تفسير رسالة يوحنا الأولى 3 الأصحاح الثالث – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير رسالة يوحنا الأولى 3 الأصحاح الثالث – القمص تادرس يعقوب ملطي
الأصحاح الثالث
بنوتنا للَّه
- اللَّه واهب البنوة له 1-2.
- مسئوليتنا كأبناء للَّه
ا. تشبهنا به في الطهارة 3.
ب. تشبهنا به في عدم فعل الخطية 4-5.
ج. تشبهنا به في صنع البرّ والحب 6-21.
د. ثقتنا في اللَّه أبينا 22-24.
-
-
اللَّه واهب البنوة له
-
إذ ختم الرسول الأصحاح السابق بقوله “إن كل من يصنع البرّ مولود منه”، بدأ يحدثنا عن مركزنا بالنسبة للَّه، مميزًا بين عائلتين روحيتين في العالم، إحداهما تنتسب للَّه والأخرى تنتسب لإبليس.
نحن كمؤمنين بربنا يسوع اعتمدنا باسمه، فصرنا أعضاء في جسده السري، وبالتالي انتقلنا إلى البنوة للَّه. وكما يقول الرسول “لأنكم جميعًا أبناء اللَّه بالإيمان بالمسيح يسوع، لأن كلكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح” (غل ٣: ٢٦-27).
هذا المركز هو لنا بغض النظر عن حالتنا غير أنه إن سلكنا بما لا يليق بأبينا السماوي نكون غير ثابتين في أبينا. وفي هذه الحالة لا تنتفي عنا البنوة، بل تتحول إلى دينونة أعظم. فقد يسئ الابن إلى أبيه، وقد يُحرم من الميراث ويطرد من حضرة أبيه لكن نسبه لأبيه يبقى مبكتًا لضميره طول حياته، ويصير كمن هو ليس ابنًا يحسبونه هكذا ويشتهي لو لم يكن حاله هكذا.
لهذا يوصينا القديس أغسطينوس قائلاً: [لنتأمل أيها الأحباء أبناء من قد صرنا. لنسلك بما يليق بأبٍ كهذا. انظروا كيف تنازل خالقنا ليكون أبًا لنا؟! لقد وجدنا لنا أبًا في السماوات. لذلك وجب علينا الاهتمام بسلوكنا ونحن على الأرض، لأن من ينتسب لآب هكذا ينبغي عليه السلوك بطريقة يستحق بها أن ينال ميراثه؟[1]]
“انظروا أية محبة أعطانا الآب حتى ندعى أولاد اللَّه؟” [1].
أي شرف لنا أعظم من هذا أن ندعى أبناء الخالق؟! عظيمة جدًا هي هذه العطية المجانية التي وهبت لنا. لنعمل إذن حتى نقدم عنها حسابًا كما يليق.وكما يقول القديس أغسطينوس:
[ماذا ينتفع أولئك الذين يدعون أبناء والبنوة ليست عاملة فيهم؟!
كثيرون يدعون أنهم أطباء لكنهم لا يعرفون كيف يعالجون الناس! وكثيرون يدعون ساهرين وهم نيام الليل كله!
كم من أناس يدعون مسيحيين لكنهم بأعمالهم لم يوجدوا هكذا، لأنهم ليسوا مسيحيين لا في الحياة ولا في السلوك ولا في الإيمان ولا في الرجاء ولا في المحبة!
كل إنسان منكم يسلك الصلاح ويحتقر أمور العالم ولا يختار ارتياد الملاهي، ومن نفسه لا يقبل أن يكون سكيرًا أو ينجس نفسه تحت ستار الأعياد مقدسة… مثل هذا يحتقره أولئك الذين يفعلون هذه الأمور…
“من أجل هذا لا يعرفنا العالم لأنه لا يعرفه” [1].
ومن هو العالم؟ إنه يعني الذين يحبونه ويسكنونه على أساس تعلقهم به، وبهذا اكتسبوا اسمه.
“لأنه لا يعرفه“: لقد سار ربنا يسوع المسيح في العالم بنفسه في الجسد. إنه اللَّه، وهو قوي في الضعف، فلماذا لا يكون معروفًا؟ لأنه وبخ على كل خطية في الناس. فمحبتهم للذة الإثم جعلتهم لا يعرفونه، وحبهم لتلك الأمور دفع بهم إلى الحمى وأساءوا إلى الطبيب[2].]
