تفسير العهد الجديد

تفسير رسالة تسالونيكي الثانية 2 الأصحاح الثاني – القمص تادرس يعقوب ملطي

تفسير رسالة تسالونيكي الثانية 2 الأصحاح الثاني - القمص تادرس يعقوب ملطي

تفسير رسالة تسالونيكي الثانية 2 الأصحاح الثاني – القمص تادرس يعقوب ملطي

تفسير رسالة تسالونيكي الثانية 2 الأصحاح الثاني - القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير رسالة تسالونيكي الثانية 2 الأصحاح الثاني – القمص تادرس يعقوب ملطي

تفسير رسالة تسالونيكي الثانية 2 الأصحاح الثاني – القمص تادرس يعقوب ملطي

الأصحاح الثاني إنسان الخطية

 

موضوع “إنسان الخطية” يعتبر إحدى النبوات الرئيسية في العهد الجديد، ومع هذا إذ كتب عنه الرسول لم يقصد به الكشف عن أحداث مستقبلية بقدر ما أراد تحقيق أهداف عملية، لذا ختمه بالحديث عن “الثبوت في الرب” ليدخل بعد ذلك في القسم الثالث من الرسالة الخاص بالوصايا العملية.

  1. الارتداد أولاً 1-12.
  2. ثباتهم في الرب 13-17.

 

1. الارتداد أولاً

ثم نسألكم أيها الإخوة من جهة مجيء ربنا يسوع المسيح

واجتماعنا إليه،

أن لا تتزعزعوا سريعًا عن ذهنكم،

ولا ترتاعوا لا بروح ولا بكلمة ولا برسالة كأنها منا

أي أن يوم المسيح قد حضر” [1-2].

يطلب الرسول بولس من أهل تسالونيكي ألا يكون ذهنهم مرتاعًا كسفينة تلعب بها الأمواج العنيفة، وذلك من جهة مجيء ربنا يسوع المسيح واجتماعنا فيه ومعه في ذلك اليوم العظيم، ظانين أن اليوم قد حضر. يلزمهم ألا ينحرفوا بروح أي بنبوات كاذبة أو إعلانات باطلة، ولا بكلمة أي بإساءة تفسير كلماته حين كان يكرز في وسطهم، ولا برسالة كأنها منه أي إساءة فهم رسالته السابقة، أو قبولهم رسالة مدسوسة ليست صادرة عنه، أو قبول الاثنين معًا، أي إساءة فهم رسالته وقبول رسالة مزيفة.

إنه يوصي المؤمنين ألا يسيروا وراء الأمواج العنيفة التي تنادي بأن يوم المسيح قد حضر، فإنه يلزم أن يسبقه الارتداد، ويستعلن إنسان الخطية مثير الارتداد، إذ يقول:

“لا يخدعنكم أحد على طريقة ما،

لأنه لا يأتي إن لم يأتِ الارتداد أولاً

ويستعلن إنسان الخطية، ابن الهلاك،

المقاوم والمرتفع على كل ما يدعى إلهًا أو معبودًا،

حتى أنه يجلس في هيكل الله كإله مظهرًا نفسه أنه إله” [3-4].

شغل     موضوع “إنسان الخطية” كتابات الكنيسة الأولى والعصور الوسطى وأيضًا اللاهوتيين المحدثين، فقد قارنوا بينه وبين ما ورد في سفر دانيال عن الملك المتأله (ص 11)، وما جاء في سفر الرؤيا عن النبي الكذّاب والوحشين البرّي والبحري (رؤ20,19,16,13 )، وما تعرض له القديس يوحنا الحبيب في رسائله عن ضد المسيح.

تحدث القديس يوستين الشهيد في القرن الثاني عن إنسان الخطية بكونه إنسان الارتداد الذي ينطق بما هو ضد العليّ، ويتجاسر بارتكاب أعمال شريرة ضد المسيحيين[1].

ويقول القديس إيريناؤس: [مع كونه لصًا ومرتدًا يهتم أن يُعبد كإله، ومع كونه عبدًا مجردُا، يرغب في إقامة نفسه ملكًا. وإذ يحمل قوة إبليس يأتي لا كملك بار خاضع لله وإنما كإنسان مقاوم، فيه يتركز كل ارتداد شيطاني، مخادعًا الناس بأنه الله[2].]

وقد ساد في القرون الأولى اعتقاد أن هذا الإنسان يظهر بعد زوال الدولة الرومانية، فيتطلّعون إلى الإمبراطورية كقوة مقاومة لظهوره. لهذا يقول العلامة ترتليان: [أي عائق له إلا الدولة الرومانية، فإنه سيظهر الارتداد كمقاوم للمسيح[3].] كما يقول: [نلتزم نحن المسيحيون بالصلاة من أجل الأباطرة واستقرار الإمبراطورية استقرارًا كاملاً، فإننا نعرف أن القوة المرعبة التي تهدد العالم يعوقها وجود الإمبراطورية الرومانية، هذه القوة التي لا نريدها فنصلي أن يؤجل اللَّه ظهورها. بهذا تظهر إرادتنا الصالحة لدوام الدولة الرومانية[4].]

ويفترض القديس هيبوليتس أن ضد المسيح سيكون يهوديًا، ويحدد أنه من سبط دان[5]، ويشترك القديس إيريناؤس معه في ذات الرأي[6].

ورأى فريق من الآباء أنه يظهر بعض الأشخاص مقاومين للحق، ضد المسيح يكونون مثالاً ورمزًا لضد المسيح الحقيقي الذي يظهر في أواخر الدهور، فيتطلع القديس كبريانوس إلى أنطيخوس أبيفانيوس كمثال لضد المسيح[7]، بينما يتطلع القديس يوحنا الذهبي الفم إلى نيرون هكذا بكونه حسب نفسه إلهًا[8]. وإن كان الأب فيكتوريانوس رأى نيرون هو نفسه الوحش الخارج من البحر. أما القديس جيروم فيرى أن كثيرين يقومون كرموز لضد المسيح، إذ يقول: [كما كان سليمان وقديسون آخرون رموزًا للمخلص هكذا نؤمن بظهور رموز لضد المسيح مثل أنطيخوس أكثر الملوك شرًا، مضطهد القديسين ومدنس الهيكل[9].]

