تفسير رسالة غلاطية 6 الأصحاح السادس – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير رسالة يعقوب 6 الأصحاح السادس – القمص تادرس يعقوب ملطي
الأصحاح السادس: الحرية والحب العملي
قانون السيد المسيح هو الحب، يعلنه عمليًا في صليبه (1 كو 9: 21-23). فإننا إذ نشترك في صليبه نُصلب عن ذواتنا كما عن العالم، لنقدم حياتنا مبذولة مملوءة حبًا لله والناس.
- اللطف والتواضع في التعامل مع الضعفاء 1-5.
- المثابرة الروحية 6-10.
- الافتخار بالصليب لا بأعمال الناموس 11-16.
- حمل سمات المسيح المصلوب 17.
- الختام 18.
1. اللطف والتواضع في التعامل مع الضعفاء
“أيها الإخوة،
إن سبق إنسان فأُخذ في زلة ما،
فأصلحوا أنتم الروحانيين مثل هذا” [1].
هنا نلاحظ الآتي:
* إذ يسألهم أن يكونوا ودعاء جدًا مع الضعفاء يدعوهم “إخوة“.
* لا يقول: “إنسان يرتكب زلة” بل “أُخذ في زلة“، بمعنى أنه إذا ما أُخذ بعيدًا نخسره نحن مع أننا في حاجة إليه كعضو في نفس الجسد.
* يقول: “أنتم الأقوياء (الروحانيين)“؛ فإننا لكي نعين الآخرين يجب علينا أن نهتم أن نكون أقوياء في المسيح لئلا نسقط نحن أنفسنا مع الضعفاء.
- الإنسان الضعيف لن يسند ضعيفًا، ومن يعاني من أمر ما لا يقدر أن يحتمل أو يشفي من كان في هزالٍ؛ أما من كان غير خاضعٍ للضعف، فيستطيع أن يقدم علاجًا للضعيف؛ لهذا قيل بحق: “أيها الطبيب اشفِ نفسك” (لو 4: 23)[1].
الأب يوسف
- بدء الحكمة الرقة واللطف اللذان ينبعان عن عظمة النفس واحتمال ضعفات البشر. لذلك يقول: “يجب علينا نحن الأقوياء أن نحتمل أضعاف الضعفاء” (رو 1:15)[2].
مار اسحق السرياني
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لم يقل (الرسول): “بالوداعة” بل “بروح الوداعة” [1]، مشيرًا بذلك أن هذا مقبول لدى الروح (القدس)، فالقدرة على إصلاح الغير بروح الوداعة هو عطية روحية[3].]
يقدم الرسول تعليلاً لاستخدام الوداعة مع الغير، بقوله “ناظرًا إلى نفسك لئلا تُجرب أنت أيضًا” [1].
- “احملوا بعضكم أثقال بعض“ [2]… من الاستحالة ألا يكون للإنسان سقطات، لذا يحثهم ألا يفحصوا أخطاء الغير بعنفٍ، بل بالحري يحتملون سقطاتهم حتى يحتملنا الآخرون. وذلك كما في بناء بيت ما، لا تكون كل الحجارة في وضع واحد، إنما يصلح حجرًا أن يكون في زاوية وليس في الأساس، وآخر يصلح للأساسات وليس للزاوية؛ هكذا بالنسبة لجسد الكنيسة[4].
القديس يوحنا الذهبي الفم
التواضع في تعاملنا مع الغير: “لأنه إن ظن أحد أنه شيء وهو ليس شيئًا فإنه يغش نفسه” [3].
- هنا أيضًا يتحدث عن الافتخار؛ فمن يظن في نفسه أنه شيء فهو لاشيء، مظهرًا بهذا تفاهته.