هذا ما قاله الإنجيلي (يو 1: 10) وما أكده ربنا قائلاً: “أيها الآب البار، العالم لم يعرفك” (يو 17: 25). لأن محبو العالم لهم أب آخر غير اللَّه يحتل قلوبهم فلا يستطيعوا معاينته، وذاك كما قال الرب لليهود الأشرار “لو كان اللَّه أباكم، لكنتم تحبونني، لأني خرجت من قبل الآب وأتيت… لأنكم لا تقدرون أن تسمعوا قولي. أنتم من أب هو إبليس” (يو 8: 42-44).
وإذ لا يستطيع الأشرار أن يعرفوا اللَّه فكيف يعرفون أولاده؟! لكن هذا لا يخيف أولاد اللَّه، لأنهم وإن حرموا من محبة الأشرار، إلاَ أنهم يجدون أنفسهم موضوع حب اللَّه وكل قديسيه، لهذا يدعوهم الرسول “أيها الأحباء“. فالبغضة التي من الأشرار لا تشغل بال أولاد اللَّه.
“أيها الأحباء نحن أولاد اللَّه، ولم يظهر بعد ماذا سنكون،
لكن نعلم أنه إذا أظهر نكون مثله، لأننا سنراه كما هو” [2].
فكر أولاد اللَّه مشغول بأمر جد خطير، ألا وهو الحياة الأبدية، حيث يلتقون بأبيهم ويكونون مثله ويرونه وجهًا لوجه. “سينظرون وجهه واسمه على جباههم” (رؤ 22: 4). وكما يقول الرسول: “الذي سيغير شكل جسد تواضعنا ليكون “على صورة جسد مجده” (في 3: 21). فهل لنا كعروس المسيح وأولاد اللَّه أن نتعلق بالأمور الزمنية أو نبالي بمضايقات الأشرار مادامت روحنا ناظرة تجاه جمال الرب قائلة: “أما أنا فبالبرّ أنظر وجهك أشبع إذا استيقظت بشبهك” (مز 17: 15).
- مسئوليتنا كأبناء للَّه
ا. تشبهنا به في الطهارة
لقد تصالحنا مع اللَّه بالمسيح يسوع، ونلنا بالمعمودية البنوة له، وإذ ارتفعت أفكارنا إلى فوق أصبحنا بالرجاء نسير كما يليق بأبناء اللَّه القدوس فنسلك في حياة طاهرة.
“وكل من عنده هذا الرجاء،
به يطهر نفسه كما هو طاهر” [3].
وقوله “يطهر نفسه” تؤكد مساهمتنا نحن في السلوك، لأنه وإن كان ليس لنا أن نتطهر إلاَ باللَّه القدوس، لكن لا نتطهر ما لم نقبل نحن ذلك ونتجاوب مع عمل اللَّه، مجاهدين ومثابرين ومغتصبين.
ب. تشبهنا به في عدم فعل الخطية
“كل من يفعل الخطية يفعل التعدي” [4].
معنى التعدي العصيان، فيصير الإنسان بفعله الخطية عاصيًا أي عاقًا، وهذا لا يليق بالأبناء. لهذا جاء ربنا يسوع يكسر سلطان الخطية إذ “وتعلمون أن ذاك أظهر لكي يرفع خطايانا وليس فيه خطية” [5].
جاء لينزع شوكة الخطية، ويعلن أنه بلا خطية، فنقتدي به ونتعلق به، ثابتين فيه كي نصير نحن أيضًا بلا خطية. لكن هل يعني هذا أنه يوجد إنسان على الأرض بلا خطية؟!
ج. تشبهنا به في صنع البرّ والحب
“كل من يثبت فيه لا يخطئ. كل من يخطئ لم يبصره ولا يعرفه.
أيها الأولاد لا يضلكم أحد. من يفعل البرّ فهو بار، كما أن ذاك بار.
من يفعل الخطية، فهو من إبليس لأن إبليس من البدء يخطئ.
لأجل هذا أظهر ابن اللَّه، لكي ينقض أعمال إبليس.
كل من هو مولود من اللَّه لا يفعل خطية، لأن زرعه يثبت فيه،
ولا يستطيع أن يخطئ، لأنه مولود من اللَّه” [6-9].
يمكن إنجاز هذا الفكر الوارد في هذا النص وغيره في نفس الرسالة فيما يلي:
- أن من يثبت في النور لا يخطئ.
- المولود من اللَّه لا يقدر أن يخطئ.
- المولود من اللَّه يحفظ نفسه والشرير لا يمسه (١ يو 5: 18).
- من يخطئ لم يعرف اللَّه ولا أبصره.
- من يفعل الخطية هو من إبليس.
هذه النصوص لو اقتطفت من الكتاب المقدس منفصلة من غير ربطها ببقية السفر أو ما يسبقها أو يليها، ربما تدفع بالإنسان إلى فهم أن كل إنسان يخطئ أية خطية (لأنه من أخطأ في واحدة كسر الناموس كله) ليس ابنًا للَّه بل لإبليس، مما قد يدفع به إلى اليأس.
