تفسير رسالة بطرس الأولى 4 الأصحاح الرابع – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير رسالة بطرس الأولى 4 الأصحاح الرابع – القمص تادرس يعقوب ملطي
الأصحاح الرابع
الآلام
- 1. الآلام وترك الشهوات ١ – ٤.
- الآلام والدينونة ٥ – ١١.
- الآلام والأمجاد ١٢ – ١٩.
١. الآلام وترك الشهوات[1]
“فإذ قد تألم المسيح لأجلنا بالجسد،
تسلحوا أنتم أيضًا بهذه النية،
فإن من تألم في الجسد كُفَّ عن الخطية” [1].
بداية سقوط الإنسان هي رغبته في الاستقلال عن الله، ليتحرر من إرادة الله وفكره، مغلقًا على نفسه بروح الظلمة في الجسد، فصارت نفسه تميل إلى شهوات الجسد خاضعة لها. هكذا أحنى الإنسان برأسه لكي لا يرى السماوي والسماويات، بل يرى ذاته منغمسًا في الأرضيات كمن يخلد هنا إلى الأبد. هنا تألم الرب يسوع المسيح لأجلنا بالجسد، مُقَدِّمًا لنا صليبه سكينًا نذبح بها الخطية الرابضة في الجسد، ونبتر بها الفساد الداخلي لكي يعود للجسد صحته، ونقول: “نحن الذين متنا عن الخطية كيف نعيش فيها؟… عالمين أن الإنسان العتيق قد صلب معه ليبطل جسد الخطيئة“ (رو ٦: ٢، ٦).
“لكي لا يعيش أيضًا الزمان الباقي في الجسد لشهوات الناس،
بل لإرادة الله” [2].
بالصليب تموت أجسادنا عن شهواتها، فنحيا بقية أيام غربتنا سالكين ليس حسب شهوات الناس بل لإرادة الله حسب قصده. لقد مات المسيح “كي يعيش الأحياء فيما بعد لا لأنفسهم بل للذي مات من أجلهم وقام” (٢ كو 5: ١٥).
وكما يقول القديس إكليمنضس السكندري[2] صار لنا صليب ربنا حدًا، صار سياجًا وحصنًا ضد خطايانا السابقة. لذلك إذ نحن قد تجددنا فلنثبت أنفسنا فيه (في الصليب) في الحق، ونعود إلى تقديس نفوسنا ووقارها.
“لأن زمان الحياة الذي مضى يكفينا
لنكون قد عملنا إرادة الأمم،
سالكين في الدعارة والشهوات وإدمان الخمر
والبطر والمنادمات وعبادة الأوثان المحرمة” [3].
يوبخنا الرسول في لطف بأن أيام غربتنا قليلة. يكفي ما مضى أننا خسرناه بسبب سلوكنا حسب إرادة الأمم في الشرور السابق ذكرها. أما الآن فَعِوَض الذات البشرية بكل أفكارها وشهواتها، صار لنا المسيح المصلوب عاملاً فينا نحيا به. صار لنا به حياة النصرة والغلبة على الشهوات المحرمة.
“الأمر الذي فيه يستغربون أنكم لستم تركضون معهم إلى فيض هذه الخلاعة عينها مجدفين” [4].
يقف الوثنيون حائرين كيف خلعنا أعمال الإنسان العتيق فلا نسلك مثلهم منجذبين إلى فيض الخلاعة بتهور. وفي حيرتهم هذه يجدفون بأن ينسبوا إلى المؤمنين الكبت والحرمان والجهل، دون أن يدركوا مقدار السعادة التي نحن فيها.
الإنسان الشهواني يظن بل ويؤكد داخل نفسه إنه لا يمكن أن يوجد إنسان طاهر، إذ يُسقط نفسه على البشرية فيراها ضعيفة هزيلة مثله. وإن رأى من كان طاهرًا ظن أنه مرائي ومخادع. وبنفس الطريقة يتعجب المؤمن المجاهد – المرتبط بصليب ربنا عمليًا – كيف لا يأتي الناس ويذوقوا عذوبة الحياة الطاهرة المقدسة.
أخيرًا بعدما تحدث الرسول عن فاعلية آلام الرب في حياة المؤمن عاد ليشجع المؤمن في تحمله للألم برفع نظره إلى الدينونة.
