تفسير رسالة فيلبي 3 الأصحاح الثالث – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير رسالة فيلبي 3 الأصحاح الثالث – القمص تادرس يعقوب ملطي
الأصحاح الثالث: فرح في الرب
في الأصحاح الأول كشف الرسول بولس عن الآلام كمناخٍ طيبٍ للتمتع بالفرح، وفي الثاني الخدمة كمصدر فرح حقيقي، وهنا يعلن عن طبيعة هذا الفرح أنه في الرب المتألم القائم من الأموات، وهو فرح على مستوى سماوي.
يخبرنا القديس بولس أن حياة كل إنسان هي عصب خطة الله، الذي يُسر به كابنٍ وأيقونة له حية متهللة. يلزمني أن أحمل هذه الخطة، التي هي حياتي السماوية في المسيح. هذه الحياة لها تكلفتها السلبية كما الإيجابية:
أولاً: التكلفة السلبية للحياة الجديدة المتهللة
- الحذر من حرفية العبادة [2-3]، أو التخلص من الشكليات التي بلا روح. كان المتهودون يعلمون بأن المؤمنين يحتاجون للخضوع للناموس الموسوي بطريقة حرفية، خاصة طقس الختان، بدونه لن يتحقق الخلاص. هاجم القديس بولس هؤلاء المتهودين بذات اللقب الذي استخدموه للأمم “الكلاب”، وقارن ختانهم ببعض الممارسات الوثنية لبتر الإنسان أعضاءه ودعاه “القطع”. كان يمكن للرسول أن يفتخر بحفظه الناموس الموسوي حرفيًا، لكنه بإرادته تخلى عن هذا لأنه أراد أن يعبر بهم إلى إسرائيل الجديد، كنيسة المسيح، يتعبد لله بالروح.
- عدم الثقة في الجسد بل في الروح.
- كل ما في هذا العالم نفاية إن قورن بالسيد المسيح [7-9].
- نسيان ما هو وراء، أي الأمور الحاضرة [13].
- مجد هذا العالم عار.
أولاً: التكلفة الإيجابية للحياة الجديدة المتهللة
- العبادة بالروح [3].
- الرجاء في تغيير أجسامنا الواهية إلى شبه جسد المسيح الممجد [21]. فمع الثقة في الجسد لا نستخف بأجسامنا الواهية. لا تتغير مادتها، إنما ستكون لها خبرة المسيح القائم من الأموات، جسده الممجد. تعبر من الانحطاط إلى المجد، وتتقبل عدم الفساد.
- قبول المسيح كفايتنا [8]، وبرنا [9].
- النمو في معرفة المسيح المصلوب القائم من الأموات [10-11]. نشترك في آلامه بفرح، ونتشبه بموته، وتكون لنا قوة قيامته. بهذا نصير مثله. الإيمان [10] يهبنا الشركة في حياة المسيح وقيامته. هو انفتاح على عمل الله في حياتنا، فنتقبل المسيح برّنا. أيضًا يليق بنا أن نجاهد دومًا من أجل بلوغ الجعالة السماوية بدعوة الله في المسيح [12-16]. نجاهد دومًا لأننا لسنا بعد كاملين.
- مواطنتنا هي في السماء [20]. يليق بنا أن نحيا كمواطني أسمى دولة، مملكة السماء. سكن ربنا بالجسد على الأرض أكثر من 33 عامًا، لكن إقامته على الأرض لم تجعل منه مواطنًا أرضيًا متعلقًا بالعالم. ونحن إذ صرنا أعضاء جسمه يلزمنا ألا ننسى أننا اكتسبنا جنسيته. “لا تشاكلوا هذا العالم، بل تغيروا بتجديد أذهانكم” (رو 12: 2).
- عجز الناموس عن تحقيق الفرح 1-11.
- سباق لبلوغ الكمال 12-16.
- المكافأة: مواطنة سماوية 17-21.
1. عجز الناموس عن تحقيق الفرح
“أخيرًا يا إخوتي افرحوا في الرب،
كتابة هذه الأمور إليكم ليست عليّ ثقيلة،
وأمّا لكم فهي مؤمنة” [1].
الآن يكتب الرسول بولس إلى محبوبيه شعب الكنيسة التي في فيلبي مطالبًا إياهم بالفرح في الخدمة. والعجيب أن الكاتب يبعث رسالته وهو مقيد بالسلاسل، ويرسلها إلى كنيسة مع كونها أمينة (مؤمنة) ومنتعشة لكن المتهودين يزعجونها. فالمتاعب سواء من الخارج أو من الداخل لا تقدر أن تفقد المؤمن أو الخادم فرحه في الرب. وقدر ما نتهلل داخليًا نكون بالأكثر مستعدين لقبول الألم من أجله، ولا تقدر قوة ما أن تعزلنا عنه.
“أخيرًا“: يقصد بها الرسول إنه سيبدأ استكمال رسالته.
- لقد هدأ بولس أهل فيلبي الذين كانوا في حالة كآبة شديدة. كانوا في قنوط، إذ لم يكونوا يعرفون كيف سارت الأمور مع بولس. كانوا في كآبة إذ ظنوا أنها قد تفاقمت جدًا بالنسبة له، وبالنسبة للكرازة ولأبفرودتس. لقد أكد لهم وطمأنهم من جهة كل هذه النقاط، وقال:” أخيرًا يا إخوتي افرحوا“. يقول لهم: ليس لكم بعد علة للكآبة معكم أبفرودتس الذي حزنتم من أجله، ومعكم تيموثاوس، وأنا نفسي سآتي إليكم، والإنجيل في حالة تقدم. ماذا يعوزكم بعد؟ افرحوا![1]
القديس يوحنا الذهبي الفم
“يا إخوتي” يستخدم هذا اللفظ للتعبير عن شدة الحب والاعتزاز والأخوة والمشاركة لأهل فيلبي. لقد دعا الغلاطيين “أولادي” (غل 19:4)، أما هؤلاء فدعاهم “إخوتي“، فعندما يهدف نحو تصحيح أمرٍ ما أو إظهار حنوه يدعوهم أولاده، وعندما يخاطبهم بكرامةٍ عظيمةٍ يلقبهم إخوته.
“افرحوا في الرب“: الفرح هو الخيط الذهبي الذي يمر بين طيات هذه الرسالة. أما مصدر الفرح فليس النجاح الظاهر، ولا الإمكانيات الخارجية، إنما “في الرب”. ليس من حصنٍ آمنٍ للنفس البشرية أكثر من الفرح في الرب “وأما لكم فهي مؤمنة”. ما أروع أن يكتب الرسول لهم عن الفرح وهو في شدة الضيق والألم, فالألم يلازمه الحزن، ولكن اجتماع الألم مع الفرح لا يتحقق إلا في الرب.
افرحوا في الرب… لماذا؟
أ- لأن الرب هو ضابط الكل، وهو محب البشر.
ب- لأن الرب هو الذي يهتم بكل أمورنا، ويهبنا كل شيء.
ج- لأننا نطرح تحت أقدام صليبه خطايانا وآثامنا وهمومنا، فيحملها عنا المصلوب برضا ولطفٍ.
د- لأنه ينقذنا من أعدائنا الخفيين والظاهرين، ويحول الشر إلى خير، والضيقات إلى بركات.
و- لأن الفرح بالرب يهبنا القوة في جهادنا الروحي.
هـ- لأنه هو الذي ينير ظلمتنا.
- “أخيرًا يا إخوتي افرحوا في الرب” يقول بحق “في الرب“، وليس “حسب العالم“، فإن هذا ليس بفرحٍ. يقول أن هذه المتاعب التي بحسب المسيح تجلب فرحًا[2].
- “كتابة هذه الأمور إليكم ليست عليٌ ثقيلة، وأما لكم فهي مؤمنة. احذروا الكلاب“. ألا تلاحظوا كيف يتدرع بالصبر لكي يقدم نصيحة في البداية؟ فإنه بعد أن قدم لهم مدحًا عظيمًا، وأظهر إعجابه بهم، عندئذ قدم النصيحة ثم عاد يكرر المديح. فإن هذا الأسلوب من الكلام يبدو أنه كان يحمل صعوبة بالنسبة لهم. لذلك حاول تغطيته من كل جانب[3].
القديس يوحنا الذهبي الفم
“انظروا الكلاب،
انظروا فعلّة الشر،
انظروا القطع” [2].
“انظروا“: أي النظر بعيونٍ يقظة وحرصٍ شديدٍ. ويكرر الرسول نفس اللفظ ثلاث مرات للدلالة على أهمية وخطورة الأمر. عندما بدأ بولس كرازته بين الأمم هاج عليه المتهودون، وبذلوا كل جهدهم لكي يربطوا المسيحية باليهودية, وكأنها طائفة جديدة من الطوائف اليهودية.
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن الذين يفسدون الإيمان بالمناداة بضرورة ممارسة أعمال الناموس الحرفية كالختان وحفظ السبت للدخول في طريق الخلاص يشبهون الكلاب التي تنبح وتهاجم لتؤذي. فهي تشوه الإيمان بالمخلص، وتفقد المؤمنين يقينهم في عمله علي الصليب. هذا ويرى الأب فيكتورينوس بأن الكتاب المقدس يشَّبه المدافعين عن بيت الرب بالكلاب التي في أمانة تحرسه من اللصوص والمفسدين.
- تتحدث الأسفار المقدسة عن الكلاب النافعة والمدافعة عن الكنيسة، كما يعلمنا داود في المزمور 68 قائلاً بأن هذه الكلاب تلحس دماء الأعداء في هيكل الله. وهنا يتحدث (بولس) عن نوع مضاد من الكلاب. واضح أنه يتحدث عن اليهود (المقاومين للكلمة) لأنهم عاملون بالشر. فإن الأعمال (الناموسية الحرفية) هي عملهم الوحيد في حياتهم دون معرفة الله، ويترجون الخلاص من أعمالهم[4].
ماريوس فيكتورينوس
“انظروا الكلاب“: كان اليهود يدعون الأمم بالكلاب، وهنا قلب الرسول بولس الصورة حتى أن بولس يضع نفسه في مصاف الأمم ويشبه المتهودين بالكلاب. لماذا يدعو المطالبين بالعودة إلى حرفية الناموس كطريق الخلاص بالكلاب؟ لأنهم عوض الكرازة بلغة الحب، واحتضان النفوس بأبوة روحية ينبحون كالكلاب بأصوات مزعجة للنفس، ومقلقة للجماعة، ويؤذون البسطاء بأفواههم التي لا تكف عن أن تعض وتؤذي.
بينما يطالب هؤلاء بحرفية الناموس لكي يتطهروا إذا بهم يتدنسوا كالكلاب (تث 23: 18؛ مز 59: 6، 14، 15؛ 2 بط 2: 22). إنهم يحملون عداوة لصليب المسيح، ينسبون له العجز عن المصالحة مع الله بدون حرفية الناموس. كان اليهود يدعون الأمم كلابًا (مت 15: 26)، لكن بعدم إيمانهم فقدوا سمتهم كإسرائيل الحقيقي، فصاروا أممًا، ونُسب إليهم لقب الكلاب الذي دعوا به الأمم.
- لكن من هم الذين يلقبهم كلابًا؟ كان في ذلك الموضع بعضًا ممن أشار إليهم في كل رسائله، من اليهود…الأردياء والمنحطين الذين يطمعون في الربح القبيح والمغرمين بالسلطة. هؤلاء كانوا يرغبون في جذب كثير من المؤمنين إليهم بالكرازة بخلط المسيحية مع اليهودية في نفس الوقت، مفسدين الإنجيل[5].
القديس يوحنا الذهبي الفم
“انظروا فعلة الشر“: إذ يحرفون الإنجيل بسلبه عمل الصليب، فصاروا بتعاليمهم “فعلة الشر”، مخادعين، يكرزون ولكن لا لحساب مملكة الله، بل لحساب الظلمة والشر.
- “احذروا فعلة الشر“… فإنهم يعملون بقصدٍ شريرٍ، العمل الذي هو أشر من البطالة، إذ يستأصلون ما قد وُضع بتدبير صالح ويقتلعونه[6].
القديس يوحنا الذهبي الفم
“انظروا القطع“: عوض قوله “الختان”، يقول: “انظروا القطع”. كان الختان علامة في الجسد على قبول العهد مع الله. وإذ رفضوا العهد الجديد، وبالتالي فقدوا سمتهم كإسرائيل الروحي، تحول ختانهم من علامة العهد مع الله إلى مجرد قطع في الجسم لا معنى له ولا قوة. وهو بهذا يكشف عن إساءتهم لمفهوم الختان، إذ جردوه من مفهومه الروحي وهدفه. صار قطعًا في الجسد، لا يختلف عن الممارسات الوثنية، الأمر الذي يمنعه الناموس (لا 21: 5). وكأنهم فيما هم ينفذون الناموس حرفيًا إذا بهم يتعدونه.
