تفسير رسالة بطرس الثانية 2 الأصحاح الثاني – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير رسالة بطرس الثانية 2 الأصحاح الثاني - القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير رسالة بطرس الثانية 2 الأصحاح الثاني – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير رسالة بطرس الثانية 2 الأصحاح الثاني – القمص تادرس يعقوب ملطي
الأصحاح الثاني
ظهور المعلمين الكذبة
- ظهور المبتدعين وخطورتهم 1-2.
- دينونتهم أكيدة 3-9.
- صفاتهم 10-22.
1. ظهور المبتدعين وخطورتهم
“ولكن كان أيضًا في الشعب أنبياء كذبة،
كما سيكون فيكم أيضًا معلمون كذبة،
الذين يدسّون بدع هلاك،
وإذ هم ينكرون الرب الذي اشتراهم،
يجلبون هلاكًا سريعًا،
وسيتبع كثيرون تهلكاتهم،
الذين بسببهم يُجدف على طريق الحق” [1-2].
لا يكف إبليس عن أن يخدع بكل طريقة، مشوّهًا الحق، بإظهار ما هو على مثله، فكما يعمل الروح القدس في الأنبياء الحقيقيين شاهدين للرب، هكذا ظهر أيضًا أنبياء كذبة يعمل فيهم إبليس (إر 14: 14؛ 23: 25؛ تث 13: 1-5)، وكما يوجد رعاة حقيقيون، هكذا يوجد معلمون كذبة أيضًا. قد حذرنا ربنا يسوع منهم (مت 7: 15؛ 24:24)، كما حذر الرسول أساقفة أفسس قائلاً: “ومنكم أنتم سيقوم رجال يتكلمون بأمورٍ ملتويةٍ ليجتذبوا التلاميذ وراءهم” (أع 20: 30).
يقول العلامة ترتليان: [يلزمنا ألا ندهش من وجود الهرطقات، لأنه قد سبق الرب فأنبأنا بقيامها، إذ تفسد إيمان البعض، لكنها تقدم تجربة إيمان فتهب فرصة للتذكية (1 كو 11: 19)[13].]
فالهرطقات لها مضارها كما لها منافعها. أما مضارها فكما يقول الرسول:
- ينكرون الرب الذي اشتراهم، مستهينين بالدم الثمين المدفوع لأجل إيماننا المستقيم[14].
- لا يهلكون وحدهم، بل يحدرون معهم آخرين للهلاك، والهدم أسرع من البناء.
- يسيئون إلى الله، إذ “بسببهم يجدف على طريق الحق”. فبالرغم من ادعاءاتهم أنهم متمسكون بالإنجيل إلا أن انحراف إيمانهم وسيرتهم يسببان تجديفًا على اسم الرب.
أما منافع الهرطقات فكما يقول القديس أغسطينوس:
[أما عن الهراطقة فهم لا يفعلون أكثر من أن يجذبوننا نحو معرفة الأسرار، ذلك إن كنا نحيا في تقوى، ونؤمن بالمسيح. ولا نشتهي الطيران من العش قبل الأوان.
انظروا أيها الإخوة فائدة الهراطقة، فإن الله بحسب تدبيره يستخدم حتى الأشرار للخير… فإذ يبتدع الهراطقة تضطرب النفوس الصغيرة، وإذ تضطرب تبحث في الكتاب المقدس… وبحثهم هذا بمثابة قرع رؤوس الرضع على صدر أمّهاتهم لكي ينالوا اللبن الكافي[15].]
2. دينونتهم أكيدة
“وهم في الطمع يتجرون بكم بأقوال مصنّعة،
الذين دينونتهم منذ القديم لا تتوانى،
وهلاكهم لا ينعس” [3]
إذ يتاجرون بالنفوس مستهينين بها وبالدم الكريم المسفوك لأجلها، مستخدمين في ذلك أقوالاً مصنّعة، أي أحاديث لينة خادعة، إذ “بالكلام الطيب والأقوال الحسنة يخدعون قلوب السلماء“ (رو 16: 18). لهذا فإن دينونتهم منذ القديم قائمة تنتظرهم، وهلاكهم لا يغفل عنهم مهما شعروا بطمأنينة كاذبة.
