Site icon فريق اللاهوت الدفاعي

تفسير رسالة تسالونيكي الأولى 2 الأصحاح الثاني – القمص تادرس يعقوب ملطي

تفسير رسالة تسالونيكي الأولى 2 الأصحاح الثاني – القمص تادرس يعقوب ملطي

تفسير رسالة تسالونيكي الأولى 2 الأصحاح الثاني – القمص تادرس يعقوب ملطي

تفسير رسالة تسالونيكي الأولى 2 الأصحاح الثاني – القمص تادرس يعقوب ملطي

الأصحاح الثاني

أبوة الرسول للمتألمين

كان أهل تسالونيكي وسط آلامهم في حاجة إلى التلامس مع أبوة الرسول الروحية الحانية، لذلك كتب إليهم يفيض عليهم بحنوٍ فائقٍ نابعٍ من القلب، مؤكدًا لهم أنه يشعر معهم بآلامهم ولا يتجاهل مشاعرهم، مؤكدًا مدى اشتياقه إلى الحضور إليهم ليكون قريبًا منهم بالجسد كما بالقلب في هذه الفترة القاسية.

  1. أبوة الرسول ١ – ١٢.
  2. تألم الكنيسة في تسالونيكي ١٣ – ١٦.
  3. شوق الرسول إليهم ١٧ – ٢٠.

 

١. أبوة الرسول

إذ أراد الرسول أن يكشف عن صدق أبوته لهم في المسيح يسوع أكد لهم أنه لا ينطق بكلمات جوفاء للتملق، إنما ينطلق من أتعابٍ إلى أتعابٍ جديدةٍ، من أجل المجاهرة بكلمة الإنجيل في كل موضع في أبوة روحية صادقة، قائلاً: “لأنكم أنتم أيها الإخوة تعلمون دخولنا إليكم أنه لم يكن باطلاً، بل بعدما تألمنا قبلاً، وبُغي علينا كما تعلمون في فيلبي، جاهرنا في إلهنا أن نكلمكم بإنجيل الله في جهادٍ كثيرٍ” [1٢].

وكأنه يعود بذاكرتهم إلى خدمته في فيلبي قبل مجيئه إليهم (أع ١٦) حيث احتمل تمزيق ثيابه والضرب بالعصي وإلقاءه في السجن الداخلي وربط رجليه في المقطرة (أع ١٦ :٢٤)، وكان يمكنه أن يدافع عن نفسه بكونه رومانيًا، لكنه فضل أن يحتمل من أجل المناداة بالإنجيل. فكرز لحافظ السجن وبيته. وحينما التزم بالمجيء إليهم لم يكن ذلك هروبًا من الضيق الذي حلّ به في فيلبي، وإنما جاء ليجاهر بكلمة الإنجيل “في جهادٍ كثيرٍ”.

وإن كانوا هم يعانون من الألم بسبب حق الإنجيل، فإنه وهو أبوهم الروحي تألم أيضًا من أجل الكرازة بالإنجيل، حاسبًا أن احتماله للآلام والإهانات علامة حية على دخوله إليهم للكرازة بالأخبار السارة الإلهية بطريقة فعالة. لقد أكد لهم أن دخوله إليهم لم يكن باطلاً، إذ تألم قبلاً واحتمل الظلم في فيلبي، ومع ذلك لم يتوقف عن الجهاد المستمر من أجل الكرازة.

يقول الأب غريغوريوس (الكبير): [أعلن الكارز القديس أن دخوله كان يحسب بلا فاعلية لو لم يعامل معاملة سيئة، أما أنت فترفض احتمال الشرور[9].]

كأن الرسول يجعل من احتمال الآلام والظلم علامة رئيسية على صدق رسالته وفاعلية كرازته بالإنجيل الإلهي.