عندما تطلع إليها البعض منفصلة عن بقية الكتاب المقدس سقطوا في بدعة وجود معموديتين: إحداهما معمودية الماء الشكلية من يصطبغ بها يبقى معرضًا للخطية ولا يتمتع بالخلاص. والثانية معمودية الروح، ومن يتمتع بها يتحصن من الخطية ولا يخطئ ولا يستطيع أن يسقط في تجربة. ويبررون قولهم هذا بأنه لو كان في معمودية الماء يولد الإنسان ميلادًا جديدًا، فلماذا يتعرض المعمدون للخطية، ويسقطون مع أن أولاد اللَّه لا يخطئون؟ ففي نظرهم محتاجون إلى معمودية الروح.
لكننا نتساءل لماذا لم يذكر السيد المسيح في حديثه مع نيقوديموس عن المعمودية هكذا، إذ لم يقل: “إن كان أحد بعد عماده بالماء لا يولد من الروح” بل قال: “يولد من الماء والروح” دون أن يفصلهما عن بعضهما البعض؟ ولم يرد في الكتاب المقدس ولا في تاريخ الكنيسة أن التلاميذ والرسل وخلفاؤهم كانوا يعمدون بالماء ثم يعودوا ليعمدوا بالروح؟!
ثم لو كان حديثهم صحيحًا فهل كل من يتعرض للسقوط أو يسقط فعلاً يكون محتاجًا إلى معمودية الروح لأنه لم يصطبغ بها بعد؟! وعلى هذا يكون يوحنا الحبيب أثناء كتابته للرسالة قائلاً: “إن قلنا أنه ليس لنا خطية نضل أنفسنا” لم يعتمد بعد بالروح؟! وبولس الرسول الذي قال: “ليس ساكن فيّ أي في جسدي شيء صالح” (رو 7: 18)، لم يعتمد أيضًا بالروح؟
ولماذا لم يطلب ربنا يسوع من أساقفة أو ملائكة كنائس آسيا الذين حذرهم في سفر الرؤيا طالبًا منهم التوبة أن يعتمدوا بالروح؟!
لكن كما يقول القديس مرقس الناسك:
[العماد المقدس عمل كامل ويهبنا الكمال، إلاَ أنه لا يكمل إنسانًا… يفشل (يهمل) في تنفيذ الوصايا…
والإنسان يتوجه بإرادته حيثما يحب، حتى بعد المعمودية، إذ لا تسلبنا المعمودية حريتنا. فعندما يقول الكتاب المقدس “ملكوت السماوات يغتصب” (مت 11: 12)، إنما يتكلم عن الإرادة الخاصة بكل شخصٍ، حتى لا يعود يلتفت كل منا – بعد ما تعمد – إلى الشر، وإنما يثبت في الخير.
والذين نالوا قوة لتنفيذ الوصايا، يوصيهم الرب كمؤمنين أن يجاهدوا فيها حتى لا يرتدوا عنها…
“لقد لبستم المسيح بالمعمودية” (غل 3: 27)، “وملكتم قوةً وسلطانًا لهدم ظنون” (٢ كو 10: 5). ولكن إذ نلتم هذه القوة للغلبة عليها، مع ذلك لم تعملوا على هدمها منذ اللحظة الأولى التي تخطر الظنون فيها على بالكم، فمن الواضح أنكم محبون للشهوات في عدم إيمان حتى أنكم قبلتموها وتصادقتم معها[3].]
لكن ما هو تفسير الآيات السابقة؟
- رأي القديس أغسطينوس
[يقول الرسول: “كل من هو مولود من اللَّه لا يفعل الخطية”… وفي نفس الرسالة يقول: “إن قلنا أنه ليس لنا خطية نضل أنفسنا وليس الحق فينا” فماذا يفعل الإنسان إزاء هذين القولين في نفس الرسالة؟ فإن اعترف أنه خاطئ يخشى لئلا يقال عنه أنه ليس مولود من اللَّه، وإن قال أنه صالح ولا يخطئ يواجه القول الثاني “نضل أنفسنا”…
فالرسول يقصد خطية معينة لا يستطيع المولود من اللَّه (كابن للَّه) أن يرتكبها. هذه الخطية متى ارتكبها صار الإنسان مخطئًا في الكل… ألا وهي كسر الوصية؟ “وصية جديدة أنا أعطيكم أن تحبوا بعضكم بعضًا” (يو 13: 34).]
