن من هو هذا الفقير والمحتاج. إنه المسيح! واعلموا أن فيه مذخر كل أمور الغنى، ذاك الذي ترونه أنتم فقيرًا[6].
- إذا أخذ لنفسه فقرنا لم يفقد غناه، إذ فيه “مذخر كل كنوز الحكمة والمعرفة”. فإن جعتُ لن أسألكم شيئا لأن لي العالم كله وملئَه أيضًا. فلا تجتهدوا أن توفروا لي ما تعطونه، والذي بدونه لا يكون لي ما أريد[7].
- نحن نعلم أنه ما من شهادات عن الله أسرع ولا أضمن ولا أقصر ولا أعلى أكثر مما في المسيح، “الذي فيه مذخر كل كنوز الحكمة والمعرفة”… في ، إذ يحاول عن طريق هذه الشهادات أن يبرهن لنا كيف يحبنا حبًا عظيمًا[8].
القديس أغسطينوس
في حوار جرمانيوس مع الأب نسطور ببربة مصر أكد الأخير أن هذه المعرفة يمنحها السيد المسيح لأنقياء القلب.
- جرمانيوس: إن كان من الواضح أن كل الذين لم يتقبلوا الإيمان بالسيد المسيح أو الذين فسدوا بتعاليم الهراطقة الشريرة قلوبهم غير نقية، فكيف نجد أن كثير من اليهود والهراطقة وبعض المؤمنين “التابعين للكنيسة الجامعة” الذين لهم خطايا واضحة، لهم معرفة بالكتاب المقدس، ويفخرون بعظمة تعليمهم الروحي، بينما نجد من الجانب الآخر حشود لا حصر لها من القديسين الذين تنقت قلوبهم من كل وصمات الخطية، قانعين بالتقوى الذي للإيمان البسيط دون أن تكون لهم معرفة بأسرار المعرفة الحقيقية؟! كيف تستقيم هذه الفكرة التي تنادي بها ناسبًا المعرفة الروحية لأنقياء القلب وحدهم؟
نسطور: لا يقدر أن يكتشف قيمة ما أكدته إلا الذين يزنون كل كلمة ننطق بها بميزان دقيق. فقد بدأنا الحديث عن أناس ماهرين في النقاش لكنهم عاجزين عن الدخول إلي عمق الكتاب المقدس واكتشاف معانيه الروحية. لأن المعرفة الروحية يطلبها عابدو الله وحدهم، ولا ينالها الذين قيل عنهم: “اسمع هذا أيها الشعب الجاهل والعديم الفهم الذين لهم أعين ولا يبصرون، لهم آذان ولا يسمعون” (إر 21:5). وأيضاً: “قد هلك شعبي من عدم المعرفة، لأنك أنت رفضت المعرفة، أرفضك أنا حتى لا تكهن لي، ولأنك نسيت شريعة إلهك أنسى أنا أيضًا بنيك” (هو 6:4).
فكما قيل أنه في السيد المسيح تكمن كل كنوز الحكمة والمعرفة (كو 3:2)، فكيف يمكننا أن نقول بأن الذي يحتقر التعرف على السيد المسيح، أو عندما يجده يجدف عليه بشفتيه المدنستين، أو على الأقل يدنس بأفعاله الشريرة إيمانه الذي حسب الكنيسة الجامعة، كيف يقدر أن ينال معرفة روحية؟!
“إن الحكمة لا تلج النفس الساعية بالمكر، ولا تحل في الجسد المسترق للخطيئة، لأن روح التأديب القدوس يهرب من الغش، ويتحول عن الأفكار السفيهة، وينهزم إذا حضر الإثم” (حك 4:1، 5).
إذن لا يوجد طريق لبلوغ المعرفة الروحية غير ذلك الطريق الذي وصفه النبي بدقة قائلاً: “ازرعوا لأنفسكم بالبرّ، احصدوا بحسب الصلاح، احرثوا لأنفسكم حرثًا، فإنه وقت لطلب الرب حتى يأتي ويعلّمكمْ البرّ” (هو 12:10). يلزمنا أولاً أن نزرع بالبر، أي بأفعال البر نوسع الكمال العملي. بعد ذلك يجدر بنا أن نحصد رجاء الحياة، أي عن طريق نزع الخطايا الجسدية نجمع ثمار الفضائل الروحية. وهكذا سوف ننجح في إضاءة أنفسنا بنور المعرفة.
يرى المرتل بالمزامير أيضًا أن هذا النظام يلزمنا إتباعه إذ يقول “طوباهم الذين بلا عيب في الطريق، طوباهم الذين يفحصون عن شهاداته” (مز 1:119، 2). فإنه لا يقول في الأول “طوبى للذين يفحصون عن شهاداته” وبعد ذلك “طوباهم الذين هم بلا عيب”، إنما يبدأ بالقول “طوباهم الذين هم بلا عيب”، مظهرًا أنه لا يستطيع الإنسان أن يأتي إلى فحص شهادات الله بلياقة ما لم يسلك في طريق المسيح بلا عيب بحياته العملية[9].
الأب نسطيروس Nesteros
إن كان السيد المسيح هو”المذخر فيه كل كنوز الحكمة والمعرفة”، فلماذا يقول أنه لا يعلم اليوم ولا الساعة إلا الآب وحده؟
- يمكن لنا أن ندرك لماذا قال إنه لا يعلم اليوم (ولا الساعة). إن كنا نؤمن حقًا إنه كان يجهل فعلاً، فنحن نناقض الرسول الذي يقول: “المذخر فيه كل كنوز الحكمة والمعرفة” [3]. ففيه معرفة مخبأة، وإذ يجب أن تظل مُذخرة فيه، ينبغي لهذا القصد أحيانا أن يُعبر عنها بأنها جهالة (أو هكذا تبدو)، لأنها إن أُعلنت جهارًا ما بقيت سرًا. ولكي تظل المعرفة مخبأةً يعلن أنه لا يعلم، لكن إن كان لا يعلم، لتبقى المعرفة مخفية فيه، فليس ذلك الجهل من صميم طبيعته، إذ هو العالم بكل شيءOmniscient لأنه يجهل فقط لتبقى المعرفة مذخرة فيه (سرًا فيه)، لا لأنه من الصعب عليه تحديد اليوم والساعة، بل ليحثنا دومًا أن نسهر دون فتور وفي إيمان لا يهدأ. وهو يخفي عنا بعض المعرفة يحفظها بمنأى عنا لتظل أذهاننا منشغلةً عن التعلق بأهداب غير اليقين. فتسرع متلهفة عن يوم مجيئه الثاني، وتسهر في رجاء. وهكذا إذ نعلم أن اليوم قريب ولابد آتٍ، فإن عدم تيقننا منه تمامًا يجعلنا منتبهين غير غافلين، ساهرين، لهذا يقول الرب: “كونوا مستعدين (أسهروا) لأنكم لا تعرفون متى يأتي ابن الإنسان” (مت 24: 44) وأيضا “طوبى لذلك العبد الذي إذا جاء سيده يجده يفعل هكذا” (مت 24: 46)[10].
القديس هيلاري أسقف بواتييه
- أي سبب حقا يجعلنا نتعجب إن كان حكمتهم العالية أخفق الناس في إدراك سرّ الله الآب والرب يسوع المسيح، الذي فيه تذخر كل كنوز الحكمة والمعرفة، (كو2: 3) هذا السرّ الذي لم يقدر حتى الملائكة علي معرفته، إلا بالاستعلان؟[11]
القديس أمبروسيوس
- من يجد صلاحًا ما إنما يجده في المسيح الذي يحوي كل صلاح.
القديس غريغوريوس النيسى
- المسيح هو الذي يعلن المخفي والمستور (مت 11: 25-27) ويزرع الفهم في قلوبنا، لأن فيه وبه “مذخر كل كنوز الحكمة والمعرفة” (كو 2: 3) وبه ومعه المجد والقدرة من الآب مع الروح القدس من جيل إلي جيل والى أبد الآبدين آمين[12].
القديس كيرلس السكندري
“وإنما أقول هذا لئلا يخدعكم أحد بكلام ملق (ناعم أملس)” [4].
أخبرهم أن يحترسوا من أي شخصٍ يريد أن يأسرهم بحكمة زائفة وخداع باطل حسب تقليد الناس، تلك الحكمة المؤسسة علي عناصر كونية، بدلاً من ارتكازها علي المسيح.
بدلاً من إفساد الوقت بأن نتدارس فيه الفلسفات الباطلة والتعاليم الكاذبة والأناجيل المزيفة، يجدر بنا دراسة الحق ومعرفته جيدًا لنعرف كيف نميز أي انحراف عنه.
عانت الكنيسة منذ القرن الأول من الهجمات الشرسة من الداخل (أع 15، 2 بط 2: 1-3، يه 3، 4) وينكر كثيرون الحق بأن يحذفوه سرًا.
يقوم إيماننا الأقدس على أساس الرسل والأنبياء، ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية (أف 2: 20). فلا يليق بنا أن نُخدع بالفلسفات الباطلة. وكما يقول القديس جيروم بأنه إن وعدك أحد بأن المسيح يوجد في برية الوثنيين أو خيام الفلاسفة أو في مجالس الهراطقة السرية، وأنه هناك تقدم معرفة أسرار الله، فلا تصدق. وإنما ليكن لك إيمان الكنيسة الجامعة الذي يضيء في الكنائس من الشرق إلى الغرب[13]. “هكذا قال الرب: قفوا على الطرق وانظروا واسألوا عن السبل القديمة، أين هو الطريق الصالح، وسيروا فيه فتجدوا راحة لنفوسكم ” (إر 6: 16).
“ملق” pithanologia، تستخدم هذه الكلمة عن دفاع بعض المحامين بأسلوب جذاب، حيث يمكنهم أن يظهروا الباطل كأنه حق. لذا يليق بالمؤمن أن يكون له روح التمييز فيفرز كلام الحكمة الإنسانية المقنع من برهان الروح المشبع للأعماق (1 كو 2: 4).
- نحترس، بوجه خاص، لئلا ونحن نجاهد في طلب للحكمة، التي هي كائنة في المسيح وحده المذخر فيه كل كنوز الحكمة والمعرفة – أقول نحترس لئلا باسم المسيح ذاته، يخدعنا الهراطقة أو أية أحزاب فاسدة الذهن ومُحبة لهذا العالم[14].
