تفسير رسالة يعقوب 5 الأصحاح الخامس – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير رسالة يعقوب 5 الأصحاح الخامس – القمص تادرس يعقوب ملطي
الأصحاح الخامس
الإيمان والانشغال بالغنى
بعد ما تحدث عن الشهوات الأرضيّة عاد ليحدثنا عن خطورة الانشغال بالغنى:
١. الانشغال بالغنى ١ – ٦.
٢. موقف المؤمنون من الأغنياء الظالمين ٧ – ١١.
٣. عدم القسم ١٢.
٤. موقف المؤمن في كل الظروف:
أولا: في حالة الحزن ١٣.
ثانيًا: في حالة السرور ١٣.
ثالثًا: في حالة المرض ١٤ – ١٨.
رابعًا: في حالة انحراف أخ ٩ – 20.
1. الانشغال بالغنى
أ. الغنى غير باقٍ
“هلم أيها الأغنياء ابكوا مولولين على شقاوتكم القادمة.
غناكم قد تهرأ، وثيابكم قد أكلها العُثُّ.
ذهبكم وفضتكم قد صدئا.
وصدأهما يكون شهادة عليكم،
ويأكل لحومكم كنار،
قد كنزتم في الأيام الأخيرة” ]1– ٣[.
يطلب الرسول من الأغنياء المتكلين على أموالهم أن يبكوا ويولولوا:
ا. لأن شقاوتهم قادمة. وهنا كلمة “قادمة” لا تعني المستقبل البعيد، إنما تعني أنها على الأبواب. ولهذا السبب يسمي القديس يوحنا الذهبي الفم المال “الشارد”[1]، إذ يؤدي إلى أتعاب كثيرة، وعند الضرورة يهرب ولا يقف بجوار صاحبه.
ب. لأن شقاوتهم تَنْبُع من نفس المصدر الذي يترجون منه السعادة، فغناهم قد تهرأ، وهنا لم يقل “سيتهرأ” وذلك للتأكيد.
“وثيابكم أكلها العُثُّ”، والثياب علامة الغنى، كما هو علامة السلطان والسطوة (إش ٣: ٦)، فعندما أحب يعقوب يوسف أعطاه ثوبًا ملونًا، الأمر الذي أثار حسد إخوته عليه.
“ذهبكم وفضتكم قد صدئا“. إنه لم يذكر معدنًا رخيصًا كالبرونز (سى 12: 10،) وذلك بسبب غناهم. فإنه حتى المعادن الثمينة مع الزمن تفقد لمعانها وجمالها. وهنا يُذكِّرنا الرسول بِمَثَل العبد الكسلان الذي “حفر في الأرض وأخفى فضة سيده” (مت ٢٥: 18).
ج. هذا يكون شهادة عليهم ويأكل لحومهم كنار، إذ تحترق أجسادهم وتهلك نفوسهم كما بنار. لأن مُحِبّ المال لا يستريح هنا ولو اقتنى العالم كله، ولا يستريح في الأبديّة إذ لا يطيق أن يعاين الله.
د. “قد كنزتم في الأيام الأخيرة“. بينما كان يَلْزم الاستعداد للرحيل، قد بدأوا يكنزون ويزينون المسكن ويبنون بيوتًا، مع أنهم في لحظات يرحلون.
ب. ينزع العدل والرحمة
“هوذا أجرة الفعلة الذين حصدوا حقولكم المبخوسة منكم تصرخ،
وصياح الحصَّادين قد دخل إلى أذني رب الجنود” ]٤[.
حب الاقتناء يُفقد الإنسان رحمته بأخيه، بل يدفعه إلى ظلم الأجير. وهو إحدى الفئات الأربع التي تهتز السماوات لصراخهم ويسمع لهم الرب وهم:
- المقتول عمدًا (تك ٤: ١٠).
- صراخ المسكين (خر ٢: 24).
- صراخ التائبين (تك ١٨: 26).
- صراخ الأجراء المظلومين.
إنها تصرخ كدم هابيل طالبةً الانتقام كقول الكتاب[2] “لا تَبِتْ أجرة أجير عندك إلى غد”، “من يمسك أجرة الأجير يُسْفَك دمه”.
نلاحظ أن الرسول يلقب الله “رب الجنود” أي رب الصباؤوت أو رب القوات السمائيّة، بمعنى أنه قادر على الدفاع عن المظلومين.
ج. يدفع إلى حياة الترف والتنعم
“قد ترفهتم على الأرض وتنعمتم
وربيتم قلوبكم كما في يوم الذبح” ]٥[.
