تفسير رسالة تسالونيكي الأولى 4 الأصحاح الرابع – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير رسالة تسالونيكي الأولى 4 الأصحاح الرابع – القمص تادرس يعقوب ملطي
الأصحاح الرابع
تثبيت المؤمنين
إن كانت الضيقات التي عاشها أهل تسالونيكي مباشرة في بلدهم أو خلال الرسول بولس المتألم من أجل الله والخدمة قد زكتهم أمام الله والناس، وصارت شهادة حق، وسرّ كرازة للإيمان في كل مكان، وتمجد الرسول بسببهم، فإنه يركز أنظارهم إلى النمو أكثر فأكثر من أجل بنيان نفوسهم الروحي، حتى يتهيأوا خلال الحياة الفاضلة (المقدسة) في الرب خاصة الحب، للالتقاء مع العريس السماوي القادم. لهذا يحدثهم الرسول عن:
-
- مفهوم الحياة الفاضلة ١ – ٣.
- التخلي عن الزنا ٤ – ٨.
- النمو في الحب ٩ – ١٦.
- مجيء الرب الأخير ١٣ – ١٨.
١. مفهوم الحياة الفاضلة
“فمن ثم أيها الإخوة نسألكم ونطلب إليكم في الرب يسوع،
كما تسلمتم منا، كيف يجب أن تسلكوا وترضوا الله تزدادون أكثر،
لأنكم تعلمون أية وصايا أعطيناكم بالرب يسوع،
لأن هذه هي إرادة الله قداستكم” [١–٣].
يبرز الرسول في هذه العبارات المختصرة مفهوم الحياة الفاضلة، أو السلوك المسيحي المقدس، بمنظار مسيحي إنجيلي، يمكن أن نلخصه في النقاط التالية:
أولا: الحياة الفاضلة ليست أخلاقيات اجتماعية مجردة وسلوكًا أدبيًا يتدرب عليه الإنسان بقدراته الخاصة وجهاده الذاتي، وإنما أولاً وقبل كل شيء هي تفاعل حيّ مع الوصية الإلهية في المسيح يسوع. لهذا يقول الرسول: “نسألكم ونطلب إليكم في الرب يسوع“، أي نوصيكم فيه.
إن كان الرسول يوصيهم في الرب يسوع، وليس من عندياته، وإلا كانت وصايا بشرية قد تكون براقة وجميلة لكنها عاجزة عن العمل في أعماق القلب. وصية الرب “في الرب يسوع” هي كلمة الله التي يقول عنها الرسول في موضع آخر: “حية وفعالة وأمضى من كل سيف ذي حدين وخارقة إلى مفرق النفس والروح والمفاصل والمخاخ، ومميزة أفكار القلب ونياته” (عب ٤ :13).
لقد كشف الرسول عن دوره بكل وضوح بقوله: “إذاً نسعى كسفراء عن المسيح، كأن الله يعظ بنا، نطلب عن المسيح: تصالحوا مع الله” (٢ كو ٥ :2). فنحن لا نتقبل الوصية، حتى وإن كانت من فم رسول إلاَّ بكونها وصية إلهية، يعلنها المسيح فينا، لكي يكون لها سلطان في داخلنا لتغيير حياتنا والدخول بنا إلى أعماق جديدة.
إن قول الرسول “في الرب يسوع“، إنما تعني أنه لا يتحدث معنا إلاَّ وهو مختفي في الرب يسوع، حيث يجد له في أحشائه موضع راحة وسلام فائق، متذوقًا الحب الإلهي فيه. من هذا الموضع الجديد يتحدث معنا لكي نُوجد نحن أيضًا “في الرب يسوع“، ويكون لنا معه ذات المصير المفرح. في المسيح يسوع ربنا يختفي الراعي كما الرعية، وفيه يوصي الكاهن أولاده، ويتقبل الأبناء الروحيون الوصية، وفيه يجاهد الكل، كما فيه يتكلل الكل. في اختصار نقول أن الحياة الفاضلة في جوهرها هي الدخول المستمر “في الرب يسوع” للتمتع بأعماق جديدة خلال عمله الدائم فينا بنعمته المجانية العاملة في قلوب المجاهدين.
ثانيًا: إن كانت الحياة الفاضلة هي قبول الوصية الإلهية في المسيح يسوع ربنا لتعمل فينا، فإننا نتقبلها خلال التسليم Paradosis، إذ يقول الرسول: “كما تسلمتم منا كيف يجب أن تسلكوا وترضوا الله“. فالسلوك المسيحي هو جزء لا يتجزأ من التسليم الرسولي.
إنه مرتبط بالإيمان المسيحي أو إنجيل المسيح الذي تقبلته الكنيسة من السيد المسيح خلال تلاميذه كتسليمٍ حي يعيشه المؤمنون ويُسلم خلالهم عبر الأجيال. هكذا بالتسليم – في مفهومه الأصيل الروحي – نتقبل الإنجيل الحيّ، لا كأفكارٍ عقائديةٍ مجردة، وإنما بالحري حياة إيمانية عملية معاشة في القلب في الداخل، ومًعلنة خلال العبادة الجماعية والعائلية والشخصية، وفي السلوك العائلي ومع الإخوة والغرباء. إنها حياة تمس كيان الإنسان في كل لحظة من لحظات وجوده وترتبط بكل نسمة من نسمات حياته، تتفاعل مع أفكاره وأحاسيسه وكلماته وأعماله. هكذا يظهر الإنجيل خلال التسليم عقيدة وسلوكًا بغير انفصال.