ودليل إدانتهم:
أولاً: إدانة الملائكة الساقطين
“لأنه إن كان الله لم يشفق على ملائكة أخطأوا،
بل في سلاسل الظلام طرحهم في جهنم،
وسلّمهم محروسين للقضاء” [4].
ونلاحظ[16] أن قولهم “طرحهم” في صيغة الماضي تعني تأكيد ما سيكون في المستقبل.
استخدم القديس أغسطينوس[17] هذا النص في إثبات أن الملائكة الأشرار لم يخلقوا هكذا، بل بسقوطهم في الخطأ صاروا أشرارًا.
ثانيًا: هلاك العالم القديم
“ولم يشفق على العالم القديم،
بل إنما حفظ نوحًا ثامنًا كارزًا للبرّ،
إذ جلب طوفانًا على عالم الفجّار” [5].
هذه الجملة متصلة بالجملة الشرطية السابقة، أي إن كان الله لم يشفق على العالم القديم في أيام نوح الذي كرز للبرّ ولم يسمعوا له، فجلب عليهم طوفانًا بسبب فجورهم، فهل لا يدين الله المبتدعين؟
وقد “حفظ نوحًا ثامنًا“، أي بالرغم من أنه الشخص الثامن من الفُلك. لعله دخل بعد أولاده ونسائهم وزوجته ليطمئن عليهم، فإن قلة عددهم لم تمنع اهتمام الله بهم وحفظهم. كما أن كثرة الأشرار لا يمنع إدانتهم.
ثالثًا: حرق سدوم وعمورة
“وإذ رمَّد مدينتيّ سدوم وعمورة حكم عليهما بالانقلاب،
واضعًا عبرة للمعتدّين أن يفجروا “[6].
لقد صار إحالة مدينتي سدوم وعمورة إلى رماد عبرة للتاريخ البشري كله، لأنه إذ ارتفع شرّهم وامتلأ كأس آثامهم أهلكهما الله، هكذا كل من يتمادى في الشر دون أن يتوب![18]
لقد “حكم عليهما بالانقلاب” كمن يُحكم عليه بالإعدام، لأن أجرة الخطية الموت. وحتى في هلاكهما الذي هو ثمرة فجورهما يخرج الله من الآكل أكلاً، محوّلاً شرهما لخير الآخرين، إذ يعتبرون بهما فيتوبون. هذا وقد كشف الله مدى اهتمامه بأولاده. ففي حرق المدينتين لم ينسَ الله لوطًا وابنتيه بالرغم من قلة عددهم بالنسبة للأشرار.
“وأنقذ لوطًا البار مغلوبًا من سيرة الأردياء في الدعارة،
إذ كان البار بالنظر والسمع
وهو ساكن بينهم،
يعذب يومًا فيومًا نفسه البارة بأفعالهم الأثيمة” [7-8].
لقد ألقى لوط نفسه بنفسه وسط الأردياء، إذ اختار الأرض الخصبة تاركًا لعمه “إبراهيم” الأرض الجرداء، لهذا استحق أن يخرج فارغ اليدين. لكن لوط لم يندمج مع الأشرار في دعارتهم، غير أن نفسه كانت تتعذب يومًا فيومًا مما يراه ويسمعه من أفعالهم الأثيمة!
لقد أنقذ الرب لوطًا (تك19: 16) لعدم تدنسه بالفساد الذي حوله، إذ كانت نفسه مرة “مغلوبًا من سيرة الأردياء في الدعارة“، لأنها سيرة ثقيلة على نفس المؤمن.
“يعلم الرب أن ينقذ الأتقياء من التجربة،
ويحفظ الآثمة إلى يوم الدين معاقبين” [9].
هذه هي النتيجة التي يريد أن يعلنها الوحي:
- في وسط التجربة يميز الله بين الأتقياء والمحفوظين للعقاب.