٢. الآلام والدينونة
”الذين سوف يعطون حسابًا للذي هو على استعداد أن يدين الأحياء والأموات.
فإنه لأجل هذا بشر الموتى أيضًا
لكي يدانوا حسب الناس بالجسد،
ولكن ليحيوا حسب الله بالروح.
وإنما نهاية كل شيء قد اقتربت” [5-6].
يبشر الرسول المتألمين قائلاً: “الذي هو على استعداد أن يدين“، وكأن الرب قد تهيأ ليدين… لقد اقتربت نهاية كل شيء. فالدينونة على الأبواب فكيف نكف عن احتمال الآلام بفرح أو نضطرب من المجدفين علينا؟
إنه يدين الأحياء والأموات، أي يدين القديسين الأحياء بالروح ويحملون أيضًا جسدهم في عدم فساد وعدم موت، كما يدين الأموات الذين أماتت الخطية نفوسهم واستكانوا لذلك. أيضًا يدين الأحياء الذين لم ينتقلوا إلى يوم مجيئه فإنهم في لحظة يتغيرون، كما لا ينسى الذين سبقوا فماتوا بالجسد. لا يفلت من بين يديه أحد الكل ينال جزاءه كبيرهم وصغيرهم مند خلقة آدم إلى آخر الدهور.
من أجل هذا بشر الديان، ربنا يسوع، الموتى… ومن هم هؤلاء الموتى؟
- ربما قُصد بهم الذين انتقلوا من العالم حاملين آلامهم وأتعابهم من أجل الإيمان، هؤلاء الذين دانهم الناس حسب الجسد وحكموا عليهم أنهم مستحقون الموت مع إنهم بالروح هم أحياء في نظر الله.
- إن الديان بشر الموتى بالروح (مت ٨: ٢٢ و يو ٥: ٢٥) أي الأشرار لكي يتوبوا ويقبلوا إدانة الناس لهم مهتمين بأمر واحد أن يحيوا بالروح.
ويقول القديس أغسطينوس: [ليس ما يلزمنا تفسير قول الرسول على أنه يصف ما يحدث في الجحيم (الموتى)، فإن الإنجيل يُبَشَّر به في هذه الحياة للأموات أي غير المؤمنين الأشرار، حتى عندما يؤمنون “يدانوا حسب الناس بالجسد” أي يدانوا بالأحزان الكثيرة وموت الجسد نفسه… ولكنهم يحيوا حسب الله بالروح، حيث كانت أرواحهم ذاتها ميتة عندما كانوا مسجونين في عدم الإيمان والشر[3].]
وما هي ثمار تأملنا الدائم في مجيء الرب؟
اعتادت الكنيسة الأولى وخاصة بين الرهبان على ممارسة ثلاثة تداريب تعتبر أساسية في حياة المؤمن وخاصة بالنسبة لراغبي الرهبنة وهي:
- زيارة المدافن.
- ممارسة “صلاة يسوع”، أو الصلاة الدائمة أو كما يسميها القديس أغسطينوس بالصلاة السهمية. لأنها تصوب ضد الشيطان، ولا يقدر على صدها.
- تذكر يوم الدينونة ومجيء الرب.
وهنا يقدم لنا الرسول التدريب الثالث كباعثٍ لنا على الآتي:
ا. التعقل والسهر للصلاة
يقول الرسول “فتعقلوا واصحوا للصلوات”، فتَذَكُّر الدينونة يسلخ الإنسان عن شهواته الجسدية فيحيا متعقلاً، أي خاضعًا لعقله أو لذهنه الروحي وليس لجسده وشهواته.
ويُعَرِّف العظيم أنبا أنطونيوس العقلاء بأنهم [من كانت نفوسهم عاقلة، تقدر أن تميز بين ما هو خير وما هو شر ومضر للنفس، ويحرصون بحكمة على ما هو خير ونافع للنفس، ويمارسونه بشكرٍ عظيم لله[4].]