خلق الله العالَم لنستخدمه، لا لكي نلهو فيه وبه عن الخالق، إذ يوبخنا قائلاً: “لما رَعَوْا شبعوا، شبعوا وارتفعت قلوبهم لذلك نسوني” (هو ١٣: ٦)، “أليست الحياة أفضل من الطعام، والجسد أفضل من اللباس؟“ (مت ٦: ٢٥).
إن حياة الانغماس في الترف تحرم الإنسان من ضبط نفسه “أما المتنعمة فقد ماتت وهي حيّة” (١ تي ٥: ٦). بالتنعم يتربى القلب لكي يُذْبَح في يوم الدينونة، لهذا يُحذِّرنا الرب “فاحترزوا لأنفسكم لئلا تَثْقُل قلوبكم في خُمَارٍ وسُكْرٍ وهموم الحياة فيصادفكم ذلك اليوم بغتة“ (لو ٢١: ٣٤).
د. يقاوم البر والأبرار
“وحكمتم على البار، قتلتموه، لا يقاومكم” ]٦[.
قصد بالبار ربنا يسوع كما سبق أن قال إستفانوس الشماس في توبيخه لجماعة اليهود “البار الذي أنتم صرتم مُسَلِّميه وصالبيه“ (أع ٧: ٥٢). وربما قصد بالبار جماعة المؤمنين الذين قتلهم اليهود وخاصة الأغنياء منهم ورؤساؤهم دون أن يقاوموهم، وذلك مثل إستفانوس ويعقوب بن زبدي. وربما أيضًا كان يتحدث بروح النبوة عن نفسه، إذ قتلوه دون أن يقاومهم مع أنهم كانوا يدعونه بالبار.
2. موقف المؤمنون من الأغنياء الظالمين
“فتأنّوا أيها الإخوة إلى مجيء الرب“
مجيء الرب يبعث في المؤمنين (الإخوة) طول الأناة، إذ يُحوِّل الآلام إلى لذة ومتعة، وتصير موضوع فرح، لأنها تُزَكِّيهم في ذلك اليوم.
يقول الشهيد أغناطيوس الثيؤفورس (حامل الإله): [ليت النار والصليب… ليت جماعات الحيوانات المفترسة… ليت التمزيق والكسر… خلع العظام وبتر الأعضاء… تقطيع الجسد إربًا إربًا… وليت كل عذابات الشيطان تَنْصَبُّ عليّ، لكنني فقط أصلي إلى يسوع المسيح[3].]
هكذا إذ يتطلع المؤمن إلى يوم الرب يشتهيه، عاملاً ومثابرًا بنعمة الرب كالفلاح الذي يترجى يوم الحصاد.
“هوذا الفلاح ينتظر ثمر الأرض الثمين،
متأنيًا عليه حتى ينال المطر المبكر والمتأخر.
فتأنوا أنتم، وثبتوا قلوبكم، لأن مجيء الرب قد اقترب” ]7– ٨[.
يحتمل الفلاح الآلام والأتعاب من أجل الحصاد لينال المطر المبكر والمتأخر الذي يُعِيُنه على الإثمار. هكذا إذ ننتظر مجيء الرب حصادنا، يلزمنا أن نحتمل كل شيء، لننال بركات الرب ونعمه علينا التي قدمها ويقدمها لنا في العهد القديم وفي العهد الجديد.
كلما اقترب موعد الزفاف يتعلق قلب العروس بعريسها، مُهيِّئةً نفسها ليوم العرس، مُتزينة بكل هداياه لها. هكذا نتزين نحن بكل هبات الرب – المبكرة والمتأخرة – لنقدِّم عروسًا عفيفة طاهرة بلا عيب ولا دنس ولا غضن. ومن أجل يوم العرس نحتمل الضيق بقلبٍ ثابتٍ بلا تردد وذلك كقول الرسول:
“فتأنوا أنتم وثبِّتوا قلوبكم،
لأن مجيء الرب قد اقترب“.
وكما كتب البطريرك المتألم البابا أثناسيوس الرسولي إلى شعبه يوضح لهم عذوبة الطريق واتساعه رغم ضيقه وأتعابه قائلاً:
[ومع أن طريق الملكوت ضيق وكَرْب بالنسبة للإنسان، لكنه متى دخل رأى اتساعًا بلا قياس، وموضعًا فوق كل موضع. إذ شهد بذلك أولئك الذين رأوا وعاينوا وتمتعوا بذلك[4].]