- الله في تركه الأتقياء بين الأشرار لا يعني أنه قد نسيهم، بل يعرف كيف ينقذهم، وذلك كمثل الزارع الذي يترك الزوان ينمو مع الحنطة إلى يوم الحصاد فيفرزهما.
- لا يتعجل الله على عقاب الفجار، بل “يحفظ الآثمة إلى يوم الدين معاقبين”.
3. صفاتهم
لخص الرسول صفات هؤلاء المعلمين الكذبة بالآتي:
- سالكون حسب الجسد. 5. مخادعون.
- يستهينون بالسيادة. 6. محبون للأجرة.
- جاهلون كالحيوانات. 7. عقماء.
- محبون للذة. 8. يشوّهون مفهوم الحرّية.
وقد سبق لنا شرح بعض هذه الصفات في تفسير رسالة يهوذا[19].
- سالكون حسب الجسد.
“ولاسيما الذين يذهبون وراء الجسد في شهوة النجاسة”
وقد ميّز القديس أغسطينوس في مقاله عن ضبط النفس[20] بين:
أ. الجسد بغرائزه: وهو من عمل الله كلي الصلاح، لذلك فهو صالح.
ب. الروح بطاقاتها: وهي من عمل الله كلي الصلاح، لذلك فهي صالحة.
ج. شهوات الجسد: وهي دخيلة على الإنسان نتيجة انحراف توجيه غرائز الإنسان وطاقاته.
د. شهوات الروح: وهي اشتياقات الروح لتنطلق إلى حضن الخالق، وهذه تضاد شهوات الجسد التي هي كالمرض دخيلة على الإنسان.
فالقول “يذهبون وراء الجسد” يعني أن الإنسان يسلك حسب هواه أو ذاته أو رغباته الأرضية البشرية وليس حسب شهوات الروح، أي ليس حسب إرادة الله السماوية. وكما يقول القديس أغسطينوس:
[هذا كشفه الرسول نفسه بصورة أوضح في موضع آخر، إذ يقول “ألستم جسديين وتسلكون بحسب البشر؟” (1 كو 3: 3). فعندما دعاهم جسديين لم يقل: “وتسلكون حسب الجسد”، بل قال “حسب البشر“، لأنه بالحق لو كان من يسلك “حسب الجسد” يستحق اللوم ومن يسلك “حسب البشر” يستحق المديح، لما قال لهم موبخًا “وتسلكون حسب البشر”؟
انصت يا إنسان. لا تسلك حسب البشر، بل حسب الذي خلقك.
لا تهرب من ذاك الذي أوجدك. لا تفلت منه حتى باتكالك على ذاتك (وليس فقط على غيرك) لأن ذاك الذي لم يسلك حسب البشر، قال “ليس أننا كُفاة من أنفسنا بل كفايتنا من الله“ (2كو3: 5)… لهذا لا تسلك يا إنسان حسب ذاتك وإلا هلكت.
عندما تسمع يا إنسان القول: “لأن إن عشتم حسب الجسد فستموتون“ (رو 8: 13)، لا تسلك حسب ذاتك، لأن الشيطان ليس له جسد، ومع ذلك إذ أراد أن يعيش حسب ذاته لم يثبت في الحق (رو 8: 44).
إذن هؤلاء المعلمون يذهبون وراء الجسد، أي وراء نزواتهم الخاصة في شهوة النجاسة… وأية نجاسة أبشع من أن يقبل الإنسان إرادته عوض إرادة الله وعوض الانقياد بروح الله كابن له (رو 8: 14) ينقاد بأعمال جسده؟[21]]
- يستهينون بالسيادة
“ويستهينون بالسيادة،
جسورون، معجبون بأنفسهم،
لا يرتعبون أن يفتروا على ذوي الأمجاد” [10].
وقد سبق لنا شرح هذه العبارة في تفسير رسالة يهوذا ع 8، نرجو الرجوع إليه.