ثالثًا: غاية الحياة الفاضلة هي: “يجب أن تسلكوا وترضوا الله”. لم يكن ممكنًا إرضاء الله بعد أن فقد الإنسان صورة الله وتشوه المثال الذي له فيه. يتطلع الله إلى البشرية بعد سقوطها فلا يشتم فيها رائحة رضا بل يجد “الكل قد زاغوا معًا، فسدوا، ليس من يعمل صلاحًا ولا واحد“ (مز ١٤: ٣).
لكن إذ جاء كلمة الله متجسدًا، وحل بيننا، انفتحت السماوات لتسمع صوت الآب “هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت” (مت ٣: ١٧؛ ١٧: ٥). سمعناه حين دخل السيد المسيح إلى مياه المعمودية في الأردن، وحين ارتفع بتلاميذه على جبل التجلي، ونحن إذ نقبل العضوية في جسده المقدس – في الأردن الجديد – إنما نتقبل رضا الآب وسروره، حيث يرانا متحدين في ابنه، موضوع سروره. وإذ يرتفع بنا الروح القدس على جبال الكتاب المقدس كما على جبل تابور ليتجلى مسيحنا فينا، ويعلن ملكوته في داخلنا ونسمع ذات الصوت من الآب الذي يفرح بثمرة روحه القدوس فينا.
إن كانت الحياة الفاضلة هي دخول “في المسيح يسوع“، فإننا فيه نجد رضا الآب وسروره، وخارجًا عنه لا يُمكن إرضاؤه. وكما يقول الرسول: “بدون إيمان لا يمكن إرضاؤه“ (عب ١١: ٦). بمعنى آخر الحياة الفاضلة ليست سلوكًا اجتماعيًا مجردًا، فيه يلتزم الإنسان ألا يضر الغير بل يعينه ويسنده، وإنما هي أعمق من ذلك. هي دخول إلى الإتحاد مع الله في المسيح يسوع، لكي يستريح بنا وفينا بكوننا أعضاء جسد ابنه، مقدمًا لنا موضعًا في أحضانه الأبوية.
رابعًا: يقول الرسول: “تزدادون أكثر“. بهذا المفهوم لا تقف الحياة الفاضلة الحقيقية عند حدود، إذ لا يستريح المؤمن حتى يبلغ إلى “قياس قامة ملء المسيح“ (أف ٤: ٣)، يحمل سماته واضحة ونامية فيه بلا انقطاع، حيث يتجلى السيد نفسه فيه من يومٍ إلى يوم، ليدخل به إلى عظمة بهائه.
إن كنا “في المسيح يسوع” ندخل إلى رضا الآب، فإننا في المسيح يسوع أيضًا ينبغي أن نجاهد بغير انقطاع لكي ننعم بالنمو فيه، ونزداد بالأكثر من جهة رضا الآب. لقد أدرك الرسول أنه بدون إيمان لا يمكن إرضاؤه، لكنه ليس خلال التراخي أو الكسل، وإنما خلال الجهاد الذي لا ينقطع كجندي روحي، إذ يقول: “ليس أحد وهو يتجند يرتبك بأعمال الحياة لكي يرضى من جنده“ (٢ تي ٢: ٤). إنه يجاهد لكي بعدما صار في الروح لا يعود بعد إلى الحياة في الجسد، لأن “الذين هم في الجسد لا يستطيعون أن يرضوا الله“ (رو ٨: ٨).
وفي جهاده غير المنقطع لا يطلب مديح الناس بل رضا الله، كقوله: “أفأستعطف الآن الناس أم الله؟ أم أطلب أن أرضي الناس؟ فلو كنت بعد أرضي الناس لم أكن عبدًا للمسيح“ (غل ١: ١٠). من أجل إرضاء الآب يتنازل ليس فقط عما هو شرير من شهوات الجسد وطلب مديح الناس وإنما يتنازل حتى عن حقوقه الشرعية، حتى يبلغ كمال الرضا، وذلك كأن يحيا في البتولية ليس تدنيسًا للحياة الزوجية، وإنما للتفرغ ما استطاع للجهاد الروحي، إذ يقول: “غير المتزوج يهتم في ما للرب كيف يرضي الرب“ (١ كو ٧: ٣٢).
خامسًا: لخص الرسول الحياة الفاضلة المرضية لدى الآب في العبارة: “لأن هذه هي إرادة الله قداستكم” [3]. ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم هكذا: [لاحظ كيف أنه لا يتطلع إلى أي موضع بحماسٍ كهذا. فإنه يكتب عنه في موضع آخر: “اتبعوا السلام مع الجميع والقداسة التي بدونها لن يرى أحد الرب“ (عب ١٢: ١٤). لماذا نتعجب إن كان يكتب لتلاميذه عن هذا الأمر في كل موضع، ففي رسالته إلى تيموثاوس يقول: “احفظ نفسك طاهرًا” (1 تي ٥: 22)، وفي رسالته الثانية إلى أهل كورنثوس يقول: “في صبر كثير، في أصوام، في طهارة” (٢ كو ٦ : ٥-٦)[1].]