“ولكن ليمتحن كل واحدٍ عمله“ [4]. هنا يظهر (الرسول) أنه يجب أن نكون فاحصين لحياتنا الخاصة بدقةٍ لا باستخفاف، لكي نزن تصرفاتنا. على سبيل المثال، إذا صنعت عملاً صالحًا ضع في اعتبارك ألا يكون قد قمت به من أجل المجد الباطل أو لأجل منفعةٍ خاصةٍ أو بضميرٍ سيءٍ أو برياءٍ، أو لدافع بشري آخر…
“وحينئد يكون له الفخر من جهة نفسه فقط لا من جهة غيره“ [4]. الافتخار جمود (للنفس)، فإن أردت أن تفتخر لا تفتخر ضد قريبك كما فعل الفريسي…
يعالج (الرسول) الإنسان المتكبر حتى لا يعود ينشغل بأفكار عالية من جهة نفسه، وذلك بتذكره أخطائه الشخصية، ضاغطًا على ضميره بأنه يحمل خطايا بكونها حملاً ثقيلاً [5][5].
القديس يوحنا الذهبي الفم
2. المثابرة الروحية
يضع بذار الروح: “فإن الذي يزرعه الإنسان إياه يحصد أيضًا“ [7]. إن كنا نزرع للروح نحصد ثمرًا روحيًا؛ وإن كنا نزرع للجسد (شهواتنا الخاطئة) نحصد ضعفًا [7-8]. يليق بنا أن نزرع بذار حياتنا في تربة الروح لا تربة الجسد.
العمل المسيحي ليس شراءً وبيعًا بل زراعة وحصادًا، إذ يليق بنا أن نزرع الكلمة الحية.
لا يكون الحصاد حسب ما لدينا من معرفة، بل حسب ما نزرع. قد يكون لدينا قدر كبير من البذار في الذهن، لكن ما لم نزرعها في تربة ملائمة لن تأتي بثمر. ازرع بذار الأفكار في الكلام والعمل، فستعطي كلمة اللَّه ثمارًا من ذات نوعها.
- “من يزرع لجسده، فمن الجسد يحصد فسادًا، ومن يزرع للروح، فمن الروح يحصد حياة أبدية” [8]… من يزرع في الجسد عهارة وسكرًا وشهوة بلا ضابط، يحصد ثمار هذه الأمور. ما هي ثمارها؟ عقوبة وجزاء وخزي وهزء وتحطيم… أما ثمار الروح فهي مضادة لذلك تمامًا.
تأمل، هل بذرت صدقات؟ كنوز السماء ومجد أبدي تنتظرك! هل بذرت الاعتدال؟ تنتظرك الكرامة والمكافأة وتهليل الملائكة وإكليل من قبل الديان[6].
- يجعل (الرسول) حديثه عامًا، فاتحًا باب الغيرة المملوءة حبًا نحو الجميع، مرتفعًا بها إلى علوٍ هكذا، موصيًا إيانا أن نظهر رحمة لليهود واليونانيين، بدرجات لائقة بحقٍ، لكنه يلزمنا إظهار الرحمة (لجميع البشرية). أي حنو هو هذا؟…
إنه يحررهم من ضيق الأفق الذي لليهود[7].
القديس يوحنا الذهبي الفم
3. الافتخار بالصليب لا بأعمال الناموس
يكتب القديس بولس الرسالة كلها بيده [11] دليل إخلاصه العظيم من نحوهم. ففي رسائله الأخرى كان يُملي وآخر يكتب (رو 16: 22). وإن كان الاتجاه العام لدى المفسرين المحدثين أن ما كتبه الرسول بيده هو الختام ابتداء من هذه النقطة.
لقد لفت الأنظار إلى الأحرف الكبيرة (اليد الكبرى) التي كتبها ربما بسبب مرض عينيه. في النصوص اليونانية لا توجد إشارة إلى يد (حروف) كبيرة أو صغيرة؛ لكنه توجد عبارة وردت في حياة قديس قبطي لها أهميتها؛ فقد جاء عن القديس سيمفرونسSymphronius أنه كطفلٍ صغيرٍ تعلم أولاً (اليد الصغرى) وبعد ستة أشهر تعلم (اليد الكبرى)؛ هذا يفترض أنه في القبطية -وهي مشابهة لليونانية – اليد الكبرى أصعب من الصغرى[8].
