تفسير رسالة تسالونيكي الثانية – المقدمة – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير رسالة تسالونيكي الثانية - المقدمة - القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير رسالة تسالونيكي الثانية – المقدمة – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير رسالة تسالونيكي الثانية – المقدمة – القمص تادرس يعقوب ملطي
رسالة بولس الرسول الثانية إلى أهل تسالونيكي
القمص تادرس يعقوب ملطي
كنيسة الشهيد مار جرجس باسبورتنج
في رسالته الأولى إلى أهل تسالونيكي يرفع الرسول بولس بالروح القدس نفس المؤمن فوق الآلام، أيّا كان مصدرها أو نوعها، لينطلق به إلى السماويات منتظرًا مجيء السيد المسيح لينعم بالمجد الأبدي، ويفتح قلبه بالحب نحو كل البشرية وهو في أتون الضيق. وفي هذه الرسالة يقدم لنا صورة مرّة لحرب الشيطان المتزايدة والتي تبلغ قمتها بظهور إنسان الخطية أو ضد المسيح قبل مجيء الرب مباشرة كلما اقترب المجد الأبدي وكلما تهيأت الكنيسة كعروسٍ مقدسة ليوم عرسها هاج عليها الشيطان نفسه ليرد أبناءها عن مسيحهم. إنها ليست حربًا مادية بشرية، لكنها حرب بين الشيطان نفسه واللَّه.
حينما يتطلع المؤمن إلى انتظار مجيء المسيح الدجّال أو إنسان الخطية يستتفه كل ضيقة حالية تحل به، سواء كانت مرضًا أو متاعب من عائلته أو من زملائه، من الداخل أو الخارج.
في هذه الرسالة يكتب لنا الرسول بالروح القدس ليلهب قلبنا نحو مجيء الرب الأخير دون تجاهل لعملنا اليومي أو سلوكنا على الأرض بلا ترتيب.
يناير 1982
القمص تادرس يعقوب ملطي
مقدمة
جذبت هذه الرسالة، بالرغم من صغر حجمها، الكثير من آباء الكنيسة الأولى، مثل القديسين يوستين الشهيد وإيريناوس وإكليمنضس الإسكندري والعلامة ترتليان. وذلك بسبب نبوة الرسول بولس الواضحة عن حدوث الارتداد العظيم بظهور إنسان الخطية أو ابن الهلاك، الذي يمثل تجسيمًا للشيطان يقاوم مملكة السيد المسيح الروحية في أواخر الدهور.
هذا وقد شغلت هذه الرسالة الكثير من دارسي الكتاب المقدس وناقديه. فقد رفض البعض قانونيتها ورفض آخرون نسبتها للرسول بولس، واعتبرها فريق ثالث أنها رسالة قانونية واضعها الرسول بولس لكنها سابقة عن الرسالة الأولى، وكأنها رسالته الأولى والأخرى الثانية. وقد انبرى فريق كبير من الدارسين للرد على هؤلاء النقاد مؤكدين صدق الفكر الكنسي التقليدي الأصيل من جهة قانونيتها ونسبتها للرسول بولس وتأكيد أنها تالية للرسالة السابقة.
قانونيتها
عاشت الكنيسة الأولى تتطلع إلى هذه الرسالة كجزءٍ لا يتجزأ من كلمة اللَّه المُوحى بها بواسطة الروح القدس، لها قدسيتها التي لا تمس. وقد اقتبس منها كثير من آباء الكنيسة في القرن الثاني الميلادي في كتاباتهم مثل القديسين أغناطيوس وبرناباس ويوستين الشهيد وبوليكربس. كما اقتبست منها الديداكية[1]التي ترجع بعض نصوصها إلى القرن الأول الميلادي، بل وذُكرت الرسالة بالاسم في كتابات القديسين إيريناوس وإكليمنضس الإسكندري والعلامة ترتليان من رجال القرن الثاني.
لم يوجد قط أي مجال للشك في هذه الرسالة بعد انطلاق الكنيسة المسيحية فذُكرت في قانون مرقيون[2]، وأشير إليها بين رسائل معلمنا بولس الرسول في القائمة المورتارية[3] List Mortarian، كما وُجدت في النسخ اللاتينية القديمة والسريانية.