القديس أغسطينوس
- لا يفتخرن أحد إذن بأنه يعلم ووثيق بالمعرفة البشرية، إذ مكتوب حسنًا في سفر إرميا: “لا يفتخر الحكيم بحكمة ولا يفتخرن القوي بقوته ولا يتفاخر الغنى بغناه، بل من يفتخر فليفتخر بهذا، أنه يفهم ويعرف أنني أنا الرب الذي يتراحم ويدين بالبرّ فوق الأرض” حتى لا نتكل علي ذواتنا بل علي الرب الذي يقيم الميت” يقول الرسول: “الذي خلصنا من موت هذا ثقله حتى لا نتكل علي حكمة الناس، بل علي قوة الله” لأن الروحي يحكم في كل شيء ولكن لا يُحكم عليه في شيء” وأيضًا أنصتُ إلي كلماته هذه: “إنما أقول هذا لئلا يخدعكم أحد بكلام ملِق (مخادع) أو يتسلل أحد ليتلفكم[15].
القديس إكليمنضس السكندري
“فإني وإن كنت غائبًا في الجسد،
لكني معكم في الروح،
فرحًا وناظرًا ترتيبكم ومتانة إيمانكم في المسيح” [5].
إن كان الرسول بولس غائبًا عنهم بالجسد لكنه كان حاضرًا معهم بالروح، يتهلل بترتيبهم وعدم تشويشهم، كما يفرح بثبات إيمانهم في المسيح يسوع. هذا ليس بالأمر الغريب، فقد كان قلب اليشع النبي يئن وهو يرافق جيحزي عندما لحق بنعمان السرياني يطلب منه هدية (2 مل 5: 20- 27). مرة أخرى يؤكد الرسول بولس لأهل كورنثوس: “فإني أنا كأني غائب بالجسد، ولكن حاضر بالروح… إذ أنتم وروحي مجتمعون” (1 كو 5: 3-4).
- ما أعظم قوة الموهبة التي تؤهلهم أن يعرفوا الأشياء البعيدة حتى يتسنى بذلك أن يجتمع البعيدون ويصيروا واحدًا.
القديس يوحنا الذهبي الفم
الكلمتان “ترتيب” و”متانة” اصطلاحان عسكريان يستخدمان في وصف الجيوش في الحرب. فالترتيب يشير إلى دقة النظام والتدبير، فيدرك كل جندي موقعه ودوره، ويتحمل مسئوليته في طاعة كاملة للقيادات. المتانة تفيد الاستعداد العسكري لمواجهة ضربات العدو الخاطفة، كجيشٍ يقظٍ متماسك، له قدراته الهجومية والدفاعية. هكذا يليق بالمؤمن أن يكون جندي المسيح الصالح الذي ينتمي إلى جيش الخلاص، لا ليقاوم إخوته في البشرية، بل عدوه الحقيقي إبليس بكل جنوده الروحيين الأشرار، وقواته وحيله وكل خداعاته.
“إيمانكم في المسيح” ؛ تعبير يتكامل مع تعبير “إيمانكم بالمسيح” (كو 1: 3). فالإيمان موضوعه هو السيد المسيح، وغايته التمتع بالمسيح ذاته. هو بداية الإيمان وطريق الإيمان ونهاية الإيمان. فيه يتهلل المؤمنون، كما تتهلل نفس الرسول بولس كشركة حية معهم في بهجة خلاصهم وتهليل نفوسهم بالشركة مع المسيح.
- كأن القول المباشر هنا هو “حتى وإن كنتُ غائبا بالجسد فأنا أعرف المخادعين”. لكن عوضًا عن ذلك يختم عبارته بالمديح: “فرحًا وناظرًا ترتيبكم ورسوخ إيمانكم في المسيح” وبقوله “ترتيبكم” يعنى ترتيبكم الصالح، ورسوخ إيمانكم في المسيح، أي إنكم لا تزالون في طريق الشركة ولم يقل إيمانكم “بل رسوخ إيمانكم كما لجنود واقفين في ترتيب ونظام حسن وفي ثبات. وما هو راسخ لا يهتز لا للخداع ولا للتجربة[16].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- اكتبوا أسماءكم جميعًا في سفر الحياة ولا تمسحوها أيضًا (لأن أسماء الكثيرين تًمحى بسقوطهم).
ليهبكم جميعًا أن تؤمنوا بالذي قام، وتتطلعوا إلى الذي صعد وسيأتي (ولكن ليس من الأرض، إذ يلزمك أن تحترس من الكذابين الذين سيأتون)، إنما يأتي ذاك الذي يجلس في العلا وهو معنا جميعًا، “ناظرًا ترتيبكم ومتانة إيمانكم” (كو 5:2).
فلا تظنوا أن بغيابه بالجسد غائب عنا بالروح، بل هو موجود في وسطنا يسمع ما يُقال عنه، متطلعًا إلى أفكاركم الداخلية فاحصًا القلوب والكلى” (مز9:7)، الذي هو الآن مستعد أن يُحضر الآتين إلى العماد بل ويُحضركم جميعًا في الروح القدس للآب قائلاً: “ها أنا والأولاد الذين أعطانيهم اللَّه” (عب 13:2، إش 18:8).هذا الذي له المجد إلى الأبد آمين[17].
القديس كيرلس الأورشليمي
2. المعرفة الإلهيَّة والسلوك
“فكما قبلتم المسيح يسوع الرب،
اسلكوا فيه” [6].
“اسلكوا فيه” من يقبل السيد المسيح يسلك فيه بكونه الطريق الإلهي، فيستطيع أن يجتاز العالم بقلبه وفكره، ويعبر كما إلى حضن الآب، لتستقر أعماقه هناك على رجاء قيامة الجسد والوجود الدائم في المجد الأبدي.
حيث أن يسوع المسيح هو الفائق الكل، أيقونة الله، خالق الجميع. فلماذا يوجد فيكم اشتياق أن تطلبوا وسطاء آخرين؟ يسوع هو المسيا، مسيحُ الله، هو الكلمة، رسالة الله للإنسان، هو الرب أيضا يهوه إله العهد الجديد (فى 2: 11).
لقد قبلوا الرب بإيمان بسيط، قبلوه مخلصًِّا، مصدر الحياة والغبطة وإن كنا نحتاج إليه لينقذنا من الهلاك الأبدي فإننا نحتاجه أيضًا ليرشدنا ويوجهنا في كل جوانب الحياة (يو 6: 39، رو 8: 35-39). أوصينا أن “نسلك فيه”، فنحن جميعنا نحيا ونتحرك ونوجد في المسيح، جميعنا مسندون به (1: 17) وفي كولوسي 3: 5-17 يوضح القديس بولس كيف ينبغي أن يسلك المسيحي.
إذ قد وثقتم الآن بالمسيح ليخلصَّكم، ثقوا به، أيضًا لأجل حل المشاكل اليومية، عيشوا في اتحاد عميق حيوي معه، ولتتأصل جذوركم فيه وتقتات منه.
- “اسلكوا فيه”، لأنه الطريق الذي يقودنا إلي الآب، وليس في الملائكة، فإنهم لا يقتدرون أن يبلغوا بنا إليه[18].
القديس يوحنا الذهبي الفم
“قبلتم” جاءت نفس الكلمة في قول الملاك ليوسف: “لا تخف أن تأخذ مريم” (مت 1: 20). وكأن قبول المسيح هو اتحاد دائم في حياة مشتركة.
كان بولس دائمًا إنسانًا عمليًا، إذ يقول: نفذَّوا ما تؤمنون (به) ها قد بدأتم حسنا، فاستمروا كما بدأتم! نحن قد وثقنا بالمسيح وثبتنا فيه راسخين (23:1). لهذا عيشوا في اتحادٍ حيويٍ معه. يريد القديس بولس دومًا أن تتناغم حياتنا مع إيماننا. ومن المحزن أن يؤمن مسيحي بالمسيح ويسلك كشيطانٍ.
إن كنا نؤمن بالمسيح ونثق فيه، فلنحيا كما يريدنا هو أن نحيا. وإن كنا متأصلين فيه فلننموا أيضًا فيه. علينا أن نبذل أكثر من مجرد أن نؤمن بحقائق عن المسيح. يجب أن نثق بالمسيح إن كنا نريد الحياة ولا يمكننا أن نكتسبها أو نشتريها فهي هبة مجانية (6:2). فنحن متأصلون في المسيح، وهذا يعني أننا نقتات عليه. فلا يمكن لنباتٍ أن ينمو دون أن يرتبط بالتربة الواهبة الحياة. تبدأ الحياة المسيحية في المسيح ثم لا تلبث أن تنمو في نعمته وعطاياه. لذلك يجب علينا أن نتكل على المسيح لأجل ثبات حياتنا، إذ هو يقيننا من جهة خلاصنا.
“متأصلين ومبنيين فيه، وموطدين في الإيمان،
كما علمتم،
متفاضلين فيه بالشكر” [7].
“متأصلون” لا يطالب بمجرد السلوك بل التأصل، حيث تتحول حياة المؤمن إلى هيكلٍ، له أساساته الخفية التي يقوم عليها البناء الروحي الشاهق الذي يعبر إلى السماء عينها. علينا أن نطلبه، ففيه وحده إشباع كل احتياجنا الروحي وكفايتنا.
- بهذا الإيمان البسيط الثابت ينبغي أن نثبت في اللََّه، حتى يكشف لمؤمنيه بنفسه كل أسراره، إذ يقول الرسول نفسه: “المذخّر فيه جميع كنز الحكمة والعلم” [3][19].
القديس أغسطينوس
- ما يتأصل لا يمكن زعزعته. تأملوا كم يختار من عبارات مناسبة. “ومبنيين” أي في الفكر عنه (عن المسيح) و”ثابتين” فيه، أي راسخين فيه (ممسكين به)، مبنيين كما علي أساس. إنه يكشف لهم أنهم قد انهاروا، لأن الكلمة “مبنيين” لها هذه القوة، لأن الإيمان هو في الحقيقة بنيان، يحتاج إلي أساس متين وبناء مأمون (تشييد مضمون) لأنه إن لم يُبنَ الإنسان علي أساس مضمون يهتز البناء… فإن لم يكن راسخا لن يصمد[20].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- هيا أيها الأحباء التفتوا إلى ما يقدمه لكم الرسول من نصح غالٍ، فهو يقول: “كما قبلتم المسيح يسوع ربنا، هكذا اسلكوا فيه، متأصلين ومبنيين فيه، وراسخين في الإيمان”. ففي هذا الإيمان البسيط والمؤكد يجدر بنا أن نمكث راسخين فيه، حتى يفتح هو ذاته للمؤمنين المخبأين فيه، إذ يقول نفس الرسول: “المذخر فيه كل كنوز الحكمة والمعرفة”، وهو لم يخفها عن أحد لكي يرفضوها، بل ليثير فيهم الاشتياق للأمور المذخرة[21].