يرى البعض أن الرسول غالبًا لم يقصد بالقطع الختان. إنما قصد الجراحات الممنوعة على الكهنة للتعبير عن حزنهم على موت أحد أقربائهم. حتى لو أخذنا المعنى الآخر فإن المتهودين افتخروا بقطع جزء من الجسد، كأن هذا الأمر فقط هو الذي سيصيرهم من شعب الله, بينما اغفلوا المعاني الروحية للختان… فالختان هو ميثاق مع الله وتقديس القلب لله.
- يقول: “احذروا القطع” كان طقس الختان مكرمًا عند اليهود، إذ فتح الناموس له الطريق، وكان السبت يحسب أقل من الختان. فيمكن إتمام الختان مع كسر السبت. فلم يقل أن الختان شر، وأن لا لزوم له، لئلا يرعب الناس. لكنه عالج الأمر بأكثر حكمة، ساحبًا إياهم منه[7].
- لم يرد حتى أن يشترك في الاسم، بل ماذا قال؟ إن هذا الختان هو “قطع“. لماذا؟ لأنهم لا يفعلون شيئًا سوي قطعًا في الجسد. فإنه إذ يُمارس، ولكن ليس حسب الناموس، لا يكون سوى قطعًا من الجسد. لهذا السبب دعاه هكذا. أو ربما لأنهم أرادوا أن يقطعوا الكنيسة إلى شقين، ونحن ندعو الأمر “قطعًا” في الذين يفعلون هذا عشوائيًا، بلا هدف ولا مهارة. يقول: الآن إن كنتم تطلبون الختان، تجدونه عندنا نحن “الذين نعبد الله بالروح“، أي نتعبد روحيًا. أجبني: أيهما أسمى، النفس أم الجسد؟ واضح ان الأولى أسمى. لهذا فإن ذاك الختان (الذي للنفس) هو أسمى أيضًا، أو بالحري ليس أسمى بل هو الختان الوحيد. فإنه إذ يُوقف الرمز يأتي بحق الأمر كتابة: “انزعوا غرل قلوبكم” (إر 4:4). بنفس الطريقة عالج الأمر في الرسالة إلي أهل رومية قائلاً: “لأن اليهودي في الظاهر ليس هو يهوديًا، ولا الختان الذي في الظاهر في اللحم ختانًا، بل اليهودي في الخفاء (في الداخل) هو اليهودي، وختان القلب بالروح لا بالحرف هو الختان” (رو 2: 28-29). أخيرًا نُزع عنه الاسم نفسه إذ لم يعد ختانًا (بل قطعًا) كما يؤكد. فالرمز كان يدعي هكذا (ختانًا) حتى تحل الحقيقة، ولكن متى جاءت الحقيقة لم يعد للرمز ذات الاسم[8].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- “الرجل المبتدع بعد الإنذار مرة ومرتين أعرض عنه، عالمًا أن مثل هذا قد انحرف، وهو يخطئ، محكومًا عليه من نفسه” (تي 10:3-11). ليتنا كبحارة حكماء نبحر في إيماننا في المسلك السليم حتى نعبر بأكثر أمانٍ، ونتبع سواحل الأسفار المقدسة.
القديس أمبروسيوس
“لأننا نحن الختان الذين نعبد الله بالروح،
ونفتخر في المسيح يسوع،
ولا نتّكل على الجسد” [3].
بينما يطالب المتهودون بالختان الجسدي، ليحسبوا من أهل الختان يصيرون أهل الغرلة روحيًا، بينما إذ نمارس ختان الروح نصير نحن أهل الختان “الذين نعبد الله بالروح، ونفتخر (نفرح) في المسيح يسوع، ولا نتكل على الجسد”.
وقد ذكر معلمنا بولس ثلاث علامات للختان الروحي الحقيقي:
1- العبادة لله بالروح لا الحرف القاتل: حتى نتمتع بالشركة العميقة مع الله الذي هو روح وحياة. فنقدم له القلب ليقدسه بروحه القدوس ويقيم منه هيكلاً له. ليس معنى عبادة الله بالروح هو إبطال الطقوس والتدبير الروحي, إن كان يساعدنا على عبادتنا الروحية.
2- فرح في يسوع المسيح يسوع:، يهبنا فخرًا واعتزازًا بالرب وصليبه.
3- عدم الاتكال على الجسد: فمع تدبير حياتنا الروحية، لكن خلاصنا يقوم على عمل الروح. لا نمارس العبادة الجسدية التي تخص الجسد دون الروح ولا تتكل على الجسد أي لا تعتمد على الذات في عبادتنا، فلا يكون الدافع لعبادتنا هو إرضاء ذواتنا.
- كان لابد أن يقول: “اختتنوا للرب” (إر 4: 4). فإن الختان من الجانب الجسدي لم يقتصر علي أهل الختان بحسب شريعة موسى وحدهم، وإنما علي أناس آخرين كثيرين. فكهنة الأوثان المصريين كانوا يختتنون لها (للأوثان)، فكان هذا الختان من أجل الأوثان وليس للرب، بينما ختان اليهود ربما كان للرب. فإذا كنا قد فهمنا معنى اختتنوا للرب بالمعنى الحرفي، فلننتقل إلي معناه الرمزي حتى نعرف كيف يوجد بين المختونين بعضًا منهم مختتن للرب، والبعض الآخر مختتن ولكن ليس للرب.
توجد كلمات أخرى بخلاف كلمة الحق أي عقيدة الكنيسة: فإن الذين يمارسون الفلسفة، قد ختنوا أخلاقهم وقلوبهم، ويمارسون ما يمكن أن نطلق عليه ضبط النفس؛ فإن الهراطقة يمارسون ضبط النفس وهم في الوقت نفسه مختتنين جسديًا، ولكن في هذه الحالة فإن ختانهم ليس للرب، لأن الختان عندهم يُنَفَّذ بموجب عقيدة كاذبة. ولكن حينما تذهب إلي الكنيسة وتتبع تعاليمها الحقة، فإنك لن تكون فقط مختتنًا، وإنما مختتن للرب[9].
العلامة أوريجينوس
“مع أن لي أن اتّكل على الجسد أيضًا،
إن ظن واحد آخر أن يتّكل على الجسد،
فأنا بالأولى” [4].
يقدم لنا الرسول نفسه مثالاً على عدم الاتكال على الجسد، بل على عمل الله فيه. فمن جهة إن أراد أحد أن يفتخر بامتيازاته الجسدية الخارجية فلدى الرسول الكثير ليفتخر به، الأمر الذي لا يقدر أن يباريه فيه أحد. فرفضه للافتخار بالأمور الجسدية ليس عن نقصٍ لديه أو عجز عن تحقيقها.
يذكر الرسول بولس سبع امتيازات له (ع4-6)
1- مختون في اليوم الثامن: وهذا إثبات إنه ولد في اليهودية، وليس دخيلاً عليها، لأن الدخلاء يختتنون يوم دخولهم الإيمان اليهودي.
2- من جنس إسرائيل: لأنه لا ينسى الديانة اليهودية التي أسسها الله على جبل سيناء.
3- من سبط بنيامين: بنيامين الابن الوحيد ليعقوب الذي ولد في أرض الموعد من زوجته المحبوبة راحيل, وهو آخر أبناء يعقوب.
4- عبراني: هناك فرق بين الإسرائيلي والعبراني: الإسرائيلي هو إنسان يهودي نال الختان, وليس بالضرورة أن يجيد اللغة العبرية، أما العبراني فيجيد اللغة العبرية كما يعني أن أجداده لم يختلطوا مع الأمم في الزواج كما فعل كثيرون من اليهود الآخرين الذين نزحوا من الأمم.
5- فريسي: أي المفرز والمخصص والمكرس لله. وإنه من الذين يعتنون بممارسة الطقوس والفرائض الدينية.
6- مضطهد الكنيسة: كان شاول غيورًا جدًا على ديانته، فلم يطق أن يرى أحدًا خارج الحظيرة اليهودية. لذلك عندما نشأت المسيحية وجذبت الكثيرين من أبناء جنسه اشتعلت نار الغيرة داخله فأقترف كثير من الآثام ضد الكنيسة وسجن واضطهد الكثير من المؤمنين وكان راضيًا بقتل استفانوس.
7- من جهة برّ الناموس كان بلا لوم: تمم كل مطالب الناموس من وصايا وتقليدات، “ولكن ما كان لي ربحًا، فهذا حسبته من أجل المسيح خسارة”.
“من جهة الختان مختون في اليوم الثامن،
من جنس إسرائيل من سبط بنيامين،
عبراني من العبرانيّين،
من جهة الناموس فرّيسي” [5].
من جهة إمكانياته للافتخار والاتكال على الجسد، فقد تمتع بكل الأمور التي كان اليهود يعتزون بها.
- يشير بهذه الظروف أنه ليس دخيلاً ولا وُلد من والدين دخيلين. ختانه في اليوم الثامن يتبعه أنه ليس بدخيل، وأنه من سلالة إسرائيل، وأن أبواه ليسا دخيلين[10].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- يقول: هويتي اليهودية ليست بأية حال مُلتبس فيها. فإنني لست من أسرة نصف يهودية. إني زرع حر، ابن راحيل المحبوبة التي من أجلها البطريرك (يعقوب) نفسه احتمل العبودية[11].
ثيؤدورت أسقف قورش
“من جهة الغيرة مضطهد الكنيسة،
من جهة البرّ الذي في الناموس بلا لوم” [6].
إنهم ليسوا أكثر غيرة منه، فقد كان غيورًا على حرفية الناموس وتقليدات آبائه والاعتزاز بأمته، بذل كل جهده لاضطهاد الكنيسة خدمة للناموس وإسرائيل. الأمر الذي لن يقدر أن ينكره أحد من بني أمته. أما عن حياته الشخصية فبحسب الناموس كان فريسيًا مدققًا في حرفية متشددة، يُحسب في أعين اليهود بارًا.
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم أن الرسول بولس بعد أن أعلن عن ما كان يمكنه أن يفتخر به، وهي أمور ليست باختياره، إذ لم يختر لنفسه أن يختتن في اليوم الثامن، ولا أن يكون من جنس إسرائيل الخ.، يتحدث عما هو باختياره، إذ كان يمكن أن يكون فريسيًا ولكن غير غيور علي الناموس كما فعل بعض رؤساء الكهنة. باختياره كان غيورًا جدًا فاضطهد الكنيسة، وسلك في البرّ وبلا لوم حسب الناموس.
- يقول حين كنت أغزو الكنيسة لم أكن مدفوعًا بحب الكرامة والمجد الباطل والغيرة مثل قادة اليهود، بل كنت ملتهبًا بالغيرة علي الناموس[12].
ثيؤدورت أسقف قورش
- قبل اهتدائه تمم بولس الناموس بطريقة رائعة، إنما خوفًا من الناس أو من الله نفسه، حتى حين كان يضاد الناموس في مفاهيمه الداخلية. لكنه كان ينفذ الناموس خشيه العقوبة وليس حبًا في البرّ[13].
القديس أغسطينوس
“لكن ما كان لي ربحًا،
فهذا قد حسبته من أجل المسيح خسارة” [7].
مع كل ما قد بلغه في أعين إسرائيل القديم، ومع كل ما تمتع به من امتيازات، أدرك الرسول أن هذا كله لن ينفعه شيئًا، وأنه عاجز عن تبريريه لدى الله. ألقى بهذا كله وحسبه خسارة ليربح السيد المسيح القادر وحده أن يبرره. من يلتصق بالحرف الناموسي يسقط في الفقدان والخسارة مادام يفقد المسيح مصدر حياته وشبعه. حسب الرسول الكرامة التي نالها من شعبه بسبب غيرته على حرفية الناموس خسارة لحقت بأعماقه.
- إنه يسأل إن كنت من جهة نقاوة سلالتي وغيرتي وعاداتي وطريقة حياتي قد فقت الكل، فلماذا أرفض كل هذه الكرامات إلا لأني وجدت أن أمور المسيح أفضل، وأفضل جدًا؟ لهذا أضاف: “لكن ما كان لي ربحًا، فهذا قد حسبته من أجل المسيح خسارة” [7]… أما نحن فلسنا حتى نستحق بالمال لنربح المسيح، بل نفضل الحرمان من الحياة العتيدة عن الصالحات التي للحياة الحاضرة[14].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- هذه الكلمات هي مديح للناموس. كيف هذا، هذا ما يعلنه هنا. لنصغِ بانتباه إلي كلماته عينها. لم يقل “الناموس خسارة” بل “حسبته خسارة“. ولكن عندما تحدث عن الربح لم يقل: “حسبته” بل قال: “كان لي ربحًا“… قديمًا كان ربحًا بسبب طبيعته، وأخيرًا صار هكذا بحسب رأيي.
