تفسير رسالة يوحنا الثالثة – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير رسالة يوحنا الثالثة – القمص تادرس يعقوب ملطي
رسالة يوحنا الثالثة
القمص تادرس يعقوب ملطي
كنيسة الشهيد مار جرجس باسبورتنج
مقدمة
موضوع الرسالة
بعث بها الرسول يوحنا إلى “غايس”، وهي الصيغة اليونانية للاسم اللاتيني “كايوس”، ومعناه “فرحان”. مدحه فيها من أجل محبته وكرم ضيافته بالنسبة للخدام.
من هو غايس؟
يصعب معرفة شخصيته، وقد ورد هذا الاسم كثيرًا في العهد الجديد.
- غايس الذي من أهل كورنثوس (رو 16: 23)، ويرى البعض أنه هو نفسه الموجهة إليه هذه الرسالة، وهذا غير أكيد.
- غايس آخر من أهل كورنثوس (1 كو 1: 14).
- غايس المكدوني، كان رفيقًا للرسول بولس في أفسس عندما حدث فيها شغب بزعامة ديمتريوس الصائغ (أع 19: 23-29).
- غايس الدربي، انتظر الرسول بولس ومن معه لمرافقته إلى أورشليم (أع 20: 4)، ربما كان أحد المنتدبين من الكنيسة لتقديم عطايا للقديسين المحتاجين هناك.
أقسام الرسالة
- غايس السالك في الحق 1-8.
- ديوتريفس الخادم المتعجرف 9-11.
- ديمتريوس الأمين 12.
- الختام 13-14.
1.غايس السالك في الحق
“الشيخ[1] إلى غايس الحبيب،
الذي أنا أحبه بالحق“ [1].
يوجه الرسول خطابه إلى غايس ويدعوه بالحبيب، إذ يحبه بالحق وليس مداهنة أو رياء أو تحيّزًا. وهنا نلاحظ أن موضوع “الحق” أي “الرب يسوع” قد ذاب فيه الرسول يوحنا الحبيب. فهو يحب بالحق، ويتكلم بالحق وعن الحق، ويدحض كل مبتدع لأنه منحرف عن الحق. لقد اختفى القديس يوحنا في الحق فلا يرى غيره ولا يريد غيره.
“أيها الحبيب في كل شيء،
أروم أن تكون ناجحًا وصحيحًا،
كما أن نفسك ناجحة” [2].
يرى البعض أن غايس كان مريضًا، وهنا يطلب الرسول له صحة جسده. فحسن للمريض أن يطلب لأجل حياته الروحية ولا ينشغل بالزمنيات، إذ يقول الرب: “اطلبوا أولاً ملكوت اللَّه وبره وهذه كلها تزاد لكم”. لكن يجدر بالكنيسة ورعاتها، بل وللأصدقاء أن يطلبوا لأجل احتياجاته الزمنية التي للكفاف. على هذا النهج سلكت الكنيسة، حيث تصلي من أجل المرضى والمسافرين والمتضايقين والذين في السبيّ الخ. وفي هذا كله تطلب لهم غفران خطاياهم.
- تسير الأمور حسنًا بالنسبة لغايوس لأنه نفسه منشغلة بأمورٍ صالحة حسب توجيه إرادة ذهنه (الصالحة)[2].
هيلاري أسقف آرل
“لأني فرحت جدًا إذ حضر إخوة،
وشهدوا بالحق الذي فيك،
كما أنك تسلك بالحق” [3].
موضوع فرح الراعي أن يرى أو يسمع عن الكل أن لهم شهادة بالحق الذي فيهم، وأنهم سالكون في الحق. إنها فرحة مبهجة تُنسي الخادم أتعاب الخدمة حين يرى ثمارًا مفرحة! لهذا يكمل الرسول قائلاً: “ليس لي فرح أعظم من هذا أن أسمع عن أولادي أنهم يسلكون بالحق” [4].
إنه يسر بسلوكهم بالحق لأنهم أولاده… “أولادي”. هذه الأبوة يستمدها من اللَّه وفي اللَّه وبه[3]. فإن صارت العلاقة خارج ربنا يسوع ينطبق عليه هذا القول: “لا تدعوا لكم أبًا على الأرض” (مت 23: 8-10). فلا عجب أن دعا يوحنا الحبيب الرعية أولاده، وهكذا بولس الرسول (ا تس 2: 8، 11، غل 4: 19)، بل ويفتخر بولس بهذه الأبوة قائلاً: “لأنه وإن كان لكم ربوات من المرشدين في المسيح، لكن ليس آباء كثيرون، لأني أنا ولدتكم في المسيح يسوع بالإنجيل” (1 كو 4: 15).
- يُرى الحق الخاص بحياة غايوس في كمال أعماله. كان إنسانًا بلا أي لوم في الفكر أو القول أو العمل، تبع وصايا الله قدر استطاعته[4].