القديس أغسطينوس
- تأسيس الكنيسة هو خلق للعالم وبحسب النبي إشعياء (إش 65: 17) تُخلق سماء جديدة فيها (الإيمان بالمسيح هو الجلد، كما يقول بولس في كو 2: 5)[22].
القديس غريغوريوس النيسي
3. التحفّظ من خداع الفلاسفة
“انظروا أن لا يكون أحد يسبيكم بالفلسفة،
وبغرور باطل،
حسب تقليد الناس،
حسب أركان العالم،
وليس حسب المسيح” [8].
بعد أن أعلن الرسول بولس فرحه بتمسكهم بالتقليد الذي تسلموه من الرسل بخصوص شخص ربنا يسوع المسيح أخذ يحذرهم من خداع الفلسفات الكاذبة. بقوله: “انظروا” يقدم تحذيرًا من السقوط في سبي الفلسفة أو الاستعباد لها. يرى في المعلمين الكذبة أشبه بتجار العبيد الذين يحملون أسرى الحرب قسرًا إلى أسواق العبيد تحت ستار الكلمات المعسولة الملقة، فيحرمونهم من حرية مجد أولاد الله.
يدعوها “غرور باطل“، لأنها جوفاء لا تقدم إلا الفراغ، لأنها تصدر عن العالم والفكر البشري البحت، فلا تحمل قوة الله للخلاص. كان العالم أسيرا لفكرة أن أمور البشر تسير قصرًا حسب تحركات الأفلاك لذا يقول: “أتحفظون أيامًا وشهورًا وأوقاتًا وسنين؟” (غل 4: 10). وكانت الفلسفات تدعي أنها قادرة أن تخلص الإنسان من شر هذه القوات.
يقوم هذا الجزء من الرسالة علي تحذيرات ثلاثة:
أولاً: لا تنجذبوا لأية فلسفة دنيوية، تحل محل المسيح. لا تسمحوا لأي شيء يحل محل المسيح الفائق الكل، ولا تدعوا أحدًا يجعلكم تنكرونه. افتحوا عيونكم جيدًا وراقبوا واسهروا (حز 3: 17-21)، فلا يُسرق إلا الغافلون والحمقى (لو 12: 39)، ضحايا الغفلة.
الفلسفة جهد بشري لفهم الله والوصول إليه ولإدراك الكون الذي خلقه بقدرته، لكنها غالبًا ما تخفق في قصدها (1 كو 1: 21) ومن ثم فهي في نهاية الخطورة (ا تي6: 20).
“حسب تقليد الناس”: التقليد ليس بالضرورة شرًا في ذاته. فالكلمة تشير أساسًا إلي مجموعة من الأقوال أو التعاليم المسَّلمة من واحد إلي آخر (غل 1: 14؛ 1كو11: 2)، قد تكون صالحة (2 تس 2: 15؛ 3: 6) أو عديمة النفع (1 بط 1: 18)، أو حتى شريرة للغاية إذا ما تعارضت مع كلمة الله (مت 15: 1-9) وفي حالة كولوسى 2: 8 فإن التقليد هنا علي وجه التحديد هو هذا النوع الأخير، إذ هو مناقض للتعليم الصحيح كما أعلنه في المسيح.
ومن الآية 20 نكتشف أن “العناصر” أو “الأركان” إنما تشير إلى الترتيبات الدينية من أوامرٍ ونواةٍ (2: 20-23) ومهمة الإنسان أن يصل إلى الله بإنكاره للذات وبالأعمال الصالحة. والخط الكامن في كل الفلسفات أننا نقترب من الله ليست بحسب المسيح مع أنه كان يجب أن نتذكر أنه في المسيح وبالمسيح وحده يمكننا بلوغ الآب.
- تأملوا كيف يُظهره لصًا وشخصًا غريبًا يتسلل خلسة؟… لأن لفظة “فلسفة” لها مظهر الكرامة، فيضيف “وغرور (خداع) باطل” إذ يوجد أيضًا خداع حسن، قد انخدع به كثيرون، وهو ما لا يمكن للمرء أن يطلق عليه وصف “خداع” أبدًا إذ يقول إرميا النبي: “قد أقنعتني (حرفيا غررت بي) “يا رب فاقتنعت (حرفيا فانخدعت)” (إر7:20) ومثل هذا لا يمكن لنا أن نسميه خداعًا على الإطلاق، لأن يعقوب أيضًا خدع أباه، لكن لم يكن ذلك خداعًا، بل كان تدبيرًا.
ويقول القديس بولس: “بالفلسفة وخداع باطل بحسب تقليد الناس، بحسب مبادئ العالم، وليس بحسب المسيح“، وها هو يوبخهم لحفظهم أيامًا بعينها، إذ يقصد بأركان العالم أو عناصره أو مبادئه: الشمس والقمر. كما يقول أيضًا في الرسالة إلى أهل غلاطية فكيف ترحبون أيضًا بالأركان الضعيفة الفقيرة؟ (راجع غل 9:4) وهو لم يقل: حفظ أيام، بل حفظ أمور العالم الحاضر عمومًا ليكشف عن تفاهته. لأنه إن كان العالم الحاضر لا شيء فكم بالحري عناصره (من أيام وشهور وسنين)، وإذ يكشف أولاً من مدى ما نالوه من منافع عظيمة وحنوٍ، يبدأ بعدها في توجيه اتهامه ليظهر مدى خطورته وليقتنع سامعيه[23].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- إنه بعد ذلك يدمغ الفلسفة ويدينها، ليس بصفة شاملة بل يدين الفلسفة الأبيقوريّة التي يذكرها بولس الرسول في سفر أعمال الرسل (17: 18)، تلك التي تجحد اللََّه القدير وتؤلّه اللذّة[24].
القديس إكليمنضس السكندري
- هذا الإنسان إنسان عالمي ينتبه لتعاليم الناس، ضحية الفلسفة، لأنه لا يتصرف في المسيح بملء اللاهوت[25].
القديس هيلاري أسقف بواتييه
- لئلا تضل النفس وتقع في خداع الفلسفة الوثنية، فإنها تقبل الدرس الأفضل الذي للولاء الأكمل للإيمان المقدس الذي علَّم به الرسول في كلمات موصى بها[26].
القديس هيلاري أسقف بواتييه
- احذروا لئلا يفسدكم أحد عن الإيمان بالمسيح بفلسفة وخداع باطل الذي يهمل تدبير العناية الإلهية “بحسب تقليد الناس“. لأن الفلسفة التي هي بحسب التقليد الإلهي إنما تطابق وتتبع تدبير العناية الإلهية، والذي إذ أُهملِ ظهور المخلص بتدبير خلاصه في الزمن كنا منقادين بحسب “أركان العالم وليس بحسب المسيح“[27].
- لأن القديس بولس أيضًا، في رسائله لا يهاجم الفلسفة، بل يراها تنزل بمستوى الإنسان ليبلغ المعرفة الخاصة بالعالم. لا يليق به أن ينحدر إلى الفلسفة الهيلينية والتي يسمَّيها بشكل رمزي قائلاً إنها أركان العالم الحاضر، إذ هي ناقصة لم تكتمل بعد، وهي مجرد مبادئ تمهيدية للحق[28].
- هل يقول أحدكم إن الفلسفة التي اكتشفها أهل اليونان قد جاءت نتيجة الفهم البشري، إلا أني أجد الكتاب المقدس يقول إن الفهم هو من الله ذاته. فالمرنم يعتبر الفهم أعظم هبة مجانية ويحث المؤمنين قائلاً، بأن داود بالرغم من فيض تجاربه، ومعرفته، يكتب: “علمني الرقة والحكمة والمعرفة، لأنني آمنت بوصاياك”[29].
- بقول الرسول: “بحسب أركان العالم وليس بحسب المسيح” يؤكد أن التعليم الهيليني (اليوناني) تعليم أوليَّ، أما تعليم المسيح فكامل[30].
القديس إكليمنضس السكندري
4. حياة الملء في المسيح
“فإنه فيه يحل كل ملء اللاهوت جسديا” [9].
يرى البعض كلمة اللاهوت Theotes هنا وليس Theiotes (رو 1: 2)، فالأولى لم تتكرر في العهد الجديد، وهي تعنى الله بجوهره هذا الذي اتحد مع الناسوت، أما الثانية فتعني إشراق مجد الله الذي يمكن أن ينعكس على الخليقة.
يعلن الكاتب بأكثر وضوح أن في المسيح يحل “ملء” اللاهوت جسديًا (1 :19)، وأن المسيح هو الرأس (18:1)، رأس كل رياسة وسلطان (1: 16)، وكل ذلك له نتائجه في مجتمع الكاتب فهم يشتركون في ملء المسيح (9:1) لأنهم جسده. وكما أن الختان علامة عهد مع الله بالنسبة لليهود هكذا في معمودية الأمم صار المسيحيون شعب عهدٍ. فالمعمودية للأمم هي رمز للختان غير البدني (الروحي) الذي بها يتشبهون بالمسيح إذ يشاركونه ختانه ومعمودية موته مدفونين ومشتركين أيضًا في قيامته (رو 6: 3-5).
- هو ذراع الآب، لأنه خلق الجميع، وهو الحكمة (1 كو 30:1) حكمة الآب… وهو قدرة الآب، لأن فيه يحل ملء اللاهوت جسديًا[31].
القديس أمبروسيوس
يميز القديس كيرلس بين ملء اللاهوت بالنسبة للسيد المسيح وبين حلول الروح القدس في القديسين.
- إننا نؤمن بأن العماد الذي تمّ في المسيح هو الاتّحاد الأكمل… وأما فينا نحن فمع أنه قيل أنه “حلّ فينا” إلا أن حلوله فينا هو حلول نسبي، أي بالمشاركة والنعمة، لأن فيه وحده “يحل كل ملء اللاهوت جسديًا” [9]، أي أن الحلول الكائن فيه ليس مجرد حلول نسبي أو بالمشاركة مثلنا… بل هو اتحاد حقيقي بين طبيعة الإلهية غير المحدودة وهيكل جسده المولود من العذراء[32].