وهكذا يرى القديس أغسطينوس أنه يستحيل على الإنسان كابن للَّه ألا يحب إخوته، فإن لم يحب إخوته يكون قد انحرف عن السمة التي وهبت له وهي المحبة.
هذا أيضًا ما نادى به الأب شيريمون مطالبًا المعتمدين أن يتشبهوا باللَّه بأن يظهروا محبة هادئة داخلية نحو الصالحين والطالحين[4]…
- رأي البابا أثناسيوس الرسولي
يرى القديس أن [الكلمة ارتدى جسدًا مضمدًا كل لدغة الحية، نازعًا كل شرٍ ينبع عن عواطف الجسد، مبطلاً أيضًا الموت المصاحب للخطية… وكما كتب يوحنا: “لأجل هذا أظهر ابن اللَّه ينقض أعمال إبليس”[5].]
هذه هي الإمكانية المعطاة لنا كأولاد للَّه، فصار لنا أن نهزم أعمال إبليس بالرب يسوع لكن ليس قهرًا بل حسب إرادتنا، أي إن ثبتنا فيه وتمسكنا به.
- رأي العلامة ترتليان
[يؤكد الرسول أننا لا نخطئ قط، وقد عالج هذا بتوسع حتى لا نذعن للخطية، موضحًا لنا أن الخطايا قد نقضها السيد المسيح فصار لنا أن نسلك في النور… غير أن هناك بعض الخطايا اليومية التي يرتكبها الإنسان ونخضع جميعًا لها… فإن لم نجد عفوًا عنها يصير الخلاص مستحيلاً بالنسبة للجميع.]
- رأي القديس إيرونيموس (چيروم[6])
[أما المنطق الثاني لجوفنيانوس فهو أن الإنسان الذي اعتمد لا يقدر الشيطان أن يجربه (يسقطه). ولكي ما يهرب جوفيانوس مما يتهم به بأن قوله هذا سخيف، يضيف قائلاً: “ولكن متى جرب أحد فإنه بهذا يظهر أنه قد اعتمد بالماء وليس بالروح، وذلك كما في حالة سيمون الساحر. وفي هذا يقول يوحنا “كل من هو مولود من اللَّه لا يفعل خطية لأن زرعه يثبت فيه، ولا يستطيع أن يخطئ لأنه مولود من اللَّه. بهذا أولاد اللَّه ظاهرون وأولاد إبليس” [٩-١٠]. وفي النهاية يقول الرسول “كل من ولد من اللَّه لا يخطئ بل المولود من اللَّه يحفظ نفسه والشرير لا يمسه” (1 يو 5: 18).]
هذا يمكن أن يكون صعبًا بحق ويعجز الإنسان عن حل المشكلة تمامًا لو لم يكمل الرسول قائلاً: “أيها الأولاد احفظوا أنفسكم من الأصنام” (١ يو 5: 21). فلو كان المولود من اللَّه لا يخطئ قط ولا يقدر الشيطان أن يجربه فكيف يأمرهم محذرًا إياهم من التجربة؟!
كذلك نقرأ في الرسالة: “إن قلنا أنه ليس لنا خطية نضل أنفسنا وليس الحق فينا. إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا، ويطهرنا من كل إثم. إن قلنا أننا لم نخطئ نجعله كاذبًا وكلمته ليست فينا” (١ يو 1: 8-10).
إنني افترض أن يوحنا قد اعتمد وكتب لأناس معمدين، وإني أتصور أن كل خطية هي من الشيطان، فإننا نجد يوحنا يعترف هنا بنفسه أنه خاطئ ويترجى الغفران بعد عماده.
ماذا أقول يا صديقي جوفيانوس؟! هل الرسول يناقض نفسه؟ حاشا! إنما يوضح الرسول سبب حديثه هذا بقوله: “يا أولادي أكتب إليكم هذا لكي لا تخطئوا. إن أخطأ أحد فلنا شفيع… بهذا نعرف أننا قد عرفناه إن حفظنا وصاياه…” (١ يو 2: 1-6).
إن سبب حديثي لكم يا أولادي بأن المولود من اللَّه لا يخطئ، هو لكي لا تخطئوا، حتى تعرفوا أنه طالما أنتم تخطئون فأنتم غير ثابتين في الميلاد الذي يهبه اللَّه لكم.
نعم. إن الذين يثبتون في ذلك الميلاد لا يخطئون، لأنه “أية شركة للنور مع الظلمة؟! وأي اتفاق للمسيح مع بليعال؟!” (٢ كو 6: 14-15). وكما يتميز النهار عن الليل، هكذا البرّ عن الشر، والخطية عن الأعمال الصالحة، والمسيح عن ضد المسيح.