ماذا يعني الرسول بالقداسة التي يريدها الله فينا؟ إنها اعتزال ما قد دخل إلى طبيعتنا كأمرٍ غريبٍ، وقبول ما هو لله. بمعنى أن القداسة إنما تحمل عمليتين متلازمتين ومتكاملتين: تفريغ وامتلاء، تفريغ عن الشر الذي تسرب إلى طبيعتنا خلال اعتزالنا الله، وامتلاء من الله نفسه القدوس كسرّ حياتنا. فإن كان الله هو القدوس، فإن حياتنا الفاضلة هي أن تتحقق إرادته المقدسة فينا، فنحمل قداسته داخلنا، ونكون قديسين فيه.
إذ ندخل بالروح القدس إلى المسيح نفسه، فإن الروح يأخذ مما للمسيح ويخبرنا (يو ١٦: ١٤)، ليس بالكلام فقط، وإنما يخبرنا عمليًا، فيحول فكرنا إلى فكر المسيح، وتصير إرادتنا إنما هي إرادة المسيح، وتصير أعضاؤنا أعضاءه، وآلامنا آلامه الخ. وكأن القداسة إنما هي تجلي المسيح القدوس في حياتنا الداخلية وسلوكنا الظاهر!
٢. التخلي عن الزنا
إذ يتحدث الرسول عن الحياة الفاضلة في الرب، يتعرض للجانبين السلبي والإيجابي، فإنه لا تمتع للتقديس بدون التفريغ عن النجاسة، ولا يمكن أن يكون موضع لله داخل القلب مع بقاء الشر فيه. الحياة الفاضلة عملية ديناميكية مستمرة، خلالها يأخذ الإنسان ويفرغ، وينعم بلذة الحياة مع الله مع رفض لذة الخطية، يقبل الفكر الإلهي متخليًا عن الأفكار الشيطانية.
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم:[تنقسم الفضيلة إلى أمرين: ترك الشر وصنع الخير. فإن التخلي عن الشر لا يكفي لبلوغ الفضيلة، إنما يُحسب هذا مجرد ممر وبداية تقود إلى ما بعدها، فإننا في حاجة إلى نشاطٍ عظيمٍ[2].]
هنا يتحدث الرسول عن الجانب السلبي للحياة الفاضلة، وهو التخلي عن كل شرٍ خاصة الزنا بكل أبعاده، أي بالفكر والنظر والعمل، مقدمًا مفهومًا حيًا لتركه يمكن توضيحه في النقاط التالية:
أولا: إن كان الزنا بكل صوره من أبشع الخطايا، فإن الرسول وهو يتحدث عن التخلي عنه يتحدث عن الجانب الإيجابي أي اقتناء القداسة. وكأن التخلي لا يمكن أن يتم منفردًا دون الأخذ. إنه يقول: “أن تمتنعوا عن الزنا، أن يعرف كل واحد منكم أن يقتني إناءه بقداسة وكرامة، لا في هوى شهوة كالأمم الذين لا يعرفون الله” [٣–٥].
فالأممي لا يقدر أن يترك هوى الشهوة، لأنه لا يعرف الله، أي لا يعرف اقتناء الله والاتحاد معه. إن عرفه إنما خلال معرفة الفكر النظري والفلسفة الذهنية، لذا يبقى في فراغه لا يقدر أن يتخلى عن الشهوات والملذات لعلها تقدر أن تشبع حياته. أما المؤمن الحقيقي فإنه يستطيع الامتناع عن الزنا، بل ويستنكف منه ولا يطيقه، لأن في الامتناع عنه لا يشعر بحرمان أو فراغ، إنما يقتني إناءه الذي هو جسده بقداسة وكرامة، يشعر بفيض إلهي ينبع داخله ويرويه ويفيض! خلال الإتحاد مع الله في ابنه القدوس لا يشعر المؤمن بعطش إلى ملذات زمنية، فإن ما يناله أفضل مما يتركه!
خلال هذه الحياة الجديدة التي صارت لنا في المسيح يسوع يجاهد المؤمن ممتنعًا عن الزنا كأمر لا يليق بالطبيعة الجديدة التي تمتع بها في المعمودية، متطلعًا إلى جسده كإناء مقدس وآلة برّ لله.
يمكننا أيضًا النظر إلى “الإناء” بمعنى الزوجة أو الزوج، فإن المسيحي يتطلع إلى الطرف الثاني في حياته الزوجية بكونه “إناءه“، يدخل في قلبه ويستقر بالحب خلال الوحدة الذي يقدمها لهما الروح القدس. في استقرار كل منهما في قلب الآخر لا يمكن لأحدهما أن ينطلق إلى موضع آخر. إنه يكون كحمامة نوح لا تستريح إلاَّ في يديه، وليس كالغراب الذي يمكنه أن يستقر على الجثث والجيف.
ويرى القديس أغسطينوس[3] أن الحديث هنا يخص العلاقة الزوجية، فكل طرف يتطلع إلى الآخر بنظرة مقدسة، كإناءٍ مقدسٍ، فلا تقوم العلاقة بينهما على أساس شهوة الجسد بل الحب، فينجبان الأطفال كثمرة الحب والوحدة لا ثمرة شهوات الجسد التي بلا ضابط.
والقديس أمبروسيوس[4] تفسير رمزي للإناء المقدس، إذ يرى في الكاهن أو الخادم الذي ينطق بكلمات الكرازة في رياء، أي يعظ ولا يعمل كمن يفسد قلوب الآخرين عوض أن يقتنيها آنية مقدسة للرب، فتحسب كآنية للهلاك بدلاً من أن يقتنوهم آنية للكرامة!