- كإنسانٍ قد صار الممسوح بيننا، بالرغم من أنه هو الذي يعطي الروح القدس للمستحقين قبوله (أع 38:10) وليس بمكيال، كما يقول المغبوط القديس يوحنا الإنجيلي (يو 34:3). ولا نحن نقول إن كلمة الله حل كما في إنسانٍ عادٍ (مجرد إنسان) في المولود من العذراء القديسة (مريم) لئلا يفتكر أحد في أن المسيح مجرد إنسان حاملٍ لله. حل الكلمة (اللاغوس) بيننا (سكن وسطنا) (يو14:1) وعن المسيح كُتب أن فيه “قد حل كل ملء اللاهوت جسديًا” (كو 9:2) ونحن لا نعتقد نه إذ صار جسدًا، فإن الكلمة (اللوغوس) قد حل فيه كحلوله في القديسين ونحن لا نعتبر أن حلول اللاهوت في المسيح يشبه ذاك الحلول في البشر فإن الله اتحد بالطبيعة ولم يتحول إلى إنسان أو جسد.
إن الكلمة (الذاتي) قد وجد حلول، كما لحلول النفس في الإنسان إذ نقول عن سكناها في جسده[33].
القديس كيرلس الكبير
- السرّ المكتوم بالحقيقة منذ الدهور ومنذ الأجيال، لكنه أُظهر في الأزمنة الأخيرة بظهور المسيح، فإن السرّ الذي رآه (حزقيال ص 1) هو سرّ النفس التي كانت ستستقبل ربّها وتصير هي ذاتها عرشًا لمجده[34].
القديس مقاريوس الكبير
- ملء اللاهوت الساكن فيه جسديًا يؤكد حقيقة طبيعته (الإلهية). هي هي (طبيعة الله) الذاتية ووحدة الطبيعة الحية، التي لا يمكن انقسامها بالتمايز لا يمكن انقسامها أيضًا بولادة طبيعة حية[35].
- ليس الابن بصاحب نصيب أو جزء في الآب، إذ يشهد الابن ذاته أن كل ما للآب هو لي، وكل ما لي هو لك (أيها الآب)، وكل ما لك هو لي. ويشهد الرسول (بولس) أن فيه يحل كل ملء اللاهوت جسديًا، وبحسب طبيعة الأشياء، فإن الجزء لا يمكن أن يملك الكل، إنه هو الابن الكامل للآب الكامل، لأن من له الكل قد أعطى الكل له، ومع هذا لا يليق أن نتخيل أن الآب لم يعطِ لأنه لا يزال يملك، أو أنه فقد (ما أعطاه) لأنه قد أعطى الابن![36]
القديس هيلاري أسقف بوايتيه
“أنتم مملوءون فيه،
الذي هو رأس كل رياسة وسلطان” [10].
إذ تحقق التجسد باتحاد اللاهوت مع الناسوت صار لنا حق التمتع بغنى المسيح خلال اتحادنا معه، إذ نصير مملوءين فيه. خلال هذا الملء صار لنا إمكانية القيامة معه، والجلوس معه في السماويات (أف 2: 6)، وأن نملك أيضا معه (2 تي 2: 12)، لا يعوزنا شيء (رو 8: 32)، إذ يصير كل شيء هو لنا (1 كو 3: 21).
يعلق القديس أغسطينوس على العبارة: “ومن ملئه نحن جميعا أخذنا، ونعمة فوق نعمة” (يو 1: 16) قائلاً بان الرب وهبنا نعمة مجانية مقابل استحقاقنا للعقوبة. بهذه النعمة وهبنا الإيمان الذي به ننال مجازاة عظيمة. يقودنا هذا الإيمان إلى معرفة الحق. بالإيمان يهبنا التبرير من خطايانا ويقدم لنا نعمة الخلود. هذا كله بشرط الاحتفاظ بهذه النعم.
- بعد إعلانه أنه في المسيح يحل كلُ ملء اللاهوت جسديًا، يكشف فورًا عن سرّ صعودنا في الكلمات “أنتم مملوءون فيه“، فكما أن ملء اللاهوت هو فيه، فنحن قد صرنا مملوءين فيه (نلنا من ملئه)، ولا يقول الرسول أنكم قد صرتم مملوءين فيه وحسب بل فيه قد صرتم مملوءين، لأن كل من هم الآن أو من سيكونون فيما بعد، المخلوقين من جديد برجاء الإيمان بالحياة الأبدية، يمكثون حتى الآن في جسد المسيح وفيما بعد لن تحيا بعد أن يكونوا مملوءين فيه، بل في أنفسهم، في الزمان الذي يقول عنه الرسول: “الذي سيغير شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده (في 21:3). لهذا فقد صرنا مملوءين فيه، أي بصعود جسده، لأن فيه يحل ملء اللاهوت جسديًا فهل رجاءنا أعلى من السلطان الذي فيه؟[37]
القديس هيلاري أسقف بواتييه
- لقد سند المحتاجين وأعطى حياة للمائتين، حتى ندرك أنه من الجسد الذي فيه حلّ ملء اللاهوت، الجسـد الذي سكنت فيه الحياة، قد أعان عوز المعـتازين (كو 2: 9)[38].
القديس افرام السرياني
- كلمة “ملء” تعني “الكل المتكامل The whole… فهو “الرأس” وأنتم مملوءون فيه معناها أن مالكم هو منه وليس بأقل مما له[39].
القديس يوحنا الذهبي الفم
“أنتم مملوءون (مكتملون) فيه،
الذي هو رأس كل رياسته وسلطان [10].
من أهم مميزات مفاهيم القديس بولس عبارة كوننا “في المسيح“، فيوجد إحدى وعشرون إشارة إلى علاقتنا بالرب يسوع في الإصحاحين الأول والثاني، بمعدل إشارة واحدة لكل ثاني آية تقريبًا، ومعنى غير المستطاع أن نشرح كلمة “مكتملين” هكذا بكلمة واحدة فهي تعني الامتلاء والكمال والفيض بكل أسلوب ومن كل طريق (انظر متى 48:13).
5. الختان الروحي والمعموديّة
“وبه أيضّا ختنتم ختانًا غير مصنوع بيدٍ،
بخلع جسم خطايا البشرية بختان المسيح” [11].
بالمسيح نكمل [10]، وبه أيضًا لنا عهد مع الله.
كان الختان الجسدي في العهد القديم علامة تُظهر علاقة عهد الإنسان مع الله (رو 11:4-12). كان أيضًا علامة انقسام بين اليهود والأمم، وعلى الصليب أباد المسيح يسوع هذا الحائط المتوسط، حاجز الانقسام (أف 14:2-18). على أسس الإيمان، نحن جميعًا يهودًا وأممين ندخل في عهد مع الله (رو 29:3، 30؛ غل 6:5).
إذ صرنا مملوءين فيه نتمتع بالختان الروحي، أي العماد، فنخلع الإنسان القديم ونلبس الإنسان الجديد الذي على صورة خالقه. في هذا الختان لا تنزع غرلة الجسد الظاهرة، بل غرلة القلب التي تتعارض مع مشيئة الله والطاعة لوصاياه. لقد وبخ القديس اسطفانوس اليهود لأنهم قساة القلوب وغير مختونين بالقلوب والآذان (أع 7: 51)، وعاد الرسول يوضح مفهوم “اليهودي” كعضو في جسد إسرائيل الحقيقي انه مختون القلب بالروح (رو 2: 28-29).
في الختان الجسدي الحرفي يُنزع جزء من اللحم، أما في ختان المسيح فينزع طبع الخطية فلا يعود الجسد يكون هيكلاً لها، بل يصير هيكلاً للرب. هذا الاستئصال لا يتم بسكين مادية، بل بيد غير بشرية، وهو عمل روح المسيح فينا بالإيمان.
- كان موته من أجلنا، وهكذا أيضًا كانت قيامته، وكان ختانه[40].
القديس كيرلس الكبير
- أسأل السلام لعفتك بحبٍ عمليٍ. حتى متى تُسمي عبدًا؟ متى ستصبح إنسانًا حرًا؟ متى تصبح سيدًا على الشعوب النجسة المحيطة بك؟ متى تقتل وتبيد أهل الغرلة الذين هم في مدينتك؟ متى تُختن بالختان التي لم تصنعها الأيدي، كل سكان بيتك (تك 17: 27)، بالختان الذي هو في الروح (رو 2: 29)؟ متى ستكون صاحب سلطان وملكًا على مدينة الأبد، ومتى ستخضع لك المدن الخمس والمدن العشر التي سبق ذكرها؟… متى ستبصر في نفسك السماوات الجدد، وهي تعلن فيك بنظام مراتبها “قدوس” الجوهر الخفي؟[41]
القديس يوحنا الدلياتي
- يعني بعبارة “جسد الخطايا” تلك “الحياة العتيقة”، وهو كثيرًا ما يشير إليها بشتى الطرق, كما قال قبلاً “الذي نجانا من سلطان الظلمة, وصالحنا نحن الذين كنا قبلاً غرباء” حتى نصبح “قديسين وبلا عيب”، ولم تعد بحاجة إلى الختان بنصل السكين، بل في المسيح نفسه, لأنه ما من يدٍ بشرية تهب هذا الختان أبدًا بل الروح القدس, وهو لا يختن جزءًا بعينه بل الختان، في واحد جسداني وفي آخر روحاني، لكن ليس كاليهود, لأنكم لم تخلعوا الجسد بل الخطايا, متى وأين؟ في المعمودية. وبماذا يُسِّمى الختان؟ يسميه دفنًا[42].
- إنه يتكلم عن شيء أعظم من الختان, إذ أنه لا يطرح فقط ما أختنوا لأجله بل يبيده ويفنيه تمامًا[43].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- قد خُتنا لا ختانًا جسدانيًا بل في المسيح, أي وُلِدنا من جديد, إذ قد دُفِنا معه بمعموديته, يجب أن نموت عن الإنسان العتيق لأن لتجديد المعمودية قوة القيامة، ولا يضيء ختان المسيح بنزع الجلد بل بالموت بالكامل معه, وبهذا الموت نحيا بالكامل له لأننا نقوم ثانية به بالإيمان بالله الذي أقامه من الأموات. لهذا يجب أن نؤمن بالله الذي بعمله قام المسيحُ من الموت لأن إيماننا يقوم ثانية في المسيح وبه[44].