كاتب الرسالة
لم تظهر شكوك في القرون الأولى بخصوص كاتب الرسالة.
والرسالة في ذاتها تحمل قرائن قوية تشهد أن الرسول بولس هو كاتبها. فمن جهة أشارت إلى الكاتب في أكثر من موضع (1: 1؛ 3: 17). ومن جهة أخرى حملت طابع الرسول من جهة هيكلها الكلي، إذ يبدأ الرسول أغلب رسائله بذكر اسمه ثم من وُجِّهت إليه الرسالة، فالبركة الرسولية، وتقديم الشكر للَّه على كل نمو أو نجاح يلمسه في من يكتب إليهم لكي يسندهم ويشجعهم، بعد ذلك يتحدث في صُلب الموضوع معالجًا الجوانب الإيمانية العقيدية والسلوكية، وأخيرًا يختم رسالته بوصايا عملية ثم كلمة ختامية.
هذا الهيكل العام واضح تمامًا وبصورة قوية في هذا الرسالة. ولا يقف الأمر عند الهيكل العام، وإنما يتعدّى إلى إبراز شخصية الرسول العظيم في رقته مع اتّقاد غيرته نحو خلاص البشرية واهتمامه بالصلاة عن الآخرين وطلب صلوات الغير عنه. أسلوب الرسالة إنما يعلن بوضوح أنها من وضع ذهن الرسول بولس المتّقد.
بجانب هذه القرائن الداخلية وجدت شهادات خارجية، إذ سبق فرأينا آباء الكنيسة منذ البداية استخدموها كسفر قانوني، بكونها كلمة الله الحيّة. وقد أوضح أوريجينوس ويوسابيوس أنها كانت منتشرة في أيامهما في المسكونة كلها.
الاعتراضات الرئيسية
لاحظ الدارسون المدافعون عن أصالة الرسالة وعن نسبتها الرسول بولس أن اعتراضات النقّاد لها واهية وغير كافية لانتزاع الفكر الكنسي التقليدي[4].
ويمكننا تلخيص الاعتراضات الرئيسية في النقاط التالية:
أولاً: يعتبر الاعتراض الرئيسي والجوهري الذي يعتمد عليه النقاد هو اختلاف الفكر الاسخاتولوجي (الأخروي) الوارد في هذه الرسالة عنه في الرسالة السابقة[5]. ففي الرسالة الأولى (4: 13؛ 5: 11) يظهر يوم الرب أنه وشيك الحدوث، يتحقق فجأة كاللص في الليل، وكالمخاض بالنسبة للحبلى، بطريقة غير متوقعة. كان الرسول يهيئ ذهن المؤمنين للسهر الروحي والجهاد لملاقاة الرب القادم على السحاب ليلتقي بالكنيسة كلها. الأعضاء التي رقدت في الرب والأحياء في ذلك الحين، ليعيشوا معه إلى الأبد. أما الرسالة الثانية (ص 2) فتؤكد أن مجيء الرب على السحاب تسبقه علامة واضحة ألا وهي ظهور ابن الخطية المقاوم للسيد في كنيسته.
إن كان هذا هو الاعتراض الأساسي الذي أثار الشك في بعض الدارسين النقاد من جهة أصالة الرسالة ونسبتها للرسول بولس، فإننا إذ نتطلع إلى الرسالتين بنظرة عميقة لا نجد اختلافًا في الفكر، إنما نجد اختلافًا في الظروف المحيطة بكل رسالة، مما دفع الرسول أن يقدم في كل رسالة جانبًا من الفكر الإسخاتولوجي دون الآخر. فما ورد في الرسالتين ليس بفكرين متعارضين، وإنما جانبان متكاملان ومتلازمان لفكر إيماني واحد.