إن كنا نعطي المسيح مسكنًا في قلوبنا، فلنطرد الشيطان من هناك.
إن كنا نخطئ ويدخل الشيطان خلال باب الخطية، ينسحب المسيح للحال.
وهنا يقول داود “رد لي بهجة خلاصك” (مز 51: 12)، أي رد الفرح الذي فقدته بالخطية.
أيضًا “من قال قد عرفته ولا يحفظ وصاياه، فهو كاذب وليس الحق فيه” (١ يو 2: 4). والمسيح هو الذي يدعي بالحق (يو 14: 6)، فباطلاً نفتخر به ذاك الذي لا نحفظ وصاياه…
يلزمنا ألا نظنه أمرًا عظيمًا أن نعرف اللَّه الواحد، إن كان حتى الشياطين تؤمن وترتعب. “من قال أنه ثابت فيه ينبغي أنه كما سلك ذاك هكذا يسلك هو أيضًا” (1 يو 2: 6).
فلخصمنا (جوفيانوس) أن يختار بين أمرين: هل هو ثابت في المسيح أم لا؟!
إن كان ثابتًا فيه فليسلك كما سلك المسيح. ولكن إن كان هناك استهتار بالتمثل بفضائل ربنا، يكون غير ثابتٍ في المسيح، لأنه لا يسلك كما سلك المسيح “الذي لم يفعل خطية ولا وُجد في فمه مكر الذي إذ شُتم لم يكن يشتم عوضًا” (١ بط 2: 22)… وإليه جاء رئيس هذا العالم ولم يجد فيه شيئًا…
أما بالنسبة لنا، فنتطلع إلى ما جاء في رسالة يعقوب “في أشياء كثيرة نعثر كلنا” (يع 3: 2)، لأنه ليس أحد طاهرًا من دنس ولو كانت حياته يومًا واحدًا على الأرض.
ولكي لا نسقط في اليأس المطبق فنظن أننا إن أخطأنا بعد المعمودية لا يمكننا أن نخلص، قال: “وإن أخطأ أحد فلنا شفيع (محام)… “
لقد وجه هذا القول للمؤمنين الذين نالوا العماد، وهو يعدهم بالرب كمحامٍ يدافع عنهم من جهة خطاياهم، وهو لا يقول: “فلكم شفيع” بل “فلنا شفيع” حتى لا يظن أحد أنه يقول هذا عمن عماده مفتقر إلى الإيمان الحقيقي…
باطلاً يكون لنا محام هو يسوع المسيح، لو أن الخطية مستحيلة بالنسبة لنا…
إننا نقول في الصلاة الربانية: “واغفر لنا ذنوبنا… ولا تدخلنا في تجربة لكن نجنا من الشرير”. فلو أننا نعد العماد لا نخطئ لما طلبنا الغفران عن خطايا غفرت فعلاً في المعمودية! لماذا نصلي لكي لا ندخل في تجربة وننجو من الشرير لو أن الشيطان لا يستطيع أن يجربنا؟!
بولس الإناء المختار يقمع جسده ويستعبده لئلا بعد ما كرز للآخرين هو نفسه يكون مرفوضًا (1 كو 9: 27).ويخبرنا أنة أُعطى شوكة في الجسد رسول الشيطان ليلطمه لئلا يرتفع (2 كو 12: 7). ويكتب إلى أهل كورنثوس “ولكنني أخاف أنه كما خدعت الحية حواء بمكرها هكذا تفسد أذهانكم عن البساطة التي في المسيح” (٢ كو 11: 3). وفي موضع أخر يقول “لئلا يطمع فينا الشيطان لأننا نجهل أفكاره”(2 كو 2: 11). وأيضًا “وإن من يظن أنه قائم فلينظر أن لا يسقط” (١ كو 10: 12)… ويحدث المتزوجين قائلاً: “ثم تجتمعوا أيضًا لكي لا يجربكم الشيطان بسبب عدم نزاهتكم” (١ كو 7: 5).
ويكتب إلى أهل أفسس: “فإن مصارعتنا ليس مع لحم ودم بل مع الرؤساء مع السلاطين مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر مع أجناد الشر الروحية في السماويات” (أف 6: 12)، فهل يظن أحد أننا في أمان ويلزمنا أن ننام بعد ما نعتمد؟!