إنهم معتدون بذواتهم وبآرائهم، لا يقبلون الخضوع لما تسلمته الكنيسة جيلاً بعد جيلٍ، بل يرغبون في شرح الكتاب المقدس وتفسيرهم له حسبما تمليه عليهم أفكارهم الخاصة.
وهم في هذا لا يقتدون بالملائكة المتواضعين، الذين وهم أعظم منهم قوة وقدرة وفهمًا وحكمة، لا يقدمون حكم افتراء حتى ضد الشياطين بل يتركون الرب ينتهرهم (راجع تفسير رسالة يهوذا ع 9).
- جاهلون كالحيوانات
“أما هؤلاء فكحيوانات غير ناطقة طبيعية،
مولودة للصيد والهلاك،
يفترون على ما يجهلون،
فسيهلكون في فسادهم” [12]
إذ يرفضون الحق ويقاومونه، يكونون بلا فهم كالحيوانات غير الناطقة، وكما يقول القديس أنطونيوس الكبير: [هذه النفوس تهلك كالحيوانات العجم. لأن عقولهم تسحبها الشهوات، كما تسحب الخيول الجامحة راكبيها[22]]، بل صاروا أدنى منها.
أ. إن الحيوانات غير ناطقة بالطبيعة، لكن الإنسان وهب عقلاً كما يقول القديس أنطونيوس: [ليعين الإنسان في علاقته مع الله[23]]، فانحرافهم عما خُلقوا لأجلها يجعلهم أدنى من الحيوانات.
ب. إن الحيوانات مخلوقة “للصيد والهلاك“، أما الإنسان فمخلوق ليحيا إلى الأبد، وكما يقول القديس أنبا أنطونيوس: [الإنسان العاقل عندما يفحص نفسه يرى ما يجب عليه أن يفعله، وما هو نافع له، وما هو قريب لنفسه، ويقودها إلى الخلاص، كما يرى ما هو غريب عن النفس ويقودها إلى الهلاك، وبهذا يتجنب ما يؤذي النفس باعتباره شيئًا غريبًا عنها[24].]
ج. إن المبتدعين ليس فقط يجهلون الأمور، لكنهم في تجاسر يفترون، مقاومين الحق مع أنه كان يجدر بهم على الأقل أن يصمتوا بسبب جهلهم.
د. إن سبب هلاكهم ليس خارجًا عنهم، بل “سيهلكون في فسادهم” أي أَسلموا أنفسهم بأنفسهم للهلاك.
- محبون للذة
“آخذين أجرة الإثم الذين يحسبون تنعم يوم لذة.
أدناس وعيوب،
يتنعمون في غرورهم صانعين ولائم معكم” [13].
نجدهم في العالم كأنهم ناجحون ومزدهرون، إذ يتنعمون بلذة يوم قصير، لابد أن يعبر ليأتي يوم الدين.
هذا هو مبدأهم كمبدأ الأبيقوريين “لنأكل ونشرب لأننا غدًا نموت”، فيفرحون بلذة مؤقتة يحسبونها نصيبهم، متجاهلين السعادة الأبدية الدائمة. وهم في هذا يقتدون بعيسو الذي من أجل لذة أكلة عدس باع بكوريته، وعاد ليبكي بمرارة بلا نفع.
يقول الرسول: “الذي يزرعه الإنسان إيّاه يحصد، لأن من يزرع لجسده فمن الجسد يحصد فسادًا” (غل 6: 7-8). وإذ يتنعمون هنا في غرورهم، آخذين أجرة الإثم، يتعذّبون هناك.
أما خطورة هؤلاء المبتدعين أنهم “صانعين ولائم معنا“، أي يحاولون نسب أنفسهم إلى وليمة المسيح، ويدعون أنهم أعضاء في الكنيسة، وهم يحملون كل كراهية وبُغضة ضدها.
- مخادعون
“لهم عيون مملوءة فسقًا، لا تكف عن الخطية،
خادعون النفوس غير الثابتة.
لهم قلب متدرب في الطمع،
أولاد اللعنة” [4].