يقول ماذا إذن، أليس الناموس هكذا (ربحًا)؟ إنه خسارة من أجل المسيح.
كيف كان الناموس ربحًا؟ ولم يُحسب ربحًا، بل كان هكذا.
تأملوا كيف كانت عظمته، إنه يجلب الناس الذين كانوا بهيمين في طبيعتهم ليحملوا شكل البشر.
لو لم يوجد الناموس ما كانت النعمة قد أُعطيت. لماذا؟ لأنه صار نوعًا من الجسر، فحيث كانت هناك استحالة للصعود إلى العلى من حالة الانحطاط الشديد جاء في شكل سلم، ولكن الذي صعد لم يعد بعد محتاجًا إلى السلم، دون أن يحتقر السلم، بل هو شاكر له. إذ رفعه إلى هذا الوضع، لم يعد يحتاج إليه…
هذا هو حال الناموس، فقد رفعنا إلى فوق، فكان لنا ربحًا، أما بالنسبة للمستقبل فحسبناه خسارة. كيف؟ ليس لأنه هو خسارة، وإنما لأن النعمة أعظم.
ذلك كما لو أن فقيرًا كان جائعًا، فإذ وجد فضة هرب منه الجوع، أما وقد وجد ذهبًا ولم يُسمح له بالاحتفاظ بالاثنين معًا، حسب الاحتفاظ بالفضة خسارة، مع أنها هي في ذاتها ليست هكذا. وإذ يلقيها يأخذ العملة الذهبية…
إذن الناموس ليس خسارة، وإنما هو هكذا بالنسبة للإنسان الذي يلتصق بالناموس ويهجر المسيح.
الناموس إذن خسارة إن قادنا بعيدًا عن المسيح، أما إذا بعث بنا إليه فهو ليس خسارة. لهذا قال: “من أجل المسيح خسارة“، فإن كان من أجل المسيح، فهو ليس خسارة بطبعه.
لكن لماذا لا يسمح لنا الناموس بالذهاب إلى المسيح؟ يخبرنا (الرسول) نفسه بأن الناموس قد أُعطي ليقودنا إلى المسيح. والمسيح هو مكمل للناموس وغاية الناموس. إنه يقودنا إليه إن أردنا. “لأن المسيح غاية الناموس” من يطيع الناموس يترك الناموس ذاته. إنه يسمح لنا بالذهاب إلى المسيح إن كنا نراعي هذا، وإلا فإنه لا يسمح لنا بذلك. نعم حقًا لقد حسبت كل شيء خسارة[15].
القديس يوحنا الذهبي الفم
“بل إني أحسب كل شيء أيضًا خسارة،
من أجل فضل معرفة المسيح يسوع ربي،
الذي من أجله خسرت كل الأشياء،
وأنا أحسبها نفاية لكي أربح المسيح” [8].
إذ التقى بالرب ورآه وفتح قلبه لسكناه، سقطت كل هذه الامتيازات كنفاية لا تستحق أن يشغل فكره بها. هذه النفاية لا يليق بالمؤمن أن يحتفظ بها، بل يلقيها خارجًا لتلهو بها الكلاب الضالة. ما كان يعتز به قبلاً صارت نفسه تمقته ليعتز بعار الصليب، وفقر المسيح، وذبيحته الفريدة القادرة أن تفتح أبواب السماء ليدخل كل مؤمن ويستقر في الأحضان الإلهية في مجد أبدي.
“من أجل معرفة فضل المسيح يسوع ربي” بعدما نهض شاول من سقطته بعد سماعه صوت ربنا يسوع عرف جيدًا أن كل ما كان له ربحًا هو في حقيقته خسارة من أجل معرفة المسيح يسوع.
“من أجله خسرت كل الأشياء وأنا أحسبها نفاية“… خسر شاول كل امتيازاته السابقة, وخسر وضعه كشخصٍ مقربٍ من القيادات الدينية, وخسر وضعه كقائدٍ غيورٍ مشهورٍ, وخسر وضعه بين أصدقائه ومعارفه، وخسر وضعه وسط أسرته المتدينة. خسر كل هذه الامتيازات وهو يعتبرها نفاية, والحقيقة أن القديس بولس مارس عملية استبدال، فاستبدل هذه الأرباح الوهمية المؤقتة الزائلة بأرباح حقيقية تبقى معه إلى الأبد.
- أقول: لماذا يعني هنا الناموس؟ أليس العالم صالحًا؟ أليست الحياة الحاضرة صالحة؟ لكن إن سحبتني هذه عن المسيح أحسب كل هذه الأشياء خسارة. لماذا؟ “من أجل فضل معرفة المسيح يسوع ربي“. فإنه إذ تشرق الشمس، يحسب الجلوس بجوار شمعة خسارة. فالخسارة تقوم علي المقارنة، علي السمو علي الأمور الأخرى… لاحظوا كيف يدعو كل شيء خسارة، ليس في ذاتها، وإنما من اجل المسيح[16].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- لقد قرأ (الرسول) أن إبراهيم إذ اعترف أنه تراب ورماد وجد نعمة الله في تواضعه الشديد (تك 27:18). وقرأ أن أيوب إذ جلس في المزبلة (أي 8:2) استرد كل ما فقده (أي 42-17:10). وقرأ في نبوة داود أن الله يقيم المسكين من التراب والبائس من المزبلة (مز 7:113)[17].
القديس أمبروسيوس
- إنني لست أهرب منها (وصايا الناموس) كأمور دنيئة، لكنني أفضل ما هو أسمي. فإنني إذ أتذوق الحبوب ألقي النفاية (غطاء البذور). لأن النفاية هي الجزء الكثيف من القش. إنها تحمل الحبوب، لكن ما أن تُجمع الحبوب حتى تُطرح النفاية[18].
ثيؤدورت أسقف قورش
- ليس من فقدان لطوباوية الفضيلة بسبب الألم، أيضًا ملذات الجسد لا تضيف شيئًا للمتعة[19].
- عظيم هو الربح الذي نقتديه بالصلاح، الذي هو الغنى بالله، وليس الغنى الزائل، إنما بالعطايا الأبدية حيث لا تحارب بل نعمة دائمة لا تنتهي[20].
القديس أمبروسيوس
- من منكم يتوقع أن يسمع صوت ملاك يقول له: “الآن علمت أنك خائف الله، فلم تمسك ابنك عني” (تك 12:22)، أو ابنتك أو زوجتك، ولم تمسك مالك أو كرامة العالم، أو طموح العالم، بل احتقرت كل الأشياء وحسبتها نفاية لكي تربح المسيح. لقد بعت كل شيء وأعطيت للفقراء واتبعت كلمة الله؟ (مت 21:19). من منكم تظنون أنه يسمع كلمة كهذه من الملائكة؟ لقد سمع إبراهيم هذا الصوت[21].
العلامة أوريجينوس
“وأوجد فيه، وليس لي بري الذي من الناموس،
بل الذي بإيمان المسيح،
البرّ الذي من الله بالإيمان” [9].
“لكي أربح المسيح وأوجد فيه” [8-9] أي اتحد به. بقوله: “أوجد فيه” يكشف أنه كان ضالاً لم يكن له مكان لراحته واستقراره، فوجده الرب يسوع ودخل به كما إلى أحشاء محبته ليستقر في بيته في أمان. فحين كان يظن أنه بار بحسب الناموس كان بالحقيقة تائهًا وضالاً، وإذ تمتع بالإيمان صار في المسيح مستقرًا ومختفيًا يرتدي بره برًا له. هذا هو الإيمان بالمسيح كعطية إلهية.
- إن كان ذاك الذي كان له برّه جرى نحو هذا البرّ الآخر، إذ برّه الخاص به هو كلا شيء، كم بالأولى الذين ليس لهم برّ يلزمهم أن يجروا إلى المسيح؟ حسنًا قال: “لي بري”، ليس الذي اقتنيه بتعبي وكدحي، وإنما وجدته من النعمة. إن كان الذي كان بهذا السمو العظيم قد خلص بالنعمة، فكم يليق بنا نحن. كان يبدو أنهم سيقولون بأن البٌر الذي يأتي بالتعب أعظم، لذا أظهر أنه نفاية أن قورن بالبرّ الآخر… وما هو البرّ الآخر؟ الذي من الإيمان بالله، أي يمنحه الله. هذا هو برّ الله. هذا بكليته هو هبة. هبات الله لا تقارن بالأعمال الصالحة التي بلا قيمة الصادرة عن جهادنا[22].
القديس يوحنا الذهبي الفم
“لأعرفه، وقوّة قيامته،
وشركة آلامه،
متشبهًا بموته” [10].
وضع الرسول القيامة قبل الآلام، لماذا؟ لأنه عاين السيد المسيح القائم أولاً في حياته ثم دخل إلى حلبة الآلام. أعلن له السيد المسيح عن أمجاد قيامته أولاً، ثم أخبر حنانيا عن آلام الرسول. لا يوجد فاصل بين لأعرفه وقوة قيامته لأن أهم شيء في معرفة المسيح هي قوة قيامته التي كانت لأجلنا نحن وليس لأجله.
“شركة آلامه“: بولس المتألم في سجنه وقيوده وهو بريء يعرف أن آلامه هذه ما هي إلا شركة مع المسيح المتألم.
عوض الانشغال بالحرفيات القاتلة والتي كان يظنها طريق البرّ، دخل في المسيح وحلّ المسيح فيه بالإيمان. بهذا صارت له معرفة فائقة. تعرف عليه، ويبقى ينهل من ينبوع المعرفة والحكمة ليدرك عمليًا قوة قيامته، ويختبر شركة آلامه، ويسعد بالتشبه بآلامه. لا يحتمل أن يفسد وقته بحوارٍ جدليٍ حول ما يخص الجسد، ويترك تمتعه الدائم بمعرفة متجددة لا تنقطع للسماوي القادر أن يبرر الجميع بدمه الثمين وببهجة قيامة المسيح برًا له (رو 4: 25 ؛ 1 كو 17:15).
- ماذا يعني “بالإيمان لأعرفه” بالإيمان نعرفه، وبدونه يستحيل معرفته. لماذا؟ وكيف؟ بالإيمان نعرف قوة قيامته… فإن كانت قيامة المسيح حسب الجسد تُعرف بالإيمان، كيف يمكن بالعقل إدراك ولادة كلمة الله؟ لأن القيامة أقل من الولادة… لأنه يُوجد للقيامة أمثلة كثيرة، أما الميلاد فلن يوجد له مثيل قط. لم يولد أحد قط من عذراء[23].
- هذه الأمور (الولادة من عذراء والقيامة) تهب البرّ، هذا ما يليق بنا أن نؤمن به أنه قادر أن يفعله، أما كيف كان قادرًا هذا ما لا نستطيع برهنته. فإنه بالإيمان ندخل في شركة آلامه، لكن كيف؟ إن لم نؤمن لا نقدر أن نحتمل الآلام. إن لم نؤمن بأننا إن كنا نتألم معه فسنملك أيضًا معه (2 تي 12:2) لما يمكننا أن نحتمل الآلام… من يؤمن أن المسيح قام يسلم نفسه للمخاطر، ويشاركه آلامه. إذ تكون له شركة مع ذاك الذي قام، مع ذاك الحي[24].
- الاضطهادات والأحزان والشدة يلزم ألا تجعلنا مضطربين، فإننا بها نتشبه بموته. وكأنه يقول إننا نتشكل بشبهه. وكما يقول في موضع آخر: “حاملين في الجسد كل حين إماتة الرب يسوع” (2 كو 10:4). هذا يأتي من الإيمان العظيم. فإننا لسنا نؤمن فقط أنه قام، وإنما حتى بعد قيامته له سلطان عظيم، فنرحل في ذات الطريق الذي سافر فيه، أي نصير إخوته في هذا الأمر أيضًا. كأنه قال: صرنا مسحاء في هذا الأمر! يا لعظمة كرامة الآلام! إننا نؤمن أننا نصير في شبه موته خلال الآلام! [25]
القديس يوحنا الذهبي الفم
“لعلّي أبلغ إلى قيامة الأموات” [11].
ما يشغل الرسول بولس على الدوام هو انطلاقه اليومي في طريق القيامة خلال شركته مع السيد المسيح في آلامه وصلبه، حيث ينعم بكرامة الشركة معه، والدخول إلى الأمجاد الأبدية.
قيامة الأموات التي يقصدها الرسول هنا هي القيامة الواحدة الوحيدة العامة الشاملة لجميع الأموات، الأبرار والأشرار، وهي تتم في لحظة واحدة يعقبها الجزاء والعقاب.
“لعلي” التي استخدمها الرسول لا يقصد منها الشك في أمر قيامته، لكنه يقصد بها صعوبة الوصول إلى هذا الأمر. إنه يحتاج إلى جهاد العمر كله.