القديس هيلاري أسقف بواتييه
“مدفونين معه في المعمودية،
التي فيها أقمتم أيضا معه،
بإيمان عمل الله الذي أقامه من الأموات” [12].
يتحقق هذا الختان بسكين الروح بواسطة المعمودية، حيث يُدفن المؤمن مع المسيح ليقوم معه في جدة الحياة المقامة.
بقوله “التي فيها” يؤكد الرسول أن المعمودية ليست رمزًا، بل هي عمل حيث يتم الدفن مع المسيح والقيام معه.
ليس الموت فناءً, بل هو انفصال عن الله. ونحن قد وُلدِنا في الصورة الميتة صورة آدم (كو 15:1؛ تك3:5) ونبقى هكذا حتى “نحيا” بالله.
ومع هذا فإن الجسد غير المختون أفضل من القلب غير المختون (كو 11:2؛ رو 25:2-29). فالروح هو الذي يحيي، أما الجسد فلا يُفيد شيئًا (يو 63:6).
- دُفنا مع المسيح بالمعمودية, وقمنا ثانية بالإيمان بعمل الله الذي أقامه من الموت… إن الوقت يعوزني أن أسرد عليكم كل النصوص من الكتاب المقدس التي تشير إلى فاعلية المعمودية أو أن أشرح العقيدة السرية (السرائرية) التي للميلاد الثاني التي وإن كانت بمثابة الميلاد الثاني فهي الميلاد الأول لنا في المسيح[45].
القديس جيروم
- يتبع إيماننا قبولنا الختم الروحي، إذ نختن بالروح القدس خلال المعمودية، ليس في غرلة الجسد، بل في القلب كقول إرميا: “اختننوا للرب في غرلة قلوبكم”. وقول الرسول: “بختان المسيح مدفونين معه في المعمودية…” (كو 11:2، 12)[46]
القديس كيرلس الأورشليمي
تعبير “مدفونون معه في المعمودية” تشهد بالكيفية التي كانت تتم بها آنذاك في عصر القديس بولس، إذ كانت تتم التغطيس فقط (رو 3:6-5). يموت المعمًّدون عن الحياة العتيقة، كما تضمن قيامته قيامتنا (1 كو 20:15-23). دُعي يسوع “بكر الراقدين” أي هو ضمان قيامتنا (1 كو 20:15).
- قد مات حقا مرةً, لكنه يموت عن كل شخص قد اعتمد بموت المسيح, حتى نُدفن مجتمعين معه ونقدم به ونسلك في جِدة حياته[47].
القديس أمبروسيوس
“وإذ كنتم أمواتًا في الخطايا وغلف جسدكم،
أحياكم معه،
مسامحًا لكم بجميع الخطايا” [13].
ثمر الخطية هو الموت الناتج عن الانفصال عن الله مصدر الحياة، وأما الإيمان والتمتع بالمعمودية ففيهما خبرة الحياة مع المسيح غافر الخطايا، وبالتالي واهب المصالحة مع الآب.
6. الغلبة على الظلمة
“إذ محا الصك الذي علينا في الفرائض،
الذي كان ضدًا لنا،
وقد رفعه من الوسط، مسمرًا إياه بالصليب” [14].
الصك الذي محاه السيد هو أشبه بإقرار كتابي يكتبه المدين يعترف فيه بالدين أو المخالفة للقانون الإلهي، ويوقع عليه. هذا الصك يعلن عن مخالفة اليهودي للناموس المكتوب، ومخالفة الأممي للناموس الطبيعي. جاء في ارميا النبي: “خطية يهوذا مكتوبة بقلم من حديد، برأس من الماس، منقوشة على لوح قلبهم وعلى قرون مذابحكم” (إر 17: 1).
إذ صُلب ربنا يسوع أخذ معه هذا الصك وسمره على الصليب، ماحيًا بذلك مفعوله. كانت الصكوك قديما تكتب على رقوق من جلود، وعند سداد الدين تزال الكتابة عنها تمامًا، فلا يكون لها أي أثر.
بدم السيد المسيح الذي رُش رُفع الصك من وسط المشهد، فصار كأن لا وجود له، بهذا سقطت القضية، وزالت العداوة والدينونة.
- ما هو الموت في الحقيقة إلا دفن الرذائل وإحياء الفضائل؟ لهذا كُتب: “فلتمت (ترحل) نفسي موت الأبرار، “أي” فلتُدَفن معهم (عد 10:23, كو 12:2)، لتُدفنَ خطاياها وتلبس نعمة الأبرار الذين “يحملون في أجسادهم سمات موت المسيح” (2كو10:4 ) وأيضا يحملون تلك السمات في نفوسهم[48].
- النفس التي أوشكت أن تقبل الكلمة اللوغوس, يجدر بها أن تموت عن العالم (غل14:6) وتُدفن في المسيح (رو 4:6, كو 12:2)، فلا تجد إلا المسيحَ، فهذا هو الاستقبال اللائق الذي يطلبه منها لنفسه[49].
القديس أمبروسيوس
“إذ جرد الرياسات والسلاطين،
أشهرهم جهارًا، ظافرًا بهم فيه” [15].
لم يقف الأمر عند رفع الصك الذي سجلناه بعصياننا للوصية الإلهية، وإنما بالصليب زال سلطان قوات الظلمة علينا، فلم يعد لإبليس القتَّال للناس منذ البدء (يو 8: 44) والذي يشتكي على الصديقين أمام إلهنا ليلاً ونهارًا (رؤ 12: 10) قدرة. إذ حطم نفسه بنفسه، حين ظن أنه قادر أن يصوب سهامه ضد يسوع المسيح أثناء محاكمته وصلبه، فارتدت الضربات إليه وصلبته. بموت السيد المسيح أمات ذاك الذي له سلطان الموت أي إبليس (عب 2: 14). وكما ابتلع الحوت يونان دون أن يقدر أن يميته هكذا فقدت الحية القديمة نابها السام، وتجردت من بث سم الموت.
لم يحدث هذا في زاوية، بل علانية، فجرد السيد المسيح إبليس من سلطانه أمام جميع السمائيين. كان الملوك الرومان يقومون بعملية تجريد الملوك المهزومين علانية. إذ كان الملك الغالب وقادة الجيش يرتدون ثيابًا أرجوانية محلاة بالذهب، ويضعون أكاليل النصرة على رؤوسهم، ويحملون أغصانًا في يمينهم وصولجانا في يسارهم. ثم يقومون بتجريد الملوك المهزومين وقادتهم من أسلحتهم ثم يجرونهم في مواكب نصرتهم في مذلة، ويستعرضونهم جهارًا.
هذا ما حدث حين صُلب السيد المسيح، فنزلت نفسه إلى الجحيم، وحملت الغنائم التي كانت تترجاه، وحطم متاريس الهاوية، وأعلن هزيمة إبليس ونزع كل سلطان له على المؤمنين الحقيقيين (أف 4: 8-9). وأما البشر فقد رأوا القبور تنفتح وكثير من القديسين الراقدين قاموا (مت 27: 53). وباسمه كانت الشياطين تخرج من أجسام الكثيرين في مذلة. فلا عجب إن قال الرسول: “أنا آمرك باسم يسوع المسيح أن تخرج منها، فخرج في تلك الساعة” (أع 16: 18). في يقين النصرة يترنم الرسول: “أين شوكتك يا موت؟ وأين غلبتك يا هاوية” (1 كو 15: 55)، وأيضا: “شكرًا لله الذي يقودنا في موكب نصرته في المسيح كل حين” (2 كو 2: 14).
- هذا هو الغرض الذي من أجله جاء الرب (إلى العالم)، لكي ما يطرحهم خارجًا ويسترجع بيته وهيكله، أي الإنسان. لهذا السبب تُسمّى النفس جسد ظلمة الخبث، طالما أن ظلمة الخطية موجودة، فتُهان لأنها تحيا لعالم الظلمة الشرّير، وهي ممسكة بشدّة هناك. لذلك يسمّيها الرسول “جسد الخطية” أو “جسد الموت”، قائلاً: “ليبطل جسد الخطية” (رو 6: 6)[50].
القديس مقاريوس الكبير
- لا يعرف الرسول شيئًا عن الخوف من الألم وهو في المسيح, فحين يريد أن يتكلم عن تدبير الألم، يضمه في سرّ لاهوت المسيح. الذي يغفر لنا كل خطايانا ويمزق صك آثامنا الذي صرنا مسمرين إياه على الصليب, طارحين إياه بعيدًا عنا. وإذ تعرى جسديًا شهَّد بالسلاطين والقوات ظافرًا بهم جهارًا في نفسه.
تأملوا معي أية قوة تلك التي تحتمل جرح المسمار, وتنحني تحت معول المثقاب المؤلم!
أية طبيعة تلك التي تحتمل مثل كل هذا الألم؟
وإذ يتحدث القديس بولس كما على لسان حال المسيح, مظهرًا عمل الخلاص, يصف موت المسيح بأنه عَّرى جسده وفي جسارة (ونصرة) أخزى قوات (الظلمة) منتصرًا عليهم في نفسه.
فلو كان ألمه ضرورة تحتمها طبيعته، وليست هبة مجانية لخلاصكم, ولو كان الصليب مجرد معاناة للآلام والجروح, وليس لقصد أن يسِّمر في ذاته قانون الموت الذي صدر ضدكم، ولو كان موته من جراء عنف الموت وليس تعرية الجسد بقوة الله, أخيرًا لو كان موته نفسه أي شيء عدا أن يكون تشهيرًا وحطًا من كرامة القوات (الشريرة) وعملاً جسورًا وغلبة, فإنه ينسب إلى نفسه عجزًا!
لأنه كان تحت سلطان حتمية الطبيعة, حيث يُضرب ويخاف وتمتهن كرامته. لكن إن كان الأمر هو العكس تمامًا فيما يختص بسرّ الآلامات, كما كُرِز لنا به, فمن ذا الذي تصل به درجة انعدام الإحساس، فيرفض الإيمان الذي علمنا إياه الرسل، ويعكس كل مشاعرنا الدينية. وأن نلقي جزافًا بهذا الاتهام المهين للضعف البشري بدلاً من أن نعتبره فعلَ إرادة حرة, وسرًا, وإظهارًا للقدرة والجسارة وانتصارًا؟
أية غلبة أعظم من تلك, حينما قدم ذاته إلى الذين طلبوا أن يصلبوه فلم يقدروا على احتمال وجوده, فإن الذي وقف ممتثلاً لحكم الموت، هو نفسه بعد برهة قصيرة الذي جلس عن يمين القدرة, حينما صلى لأجل مضطهديه بينما المسامير تخترق جسده (المقدس)، وحينما أكمل السرّ إذ ذاق مرارة الخل، وإذ قد أحصي مع أثمه وفي ذات الآن وهب الفردوس. لأنه إذ رُفع على الصليب (الشجرة) تزلزلت الأرض, وحينما عُلِق على الصليب ماجت الشمس وارتعد النهار, حتى أنهما هربا من أمامه, أما هو فترك جسده بينما وهب الحياة لأجساد الآخرين, لقد دُفِن جسديًا وقام إلها.ة
كإنسان تحمل كل الألم والضعفات لأجلنا, وكإله انتصر عليهم جميعا[51].