وفي أبوته العملية خلال إنجيل الله احتمل الآلام ليعلن كلمة الله من أجل الله وليس إرضاءً للناس، إذ يقول: “لأن وعظنا ليس عن ضلال ولا عن دنس ولا بمكر، بل كما استحسنا من الله نؤتمن على الإنجيل، هكذا نتكلم لا كأننا نرضي الناس، بل الله الذي يختبر قلوبنا” [٣-٤]. وكأنه يقول لأولاده: “إذ أؤمن برسالة الإنجيل كعملٍ إلهيٍ قدمته إليكم وسط الآلام الكثيرة، لهذا لاق بكم وقد عرفتم الإنجيل أن تقبلوه أنتم أيضًا وسط الآلام. لقد اؤتمنت على الإنجيل عن حق بلا ضلال ولا دنس وفي غير مكرٍ، وأنتم تتلمذون عليّ لتحملوا ذات الروح”.

وإن كانت الآلام المستمرة من الخارج والجهاد الشخصي الكثير علامة فاعلية رسالته الإنجيلية، فإن صدق رسالته إنما ينبعث عن إعلانه الحق “بغير ضلال“، في حياة مقدسة “بلا دنس“، وبقلب محب “بلا مكر”، لكي يكون الوعظ إنجيلاً إلهيًا حيًا، يليق بمن يقدمه أن يحمل هذه الشروط الثلاثة: الحق والقداسة والحب!

أما إن تسرب الضلال (الهرطقة) أو الدنس أو المكر إليه فإنه يفقد عمله الكرازي، ويشوه إنجيل الله. هذه الأمور الثلاثة خفية في القلب يعرفها الله “الذي يختبر قلوبنا“.

ويؤكد الرسول بولس أنه لا يكرز لإرضائهم، ولا لإرضاء غيرهم، بل الله نفسه مختبر قلبه، فهو لا يتألم بسببهم، بل لأجل الله الذي دعاه للخدمة، مقدمًا لهم الحق بحياة مقدسة خلال قلبه المتسع حبًا، بكونه أبًا لهم ليس خلال أبوة جسدية أرضية، وإنما أبوة في الله أبيهم.

أبوته لهم في الله تلزمه وسط الآلام أن يجاهد كثيرًا ليقدم لهم حق الإنجيل بغير ضلالٍ، معلنًا في حياته التي بلا دنس ونابعًا عن قلبه الذي بلا مكر. فلا يطلب إلاَّ العمل الإنجيلي دون انتظار مكافأة مادية أو معنوية. “فإننا لم نكن قط في كلام تملق كما تعلمون، ولا علة طمع، الله شاهد. ولا طلبنا مجدًا من الناسن لا منكم، ولا من غيركم، مع أننا قادرون أن نكون في وقارٍ كرسل المسيح” [٥-٦].

من حقه أن يكون في وقارٍ كرسول للسيد المسيح، ويطلب من المؤمنين تكريمه، ويستخدم سلطانه، لكن الرعاية في قلبه أولاً وقبل كل شيء أبوة لا تطلب ما لنفسها، بل ما هو للآخرين! حقًا أمران يفسدان حياة الخادم أو الكارز: طلب مجد الذات والطمع. والأمران في حقيقتهما هما تمركز حول الأنا، فيطلب الخادم ما لنفسه عوض ما للآخرين.، ويأخذ عوض أن يعطي، ويخدم ذاته بالإنجيل عوضًا عن أن يخدم الإنجيل بحياته.

يشبه الرسول نفسه بالأم المرضعة التي تهتم برضيعها، فإنها تحنو عليه وتهتم به ليس بغية مجدٍ زمني، ولا طمعًا في مال، وإنما حبًا برضيعها. “كنا مترفقين في وسطكم، كما تربي المرضعة أولادها. هكذا إذ كنا حانين إليكم كما نرضي أن نعطيكم، لا إنجيل الله فقط، بل أنفسنا أيضًا، لأنكم صرتم محبوبين إلينا” [ ٧-8].

إنه أب مملوء حنوًا وترفقًا يعيش في وسطهم. ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على التعبير “في وسطكم” هكذا كأنه يقول: “إني كنت كواحدٍ منكم لا أتعالى[10]“. ما أحوج الرعاة أن ينمو كل يوم ليبلغوا قامة ملء المسيح الذي حلّ في وسط شعبه كواحدٍ منهم بلا تعالٍ ولا كبرياء!