ويقول في رسالته إلى العبرانيين: “لأن الذين استنيروا مرة وذاقوا الموهبة السماوية وصاروا شركاء الروح القدس. وذاقوا كلمة اللَّه الصالحة وقوات الدهر الآتي وسقطوا لا يمكن تجديدهم أيضًا للتوبة إذ هم يصلبون لأنفسهم إبن اللَّه ثانية ويشهرونه” (عب 6: 4-6). ونحن لا نقدر أن ننكر أن الذين استناروا هم معمدين… فلو أن المعمدين لا يخطئون فكيف يقول عنهم الرسول هنا “سقطوا”؟
إن فونتنيانوس ونوفاتيوس[7]يبتسمان لهذا قائلين بأنه يستحيل التجديد (الذهني) مرة أخرى خلال التوبة بالنسبة للذين صلبوا ابن اللَّه وشهروا به…
ولكن يصحح هذا الخطأ (في الفهم) ما جاء بعد ذلك “ولكننا قد تيقنا من جهتكم أيها الأحباء أمورًا أفضل ومختصة بالخلاص، وإن كنا نتعلم هكذا. لأن اللَّه ليس بظالمٍ حتى ينسى عملكم وتعب المحبة التي أظهرتموها نحو اسمه، إذ قد خدمتم القديسين وتخدمونهم” (عب 6: 9-10). فلو أن اللَّه يعاقب على الخطية ولا يهتم بالأعمال الصالحة لنسبنا بهذا للَّه ظلمًا عظيمًا. لكن كأن الرسول يقول لهم إنني أتحدث معكم بهذا لكي أسحبكم من خطاياكم وأجعلكم أكثر حرصًا خشية اليأس. ولكنني أيها الأحباء إنني أتتبع أمورًا أفضل بالنسبة لكم، وأمورًا فيها خلاص. فإنه لا يليق مع بر اللَّه أن ينسى أعمالكم الصالحة إذ بالحقيقة خدمتم القديسين وتخدمونهم من أجل اسمه، فيتذكر خطاياكم وحدها.
وإذ يعلِّم يعقوب الرسول أن المعمدين يمكن أن يجربوا ويسقطوا في تجربة اختيارهم يقول: “طوبى للرجل الذي يحتمل التجربة. لأنه إذا تزكى ينال إكليل الحياة الذي وعد به الرب للذين يحبونه” (يع 1: 12). ولئلا نظن أننا نجرب من اللَّه كما جاء عن إبراهيم في سفر التكوين، أضاف قائلاً: “لا يقل أحد إذا جرب أني أجرب من قبل اللَّه. لأن اللَّه غير مجرب بالشرور. وهو لا يجرب أحدًا. لكن كل واحد يجرب إذا انجذب وانخدع من شهوته ثم الشهوة إذا حبلت تلد خطية، والخطية إذ أكملت ننتج موتًا”
لقد خلقك اللَّه بإرادة حرة، فلا نلزم قسرًا تجاه الفضيلة أو الرذيلة، وإلاَ ما كان يوجد إكليل…]
الخلاصة:
نلخص من هذا أن الرسول يوحنا يوجه أنظارنا إلى المعمودية مذكرًا إيانا بالبنوة وإمكانيات السلوك على منوال ربنا المحب، لأنه لم يعد للخطية سلطان علينا كقول الرسول “فإذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم اشترك هو أيضًا كذلك فيهما لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت، أي إبليس، ويعتق أولئك الذين خوفًا من الموت كانوا جميعًا كل حياتهم تحت العبودية” (عب 2: 14-15). وبهذا الحب نستطيع أن نحب ولا نقبل إلاَ الحب.
هكذا لم تعد بعد الخطية تسودنا (رو 6: 14) إذ صار للإنسان الجديد أن يدوس على الخطية وشوكتها، ويحيا بربنا يسوع المحب سالكًا في الروح.
هذه الإمكانية تكون لنا باختيارنا كأولاد اللَّه لا نخطئ مادمنا مرتبطون بربنا ثابتين فيه. وفي اللحظة التي نخطئ فيها نكون قد انحرفنا عن وضعنا الحقيقي كأبناء، ومع هذا فإن طريق الدموع مفتوح.
فالمحبة الحقيقية هي الخط الفاصل بين أولاد اللَّه السالكين كأبناء وبين أولاد إبليس السالكين على منوال أبيهم أي الكراهية والخطية. لهذا يقول الرسول:
“بهذا أولاد اللَّه ظاهرون وأولاد إبليس.
كل من لا يفعل البرّ وكذا من لا يحب أخاه“ [10].
الحب هو سمة صليب ربنا يسوع المسيح، ننمو فيه مادمنا ثابتين في الرب، أما من لا يحب فينحرف تجاه طريق إبليس، رافضًا البنوة للَّه، مختارًا البنوة لإبليس. يقول القديس أغسطينوس: [إذن لندرب أنفسنا على محبة الإخوة… فإن أحببت أخاك ستعاين اللَّه، لأن بمحبتك لأخيك تعاين المحبة ذاتها التي فيها يسكن اللَّه[8].]