لتوضيح ذلك نقول أن الرسول كتب إلى أهل تسالونيكي في رسالته الأولى بقصد تشجيعهم على حياة السهر والجهاد بغير تذمر بل بشكرٍ دائمٍ وسط الضيق، لهذا كتب عن عنصر المفاجأة وترقب مجيء الرب للدينونة ليلهب شوق المجاهدين الروحيين للعمل بفرح ورجاء يقين. وفي نفس الوقت يحذر المتراخين أو المرتبكين لئلا يسقطوا فيُحرموا من اللقاء الأبدي مع عريس نفوسهم القادم إليهم. أما في رسالته الثانية فكتب لذات الشعب وإنما بهدف جديد وإضافي إلى الهدف السابق، وهو السلوك بحكمة وتدبير حسن في هذا العالم.
فقد أسيء فهم الرسالة الأولى، أو وردت إليهم رسالة أخرى منسوبة خطأ للرسول خلالها ظن المؤمنون أن مجيء الرب الأخير على الأبواب، فباع البعض ممتلكاتهم وأهمل الكثيرون أعمالهم اليومية مترقبين مجيء الرب من يوم إلى آخر، الأمر الذي سبب تشويشًا في الكنيسة. لهذا أسرع الرسول يحذّرهم من هذه التصرفات غير الإيمانية، مؤكدًا لهم أن مجيء الرب تسبقه علامة واضحة وعلانية وهي ظهور ابن الخطية.
فالعنصران الواردان في الرسالتين ليسا فكرين متناقضين، وإنما يمثلان فكرًا واحدًا متكاملاً. هذا ليس من عندنا، وإنما يظهر بوضوح في حديث السيد المسيح نفسه الخاص بمجيئه الأخير، فحدثنا حديثًا طويلاً عن العلامات التي تسبق مجيئه من بينها ظهور الدجّال، وفي نفس الوقت يتكلم بكل تأكيد عن عنصر المفاجأة في مجيئه من بينها ترقبنا للأزمنة والأوقات (مر 13، مت 24، لو 17: 20-37، وأع 1).
ثانيًا: حاول بعض الدارسين نسب ما ورد في الرسالة الثانية عن مجيء الرب وظهور ابن الخطية إلى عصر متأخر عن الرسول بولس، كدليلٍ على أن الرسالة ليست من وضعه، وأن الكاتب اقتبس الفكر عن سفر الرؤيا للقديس يوحنا اللاهوتي، ورأى بعضهم أن فكرة ابن الخطية كانت لدى البعض تعني ظهور نيرون الطاغية مرة أخرى الذي قيل عنه بعد موته أنه لم يمت لكنه مختفي في الشرق يستعد للظهور بعنفٍ لمقاومة الكنيسة وإيمانها بالسيد المسيح. وظن البعض أنه فاسبسيان، ورأى آخرون أنه يمثل عصر تراجان.
هذا الاعتراض لا يمكن الأخذ به، فإن هذا الفكر يوجد ما يماثله حتى عند دانيال النبي (دا 11: 36-45)، وعرف بوضوح في الكتابات اليهودية السابقة لظهور المسيحية[6]، كما أعلنه بوضوح السيد المسيح نفسه كما ورد في إنجيل معلمنا مرقس الرسول (ص 13). هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن الرسول بولس كشعلة نار متقدة بالروح القدس في كرازته بالإنجيل وجد مقاومة مستمرة وظهر حتى في أيامه مرتدون عن الإيمان. فبقلبه الناري وبصيرته الروحية أوحى له الروح القدس عن قيام حركة ارتداد عنيفة للغاية أمرّ ما تعانيه الكنيسة في عصره تسبق مجيء للسيد المسيح مباشرة، فيها يتجسم الشيطان، إن صح هذا التعبير، في شخص ابن الهلاك المقاوم لشخص المسيح حتى يكمل معيار الشر.
ثالثًا: يرى بعض النقاد وجود اختلافات بين الرسالتين بينما الكاتب واحد والمرسل إليهم لم يتغيروا والرسالتان كتبتا في وقت وجيز، وقد بالغ بعض هؤلاء النقاد في الاختلافات مثل Davidson الذي ردّ عليه Salmon قائلاً بأن هذا النقد طفولي Childish criticism، إنه نقد كما لطفل يريد أن يسمع القصة تُروى له للمرة الثانية بنفس الطريقة وذات الكلمات تمامًا[7].