(يقول البشر في الطريق) “جَعَلْتَ ضغطًا على مُتُوننا“ – أي (أحزانًا على قوتنا) (مز ٦٦: ١١). لكن عندما يَرْوُون فيما بعد عن أحزانهم يقولون: “أخرجتنا إلى الخصب” (مز ٦٦: ١2)، وإذ يدرك المؤمن عذوبة الطريق يليق به أن يُنَفِّذ وصيّة الرسول:
“لا يئن بعضكم على بعض أيها الإخوة لئلا تُدانوا.
هوذا الديان واقف على الباب” ]٩[.
أنكم كإخوة لا يليق بكم أن تطلبوا الانتقام، فإن هذا عمل الديان.
هوذا الديان واقف على الباب، أي يوم الرب قد اقترب جدًا، فالآن ليس وقت الانتقام والإدانة بل وقت الخلاص وإعانة غير العارفين للحق، وذلك بحبنا لهم، وصلاتنا من أجلهم لأجل إنقاذهم وليس للانتقام منهم.
إنها لحيظة ينبغي علينا فيها أن نختبيء في حب الله ومحبة القريب، فنخلص نحن ويخلص الآخرون معنا أيضًا.
وكما يقول القديس إكليمنضس الروماني:
[كل الأجيال، من آدم إلى يومنا هذا، تموت. ولكن الذين بنعمة الله تكملوا في الحب فلهم موضع بين القديسين، ويظهرون عند ظهور ملكوت السموات. إذ مكتوب: “هلم يا شعبي ادخل مخادعك واغلِقْ أبوابك خلفك. اختبيء نحو لحيظة حتى يعبر الغضب” (إش ٢٦: ٢٠) “وأتذكر يومًا حسنًا فأقيمكم” (حز ٣٧: ١٢)…
فموسى عندما صعد على الجبل وقضي أربعين يومًا وأربعين ليلةً في صوم وتواضع قال له الله: “قم انزل عاجلاً من هنا لأنه قد فسد شعبك… اتركني فأبيدهم وأمحو اسمهم من تحت السماء، وأجعلك شعبًا أعظم وأكثر منهم” (تث ٩: 12-14)، أجابه موسى: “الآن إن غفرت خطيتهم، وإلاَّ فامحني من كتابك الذي كتبت (للحياة)” (خر ٣٢: 32).
يا لعظمة الحب! يا لكماله العجيب! العبد يكلم سيده بصراحة طالبًا العفو لشعبه، أو أن يحذف اسمه هو أيضًا معهم!…
هكذا نحن أيضًا يَلزمنا أن نطلب من أجل كل ساقطٍ في الخطيّة حتى يهب لهم إمعان الفكر والتواضع، فيخضعوا لإرادة الله وليس لنا[5].]
“خذوا يا إخوتي مثالاً لاحتمال المشقات والأناة الأنبياء
الذين تكلموا باسم الرب” ]١٠[.
وكأن الرسول يوبخنا قائلاً: أنتم قد اقتربتم من يوم الرب، فإن كنتم لا تقتدون بالرب يسوع عريسكم، أو حتى برجال العهد الجديد، فلا أقل من تتمثلوا برجال العهد القديم. فالأنبياء رأوا خلال الرموز والظلال والرؤى وروح النبوة، ومع هذا لم يفلت منهم أحد من الآلام والمشقات التي حلت بهم من اليهود، أمَّا نحن فقد رأينا وسمعنا ما لم يره الأنبياء ويسمعوه، أفلا يليق بنا أن نحتمل على الأقل ما احتملوه؟
لقد اقتربت بنا الأيام جدًا وصرنا في الساعة الأخيرة، فيلزم أن يزداد رجاؤنا ونستعد للآلام مُطوِّبين الذين سبقوا فاحتملوا بصبر.
“ها نحن نُطَوِّب الصابرين،
قد سمعتم بصبر أيوب،
ورأيتم عاقبة الرب، كثير الرحمة ورؤوف” ]١١[.
وكما يقول البابا أثناسيوس الرسولي: [كان أيوب يرى أن العالم هو مكان يتجرب فيه البشر على الأرض (أي ٧: ١)، فيتزكون في هذا العالم بالأحزان والأتعاب والغم، فينال كل واحد منهم المجازاة التي تتلائم معه، إذ يقول الله على لسان النبي “أنا الرب فاحص القلب مختبر الكلى، لأعطي كل واحد حسب طرقه” (إر ١٧: ١٠)[6].]