“لأن هذا هو الخبر الذي سمعتموه من البدء:
أن يحب بعضنا بعضًا. ليس كما كان قايين من الشرير وذبح أخاه.
ولماذا ذبحه؟ لأن أعماله شريرة وأعمال أخيه بارة“ [11-12].
يقول القديس أغسطينوس: [لم يكن قايين يعرف المحبة. وما كانت قرابين هابيل تقبل، لو لم يكن يعرف المحبة. فكلاهما قدم القرابين، أحدهما قدم من ثمار الأرض والآخر من نتائج القطيع. أتظنوا يا إخوتي أن اللَّه يبغض ثمار الأرض ويحب نتاج القطيع؟! حاشا! فإن اللَّه لا ينظر إلى الأيدي وما تحملها بل إلى القلب. فمن قدم التقدمة من قلب محب قبله الرب، أما من قدم التقدمة بقلب حاسد، فقد أدار ربنا عنه وجهه. فالرسول يقصد بأعمال هابيل الصالحة “المحبة”، كما يعني بأعمال قايين الشريرة كراهيته لأخيه. الذي لم يكتفِ عند الكراهية والحسد بل قام وقتله بدلاً من أن يتمثل به. وهكذا ظهر قايين كابن لإبليس، وهابيل كابن للَّه[9].]
هكذا أولاد اللَّه يحبون وأولاد إبليس لا يقدرون أن يحبوا لهذا “لا تتعجبوا يا إخوتي إن كان العالم يبغضكم” [13].
لأن الذين تعلقوا بالعالم أي الأشرار ليس لهم روح الحب الحقيقي ولا يطيقوا اللَّه ولا أولاده.
“نحن نعلم أننا قد انتقلنا من الموت إلى الحياة،
لأننا نحب الإخوة” [14].
أما نحن فإذ صرنا ثابتين في مصدر في مصدر حياتنا ربنا يسوع فنحب اخوتنا به وعلى مثاله، فإننا بهذا نكون قد تمتعنا بالحياة وانتقلنا من حالة الموت التي هي الدفن في الخطية والتراخي فيها والاستسلام لها.
لكن “كل من يبغض أخاه، فهو قاتل نفس“ [15].
وكما يقول القديس چيروم: [لأن القتل ينبع من البغضة، لذلك فالذي يبغض ولو لم يقتل فريسته، يحسب قلبه قاتلاً، وهكذا لا ينتقل القلب إلى الحياة بل يبقى في الموت[10].]
فإن كان هذا هو عمل الحب وهذه هي نهاية البغضة، فمن أين لنا أن نعمل الحب؟
“بهذا عرفنا المحبة، أن ذاك وضع نفسه لأجلنا
فنحن ينبغي أن نضع نفوسنا لأجل إخوتنا“ [16].
أحب السيد العبيد حتى الموت حتى يقتفي العبيد آثار خطواته، فيحبون زملاءهم العبيد مثله. وكما يقول الرب: “هذه هي وصيتي أن تحبوا بعضكم بعضًا كما أحببتكم. ليس حب أعظم من هذا أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه” (يو 15: 12-13).
وإذ أراد الرسول أن يدربنا على الحب العملي طلب منا أن نبدأ بالعطاء قائلاً:
“وأما من كان له معيشة العالم، ونظر أخاه محتاجًا،
وأغلق أحشاءه عنه، فكيف تثبت محبة اللَّه فيه؟” [17]
إذ نتذوق الحب خلال العطاء المادي نستعذبه، وندرك حلاوته الداخلية، فنستطيع بالرب يسوع أن نحب إخوتنا ونحب اللَّه حتى الموت. فالرب لا يطلب الصدقة لأجل إشباع الفقراء إنما لنقدم له تقدمة الحب الشهي، فيتقبلها وكما يقول الرسول عن العطاء: “ليس لأني أطلب العطية بل أطلب الثمر المتكاثر لحسابكم” (في 4: 17).
والسبب الثاني ما يقوله القديس يوحنا ذهبي الفم: [إنها تعلمك كيف تصير شبيهًا باللَّه. وهذه رأس كل الخيرات[11].]
والسبب الثالث هو أن فيها مشاركة أعضاء جسد المسيح المتألم لبعضه البعض[12].
“يا أولادي لا نحب بالكلام واللسان، بل بالعمل والحق.
“بهذا نعرف أننا من الحق، وتسكن قلوبنا قدامه” [18-19].