في الاعتراضين السابقين رأينا الاختلاف بين الرسالتين في الحديث عن مجيء الرب الأخير. بجانب هذين الاعتراضين يقول بعض النقاد أن الرسالة الأولى اتسمت بالمشاعر الفيّاضة والملتهبة من جهة الرسول نحو أهل تسالونيكي، بينما تكاد تتسم الثانية بشيء من الرسمية مع نوع من الحزم. ففي الرسالة الأولى يقول: “نشكر اللَّه كل حين” (1 تس 1: 2)، بينما في الثانية يقول: “ينبغي لنا أن نشكر اللَّه كل حين” (2 تس 1: 3؛ 2: 13). في الرسالة الثانية يقول: “نوصيكم مثل… هؤلاء نوصيهم ونعظهم” (2 تس 3: 6-12)، اللهجة التي لا نجدها في الرسالة الأولى.
ولعل السبب في تغير اللهجة هو تغير الهدف، ففي الأولى يكتب الرسول كأب يشجع أولاده وقت الضيق موضحًا أبوته الحانية على المتألمين وكاشفًا مشاركته إياهم في آلامهم. أما في الثانية فيكتب لذات الشعب، ولكنه يوصي ويعظ بسبب سوء تصرفهم وامتناع الكثيرين عن العمل اليومي. لا يمكننا أن نطالب الرسول أن يكتب بنغمة واحدة في كل رسائله، إنما يقدم النغمة التي تناسب موضوع الكتابة والظروف المحيطة بالمرسل إليهم.
أما الاختلاف التالي الذي ركّز عليه النقاد فهو أن الرسالة الأولى موجهة بالأكثر إلى المؤمنين الذين من أصل أممي، والثانية فموجهة بالأكثر إلى من لهم دراية كبيرة بالعهد القديم. وقد اقترح A. Haruack نظرية الكنيسة المنقسمة، قائلاً بأن الرسول كتب رسالته الأولى إلى كنيسة الأمم في تسالونيكي والثانية إلى الكنيسة التي من أصل يهودي في ذات البلد.
لكنه لا يمكننا قبول هذه النظرية، خاصة وأن الرسول بولس في رسالته يؤمن بجامعية الكنيسة وعدم تقسيمها بهذه الصورة. هذا ونلاحظ أن الرسول في رسالته الأولى يطالب بقراءتها على جميع الإخوة دون تمييز بين من هم من أصل أممي أو يهودي. أما استخدام العهد القديم فهذا لا يعني تخصص الرسالة الثانية لمن هم من أصل يهودي، ففي الأناجيل المكتوبة لمن هم من أصل أممي كإنجيل معلمنا مرقس الرسول استخدمت اقتباسات من العهد القديم.
رابعًا: إن كان البعض قد بالغ في وجود اختلافات بين الرسالتين كقرينة للاعتراض على الرسالة الثانية، فإنه من الجانب الآخر رأى البعض أن التشابه الشديد بينهما خاصة في الافتتاحية التي تكاد تكون مطابقة للرسالة الأولى ما يشكك في قانونية الرسالة الثانية، قائلين: ما الحاجة أن يكتب الرسول نفسه رسالة ثانية لذات الشعب وفي وقت وجيز؟ وبأسلوب متقارب في أمورٍ كثيرة؟
هذا الاعتراض ضعيف للغاية، ليس ما يوحي بالتشكك، خاصة وأن الرسالتين حملا ما هو متقارب، وما هو مختلف. يحدث التقارب حينما يكتب الرسول في أمر يود تأكيده، ويحدث الاختلاف حينما يكتب في أمرٍ جديدٍ طرأ على الكنيسة بعد وصول الرسالة الأولى.
خلال ملاحظاتنا على هذه الاعتراضات تتأكد لنا بالأكثر أصالة هذه الرسالة وصحة نسبتها للرسول بولس، وأنه لا حاجة للمحاولات التي قدمها بعض الدارسين كحلول للاعتراضات السابقة كأن يفترض البعض أن الكاتب غير معروف، أو أنها من وضع القديسين تيموثاوس وسيلا، وأن الرسول بولس اكتفي بتوقيعه فقط (3: 17)، أو أنها رسالة خاصة بالكنيسة التي من أصل يهودي، فإن هذه الحلول تثير مشاكل كثيرة. لهذا التزم غالبية الدارسين بالفكر الكنسي الأصيل.