لِنَصْحْ ولنسهر حتى لا يكون نصيبنا مع تلك التي رآها هرماس إذ نظر النفس الخاملة كعجوز خائرة مسترخية على كرسي عاجزة عن الحركة، فلما سأل عن السبب قيل له [لأن روحكم الآن عجوز قد فقدت قوتها بسبب ضعفاتكم وشكوكم. لقد صارت كالشيوخ الذين فقدوا الأمل في تجديد قوتهم، ولم يعودوا بعد يتوقعون سوى أنهم يغطون في نومهم الأخير، وهكذا ضعفتم بسبب الانشغالات العالمية، وأسلمتم نفوسكم للخمول ولم تلقوا همكم على الله (١ بط ٥: ٧)[5].
ب. محبتنا لإخوتنا
“ولكن قبل كل شيء لتكن محبتكم بعضكم لبعض شديدة،
لأن المحبة تستر كثرة من الخطايا” [8].
إن كانت الصلاة الدائمة هي غاية عبادتنا إذ نكون على الدوام في حضن الله، لكن لا نَفْعَ لها ما لم تستند بحبنا لإخوتنا محبة شديدة نابعة من أعماق القلب الداخلية. لأنه بالمحبة تستر أخطاء الغير وعيوبهم، فيستر الله علينا ويغفر خطايانا، ويمتعنا بصلاة هادئة[6] مقبولة لدى الله، وبهذا يزداد اتحادنا بالرب.
يقول القديس إكليمنضس الروماني: [الحب يوحدنا مع الله إذ “المحبة تستر كثرة من الخطايا[7]“.]
هذا الحب يبعثه أيضًا التأمل في يوم الدينونة حيث نجد أن الله لا ينسى تعب محبتنا بل كأس ماء بارد نعطيه لا يضيع أجرنا فيه.
وإذ ترتفع أنظارنا إلى الدينونة، نشتهي أن نرى حتى المضايقين لنا كملائكة الله نشترك جميعًا في التسبيح والتمجيد لله، وهذا يبعث فينا حبًا روحيًا عميقًا.
ج. إضافة الغرباء
“كونوا مضيفين بعضكم بعضًا بلا دمدمة” [9].
التأمل في مجيء الرب على السحاب ومناداتنا بأسمائنا لندخل إلى شركة أمجاده، مستضيفًا لنا في أحضانه الأبديّة بفرح وبسرور، يبعث فينا نحن الضعفاء أن نفتح قلوبنا وبيوتنا لأخوتنا الغرباء، فنستضيفهم بلا دمدمة، أي بلا تذمر بل بفرحٍ وبشاشةٍ حقيقيّة.
ومن اهتمام الآباء الرهبان بإضافة الغرباء أنهم كانوا يسمحون لأنفسهم، حتى بالنسبة للنساك المتوحدين، أن يكسروا أصوامهم من أجل الغريب في استضافتهم له، لكي لا يُحرموا من تقديم ذبيحة الحب لله في شخص الغريب.
د. خدمة الآخرين
“ليكن كل واحدٍبحسب ما أخذ موهبة يخدم بها بعضكم بعضًا،
كوكلاء صالحين على نعمة الله المتنوعة.
إن كان يتكلم أحد فكأقوال الله،
وإن كان يخدم أحد، فكأنه من قوة يمنحها الله،
ليتمجد الله في كل شيء بيسوع المسيح،
الذي له المجد والسلطان إلى أبد الآبدين. آمين” [10-11.]
كلما ارتفعت أنظار المؤمن تجاه الأبديّة يُضرِم الموهبة التي نالها من الرب بلا كسل وهنا نلاحظ:
أ. يقول الرسول “ليكن كل واحدٍ، فلا يوجد في الكنيسة كلها إنسان قط بلا موهبة، سواء كان طفلاً أو شيخًا، رجلاً أو امرأة، كاهنًا أو علمانيًا، بتولاً أو أرملاً أو متزوجًا. لأننا جميعًا أعضاء في جسد المسيح، ولا يمكن أن يكون في هذا الجسد عضو بلا عمل.