إن أحببنا إخوتنا عمليًا وبالحق، أي في المسيح يسوع، وليس بقصد المجد الباطل، فإننا بهذا نعرف أننا ثابتون في ربنا يسوع “الحق”، وتطمئن قلوبنا قدام اللَّه فاحص القلوب.
أي في حبنا لإخوتنا لا نطلب مديح الناس ولا شهادتهم، لأنهم لا يعرفون دوافعنا الداخلية، بل شهادة اللَّه لأن “فخرنا هو هذا شهاداة ضميرنا” (٢ كو 1: 12)، أي مجدنا الداخلي السري الذي لا يتعرف عليه إلاَ اللَّه والنفس.
“لأنه إن لامتنا قلوبنا“، أي إن أعلنت لنا حياتنا الداخلية أن دوافعنا غير سليمة “فاللَّه أعظم من قلوبنا ويعلم كل شيء“ [20]، أي لنرتمي على اللَّه، معترفين له بضعفنا رغم مديح الناس لنا. وهو أعظم من قلوبنا، قادر على إصلاح دوافعنا.
“أيها الأحباء إن لم تلمنا قلوبنا، فلنا ثقة من نحو اللَّه“ [21]، بمعنى إن شهدت قلوبنا لنا أننا نحب حبًا حقيقيًا، فلنا ثقة ليس في جهة الناس، بل من نحو اللَّه.
د. ثقتنا في اللَّه أبينا
“مهما سألنا ننال منه، لأننا نحفظ وصاياه،
ونعمل الأعمال المرضية أمامه” [22].
إذ نحب نحفظ وصاياه، ويسر هو بنا، فلا يجعلنا معتازين شيئًا، بل يأتمنا على كل شيء، إذ نحن أمناء في حبنا لإخوتنا.
وما هي الأمور التي نعملها فترضيه؟
- أن نؤمن باسم ابنه يسوع المسيح، أي نقبله فاديًا ومخلصًا ممسوحًا لأجل التكفير عن خطايانا، “وهذه وصيته أن نؤمن باسم يسوع المسيح“.
- بحب إخوتنا، فنتمتع بحب اللَّه لنا “ونحب بعضنا بعضًا كما أعطانا وصية“.
- بتنفيذنا الوصية، أي نؤمن باسم ابنه ونحب الإخوة، بهذا نثبت فيه وهو فينا إذ يقول الرسول: “من يحفظ وصاياه يثبت فيه وهو فيه. وبهذا نعرف أنه يثبت فينا من الروح الذي أعطانا“ [24].
ثبوتنا في اللَّه ليس كلامًا أو مجرد تخيلات لكن يتطلب حفظنا وصاياه التي تدور حول الحب. ومن يقدر أن يحب إلاَ بالروح القدس الذي أعطانا؟ وكما يقول القديس أغسطينوس: [بهذا الروح القدس تتطهر النفس وتقتات. هذا هو روح اللَّه الذي لا يمكن أن يكون للَّهراطقة والمنشقين عن الكنيسة بالنسبة للذين لم ينفصلوا عنها علانية لكنهم انفصلوا بعصيانهم لها، هؤلاء صاروا قشًا لا قمحًا رغم وجودهم فيها.]
[1] القديس أغسطينوس: الصلاة الربانية مأخوذة عن: “عظات على فصول منتخبة من العهد الجديد”.
[2] St. Augustine: 10 Homilies on 1st Epistle of St. John.
[3] الفيلوكاليا طبعة ١9٦٦ ص ٩٠، ٩٢.
[4] راجع مناظرات يوحنا كاسيان، طبعة 1968، 9:11.
[5] Cf. St. Athanasius: 4 Discourses against the Arians, 2: 89.
[6] ضد جوفنيانوس.
[7] مبتدعان أتباع ماني يناديان بأنه بعد العماد لا يمكن قبول الإنسان إن سقط في خطايا معينة. وقد أثار هذا قلب القديس أمبروسيوس وكتب رسالتين عن “التوبة” ردًا على أتباع نوفانيوس كاشفًا فيها مقدار حب اللَّه لخلاص كل نفس، وكيف أن رسالة الكنيسة هي أن تحل الخطايا للتائبين مهما بلغت خطاياهم، حتى ولو بعد العماد. وقد سبق أن ترجمت الرسالتين وبوبتا في كتيب مطبوع باسم “ترفقوا بالخطاة!”
[8] St. Augustine: 10 Homilies on 1st Epistle of St. John.
[9] St. Augustine: 10 Homilies on 1st Epistle of St. John.
[10] His letter to Castoina his maternal aunt.
[11] الحب الأخوي، طبعة 1964، ص ١٤٦.
[12] راجع أقوال الآباء في “الحب الأخوي”، 1964، ص ١٤٠ – ١٤٢.