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم أن كل البشر سيقومون، فماذا يعني الرسول بقوله: “أبلغ إلى قيامة الأموات“؟ [البعض بالحق يقوم ليُكرم، وآخرون لكي يُعاقبوا… ماذا يعني ببلوغ القيامة التي تشير إليها هنا؟ القيامة التي تقود إلى المسيح نفسه.]
- هذا لأن بولس لا يزال يثابر في شركة الآلام التي كادت أن تكون علي شبه الموت نفسه حتى يقول: “لعلي أبلغ قيامة الأموات“. لم يكن لديه أدنى شك أنه يبلغ قيامة الأموات. ولكن ما هو بلوغ قيامة الأموات؟ إنها الحياة الكاملة التامة لكل شخص، والنابعة عن شركة آلام المسيح بكل وسيلة، والتي تتجلى بوضوح في نهاية الزمن عندما تتحقق قيامة الأموات، أي عندما يعود الأموات إلى الحياة[26].
ماريوس فيكتورينوس
- يقودنا نشيد الأناشيد الآن إلى الرغبة في التفكير بعمق في الحُسن العظيم. لكن تتألم نفوسنا عندما نعرف أنه لا يمكننا الإلمام بهذا الحُسن. كيف لا يأسف أي شخص عندما يكتشف أن الارتقاء إلى هذا الحُسن صعب المنال، إذ ترتفع النفس الطاهرة النقية بواسطة الحب لكي تشارك في هذا الحُسن، ولكن يظهر أنها للآن لم تتمكن من الحصول على ما تبحث عنه، كما يقول القديس بولس (في 11:3)[27].
القديس غريغوريوس النيسي
2. سباق لبلوغ الكمال
“ليس إني قد نلت أو صرت كاملاً،
ولكني أسعى لعلّي أُدرك الذي لأجله أدركني أيضًا المسيح يسوع” [12].
سرّ قوة الرسول بولس إدراكه عدم بلوغه بعد الكمال، لا بروح اليأس والتهاون، وإنما بالسعي والجهاد مدركًا أن السيد المسيح نفسه يطلبه ويسعى إليه لكي يفديه ابنا له. بينما يود أن يدرك المسيح يعلم تمامًا أن المسيح أدركه. فغيرة الرسول على خلاص نفسه لا تقارن بغيرة السيد المسيح على اقتنائه له.
“أسعى لعلي أدرك” لم ينل بعد الرسول المكافأة، ولا تمتع بعد بكمال المجد، ولا أنهى بعد سباقه، لكن ما يسنده أن السيد المسيح هو العامل فيه بنعمته. يبدأ معه، ويسير معه في طريق جهاده، ويكون هو غايته. فالزمن مقصر، والجهاد طويل، لكن الإمكانيات التي له جبارة وقديرة، لأنها إمكانيات عمل الله فيه. إنه تعبير واضح وقوي عن حياة الجهاد “الذي لأجله أدركني أيضًا المسيح يسوع“. لقد أدرك السيد المسيح شاول الطرسوسي وهو في طريقه إلى دمشق ممتطيًا جواده، متكبرًا متعجرفًا مملوءً غضبًا وحقدًا ليكمل معصيته باضطهاد يسوع المسيح في شخص أولاده. أدركه فهرب الشر من داخله وفر الكبرياء واختفى الحقد.
- يوجد شكلان للكمال، شكل عادي، وآخر علوي. واحد يُقتني هنا، والآخر فيما بعد. واحد حسب القدرات البشرية، والآخر خاص بكمال العالم العتيد، أما الله فعادل خلال الكل، حكيم فوق الكل، كامل في الكل[28].
القديس أمبروسيوس
- نحن جميعًا الآن غير كاملين، هناك سنكون كاملين حيث يصير كل شيء كاملاً. يقول الرسول بولس: “ليس إني قد نلت أو صرت كاملاً” [12]، فهل يجسر أحد أن ينسب لنفسه الكمال؟ نعم بالأحرى لندرك عدم كمالنا، فننال الكمال[29].
القديس أغسطينوس
- يليق بالبشر أن يحتملوا الصراع كله، فيأتوا إلى قيامته. ولعله يقصد إن ظننت إني متأهل لبلوغ القيامة المجيدة، وهي موضوع ثقة علي شبة قيامته، فإني احتمل كل الصراعات. بهذا أكون قادرًا أن أنال القيامة، وأن أقوم في مجدٍ!.. حياتي لا تزال بعيدًا عن النهاية. لازلت بعيدًا عن الإكليل، لازلت أجري وأثابر للبلوغ إلى الهدف. إنه لم يقل “إني أجري” بل يقول “أسعى“. فانتم تعلمون بأية غيرة يسعى الإنسان[30].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- ينبغي أن تتغيّر نفوسنا وتتحوّل من حالتها الحاضرة إلى حالة أخرى – إلى طبيعة إلهيّة، وتصير خليقة جديدة بدلاً من العتيقة، أي تصير صالحة متحننة وأمينة بدلاً كونها في المرارة وعدم الإيمان. وهكذا إذ تصير مناسبة ولائقة تعود وتسكن في الملكوت السماوي. لأن بولس المغبوط يكتب هكذا عن تغييره الذي به أدركه المسيح، قائلاً: “ولكنّي أسعى لكي أُدرك الذي لأجله أدركني أيضًا المسيح يسوع” [12]. كيف أدركه الله إذن؟ يحدث هذا مثلاً حينما يمسك طاغية مجموعة من الأسرى ويسوقهم قدّامه، ثم بعد ذلك يدركهم الملك الحقيقي ويخلّصهم منه. هكذا حين كان بولس تحت سيادة وتأثير روح الخطية الظالم، فإنه كان يضطهد الكنيسة ويتلفها، لكن لأنه كان يفعل هذا عن غيرة لله وبجهل… لهذا فإن الله لم يهمله بل أدركه، إذ أضاء حوله الملك السماوي الحقيقي[31].
- يعلّمنا الروح التواضع الحقيقي الذي لا نستطيع الآن أن نصل إليه حتى بالتغصّب، لكن يعلّمنا أن نثمر بالحق أحشاء رأفات (كو 3: 12) وشفقة، وكل وصايا الرب بدون تعب أو تغصّب، كما يعرف الروح نفسه كيفيّّة ذلك حين يملأنا بثماره[32].
القديس مقاريوس الكبير
- إني أعجب من أولئك الذين يدعون لأنفسهم الكمال، أولئك الغنوسيين، الذين يُهيأ لهم أنهم أفضل من الرسول. إنهم مغرورون ومفتخرون بينما يقول الرسول نفسه: “ليس إني قد نلت أو صرت كاملاً…” ومع هذا يحسب نفسه كاملاً لأنه قد انفصل عن حياته الأولى، ساعيًا بلا ملل نحو حياة أفضل، غير مدعٍ الكمال في المعرفة، لكنه كان ساعيًا نحو الكمال. هنا أيضًا يضيف: “فليفتكر هذا جميع الكاملين”، واصفًا الكمال بجلاء أنه ترك للخطية، وتجديد في الإيمان الكامل وحده، نازعين من ذاكرتنا خطايانا السابقة[33].
القديس إكليمنضس السكندري
“أيها الإخوة أنا لست أحسب نفسي أني قد أدركت،
ولكني أفعل شيئًا واحدًا،
إذ أنا أنسى ما هو وراء،
وامتد إلى ما هو قدّام” [13].
مع عظمة ما ناله الرسول، لكن بمقارنته بما يعده له الرب من أمجاد يحسب كل ما ناله كلا شيء. ففي كل يوم يتمتع الرسول ببركات كأنها جديدة، فيصرخ: هوذا الكل قد صار جديدًا”. ينسى الماضي لأنه مشغول بحاضرٍ مجيد، إن قورن بما يناله غدًا يصير في نظره كلا شيء. إنه في سباق دائم بروح الرجاء المفرح في الرب.
وهب الله الإنسان الاشتياق المستمر للنموّ والتقدّم، فينسى ما هو وراء ليمتد إلى ما هو أعظم. فإن كان قد تمتّع بمجد الكواكب يشتهي خلال النعمة الإلهية أن يبلغ مجد الشمس، إذ يقول الرسول: “إن نجمًا يمتاز عن نجمٍ في المجد” (1 كو 15: 41)، كما قيل “حينئذ يضيء الأبرار كالشمس في ملكوت الله” (مت 13: 43). هذا وفي العهد القديم جاء في الشريعة بأن “كل واحدٍ يسير في المحلّة على حسب علامته (رايته)” (عد 2: 2).
“ولكني أفعل شيئًا واحدًا… ” [13]. يركز المتسابق كل أفكاره ويجمع كل قواه للوصول إلى الهدف بأقصى سرعة. الذي يركز على شيءٍ واحدٍ يحقق نجاحًا ما أفضل من الذي ينشغل بأمور كثيرة، فهو لا يحقق نجاحًا يذكر. يقدم بولس الرسول هنا صورة مستعارة من سباق عربات الخيل في القرن الأول الميلادي. وكأن المتسابق لابد أن يكون حاصلاً على الجنسية الرومانية. وهكذا نحن المتسابقون يا أحبائي جميعًا قد خرجنا من جرن المعمودية وحصلنا على الجنسية السمائية.
“إذا أنسى ما هو وراء“… أرفض حتى النظر إلى مكان الخطية. النظر إلى الماضي قد يعطل مسيرة الإنسان تجاه الملكوت, فعندما ينظر الإنسان إلى ماضيه ويفتخر بأعماله الصالحة ويعتمد عليها ويشعر إنه إنسان كامل يصاب بالشيخوخة الروحية. قد ينظر الإنسان إلى ماضيه بما فيه من أخطاء وخطايا ويذكر تفصيلات هذه الخطايا فيتعثر فيها ثانية.
“وامتد إلى ما هو قدام“، أي أركز أفكاري وجهدي في الواجب المُلقى على عاتقي ومسئوليتي تجاه إلهي وكنيستي.
في حديثه عن الزواج والبتوليّة يقول القديس أغسطينوس أننّا لا ندين الزواج، فمن تزوّج لا يعود ينظر إلى الوراء حين كان غير متزوّج، بل يتطلّع إلى ما هو قدّام ليحيا بفرح في حياته الزوجيّة مقدّسًا. وأما البتول فإنه إذ جعل الزواج خلفه لا يعود ينظر إلى الوراء، بل يتطلّع إلى الأمام[34].
- إذ تطلّعت امرأة لوط إلى خلف صارت جامدة. إلى حيثما بلغ الشخص فليخف لئلاّ يتطلّع إلى الوراء من تلك النقطة. يلزمه أن يسير في الطريق، فليتبع المسيح[35].
- بقي الرجاء الذي أظن أنه يقارن بالبيضة. فإن ما نرجوه لم يتحقّق بعد، ذلك مثل البيضة التي لم تصر بعد كتكوتًا… فالرجاء يحثّنا على ذلك: أن نستخفّ بالأمور الحاضرة وننتظر الأمور العتيدة. “ننسى ما هو وراء“، ومع الرسول “نمتد إلى ما هو قدّام“[36].
القديس أغسطينوس
- ليس للرب نهاية، ولا يمكن إدراكه بصورة كاملة؛ ولا يجرؤ المسيحيّون أن يقولوا “لقد أدركنا” [13]، لكنهم يظلّون يسعون بتواضعٍ ليلاً ونهارًا[37].
القديس مقاريوس الكبير
- إذ يستحيل علي الذين يصعدون ويبلغون القمة أن يتحاشوا الشعور بالدوار، لهذا يحتاجون ليس فقط أن يتسلقوا صاعدين، بل وأن يكونوا حذرين عند بلوغهم الذروة. الحذر شيء وفقدان توازن رؤوسنا عندما نرى المسافة التي تسلقناها شيء آخر، فلنلاحظ ماذا تبقي لنا أن نصعد ونهتم بهذا[38].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- تنقسم الخليقة إلى قسمين واضحين: أحدهما حسًي ومادي والآخر عقلاني وروحي… أما القسم الثاني من الخليقة وهو العقلاني الروحي، فلا قيود عليه وليس له حدود ولا يحصره أي شيء. وإضافة إلى ذلك تمتاز الطبيعة الروحيّة بأن لها ناحيتين:
أولاً: يظل الخالق (الغير مخلوق) ثابتًا دائمًا كما هو. لذلك فهو لا يسمح أن يتغيّر الحق نقصًا أو زيادة.
ثانيًا: أما الناحية الثانية فهي تخص الخليقة، وتنظر دائمًا إلى بدايتها والهدف الأول لها. بالمشاركة فيما وراء الحدود.