ب. “بحسب ما أخذ“، أي ليس لعضوٍ فضل فيما له من مواهب. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم أن الله يوزع علينا المواهب بالقدر الذي يرى فيه خلاصنا. فيعطي لإنسان موهبة أقل ليس عن عدم محبة من الله تجاهه، بل لأنه يعلم أنه لا يقدر أن يُضرِم أكثر من ذلك، فلو قدم له ما هو أكثر لصار هذا الإنسان مهملاً. ويعطي الرب لآخر موهبة أكثر ليس لأنه أفضل من أخيه، لكن لأن الله يعلم أنه بهذا القدر يقدر هذا الأخ أن يثابر ويعمل وبدونها يفشل في عمله. هكذا يُنَسِّق صانع الخيرات ضابط الكل حسبما يرى فيه خيرنا وخلاصنا.
ج. “يخدم بها بعضكم بعضًا كوكلاء صالحين على نعمة الله المتنوعة“. أي أعطيت هذه المواهب من يديّ الله لا للمباهاة بها، بل لخدمة الكنيسة والبشريّة كلها.
وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [في الكنيسة أعضاء كثيرون مختلفون، بعضهم ذوي كرامة الآخرون أقل كرامة. مثال ذلك توجد جوقة من المتبتلين، ومجموعات من الأرامل، وإخوة مرتبطون بزواج مقدس… ومع ذلك فالكل يكمل بعضهم بعضًا… قد تكون موهبة إنسان أقل لكنها ضرورية، فإذا تعطل العضو (عن عمله) تعطلت أعمال كثيرة[8].]
د. “إن كان يتكلم أحد فكأقوال الله“، أي أن من وُهِبَ عطية الوعظ فليختفِ في كلمة الله لكي يظهر الله وتختفي كل فلسفة بشريّة.
ه. “وإن كان يخدم أحد، فكأنه من قوة يمنحها الله ليتمجد الله في كل شيء، بيسوع الذي له المجد والسلطان إلى أبد الآبدين. آمين”.
وكما يختفي الواعظ والمتكلم في كلمة الله ليُظْهِرها كما هي بلا تنميق ولا تمويه ولا تزيين، هكذا من وُهب عطية الخدمة في أي نوع من أنواع الخدمات، فليعلم أنه يعجز عن الخدمة ما لم يُعطه الرب القوة للتنفيذ. بهذا يتمجد الآب في كل شيء بيسوع المسيح صاحب المجد والسلطان.
وكلمة “آمين” هنا لا تعني ختام الحديث وإنما تعني “ليكن هذا!”
٣. الآلام والأمجاد
“أيها الأحباء لا تستغربوا البلوى المحرقة التي بينكم حادثة،
لأجل امتحانكم، كأنه أصابكم أمر غريب.
بل كما اشتركتم في آلام المسيح،
افرحوا لكي تفرحوا في استعلان مجده مبتهجين” [12-13].
هذا القول يكشف عن شدة الاضطهاد الذي اجتازته الكنيسة في آسيا إذ يسميه “البلوى المحرقة“. وهذا الأمر ليس بغريب إذ يقول الرسول “لا تستغربوا“، فإن هذا الأمر هام وحيوي في حياة المؤمن لأن التجارب والآلام وإن كانت “محرقة” لكنها نافعة وذلك لسببين:
- “لأجل امتحانكم“، فالطالب بالرغم مما يعانيه من آلام في ليالي الامتحانات، لكنه يتمم ذلك بفرح وبهجة قلب منتظرًا النجاح.
والذهب والفضة يُمْحَصا ويُمْتَحنا في البوتقة فيحترق الزغل ويزداد بريقًا لهذا يقول: “جربتنا يا الله، محصتنا كمحص الفضة[9]“.
لهذا يحث الشهيد كبريانوس شعب Thibares على الاستشهاد فيقول:
[الآن يعلمنا الرسل هذه الأمور التي تعلمتموها من وصايا الرب والأوامر السماويّة، فإن الرب نفسه يشجعنا قائلاً: “الحق أقول لكم ان ليس أحد ترك بيتًا أو والدين أو إخوة أو امرأة أو أولادًا من أجل ملكوت الله إلاَّ ويأخذ في هذا الزمان أضعافًا كثيرة وفي الدهر الآتي الحياة الأبدية” (لو ١٨: ٢٩-٣٠). ويقول “طوباكم إذا أبغضكم الناس وإذا أفرزوكم وعيروكم وأخرجوا اسمكم كشريرٍ من أجل ابن الإنسان. افرحوا في ذلك وتهللوا، فهوذا أجركم عظيم في السماء” (لو ٦: ٢٢-٢٣).