هيلاري أسقف آرل
“أيها الحبيب أنت تفعل بالأمانة كل ما تصنعه إلى الإخوة وإلى الغرباء.
الذين شهدوا بمحبتك أمام الكنيسة،
الذين تفعلون حسنًا إذ شيعتهم كما يحق للَّه” [5-6].
إذ يسلك في الحق عامل الإخوة والغرباء بأمانة، أي بما يليق كإنسان مؤمن محب مطيع للرب يسوع. يقصد الرسول “بالإخوة” المؤمنين الذين سبق أن عرفهم غايس قبلاً واستضافهم في بيته. وأما “الغرباء” فربما كانوا يجولون للكرازة، هؤلاء عادوا إلى يوحنا الرسول يشهدون أمامه عن محبة غايس لهم واهتمامه بهم، إذ شيعهم كما يحق للَّه، أي ساعدهم بالصلاة والمحبة وتقديم احتياجاتهم المادية. هؤلاء خرجوا للخدمة من أجل المسيح، أي ليس بغرضٍ شخصيٍ.
- امتدح الزائرون غايوس أمام بقية الكنيسة بسبب كرمة السخي مع العاملين في خدمة الله[5].
هيلاري أسقف آرل
“لأنهم لأجل اسمه خرجوا،
وهم لا يأخذوا شيئًا من الأمم” [7].
أي أتاح لهم غايس إمكانية عدم مد يدهم إلى أحد. وهذا يشجع الكارز في كرازته، إذ نجد الرسول بولس يسد أعوازه وأعواز الذين معه بعمل يديه، مع أنه من حقه أن يطلب الزمنيات مادام يزرع الروحيات.
“فنحن ينبغي أن نقبل أمثال هؤلاء
لكي نكون عاملين بالحق” [8].
هكذا يشجعنا الرسول أن نهتم بالعاملين في كرم الرب ونعينهم ونستضيفهم، فنكون بهذا شركاء معهم في خدمتهم.
2. ديوتريفس الخادم المتعجرف
“كتبت إلى الكنيسة،
ولكن ديوتريفس الذي يحب أن يكون الأول بينهم لا يقبلنا” [9].
- تعلمنا هذه الآية أنه يليق بنا أن نحتمل إساءة الذين يهينوننا برباطة جأش، لكن أحيانا يلزمنا أن نعترض عليها، لأننا إن لم نفعل ذلك يفسد هؤلاء الناس أذهان الذين كان يليق أن يسمعوا عنا ما هو خير[6].
هيلاري أسقف آرل
“من أجل ذلك إذا جئت،
فسأذكره بأعماله التي يعملها،
هاذرًا علينا بأقوال خبيثة.
وإذ هو غير مكتف بهذه لا يقبل الإخوة،
ويمنع أيضًا الذين يريدون، ويطردهم من الكنيسة” [10].
بمعنى أنه كتب إلى الكنيسة التي غايس عضو فيها يوصيه بخصوص هؤلاء الخدام لكي يهتم بهم، باحتياجاتهم. لكن للأسف ديوتريفس الخادم ضُرب بالكبرياء وحب الكرامة، وهذا دفع به إلى الآتي:
أ. “يحب أن يكون الأول بينهم“، وهذا يحرف الخادم عن رسالته، فبدلاً من أن يخدم الآخرين يطلب خدمتهم وتكريمهم له.
ب. “لا يقبلنا“، أي لا يطيق كلمة الحق. يريد أن يعلم ولا يتعلم، مع أن الأسقف أمبروسيوس يقول: [إنني خلال تعليم الآخرين أرغب أن أكون قادرًا على التعلم، لأنه سيد واحد (اللَّه) الذي لا يتعلم مما يُعلِّم به[7]].
القديس أغسطينوس: [إننا معلمين بالنسبة لكم… ونحن زملاء لكم في مدرسة اللَّه[8].]
ويتأوه القديس يوحنا الذهبي الفم قائلاً: [إن الرجل العلماني إذا زل ينتصح بسهولة، أما الإكليريكي فإذ صار رديئًا يُضحي غير قابل النصح[9].]
ج. “لا يقبل الإخوة” إذ حبه لذاته تبلد فيه محبة الخدمة والاهتمام بخلاص كل نفس وفرحته بنمو كل إنسان روحيًا. إنما يصير حجر عثرة وحائل يقف أمام المؤمنين والخدام، ينتهر ويطرد ويحرم بغير حق ولا يبالي! لهذا نجد الكنيسة تؤكد أن كل حرمان بدون حق يرتد إلى نفس الشخص الذي حرم.
موقف الرسول
“من أجل ذلك إذا جئت فسأذكّره بأعماله التي يعملها، هاذرُا علينا بأقوال خبيثة“. يليق به كرسول أن يبكت ليس للانتقام، إنما للتأديب، لأجل خلاص نفسه وعدم تعثر الرعية.