أما في القرون الوسطى فقد اهتم كثير من اللاهوتيين الغربيين بموضوع “ضد المسيح”، فتطلع بعض مقاومي السلطان الكنسي في أوربا إلى الكرسي البابوي كضد المسيح. يقول الأب برنارد: [صار خدام المسيح خدامًا لضد المسيح، وجلس وحش الرؤيا على كرسي القديس بطرس[10].] غير أن كثير من اللاهوتيين البروتستانت رفضوا هذا الرأي، مؤكدين أن ضد المسيح ليس نظامًا معينًا بل هو إنسان معين يظهر في أواخر الدهور قبل مجيء السيد المسيح الأخير.

وكما اتهم بعض المتطرفين من البروتستانت الباباوية، فإنه من الجانب الآخر قام بعض المتطرفين الكاثوليك يتهمون “الحركة البروتستانتية” كضد المسيح، ورفض بعض اللاهوتيين من الكاثوليك ذلك[11].

أما في العصر الحاضر فيوجد في الغرب أربعة اتجاهات في تفسير إنسان الخطية:

  1. ما ورد في هذا الأصحاح لا يقصد به نبوة خاصة بالمستقبل.
  2. أما ورد هنا هو نبوة تحققت فعلاً وانتهت.
  3. حدث مستمر مع الزمن، تحققت ولا تزال تتحقق في الحاضر وستتحقق في المستقبل.
  4. نبوة خاصة بالمستقبل, تتحقق في فترة ما قبل مجيء السيد المسيح مباشرة.

بين السيد المسيح وضد المسيح

أولاً: يقول الرسول “يستعلن إنسان الخطية” [3]. فكما جاء السيد المسيح بكونه كلمة الله المتجسد، الذي فيه يتشخص كمال البرّ الإلهي، من يقتنيه إنما يقتني برّ الله فيه، هكذا يأتي إنسان الخطية تتشخص فيه الخطية، يبث روح الشر في أتباعه ويقاوم كل  برِّّ حقيقيٍ.

ثانيًا: يدعى “ابن الهلاك” [3]. إن كان الشيطان قد هلك باعتزاله الله سرّ حياة الخليقة كلها، ويتم كمال هلاكه في يوم الرب العظيم، فإن عمله الرئيسي هو إفساد خليقة الله وإهلاكها، بل ويبث فيها سمته، فيصيرون محبين لهلاك الآخرين، وكأن أتباعه يحملون صورته ويكونون على مثاله، كما يحمل المؤمنون صورة الله ويسلكون على مثاله.

لقد حمل يهوذا الخائن هذا اللقب “ابن الهلاك” (يو 17: 12)، الذي ملك عليه الشيطان، ونحن نحمل لقب “أبناء الله” إذ يملك الله فينا وعلينا، مخلصًا إيّانا من الهلاك.

ثالثًا: إنسان الخطية هو إنسان حقيقي لبسه الشيطان ليعمل فيه بكل طاقته حتى إن أمكن أن يضل حتى المختارين (مت 24: 24)، والسيد المسيح هو ابن الله الذي صار إنسانًا حقيقيًا بتجسده، يحمل طبيعتنا لكي يفديها، فيرد الضالين حاسبًا إيًاهم إخوة أصاغر له خلال ذبيحة الصليب التي قدمها عنا. لقد صار واحدًا منا ليقدم الفدية باسمنا ولحسابنا.

رابعًا: دُعي “المقاوم والمرتفع على كل ما يدعى إلهًا أو معبودًا” [4]. إذ يقيم نفسه إلهًا يقاوم الله ويثير البشرية ضد ملكوته، بقدر ما يظهر إنسان الخطية في كبرياء، ناسبًا لنفسه ما ليس له نجد السيد المسيح، الواحد مع الآب في تواضع يخضع بالطاعة الكاملة للآب حتى الموت موت الصليب. إنه يخلي ذاته محققًا في نفسه كل طاعة (عب5: 8) وكل تسليم للإرادة، لنحسب نحن فيه أبناء الطاعة ونسترد ما خسرناه خلال كبريائنا وعصياننا.

لقد لاحظ القديس إيريناؤس[12] أن ضد المسيح في كبريائه لا يقدر أن يرتفع على اللَّه، وإنما على كل ما يدعى إلهًا، مع أنه بالحقيقة ليس هكذا. والعجيب أن اليهود يرفضون السيد المسيح الذي جاء يتحدث عن الآب طالبًا مجده مع أنه واحد مع الآب ويقبلون ضد المسيح الذي يأتي ليتحدث عن نفسه طالبًا ما لذاته لا ما لله، وكما يقول القديس أغسطينوس: [إذ يعلن الرب عن ذاك الذي يطلب مجد نفسه لا مجد الآب (يو 7: 18) يقول لليهود: أنا قد أتيت باسم أبي ولستم تقبلونني. إن أتى آخر باسم نفسه فذلك تقبلونه” (يو 5: 43) لقد أعلن لهم أنهم سيقبلون ضد المسيح الذي يطلب مجد نفسه منتفخًا، وهو ليس بصادق ولا ثابت، وإنما بالتأكيد هالك.

أما ربنا يسوع المسيح فأظهر لنا نفسه مثالاً عظيمًا للتواضع، فمع كونه بلا شك مساويًا للآب… لكنه يطلب مجد الآب لا مجد نفسه[13].] أما سرً قبول اليهود لضد المسيح فهو تفكيرهم المادي وتفسيرهم الحرفي للنبوات. وكما يقول القديس أغسطينوس: [يبدو لي أن الشعب الإسرائيلي الجسداني سيظن أن النبوة تتحقق (في ضد المسيح)، القائلة: خلصنا أيها الرب إلهنا واجمعنا من بين الأمم” (مز 106: 47). تتحقق تحت قيادته وأمام أعين أعدائهم المنظورين هؤلاء الذين سيأسرهم بطريقة منظورة ويقدم المجد المنظور[14].]

خامسًا: يحدد الرسول بولس “هيكل الله” كمركز عمل المقاوم، حيث يجلس فيه مظهرًا نفسه إلهًا [4].

ماذا يقصد بالهيكل؟ يرى القديسان إيريناؤس وكيرلس الكبير أن ضد المسيح يقوم بتجديد الهيكل اليهودي في أورشليم كمركز لعمله. ويرى القديسون الذهبي الفم وأغسطينوس وجيروم والأب ثيؤدوث أنه يتربع في هيكل الكنيسة المسيحية. ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [إنه يجلس في هيكل الرب ليس فقط في أورشليم، وإنما في كل كنيسة[15].]

على أي الأحوال إن كان السيد المسيح قد جاء إلى العالم ليكرس كل قلب كهيكلٍ مقدس للثالوث القدوس، وخلال هذا التقديس يعود للهيكل الإلهي قدسيته، فإن ضد المسيح يأتي ليهدم القلوب، ويفسد الهيكل القائم فيها، مغتصبًا إيّاها لحسابه، كما يفسد كنائس الرب ويضطهدها.