القديس هيلاري أسقف بواتييه
- لأنه هكذا مكتوب, أنه غفر للجميع “كل زلاتهم”، ممزقًا صك الخطايا الذي كان ضدنا، لماذا؟ إذن, نقيد الآخرين ونشتهي أن يوفوا لنا الديون التي لنا, بينما ننعم نحن بالصفح وغفران الخطايا؟ إن الذي غفر للجميع, يطلب من الكل أن يتذكر كل عقل أنه قد غُفِر له وأن يَغَفِر هو أيضا للآخرين[52].
القديس أمبروسيوس
يكرر مرتين تعبير “كان ضدنا“, فالناموس الذي وُهب لنا صار كما لو كان عدونا، كيف؟ لأنه فتح بصائرنا على معنى الخطية, ولم يعطنا قوةً لطاعة متطلباته (رو7:7-25). فيسوع المسيح وحده هو القادر أن يفضح الخطية ويكشف عن أعماقها, ويمنحنا القوة على دحرها. ويقول القديس بولس لنا, جامعًا نفسه مع الذين وُهبوا النعمة, إن الناموس قد بطل حتى بالنسبة لليهود.
وقف الناموس حاجزًا وفاصلاً بين اليهود والأمم, وبينهما كليهما معا وبين الله. كان حاجزًا لا يمكن اختراقه, لكن يسوع المسيح أزاله كعقبة من الطريق, ووحّد اليهود والأمم، ومنحهم إمكانية الوصول إلى الله بالمسيح (أف 14:2-18) وقد تمم ربنا تلك المصالحة بأن سمر (حكم الناموس) في الصليب (كو 20:1). إن المسامير التي اخترقت يدِّي ربنا وقدميه قد سَّمرت أيضا حكم الناموس على الصليب. ولم يعد للناموس سلطان علينا!
- بيع المسيحُ لأنه أخذ وضعنا, ولم يأخذ خطأنا, ولم يُمسك من دين الخطية لأنه لم يفعل إثمًا (2 كو 21:5)، لهذا حرر صكًا بثمن ديوننا, لا لأجل نفسه بل أزال قيد المدين (كو 14:2) واستبعد الدائن.
حرر المدين وهو وحده سَّدد ما كان الكل مدينين به، لم يكن مسموحا لنا أن نتحرر من القيد، فقام هو نيابة عنا بربطه بنفسه, ليرفع عبودية العالم, ويستعيد حرية الفردوس، ويهبنا نعمة جديدة بالكرامة التي نلناها بمشاركته طبيعتنا عن طريق السرّ[53].
القديس أمبروسيوس
- عند ميلاد الابن, دعا الملك كل الناس لحفل توزيع المال, حتى يصيروا جميعهم مدينين له, وجاء الملك إلينا ليسدد كل ديوننا (كو 14:2) وحرر صكًا آخر باسمه ليسدده عنا لدائننا[54].
القديس أفرام السرياني
- حسب قول النبي, هو نفسه حمل خطايانا وقد أحصي معنا بين الآثمة (إش 12,4:53؛ كو 14:2) حتى يبررنا بنفسه, ممزقًا الصك الذي كان ضدنا، مسِّمرًا إياه في صليبه, كما قال الكتاب المقدس. وإذ هو بالطبيعة قدوس لأنه الله, وما في البشرية كلها هو شركة الروح القدس الذي يعينهم ويسندهم ويقدسهم, إلا أنه لأجلنا تقدَّس بالروح القدس، لكن ما من أحد آخر قدسَّه بل بالحري هو بذاته يقدس جسده الذاتي[55].
- تحمل الصليب لأجلنا, حتى بالموت يبيد الموت، وحوكم لأجلنا ليخلص جميع البشر من الحكم بسبب الخطية, فأباد طغيان الخطية بالإيمان، وسَّمر في صليبه الصك (القيد) الذي كان ضدنا, كما مكتوب[56].
القديس كيرلس السكندري
- فلنتأكد أن “كتاب الصك الذي كان ضدنا” (كو 14:2) وقيد عبوديتنا الذي أمسك بزمامه الشيطان, قد مُزِّق وانحل بدم المسيح[57].
القديس أغسطينوس
- هكذا بميلاد نسل القديسة المباركة مريم, انتزعت الأشواك وجف الغصن, ولُعنت شجرة التين (مت 19:21)، وصار التراب ملحًا، وسُمِّرت اللعنة على الصليب (كو 14:2) وزال حد السيف أو رفع النصل من أصل شجرة الحياة وأعطي كطعامٍ للمؤمنين, ووُعِد بالفردوس للمطوَّبين والعذارى والقديسين[58].
الآب أفراحات
- لهذا قال داود قبلاً: “طوبى للذين غُفِرت آثامهم، وسُتِرت خطاياهم. طوبى للرجل الذي لم يحسب الرب له خطية”، مشيرا إلى غفران الخطايا عقب مجيئه الذي به “مزق صك خطايانا وسَّمره على الصليب” فكأننا بشجرة (في جنة عدن) قد صرنا مدينين لله كذلك بشجرة (خشبة الصليب) أيضا ننال غفران خطايانا[59].
القديس إيريناوس
- قد جُرحت وجَرحت آخرين, لأن دمك, حينما سُفِك ليمحو صَّك خطايانا, ما كان ليَسفك إلا من جُرحك[60].
القديس أغسطينوس
- أيضًا فلنقدم ذبيحة الحمد أي ثمر الشفاه، وتلك القرابين ليست بحسب الناموس الذي رفع الرب صكه من الوسط وألغاه, لكنها قرابين بحسب الروح القدس, لأننا ينبغي أن نعبد الله بالروح والحق, ومن ثم قربان الإفخارستيا ليس جسديًا بل روحاني ومن ثم فهو طاهر[61].
القديس إيريناوس
- هذا القيد ضدنا في الحقيقة كما يقول الملهم بولس, قد سمره الرب في صليبه وبه انتصر على الرئاسات والقوات ظافرًا بها (كو15,14:2) وإن لم يكن المسيح نفسه هو الذي سمر اللافتة باللقب على الصليب, بل سمرها عامل بإيعاز من ضابط يهودي إلا أنه عانى منها وكأن به قد كتبها بيده هو – إن حدث التقيد[62].
القديس كيرلس السكندري
لا ينبغي أن نخشى قوات الشياطين فننحني لهم، ولا أن نقلل من قوتهم. فهم لا يزالون أقوى من أي قديس ينفصل عن قوة الله, لكن شكرًا لله الذي يعيننا على النصرة (رو 37:8).
- اسألوا الشيطان نفسه, اسألوه: “متى لُطِمت بتلك الضربة التي لا علاج منها؟ ألم تعد لك قوة بعد؟ أين أُسِرتَ؟ من أمسك بك وأنت تحاول الهرب؟ فإنه لن يعطيكم سوى هذه الإجابة: “الجسد المصلوب” بهذا تمزقتْ أوصاله, بهذا سُحِقتْ رأسه, بهذا شُهِر بالرياسات والقوات (الشريرة) جهارًا, ظافرا بهم في الصليب. (كو15:2)[63].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- لكن حتى إن هبط إنسان إلى الجحيم (الهاوية), ووقف مرهوبًا من الأبطال الذين انحدروا هناك, ناظرًا إليهم كآلهته, إلا أنه سيدرك حقيقة قيامة المسيح والغلبة على الموت ويشهد أن المسيح وحده هو الله والرب حقيقةً.
- لأن الرب تلامس مع كل جزء من الخليقة وحررها وأعتقها من كل خداعات الزيف والوهم كما يقول القديس بولس إذ جرد بنفسه الرياسات والقوات, ظافرًا بهم على الصليب. حتى لا ينخدع أحد بعده بل يجد في كل مكان كلمة الله الحقيقي[64].
القديس البابا أثناسيوس الرسول
- “جرد الرياسات والقوات بنفسه“، معناه أنه جرد قوات الشيطان، لأن الطبيعة البشرية كانت قد خضعت لها, أو إن صح التعبير كان مفروضًا عليها دَين (صك)، فعندما صار إنسانًا لم يكن مدينًا بهذا الصك – لكن ما معنى “شَّهر بهم”؟
معناه أنه حقا قد شُهر بالشيطان الذي جعل من نفسه هزءًا وخزيًا. لأنه إذ توقع أن يظفر بالرب, خسر حتى ما كان لديه, وحينما سُمِّر الجسد (المقدس) على الصليب, قام الموتى.
هكذا تلقى الموت نفسه ضربة قاصمة من جسد ميت. وكبطلٍ مقدام, وحينما عرف أنه طرح عدوه أرضًا, وأمسك به بقبضة مميتة, (مات الموت) هكذا كان موت المسيح إنما هو خزي للشيطان.
لم يختبر الملائكة شيئا من هذا القبيل, فقد قام هو بكل شيء لأجل هذا القصد, مظهرًا أن لموته إنجاز عظيم وقدير – وكان إن صح التعبير – ثمة صراع واحد (اقتتلي):
فقد جرحَ الموتُ المسيحَ – لكن المسيح المجروح أمات الموت[65].
القديس يوحنا ذهبي الفم
- إن كان أحد يخجل من صليب المسيح فقد خجل من التدبير الذي به ظفر (المسيح) بالقوات (الشريرة) [66].
أوريجينوس
7. لا عودة للظلال
“فلا يحكم عليكم أحد في أكل أو شرب،
أو من جهة عيد أو هلال أو سبت” [16].