من يستهين بحياته فيعيش في إباحية باستهتار تصير عيناه مملوءة فسقًا، أي زنا. فيفقد المعلم الكاذب العين البسيطة التي تنير الجسد كله، وتصير عيناه مظلمتين لا تنظران إلا ما هو شر ودنس “لا تكف عن الخطية”. هؤلاء المعلّمون المملوءة عيونهم فسقًا، ولا يكفّون عن الخطية، يخدعون النفوس غير الثابتة خلال مظهرهم الخارجي المملوء غيرةً وحماسًا وطهارةً وعفةً.
هؤلاء “لهم قلب متدرب في الطمع، أولاد اللعنة”، أي يحمل قلبهم ما تمتلئ به عيونهم من فسق. قلب لا يشبع ولا يرتوي، في طمعٍ دائمٍ، لا من جهة المادة فحسب، بل وفي صنع الشر واقتناء الكرامة وحب الظهور، ولو على فيه هلاك البسطاء، والانحراف بهم عن إيمانهم البسيط! لهذا استحقوا أن يدعوا “أولاد اللعنة“.
- محبون للأجرة[25]
“قد تركوا الطريق المستقيم فضلّوا،
تابعين طريق بلعام بن بصور، الذي أحب أجرة الإثم.
ولكنه حصل على توبيخ تعدّيه،
إذ منع حماقة النبي حمار أعجم، ناطقًا بصوت إنسان” [15-16].
“قد تركوا الطريق المستقيم”، أي كانوا يومًا ما سالكين فيه، لكنهم انحرفوا منخدعين بطريق بلعام محب أجرة الإثم من الخدمة، حتى انغلق ذهنه فلم يدرك. وقد استخدم الله الحمار الأعجم لتوبيخ من فقد عقله.
- عقماء
“هؤلاء هم آبار بلا ماء،
غيوم يسوقها النوء.
الذين قد حُفظ لهم قتام الظلام إلى الأبد” [17].
لهم مظهر خارجي خادع. فإذ يرى الظمآن البئر يفرح بها، لكنه يحاول الشرب فلا يجد ماءً. وكالفلاح الذي يفرح بالغيوم، لكن سرعان ما تحملها لرياح دون أن تمطر. وستنكشف حقيقة هذا المظهر في الأبدية “الذين قد حُفظ لهم قتام الظلام إلى الأبد”، أي يتركهم الرب هنا قليلاً، ولا يعلموا أنهم محفوظون للظلمة الأبدية.
“لأنهم إذ ينطقون بعظائم البُطلِ،
يخدعون بشهوات الجسد في الدعارة
من هرب قليلاً من الذين يسيرون في الضلال” [18].
أي أنهم يدعون في كبرياءٍ واعتدادٍ المعرفة الفائقة والحكمة، ويحسبون أن تعاليمهم ذات شأن، وهم في الحقيقة مخدوعون بشهوات الجسد، أي بنزواتهم الخاصة. وإذ يجذبون الناس عن ضلالهم، يلقونهم مرة أخرى فيما هو أشر. إنهم يقدمون آمالاً عظيمة ويفتحون الباب للخطاة، لكن في هذا كله يعتمدون على فلسفتهم الذاتية، فيحرفونهم معهم في ضلالهم.
- 8. يشوّهون مفهوم الحرية
“واعدين إيّاهم بالحرية،
هم أنفسهم عبيد الفساد،
لأن ما أنغلب منه أحد، فهو مُستعبد أيضًا” [19]
يكرزون بالحرية… وهذه الكرازة لها جاذبيتها الجميلة ومظهرها البرّاق، لكن للأسف هم أنفسهم مستعبدون للخطية لأنهم مغلوبون منها، وكما يقول الرب “الحق الحق أقول لكم أن كل ما يعمل الخطية هو عبد للخطية” (يو 8: 34). ولعلهم استخدموا هذه الكلمة العذبة “الحرية” التي من أجلها جاء الرب متجسدًا وتألم ومات وقبر وقام وصعد. هذا كله ليصعدنا معه كأبناء أحرار ورثة الملكوت. استخدموها في مفهوم خاطئ مثل:
- التحرر من الناموس باستهتار، وقد عالج الأب ثيوناس هذا الأمر مع الأبوين يوحنا كاسيان وجرمانيوس علاجًا مستفيضًا يمكن الرجوع إليه. وكما يقول الأب يوحنا كاسيان للأب ثيوناس [الشخص الخاضع لشرائع الناموس، ولم يفوق مطالبها بعد، لا يقدر أن يصل إلى كمال الإنجيل، حتى ولو كان يفخر، في تهاونه، أنه مسيحي ومتحرر بنعمة الرب[26].]