ترتيب الرسالتين
افترض بعض الدارسين[8] أن الرسالة التي بين أيدينا سابقة للرسالة الأولى على خلاف ما جاء في التقليد الكنسي الأصيل، مقدمين الدلائل التالية، التي رفضها غالبية الدارسين لضعفها وعدم كفايتها:
أولاً: ادعى البعض أن ترتيب الرسالتين في الكتاب جاء ليس حسب تاريخ إرسالهما وإنما حسب حجمهما. هذه الحجة لا يمكن الاعتماد عليها، خاصة وأن هذا الترتيب وُجد في قانون مارقٌيون الذي لا يهتم بحجم الأسفار المقدسة.
ثانيًا: يرى البعض أن الرسالة الأولى لا تحوي شيئًا غير مفهوم تشرحه الرسالة الثانية. لكننا لا نقدر أن نقبل هذا الرأي، فإن حديث الرسول عن مجيء السيد المسيح في الرسالة الأولى قد أُسيء فهمه، فأسرع يكتب إليهم عن العلامات السابقة لمجيئه (2: 1-11)، لتكمل ما جاء في الرسالة الأولى، وتصحح ما حدث من سوء فهم.
ثالثًا: يرى البعض الدارسين أن الرسالة الأولى قد تحدثت عن غلبة أهل تسالونيكي (1 تس 1: 6-8). وكأن الأزمة قد عبَرت وانتهت بينما الرسالة الثانية تتحدث عن الضيقة التي لا تزال قائمة بل ومتوقعة في المستقبل. لكن هذه القرينة لا يمكن قبولها، فإن حديث الرسول عن النصرة والغلبة لا يعني عبور الضيقة، إنما كتب ذلك للتشجيع ولمساندتهم في تكميل طريق جهادهم وقبولهم الألم بأكثر شكر. نوالنا النصرة لا يعني نهاية الحرب الروحية أو توقف الضيقة، فإن النصرة تتبعها نصرة بلا توقف.
رابعًا: يرى البعض أن الرسول يظهر كمن هو على علم بالأمور الداخلية للكنيسة في تسالونيكي، إذ يقول: “وأما المحبة الأخوية فلا حاجة لكم أن أكتب إليكم عنها، لأنكم أنفسكم متعلمون من الله… فإنكم تفعلون ذلك“ (1 تس 4: 9-10) بينما يكتب في الرسالة الثانية كمن هو في حاجة أن يدرك ما هم عليه كقوله: “ونثق بالرب من جهتكم أنكم تفعلون ما نوصيكم به وستفعلون أيضًا” والرب يهدي قلوبكم إلى محبة اللَّه وإلى صبر المسيح“ (2 تس 3: 4-5). كيف يمكن أن يكتب في الرسالة أنه مدرك لأفعال محبتهم، بينما يعود فيكتب أنه يأمل في الرب أن يكونوا ممارسين لها؟
للرد على ذلك تقول بأن الرسول كتب في رسالته الأولى ليسند ويشجع وسط الضيق لهذا أبرز الجانب الطيب مؤكدًا اتجاههم الروحي الذي يعرفه عنهم في ثقة ليدفعهم للنمو، وفي الثانية إذ ينصح، كتب كمن يسألهم ويتأكد من سلوكهم في الطريق السليم بعدما أساءوا فهم مجيء الرب.
خامسًا: يعترض البعض قائلين كيف بعدما قال في الرسالة الأولى: “وأما الأزمنة والأوقات فلا حاجة لكم أيها الاخوة أن أكتب إليكم عنها…“ (1 تس 5: 1)، يعود فيكتب عن ظهور إنسان الخطية في الرسالة التالية لها (2 تس 2)، لكن ما هو منطقي أنه في أول رسالة له كتب لهم عن إنسان الخطية، ولما تساءلوا معه عن موعد ظهوره لتحديد موعد مجيء الرب كتب إليهم أنه لا حاجة أن يعرفوا الأزمنة والأوقات.