ويقول مار إفرام السرياني: [التجارب تساعد العادلين والأبرار، فأيوب رجل التمييز كان منتصرًا في تجاربه. لقد حل به الضعف، ومع ذلك لم يَشْكُ! أحزنه المرض لكنه لم يتذمر! سقط جسده ووهنت قوته أما إرادته فلم تضعف! لقد برهن في آلامه على كماله، لأن التجارب لم تهلكه[7]!]
وحلل القديس يوحنا ذهبي الفم آلام أيوب وكيف احتملها بصبر وقد سبق ترجمة تحليله هذا في كتيب عن “رد عن القائلين بأن للشيطان سلطان علينا”، مكتفيًا هنا بذكر مقتطفات منها[8]:
[1. افتقر أكثر من الشحاذين… هؤلاء لهم ثوب ممزق، أما هو فجلس عريانًا، بل كان له ذلك الثوب الذي أمدته الطبيعة به أي الجسد، وحتى هذا الثوب مزقه الشيطان من كل جانب، بل أصابه بالقروح.
هذا القطيع الفقير له على الأقل أن يستظل تحت سقفية في الطرقات ولهم مأوى، أما أيوب فبقى لياليه في العراء ولا سقف له يأويه!…
هؤلاء لهم (شرور) يوبخون بها أنفسهم، وهذه تساهم بتعزية ليست بقليلة في أثناء الكارثة… أما أيوب فنزعت عنه كل تعزية!
هؤلاء فقراء من مولدهم فاعتادوا الفقر، أما هو فاحتمل كارثة لم يقدر عليها!
لقد حُرم من الأرض المجردة بل جلس في مزبلة…
- آلام الجسد: من بلغ به العجز مثله! من احتمل أمراضًا هكذا؟… الرائحة الكريهة تحيط به من كل جانب بعنف، والجسد يتحطم قليلاً قليلاً وتصيبه العفونة… ولم يكن قادرًا على التمتع بالقوت المُعْطَى له.
- احتماله موت أولاده: لقد فقد أولاده العشرة. الكل اُِكتُسِحُوا دفعة واحدة والجميع في ريعان شبابهم. والعشرة كانوا فضلاء، ولم يموتوا موتًا طبيعيًا بل موتًا قاسيًا يُرثى له.
- احتماله سُخرية البشر: وكان أيضًا هروب أصدقائه منه واستهزاؤهم وسخريتهم وتهكمهم وتجريحهم له أمرًا لا يُطاق (أي ١٩: ١). فإن آلام الكارثة لا تعادل تلك التي تنبع من أولئك الذين يوبخوننا أثناء الكارثة…
لقد دعاهم غير رحماء بقوله “أقاربي قد خذلوني والذين عرفوني نزلاء بيتي وإمائي يحسبونني أجنبيًا. صرتُ في أعينهم غريبًا. عبدي دعوتُ فلم يُجِبْ. بفمي تضرعت إليه[9]“ (أي ١٩: ١٤-١٦).
- أهوال الليل: لم يجد راحة بالليل، فإن أهوال الليل المرعبة كانت أقصى من مصائبه بالنهار… “تُرِيعُنِي بالأحلام وتُرْهِبُني بِرُؤى” (أي ٧: ١٤).
ولكن إن قلتَ: إنه أيوب!… (أقول) إنه كان الأجدر بك أن تحتمل أكثر منه… لأن أيوب كان في عهد ما قبل النعمة وقبل الناموس، حيث لم تكن هناك حياة محدودة ولا أُعْطِيَ نعمة الروح العظيم، عندما كان يصعب محاربة الخطيّة، وكانت اللعنة سائدة والموت مرعبًا.]
٣. عدم القسم
“ولكن قبل كل شيء يا إخوتي
لا تحلفوا لا بالسماء ولا بالأرض ولا بقسم آخر،
بل لتكن نعمكم نعم،
ولاكم لا،
لئلا تقعوا تحت دينونة” ]١٢[.
القسم معناه اشهاد الله على عمل معين أو على تعهد معين، أو أنك تقول الصدق. وإذ كل الخليقة من أعلى السماء إلى أسفل الأرض، من عرش الله إلى الشعرة البيضاء أو السوداء جميعُها تحكمها العناية الإلهيّة، فمن يُقْسِمُ بالسماء أو الأرض أو أورشليم أو رؤوسهم يرتبطون بالقسم أمام الله[10].