لهذا وضعت المجامع المسكونية قوانين خاصة بتأديب الرعاة متى انحرفوا، على أن يكون التأديب بترتيبٍ معينٍ، فلا ينحرف الرعاة ولا الرعية أيضًا. وإذ سبق الحديث عن هذا الموضوع أرجو الرجوع إليه في موضعه[10].
غاية الحديث مع غايس ليس إدانة ديوتريفس، ولا التشهير به، إنما لكي لا يتمثل به غايس، إذ يقول الرسول:
“أيها الحبيب لا تتمثل بالشر بل بالخير،
لأن من يصنع الخير هو من اللَّه،
ومن يصنع الشر فلم يبصر اللَّه” [11].
من يصنع الخير يعلن عن استحقاقه لبنوته للَّه “الخير الأعظم”، وأما من يصنع الشر سالكًا في طريق العجرفة وحب الذات، فيعلن عن انحراف قلبه ورفضه النور وانحنائه بإرادته للظلمة، فلا يقدر أن يبصر اللَّه، لأنه “أية شركة للنور مع الظلمة؟ وأي اتفاق للمسيح مع بليعال؟” (2 كو6: 14-15).
فلا يطيق الشرير أن يسمع صوت اللَّه، أو يقبل فكره، أو يستطيع معاينته.
-
ديمتريوس الأمين
“ديمتريوس مشهود له من الجميع، ومن الحق نفسه،
ونحن أيضًا نشهد، وأنتم تعلمون أن شهادتنا هي صادقة” [12].
حوًل الرسول أنظار غايس إلى مثال طيب مشهود له من الجميع ومن اللَّه ومن الكنيسة، وهكذا يشجع غايس حتى لا ييأس بسبب سلوك ديوتريفس. وكما يقول القديس أغسطينوس: [أن العالم مثل شجرة مورقة من يراها من بعيد يظن كلها أوراق بغير ثمر. لكن من يقترب يجد خلف الأوراق ثمار حلوة. هكذا العالم مملوء بالأشرار ويختفي فيه قديسون كثيرون[11].]
ونلاحظ أن الرسول يوحنا يضع شهادة الجميع (أي من بينهم الوثنيون وغير المؤمنين)، قبل شهادة الحق وشهادة الكنيسة، وهذا هو جمال أولاد اللَّه أنه لا يستطيع حتى الأشرار أن ينكروا سموهم.
لهذا يشترط الرسول بولس في الأسقف “أن تكون له شهادة حسنة من الذين هم من خارج” (1 تي 3: 7).
ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم قائلاً: [إنه حتى الوثنيين يوقّرون الإنسان الذي بلا عيب… لذلك ليتنا نحن أيضًا نعيش هكذا حتى لا يقدر عدو أو غير مؤمن أن يتكلم عنا بشرٍ. لأن من كانت حياته صالحة يحترمه حتى هؤلاء إذ بالحق يغلق أفواه حتى الأعداء[12].]
ويقول القديس إيرونيموس [الأسقف المسيحي يلزم أن يكون هكذا: أن الذين يكابرونه معه في العقيدة لا يقدرون أن يكابرونه في حياته[13].]
-
السلام الختامي
“وكان لي كثير لأكتبه،
لكنني لست أريد أن أكتب إليك بحبر وقلم،
ولكن أرجو أن أراك عن قريب فنتكلم فمًا لفمٍ” [14].
رأينا في الرسالة السابقة كيف سلم الرسل أمورًا لا تُكتب على ورق ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم في مقدمته لعظاته على إنجيل متى بأن كلمة اللَّه لا تٌكتب، وإنما سجلها اللَّه بلغتنا من أجل ضعفنا لكي ننتفع، لكنها هي روح وحياة، نحيا بها ونتذوقها، ويراها الناس في حياتنا مكتوبة في قلوبنا.
“سلام لك.
يسلم عليك الأحباء.
سلم على الأحباء بأسمائهم”.
إنه سلام السيد المسيح لتلاميذه بعد قيامته (لو 24: 36)… هكذا صار للكنيسة باسم المسيح أن تعطي سلام الرب نفسه.
وهنا يكرر الرسول تعبير “الأحباء” بدلاً من “الإخوة”، لكي يؤكد رباط الحب الذي يوحّد الكنيسة كلها في “الحق” ربنا يسوع.
[1] راجع تفسير كلمة “الشيخ” في الرسالة السابقة.
[2] Introductory Commentary on 3 John.
[3] راجع كتاب الحب الرعوي، 1966، ص33-42.
[4] Introductory Commentary on 3 John.
[5] Introductory Commentary on 3 John.
[6] Introductory Commentary on 3 John.
[7] الحب الرعوي، 1966، ص136.
[8] الحب الرعوي، 1966، ص137.
[9] الحب الرعوي، 1966، ص164.
[10] الحب الرعوي، 1966، ص102-128.
[11] عظات على فصول منتخبة من العهد الجديد.
[12] الحب الرعوي ص655.
[13] الحب الرعوي ص655.