تظل الخليقة ثابتة في الخير، ومن وجهة نظر مُعيّنة، فهي خُلقت بينما تتغيّر باستمرار إلى الأحسن في نموها وكمالها. فهي ليست محدودة، ولا يمكن أن نوقف نموّها إلى الأحسن، غير أن حالتها الراهنة من الحُسن حتى ولو كانت عظيمة وكاملة، إلا أنها بداية فقط إلى مرحلةٍ أحسن وتفوّق الحدود. وهكذا فإن كلمات الرسول تتحقّق: “أيها الاخوة إني لا أحسب نفسي أني قد أدركت. ولكني أفعل شيئًا واحدًا إذ أنا أنسى ما هو وراء وامتد إلى ما هو قدّام” (في 3: 13). إن الخير الذي هو أعلى مما قد حصلنا عليه يشد انتباه الذين ساهموا فيه، ولا يسمح لهم بالنظر إلى الماضي، لأنهم يتمتّعون بما هو جدير، أما الأشياء الدنيا فقد مُسحت من ذاكرتهم[39].
- عندما كتب الرسول العظيم بولس إلى كنيسة كورنثوس عن رؤيته السماوية، لم يكن متأكدًا إذا كان قد رآها بروحه فقط أم بجسده وروحه معًا. وشهد قائلاً: “أيها الإخوة أنا لست أحسب نفسى أنى قد أدركت. ولكنى أفعل شيئًا واحدًا إذا أنا أنسى ما هو وراء وأمتد إلى ما هو قدام” (في 13:3). يتضح من هذا أن بولس وحده كان يعرف ما يوجد وراء السماء الثالثة (لأن موسى نفسه لم يذكرها عندما تكلم عن خلق الكون وأصله). استمر بولس في الارتفاع ولم يتوقف بعدما سمع عن أسرار الفردوس التي لا يُنطق بها. ولم يسمح للسمو والارتفاع الذي وصل إليه أن يحدّ من رغبته هذه وأكد بولس أن ما نعرفه عن الله محدود لأن طبيعة الله أبدية وأسمى مما نعرفه وليس لها حدود. أمّا من يتحدون مع الله فتنمو وتزداد شركتهم معه باستمرار في الحياة الأبدية، ويتفق هذا مع كلمات السيد المسيح: “طوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله” (مت 8:5). إنهم سوف يعرفون الله بقدر ما تسمح به عقولهم من فهم، إلا أن الله الغير محدود والغير مدرك يبقى دائمًا بعيدًا عن الفهم. إن مجد الله العظيم جدًا لا حدود له كما يشهد بذلك النبي (مز 5:145، 6). يبقى الله دائمًا كما هو عندما نتطلع إليه ونفكر في علو سمائه. هذا ولقد حاول داود العظيم بكل قلبه أن يرتفع بفكره إلى الآفاق العليا. وكان دائمًا يتقدم من قوة إلى قوة (مز 7:84). وصرخ إلى الله: “أما أنت يا رب فمتعالٍ إلى الأبد”. (مز 8:92). بذلك يتضح أن الشخص الذي يجرى نحو الله يصبح أعظم كلما ارتقى إلى أعلى وينمو باستمرار في الخير حسب مستواه في الارتفاع. ويحدث هذا في جميع العصور والله هو الأعظم ارتفاعًا الآن وإلى الأبد ويظهر باستمرار هكذا لمن يقتربون منه فهو أعلى وأسمى من قدرات كل من يرتفعون[40].
القديس غريغوريوس النيسي
- لكن ماذا تعني عبارة: “لأننا نسعى وراء أفكارنا (شرورنا)”؟ إن الذين بدأوا بوضع أياديهم على المحراث وكذلك امتدوا إلى ما هو قدام لكي يزرعوا ونسوا ما هو وراء، بهذا أعطوا ظهرهم للأعمال الشريرة. لكن إذا وضع أحد يده على المحراث ونظر إلى الوراء فإنه في هذه الحالة يسعى وراء شروره، لأنه يسعى مرة أخرى إلى الأشياء التي كان قد تحول عنها، ويجئ مسرعًا إلى الخطايا التي تركها.
كل الذين بعدما سمعوا دعوة الرب للتوبة تحولت حياتهم إلى الفساد، سواء كانوا مسيحيين قد تركوا الحياة الوثنية، أو مؤمنين قد تقدموا في الإيمان، ثم بعد ذلك سقطوا ورفضوا التوبة، فإنهم لن يستطيعوا أن يقولوا سوى تلك الكلمات: “لأننا نسعى وراء أفكارنا وكل واحدٍ يعمل حسب عناد قلبه الردئ”[41].
- الإنسان البار ينسى ما هو وراء ويمتد إلى ما هو قدام؛ أما الإنسان الذي يوجد في وضع مضاد للإنسان البار، فإنه سوف يتذكر ما هو وراء، ولن يمتد إلى ما هو قدام. بتذكره لما هو وراء يرفض سماع السيد المسيح القائل: “فلا يرجع إلى الوراء ليأخذ ثوبه”؛ يرفض سماع السيد المسيح القائل: “تذكروا امرأة لوط”؛ يرفض سماع السيد المسيح القائل: “إن الذي يضع يده على المحراث وينظر إلى الوراء لا يصلح لملكوت الله”. وفي العهد القديم مكتوب أيضًا أن الملائكة قالوا للوط بعد خروجه من سدوم: “لا تنظر إلى ورائك ولا تقف في كل الدائرة. اهرب إلى الجبل لئلا تهلك” (تك 19: 17): “لا تنظر إلى ورائك” امتد دائمًا إلى ما هو قدام؛ لقد تركت سدوم، فلا تنظر إذًا إليها، لقد تركت الشر والخطية فلا تعود بنظرك إليهما؛ “ولا تقف في كل الدائرة”. فإنه حتى إذا أطعت الأمر الأول “لا تنظر إلى ورائك”، هذا غير كافِ لإنقاذك إن لم تطَع الأمر الثاني أيضًا: “ولا تقف في كل الدائرة”.
إن بدأنا التقدم والنمو الروحي، يجب علينا ألا نتوقف في حدود دائرة سدوم، بل نتخطى تلك الحدود ونهرب إلى الجبل. إذا أردت ألا تهلك مع أهل سدوم فلا تنظر أبدًا إلى ما هو وراء، ولا تقف في دائرة سدوم، ولا تذهب إلى أي مكان آخر سوى الجبل، لأنه هناك فقط يمكننا أن نخلص؛ الجبل هو ربنا يسوع الذي له المجد والقدرة إلى أبد الآبدين آمين[42].
العلامة أوريجينوس
- بالحق كل الحياة البشرية تقوم هكذا، لا تقتنع بما قد عبر، ولا تقتات علي الماضي كما علي المستقبل. إذ كيف يكون الإنسان في حال أفضل لو أن معدته كانت ممتلئة بالأمس بينما لا يجد اليوم ما يشبع جوعه كما يليق؟ بنفس الطريقة فإن النفس لا تربح شيئًا بفضيلة الأمس ما لم يتبعها سلوك لائق اليوم[43].
القديس باسيليوس
“أسعى نحو الغرض،
لأجل جعالة دعوة الله العُليا في المسيح يسوع” [14].
يرى الغرض بكل وضوح، وتوجد أمامه علامة في سباقه لا تنحرف عينا قلبه عنها. فمن أجل مكافأة دعوة الله له في المسيح يسوع لا يمكن للأحداث الزمنية بمباهجها أو أحزانها ولا الأرض بكل جمالها ومتاعبها أن تسحب قلب الرسول عن السماء، إذ ينعم بعربونها داخله، وهو يجري مع كل نسمة من نسمات عمره ويحمل معه كثيرين في الرب، ليجد الكل موضعًا في المسكن الأبدي.
سباقه هذا هو دعوة عليا (غل 4: 26؛ كو 3: 1)، دعوة سماوية (عب 3: 1). أما الجعالة فهي إكليل البرّ (1 كو 9: 24؛ 2 تي 8:4)، إكليل الحياة (1 بط 4:5)، إكليل مجد لا يفنى”.
“أسعى نحو العلامة mark ” وكما يقول آدم كلارك “أسعى نحو الخط”، هذا يشير إلى الخطوط البيضاء التي على أرضية الاستاد Stadium من نقطة الابتداء حتى موضع الهدف، الذي يليق بالذين يركضون أن يثبتوا أنظارهم عليها، فإذا خرج أحدهم عن الخط يحسب جريه لاغيًا وغير قانوني، وذلك كي لا يتجمهروا في الطريق بل يلتزم كل منهم أن يسلك في حدود الخطين الموضوعين له.
“أسعى نحو الغرض لأجعل جعالة دعوة الله العليا في المسيح يسوع“. الغرض الذي أسعى نحوه هو المسيح. إن كان السيد المسيح نفسه هو الطريق وهو المكافأة، فإن المكافأة نفسها تدعوني للركوض كي أقتنيها. عندما قيل لديوغنيس Diogenes الكلبي (أحد الفلاسفة اليونانيين يؤمنون بأن الفضيلة هي ضبط النفس): “لقد صرت شيخًا مسنًا فلتسترح من أتعابك” أجاب: “إن كنت قد ركضت في الميدان كل هذا الزمان فهل أتلكأ في السير وقد اقتربت من النهاية، أما يليق بي أن أسرع إلى الأمام بالأكثر؟”
يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم علي تعبير “في المسيح يسوع“، موضحًا تواضع الرسول بولس، فهو يعلم يقينًا أن المكافأة هي في السماء حيث البهاء، والتي لن نبلغها إلا في المسيح يسوع.
- هذا الألم المؤقت البسيط سيتحول إلى مكافأة كرامة بهية أبدية[44].
الشهيد كبريانوس
- رقص بولس روحيًا عندما امتد إلى قدام من أجلنا ونسي ما هو وراء، واضعًا هدفه قدامه، مناشدًا نوال مكافأة المسيح… هذا الرقص يصحبه الإيمان وترافقه النعمة[45].
القديس أمبروسيوس
- كان يركض على الأرض، والمكافأة متدليّة من السماء. إذن ركض على الأرض، وبالروح صعد. انظروا فإنه يبسط نفسه إلى خارج، انظروا إنه متعلّق بالمكافأة[46].
القديس أغسطينوس
- إن كنتَ تنحني إلى أسفل تسقط وتصير خائرًا. تتطلع إلى فوق حيث توجد المكافأة، فإن رؤية المكافأة تزيد من عزيمة إرادتك. الرجاء في نوال المكافأة يجعلك لا تشعر بالأتعاب، وتجعل المسافة قصيرة. وما هي هذه المكافأة؟ ليست إكليل سعف، فماذا هي؟ ملكوت السماوات، الراحة الأبدية، المجد مع المسيح، الميراث، الأخوة، ربوات الأشياء التي لا يمكن تسميتها. إنه يستحيل وصف جمال المكافأة. من ينالها هو وحده يدركها ويتقبلها. إنما هي ليست من ذهب، ولا مرصعة بالجواهر. إنها أثمن بكثير. يُحسب الذهب وحلاً إن قورن بتلك المكافأة. وتُحسب الحجارة الكريمة قرميدًا إن قورنت بجمالها. إن كان لك هذه المكافأة وأخذت طريق رحيلك إلى السماء تستطيع أن تسير هناك بكرامة عظيمة. الملائكة تكرمك حين تحمل المكافأة، وستلتصق بهم بكل ثقة[47].
القديس يوحنا الذهبي الفم
“فليفتكر هذا جميع الكاملين منّا،
وإن افتكرتم شيئًا بخلافه،
فالله سيُعلن لكم هذا أيضًا” [15].
هذا الأمر يتفق فيه جميع المؤمنين الحقيقيين الذين بلغوا الكمال، أو النضوج، ولم يعودوا بعد أطفالاً في حياتهم الروحية وسلوكهم المسيحي (1 كو 14: 20) والذين لا يثقون بعد في الجسد. هؤلاء قد وضعوا قلوبهم على الحياة الأبدية، إنهم يسلكون حسب قوانين السباق (2 تي 5:2)، فيتمتعون بالنصرة الكاملة والإكليل الأبدي.
هكذا يليق أن نقتدي بهم، ونسلك على منوالهم فنركض قانونيًا كأناس مجاهدين ناضجين، فلا نكون أطفالاً في الفهم بل رجالاً لنا خبرة عميقة (1 كو 6:2)، ننطق بالحكمة بين الكاملين، الناضجين في المعرفة المسيحية، حتى نبلغ الإنسان الكامل (أف 13:4)، نبلغ إلى النضوج المسيحي (عب 15:5).
“فليفتكر هذا“… ذكرت في الرسالة نحو عشر مرات, وعدد عشرة يعبر عن الكمال وأيضا المسئولية. مسئوليتنا أن يكون لنا الفكر الصحيح، فكر المسيح.