لكن قد يسأل أحد: لقد جاء في الشريعة “أوفِ للرب أقسامك” فلماذا منع الرب (مت ٥) ويعقوب الرسول القسم؟
- رأي القديس يوحنا ذهبي الفم[11]:
يوضح القديس خطورة القسم في:
ا. إن الشيطان يستغله لِنُقْسِمَ أثناء غضبنا، فإذا ما عدنا إلى هدوءنا نَلتزِم بما أقسمنا به في غضبنا، فننجذب إلى الخطيّة قسرًا.
ب. في لحظات اللذة والشهوة يفقد الإنسان اتزانه فَيُقْسِم، كما فعل هيرودس حينما أَقْسَمَ في فترة خنوعه للشر أن يُعطِي لابنة هيروديا ما تطلبه ولو كان نصف المملكة… والْتَزَمَ بقطع رأس يوحنا المعمدان.
ج. من أجل تحقيق هدف سامً يُقْسِمُ الإنسان من غير أن يدرك ما يُقْسِمُ من أجله، كما فعل يفتاح إذ صار قاتلاً لابنته بسبب قسمه (قض ١١).
- رأي القديس أغسطينوس[12]، أن القسم ليس خطيّة في ذاته، ولكن الرب منعنا من القسم:
ا. لأنه لا يليق أن نقسم بالله من أجل أمورٍ زمنيّة.
ب. أن من يعتاد على القسم فيما هو صِدْقٌ لا يقدر أن يمتنع فيما هو كَذِبٌ.
ج. إن الرسول بولس قد أقسم كما في (٢ كو ١١: ٣١)… وذلك بشروط:
أولاً: أن يكون من أجل خلاص الناس، وليس من أجل ربحٍ زمنيٍ له أو لهم.
ثانيًا: موضوعه الكرازة والبشارة وليس أمرًا زمنيًا.
ثالثًا: أن يُشْهِدَ الله على حق أكيد…
رابعًا: إن هذه الشهادة أو القسم من أجل ضعف السامعين، وليس تأكيدًا لكلامنا.
ومع هذا فإذ يعتاد اللسان على القسم لا يدرك أو يميز بين القسم الحقيقي وغير السليم لهذا يمنعنا الرب منه بتاتا.
٤. موقف المؤمن في كل الظروف
أولاً: في حالة الحزن
“أعَلَىَ أحد بينكم مشقات فليصلِ” ]١٣[.
ربنا يسوع المسيح هو المركز الذي تتجه إليه أنظارنا في كل الظروف والأحوال، سواء الضيق أو الفرح أو المرض أو سقوط أخ وانحرافه، في كل أمورنا نتجه نحو الرب.
ففي الضيق نرفع أنظارنا بالصلاة. وكما يقول الأب نيلس: [الصلاة هي دواء الغم وانقباض النفس[13].]
المؤمن المتعقل يُحوِّل آلامه إلى لقاءات مع الرب، فقد جاء في سيرة القديس باخوميوس[14] إنه إذ كان يجمع الحطب متى دخلت في قدمه شوكة كان يذكر شوكة الخطيّة ويتأمل آلام الرب، وكثيرًا ما كان يُستغرق في صلاته بدموع ناسيًا إخراج الشوكة من قدمه.
ومن إحسانات الله علينا أن يسمح لنا بالتجارب ولا يستجيب لطلباتنا سريعًا بل يتركنا في الضيق لِنتعلَّم الوجود في حضرته. وكما يقول الأب نيلس: [لا تضطرب وتحزن إذا لم تحصل على طلباتك من الله… الله يريد أن يفيدك أكثر بأن يُعَلِّمك الإلحاح في الصلاة مع الصبر في الوقوف أمامه، لأنه أي شيء أسْمَى من الوقوف أمام الله في حديث معه والدخول في شركته[15]؟]
ثانيًا: في حالة الفرح
“أمسرور أحد فليرتل” ]13[.
يَلزمنا ألاَّ ننشغل بفرحنا عن المسيح بل نستخدمه كفرصة لتسبيح الله وشكره[16]. وقد خصص الكتاب أسفارًا وأصحاحات بأكملها للتسبيح مثل سفر المزامير وتسبحة موسى (خر ١٥) وتسبحة الثلاث فتية. وقد رتبت الكنيسة أن يسبح أولادها بتسابيح مقطتفة من الكتاب المقدس أو بروحه، وذلك في مناسبات متعددة منها قبل صلاة القداس الإلهي، وأثناء توزيع جسد الرب ودمه، وفي أثناء الفرح بأعياد القديسين الذين انطلقوا إلى الفردوس.