إن موضوع جهاد الراعي الحكيم إنما يكون لا في التدريب على قوة البيان والقدرة على الخطابة، وإنما على دخوله وسط أولاده الروحيين كواحدٍ منهم، يتدرب على استعباد نفسه لهم وغسيل أقدامهم، فيحمل روح الوالدية الروحية وتلتحم كلماته الكرازية بتقديم نفسه باذلاً كل حياته من أجلهم. وإن كان الله قد أعلن رعايته لأولاده بالحب خلال الكرازة بالصليب، فإن هذه الكرازة يكون لها فاعليتها، حينما تلتحم برعاية الكارز أيضًا لهم في الله، مقدمًا نفسه لخدمتهم في الرب.

يقدم الرسول نفسه كمرضعة مملوءة حنوًا على أطفالها الصغار بقلب متسع للجميع. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [ليس شيء أكثر اتساعًا من قلب بولس الذي أحب كل المؤمنين بكل غيرة. ولم تكن محبته جزئية ولا ضعيفة، بل كان يقدمها بكمالها لكل أحد، والعجيب أن محبته نحو المؤمنين هي بعينها لغير المؤمنين، فكان قلب بولس يحتضن العالم كله[11].]

وقد جاءت كلمة “مترفقين” [٧] في اليونانية بمعنى “رضع”، وقد ترجمها بعض الآباء هكذا في كتاباتهم: “كنا كرضع في وسطكم”. وكأن الرسول بولس وهو يقدم نفسه كأم مترفقة بأطفالها الرضع تود أن تقدم حياتها لهم، إذا به يظهر في وسطهم أيضًا كرضيعٍ بين الرضع، معلنًا بساطة تعامله معهم. حقًا إن المؤمنين محتاجون أن يروا رعاتهم في وسطهم يسلكون معهم بروح البساطة والوداعة بعيدًا عن روح السلطة!

ونستطيع أن نرى الرسول بولس كحاملٍ لسمات السيد المسيح، الذي صار جنينًا في أحشاء العذراء مريم ليشارك الأجناء حياتهم، وصار رضيعًا ليفرح به الرضع، ويقبلوا صداقته فتنطلق ألسنتهم الروحية بالتسبيح. وصار طفلاً ليرفع من شأن الطفولة جاذبًا إليه الأطفال كأصدقاء له. هكذا إذ يرى الرسول بولس مخدوميه كرضع يحتاجون إلى حنو الأم المرضعة لا يتقدم لهم فقط بهذا الفكر ليحتضنهم ويقوتهم، وإنما أيضًا صار كرضيعٍ بينهم ليستريحوا إليه.

هذا وقد جاءت كلمة “تربي” في عبارته “كما تربي المرضعة أولادها” بمعنى “تعطي دفئًا”، واستخدمت في العهد القديم للتعبير عن احتضان الطير فراخه الصغار (تث ٢٢: ٦)، حيث يشعر الفراخ بدفء حنو الأم. كما استخدمت في العهد الجديد للتعبير عن علاقة السيد المسيح بكنيسته: “فإنه لم يبغض أحد جسده قط بل يقوته ويربيه كما الرب أيضًا للكنيسة” (أف ٥: 2٩). هكذا يحنو الرسول على شعب الله كأولادٍ له، وكأنه الطير الذي يحتضن صغاره. أو بالحري يحمل سمات سيده في حنوه نحو الكنيسة واهتمامه بأمورها.

خلال هذا الحب الأبوي أو الوالدي في الرب كان الرسول يقدم لهم إنجيل الله، لكي يختبروا حب الله العملي خلال الصليب، فيقبلوا البنوة له قبل أن يكون أولادًا لبولس. لكن هذه الكرازة لم يقدمها بطريقة وعظية بحتة، إنما قدمها ملتحمة بعطائه كل ما يملك، إن أمكن حتى نفسه وكأنه يقول: إن كنت أقدم لكم إنجيل الله الذي يعلن تقديم الله ابنه فدية عنكم، فإني ككارز بهذا الإنجيل أحمل سمات سيدي، فأقدم أنا أيضًا حياتي لأجلكم إنجيلنا لكم، ليس وعظًا وفلسفة، لكنه حب إلهي عملي، تستطيعون أن تلمسوه فيَّ عمليًا خلال علاقتي بكم.

ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم: [كأنه يقول: كنا نريد لو أمكن أن نفني نفوسنا من أجلكم… حقًا إننا نعلن الإنجيل لأن الله أمر به، ولكننا نحن أيضًا نحبكم حتى لو أمكننا أن نقدم نفوسنا لكم[12].] كما يقول: [يليق بمن يحب أن تكون محبته على مستوى أنه إن طُلبت نفسه منه وأمكنه تقديمها فلا يرفض، لا أقول إن طُلبت وإنما بالحري يسعى بنفسه ليقدمها هدية. فليس شيء أعذب من الحب[13].]

وفي وضوح أكثر يتحدث الرسول عن أبوته العاملة قائلاً: “فأنكم تذكرون أيها الإخوة تعبنا وكدنا، إذ كنا نكرز بإنجيل الله، ونحن عاملون ليلاً ونهارًا، كي لا نثقل على أحد منكم. أنتم شهود الله بطهارة وببرّ وبلا لوم كنا بينكم أنتم المؤمنين. كما تعلمون كيف كنا نعظ كل واحد منكم، كالأب لأولاده ونشجعكم، ونشهدكم لكي تسلكوا كما يحق لله الذي دعاكم إلى ملكوته ومجده [٩–١٢].

القديس بولس الرسول كارز الأمم في دول كثيرة، أحنى ظهره ليحمل أثقال الكنائس الناشئة واهتماماتها، لكنه كان يعمل بيديه نهارًا وليلاً حتى لا يثقل على أحد! كأب يتعب في الكرازة كما في عمل اليدين حتى يريح أولاده، ولا يثقل عليهم. وكما كتب إلى أهل كورنثوس يقول: “ألستم تعلمون أن الذين يعملون في الأشياء المقدسة من الهيكل يأكلون، الذين يلازمون المذبح يشاركون المذبح. هكذا أيضًا أمر الرب أن الذين ينادون بالإنجيل من الإنجيل يعيشون. أما أنا فلم أستعمل شيئًا من هذا، ولا كتبت هذا لكي يصير فيَّ هكذا، لأنه خير لي أن أموت من أن يعطل أحد فخري” (١ كو ٩: ١٣- ١٥).

بلا شك كان الرسول يتقبل العطايا أحيانًا من الكنائس التي سبق أن كرز بها (فى 4: ١٦)، وبمحبة كان يتقبل أحيانًا دعوة المؤمنين لافتقاد بيوتهم أو الإقامة لديهم. لكنه كان يتمنع بكل قلبه وطاقته عن الأخذ أثناء الكرازة بالإنجيل، حينما تكون الخدمة حديثة حتى لا يتعثر أحد فيه أو يتشكك في أمره. ولكي لا يشعر هو أنه أثقل على أحد. فالإنجيل في عينيه فوق كل اعتبار، وخلاص كل نفسٍٍ لديه فوق كل مصلحة!

وإن كان الرسول كأب يقدم حياته مبذولة، متنازلاً حتى عن حقوقه في طلب الضروريات، مهتمًا بوعظهم وخدمتهم للدخول إلى ملكوت الله ومجده، فإن هذا الحب الأبوي يقوم على حياة الرسول المقدسة في الرب، إذ يشهدهم كما يشهد الله نفسه كيف عاش في وسطهم بطهارة وبرِّ (عدل) وبلا لوم. يشهدهم على التصرفات الظاهرة والمشاعر التي يتلمسونها في حياته، ويشهد الله على أعماق قلبه الداخلية. إنه يسلك بالطهارة والبرّ وبلا لوم! ولعله قصد بالطهارة حياته، ويشهد الله على أعماق قلبه الداخلية، أنه يسلك بالطهارة والبرّ وبلا لوم! ولعله قصد بالطهارة حياته المقدسة في علاقته بالله، وبالبرّ أو العدل حياته البارة في علاقته بالآخرين؛ وأما “بلا لوم” فتعني حياته الروحية الداخلية وأمانته مع نفسه.