سادسًا: يقول الرسول عنه: “الذي مجيئه بعمل الشيطان بكل قوة وبآيات وعجائب كاذبة، وبكل خديعة الإثم في الهالكين، لأنهم لم يقبلوا محبة الحق حتى يخلصوا” [9-10]. كأن الشيطان يعلن مملكته ببث طاقاته فيه للتضليل والانحراف عن الحق حتى يدخل بالبشرية إلى مملكة ظلمة الباطل. أما السيد المسيح فقد جاء ليعمل بقوة لاهوته ليدخل بهم إليه فينعمون بنور الحق. إنه يقدم لهم روحه القدوس الذي يرشد إلى كل الحق وينطلق بالمؤمنين إلى الأسرار السماوية.

سيحاول إنسان الخطية التشبه بالسيد المسيح فيعمل “بكل قوة وبآيات وعجائب” [9]، لكن جميعها “كاذبة”، لأنها من صنع إبليس المخادع، الذي يدعى “الكذّاب وأبو الكذّاب”، أما السيد فكان يصنعها بروح الحق خلال حبه لبني البشر وترفقه بهم. الأول في كبرياء يبرز قوته الوهمية والمؤقتة، أما السيد المسيح فيعمل بروح التواضع ليحملنا بالحب إلى مملكته النورانية.

استخدام ابن الخطية للقوات والآيات، وأيضًا ممارسة الأشرار لها، يجعل منها ليست هدفًا يبحث عنه المؤمن، ولا معيارًا لصلاح الإنسان أو سلوكه بالحق. فالإيمان المسيحي لم يقم على القوات والآيات، فإن كان السيد المسيح قد قدّم آيات بلا حصر وقوات لم يسبق أن يسمع عنها بني البشر، لكنه قدّمها مجرد علامة حب وتحنن نحو البشر، مقدمًا نفسه آية لهم وسرّ حياة وقوة قيامة! عندما سُئل السيد أن يصنع آية أعلن أنه يقدم موته ودفنه وقيامته الأمور التي أعلنت رمزيًا في يونان النبي آية للبشرية. عمله الخلاصي للبشرية هو الآية التي يلزم أن تشغل كل الفكر وتمتص كل المشاعر والأحاسيس!

في القرن الثاني تكلم العلامة أوريجينوس عن الآيات الشيطانية، غير منكر وجودها، لكنها آيات خادعة وعاجزة، إذ لا تقدر أن تغير طبيعتنا الفاسدة إلى طبيعة مقدسة، ولا أن تهب نموًا في الحياة الفُضلى، بل أن الممارسين لها أنفسهم لا يسلكون في نقاوة[16]. ويقدم لنا بستان الرهبان الكثير من تحذيرات الآباء النساك من صنع الآيات خلال خداعات الشيطان لكي تشغلنا عن الاهتمام بأبديتنا والانشغال بالسيد المسيح. وكثيرًا ما يتحدث القديس يوحنا الذهبي الفم عن الاهتمام بالحياة الفاضلة في الرب لا بعمل الآيات، فإن الله لا يحاسبنا أننا لم نصنع آيات، إنما يديننا على إهمالنا في جهادنا الروحي.

بين إنسان الخطية والملك المضطهد

لكي تبرز صورة إنسان الخطية كما سجلها لنا الرسول بولس نقارن بينه وبين ما ورد في سفر دانيال عن الملك المضطهد:

أولاً: عمل إنسان الخطية هو إثارة حركة الارتداد عن الإيمان، فلا يترك المؤمنون الإيمان فحسب وإنما يقاومون الحق، ويقفون ضد اللَّه نفسه، ويعلن دانيال النبي عمل الملك المضطهد ككاسر العهد المقدس، إذ يقول: فييأس ويرجع ويغتاظ على العهد المقدس ويعمل ويرجع ويصغي إلى الذين تركوا العهد المقدس” (دا 11: 30).

 ثانيًا: يجلس إنسان الخطية في هيكل الله كإله، ويقوم الملك المضطهد بتدنيس الموضع المقدس: “تقوم منه أذرع وتنجس المقدس الحصين” (دا 11: 31).

ثالثًا: يقاوم إنسان الخطية كل ما يدعى إلهًا أو معبودًا [4]، ويقف الملك المضطهد ضد الله، أو كما يقول دانيال النبي: “ويفعل الملك كإرادته، ويرتفع ويتعظم على كل إله، ويتكلم بأمورٍ عجيبة على إله الآلهة” (دا 11: 36).

هكذا يظهر أن ما ورد في سفر دانيال (ص 11) عن الملك المضطهد إنما يعني “إنسان الخطية” الذي يتحدث عنه الرسول بولس في أكثر وضوح.

إنسان الخطية كما أعلنه الرسول

لعل الصورة الخاصة بإنسان الخطية قد وضحت الآن، فظهر أنه إنسان حقيقي يظهر قبيل مجيء السيد المسيح، ليقيم نفسه إلهًا، فيقاوم الكنيسة المسيحية، كضربة نهائية من قبل الشيطان قبل أن يحتضر بإعلان ملكوت الله الأبدي.

والآن نشرح عبارات الرسول بولس عنه فيما عدا ما تعرضنا له في الصفحات السابقة:

لقد طالبهم الرسول ألا ينخدعوا على طريقة ما، فلا يظنوا أن مجيء السيد المسيح الأخير قد حضر، وإنما يلزم أولاً أن يأتي الارتداد [3]، وقد دعاه بالارتداد، إنسان الخطية، ابن الهلاك، المقاوم، المرتفع [3-4] الأثيم [8].

يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [دعاه الارتداد لأنه سيهلك كثيرين ويجعلهم يرتدون، إن أمكن حتى المختارين أن يضلوا (مت 24: 24). ودعاه إنسان الخطية، لأنه يصنع شرورًا بلا حصر، ويثير الآخرين لفعل ذلك ودعاه ابن الهلاك لأنه هو نفسه أيضًا يهلك[17]]، يدعى المقاوم لأنه يقف ضد اللَّه، والمرتفع إذ يقيم نفسه إلهًا، والأثيم لأنه ما يثيره الشيطان من إثم عبر العصور يتجلى علانية في إنسان الخطية.

يقول الرسول: “أما تذكرون إني وأنا بعد عندكم، كنت أقول لكم هذا[5].