“جميع الكاملين فينا” المقصود بالكاملين هنا هم الناضجون روحيًا، الذين يجتهدون لكي يصلوا إلى حياة الكمال، وقد تعدوا مرحلة الطفولة الروحية.
“وإن افتكرتم شيئا بخلافه” لو انشغلتم بأمور أخرى ليست شريرة ولكنها تعطلكم في السباق الروحي، فماذا يكون الحل؟
“فالله سيعلن لكم هذا“: فإن الله سيعلن لكم الحق بروحه الساكن فيكم.
- أي شيء هو “هذا“؟ إنه يلزمنا أن ننسي ما هو وراء. لذلك فإن من هو كامل لا يحسب نفسه كاملاً…
“الله سيُعلن لكم“: أنظروا كيف ينطق بهذا التواضع! الله سيعلمكم، أي يحثكم وليس يعلمكم، لأن بولس يعلم، لكن الله يقودهم. وهو لم يقل “سيقودكم” بل “سيعلن لكم” كمن يُعلن لهم خلال جهلهم. نطق بهذا ليس بخصوص التعاليم (العقائد)، وإنما بخصوص كمال الحياة وعدم ظننا في أنفسنا أننا كاملون، لأن من يحسب نفسه أنه يدرك كل شيء لا يقتني شيئًا[48].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- يتحدث الرسول عن نفسه أنه كامل وغير كامل. فيحسب نفسه غير كاملٍ، متطلعًا كم من برّ لا يزال ينقصه، لكنه كامل حيث لا يستحي من أن يعترف بعدم كماله وأنه يتقدم لكي يبلغ الكمال[49].
القديس أغسطينوس
“وأمّا ما قد أدركناه فلنسلك بحسب ذلك القانون عينه،
ونفتكر ذلك عينه” [16].
لقد خشي الرسول على نفسه كما عليهم أنهم بعد أن قطعوا شوطًا ضخمًا في الركوض يفقدون ما تمتعوا به بعد استمراريتهم في ذات قوانين الركوض والسباق، فينحرفوا عن الخط الأبيض الموضوع لهم. فيليق بهم أن يفتكروا في هذا الخط وتتركز أنظارهم على المكافأة المجيدة المقدمة من الله بالمسيح يسوع.
“وأما ما قد أدركناه“، أي ما قطعناه من مشوار الحياة الروحية… ما سلكنا فيه في أمور روحية… وما وصلنا إليه بصعوبة بالغة، فلنحرص عليه.
“فلنسلك بحسب ذلك القانون“، أي لنسير جميعًا في درب الملكوت في صفوف منتظمة يحكمنا قانون السلوك الروحي، قانون الجهاد الروحي.
“ونفتكر ذلك عينه“: نسير أيضًا بنفس الفكر حتى يكون لنا الفكر الواحد في الجهاد الروحي, كل حسب قامته، وكل حسب جهده.
- يقول: لنتمسك بما نجحنا في نواله: الحب والاتفاق والسلام… انظروا فإنه يود أن يجعل من وصاياه قانونًا لنا، والقانون لا يُضاف إليه شيء ولا يُنقص منه، لأن هذا يفسد كقانون. “بحسب ذلك القانون عينه“، أي بذات الإيمان وفي داخل حدوده[50].
القديس يوحنا الذهبي الفم
3. المكافأة: مواطنة سماوية!
“كونوا متمثّلين بي معًا أيها الاخوة،
ولاحظوا الذين يسيرون هكذا
كما نحن عندكم قدوة” [17].
يحسب الرسول نفسه أنه هو الخط الأبيض في أرضية السباق، فيلزمهم جميعًا أن يركضوا معًا في حدود الخط، مقتدين به وبالخدام الذين معه مثل تيموثاوس وأبفرودتس. قدم نفسه والخدام الأمناء أمثلة حية وقدوة [16]. الآن يحذرهم من المعلمين الكذبة الأشرار [18-19]. إنهم يحملون اسم المسيح لكنهم أعداء صليبه. ما يشغلهم هو التهود والتبرير بالطقوس اللاوية، لا بذبيحة المسيح. في تعاليمهم يؤمنون بالصليب، لكن في حياتهم يرفضونه ويقاومونه.
“كونوا متمثلين بي“: نافسوا بعضكم بعضًا في الإقتداء بالرسول بولس, لماذا؟
أ- يود أن يوجه أنظارهم إلى المبادئ الروحية التي يكرز بها, ولاسيما إن الإنجيل لم يكن قد كُتب بعد، لذلك يضع الرسول أمامهم الأناجيل المُعاشة المقروءة، متمثلة فيه هو والقادة الروحانيين.
2- لأنه هو شخصيًا يتمثل بالمسيح.
“لاحظوا الذين يسلكون هكذا كما نحن”: توجد أمور روحية يجب أن نلاحظها جيدًا ونتأملها, وتوجد أمور جسدية يجب أن نغض النظر عنها. هذه تبني وتلك تهدم. وهنا غيَّر بولس الحديث عن نفسه إلى الحديث عن المجموعة، وكذلك غيَّر الرسول الصورة الإستعارية من صورة السباق إلى صورة المسيرة.
- قال قبلاً: “احذروا الكلاب“، إذ أراد أن يقودهم بعيدًا عنهم، الآن يحضرهم إلى أولئك الذين يود أن يتمثلوا بهم. إنه يقول: إن أراد أحد ان يتمثل بي، إن رغب أحد في أن يسلك ذات الطريق أن يلتفت إليَّ. فإني وإن كنت غير حاضر، لكنكم تعرفون أسلوب طريقي، أي سلوكي في الحياة. فإنه لم يعلمهم فقط بالكلمات، وإنما أيضًا بالأعمال. وكما في خورس (الموسيقي) وفي الجيش يلزم أن يتمثلوا بالقائد فيتقدموا. كان الرسل مثالاً يُحفظ في شكل نموذجي. لاحظوا كيف كانت حياتهم دقيقة، فيُحسبون نموذجًا ومثالاً وكقوانين حية. ما قالوه في كتاباتهم أعلنوه للكل بأعمالهم. هذا هو أفضل وسائل التعليم، بهذا يقدر المعلم أن يحمل تلميذه. أما إن تحدث كفيلسوف، بينما في تصرفاته يسلك في اتجاه مضاد، فلا يحسب بعد معلمًا. فالفلسفة النظرية سهلة حتى علي التلميذ، لكن الحاجة إلى التعليم والقيادة بالأعمال. هذا يجعل المعلم محترمًا ويهيئ التلميذ للخضوع بالطاعة[51].
القديس يوحنا الذهبي الفم
لأن كثيرين يسيرون ممّن كنت أذكرهم لكم مرارًا،
والآن أذكرهم أيضًا باكيًا،
وهم أعداء صليب المسيح” [18].
العجيب أن السيد المسيح يعلن أن قطيعه صغير (لو 32:12)، بينما المعلمون الكذبة كثيرون. هؤلاء يذكرهم الرسول باكيًا بمرارة، حزنًا على هلاكهم، وفي مرارة من أجل خداعهم للبسطاء.
من هؤلاء الذين يذكرهم الرسول باكيًا؟
1- المتهودون… وكيف صاروا أعداء الصليب؟
أ- نادوا بضرورة الالتزام بأعمال الناموس ولا سيما الختان.
ب- يريدوا أن يقيموا حاجزًا بين اليهود والأمم.
2- الغنوسيون… وكيف صاروا أعداء الصليب؟
أ- اعتقدوا أن المادة شر وخطية, وبما أن الجسد مادي، فإنه سيظل في شره وخطيته.
ب- بما أن الجسد سيظل في شره، لذلك دعوا أتباعهم إلى ارتكاب كافة الخطايا والشرور والآثام وترك العنان للجسد.
ج- نادوا بأن الإنسان كما يجرب الفضيلة وحياة الصلاح يجب أن يجرب الرذيلة وحياة الخطية.
“الذين نهايتهم الهلاك الذين إلههم بطنهم،
ومجدهم في خزيهم،
الذين يفتكرون في الأرضيات” [19].
“نهايتهم الهلاك“: يحزن الرسول بولس على هلاكهم الأبدي، وقد اتسموا بصفات خطيرة:
أ. “إلههم بطنهم“: يقيمون من بطونهم آلهة يتعبدون لها، فلا يعيشون من أجل الأبدية، بل يشغلهم شبعهم ولذة الطعام. يفضلون شهوة الطعام على وصية الإنجيل، ويبحثون عن لذة المأكولات المختلفة ولا يشبعون، والمعتاد إن شيطان النهم يتبعه شيطان الزنا.
يرى العلامة أوريجينوس أن الإنسان في حاجة إلى ختان التذوق، حتى إذا أكل أو شرب، يأكل ويشرب لمجد الله (1 كو 31:10)، أما الإنسان غير المختون التذوق فإن إلهه بطنه، يكرس حياته للذة التذوق[52].
- ما هو شكل ذي الأربعة أرجل؟ رأسه منحنية نحو الأرض، يتطلع نحو بطنه، ويطلب ما هو لها. أما أنت يا إنسان فرأسك تتجه إلى السماء، عيناك تنظران إلى فوق. لذلك عندما تحط من نفسك بشهوات الجسد، وتصير عبدًا لبطنك وإلى الأجزاء السفلية، تقترب من الحيوانات دون سبب، وتصير كواحدٍ منهم[53].
القديس باسيليوس الكبير
- لأننا لا نعترف أنه يوجد إله آخر، فلا نفعل كالنهمين بالنسبة للبطن الذين آلهتهم بطونهم (أف 3: 19)، ولا كمحبي المال بالنسبة للفضة، ولا كالطامعين بالنسبة لعبادة الأوثان.
يجب علينا ألا نقيم إلهًا، ولا أن نؤله شيئًا من الذي يؤلهه الناس، ولكن لنا إله الذي هو فوق كل شيء، الله الذي هو “إله وأب واحد للكل، الذي علي الكل، وبالكل، وفي كلكم” (أف 4: 6).
وبما أن شغلنا الشاغل هو حب الله، إذ يربطنا الحب بالله، فسنقول: “ها قد أتينا إليك لأنك الرب إلهنا”[54].
- لذلك قال الرب لهم: “كما أنكم تركتموني وعبدتم آلهة غريبة في أرضكم، هكذا تعبدون الغرباء في أرض ليست لكم”. أي أن كل إنسان يتخذ له إلهًا من أي شيء كان، فهو بذلك يعبد آلهة غريبة[55].
هل تُؤلّهِ المأكولات والمشروبات؟ فإن إلهك يكون بطنك (في 3: 19).
هل تحسب فضة هذا العالم وغناه خيرًا عظيمًا؟ إذًا المال هو إلهك، حيث قال عنه السيد المسيح أنه سيد الذين يحبون الفضة، حينما قال: “لا تقدرون أن تعبدوا الله والمال، لا يقدر أحد أن يخدم سيدين” (لو 16: 12).
الذي يُقّدِر المال ويُعظِم الغنى حاسبًا أنه خير، والذي يُجلِس الأغنياء في صفوف الآلهة ويحتقر الفقراء، يؤله المال.
إذا كان يوجد في أرض الله، التي هي الكنيسة، أناس يعبدون آلهة غريبة بتأليههم لأشياء حقيرة، فسوف يطردون في أرض غريبة، وهناك في تلك الأرض الغريبة فليعبدوا آلهتهم التي كانوا يعبدوها وهم في داخل الكنيسة! فيُطرح الإنسان الجشع خارجًا، خارج الكنيسة! ويُطرح الإنسان النهم خارجًا، خارج الكنيسة!
سوف أقف هنا عند التفسير الرمزي، دون أن أتأمل كيف أن الله في عنايته، بعدما أقام شعبه عبادة في أرض غريبة (أرض الشيطان)، قام بطرده من أرضه الخاصة إلى الأرض التي كتب عنها: “اسمع يا إسرائيل. كيف صرت في أرض عدوّة؟ كيف حُسِبتَ ضمن الهابطين إلى الهاوية؟ أليس لأنك تركت الرب مصدر حياتك. لو كنت قد سلكت في طريق الرب لعشت في سلام إلى الأبد” (با 3: 9-13)[56].
العلامة أوريجينوس
- يحفظ جنس البشر بعمليّتين جسديّتين (الطعام والزواج)، يخضع لهما الحكيم والقدّيس كأمرين واجبين، وأما الجاهل فيندفع فيهما مقهورًا منقادًا بشهوته… كم من كثيرين يندفعون بشرَهٍ نحو أكلهم وشربهم ويجعلونهما كل حياتهم، كأنهم يعيشون لأجلهما. فبينما بالحق يأكل البشر فليعيشوا، إذا بهؤلاء يظنّون أنه يعيشون لكي يأكلوا. هؤلاء يمقتهم كل حكيم، وبخاصة الكتاب المقدس الذي يدين الشرهين والسكّيرين “الذين إلههم بطنهم” [19]. لا يدفعهم إلى المائدة حاجتهم للقوت بل شهوة الجسد، لذلك ينهمك هؤلاء في أكلهم وشربهم[57].