وكأن أبوته الباذلة تستند على حياته في الرب، سواء في علاقته مع الله أو مع الآخرين أو مع نفسه، وإن كان لا يمكن تقسيم الحياة الروحية إلى حياة مع الله وأخرى مع الناس وثالثة مع الإنسان نفسه. فهي حياة واحدة متكاملة من كل الجوانب، لكن يمكننا أن نقول أن الرسول يقصد بكلماته هذه أن حبه الباذل لهم إنما هو جانب من جوانب حياته الجديدة في الرب، والتي تتسم بالطهارة والبرّ وعدم اللوم، أو قل أن عمله الرعوي الأبوي إنما يتكامل مع حياته الروحية المقدسة في الرب!

وبعد أن أعلن الرسول حبه الأبوي أو الوالدي بلا أنانية، وجهاده الكثير من أجل تمتعهم بالإنجيل، وسهره وتقديم حياته شهادة حق للإنجيل، عندئذ يتحدث عن وعظه لهم، ليس فقط على المستوى الجماعي، وإنما على مستوى كل عضوٍ فيهم، بكونه الأب الذي لا يتجاهل ابنًا من أولاده مهما بلغ عددهم، إذ يقول: “كما تعلمون كيف كنا نعظ كل واحدٍ منكم، كالأب لأولاده ونشجعكم، ونشهدكم لكي تسلكوا كما يحق لله الذي دعاكم إلى ملكوته ومجده” [11].

علاقته بالمؤمنين تقوم على أساسٍ أبويٍ (١ كو 4: ١٤؛ ٢ كو 6: ١٣، غل ٤: ١٩؛ فل ١٠). خلال هذه الأبوة يجد راحته وفرحه وإكليله في أن يتمتع كل أبنائه بالملكوت والأمجاد الأبدية. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لأنه بالنسبة للمعلم الحكيم، الحياة والراحة والتعزية إنما تكون في نمو تلاميذه. فإنه لا شيء يكشف عن قدرته على التدبير مثل الحب أيضًا حتى بعد الولادة! فإن كانت الطبيعة تلزم وجود الحب لدى الأب، فكم بالأكثر تكون الحاجة إليه خلال (الأبوة) بالنعمة[14]؟ ]

أخيرًا ما أجمل كلمات الرسول “نعظ كل واحد منكم كالأب لأولاده”، فقد كان قلب الرسول بولس ملتهبًا نحو خلاص العالم كله، لكنه وسط تيارات الخدمة المتسعة واهتماماته بكل الكنائس ومشاكلها العامة كان الرسول يهتم “بكل أحد“! إنه يحمل سمة سيده الذي في أبوته للبشرية كلها ينقش اسم كل واحدٍ منهم على كفه، وكأنه الوحيد الذي يهتم به الله. وفي دراستنا لحياة القديس يوحنا الذهبي الفم رأينا كيف لم تشغله الآلاف من الجماهير التي تستمع لعظاته عن الاهتمام بكل عضوٍ في شعب الله له، هذه الأبوة الصادقة النابعة عن الأعماق!

 

٢. تألم الكنيسة في تسالونيكي

“حياة الألم” جزء لا يتجزأ من كلمة البشارة أو إنجيل المسيح، يعيشها المسيحي كخبرة روحية، يقتنيها خلال تمتعه بملكوت الفرح الداخلي. فمع الفرح الداخلي آلام في الخارج، ومع كل نموٍ روحيٍ حرب يثيرها الشيطان. وكأن الألم علامة حية على قبول الإنسان كلمة الخبر المفرح، واتحاده مع المسيح المصلوب، وتفاعله مع الحياة الإنجيلية.