- التحرر من النظم والترتيبات التي وضعتها الكنيسة لأجل حياة أولادها.
- التحرر بمعنى الفوضى في العبادة يفعل ما يشاء بلا إرشاد.
“لأنه إذا كانوا بعدها هربوا من نجاسات العالم
بمعرفة الرب والمخلص يسوع المسيح،
يرتبكون أيضًا فيها فينغلبون،
فقد صارت لهم الأواخر أشر من الأوائل” [20].
إذ ينادون بربنا يسوع المسيح كمخلصٍ يعودون فيرتكبون الخطية مغلوبين منها، وبهذا يصيرون إلى حال أشر، وذلك كالمثال الذي ذكره الرب في إنجيل معلمنا لوقا البشير (11: 26)، إذ بعدما خرج الشيطان من إنسانٍ ولم يجد له مكانًا، عاد فوجد مسكنه الأول مكنوسًا مزينًاأ فاستصحب معه سبعة شياطين أشر منه.
وسر ما بلغ إليه حالهم في المرة الثانية هو…
- أنه لم يعد لهم الجهل عذرًا (مت 12: 45).
- من سقط وله معرفة لا يعود ينصت بعد إلى من يرشده أو يعظه.
- السقوط بمعرفة يدفع الإنسان إلى اليأس.
“لأنه كان خيرًا لهم لو لم يعرفوا طريق البرّ،
من أنهم بعد ما عرفوا يرتدّون عن الوصية المقدسة المسلمة إليهم.
قد أصابهم ما في المثل الصادق:
كلب قد عاد إلى قيئه، وخنزيرة مغتسلة إلى مراغة الحماة” [21-22].
وقد اقتبس الرسول هذا المثل عن سفر الأمثال “كما يعود الكلب إلى قيئه هكذا يعيد حماقته“ (أم 26: 11). والمراغة هو مكان التمرغ، والحمأة هي الطين الأسود النتن الذي فيه تتمرغ الخنازير.
هكذا يعود هؤلاء بعدما سمعوا وتحدثوا عن الحرية التي في المسيح إلى حياة العبودية مرة أخرى بسبب شرهم، ويصيروا عبيدًا مهما ادعوا لأنفسهم أنهم سادة. وكما يقول القديس أغسطينوس: [الإنسان الصالح وإن كان عبدًا فهو حر، أما الشرير فحتى إن كان ملك فهو عبد[27].]
[13] Tertullian: The Prescription against Heretics, 1.
[14] راجع أع 20: 28، 1كو 6: 20، 37، رؤ 5: 9.
[15] عظات علي فصول منتخبة من العهد الجديد 1.
[16] راجع تفسير يهوذا 6.
[17] Nature of good against Manichians.
[18] راجع تفسير يهوذا 7.
[19] راجع تفسير يهوذا، 1974، ص 8-11.
[20] ترجم في كتيب تحت اسم العفة.
[21] للمؤلف: العفة لأغسطينوس، 1976، ص 32-34.
[22] للمؤلف: الفيلوكاليا، 1993، ص 41.
[23] للمؤلف: الفيلوكاليا، 1993، ص 48.
[24] للمؤلف: الفيلوكاليا، 1993، ص 21.
[25] راجع تفسير يهوذا، 1974، ص10-11.
[26] راجع مناظرات كاسيان 21 (ص825).
[27] City of God 4: 12: 3.