القديس أغسطينوس
- ليس من إنسان تحت هذه السماء يتربى على هذه الممارسات (كثرة الأكل الترف) يمكن أن يصير حكيمًا، مهما كانت عبقريته الطبيعية جديرة بالإعجاب… إنه كمن يدفن عقله في بطنه… أولئك الناس إيمانهم في بطونهم[58].
القديس إكليمنضس السكندري
يرى القديس إكليمنضس السكندري أن مناداة أفلاطون بعدم المبالغة في الطعام تقوم على معرفته بما فعله داود النبي مع شعب إسرائيل حين قسم على جميع الشعب رجالاً ونساء رغيف خبز واحد وكأس خمر وقرص زبيب (2 صم 6: 17، 19).
ب. “مجدهم في خزيهم“: مفاهيمهم خاطئة، فيرون في خزيهم وعارهم مجداً. يبررون الشر ويفتخرون به، ويفعلون الخطية ويتباهون بها متناسين أن الخطية عار.
- يفتخر أناس بكونهم أبناء حكام، وبقدرتهم على إنزال بعض الكهنة من درجاتهم الكهنوتية، مثل هؤلاء يتعظمون ويتفخرون من أجل أمورٍ تافهةٍ لا طائل من ورائها، وبالتالي فإنه لا يوجد أدنى سبب لتعظمهم هذا. ويوجد من يفتخرون بأنهم يملكون سلطان إعدام الناس، ويفتخرون بأنهم قد حصلوا على ما يسمونه امتياز Promotion يمكنهم من الإطاحة برؤوس الناس: إن مجد هؤلاء الناس يكون في خزيهم (في 3: 19). وآخرون يفتخرون بغناهم، ليس الغنى الحقيقي، بل الغنى الأرضي… لا تستحق كل هذه الأشياء حتى أن توضع في الاعتبار، ولا يليق بنا أن نتفاخر بأي منها.
الأشياء التي تعطينا الحق في التعظم والتفاخر، هي أن نفتخر بأننا حكماء، أو أن نفتخر (بتعقّل) بأننا منذ عشر سنوات مثًلا لم نقترب من الملذات الجسدية والشهوات، أو لم نقترب منها منذ الطفولة؛ أو أيضًا حينما نفتخر بحمل القيود في أيدينا من أجل السيد المسيح، هذه أشياء تدعو للتفاخر عن حق، ولكن حتى هذه الأشياء أيضًا، فإذا حكَّمنا عقلنا بالحق، نجد أنه ليس لنا أن نتعظم أو نتفاخر بها.
كان لدى بولس الرسول ما يدعوه للتعظم بسبب الرؤى والإعلانات والمعجزات والعلامات وبسبب الآلام التي تحملها من أجل السيد المسيح، وبسبب الكنائس التي أقامها في أماكن كثيرة من العالم، في كل ذلك كان لديه ما يدعوه للتفاخر، وبحسب الأشياء الخارجية الظاهرة التي تدعو للفخر، كان سيبدو افتخار بولس الرسول شيئًا طبيعيًا بالنسبة للناس؛ ومع ذلك، وبما أنه من الخطر عليه أن يتفاخر، حتى بالنسبة لتلك الأشياء، فإن الآب في رحمته، كما أعطاه تلك الرؤى، أعطاه أيضًا على سبيل الرأفة به، ملاك الشيطان ليلطمه لئلا يرتفع؛ ومن أجل هذا الموضوع تضرع بولس إلى الرب ثلاث مرات أن يفارقه، فأجابه الله: “تكفيك نعمتي لأن قوتي في الضعف تكمل“ (2 كو 12: 7-9)[59].
- الذين يفتكرون في الأرضيات لا يسمحون بتأسيس الأمور الجديدة، ولا للأمور القديمة أن تُطهر[60].
- نفوس الأبرار في يد الله (حك 1:3)، وأما الذين بين الأشرار فيحسبون كلا شيء[61].
العلامة أوريجينوس
ج. “يفتكرون في الأرضيات“: ويتناسون أن محبة العالم عداوة لله. تنشغل أفكارهم دومًا بالماديات والأرضيات، لا موضع للروحيات والإلهيات في قلوبهم وأفكارهم. يعلق العلامة أوريجينوس[62] علي وعد الله لإبراهيم: “وأكثر نسلك تكثيرًا كنجوم السماء، وكالرمل الذي علي البحر” (تك 17:22)، قائلاً بأن الكنيسة – نسل إبراهيم – تضم كثيرين يُقارنون بنجوم السماء في بهائهم الروحي. كما يوجد بها كثيرون يفكرون في الأرضيات (في 19:3)، وبسبب خطاياهم صاروا أثقل من رمل البحر.
- ليس شيء مناقض وغريب عن شخص المسيحي مثل طلب الحياة سهلة والراحة. الاستغراق في الحياة الحاضرة غريب عن مهنتنا وتجندنا.
سيدك قد صُلب فهل تطلب الراحة؟
سيدك سُمر بالمسامير فهل تعيش في ترفٍ؟
هل هذه الأمور تقيم منك جنديًا شريفًا؟ لذلك يقول الرسول: “لأن كثيرين يسيرون ممن كنت أذكرهم لكم مرارًا، والآن أذكرهم أيضًا باكيًا، وهم أعداء المسيح”. حيث وُجد البعض وقد تظاهروا بالمسيحية، وعاشوا في الطريق السهل والترف، وهذا مضاد للصليب. لهذا تكلم الرسول بهذا.
فالصليب يخص نفسًا في موقع معركة، تتوق أن تموت، لا تطلب شيئًا سهلاً…
هؤلاء وإن كانوا يقولون أنهم لا يزالوا للمسيح، إلا أنهم أعداء الصليب. فلو أنهم أحبوا الصليب لصارعوا كي يعيشوا الحياة المصلوبة.
أليس سيدك علي الصليب؟ لتقتدي به. أصلب نفسك ولو لم يصلبك أحد.
أصلب نفسك، لا بقتل نفسك، حاشًا، فإن هذا شر، بل كما قال بولس: “قد صُلب العالم لي، وأنا للعالم” (غل 14:6).
إن كنت تحب سيدك مُتْ موته!
تعلم عظمة قوة الصليب، وكم من الصالحات يحققها، وافعل هذه فهي أمان لحياتك[63].
القديس يوحنا الذهبي الفم
“فإن سيرتنا نحن هي في السماوات،
التي منها أيضًا ننتظر مخلصًا هو الرب يسوع المسيح” [20].
“فإن سيرتنا” أو موطننا أو جنسيتنا هي في السماويات، فنحن على الأرض غرباء راحلون، فكيف نلتصق بالأرضيات؟ إن كانت الجنسية الرومانية في ذلك الحين لها تقديرها وامتيازاتها الخاصة (أع 28:22)، فكم تكون الجنسية السماوية. من حقوق المتمتع بهذه الجنسية أن عدو الخير لن يقدر أن يلحق بنا أو يتسلل إلينا.
- “لأن العدو قد طارد نفسي” (مز 3:143)… كيف يمكننا أن نفلت من هذه المطاردة؟ إن وجدنا موضعًا لا يقدر (الشيطان) أن يدخله. تسأل: وما هو هذا الموضع؟ أي نوع هو هذا الموضع سوى السماء؟ ولكن كيف يمكنني أن أصعد إلى السماء؟ أصغِ إلى كلمات بولس التي تكشف عن هذا، وقد التصق بجسدٍ كما نحن، فنقدر أن نحيا هناك. “فكروا في ما هو فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله” (راجع كو 1:3-2). وأيضًا: “طريق حياتنا يعبر في السماء” (راجع في 20:3)[64].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- من يرفض هذا العالم يجب أن يؤمن بكل يقين أنه ينبغي أن يعبر بفكره منذ الآن بالروح إلى عالم آخر. هناك تكون سيرتنا ولذّتنا وتمتّعنا بالخيرات الروحيّة[65].
- رئيس الشرّ الذي هو نفسه الظلام الروحي – ظلام الخطية والموت – وهو ريح عاصف، وإن كان خفيًا، فإنه يهز كل جنس البشر على الأرض، ويقودهم بالأفكار القلقة الطائشة، ويغوي قلوب الناس بشهوات العالم، ويملأ كل نفسٍ بظلام الجهل والعمى والنسيان، ماعدا أولئك الذين وُلدوا من فوق، وانتقلوا بقلوبهم وعقولهم إلى عالم آخر كما هو مكتوب أن مدينتنا هي في السماوات.
- بالرغم من أنّنا على الأرض فإن “مدينتنا هي في السماوات” [20]. إذ فيما يخص العقل والإنسان الباطن نصرف وقتنا ونقوم بأنشطتنا في ذاك العالم. وكما أن العين الظاهرة – عندما تكون صافية – ترى الشمس دائمًا بوضوحٍ، هكذا العقل المُطهر تمامًا ينظر دائمًا مجد نور المسيح، ويكون مع الرب ليلاً ونهارًا[66].
- هذا لا يمكن أن يتحقق إذا لم يجحد المسيحي هذا العالم ويؤمن بالرب بكل قلبه. في هذه الحالة تستطيع قوة الروح أن تجمع القلب المشتّت في الأرض كلها، وتأتي به غالبًا محبة الرب وتنقل الذهن إلى العالم الأبدي[67].
القديس مقاريوس الكبير
- من أراد بالحقيقة أن يكون تابعًا لله يلزمه أن يمزق القيود التي تربطه بهذه الحياة. هذا يتحقق بالعزل الكامل ونسيان العادات القديمة. فما لم ننتزع أنفسنا من كل من الرباطات الجسدية والمجتمع الزمني وننتقل كما إلى عالم آخر خلال سلوك حياتنا، وكما قال الرسول: “هدايتنا في السماء “، يستحيل تحقيق هدفنا نحو مسرة الله. وكما قال الرب بصورة دقيقة: “فكذلك كل واحدٍ منكم لا يترك جميع أمواله لا يقدر أن يكون لي تلميذً (لو 14: 33). إذ نفعل هذا يلزمنا أن نلاحظ قلوبنا بكل يقظةٍ، ليس فقط أن نحذر لئلا نفقد فكر الله أو نلطخ ذكرى عجائبه بتخيلات باطلة، وإنما لكي نحمل أيضًا فكر الله المقدس مختومًا على نفوسنا، كختمٍ دائمٍ لا يُمحى، وذاكرة طاهرة[68].
- الزهد هو حل رباطات هذه الحياة المادية الزائلة، وتحرر من الارتباطات البشرية حتى نهيئ أنفسنا بالأكثر لنكون على الطريق الذي يقود إلى الله. إنه الدافع الذي لا يُعاق لاقتناء بالخيرات النفيسة جدًا التي هي “أشهى من الذهب والحجارة الكريمة” (مز 19: 10) والتمتع بها. باختصار الزهد هو انتقال من القلب البشري إلى طريقة حياة سماوية، فيمكننا القول: “فإن هدايتنا نحن هي في السماوات”. أيضًا إنه النقطة الرئيسية – هو الخطوة الأولى نحو التشبه بالمسيح، الذي وهو الغني افتقر لأجلنا (2 كو8: 9). فإن لم ننل هذا الشبه يستحيل علينا أن نبلغ طريق الحياة حسب إنجيل المسيح[69].
- بينما نسحب جسدنا على الأرض مثل ظل، نحفظ نفوسنا في صحبة الأرواح السمائية[70].
القديس باسيليوس الكبير
- “بابل كأس ذهب بيد الرب تُسكر كل الأرض” (إر 28: 7). إن أردت أن تعرف كيف أن كل الأرض أصبحت سكرى بفعل كأس بابل، أنظر إلى الخطاة الذين يملأون الأرض كلها. لكنك قد تقول لي أن الأبرار لم يسكروا من كأس الخطاة، فكيف يقول الكتاب أن كل الأرض تسكر من كأس بابل؟ لا تظن أن الكتاب لا يقول الصدق حينما يقول ذلك، لأن الأبرار في الواقع ليسوا أرضًا (ترابًا)، وبالتالي فإن كل الأرض فقط أي الخطاة وحدهم هم الذين يسكرون. أما الأبرار، فبالرغم من وجودهم على الأرض إلا أن سكناهم في السماوات (في 3: 20). بالتالي لا يليق أن يقال للإنسان البار: “أنت تراب (أرض) وإلى التراب تعود”، بل سيقول له الرب، طالما أن ذلك الإنسان يلبس صورة السماوي (1 كو 15: 49): “أنت سماء وإلى السماء تعود”. لذلك فإن كأس بابل لن يسكر إلا الذين مازالوا أرضًا[71].