يقول الرسول: “من أجل ذلك نحن أيضًا نشكر الله بلا انقطاع، لأنكم إذ تسلمتم منا كلمة خبر من الله قبلتموها، لا ككلمة أناسٍ، بل كما هي بالحقيقة ككلمة الله التي تعمل أيضًا فيكم أنتم المؤمنين. فإنكم أيها الإخوة صرتم متمثلين بكنائس الله التي هي في اليهودية في المسيح يسوع، لأنكم تألمتم أيضًا من أهل عشيرتكم، تلك الآلام عينها كما هم أيضًا من اليهود، الذين قتلوا الرب يسوع وأنبياءهم واضطهدونا نحن” [١٣-١٥].

 كأن الدليل على أن الكلمة التي قبلوها من الرسول ليست كلمة بشرية بل هي كلمة الله أنهم احتملوا ذات الآلام التي عانت منها الكنيسة في أورشليم وكل اليهودية ،حيث حملت سمة مسيحها المتألم من إخوته بني جنسه. فمؤمنو تسالونيكي قبلوا الآلام أيضًا من بني جنسهم، فقد هاج اليهود على إخوتهم اليهود الذين قبلوا الإيمان، والوثنيون على إخوتهم الذين آمنوا بالمسيح. إن ما تعانيه كنيسة التسالونيكيين من آلام إنما هو شركة حب مع مسيحها المتألم ومع بقية الكنائس المتألمة.

إن كان الألم يتحقق بسماحٍ إلهيٍ بالشركة المقدسة مع السيد المسيح المتألم، لكن هذا لا يبرر المتسببين في الألم، إذ يقول: “وهم غير مرضيين لله وأضداد لجميع الناس، يمنعوننا من أن نكلم الأمم، لكي يخلصوا حتى يتمموا خطاياهم كل حين، ولكن قد أدركهم الغضب إلى النهاية” [١٥-١٦].

حقًا إن الله كضابط الكل يستخدم حتى شر الأشرار لتزكية الأبرار، فيخرج من الآكل أكلاً ومن الجافي حلاوة، لكن استخدام الله لهم لا يبرر موقفهم، ولا يجعلهم موضوع رضا الله، وإنما “هم غير مرضيين لله“. صار شرهم جزء من خطة الله لخلاص المختارين وتزكيتهم، لكنه لم يلزمهم بذلك، وكان يمكنه أن يستخدم وسائط أخرى لو لم يسلك هؤلاء بالشر. فالله لم يلزم يهوذا بالخيانة، وإنما إذ سبق الله فعرف شره وخطته، استخدم هذا الشر في تسليم السيد المسيح كجزءٍ من خطة خلاصنا.

لا يقتني الأشرار عداوة الله لهم بشرهم ومقاومة أولاده، وإنما أيضًا يسقطون تحت عداوة جميع الناس، إذ هم “أضداد لجميع الناس“. قد يصادقهم البعض، ويشجعهم الآخرون على شرهم، لكن لابد للشر أن ينفضح، فيفقد الشرير كل من هم حوله.

أخيرًا فإن غاية الأشرار الثائرين في تسالونيكي هو مقاومة كلمة الحق ومضادة الإيمان الحيّ. لكنهم عوض أن يحققوا هدفهم “يتمموا خطاياهم كل حين“. يريدون مقاومة كلمة الله، لكن كلمة الله لا تُقيد، والمؤمنون يتزكون خلال هذه المقاومة. وفي نفس الوقت يمتليء كيل الأشرار ليشربوا كأس العقاب الأبدي حتى النهاية. ما أعجب رعاية الله الذي يستخدم حتى شر الأشرار ليتمم إرادته في المختارين، ويعلن عدله في المقاومين غير التائبين!