يظهر من هذا القول أن الرسول سبق فحدثهم عن إنسان الخطية حين كان حاضرًا عندهم يكرز بالإنجيل، مع أن فترة كرازته كانت قليلة للغاية، ربما عدة أسابيع أو على الأكثر بعض الأشهر. وكأن الحديث عن مجيء إنسان الخطية المقاوم يمثل جزءًا لا يتجزأ من كلمة الكرازة. ففي الوقت الذي فيه يعلن الكارز عن بركة التمتع بالخلاص في استحقاقات الدم المقدس يلهب شوق السامعين لمجيء المخلص بقصد التمتع بشركة الأمجاد معه وفيه. لكن هذه العطية ليست بدون أتعاب أو آلام، وإنما يوجد الشيطان المضلل عبر العصور والذي يكتِّل كل طاقاته في الأيام الأخيرة بقصد إفساد النفوس.

إذن، الحديث عن إنسان الخطية مرتبط بالإنجيل المقدس، تحدث عنه السيد المسيح نفسه، قائلاً: “حينئذ إن قال لكم أحد هوذا المسيح هنا أو هناك فلا تصدّقوا، لأنه سيقوم مسحاء كذبة وأنبياء كذبة ويعطون آيات عظيمة وعجائب حتى يضلوا لو أمكن المختارين أيضًا. ها أنا قد سبقت وأخبرتكم” (مت 24: 23 -25). ورأينا القديس يوحنا يتحدث في رسائله عن ضد المسيح، وفي سفر الرؤيا عن الوحشين البحري والبرّي (رؤ 13) وعن النبي الكذّاب (رؤ 16: 13؛ 19: 20؛ 20: 10).

والآن تعلمون ما يحجز حتى يستعلن في وقته،

لأن سرّ الإثم الآن يعمل فقط إلى أن يرفع من الوسط الذي يحجز الآن” [6-7].

كأنه يقول لهم بأنه إذ كان حاضرًا عندهم أخبرهم عنه موضحًا أن الإعلان عنه محتجز، أي أن ظهوره يتأخر إلى الوقت المناسب. إن سرّ الإثم يعمل الآن بطريقة خفيّة، لكنه حين يأتي زمان إنسان الخطية يُنزع الحاجز ليظهر الشيطان بكل طاقاته مجاوبًا الحق علانية. بظهور إنسان الخطية وإثارة الحرب ضد الحق تحسب كل مقاومة سابقة مهما اشتدت أنها مقاومة خفية! إن بشاعة ما يفعله ضد المسيح علانية تتضاءل أمامه كل أعمال الشيطان السابقة.

شدة الهجوم الذي يشنّه إنسان الخطية تجعل البعض ينظر إليه أنه الشيطان بعينه، لذلك يتدارك القديس يوحنا الذهبي الفم ذلك بقوله: [هل هو الشيطان؟ لا، إنما هو إنسان يبث فيه الشيطان كل أعماله[18].]

ربما تثير فينا كلمات الرسول بولس السابقة [6-7] التساؤلات التالية:

ما هو هذا الحاجز الذي يعوق استعلان إنسان الخطية؟

ولماذا كتب الرسول بأسلوب غامض؟

وكيف يرفع من الوسط؟

يجيب القديس يوحنا الذهبي الفم[19] بأن في عصره ساد رأيان:

الرأي الأول: الحاجز هو الروح القدس الذي يعوق قيام إنسان الخطية حتى يحل الوقت المحدد. هذا الرأي يرفضه القديس يوحنا الذهبي الفم.

الرأي الثاني: أن الحاجز هو “الدولة الرومانية” التي تقف عائقًا عن ظهوره. وقد قبل القديس هذا الرأي متطلعًا إلى نبوة دانيال التي يفسرها هكذا: أن الدولة البابلية قامت على أنقاض بني مادي، وقام الفرس على أنقاض بابل، والمكدونيون (الدولة اليونانية) على أنقاض سابقتها، والرومانية على أنقاض اليونانية، وأخيرًا يأتي ضد المسيح ليملك على العالم عوض الدولة الرومانية، ويكون ذلك قبل مجيء المسيح يسوع ربنا ليملك على كنيسته في السماوات إلى الأبد. ففي رأيه أن الرسول أخفى ما هو الحاجز لكي لا يثير الإمبراطور الروماني ضد الكنيسة بكونها تتنبأ عن نهاية الدولة الرومانية وحلول ضد المسيح مكانها.

إن أخذنا بروح التفسير لا حرفه يمكننا القول أن إنسان الخطية محتجز الآن بأمر إلهي، إذ الشيطان مقيد حيث يملك السيد المسيح على قلوب مؤمنيه[20]. ويبقى محتجزًا حتى تنمو كنيسة السيد المسيح وتتشدد، وقبيل مجيء السيد المسيح الأخير يفك الشيطان من قيوده فيصب كل جامات غضبه، كمن هو يحتضر بظهور إنسان الخطية أو النبي الكذّاب أو ضد المسيح. هذا الذي يجند قوات بعض الأمم لحسابه، ويقيم نفسه إلهًا في أورشليم، ويحارب الكنيسة علانية، فيهرب المؤمنون أمام شدة الضيقة، وإن أمكن حتى المختارون أن يضلّوا (مت 24: 24). هكذا يعلن الشيطان حربة العلانية لمدة ثلاث سنوات ونصف.

وفي النهاية يرسل اللَّه نبييه إيليا وأخنوخ اللذين يستشهدان، ويقيمهما الرب من الموت لمقاومة إنسان الخطية، فيبيدا مملكته وينقذا الكثيرين. عندئذ يأتي السيد المسيح على السحاب لترتفع كنيسته إلى الأمجاد الأبدية. إنها المعركة الأخيرة التي فيها يسمح اللَّه للشيطان أن يدخل فيها ضد كنيسته حتى لا يحتج بعد، محددًا له مدة المعركة، وفي نفس الوقت يسند الكنيسة بنبييه إيليا وأخنوخ، وبهزيمة إنسان الخطية تنهزم مملكة الشيطان تمامًا.

إذن الحاجز المؤقت إنما هو “الأمر الإلهي” الذي يحدد الأزمنة. يمكننا أن نشبّهه بما يحدث في الطبيعة كأن يقتنص الأسد غزالاً حيًا ويأتي به وسط أشباله الصغار، فلو ترك الأسد الغزال لقتل الأشبال، لكنه يقف كحاجز له لا يسمح له أن يضرب الأشبال ضربات قاتلة، تاركًا الفرصة لصغاره أن تتعلم الافتراس. وإذ تنمو الأشبال وتتعلم الهجوم يطمئن عليها ويتركها للغزال. هكذا يهتم الله بكنيسته، حافظًا إيّاها من ظهور إنسان الخطية، تاركًا الإثم ليعمل بطريقة خفية، لكن في الوقت المناسب إذ يطمئن الرب على مؤمنيه يرفع أمره من الوسط، فيظهر إنسان الخطية على الحلبة واضحًا.