ما كان يشغل المعلمون الكذبة أن يكون للمؤمنين “منظر حسن في الجسد“ بإلزامهم أن يختتنوا [12]، عِوض افتخارهم بالصليب [14]. لم يفعلوا ذلك تكريمًا للَّه، إنما من أجل الافتخار. هذا العمل لا يقوم على أساس تقوي، إنما من أجل طموحٍ بشريٍ؛ ذلك لكي يبهجوا غير المؤمنين بقطع (ختان) المؤمنين، مفضلين مقاومة اللَّه من أجل إرضاء الناس.
يتجاهل المعلمون الكذبة عظمة الصليب في حين يقول الرسول: “وأما من جهتي، فحاشا لي أن افتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح، الذي به قد صُلب العالم لي، وأنا للعالم” [14].
- ما هو افتخار الصليب؟ أن المسيح من أجلي أخذ شكل عبد، (إذ صرت) عدوًا بلا إحساس، نعم أحبني وأُسلم للعنة من أجلي. أي شيء أعظم من هذا؟…
ليتنا إذن لا نخجل من لطفه غير المنطوق به؛ إنه لم يخجل من أن يُصلب لأجلك، فهل تخجل أنت من الاعتراف بعنايته غير المحدودة. كأن إنسانًا مسجونًا لم يكن يخجل من ملكه، وإذ جاء الملك إلى السجن بنفسه وحل قيوده صار يخجل من هذا التصرف. أليس هذا هو قمة الجنون؟ لأن هذا الفعل كان يجب بالحري أن يكون علة الافتخار[9].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- ما يدعوه هنا بالعالم لا يعني السماء ولا الأرض، وإنما يعني شئون الحياة ومديح الناس والأعوان والمجد والغنى وكل هذه الأمور التي تبدو للإنسان سامية. أما بالنسبة لي فكل هذه الأمور ميتة… وأنا ميت عنها، لا تأسرني ولا تغلبني، لأنها ماتت مرة بالنسبة لي وإلى النهاية. إنني لا أشتهيها، لأني أنا ميت عنها. ليس شيء يمكن أن يكون مطوبًا أكثر من هذا الموت (عن هذه الأمور)، فإن هذا هو أساس الحياة المطوّبة[10].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- ذاك الذي هو قادر أن يجعل نفسه معروفًا بمعجزات كثيرة وعظيمة، يقول: “حاشا لي أن افتخر إلا بصليب المسيح“. كما يقول لأهل كورنثوس أن كلمة الصليب هي “قوة اللَّه للذين يخلصون” (راجع 1 كو 1: 18)[11].
القديس غريغوريوس أسقف نيصص
- إن كان أحد يخجل من صليب المسيح، إنما يخجل من التدبير الذي به تُغلب هذه القوات (كو 2: 15)[12].
العلامة أوريجينوس
- إنه لمدهش حقًا أن المولود أعمى ينال البصر في سلوام، لكن كيف يقاوم هذا أمام عمى العالم كله؟… لقد قاد مجد الصليب أولئك الذين كانوا عميانًا خلال الجهل إلى النور، وحلّ رباطات الذين أُمسكوا في الخطية, وافتدى عالم البشرية كله[13].
القديس كيرلس الأورشليمي
- ليتنا ننصت إلى التصريح الذي يعلنه حزقيال المدعو “ابن آدم” (2: 1) وذلك بخصوص فضيلة ذاك الذي بحق هو ابن الإنسان، أي الإنسان المسيحي؛ إذ يقول: “وآخذكم من بين الأمم… وأرش عليكم ماءً طاهرًا فتطهرون من كل نجاستكم… وأعطيكم قلبًا جديدًا وأجعل روحًا جديدًا في داخلكم” (36: 24-26)… لذلك فإن النشيد الذي ننشده هو تسبحة جديدة (رؤ 14: 3)؛ ننزع الإنسان القديم (أف 4: 22)، ولا نسلك بعتق الحرف لكن في جدة الروح (رو7: 6). هذا هو الحجر الجديد الذي كُتب عليه اسم جديد “لا يعرفه أحد غير الذي يأخذه” (رؤ 2: 17)[14].