ثانيًا: يرى الرسول بولس في الزنا تعدي على الإخوة، إذ يقول: “أن لا يتطاول أحد ويطمع على أخيه في هذا الأمر“ [٦]. من يتطلع إلى آخر بنظرة شهوانية يطمع في جسده لحساب شهوته الخاصة. فالحب في جوهره بذل وعطاء وتكريم، أما الشهوة فأخذ واغتصاب وامتهان للغير. الحب انفتاح القلب للعطاء بلا تمييز للجنس أو الشكل، به يحترم الإنسان الطرف الآخر في إنسانيته، ويقدر فكره ومواعيده وحياته. فالمرأة المحبوبة لدى رجلها هي التي تجد في قلبه كما في نظراته حبًا خالصًا لا لإشباع شهوات جسده، وإنما خلال العطاء والبذل والتقدير يهتم بشخصها وفكرها ومواهبها. إنه يتعامل معها خلال إنسانيتها ككل، وليس خلال الجسد منعزلاً، وبهذا تكون العلاقة الجسدية ثمرة محبة صادقة سامية.
يقدم لنا القديس يوحنا الذهبي الفم مثالاً حيًا للتمييز بين الحب والشهوة، فبحسب فكرنا البشري أو تعبيرنا الدارج يقال عن امرأة فوطيفار أنها أحبت يوسف، لكن في الحقيقة لم تحبه بل أرادت أن تشبع شهوتها الخاصة، والدليل على ذلك أنه إذ رفض طلبها سلمته للسجن ظلمًا، وعرضت حياته للخطر.
أما يوسف فكان بالحق يحبها، فإنه وإن كان قد امتنع عن الالتصاق بها في الشر، لكنه في رقةٍ قدم لها إرشادًا كافيًا لإخماد لهيب شهوتها، فذّكرها بزوجها حتى يخجلها، ولم يقل “زوجك” بل “سيدي” لكي يوقظ ضميرها وتعرف مركزها أنها سيدته. وكأنه في لطف يعاتبها: عار عليكِ أن تطلبي الشر مع عبدٍ لكِ، تأملي زوجة من أنتِ؟ وبالرغم من لطفه الشديد وعتابه معها زجت به في السجن، وحينما نال كرامة في عيني فرعون وصار الرجل الثاني بعده لم ينتقم لنفسه منها[5].
إذن، الزنا هو طمع للغير وليس حبًا، هو انغلاق النفس من أجل إشباع الإنسان هواه الخاص!
ويقدم لنا القديس يوحنا الذهبي الفم تفسيرًا آخر لكلمات الرسول: “أن لا يتطاول أحد ويطمع في هذا الأمر” بقوله: [لقد رسم الله للإنسان زوجة، واضعًا قيودًا طبيعية، فلا يتصل أحد إلاَّ بواحدة فقط. فمن يتصل بأخرى يكون قد تطاول وأخذ أكثر مما له، إنه بهذا يتصرف بلصوصية، بل وأقصى من اللصوصية، لأننا لا نحزن أن سلب مالنا مثلما إذا انتهك زواجنا. أندعوه أخًا ونخطيء إليه في أمور دنسة (باغتصاب زوجته)![6]]
ثالثًا: الدعوة للقداسة والامتناع عن الزنا دعوة إلهية وليست اجتماعية، إذ يقول: “لأن الله لم يدعنا للنجاسة بل في القداسة“ [٧]. وكأن السلوك بالقداسة هو تحقيق لإرادة الله فينا، والزنا تعدي على الله نفسه قبل أن يكون تعدي على أجسادنا وتطاول على إخوتنا. لذلك يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [إنه بنفسه قد دعاك، وها أنت تهين من دعاك[7].]
لا يقدر الزاني أن يحتج بأن ما يرتكبه إنمًا برضا الطرف الآخر، ليس فيه اغتصاب أصاب أحدًا بضررٍ. فإن هذه الجريمة موجهة ضد الله القدوس نفسه الذي يهب روحه القدوس لتقديس الإنسان. من يرتكب الزنا يهين الروح الساكن فيه وفي أخيه. إذ يقول الرسول: “وإنما من يرذل لا يرذل إنسانًا، بل الله الذي أعطانا أيضًا روحه القدوس“ [٨]. ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على هذه العبارة، قائلاً: [يقول الرسول إن كنت تدنس إمبراطورة أو جارية لك متزوجة فإن الجريمة واحدة، لماذا؟ لأن الله ينتقم لا عن الأشخاص الذين أصابهم الضرر وإنما ينتقم لنفسه[8].]
لم يبخل الله علينا بشيء حتى وهبنا روحه القدوس – في سرّ الميرون ليعمل فينا، مقدسًا إيانا، ومهيئًا حياتنا للمملكة السماوية، فنُحسب ملوكًا خلال إتحادنا مع الله في المسيح ملك الملوك (رؤ ٧: ١٤)، وقديسين بثبوتنا في قدوس القديسين، لهذا إن كل خطية نرتكبها وإن ظننا أنها لا تسيء إلى أحدٍ، فهي تهين ذاك الذي رفعنا إلى هذه الكرامة لنكون قديسين وملوكًا. فالملك الذي يلبس الأرجوان ويحمل تاجًا على رأسه ويمسك صولجانًا إن ارتكب حماقة يهين كرامة المركز الذي وُجد فيه!