نستطيع تطبيق ذلك عمليًا في حياة المؤمن العادي. فإن المسيحي في بداية توبته يكون، كما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم، كطفل يتعلم المشي، يحتاج إلى يديّ مربيته لتسنده، لكن يلزمها بعد فترة معينة أن تسحب يديها من يديه فجأة لتتركه يمشي، معتمدًا على نفسه ولو إلى ثوانٍ. وتكون عيناها محدقتين نحوه، وقلبها يحوط به. هكذا يعاملنا الله في بداية حياتنا الروحية، مقدمًا لنا تعزيات كثيرة، ويحوّط حولنا، حافظًا إيّانا من التجارب، ولكن إذ يتشدد ساعدنا الروحي يسمح لنا بالضيقات والحروب الروحية كمن قد رُفع عنه الحاجز لكي نتشدد ونتزكى بعمل نعمته الخفيّة فينا.

يمكننا أيضًا تفسير “إنسان الخطية” هنا بالأفكار الإلحادية والفلسفات المضادة للحق، فإنه إذ يسمح الله بها في العالم، تدخل هذه الأفكار والفلسفات في حرب ضد الحق الإنجيلي لكي تحتل القلب “هيكل الله” وتتربع فيه عوض الإيمان. هذه هي سمة العصر الحديث، حيث تقوم هذه الأفكار المتشامخة كإله يسيطر على القلب.

والأمر الذي لا يمكن تجاهله هو ظهور شاب هندي يدَّعي الألوهية. ففي عام 1977 جاءتني سيدة مصرية مثقفة، حين كنت أخدم في أستراليا، وصارت تحدثني عن هذا الشاب. لقد روت لي أنها اعتادت على الحضور في الاجتماعات التابعة له، وكيف كانت في البداية تستهزئ بتعبدهم له، وكانت أحاديثهم عن القوة الداخلية المشرقة في القلب والعاملة فيه.

وبعد عدة اجتماعات، كما قالت لي، وجدت نفسها بين جماعة المتعبدين قد ركعت أمام صورته لتقول بالإنجليزية “It is my Lord”، وظنت أن إشراقة نورانية قد ملأت قلبها. وبعد مناقشات معها سألتها أن تركع أمام اللَّه كل يوم تسأله أن يعلن لها الحق، وبالفعل عادت إلى بيتها وبدأت تصلي، وبعد الصلاة فتحت إنجيلها لتقرأ الفصل الذي بين أيدينا. رَجَعت إليّ في اليوم التالي لتقول لي في ندامة صادقة: لقد أحسست بحق أنه إنسان الخطية الذي سيطر على قلبي، هيكل الله، وأقام نفسه إلهًا في أعماقي!” في توبة حقيقية عادت السيدة إلى مسيحها ليملك من جديد في هيكله.

يمكننا أن نقول أن “إنسان الخطية” يظهر في أكثر من صورة ليغتصب الهيكل المقدس بحيلٍ كثيرة. لذلك أكد السيد المسيح أنه سيظهر مسحاء كذبة كثيرون (مت 24).

أخيرًا، يليق بنا أن نعرض أحد الآراء اللاهوتية الخاصة حيث ينظر إلى المحتجز هنا على أنه كنيسة الأمم التي تحجز حتى تكمل، أما رفع الحاجز من الوسط فيعني عند أصحاب هذا الرأي اختطاف كنيسة الأمم مع عريسها لكي يأتي الارتداد ويستعلن إنسان الخطية. عندئذ يقبل اليهود الإيمان في آخر الأزمنة كقول الرسول بولس: إن القساوة قد حصلت جزئيًا لإسرائيل إلى أن يدخل ملء الأمم، وهكذا سيخلص جميع إسرائيل” (رو 11: 25-26). يؤكد أصحاب هذا الرأي اختطاف كنيسة الأمم قبل الارتداد مستندين على قول السيد المسيح: “حينئذ يكون اثنان في الحقل، يؤخذ الواحد ويترك الآخر، اثنتان تطحنان على الرحى، تؤخذ الواحدة وتترك الأخرى” (مت 24: 40-41).

لكن هذا الرأي لا يقبله كثير من اللاهوتيين، للأسباب التالية:

أولاً: القول بأن الاختطاف يتحقق قبل مجيء السيد المسيح الأخير، بل وقبل ظهور إنسان الخطية إنما يعني ظهور السيد ثلاث دفعات: أولاً عند تجسده لتتميم الخلاص على الصليب، والثاني قبل ظهور إنسان الخطية لاختطاف كنيسة الأمم، والثالث للدينونة.

لقد اهتم البعض بهذه العقيدة حتى لقّبوا أنفسهم بالأدفنتست أي المجيئيين، مع أنه يليق ألا تقوم عقيدة أساسية هكذا على مجرد تفسير شخصي لنص أو نصّين من الكتاب المقدس، بينما في عشرات المرات يتحدث الكتاب المقدس عن مجيء السيد المسيح بكونه المجيء الأخير، وللدينونة العامة النهائية.

ثانيًا: إن كان اليهود يقبلون الإيمان بالسيد المسيح عند دخول ملء الأمم، فهذا لا يعني انعزالهم ككنيسة مستقلة أو جماعة مستقلة، إنما يصيرون أعضاء متفاعلة معًا في الجسد الواحد. هذا ولا يمكننا أن نقول بأن الكنيسة كما هي الآن كنيسة الأمم. فإن كان كثيرون من اليهود قد رفضوا الإيمان، لكن كثيرين منهم أيضًا قبلوه وكرزوا به، واندمج المسيحيون سواء من أصل أممي أو يهودي معًا كقول الرسول: “لأنكم جميعًا أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع، لأن كلكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح، ليس يهودي ولا يوناني، ليس عبد ولا حر، ليس ذكر وأنثى، لأنكم  جميعاً واحد في المسيح يسوع” (غل 3: 26-28).

ثالثًا: إن كان الاختطاف لكنيسة الأمم يتحقق قبل ظهور إنسان الخطية، فمن هم الذين يقاومهم إنسان الخطية؟ هل اليهود؟ وكيف يقبلون الإيمان والكنيسة مختطفة؟ إن سفر الرؤيا يروي لنا الحرب المريرة التي ستعانيها الكنيسة في أيام ضد المسيح، هذه التي سبق فأنبأ بها حزقيال النبي.