وقد نَغََّمَتْ الكنيسة المزامير وكثيرًا من التسابيح بنغمات جميلة وقسمتها إلى مقاطع، فكان المؤمن أينما وُجِد يقول مَقْطعًا فيرد عليه الباقون بالمقطع التالي وهكذا أينما وُجِدْتَ، سواء في الحقول أو البيوت أو المتاجر لا تسمع سوى مزامير وتسابيح روحيّة تُشْعِلُ القلب بمحبة الله والصلاة له بحرارة.
يقول الأب إسحق:
[من له القدرة – مهما بلغت خبرته – أن يعدد الأسباب التي تثير القلب فيلتهب مُشتعِلاً بالنار، وتحثه للصلوات الورعة العظيمة الغيرة؟ لكننا نذكر أمثلة قليلة منها…
أحيانًا التغنِّي بمقطع من المزامير يبعث فينا صلاة حارة.
وأحيانًا انسجام التلحين لصوت أحد الإخوة يثير الأذهان الخاملة إلى ابتهالات كثيرة.
كذلك طريقة النطق والوقار الذي للمرنم (بالتسبيح) يلهب غيرة من معه[17].]
يقول الأب أوغريس:
[صَلِّ في سلام ونقاء، رتل بفهم ولذة وبذلك ستكون كنسرٍ صغيرٍ يُحَلِّق في أعلى السماء.
ترتيل المزامير يُسَكِّن الشهوات ويكبح نبضات آلام الجسد، والصلاة تدفع العقل لأن يكون حكيمًا وسليمًا في أفعاله…
ترتيل المزامير هو صورة لِتَنَوُّع الحكمة الإلهيّة…
إن لم تكن قد أَخَذْتَ عطيّة الله أو ترتيل المزامير اطْلُب بحرارة وإلحاح فستأخذ[18].]
ثالثًا: سر مسحة المرضى وسر الاعتراف
“أمريض أحد بينكم فليَدْعُ قسوس الكنيسة،
فيصلوا عليه ويدهنوه بزيت باسم الرب.
وصلاة الإيمان تَشْفي المريض والرب يقيمه.
وإن كان قد فعل خطيّة تُغْفَر له.
اعترفوا بعضكم على بعض بالزلات،
وصلوا بعضكم لأجل بعض لكي تُشْفَوْا.
طِلْبَة البار تقتدر كثيرًا في فعلها.
كان ايليا إنسانًا تحت الآلام مثلنا،
وصلى صلاة أن لا تمطر،
فلم تمطر على الأرض ثلاث سنين وستة أشهر
ثم صلى أيضًا فأعطت السماء مطرًا وأخرجت الأرض ثمرها“.. ]15– 18[
الكنيسة كأم تترفق بأولادها ومسئولة أن تُشْبِع لهم احتياجاتهم ليس في ترفُّه أو تنعُّم، ولكن بالقدر الذي به يسلكون في طريق الصليب. لذلك إذا مرض الإنسان “فليَدْعُ قسوس الكنيسة“. وقد سَلَّمنا الآباء الصلوات التي يصليها الكهنة من أجل المريض. وقد وُضِعَتْ بإرشاد الروح القدس، وقد سبق التعليق عليها[19]، إنما نذكر هنا عنها:
- إنها توجه أنظار المؤمن المريض جسديًا إلى خلاص نفسه والاهتمام بالشفاء الروحي. وما أكثر الفصول من الكتاب المقدس والصلوات التي يبتهل بها الكاهن من أجل غفران خطايا المريض ومن معه، وخطايا الكاهن نفسه، وجهالات كل الشعب.
- تشترط الكنيسة أن يُلازم سِرَّ مسحة المرضى سِرَّ الاعتراف “اعترفوا بعضكم على بعض بالزلات“، وهنا واضح أن الذي يعترف هو المريض للكاهن وليس الكاهن للمريض.
يقول القديس أغسطينوس بأنه [هل عندما يُقال “علموا بعضكم بعضًا” نفهم منها أن التلميذ يعلم المعلم أو واضح أن المعلم هو الذي يعلم التلميذ، وهكذا أيضًا عندما نقول “اشفوا بعضكم بعضًا” واضح أن الطبيب هو الذي يَشْفِي المريض. [
- “ويدهنوه بزيت باسم الرب“… فالسرّ هنا لا يعتمد على برّ الكاهن وصلاحه بل على “اسم الرب”. فالعامل فيه هو الروح القدس. غير أن إيماننا شرط أساسي في السرّ “وصلاة الإيمان تَشْفي المريض والرب يقيمه“.