- البار ليس أرضًا (إر 28:7). فإنه وإن كان على الأرض، لكن دولته السماء. فلا يسمع: “أنت أرض، وإلى أرض تعود” (تك 19:3) بل بالأكثر يسمع: “أنت سماء وإلى سماء تعود، لأنك تحمل صورة السماوي” (1 كو 49:15)، وتقف ثابتًا[72].
- لتخرجوا من كل ما هو ليس مقدسًا ولا مكرسًا لله. نقول إننا نخرج لا من أماكن، بل من أفعال، ليس من أقاليم، بل من أساليب حياة. أخيرًا، نفس الكلمة التي تدعي “مقدس hagios” في اللغة اليونانية تعني أن الشيء خارج الأرض. لأن من يكرس نفسه لله يتأهل أن يظهر خارج الأرض وخارج العالم. يمكن لهذا الشخص أن يقول وهو سالك علي الأرض “لنا طريق حياة في السماء”[73].
- يُقال عن النفس التي تخطيء: “من شعب الأرض” لأن هذا القول لا ينطبق علي ذاك الذي يقول: “محادثتنا في السماء التي منها أيضًا تنتظر مخلصًا هو الرب يسوع“، لذلك كيف يمكنني بحق أن أدعو هذه النفس: “من شعب الأرض” هذه التي ليس لها شركة مع الأرض، بل هي بالكامل في السماء، تقطن فيها حيث المسيح جالس عن يمين الله (كو 1:3). والتي تشتهي العودة لتكون مع المسيح. فإن هذا أفضل، لكنها تلزم أن تبقي في الجسد لحسابنًا[74].
العلامة أوريجينوس
- قلوب المؤمنين هي سماء، يرفعونها يوميًا إلى هناك عندما يقول الكاهن: “ارفعوا قلوبكم”، فيجيبون: “رفعناها عند الرب”. وبكلمات الرسول: “مواطنتنا هي في السماء“. إن كانت مواطنة المؤمنين هي في السماء، فإنه إذ تكون فيهم المحبة الحقيقية، فإن جذر المحبة يُغرس في السماء. علي النقيض فإن جذر الطمع الذي في قلوب المتكبرين مغروس في جهنم، لأن هؤلاء يطلبون دومًا المقتنيات الأرضية، ويميلون إليها، ويحبونها، ويضعون كل رجائهم في الأرض[75].
الأب قيصريوس أسقف أرل
“الذي سيغيّر شكل جسد تواضعنا،
ليكون على صورة جسد مجده،
بحسب عمل استطاعته أن يُخضع لنفسه كل شيء” [21].
لقد سبقنا الرأس السماوي وقد حمل طبيعتنا فيه، هذه التي تقدست وتمجدت بقيامته وتهيأت للسماء، حتى إذ نحمل صورة جسد مجده نعبر به ومعه إلى موطننا السماوي. هذا ما يتحقق في يوم الرب العظيم، حيث نقوم بأجساد على صورة جسد المسيح القائم من الأموات. فكما لبسنا صورة آدم الترابي سنلبس صورة آدم الروحاني، فننعم بالجسد الروحاني (1 كو 15: 42-44). الآن ننال القيامة الروحية لنفوسنا كعربون لقيامة الجسد (رو 11:8).
“سيغير“… هذا يذكرنا بجسد السيد المسيح الذي تغير على جبل طابور.
“جسد تواضعنا“… المسيحية لا تحتقر الجسد بل كرمت الجسد جدًا, فبعد تجسد كلمة الله نال الجسد كرامة ما بعدها كرامة. الجسد شريك للروح في رحلة العمر والجهاد لذلك سيشاركها في المجد. لكن لماذا يدعوه الإنجيل جسد تواضعنا؟ لأنه يتعرض للضعف والمرض والسقوط.
“ليكون على صورة مجده“… سيتغير جسد تواضعنا ليصبح مثل جسد المسيح بعد القيامة الذي خرج من القبر وهو مغلق.
“بحسب عمل استطاعته“… إنه يستطيع هذا فقد قام من بين الأموات بذاته وفي اليوم الأخير يقيمنا.
في حديث القديس هيلاري أسقف بواتييه عن الثالوث القدوس يشير إلى هذه العبارة: “يخضع لنفسه كل شيء“، موضحًا أنه يُخضع العدو إبليس تحت قدميه، ويخضع الموت حيث يهب الخلود نازعًا سلطان الموت، كما يخضع الطبيعة البشرية فيبطلها لا ليفني الإنسان بل لكي ما تُبتلع طبيعته في طبيعة جديدة مجيدة.
- في خضوع أعدائه ينهزم الموت، وإذ ينهزم الموت يتبعه الخلود. يخبرنا الرسول هنا أيضًا عن مكافأة خاصة تُوهب خلال هذا الخضوع، إذ يتحقق خضوع بخضوع الإيمان. إذن يوجد خضوع آخر يحقق التحول من طبيعة إلى طبيعة أخري. إذ تبطل طبيعتنا من جهة حالها الذي نحن عليه الآن، وتخضع له فتصير علي شاكلته. بالإبطال لا يعني نهاية وجودها، وإنما تقدمها إلى حالٍ أسمى، هكذا تدمج في صورة الطبيعة الأخرى التي تنالها، فتخضع لشكلٍ جديدٍ… إننا نخضع لمجد قانون جسده[76].
القديس هيلاري أسقف بواتييه
- يقول “جسد تواضعنا“، لأنه الآن متواضع، خاضع للهلاك وللألم، ويبدو كما بلا قيمة، ليس فيه شيء أسمى من الحيوانات الأخرى. “ليكون علي صورة جسد مجده“.
ما هذا؟ هل سيشكل جسدنا علي مثاله، ذاك الجالس عن يمين الآب، والمسجود له من الملائكة، والذي تقف أمامه القوات غير المتجسدة، ذاك الذي أعلى من كل نظام وسلطان وقدرة؟
ألا يستحق النحيب، إذ يبكي العالم كله وينتحب الذين سقطوا من هذا الرجاء؟ فإنه إذ أعطي الرجاء في جسدنا أن يصير على مثاله لا يزال يسير مع الشياطين؟ لست أبالي بجهنم هناك، فمهما قيل عنها فإن السقوط من مجدٍ عظيمٍ هكذا الآن وفيما بعد تحسب جهنم كلا شيء بالنسبة لهذا السقوط[77].
- “بحسب استطاعته أن يُخضع لنفسه كل شيءٍ“. يقول أن لديه استطاعة أن يخضع كل الأشياء لنفسه، حتى الدمار والموت… لقد أظهر أعمالاً أعظم لسطانه لكي تؤمن بها أيضًا… رجاؤنا هذا (أي التمتع بصورة مجده) فيه الكفاية أن يقيمنا من بلادتنا العظيمة وخمولنا[78].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- كل الذين يأتون إليه ويرغبون في أن يصيروا شركاء في الصورة الروحية بتقدمهم يتجددون كل يوم في الإنسان الداخلي (2 كو 16:4)، ذلك حسب صورة خالقهم، حتى يصيروا علي شبه جسد مجده، ولكن كل واحد حسب قدراته[79].
العلامة أوريجينوس
من وحي فيلبي 3
أنت هو ينبوع فرحي!
- في وسط آلامي أراك حاملاً الصليب.
فتتهلل نفسي لشركة آلامك .
وفي خدمتي لإخوتي أراك خادم الجميع.
فأشتهي أن أُبذل معك بكل سرور.
- أنت هو ينبوع فرحي.
أعبدك، لا في شكليات باطلة،
بل بالروح والحق أثبت فيك وأنت فيٌ.
تجدد طبيعتي بروحك القدوس،
فأحمل دومًا طبيعة مفرحة.
أجد فيك كفايتي.
وبك أتبرر أمام الله أبيك!
- تتهلل نفسي أن تفيض عليٌ بمعرفة أسرارك.
وتدخل بي إلى حجالك.
اختبر وسط الآلام قوة قيامتك.
وترفع نفسي كما إلى سماواتك.
هناك احتمي فيك،
فلن يقدر العدو أن يتسلل إليٌ!
ولا تقدر فخاخه أن تصطادني.
- حولت حياتي إلى سباقٍ مفرحٍ.
أنسى علي الدوام ما مضى،
مشتهيًا أن أبلغ إليك بروح النصرة.
أنت إكليلي ونصرتي الأبدية.
[1] Homilies on Philippians, homily 10.
[2] Homilies on Philippians, homily 10.
[3] Homilies on Philippians, homily 10.
[4] Epistle to Philippians 3:1:3.
[5] Homilies on Philippians, homily 10.
[6] Homilies on Philippians, homily 10.
[7] Homilies on Philippians, homily 10.
[8] Homilies on Philippians, homily 10.
[9] Homilies on Jeremiah., Homily 5:14.
[10] Homilies on Philippians, homily 10.
[11] Epistle to Philippians, 3:5 (ACCS).
[12] Epistle to Philippians, 3:6 (ACCS).
[13] Two Letters of Pelagius, 1:15.
[14] Homilies on Philippians, homily 10.
[15] Homilies on Philippians, homily 11.
[16] Homilies on Philippians, homily 11.
[17] On Patience, 2:1:4.
[18] Epistle to Philippians, 3:8 (ACCS).
[19] Duties of the Clergy, 2:4:12.
[20] Duties of the Clergy, 2:6:26.
[21] Homilies on Genesis, homily 8:8.
[22] Homilies on Philippians, homily 11.
[23] Homilies on Philippians, homily 11.
[24] Homilies on Philippians, homily 11.
[25] Homilies on Philippians, homily 11.
[26] Epistle to Philippians, 3:12 (ACCS).
[27] Homilies on Song of Songs, 4. ترجمة الدكتور جورج نوّار
[28] Duties of the Clergy, 3:2:11.
[29] Sermons on N.T. Lessons, 92 :10.
[30] Homilies on Philippians, homily 11.
[31] Homilies, 44:8. ترجمة مركز دراسات الآباء بالقاهرة
[32] Homilies, 19:9. ترجمة مركز دراسات الآباء بالقاهرة
[33] Paedagogus 1:1:6. راجع ترجمة فليوباترون.
[34] Sermons on N.T. Lessons, 46 :10.
[35] Sermons on N.T. Lessons, 41 :10.
[36] Sermons on N.T. Lessons, 55 :8.
[37] Homilies, 26:17. ترجمة مركز دراسات الآباء بالقاهرة
[38] Commentary on Ps. 120.
[39] Homilies on Song of Songs, 6. ترجمة الدكتور جورج نوّار
[40] Homilies on Song of Songs, 8. ترجمة الدكتور جورج نوّار
[41] Homilies on Jeremiah., Homily 18:3.
[42] Homilies on Jeremiah., Homily 13:3.
[43] Letters, 42:1.
[44] Epistle 76:2.
[45] Concerning Repentance, 2:43.
[46] Sermons on N.T. Lessons, 41 :6.
[47] Homilies on Philippians, homily 12.
[48] Homilies on Philippians, homily 12.
[49] Two Letters of Pelagius, 3:19.
[50] Homilies on Philippians, homily 12.
[51] Homilies on Philippians, homily 12.
[52] Homilies on Gen., homily 3:6.
[53] The Hexaemeron, homily 9:2.
[54] Homilies on Jeremiah., Homily 5:2.
[55] بعد المعني الحرفي للآية، انتقل إلى المعنى الروحي.
[56] Homilies on Jeremiah., Homily 7:3.
[57] Sermon on N.T. lessons, 1:23,24.
[58] Paedagogus 2:1. راجع ترجمة فليوباترون
[59] Homilies on Jeremiah., Homily 12:8.
[60] Homilies on Gen., homily 13:2.
[61] Fragments from Catena (Frs of Church ,vol. 97, p. 316.)
[62] Homilies on Genesis, homily 9:2.
[63] Homilies on Philippians, homily 13.
[64] Commentary on Ps. 143.
[65] Homilies, 49:1. ترجمة مركز دراسات الآباء بالقاهرة
[66] Homilies, 17:4. ترجمة مركز دراسات الآباء بالقاهرة
[67] Homilies, 24:2. ترجمة مركز دراسات الآباء بالقاهرة
[68] The Long Rules, Question 3.
[69] The Long Rules, Question 8.
[70] Concerning Baptism, ch. 2.
[71] Homilies on Jeremiah., Homily 20:9.
[72] Fragments from Catena (Frs. of Church ,vol. 97, p. 3.)
[73] Homilies on Leviticus, homily 11:1:5-6.
[74] Homilies on Leviticus, homily 2:5:2.
[75] Sermons, 22:4.
[76] On the Trinity, 11:35-36.
[77] Homilies on Philippians, homily 13.
[78] Homilies on Philippians, homily 13.
[79] Homilies on Genesis, homily 1:13.