٣. النمو في الحب
أ. يقول الرسول: “وأما المحبة الأخوية فلا حاجة لكم أن أكتب إليكم عنها” ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم، قائلاً: [ينطق الرسول بهذا من قبل حكمته العظيمة وتعاليمه الروحية، فإنه بهذا أظهر أمرين: أولاً: أن الأمر ضروري جدًا حتى أنه لا حاجة للتعليم عنه، فإن الأمور الهامة جدًا واضحة أمام الجميع. وثانيًا: بقوله هذا يجعلهم أكثر خجلاً مما لو قدم لهم نصيحة. فإنه إذ يحسبهم أنهم سالكون باستقامة بهذا يقودهم إلى الاستقامة أكثر مما لو قدم لهم النصيحة، حتى وإن كانوا هم ليسوا كما يظن هو[9].]
ب. ربما بقوله هذا أراد أن يكشف لهم أنهم بالفعل يمارسون الحب، فلا حاجة لهم أن يكتب إليهم عنه. وإنما إن كتب يطلب نموهم بالأكثر في محبتهم التي يعيشونها. بهذا يشجعهم الرسول حتى لا يشعروا بصغر نفس، بل يدفعهم إلى النمو في الحب دون توقف عند حدود معينة. هذا هو منهج الرسول بولس في كل كتاباته، إنه يشجع النفوس ويبعث الرجاء في كل نفس، حتى إن وبخ أو انتهر.
فهو يدرك حاجة الإنسان إلى الكلمات التي تسنده، لا التي تحطمه! هذا ومن جانب آخر فإن كل مسيحي دخل إلى العضوية في الكنيسة أي في جسد السيد المسيح إنما نال عطية الحب المجانية لكي يصير خلال جهاده الروحي بالروح القدس الساكن فيه. لذلك يقول الرسول: “لأنكم أنفسكم متعلمون من الله يحب بعضكم بعضًا” [9]. إننا متعلمون ليس فقط خلال الوصايا الإلهية الخاصة بالحب، ولا خلال الامتثال بالله محب البشر، وإنما بالأكثر خلال عمله فينا، إذ يعطينا طبيعة الحب عاملة فينا.
ج. قدم لنا الرسول مثلاً عمليًا للمحبة الأخوية، ألا وهو الجهاد في العمل لمساعدة الآخرين عوض أن نطلب مساعدتهم لنا، إذ يقول:
“أن تحرصوا على أن تكونوا هادئين،
وتمارسوا أموركم الخاصة،
وتشتغلوا بأيديكم أنتم كما أوصيناكم،
لكي تسلكوا بلياقة عند الذين هم خارج،
ولا تكون لكم حاجة إلى أحد” [١١-١٢].
ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على هذه العبارات بقوله: [يظهر الرسول كم من الشرور تسببها البطالة، وكم من المنافع يحققها العمل، فالعمل هو علامة الحب للإخوة، به لا نأخذ منهم وإنما نساعدهم… إذ قيل: “مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ” (أع ٢٠: ٣٥)[10].]
اهتم آباء الكنيسة الأولون بالحديث عن “عمل اليدين” ليس فقط بكونه تعبيرًا عن المحبة الأخوية حيث يعمل الإنسان ليسند المحتاجين ولا يثقل على أحد، وإنما أيضًا كجزء لا يتجزأ من الحياة الروحية. فقد قدَّس الله العمل البشري فصار مرتبطًا بالعبادة يشتمه الله رائحة رضا وعلامة حب لله خلال أمانة المؤمن في عمله كما في عبادته. ومن جانب آخر فإن العمل يسند النفس والفكر في الحياة مع الله.
نذكر على سبيل المثال ما قاله القديس يوحنا كاسيان في حديثه عن الضجر بالنسبة للرهبان معلقًا على كلمات الرسول التي بين أيدينا هكذا: [يقول الرسول: “أن تحرصوا أن تكونوا هادئين“، بمعنى أن تقيموا في قلايتكم ولا ترتبكوا بالشائعات التي تنبعث عادة عن الكسالى وعن ثرثرتهم، فيقلقون ويسببون للآخرين قلقًا[11]]. وكأن البطالة تسبب فراغًا في النفس كما في الفكر فيرتبك الإنسان بأمور تافهة، ويفقد سلامه لسبب أو لآخر، بل ويدفع الآخرين إلى فقد سلامهم معه، له فالعمل نافع لهدوئنا الداخلي وهدوء الآخرين.
يفسر القديس يوحنا كاسيان كلمات الرسول “تمارسوا أموركم الخاصة” هكذا: [لا تكونوا فضوليين تستطلعون شئون الغير أو تفحصون حياتهم، فتبددون طاقتكم لا في نمو حياتكم والتمتع بالفضيلة وإنما في الانتقاص من قدر إخوتكم[12]]. فالإنسان العاطل يحاول أن يملأ فراغ قلبه الداخلي لا بالاهتمام فيما يبني نفسه، أي بأموره الخاصة، وإنما يشغل ذهنه بتصرفات الغير لإدانتهم في الفكر إن لم يكن بالكلام أيضًا، والتحقير من شأن الآخرين.