فالكنيسة كعروس الرب تطلب بروح عريسها أن يقيم أولادها، لكنها تقدم مشيئته لا مشيئتنا الذاتية، فقد يكون لخير المريض – رغم مغفرة خطاياه – أن يبقى في المرض لأجل تأديبه أو تزكيته أو بحكمة إلهيّة أخرى كما حدث مع بولس الرسول. لذلك تصلي الكنيسة قائلة:
[يا من أقام ابن الأرملة وابنة الرئيس من الموت لما أمرهما بالقيام وأقام لعازر من بعد موته بأربعة أيام من الجحيم بسلطان لاهوته أقِمْ عبدك هذا من موت الخطيّة، وإن أمرتَ بإقامته إلى زمان آخَر، فامنحه مساعدة ومعونة لكي يُرضيك في كل أيام حياته.
وإن أمَرْتَ بأخذ نفسه فيكون ذلك بيد ملائكة نورانيين يخلصونه من شياطين الظلمة – انْقُلْه إلى فردوس الفرح ليكون مع جميع القديسين بدمك الذي سُفِكَ من أجل خلاصنا الذي به اشتريتنا لأنك أنت رجاؤنا…]
- يقدّم الرسول لنا مثلاً في الإيمان، وهو كعادته يوبخ المؤمنين بأمثلة من رجال العهد القديم. فالسماء خضعت لإيليا حينما أصدر لها أمرًا لكي تمتنع عن المطر (1مل 17: 1) ومن هو إيليا هذا؟ إنه إنسان تحت الآلام مثلنا، أي تحت الضعف مثلنا!
ونلاحظ أن النبي صلى من أجل السماء لكي تمتنع عن إسقاط المطر، ليس انتقامًا لنفسه، بل تأديبًا للشعب الذي ترك عبادة الله الحي وعبد إله الصيدونيين، فاستجاب الله له، فكم بالأكثر تكون قوة صلاة الكنيسة عروس المسيح في سرّ المسحة من أجل شفاء المريض، روحيًا أولاً ثم جسديًا.
يقول العلامة ترتليان: [اسْتُخْدِمَتْ صلوات العهد القديم من أجل الخلاص من النيران (دا ٣) والوحوش (دا ٦) والمجاعات (يع ٥) مع أنهم لم يكونوا قد استلموا الصلاة من السيد المسيح، فكم بالأكثر تكون فاعليّة الصلاة المسيحيّة قويّة جدًا إذ لا تأتي بالملائكة لكي تُهدِّيء من عمل النار ولا تُبْكِم الأسود ولا تُقدِّم للجائع خبزًا طازجًا (٢ مل ٤: 42-44). إنها ليس لها نعمة نَزْع مشاعر الألم (أي نزع التجارب) بل تَهَب الألم والشعور به والحزن، هذا كله مع الاحتمال. إنها تُغَذِّى الهبة بالفضيلة[20].]
رابعًا: في حالة انحراف أحد الإخوة
“أيها الإخوة إن ضل أحد بينكم عن الحق فَرَدَّه أحد.
فليعلم أن من رَدَّ خاطئًا عن ضلال طريقه،
يخلص نفسًا من الموت،
ويستر كثرة من الخطايا” ]19– 20[.
ختم الرسول رسالته بهذه العبارة. ومع أنه عالج في الرسالة أمورًا كثيرة تكشف عن ضعفات الذين أرسَلَ إليهم الرسالة، مثل محبة التعليم وحب الظهور وكثرة الكلام والمحاباة للأغنياء في أماكن العبادة والقسم، إلاَّ أنه يختم الرسالة بألا يكفوا عن أفعالهم هذه، إذ سبق أن أرشدهم إلى ذلك، بل أن يبحثوا عن الخروف الضال.
والسبب في هذا أنه بهذا “يخلص نفسًا من الموت” هي نفس الذي ضل، “ويستر كثرة من الخطايا” أي خطايا الباحث عن الضالين. لأنه كما نستر على الضالين بِرَدِّهم إلى طريق الحق، يستر الله أيضًا علينا من جهة خطايانا الكثيرة. ففي تَرَفُّقْنَا بالساقطين يقيمنا الرب معهم ويتراءف علينا[21].
ويقول القديس بينوفيوس: [وأيضًا مع الرحمة والإيمان تُمْحَى الذنوب إذ “بالرحمة والحق يُسْتَر الإثم” (أم ١٦: ٦)… وذلك كما بواسطة شوقنا نحو خلاص الذين ضلوا وسَعْيِنا وتَعَبِنا بإنذاراتنا ووعظنا[22].]