يرد عليهم بأن الرسول بولس أثناء كرازته لهم أخبرهم شفاهًا عن مجيء الرب وبعد تركه تسالونيكي أثيرت التساؤلات حول موعد مجيء السيد وظهور ملكوته الأبدي. هذه التساؤلات طبيعية، ثارت من قبل في أذهان التلاميذ (مت24: 3)، ولا تزال تثور في أذهان المسيحيين حتى يومنا هذا، في الشرق كما في الغرب، وذلك بحكم ترقب الإنسان للأحداث المقبلة واشتياقه الداخلي للمعرفة. وكما فعل السيد المسيح مع تلاميذه، هكذا أيضًا الرسول بولس مع كنيسة تسالونيكي، فحذرهم أولاً من الانشغال في تحديد الأزمنة والانشغال بالأوقات، وإنما عوض التساؤلات يلزم السهر والاستعداد لمجيء الرب. وإذ فهموا حديثه بطريقة خاطئة بعث يؤكد لهم ظهور إنسان الخطية ليس تحديدًا للأزمنة، وإنما لينزع عنهم اللبس في الفهم.
سادسًا: لاحظ البعض أن الرسول افتتح بعض المواضيع في رسالته الأولى بالكلمة “وأما…” (1 تس 4: 9؛ 5: 1) الأمر الذي يشتم منه أنه يكمل حديثه عن أمر سبق فكتب عنه، فلا تكون هي الرسالة الأولى وإنما تسبقها رسالة أخرى. ويجيب بعض الدارسين بأن هذا لا يعني الالتزام بإرسال رسالة سابقة للأولى، وإنما يمكن أن يشير إلى أن هذه المواضيع قد تعرض لها قبلاً معهم ولو شفاهًا أثناء كرازته لهم، أو ربما يشير إلى رأيه في الرب بعدما حدّثهم عنها خادم آخر.
سابعًا: أن ملاحظته الختامية: “السلام بيدي أنا بولس الذي هو علامة في كل رسالة، هكذا أنا أكتب“ (2تس3: 17)، يجدر أن تكون قد سُجلت في أول رسالة له، فلا تكون هذه الرسالة هي الثانية بل الأولى.
يرد على ذلك بالقول أن هذه الملاحظة سجلها الرسول بعد أن حدث لبْس بين رسائل الرسول الحقيقية والمزيفة، فيكون بهذا قد بعث الرسول رسالته الأولى كما ظهرت أيضًا رسالة أخرى منسوبة إليه خطأ.
ثامنًا: جاء في الرسالة الأولى أنه بعث إليهم تيموثاوس (1 تس 3: 2)، وظن البعض أن هذا يشير إلى أن الرسالة سُجلت بعد إرسال تيموثاوس الذي حمل الرسالة الثانية معه. فتكون بهذا الرسالة الثانية في حقيقتها هل الأولى، حملها تيموثاوس إليهم.
يرد على هذا بأن الرسول لم يبعث القديس تيموثاوس كحامل لرسالة له، وإنما بعثه كشريك معه في الخدمة يسندهم في الضيقة هذا من جانب، ومن جانب آخر لو أن تيموثاوس قد حمل الرسالة التي بين أيدينا لأشار إلى ذلك في الرسالة نفسها كحامل للرسالة.
لم يقف الدارسون على الرد على اعتراضات القائلين بأن هذه الرسالة هي الأولى، وإنما أوردوا الجوانب الإيجابية لتأكيد الفكر الكنسي الأصيل من جهة ترتيب الرسالتين، منها:
- المشاكل الواردة في الرسالة الأولى جاءت في الرسالة الثانية بأكثر عمق، أو مكملة لها.
- يظهر الرسول في الرسالة الثانية أنه قد سبق فأرسل لهم رسالة سابقة (2: 2؛ 3: 17)، غالبًا ما يقصد بها الرسالة الأولى، وفي نفس الوقت لم يشر في الرسالة الأولى إلى رسالة سابقة لها.