القديس جيروم
4. حمل سمات المسيح المصلوب
يسألهم الرسول ألا يضايقه أحد، لأنه يحمل سمات ربنا يسوع المسيح [17].
حمل القديس بولس في جسده علامات عبودية ربنا يسوع. يقول إنه يحملها ولم يقل إنه يمتلكها، إذ يشبه إنسانًا يعتز برايات النصر الملوكية. هذه السمات هي:
- الملكية: ” إنني أنتمي إليه”؛ فإن الكلمة اليونانية Stigma تعني وسمًا أو علامة خاصة بالعبيد أو الجند وذلك بحرق في الوجه أو في الجسد أو على الذراع. ربما يُشير هنا إلى علامات آلامه الرسولية (2 كو 6: 4- 10؛ 11: 23-29).
- التكريس: إذ يعمل لصالح الغير.
- ربما عني بالسمات علامات سوء معاملة الغلاطيين له.
تعلن هذه السمات عن إخلاص الرسول. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم على لسان الرسول: [إنني أدافع عن نفسي بهذه الجراحات التي هي أقوى من أية براهين، وأسمى من أية لغة، إذ تنطق كما بصوت أعلى من صوت بوق تجاه المقاومين، وضد القائلين إني مرائي في تعليمي وإنني أتكلم بما يرضي الناس. فإنه لا يرى إنسان ما جنديًا راجعًا من المعركة وقد غاص في الدم وبه آلاف الجراحات، ثم يجرؤ فيتهمه بالجبن والخداع، متطلعًا إلى أن الجندي يحمل في جسده علامات بسالته، هكذا أنتم أيضًا إذ تحكمون عليّ (مع أني أحمل هذه العلامات)[15].]
5. الختام
للمرة الأخيرة يكرر نقده للمتهودين الذين ما زالوا يضغطون على أهل غلاطية لكي يختتنوا، مع أنهم هم أنفسهم فشلوا في إطاعة التوراة ككل. أما فخر القديس بولس أو مجده فهو في الفداء المتحقق بآلام ربنا يسوع وموته. لقد رذل طريق الحياة التي تُقاس بمعايير حفظ الناموس من الجانب الخارجي الحرفي إذ تجددت خلقته.
سطوره الأخيرة هي أشبه بعبارات رائعة خاصة بالتحية. فقد ظهرت على جسده آثار تعبه وآلامه الجسمانية الخاصة بخدمته (2 كو 11: 23-25)، متوسلاً إلى أهل غلاطية ألا يضيفوا إليه أتعابًا جديدة[16].
- “نعمة ربنا يسوع المسيح مع روحكم أيها الإخوة. آمين“ [18].
بهذه الكلمة الأخيرة يختم كل ما سبق، فإنه لا يقول “معكم” بل “مع روحكم“، مجتذبًا إياهم من الجسديات، مستعرضًا إحسانات اللَّه، ومذكرًا إياهم بما يتمتعون به من نعمة؛ وبهذا يستطيع أن يجنبهم كل أخطاء المتهودين[17].
القديس يوحنا الذهبي الفم
[1] Cassian, Conferences, 16:23.
[2] Hom. 51.
[3] In Galat., Chapter 6.
[4] In Galat., Chapter 6.
[5] In Galat., Chapter 6.
[6] In Galat., Chapter 6.
[7] In Galat., Chapter 6.
[8] A New Catholic Comm. p. 118. W. Till, Koptish Heiligen-une. Martyrerlegenden, Orientalia Christiana Analecta, 102, Roma, 1935, vol. 1, p. 57.
[9] In Galat., Chapter 6.
[10] In Galat., Chapter 6.
[11] Against Eunomius 5:3.
[12] Comm on Matt., book 12:18.
[13] Catech. Lect. 13:1.
[14] Ep. 69:7.
[15] In Galat., Chapter 6.
[16] Collegeville Bible Comm., p. 1079.
[17] In Galat., Chapter 6.