ويقول القديس غريغوريوس: [إن كان الذي يخلِّص إنسانًا من الموت الجسدي – مع أنه لم يمت اليوم يموت غدًا – فإنه يستحق مكافأة عظيمة، فأية مكافأة يستحقها من يخلِّص نفسًا من الموت الأبدي، ويُسَبِّب لها مجدًا أبديًا لا تخسره أبدًا[23]!]
ويقول القديس يوحنا الدرجي: [التقرب بنفس واحدة إلى الله بالتوبة أفضل عند الله من جميع القرابين، إذ ليس في العالم عند الله أفضل من النفس الإنسانيّة، لأن كل ما في العالم يزول إلاَّ النفس المذكورة فإنها خالدة[24].]
ويقول القديس يوحنا ذهبي الفم: [لِنُوِلْوِلْ عليهم أشدَّ من ولولة النساء النادبات، لأنهم يجهلون خلاصهم، لأن المرأة لا تحب رجلها هكذا كما نحب نحن كافة الناس لنجذبهم للخلاص.]
[إن رأيتَ أعمى يسقط في هوة، أما تمد يدك إليه وتسنده حالاً. فكيف إذن يسوغ لنا أن نرى إخوتنا ساقطين في مثل هذه المخاطر ولا نمد إليهم يد الإغاثة، وهم مشرفون على السقوط في الحفرة الجهنميّة الخالدة[25]؟]
[متى رأيتَ إنسانًا محتاجًا إلى شفاء روحي أو جسدي، لا تقل في نفسك إن هذا من عمل فلان أن ينقذه من شره ويَشفيه. فإنني أنا علماني ولي زوجة وأولاد، وهذا من عمل الكهنة والرهبان. أجبني يا هذا هل لو وجدتَ وعاءً مملوءًا ذهبًا تقول في نفسك لِمَ لا يأخذ هذا الوعاء فلان أو فلان… بل تبادر كالذئب الخاطف وتأخذه قبل أي إنسان. ليكن لك هذا الاشتياق بالنسبة لإخوتك الساقطين، واضعًا في نفسك أنك وجدتَ كنزًا ثمينًا جدًا وهو اعتناؤك بأمر خلاص أخيك. هوذا الله نفسه يقول على فم رسوله إنك إن أنقذتَ إنسانًا من الضلالة تخلص نفسًا من الموت!]
[1] للمؤلف: الكنيسة تحبك ص 35.
[2] لا 19: 13، سي 34: 27 راجع تث 24: 14-15، عا 3: 10، 5: 11-13، أم 3: 27-28، أش 5: 8، أي 24: 10، طو 4: 15.
[3] للمؤلف: أغناطيوس وبوليكربس ورسائلهما (رسالة إلى رومية).
[4] رسائل القيامة طبعة 67 ص 130.
[5] للمؤلف: رسالة إكليمنضس الأولى طبعة 67 ص 41-46.
[6] رسائل القيامة ص 6/155.
[7] إرشادات ونصائح ص 16.
[8] للمؤلف: هل للشيطان سلطان عليك؟ ص 90-96.
[9] استحسنت ذكر النص كاملاً.
[10] القديس أغسطينوس: الموعظة على الجبل 5/124.
[11] Concerning The Statues.
[12] أغسطينوس: الموعظة على الجبل، وعظات على فصول منتخبة من العهد الجدي.
[13] الفيلوكاليا عن الصلاة ص 10 (نسبت خطأ للأب نيلس في الفيلوكاليا وهى للأب أوغريس).
[14] للمؤلف: القديس باخوميوس أب الشركة وتلميذه تادرس، 1967.
[15] الفيلوكاليا عن الصلاة ص 14.
[16] أف 5: 19-20، 1كو 14: 15، كو 3: 16.
[17] للمؤلف: مناظرات كاسيان، 1981، ص 233.
[18] الفيلوكاليا عن الصلاة ص 25-26.
[19] راجع كتاب الحب الإلهي، 1967، “الله مقدسي”.
[21] راجع نح 4: 5، مز 32: 1، أم 10: 12، دا 12: 3، 1بط 4: 8.
[22] للمؤلف: مناظرات يوحنا كاسيان، 1981، 8/507.
[23] للمؤلف: الحب الأخوي، 1964، 73.
[24] للمؤلف: الحب الأخوي، 1964، 73.
[25] للمؤلف: الحب الأخوي، 1964، 73.