رابعًا: لو أن كنيسة الأمم تُختطف قبل يوم الدينونة، فهل تعود مرة أخرى في اليوم الأخير؟ إن كان الكتاب يروي لنا اليوم الأخير حيث يظهر فيه فئتان: جماعة الراقدين في الرب الذين يقومون، وجماعة الأحياء الذين يختطفون في ذلك الحين (1 تس 4: 13-18)، فمن أي فئة تكون كنيسة الأمم المختطفة؟ إنهم بلا شك ليسوا براقدين لأنهم اختطفوا أحياء، ولا هم بالأحياء في ذلك الحين إذ يكون الأحياء هم اليهود الذين قبلوا الإيمان بعد اختطاف كنيسة الأمم! فلو صح تفسيرهم لظهرت فئات ثلاث: الراقدون في الرب، المختطفون أي كنيسة الأمم المختطفة، الأحياء من كنيسة اليهود، وهذا أمر لا يتفق والفكر الإنجيلي.

خامسًا: إن كان أصحاب هذا الرأي يعتمدون على قول السيد أنه يؤخذ الواحد ويترك الآخر (مت 24: 40-41)، فهذا حديث رمزي يكشف عن تمتع الإنسان الروحي بالانطلاق إلى السيد المسيح في مجده ليكون معه في الميراث، بينما يبقى الآخر كمن في مكانه أي في حرمانه من التمتع بالمجد الأبدي. هذا هو أسلوب السيد نفسه حين يلتقي مع البشرية. فإنه يقول للأشرار “إني لا أعرفكم قط. اذهبوا عني يا فاعلي الإثم” (مت 7: 23)، مؤكداً ذلك في أكثر من موضع (لو 13: 25-27؛ مت 25: 12). فهل يختفي هؤلاء عن معرفة الله؟

يستحيل لكنه لا يعرفهم كأولاد له أو أحباء وورثة للمجد! لقد أراد السيد بقوله يؤخذ الواحد ويترك الآخر تأكيد عنصر المفاجأة في الدينونة، فينعم الواحد بالميراث، ويحرم الآخر منه، دون أن تكون له بعد فرصة لاستدراك الأمر، وذلك كعرضه لهذا اليوم في مثل العذارى الحكيمات والجاهلات، فإنه لا يوجد باب حقيقي يُغلق ولا مصابيح أو زيت مادي وإنما هي رموز يقدمها الرب ليثير فينا حياة الاستعداد لملاقاته.

لهذا بعدما تحدث عن أخذ الواحد وترك الآخر،  قال: “اسهروا إذن لأنكم لا تعلمون في أية ساعة يأتي ربكم” (مت 24: 41). وواضح أن حديث السيد في هذا المجال كله هو عن اليوم الأخير والدينونة، وليس عن اختطاف يسبق مجيء ضد المسيح. لقد جاء حديثه عن ظهور ضد المسيح سابقًا لأخذ الواحد وترك الآخر (مت 24: 23- 24، 40).

حديثه الختامي عن إنسان الخطية

يختم الرسول بولس حديثه عن إنسان الخطية بقوله:

“حينئذ سيستعلن الأثيم الذي الرب يبيده بنفخة فمه ويبطله بظهور مجيئه،

الذي مجيئه بعمل الشيطان بكل قوة وبآيات وعجائب كاذبة،

وبكل خديعة الإثم في الهالكين،

لأنهم لم يقبلوا محبة الحق حتى يخلصوا،

ولأجل هذا سيرسل إليهم اللَّه عمل الضلال حتى يصدقوا الكذب،

لكي يدان جميع الذين لم يصدقوا الحق بل سُرّوا بالإثم[8-11].

ويلاحظ في كلمات الرسول الختامية عن إنسان الخطية الآتي:

أولاً: يقول “حينئذ سيستعلن الأثيم“، وكأن إنسان الخطية الذي يدعى بالأثيم. إذ يثير البشر لارتكاب الإثم وإلى دفع الغير أيضًا لارتكاب ذات الفعل، هذا الأثيم يستعلن. كأنه كان قائمًا في ذهن الشيطان قبل ظهوره، وهو يبذل كل الجهد ويستخدم كل الحيل لظهوره، لكن لا يستعلن إلا حين يسمح الله بظهوره، حين يرفع الحاجز.

يمكننا إن صح لنا أن نقول بأن الشيطان قد أدرك ما كان مخفيًا عنه، إذ أدرك أن تجسد الكلمة وعماد السيد وصلبه وموته وقيامته وصعوده، هذه الأمور جميعها إنما تمثل عمل إلهي متكامل كان في ذهن الله منذ الأزل لخلاص البشرية. وأن الله أعد البشرية لقبول هذا العمل الخلاصي خلال الآباء والأنبياء خلال الشريعة والطقوس، خلال الأحداث والرموز.

حتى يقدر البشر أن تتقبل خلاصها بالمسيح يسوع في ملء الزمان. إذ أدرك الشيطان ذلك أعد من جانبه خطة مضادة بطلها “ضد المسيح”، لقد أعد له منذ بدء الكرازة بالإنجيل خلال الهرطقات والبدع والفلسفات الإلحادية والأفكار المادية وكل صنوف التشكك لظهور ضد المسيح. لكن الله لم يسمح به ولن يسمح إلا في الوقت المحدد كفرصةٍ نهائيةٍ لعدو الخير إنه يبقى حاميًا للكنيسة من ظهوره إلى ما قبل مجيئه الأخير حتى يكمل الشيطان كأسه، وتتكلل كنيسته التي تذوق الأمرّين منه.

ثانيًا: ظهور “ضد المسيح” يمثل رعبًا شديدًا وخطرًا على الكنيسة حتى إن أمكن المختارون أن يضلّوا، وقد رأينا ذلك بوضوح أثناء دراستنا لسفر الرؤيا، ومع ذلك يقول الرسول: “الرب يبيده بنفخة فمه ويبطله بظهور مجيئه”.

ماذا يعني الرسول بنفخة فمه التي تبيد ضد المسيح؟ والتي يقول عنها إشعياء النبي: “يضرب الأرض بقضيب فمه، ويميت المنافق بنفخة شفتيه” (إش 11: 4).