 

٣. شوق الرسول إليهم

إن كان الرسول قد سحب قلب المؤمنين من الآلام الخارجية إلى الفرح بكلمة الله العاملة فيهم، والبهجة بالشركة مع المسيح المتألم ومع الكنائس الأخرى المتألمة، لكنه وسط هذه الانطلاقة الروحية العالية يكشف عن مشاعر الشوق الحقيقي التي تملأ قلبه نحوهم. إنه الإنسان الروحي الواقعي الذي يشتهي أن ينطلق مع إخوته إلى السماوات عينها دون تجاهل للجانب الإنساني والمشاعر والأحاسيس البشرية، إذ يقول: “فإذ قد فقدناكم زمان ساعة بالوجه لا بالقلب، اجتهدنا أكثر باشتهاءٍ كثيرٍ أن نرى وجوهكم. لذلك أردنا أن نأتي إليكم أنا بولس مرة ومرتين، وإنما عاقنا الشيطان. لأن من هو رجاؤنا وفرحنا وإكليل افتخارنا؟ أم لستم أنتم أيضًا أمام ربنا يسوع المسيح في مجيئه، لأنكم أنتم مجدنا وفخرنا” [1٧–20].

إنه كأب روحي حقيقي يشعر بوجودهم في قلبه. إن كان قد حرم منهم زمانًا يسيرًا فلم ينظرهم جسديًا كما لزمان ساعة واحدة، لكنهم يحتلون قلبه في المسيح يسوع. إنه يحبهم ويشتاق إليهم، معبرًا عن هذه المشاعر المقدسة بلا حرج، قائلاً: “اجتهدنا أكثر باشتهاء كثير أن نرى وجوهكم“. إنها مشاعر بشرية إنسانية قد تقدست في المسيح يسوع.

لهذا يعتز بها الرسول في كل كتاباته. فمع ارتفاع قامته الروحية وانسحاب قلبه إلى السمويات يتعامل بطريقة واقعية، مقدسًا كل علاقة بشرية. هذا ما نراه بصورة واضحة للغاية في نهاية رسالته إلى أهل رومية، إذ يكتب: “سلموا على ابينتوس حبيبي… سلموا على أمبلياس حبيبي في الرب… سلموا على برسيس المحبوبة التي تعبت كثيرًا في الرب… سلموا على روفس… وعلي أمه” (رو ١6: ٥-١٣). إنه بحق لا يحّقر من المشاعر التي تقدست في الرب، ولا يكتمها، بل يعلنها بقوة الروح.

يدعو الرسول بولس أولاده في الرب رجاءه وفرحه وإكليل افتخاره! إنه يراهم في يوم مجيء الرب أولادًا مقدسين، يقدمهم كثمرة تعبه للمخلص، فيُحسبون مجده وفخره! كل تعب يعانيه من أجلهم وكل ألم يقاسيه إنما يزيد بهاء مجده الأبدي.

خلال هذه النظرة، اشتياقه المقدس الملتهب في داخله نحوهم وإدراكه أنهم إكليله ومجده، بذل الرسول كل الجهد للذهاب إليهم وسط محنتهم، لكن الشيطان عاقه. لقد حاول أكثر من مرة لكن الحرب الشيطانية كانت قاسية، حرمته من التمتع بمساندة أولاده وسط ضيقتهم بالذهاب إليهم، فأرسل إليهم تلميذه تيموثاوس.

أخيرًا يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [ماذا نقول؟ هل للشيطان أن يعيقه؟ نعم فإن الإعاقة لم تكن من قبل الله. في رسالته إلى أهل رومية يقول أن الله أعاقه (رو 15: 22)، وفي موضع آخر يقول لوقا أن الروح عاقهما عن الذهاب إلى آسيا (أع ١٦: ٧). وفي الرسالة إلى أهل كورنثوس يقول أن الإعاقة إنما هي من عمل الروح، أما هنا فقط فيقول أنها من عمل الشيطان.]

[9] Ep., 30.

[10] In 1 Thess., hom. 2.

[11] In 2 Cor., Hom. 13.

[12] In 1 Thess, hom. 2.

[13] In 1 Thess, hom. 2.

[14] In 2 Cor., hom. 15:3, 4.

تفسير رسالة تسالونيكي الأولى 2 الأصحاح الثاني – القمص تادرس يعقوب ملطي

Exit mobile version