يؤكد الرسول “وتشتغلوا كما أوصيناكم“، وكأنه سبق فأوصاهم بالعمل في الفترة الوجيزة التي كرز فيها الرسول بينهم حتى لا يسبب لهم الفراغ قلقًا أو يسحب قلبهم إلى تصرفات الغير خلال حب الاستطلاع وإدانتهم. هذه العبارة تكشف عن جانب هام في كرازة الرسول بولس، إنه وهو يتحدث عن إنجيل المسيح كعصب الإيمان المسيحي وسر حياة المؤمنين، إذا به يوصي بالأمور العملية في دقةٍ وتفصيلٍ،
حيث يوجههم هنا للعمل اليدوي كجزء لا يتجزأ من بنيان حياتهم الروحية… إنه يكرز بالإنجيل غير منفصل عن الحياة اليومية، فالإيمان يمس حياتنا الروحية كما يمس حياتنا النفسية والاجتماعية والجسدية، بكونها جميعًا تمثل حياة واحدة لا تتجزأ، تمتعنا بالحياة الجديدة في المسيح يسوع يقدس أرواحنا وأجسادنا، وكل ما في داخلنا وكل تصرف ظاهر حتى أعمالنا اليومية بل وأكلنا وشربنا، ونومنا ويقظتنا وتسليتنا الخ.
هذه النظرة المتكاملة للإنسان تنزع عنا كل دهشة بخصوص اهتمام سليمان الحكيم بالحديث عن تدبير كل حياة الإنسان خاصة العمل وتجنب الكسل والفراغ في أكثر من موضع. فمن كلماته: “كل كسول سيكتسي بالخرق والثياب البالية“ (أم 23: ٢١ الترجمة السبعينية). ويعلق القديس يوحنا كاسيان على هذه العبارة، قائلاً: [من المؤكد أن الكسول لا يستحق أن يتزين بالحلة التي لن تبلى ولن تفسد، التي يتحدث عنها الرسول: “البسوا الرب يسوع المسيح” (رو ١٣: ١٤) وأيضًا: “لابسين درع الإيمان والمحبة” (١تس 5: ٨)، والتي تكلم عنها الرب نفسه بلسان النبي موجهًا الحديث لأورشليم: “استيقظي، البسي عزك يا صهيون” (إش ٥٢ : ١). فمن يستبد به نوم التراخي أو الضجر يستحسن لا أن يكتسي بعمله وكده بل بخرق الكسل[13]].
طريق الكسول مملوءة أشواكًا وحقله الداخلي، أي قلبه، لا يخرج إلاَّ شوكًا وحسكًا، إذ يقول الحكيم: “عبرت بحقل الكسلان وبكرم الرجل الناقص الفهم، فإذا هو قد علاه كله القريص وقد غطى العوسج وجهه وجدار حجارته انهدم“ (أم ٢٤ : ٣٠). أما النفس العاملة بحكمة فلا يكون في داخلها أشواك بل ثمار الروح القدس المفرحة، ولا تكتسي بالخرق البالية بل ببهاء المسيح نفسه. عن هذه النفس التي يفرح بها السيد كعروس مقدسة له يقول الحكيم: “امرأة فاضلة من يجدها لأن ثمنها يفوق اللآلىء… تطلب صوفًا وكتانًا وتشتغل بيدين راضيتين.
هي كسفن التاجر، تجلب طعامها من بعيد، وتقوم إذ الليل بعد. وتعطي أكلاً لأهل بيتها وفريضة لفتياتها. تتأمل حقلاً فتأخذه، وبثمر يديها تغرس كرمًا. تنطق حقويها بالقوة وتشدد ذراعيها“ (أم ٣١: ١٠– ١٧). إنها النفس التي لا تكف عن العمل نهارًا وليلاً، فتشبع قلب المسيح عريسها بثمر روحه، وتقدم طعام الحب لإخوتها، تعيش بروح القوة، بذراع متشددة.
فالعمل التزام إيماني مقدس، يلتزم به كل مسيحي حتى وإن كان في غير عوز. ولا يعفى من هذا الالتزام حتى الرهبان المتوحدين، إذ يقول القديس باسيليوس الكبير في حديثه عن كمال حياة المتوحدين: [يليق بالمسيحي ألا يكون بلا ترتيب. من يقدر على العمل يلزمه ألا يأكل خبز الكسل، ومن ينشغل بالعمل فليفعل هذا حسنا لمجد المسيح[14].]
٤. مجيء الرب الأخير
بعدما حدثهم عن الثبوت في الحياة الفاضلة في الرب، وجه أنظارهم إلى القيامة من الأموات ومجيء الرب الأخير ليبعث فيهم روح الرجاء في جهادهم الروحي ولتثبيتهم إلى النهاية أثناء الضيق. وقد أوضح الرسول النقاط التالية:
أولاً: صار الموت خلال إيماننا بالسيد المسيح رقادًا، إذ يقول: “ثم لا أريد أن تجهلوا أيها الإخوة من جهة الراقدين لكي لا تحزنوا كالباقين الذين لا رجاء لهم” [١٣]. وكما يقول الأب افراهات: [الخاطيء وهو حي ميت لله، أما البار فإنه وهو ميت حي لله. مثل هذا الموت يحسب رقادًا، وكما يقول داود: “أنا اضطجعت ونمت ثم استيقظت“ (مز 3: 5). ويقول إشعياء: “استيقظوا يا سكان التراب“ (٢٦: ١٩). ويقول الرب عن ابنة رئيس المجمع: “الصبية لم تمت ولكنها نائمة” (مت ٩: ٢٤). وعن لعازر يقول لتلاميذه: “لعازر حبيبنا قد نام، لكني أذهب لأوقظه“(يو ١١: ١١)[15].]