بلا شك يقصد الرسول بنفخة فم السيد “الروح القدس” الذي هو روحه ونفخة فمه، لا يوهب له كنعمة وعطية، إنما هو واحد معه في الجوهر. يقول القديس أمبروسيوس: أن السيد المسيح يبيد “ضد المسيح” بروحه القدوس… [هنا لا ينال نعمة توهب له، إنما يمثل الوحدة التي بلا انقسام، حيث لا يمكن أن يوجد المسيح بدون الروح، ولا الروح بدون المسيح، إذ وحدة اللاهوت لا تقسم[21].] هذا الروح الإلهي، الذي هو روح المسيح قد قدمه السيد لكنيسته بكونه نفخة فمه، القادر وحده أن يبدد الظلمة وكل أعمال الشيطان، محطمًا قوة إنسان الخطية. لقد نفخ السيد المسيح في وجه تلاميذه وقال لهم: “اقبلوا الروح القدس، من غفرتم خطاياه تغفر له، ومن أمسكتم خطاياه أمسكت” (يو 20: 22-23).

لقد وهب كنيسته خلال خدامها الروح القدس غافر الخطية ومبددها، حتى يستطيع المؤمن أن يقول بكل قوة: “أين شوكتك يا موت؟! أين غلبتك يا هاوية؟ أما شوكة الموت فهي الخطية…” (1 كو 15: 55-56). إن كان ربنا يسوع المسيح قد غلب الموت وحطّم الخطية، فإنه وهبنا روحه القدوس الذي يدخل بنا إلى دائرة الصليب، ويثبتنا في المسيح يسوع المخلص، واهبًا إيّانا مغفرة الخطايا، فلا يقدر الشيطان العدو بكل طاقاته أن يقف أمامنا.

إن عمل الروح القدس الأساسي في حياتنا هو أن يدخل بنا إلى الشركة مع الآب في ابنه، إذ يخفينا في الابن الوحيد كأعضاء في الجسد المقدس ويثبتنا فيه، فنوجد غالبين ومنتصرين بالمسيح الذي خرج غالبًا ولكي يغلب (رؤ 6: 2).

ثالثًا: يقول الرسول: “يبطله بظهور مجيئه”. يرى العلامة أوريجينوس أن إنسان الخطية وهو يحمل أعمال الشيطان بكل عنفها وخداعاتها يمثل الكذب الذي لا يمكن أن يكون له وجود بإعلان ظهور مجيء المسيح، أي ظهور الحق[22]. فظهور المسيح يسوع شمس البرّ في أواخر الدهور يقضي تمامًا على ظلمة عدو الخير، ويدفع بها إلى العذاب الأبدي، وإعلان الحق يحطم الكذب.

نستطيع أن نقول أن ما يحدث في أواخر الدهور إنما هو امتداد لما يتحقق يوميًا في حياة الكنيسة، فبقدر ما يتجلّى العريس السماوي في حياتها ويعلن بهاؤه، لا يقدر عدو الخير عليها ولا تستطيع الخطية أن تجد لها مكانًا فيها. وكأن عمل الكنيسة كجماعة وكأعضاء هو الاختفاء في المسيح الحق ليتجلّى فيها، فتباد أعمال الظلمة، وتنتهي الجهالة. هذا هو سرّ غلبتنا ونصرتنا، لذا يقول الرسول “أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقوّيني” (في 4: 13)، كما يقول السيد نفسه: “الذي يثبت فيّ وأنا فيه هذا يأتي بثمر كثير، لأنكم بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئًا” (يو 15: 5).

رابعًا: يقدم الرسول بولس تعليلاً لظهور إنسان الخطية قبل مجيء السيد الأخير. إذ يقول: “وبكل خديعة الإثم في الهالكين، لأنهم لم يقبلوا محبة الحق حتى يخلصوا، لأجل هذا سيرسل إليهم اللَّه عمل الضلال حتى يصدقوا الكذب، لكي يُدان جميع الذين لم يصدقوا الحق، بل سرّوا بالإثم” [10، 11]. لقد سبق فجاء الحق متجسدًا ولم يعد للإنسان عذر في جهالته، ومع ذلك فقد وُجد أناس لا يصدقوا بل يفرحوا بالإثم.

هؤلاء أسلموا أنفسهم للجهل والظلمة، فيسمح اللَّه بإرسال المضلل لا ليضلهم، وإنما ليفضح أعماقهم الشريرة، ويمتلئ كأسهم. وكما يقول الرسول بولس: “وكما لم يستحسنوا أن يبقوا اللَّه في معرفتهم أسلمهم اللَّه إلى ذهن مرفوض” (رو 1: 28). وكأن مجيء إنسان الخطية لا يحطم مجيء الحق إنما يزيدهم تزكية وبهاء. إنه يحطم من حطموا أنفسهم برفضهم الحق وسرورهم بالإثم. بهذا يتحقق قول السيد: “لأن كل من له يعطى فيزداد، ومن ليس له فالذي عنده يؤخذ منه” (مت 25: 29).

2. ثباتهم في الرب

“وأما نحن فينبغي لنا أن نشكر الله كل حين لأجلكم أيها الإخوة المحبوبون من الرب

أن الله اختاركم من البدء للخلاص

بتقديس الروح وتصديق الحق” [13].

ربما خشي الرسول بولس أن يرتعب السامعون عند سماعهم عن إنسان الخطية، وما يحمله من أعمال شيطانية وخداعات، لهذا أراد أن يبعث فيهم روح الرجاء، معلنًا التزامه بتقديم ذبيحة شكر لله غير منقطعة من أجل خطته الأزلية نحونا، وحبه الإلهي، واختياره لنا، وتقديسنا بروحه القدوس، وتقديم الحق (المسيح) فنقبله!

هذا هو دور الراعي الواعي، إذ يبعث الرجاء في حياة المخدومين، فلا ترعبهم حروب الشيطان، ولا هجمات الخطية، ولا كثرة الضيقات القاسية، متطلعين بالحق إلى الله الذي أحبهم فاختارهم مقدمًا الخلاص لهم، ومقدسًا إيّاهم بروحه القدوس ليصدقوا الحق فيهمّ!

وكأن الرسول قد سحب بصيرتهم الداخلية من التطلع إلى مرارة الحرب الروحية إلى اكتشاف خطة الثالوث القدوس نحو المؤمنين، مؤكدًا الآتي:

أنهم محبوبون من الرب يسوع الذي قدم لهم الخلاص،

وأن الآب اختارهم منذ البدء لهذا الخلاص،

وأن الروح القدس يقوم بتقديس أرواحهم فتتقبل الحق فيها.