الطقوس اليهودية من أكل وشرب وأعياد معينة وهلال وسبت؛ هذه جميعها رموز تشير إلى عمل السيد المسيح الخلاصي. وإذ أكمل السيد هذه الرموز، انتهت مهمتها. جاء النور فزالت الظلال، كمثال إذ جاء المسيح فصحنا الذي ذبح لأجلنا، صرنا لا نعيد بخميرة الشر والخبث بل بفطير الإخلاص والحق (1 كو 5: 7-8).
ليس من عودة إلى الظلال اليهودية الحرفية، مادمنا نتمم ما ورد في الناموس بالروح، إذ صار المسيح هو جوهر خلاصنا وكفايتنا، هو محررنا من عبودية الحرف. “اثبتوا إذا في الحرية التي قد حررنا المسيح بها، ولا ترتبكوا أيضا بنير عبودية” (غل 5: 1).
من جهة الأطعمة فقد حرمت الشريعة بعض الأطعمة بكونها نجسة، ليس في مادتها، وإنما في رموزها. وقد سبق لنا الحديث عنها في شيء من التفصيل في تفسير سفر العدد. هذا ومن جانب آخر فإن بعض الطرق الغنوسية حرمت أطعمة ما بكونها دنسة. أما امتناعنا عن بعض الأطعمة في الصوم فبعيد كل البعد عن هذه المفاهيم إذ كل الأطعمة طاهرة، لكن امتناعنا هو لضبط شهوة النهم، ولكي نعلن شوقنا لتقديس أجسادنا كي لا تهتم بالأطعمة الدسمة، بل تشارك النفس انطلاقها نحو السماويات.
- ماذا إذن؟ هل نقيِّم أعيادنا بالأكل والشرب؟ لا يحكمَّن عليكم أحد في مأكل عالمين “أن الناموس روحي” (رو 14:7).[67]
القديس أمبروسيوس
- لم يقل: “لا تحفظوها حرفيًا” بل “لا يحكمن عليكم أحد” مبينا أنهم كانوا في تعدٍ وشرور, لكنه (بالرغم من ذلك) يوجه الاتهام ضد آخرين.
لم يقل “طاهرين ودنسين” ولا في أعياد مظال, وخبز غير مختمر وبنطيقسط (يوم الخمسين) بل “في جزء من عيد” لأنهم أرادوا ألا يحفظوا العيد أو الأعياد كلها وإن كانوا يحفظونها فلا لكي يعيِّدوها فيقول “جزءًا من العيد“، مظهرًا أنهم قد تخلوا عن الجزء الأعظم من (الأعياد المقدسة) لأنهم حتى إن حفظوا السبوت فإنهم لا يحفظونها من قبيل الدقة[68].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- أوصى الرسول ألا يحكمن علينا أحد في مأكل أو مشرب أو في عيد أو أهلة أو سبوت فلماذا إذن تلك المنازعات؟ ولماذا الانشقاق؟ نحن نحفظ العيد, لكن في ضمير الخبث والشر ممزقين أوصال كنيسة الله. ونحفظ ما هو خارجها (من مظاهر) طارحين عنا الأمور الأفضل, كالإيمان والحب. وسمعنا من الكلمات النبوية أن تلك الأعياد لا ترضي الرب[69].
القديس ايريناوس
- هو النور الذي جاء وبدَّد الظلام (الظلال)، لأن السبت الذي حفظه الرب الإله هو الذي حفظه المسيح نفسه, الذي كان مع الآب وحينما أُعطى الناس أعطاه هو, لكن في ظل الأمور العتيدة. “فلا يحكمن عليكم أحد من جهة مأكل أو مشرب أو عيد أو هلال أو سبت التي هي ظلال الأمور العتيدة“. لقد جاء الآن ذاك الذي أعلنت عنه تلك الأمور فلماذا نجعل الظلال تفرحنا؟[70]
القديس أغسطينوس
“التي هي ظل الأمور العتيدة،
وأما الجسد فللمسيح” [17].
الظل مجرد انعكاس للشيء الحقيقي ذاته. فهو يشمل الحقيقة وذو قيمة نبوية (عب 5:8؛ 9:9؛1:10) لكن حينما يتحقق كمال الحق فلا ضرورة للظلال.
- خلاصة الأمر كله, إن أراد البعض أن نقترب إلى الملائكة لا إلى المسيح, وهذا أمر صعب علينا (تصديقه)، لهذا يلفت الرسول أنظارهم إلى ما فعله المسيح “بدم صليبه” (20:1)، وعلى هذا الأساس يقول إنه “تألم لأجلنا”، وأنه “أحبنا” (1 بط 21:2)[71].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- الظل يظهر الحقيقة مقدّمًا، لكنّه لا يملك خدمة الروح. فإن موسى لا يستطيع بالجسد أن يدخل إلى القلب، وينتزع ثياب الظلمة الدنسة، ولا يستطيع أن يلاشي ويحل قوّة الظلمة الخبيثة إلا روح من روحٍ، ونار من نار[72]ٍ.
القديس مقاريوس الكبير
- جاء نور العالم وأزال الظلال. فإن (وصيّته) السبت أُمرت بواسطة المسيح نفسه الذي كان مع الآب حين أُعطيت الشريعة. لقد أمر بها، ولكنها كانت ظلاً لما يأتي بعد ذلك… لقد جاء الآن الذي بمجيئه أُعلنت هذه الأمور. لماذا نبتهج بالظلال؟ افتحوا أعينكم أيها اليهود، فإن الشمس قائمة[73].
القديس أغسطينوس
8. عبادة الملائكة
“لا يخسركم أحد الجعالة،
راغبًا في التواضع وعبادة الملائكة،
متداخلاً في ما لم ينظره،
منتفخًا باطلاً من قبل ذهنه الجسدي” [18].
تسللت بعض المبادئ الغنوسية إلى اليهود، فجاء في التلمود البابلي تعليقًا على قول الرب: “ها أنا مرسل ملاكا أمام وجهك… احترز منه… لأن اسمي فيه” (خر 23: 20-21), بأن الملاك هو يهوه الأصغر[74]. لذلك تبنى معتنقو الغنوسية اليهودية مبدأ عبادة الملائكة، مدعين أنهم أدركوا هذا خلال فلسفتهم التصوفية، وفي كبرياء كانوا يفتخرون بأنهم يعرفون الملائكة.
- لأنكم إن تمسكتم بالرأس لاهتممتم ألا تهملوا ذاك الذي مات المسيح لأجله. إن تمسكتم بالرأس ما تخليتم عن بقية الأعضاء, بضمهم معًا بدلاً من تفريقهم… وذلك برباط المحبة وخلاص خاطئ (من ضلالة)[75].
القديس أمبروسيوس
- ينادي البعض بأنه ينبغي أن نقترب إلى الله بواسطة الملائكة لا المسيح، وبذلك يهدمون ما صنعه المسيح لأجلنا بدم صليبه وآلامه من أجلنا.
القديس يوحنا الذهبي الفم
يلزم ألا يختلط على المسيحي بين هذه الهرطقة التي تقوم على شفاعة الملائكة لدى الله للمصالحة بينه وبين البشر دون دم المسيح، وبين حب الملائكة كخدام للمسيح يخدمون من مات عنهم، ويقدمون صلواتهم ويتوسلون عنهم، دون أن نخلط بين هذا العمل وعمل المسيح الخلاصي الفريد.
ليس للملائكة شفاعة كفارية بل توسلية، كما جاء في سفر الرؤيا: “وجاء ملاك آخر، ووقف عند المذبح، ومعه مبخرة من ذهب، وأعطي بخورًا كثيرًا لكي يقدمه مع صلوات القديسين جميعهم على مذبح الذهب الذي أمام العرش، فصعد دخان البخور مع صلوات القديسين من يد الملاك أمام الله” (رؤ 8: 3-4). ما كان يمكنهم أن يقدموا هذا البخور أو الصلاة عنا إلا في استحقاق دم المسيح، إذ يهتفون بصوت عظيم: “مستحق هو الخروف المذبوح” (رؤ 5: 12).
“وغير متمسكٍ بالرأس،
الذي منه كل الجسد بمفاصل وربط،
متوازرًا ومقترنا ينمو نموًا من الله” [19].
مع ادعائهم بالتواضع وهم متكبرون، وعبادتهم للملائكة، فقدوا اتحادهم بالرأس ربنا يسوع، ففقدوا حياتهم إذ صاروا كجسم بلا رأس، وبالتالي فقدوا حتى ارتباطهم ببعضهم البعض، لأنه كيف يمكن للمفاصل أن تربط جسمًا بلا رأس؟ وكيف يمكن له أن يحيا؟ وكيف ينمو بدون الرب الإله رأس الجميع؟
عبارة “غير متمسك بالرأس” تساوي “ليس بحسب المسيح” في آية8 , فلا سبيل إلى استبعاد المسيح عن مركز حياتنا. وكلمة “جسد” هنا تشير إلى الكنيسة بوجه عام.
- الرب في هيكل قدسه. الذي يتآلف من أعضاء كثيرين, كل منهم يفي بوظائفه وواجباته المحدودة. بالحب نبني بنيانًا واحدًا[76].
القديس أغسطينوس
9. عظمة الموت مع المسيح
“إذًا إن كنتم قد متم مع المسيح عن أركان العالم،
فلماذا كأنكم عائشون في العالم،
تُفرض عليكم فرائض” [20].
إذ يتحول القديس بولس عن التحذيرات السلبية [18,16,8] يقدم بعض النواحي الإيجابية لعلاقتنا بالمسيح. فالشركة في آلام المسيح وموته هي اتّحاد مع عمله المصالحة الذي تحقّق بالصليب، والشركة في قيامته هي اتّحاد مع كل أمجاد شخصه.
إن تعاليم الناس قد رُفضت, وزال ثِقل ناموس العهد القديم [14] فهل نحن أحرار أن نطيع أو نرفض كما يحلو لنا؟ كلا! فعوضًا عن أن نتقيد بكمٍ هائل من النواميس, صرنا أحرارًا لكي نحفظ وصايا المسيح (يو 10:15).
“لا تمس ولا تذق ولا تجس” [21].
- حقًا كثيرًا ما يخدعنا النظر، فنرى أشياء غير واقعها في معظم الأحيان, وننخدع بالسمع أيضًا, فإن كنا نريد أن لا ننخدع, فلنتأمل, لا إلى المنظور, بل إلى غير المنظور.