إنه يدعو الأموات بالراقدين، لأن نفوسهم قد تمتعت بالقيامة من الأموات خلال دفنهم مع السيد المسيح في المعمودية، فلا سلطان للموت عليها. إنها في حالة رقادٍ أو نومٍ مؤقت إلى يوم الرب العظيم، حيث تستيقظ أجسادهم لتتمتع بالمجد. فتشارك النفس إكليلها ويحيا الإنسان في أمجاد الحياة الأبدية. إن كان الموت راحة ورقادًا، فإن القيامة هي الحياة. لذلك يقول القديس أمبروسيوس: [الراحة حسنة، لكن الحياة أفضل، لهذا يسأل الرسول القيامة لمن هو في راحة ليكون في الحياة، قائلاً: “استيقظ أيها النائم وقم من الأموات فيضيء لك المسيح“ (أف 5: ١٤)[16].]
ثانياً: ما دام الموت رقادًا فإنه يليق بنا ألا نحزن بلا رجاء من جهة الراقدين كمن هم بلا إيمان. لقد بكى السيد المسيح عندما خرت مريم عند قدميه قائلة: “يا سيد لو كنت ههنا لم يمت أخي“ (يو ١١: 3٢)، حتى “قال اليهود: أنظروا كيف كان يحبه”. لقد قدس السيد ببكائه مشاعرنا البشرية، فنشارك المتألمين آلامهم، ونشعر بالشوق نحو أحبائنا الراقدين، لكن في رجاء حيّ أننا نلتقي معهم.
يقول القديس أمبروسيوس: [ليس كل بكاء ينبع عن عدم إيمان أو ضعف. فالحزن الطبيعي شيء، وحزن عدم الثقة شيء آخر. هناك فارق كبير بين الاشتياق إلى ما فقدناه والنحيب (بيأس) على ما فقدناه. هذا ويلاحظ أنه ليس الحزن فقط يسبب دموعًا وإنما للفرح أيضًا دموعه[17].] وكتب القديس باسيليوس الكبير إلى كنيسة بارنوسيوس شمال كبادوكية مؤكدًا لهم أن الرسول لم ينزع عنا بكلماته هذه مشاعرنا نحو الراقدين، إنما يحذرنا من الاستسلام للحزن، إذ يقول: [لست أعني بهذا أننا نكون بلا إحساس نحو الخسارة التي لحقت بنا وإنما ألا نستسلم لحزننا[18].]
أما سرّ عدم استسلامنا للحزن فهو رجاؤنا الذي يتخطى حدود هذه الحياة الزمنية ليرى المؤمن الأبدية معلنة في داخله وكما يقول القديس باسيليوس الكبير: [لو حُصر رجاء المسيحيين في حدود هذه الحياة لكان نصيبنا مرًا بحقٍ، إذ يحصر في الجسد قبل الأوان (أوان الأبدية)، أما إن كانت لهم محبة الله وتعتزل نفوسهم قيود الجسد، فإنهم يحسبون ذلك بداية الحياة الحقيقية، فلماذا تحزن كمن لا رجاء لهم؟ إذن فلتسترح ولا تسقط تحت متاعبك وإنما لتظهر نفسك أسمى من المتاعب ومترفع فوقها[19]].
ثالثا: يقول الرسول: “لأنه إن كنا نؤمن أن يسوع مات وقام، فكذلك الراقدون بيسوع سيحضرهم الله أيضًا معه” [١٤]. يسمي الرسول الأموات بالراقدين بيسوع، أي أنهم يحملون السيد في داخلهم، لهذا لا يقوى الموت عليهم. في داخلهم “القيامة” (يو ١١: ٢٥) ذاته وإن ماتوا حسب الجسد لكنهم يقومون بالمسيح الساكن فيهم، القيامة ليست بغريبةٍ عنهم ولا بعيدة وإنما في داخلهم، عاملة في أجسادهم كما في نفوسهم.
يقول القديس كبريانوس: [يقول الرسول (عن غير المؤمنين) أنهم يحزنون على رحيل أصدقائهم بلا رجاء، أما نحن فنعيش في رجاء، ونؤمن بالله ونثق أننا نسكن في المسيح الذي تألم عنا وقام، ونقوم به وفيه، فلماذا لا نريد الرحيل من هذه الحياة، بل ننتحب ونحزن على أصدقائنا عند رحيلهم كما لو كانوا مفقودين، بينما السيد المسيح نفسه ربنا وإلهنا يشجعنا قائلاً: “أنا هو القيامة والحياة. من آمن بي ولو مات فسيحيا، وكل من كان حيًا وآمن بي فلن يموت إلى الأبد“ (يو ١١: ٢٥). إن كنا نؤمن بالمسيح فلنؤمن بكلماته ومواعيده أننا لن نموت إلى الأبد. لنأتِ إليه بثقة أكيدة وفرح هذا الذي به نغلب ونملك إلى الأبد[20].]
رابعًا: يعلن الرسول عن قيامة الراقدين ومجدهم قائلاً: “سيحضرهم الله أيضًا معه” [١٤]. هذا هو سرّ مجدهم وكرامتهم أنهم سيكونون معه، وهو يكون معهم وفي وسطهم. لقد سمع القديس يوحنا الحبيب صوتًا من السماء يصف الحياة الأبدية، قائلاً: “هوذا مسكن الله مع الناس، وهو سيسكن معهم، وهم يكونون له شعبًا، والله نفسه يكون معهم إلهًا لهم” (رؤ ٢١ : ٣). وفي حديث يوجهه القديس يوحنا الذهبي الفم لمن مات ابنه، يقول: [حينما تطلب ابنك، ابحث عنه حيث يوجد الملك، وحيث يوجد جيش الملائكة. لا تطلبه في القبر على الأرض، لئلا بينما يكون هو مرتفعًا في الأعالي تبقى أنت زاحفًا على الأرض[21].]