لقد أراد الرب أن نفرح ونمتلئ بهجة في الضيقات، لأنه حيث توجد اضطهادات تُعطى أكاليل الإيمان ويتزكى جنود المسيح وتنفتح السماوات للشهداء[10].]
يجتاز المؤمن هذه الضيقات سواء كان في عصر الاضطهاد أو في وقت سلم لأن الحرب قائمة من إبليس ضد أولاد الله. فليس من الضروري أن تكون الحرب خارجة من إنسان. لكن يكفي المحاربة ضد الخطية. وكما يقول الشهيد كبريانوس في رسالته الحادية عشر: [كما في أثناء الاضطهاد ينال الإنسان إكليل الشهادة، كذلك في وقت السلام يتوج بتاج نقاوة الضمير[11].]
- “كما اشتركتم في آلام المسيح افرحوا… ” إن سرّ فرحنا ليس فقط أننا نتزكى قدامه لننال الإكليل، بل ونشارك المسيح في آلامه. أي مجد لنا أن يكون لنا هذا النصيب!
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [“لأنه كما تكثر آلام المسيح فينا كذلك بالمسيح تكثر تعزيتنا أيضًا” (٢ كو ١: ٥)… إنه يسمو بنفوسنا حاسبًا هذه الآلام خاصة به، فأي فرح يشملنا أننا شركاء المسيح، ومن أجله نتألم[12]!]
“إن عيرتم باسم المسيح فطوبى لكم،
لأن روح المجد والله يحل عليكم.
أما من جهتهم فيجدف عليه،
وأما من جهتكم فيمجد” [14].
مادامت الآلام والتعييرات ليست نابعة عن عداء شخصي أو بسبب خطأ ارتكبه المؤمن، بل “باسم المسيح” فطوباه. وسرّ هذا التطويب أن الروح القدس “روح المجد” يحل على المتألم من أجل الرب. يحل عليه لكي يحمل أتعابه ويسنده، ويحل عليه ليهبه مجدًا، فيجدف الشرير على الروح القدس ويضطهده في شخص المؤمن.
“فلا يتألم أحدكم كقاتل أو سارق أو فاعل شر أو متداخل في أمور غيره.
ولكن إن كان كمسيحي فلا يخجل،
بل يمجد الله من هذا القبيل” [15-16].
يخجل الإنسان متى سقط تحت العقوبة بسبب جريمة قتل أو سرقة أو فعل شر أو بسبب تدخله في أمورٍ لا شأن له بها! أما إذا احتمل الآلام “كمسيحيٍ” أي بسبب نسبته للسيد المسيح، فلا يخجل بل يمجد الله لأنه غير مستحق لهذا الشرف.
وقد سبق الرب فأخبر تلاميذه قائلاً: “ليس عبد أعظم من سيده. إن كانوا اضطهدوني فسيضطهدونكم. في العالم سيكون لكم ضيق[13]” (يو ١٥: ٢٠؛ ١٦: 3٣).
لكن ربما يتذمر أحد قائلاً: إلى متى نحتمل الألم من أجل الأمجاد؟
يجيب الرسول مؤكدًا:
- إن القضاء قد اقترب.
- إن الخلاص يتطلب جهادًا ومثابرة.
- إننا في أيدي خالق أمين في عمل الخير.
- إن القضاء قد اقترب
“لأن الوقت لابتداء القضاء من بيت الله،
فإن كان أولاً منا،
فما هي نهاية الذين لا يطيعون إنجيل الله” [17].
ربما قصد الرسول أنه إن كان هكذا قد خرج الأمر بخراب أورشليم وهيكل اليهود لأنهم رفضوه واضطهدوه كما ضايقوا تلاميذه، فإن هذا دليل على أن القضاء آتٍ لا محالة… فلا حاجة بعد للاستعجال. إذن ليحتمل المؤمن منتظرًا الأمجاد الآتية دون أدنى شك.
- إن الخلاص يحتاج إلى جهاد
“وإن كان البار بالجهد يخلص، فالفاجر والخاطئ أين يظهران؟” [18].