لا أريد الدخول في تفاصيل لاهوتية، لكنني أود تأكيد أن عمل كل أقنوم ليس منفردًا ولا منعزلاً عن الأقنومين الآخرين، ولتوضيح ذلك أقول:

أولاً: إن كنا محبوبين من الرب يسوع الذي أسلم نفسه لأجلنا (غل 2: 20) فإن الآب أحبنا وأرسل ابنه كفّارة لخطايانا” (1 يو 4: 10). محبة الله الفاقة جعلته يقدم ابنه مبذولاً عنا، وبذات الحب قدم الابن نفسه طاعة للآب (عب 5: 8) وتحقيقًا لإرادته التي هي واحدة معه.

ثانيًا: اختارنا الآب إذ وجدنا أبناء له خلال اتحادنا معه في ابنه الوحيد، فرآنا مقدسين باختفائنا فيه، وبلا لوم قدامه، وكما يقول الرسول: “اختارنا فيه قبل تأسيس العالم، لنكون قديسين، وبلا لوم قدامه في المحبة” (أف 1: 14). إن كان الآب بحبه اختارنا في ابنه، فإن الابن أيضًا بذات الحب الإلهي اختارنا أبناء لأبيه. يقول السيد نفسه: “ليس أنتم اخترتموني، بل أنا اخترتكم” (يو 15: 16). هنا يتحدث عن الاختيار للعمل الكرازي الخاص بتلاميذه ورسله، لكنه ينطبق بالأولى على المؤمنين في اختيارهم للبنوة لله والتمتع بخلاصه المجاني.

ثالثًا: تحدثنا في الرسالة السابقة عن تقديس الروح، بكونه خاص بأقنوم الروح القدس، لكن دون انفصال عن الأقنومين الآخرين. وكما يقول القديس أمبروسيوس: [الآب يقدس (1 تس 5: 23، يو 17: 17)، والابن أيضًا يقدس (1 كو 1: 30)، والروح القدس يقدس. لكن التقديس واحد، فإن المعمودية واحدة ونعمة السر واحدة[23].]

يكمل الرسول حديثه عن عمل الثالوث القدوس في حياة المؤمنين كمختارين للخلاص ومقدسين في بالروح القدس، قائلاً: “الأمر الذي دعاكم إليه بإنجيلنا، لاقتناء مجد ربنا يسوع المسيح” [14] لقد قدم لنا الوسيلة كما الغاية. فليس من طريق لتحقيق هذا الهدف الإلهي فينا كمختاري الرب المقدسين إلا الإنجيل، أي الكرازة بالخلاص خلال الصليب. ويدعوه الرسول “إنجيلنا”، مع أنه لم يكتب أي سفر من الأناجيل الأربعة. لكنه يعتبر كلمة الكرازة التي ينطق بها ويعيشها في حياته إنما هي إنجيله الحيّ الذي ينعم به. أما الغاية فهي اقتناء مجد ربنا يسوع المسيح الذي ننعم بعربونه خلال جهادنا الروحي، لكي ندخل إلى كماله عند مجيئه الأخير.

إن كان الله لم يبخل علينا بشيء، فقد أحبنا واختارنا ووهبنا تقديس الروح مقدمًا لنا “الحق” ذاته يسكن فينا، واهبًا إيّانا إنجيل الخلاص كطريقٍ للتمتع بمجد ربنا يسوع المسيح، فان هذا كله إنما يدفعنا للجهاد متمسكين بالتقاليد الحيّة التي قدمت لنا خلال الرسل، إذ يقول الرسول: “فاثبتوا إذن أيها الإخوة، وتمسكوا بالتعاليم (التقاليد) التي تعلمتموها، سواء كان بالكلام أم برسالتنا” [15].

ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على هذا النص بقوله: [ليتنا نفكر في تقليد الكنيسة أنه مستحق كل تقدير، إنه تقليد فلا نفكر في شيء آخر[24].] لنتمسك بالتقاليد الشفوية والكتابية التي تسلمها الرسول وسلّمها لهم، ليعيشوا إنجيل ربنا يسوع كحياة إيمانية عملية تترجم خلال العبادة والسلوك.

التقليد أو التسليم الذي تسلمناه ليس “محاكاة للماضي” لمجرد أنه ماضٍ. لكنه هو وديعة الإيمان الحيّ المعلن خلال “الاتحاد مع الله الآب في ابنه يسوع المسيح خلال الروح القدس”. هذا الإيمان يترجم عمليًا خلال القوانين الكنسية غير الجامدة وطقس العبادة الروحية والسلوك الداخلي والتصرف مع الآخرين. إنه يُترجم عمليًا في أعماق النفس وأفكار الذهن وتصرفات الجسد[25].

يختم الرسول وصيته لهم بالثبات في الرب والتقليد الكنسي بصلاة قصيرة يقدمها عنهم لكي تسندهم، إذ يقول: “ربنا يسوع المسيح والله أبونا الذي أحبنا، وأعطانا عزاء أبديًا، ورجاء صالحًا، بالنعمة يعزي قلوبكم، ويثبتكم في كل كلام وعمل صالح” [16-17]. إنه يرفع قلوبنا إلى الآب أبينا وربنا يسوع المسيح الذي يعمل في القلب كما في الفم وفي التصرف، لنحيا كما يليق بإنجيل السيد المسيح الذي ننعم به خلال التقليد، مقدسين في الفكر والأحاسيس، كما في الكلام والعمل.

 

[1] Dialog  .cum . Trypho 110.

[2] Adv Haer 5: 25: 1.

[3] De Resurr.  24.

[4] Exhort . ad  Martyr.  11.

[5]. Ad, Anti Christo  14.

[6] Adv.  Haer. 5: 30:2 .

[7] Exhort  ad  Martyr 11.

[8] In 2 Thess Hom 4.

[9] On Dan 11 : 35 .

[10] Bishop Hurd : On Prophecy, vol 2, p 28-29.

[11] Pulpet  Commentary, vol 21 (2 thess), p 54 لاستزادة في هذا راجع :

[12] Adv. Haer. 3 : 6 : 5.

[13] In Joan . hom  29 :8.

[14] On Ps .107 :33.

[15] In 2 Thess. hom  3.

[16]  J. Wendland : Miracles and Christianity, 1911 , p53 f.

[17] In 2 Thess.  hom 3.

[18] In 2 Thess.  hom 3.

[19] In 2 Thess.  Hom 4.

[20] المؤلف: رؤيا يوحنا اللاهوتي، إصحاح 19.

[21] Of the Holy Spirit 3 : 7.

[22] See Comm. On John 2 :4.

[23] Of the Holy Spirit 3.

[24]   In 2 Thess .hom 4.

[25] المؤلف : التقليد والأرثوذكسية، ص 6.

تفسير رسالة تسالونيكي الثانية 2 الأصحاح الثاني – القمص تادرس يعقوب ملطي