خامسًا: يتحدث الرسول عن لقاء الراقدين والأحياء، قائلاً: “فإننا نقول لكم هذا بكلمة الرب، أننا نحن الأحياء الباقين إلى مجيء الرب لا نسبق الراقدين، لأن الرب نفسه بهتاف بصوت رئيس ملائكة وبوق الله سوف ينزل من السماء، والأموات في المسيح سيقومون أولاً. ثم نحن الأحباء الباقين سنُخطف جميعًا معهم في السحب لملاقاة الرب في الهواء. وهكذا نكون كل حين مع الرب. لذلك عزوا بعضكم بعضًا بهذا الكلام” [١٥– ١٨].
لقد أراد الرسول أن يظهر بأن القيامة ليست بالأمر الصعب على الله، فإن الذي يختطف الأحياء لملاقاته في السحب يستطيع أيضًا أن يقيم الأموات ليكون لهم ذات النصيب.
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [أن قول الرسول: “نحن الأحياء الباقين” لا يقصد بها الرسول نفسه والجيل المعاصر له، وإنما قصد المؤمنين الذين يبقون حتى يوم مجيئه[22]. أما قوله “نحن” فعلامة الوحدة في الكنيسة، ما يتحقق مع أولاده الذين يكونون أحياء في ذلك الحين يحسبه الرسول كأنه يتحقق معه.
يتساءل القديس يوحنا الذهبي الفم: [إن كان (السيد) نازلاً، فلماذا نختطف نحن إلى فوق (في السحب)؟ من أجل الكرامة! فإنه عندما يدخل ملك مدينة ما يخرج إليه أصحاب الكرامة لملاقاته، أما المدانون فيبقون في الداخل ينتظرون القاضي. عند مجيء أب حنون يأخذ أولاده الحقيقيين ومن هم مستحقون أن يكونوا كأولاد في مركبة ليخرجوا وينظروه ويقبلونه، أما الخدم المخطئون فييبقون في الداخل، هكذا نُحمل نحن في مركبة أبينا (السحب): فقد أُخد هو في السحابة (أع ١: ٩) ونحن أيضًا نختطف في السحب. أنظروا أية كرامة هذه! إنه ينزل إلينا فنصعد نحن لملاقاته! ما أعظمها غبطة أن نكون نحن معه![23]]
يرى القديس غريغوريوس أسقف نيصص أن اختطاف المؤمنين على السحاب لكي يلتقوا بالسيد القادم إليهم ويكونوا معه إلى الأبد، إنما هو علامة التغيير الذي يتم في أجسادنا، فتتحول من الفساد الذي كان يمثل ثقلاً يجتذبها إلى الأرض إلى عدم الفساد، فترتفع خفيفة منطلقة إلى السحب لملاقاة الرب. إنه يقول: [عندما يُسمع بوق القيامة الذي ييقظ الأموات، ويحول الذين هم أحياء إلى شكل الذين تمتعوا بالتغيير الخاص بالقيامة أي إلى عدم الفساد، فلا يعود يكون وزن الجسد ثقيلاً ينزل بهم إلى الأرض، إنما يرتفعون إلى أعلى في الهواء كقول الرسول[24]].
وفي موضع آخر يقول: [ما حدث لناسوت المسيح إنما هو منحة عامة مقدمة للبشرية كلها. فإننا إذ نرى فيه ثقل الجسد الذي بحسب الطبيعة ينجذب نحو الأرض، قد صعد في السماوات خلال الهواء نؤمن بكلمات الرسول أننا نحن أيضًا نُختطف في السحب لملاقاة الرب في الهواء[25].]
وللقديس أغسطينوس فكر مشابه، إذ يقول: [إننا سنكون ليس بلا أجساد عندما نُوجد مع الرب على الدوام، لكن إذ تكون الأجساد غير قابلة للفساد فإنها لا تثقل على نفوسنا. إن تطلعنا بدقة فإننا نجد نفوسنا لا تلتصق بالأجساد بل الأجساد تلتصق بنفوسنا ونحن (نفوسنا) نلتصق بالله[26].]
[1] In Thess., hom 5.
[2] In Thess., hom 5.
[3] City of God 14: 13.
[4] Duties of Clergy 3: 12.
[5] راجع المؤلف: الحب الأخوي، 1964، ص 38-40.
[6] In 1 Thess., hom 5.
[7] In 1 Thess., hom 5.
[8] In 1 Thess., hom 5.
[9] In 1 Thess., hom 5.
[10] In 1 Thess., hom 5.
[11] Instit 10: 7. f.
[12] Instit 10: 7. f.
[13] Instit 10: 7. f.
[14] Ep. 22: 2 On perfection of life of Solitaries.
[15] Selected Demonstration 8; Of the Resurrection of the Dead, 18.
[16] On Belief in Resurrection, 2: 39.
[17] On the Desease of Statyrus 1: 10.
[18] Ep 62.
[19] Ep. 101.
[20] Treat.7 on Mortality 21.
[21] In 2 Gor hom 1: 7.
[22] In 1 Thess, hom 7.
[23] Ibid 8.
[24] On Making of Man 22.
[25] Adv. Eunomins 12. 1.
[26] On Ps. 109: 56.