وكأن الرسول يهدىء من روع المتعجلين بالقضاء بسبب ما يعانونه من الآلام المُرّة، فيقول لهم إن خلاص الإنسان البار ليس بالأمر السهل، بل يحتاج إلى جهد، إذ يقول الرب: “ملكوت السماوات يغتصب والغاصبون يختطفونه”، فكم يليق بنا نحن الفجار والخطاة أن نحتمل آلامًا وأتعابًا بصبر من أجل خلاصنا لنرث السماوات؟ وكأنه يذكرنا بقول الرب: “اجتهدوا أن تدخلوا من الباب الضيق” (لو ١٣: ٢٤).
لهذا نصلي في غروب كل يوم قائلين: [إذا كان الصديق بالجهد يخلص فأين أظهر أنا الخاطي؟ ثقل النهار وحره لم أحتمل لضعف بشريتي، لكن أنت يا الله الرحوم احسبني مع أصحاب الساعة الحادية عشرة[14]…]
يقول العظيم أنطونيوس: [يجب علينا ألا نقول باستحالة السلوك في حياة الفضيلة بالنسبة للإنسان، إنما نقول عنه أنه ليس سهلاً. يستحيل عليك أن تصير صالحًا أو حكيمًا في لحظة، إنما تحتاج إلى المذاكرة والحرص والتمرن والتدرب والجهاد الطويل[15].]
هكذا نحن مطالبون باحتمال الآلام، ليس من الغير بل وبإرادتنا، فتموت أجسادنا وتُصلب عن شهواتها، ونقدم ذبيحة الفقر الاختياري وتعب الزهد والبذل محبة في الرب يسوع.
- إننا في أيدي خالق أمين في عمل الخير
“فإذًا الذين يتألمون بحسب مشيئة الله،
فليستودعوا أنفسهم كما لخالق أمين في عمل الخير” [19].
قدم لنا ربنا يسوع نفسه درسًا، إذ صرخ على الصليب بطمأنينة قلب قائلاً: “يا أبتاه في يديك أستودع روحي” (لو ٢٣: ٤٦).
لماذا تخاف الآلام وقد أكد لنا الرب أن شعرة واحدة من رؤوسنا لا تسقط إلاَّ بإذن أبينا السماوي. إنه صانع خيرات كما تسميه الكنيسة في صلواتها، نسلمه حياتنا كوديعة ليسمح لنا بالتجارب حسبما يراه لخيرنا. وذلك كما تستسلم قطعة الطين في يدي الفخاري.
لندخل في الفرن، لكن يكفينا نظرات الفخاري التي لا تفارقنا لأننا داخل فرن التجربة، يعرف درجة الحرارة المناسبة، وموضعنا المناسب داخل الفرن، والوقت اللازم لنتهيأ كإناء للكرامة.
كلما حلت الضيقات أو الأمراض بالطفل يكشف الأب والأم حبهما له، هكذا لا نخف فإنه في لحظات الألم يترفق الله والكنيسة بنا للغاية.
[1] راجع كتاب الحب الإلهي، 1967، فصل: يسوع صُلب لأجلي.
[2] Instructor 3 : 12
[3] Letter 164 ch 7.
[4] الفيلوكاليا، 1993، ص ١٩.
[5] The Pastor, Book 1, vision 4.
[6]راجع تفسير يع ٥ : ٢٠ ومقال الأب اسحق في مناظرات كاسيان ص ٢١٠ .
[7] رسالة إكليمنضس أسقف روما ص ٤٠..
[8] الحب الأخوي، 1964، ص ٤٢٢ – ٤٢٤.
[9] راجع تث ١٣ : ٣؛ يشوع بن سيراخ ٢٧ : ٥؛ رو ٥ : ٢.
[10] Epistle 55 (Oxford ed. Epistle No. 28).
[11] طبعة أكسفورد رسالة رقم ١٣.
[12] الحب الإلهي، 1967، ص ٣٦٠ – ٣٦١.
[13] راجع مقال “الألم والمعية” – الحب الإلهي، 1967، ص ٣٥٥ – ٣٦٦.
[14] صلوات الأجبية.
[15] الفيلوكاليا، 1993، ص ٢٢، ٢٩.