لكن متى لا تنخدع نفوسنا؟ أين تقتنى عرش الحق, إلا حين تنفصل عن الجسد، فلا تنخدع وتضل به؟ لأنها، أي النفس, تُضلل بالنظر وتنخدع وتضل بسماع الأذنين… لهذا ينادي الرسول قائلاً: “لا تلمسوا, لا تذوقوا, لا تأخذوا, الأشياء التي كلها للزوال” (كو 22,21:2) لأن اهتمامات الجسد هي أيضا لفساده. لهذا يرينا أنه يجد الحق، لا من خلال اهتمامات الجسد، بل عن طريق الارتفاع بالنفس والسمو بها وتواضع القلب, ويكمل قائلاً: “أما سيرتنا نحن فهي في السماء” (في 20:3)[77]
القديس أمبروسيوس
- يقول, لستم في العالم, فكيف بكم تخضعون لعناصره, أو لمعاييره؟ تأملوا كيف يهزأ بها: “لا تلمسوا, لا تمسكوا, لا تذوقوا” وكأني بهم جبناء لا ينشغلون بالقضايا الجسام بل بأمور (تافهة) [بتلك الأشياء التي تؤول كلها بالاستعمال إلى الزوال] هكذا حط من كبرياء البعض, وأضاف “بجسد أفكار تقليد الناس”[78]
القديس يوحنا الذهبي الفم
“التي هي جميعها للفناء في الاستعمال،
حسب وصايا وتعاليم الناس” [22].
وُضِع الناموس ليُحفَظ, لكن “استعمال” الناموس هو الذي يُهلك! فإنه لا يجدر بحياتنا الروحية أن تعتمد على الأوامر والنواهي، بل عن الحب الذي نكنه للرب يسوع. فعندما يصبح قمع النفس والتداريب والتغصب, غايات في حد ذاتها، نكون قد تجاوزنا عمق القيمة التي فيها وصرنا ننفذ أفكار الهراطقة.
“التي لها حكاية حكمة،
بعبادة نافلة وتواضع وقهر الجسد،
ليس بقيمة ما من جهة إشباع البشرية” [23].
للتداريب الخاصة بضبط النفس وقمع الجسد لها بركاتها وأهميّتها إن قدمت في المسيح يسوع، لأجل البنيان الداخلي، وخلال الاتكاء على صدر الرب والتمتع بعطية الروح وعمل النعمة الإلهيّة. أما إن تحوّلت إلى “حكاية” (أخذ المظهر الخارجي) للحكمة، مع إذلال الجسد وقهره بالعنف فلا قيمة لها، إذ لا تهب شبعًا داخليًّا.
- لا تستحق البتوليّة المديح في ذاتها إن لم تنبع عن حب الله. يقول الطوباوي بولس عن الذين ينفرون من الزواج: “في الأزمنة الأخيرة يرتد قوم من الإيمان، تابعين أرواحًا مضلّة وتعاليم شيطانيّة… مانعين عن الزواج” (1 تي 4: 1-3). وأيضًا يقول: “لا تدعوا أحدًا يجرّدكم باستخدام الالتزام بالإماتة جبرًا وقهر الجسد[79].
القديس إكليمنضس السكندري
يرى العلامة أوريجينوس أن البعض في جهالة يمارسون ما سبق أن فعله سمعان بطرس حين رفض أن تمتد يدا السيد المسيح لغسل قدميه (يو13: 6-8). فكاد أن يفقد نصيبه مع المخلص بسبب اهتمامه بأن ينال غسل قلبه الداخلي. ف نيّة صادقة وفي رغبة صادقة نحو تكريم سيده كاد أن يفق نصيبه مؤديًا نفسه. هكذا ينشغل البعض بالقمع الزائد دون انشغال القلب بالالتصاق بالمخلص نوال نصيب معه[80].
- وإن كانوا يظهرون كحكماء بقمعهم الجسد بعنف واهتمامهم، فلنحد عنهم. فقد يبدو الشخص متديّنًا ومتواضعًا، ويستخف بالجسد… كتب الرسول أنهم يهينون الجسد، ويحرمونه من الحريّة ويجرّدونه منها، ولا يسمحون لهم أن يضبطونه بإرادتهم. أما اللَّه فيكرم الجسد[81].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- واضح أن هذا عبوديّة وإفساد للكرامة الموهوبة لنا. يجب أن يكون النسك اختياريّا، ليس لأن الأشياء المخلوقة بغيضة إنما بكل دقة لأنها فيها لذات[82].
الأب ثيؤدورت أسقف قورش
- لكي تكون بتولاً لا يكفي أن تكون غير متزوّج. يجب أن تكون بتوليّة روحيّة، أعني العفّة ليست غيابًا للشهوة الشرّيرة المعيبة، وليست غيابًا للزينة والاهتمامات الكماليّة، وإنما أيضًا غير ملوّثة بهموم الحياة. بدون هذا أي نفع للطهارة البدنيّة[83]؟
القديس يوحنا الذهبي الفم
من وحى كو 2
لألتصق بك فتحملني إلى الأمجاد
- هب لي أن التصق بك،
فأرتفع فوق حدود الجسد،
بحبك أكون كمن هو حاضر مع كل إخوته!
لن يقدر الجسد أن يحصرني عن الالتقاء بهم.
بصدقٍ أقول إنني غائب في الجسد،
لكني بك أنا حاضر بالروح!
- التصق بك، فأنعم بك يا حكمة الله،
لن تقدر كل خداعات الفلاسفة أن تسبي فكري.
ولا أجد عذوبة في حكمة البشر.
ولن تقدر خداعات البشر أن تصطادني بشباكها.
بك يتقدس فكري وعقلي،
بك أطير، وأرتفع من مجدٍ إلى مجدٍ!
- من أجلي صرت إنسانًا،
وأنت بلاهوتك تملأ السماء والأرض.
ألتصق بك فأمتلئ بغنى حبك،
تهبني نعمتك فلا يعوزني شيء!
- التصق بك فارتفع فوق حرف الناموس.
لا أطلب ختان الجسد،
بل أحمل بروحك ختم ختان الروح!
- بك أتمتع بالبنوة لله،
وأُنعم بروحك ختمًا ملوكيًا!
أصير بكليتي ملكاً لك،
وجنديًا صالحًا في جيش الخلاص!
لن يقف أمامي إبليس وكل ملائكته،
لأني مستتر فيك!
أطأ بقدمي قوات الظلمة،
لأن نورك مُشرق في أعماقي!
- أنت وحدك تحملني إلى حضن أبيك.
دمك الثمين يشفع فيّ!
وصليبك هو سلم السماء!
- لأصلب معك،
فالصلب معك حياة،
وبقيامتك أقوم فلا يقوى الموت عليّ،
بصعودك يجد قلبي له موضعًا في السماء!
أنت بحق سرٌّ علو كل مؤمن بك!
أنت سرّ شبع كل من ألتصق بك!
كيف أقدر أن أعيش بدونك؟
[1] Letters, 1:5.
[2] In Colos hom. 5
[3] In Colos, hom, 5
[4] In Colos, home. 5
[5] Sromata, 5: 12
[6] On Ps. 12.
[7] On Ps. 50.
[8] On Ps. 119.
[9] Cassian: Conferences, 14:16.
[10] On the Trinity, 9:67.
[11] Of the Christian Faith, 42:1 (2).
[12] Letters, 41:25.
[13] الإنجيل بحسب متى، 1982، ص 503.
[14] Stromata 1:11.
[15] Sermon on the Mount, 25.
[16] Homilies on Colossians, homily 5.
[17] مقالات لطالبي العماد 14: 30.
[18] Homilies on Colossians, homily, 6.
[19] Sermons on N.T. Lessons, 1:5.
[20] Homilies on Colossians, homily 6.
[21] Sermons on N.T. Lessons, 1:5.
[22] Sermons on Song of Songs, 13.
[23] Homilies on Colossians, homily 6.
[24] Stromata 1 :11..
[25] On the Trinity, 8:53.
[26] On the Trinity, 1:13.
[27] Stromata 1:11.
[28] Stromata, 6:8.
[29] Stromata, 6:8.
[30] Stromata, 6:15.
[31] Concerning Virgins, 3:1 (3).
[32] PG 75:1400.
[33] Letters, 17:9.
[34] Homilies, 1:2. ترجمة مركز دراسات الآباء بالقاهرة
[35] On the Trinity, 9:1-2.
[36] On the Trinity, 2:8.
[37] On the Trinity, 9:8.
[38] On our Lord, 11.
[39] Homilies on Colossians, homily 6.
[40] Comm. on Luke, Sermon 2.
[41] الأب سليم دكاش اليسوعي: الشيخ الروحاني- مجموعة الرسائل الروحية، بيروت 1992، ص83.
[42] Homilies on Colossians, homily 6.
[43] Homilies on Colossians, homily 6.
[44] On the Trinity, 1:9.
[45] Letters, 69:7.
[46] مقالات لطالبي العماد 5: 6.
[47] Isaac or the Soul, 6:53.
[48] Death is Good, 4:15.
[49] Escape from the World, 9:55.
[50] Homilies, 1:7. ترجمة مركز دراسات الآباء بالقاهرة
[51] On the Trinity, 10: 48.
[52] Letters, 41:8.
[53] On Joseph, 4:19
[54] Hymns on Nativity, 4.
[55] Sermons On John, Book 2, 17.
[56] Sermons On John, Book 6, 10.
[57] Hom. On 1 John, 1:5.
[58] Demonstrations 4 on Monks, 6.
[59] Against Heresies, 5:17:2.
[60] On Ps., 89.
[61] Fragments on his Lost Works, 37.
[62] Hom. On John, 12:19.
[63] Homilies on 1 Cor., homily 24:7.
[64] De. Incarn. 45
[65] Homilies on Colossians, homily 6.
[66] Hom. on Matt., 12:18.
[67] On Resurrection, 2:108.
[68] Homilies on Colossians, homily 7.
[69] Fragments on his Lost Works, 38.
[70] Homilies on New Testament Lessons, 86:3.
[71] Homilies on Colossians, homily 7.
[72] Homilies, 32:4. ترجمة مركز دراسات الآباء بالقاهرة
[73] Sermons on N.T. Lessons, 86:3.
[74] F.C. Bruce: The Epistle of Colossians, 1988, p. 119.
[75] On Repentance, 1:6.
[76] On Ps. 11.
[77] Death is Good, 3:10
[78] Homilies on Colossians, homily 7.
[79] Stromata 3:51.1-3.
[80] Commentary on John, 32:57-59.
[81] Homilies on Colas, hom. 7.
[82] Interpretation to Colossians 2:23.
[83] On Virginity, 77:2.