- لو صح القول بأن الرسالة التي بين أيدينا هي الرسالة الأولى، فكيف يبدأ بها حيث ينصح وينذر ليعود فيرسل الرسالة الأخرى التي تحمل مشاعر حارة شخصية، فإن المنهج الذي اعتاده الرسول بولس أن يعطي حبًا ويفيض بالمشاعر لكي يتقبل السامع أو القارئ النصيحة، عندئذ ينصح وينذر.
أسباب الرسالة وغايتها
- سبق فرأينا أن الغاية الرئيسية لهذه الرسالة تصحيح المفاهيم الخاطئة التي سقط فيها بعض المؤمنين عند سماعهم الرسالة الأولى من جهة مجيء الرب، حيث ظنوا أن المجيء قد صار على الأبواب فأسرعوا إلى إهمال شئونهم اليومية وسلكوا في حياتهم بلا ترتيب. لهذا أرسل إليهم ينبئهم بأن المجيء لن يتحقق إلا بعد ظهور ابن الهلاك ويتسبب في ارتداد عظيم (2: 1-11).
- يبدو أن رسالة ما قد وصلت إليهم منسوبة خطأ إليه أكدت لهم مفاهيمهم الخاطئة الخاصة بمجيء الرب، لذلك كتب هذه الرسالة موقعًا عليها بنفسه (3: 17).
- إذ كانت الكنيسة لا تزال تحت الضيق كتب إليهم بأسلوب أبوي يشجعهم على احتمال الألم ويوضح لهم السلوك اللائق بهم كأولاد للَّه.
تاريخ كتابتها:
يبدو أنها كُتبت بعد الرسالة الأولى بشهور قليلة، حوالي منتصف عام 53م حيث كان القديسان تيموثاوس وسيلا لا يزالان معه (1: 1)، كتبها من كورنثوس.
أقسام الرسالة:
يمكننا تقسيم هذه الرسالة إلى ثلاثة أقسام رئيسية، فيتحدث في الأصحاح الأول بأسلوب إفخارستي (تشكرات للَّه)، وفي القسم الثاني يتحدث بأسلوب رؤيوي (ص2)، وفي الثالث بأسلوب عملي.
- افتخاره بهم ص1.
- إنسان الخطية ص2.
- وصايا عملية ص3.
[1] راجع للمؤلف: قانون الإيمان للرسل والديداكية.
[2] مرقيون: هرطوقى، حُرم عام 144م ، كان لأتباعه دور خطير في إفساد الإيمان . يدور فكره نحو رفض العهد القديم تمامًا.ففي نظره أن الله الخالق هو نفسه إله الناموس لا علاقة له بيسوع المسيح الذى جاء ليعلن عن الله المحب ،الكائن الأعظم.
[3] أقدم قائمة عن الأسفار القانونية، ترجع الى القرن الثانى الميلادى. سميت كذاك لأن أول من نشرها هو العالم الإيطالى مورتارى عام 1740م، نقلاً عن مخطوطة كانت في مكتبة البروسيوسى بميلان، لكنها كانت أصلاً في الدير الايرلندي الكبير في بوبيو Bobbio.
[4] هاجم Schmidt عام 1804 هذه الرسالة متبعًا في ذلك De wette, Mayerhof, Schrader الذى غير رأيه بعد ذلك، وتجدد الهجوم بواسطة Baur ,Kern ، كما هاجمتها مدرسة توبنجن Tubingen وقام كثير من الباحثين يدافعون عنها من جهة قانونيتها ونسبتها للرسول بولس منهم Zahan , Wiess , Hofmann , Sabatier , Reuss, Fein, Appel , Hadorn , Moffat , Baljon ,Godet , Farrar Julicher , Goodspeed , Bake , Knox , Michaelis , Behan راجع في هذا:
- Berkhof: New Testament Introduction. ,1915, p. 229.
Donald Guthrie:New Testament Intr.,1975, p 570
[5] G.Masson: Les Epitres aux Thessaloiciens ,1975, p 10, 11
[6] Schurer; Geschichte de Judischen Volkes im Zeitalter Jesu Christi, Vol 2, p621 f
[7] Salmon: Historical Introduction to the Books of the N. T., 1989, p 398
[8] منهم Laurent, Vander Vies, Ewald, Grotius .