تفسير رسالة تيطس 02 الأصحاح الثاني – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير رسالة تيطس 02 الأصحاح الثاني – القمص تادرس يعقوب ملطي
الأصحاح الثانى: تعاليم فئات الشعب
بعدما عالج الرسول القواعد الواجب مراعاتها في اختيار الرعاة في كريت على ضوء الأخطاء الشائعة هناك، عاد ليقدم لهم أمثلة عملية للتعاليم الصادقة الموجهة لكل فئة من فئات الشعب.
- تعاليم للشيوخ. 2 – 1.
- تعاليم للعجائز. 5 – 3.
- تعاليم للأحداث. 8 – 6.
- تعاليم للعبيد. 10 – 9.
- التعاليم وعمل النعمة. 15 – 11.
1. تعاليم للشيوخ
ينشر المعلمون الكذبة التعاليم غير الصادقة، أما المعلم الحقيقي فيلتزم بهذه الوصية الرسولية:
“وأما أنت فتكلم بما يليق بالتعليم الصحيح” [1].
وفيما يلي أمثلة للتعاليم الصادقة:
“أن يكون الأشياخ صاحين،
ذوي وقار، متعقلين، أصحاء في الإيمان والمحبة والصبر” [2].
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: ]للشيخوخة سقطات تختلف عما يسقط فيه الشاب، ولو أن هناك سقطات مشتركة للشيوخ والشباب. ففي الشيخوخة يتعرض الإنسان للتراخي والخوف والنسيان وبلادة الشعور وسرعة الغضب، لهذا يعظ الرسول الشيوخ أن يهتموا بهذه الأمور. [
يوصي الشيخ أن يكون صاحيًا، فلا يظن أن شيخوخته تعفيه من السقوط فيتكل على ذلك وينام، ولا يظن أن جهاده السابق كافٍ لخلاصه فيتغافل، بل يليق بالإنسان أن يكون صاحيًا ما دام في هذا الجسد حتى النفس الأخير.
هذه الوصية ضرورية لكبار السن ولمن عاش سنوات كثيرة في الإيمان وأيضًا في الكرازة. فبقدر ما يدخل الإنسان إلى العمق ينبغي ألا يتوانى في السهر واليقظة، لأن حربه تكون أشد خاصة من جهة اتكاله على خبرته القديمة الأمر الذي يجعله يتكئ على ذاته، وليس على النعمة الإلهية.
ويليق به أن يكون ذا وقار، يخدم شيخوخته فلا يتصرف إلا بما يليق بتعقل. والوقار هنا لا يعني الاعتداد بالذات، ولا حب الظهور، ولا الاهتمام بنظرة الناس، لكنها تعني أن يسلك الإنسان بما يليق كابنٍ ثابتٍ في الله، والله ثابت فيه.
“أصحاء في الإيمان والمحبة والصبر“، أي يحمل جسدهم الهزيل نفسًا صحيحة قوية في الإيمان والحب تجاه كل البشر والصبر، محتملاً كل شيء!
2. تعاليم للعجائز
“كذلك العجائز في سيرة تليق بالقداسة“، أي يسلكن في كل شيء بما يتناسب مع الحياة المقدسة، فتكون ملابسهن وأعمالهن وأحاديثهن وحركاتهن متسمة بالاحتشام والورع. إذ بعض العجائز ينسين وقارهن وقداسة سيرتهن، مرتدات إلى الحياة اللهو والأحاديث الباطلة والمغالاة في الزينة الخارجية وعدم الاحتشام تحت ستار شيخوختهن.
ويركز الرسول على بعض الجوانب في حياتهن فيقول:
أ. “غير ثالبات”: أي يمتنعن عن “القال والقيل” فبحكم سنهن الكبير مع عدم وجود مسئولية كثيرًا ما يجتمعن معًا وليس لهم إلا ثلب الناس وإدانتهم.
ب. “غير مستعبدات للخمر الكثير”: وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [في هذا السن يزداد فيهن الميل لشرب الخمر بلا حساب. لهذا يركز نصحه على هذه الناحية حتى يقطع كل فرصة للسُكر، طالبًا منهن الابتعاد عن هذه الرذيلة، والتخلص من السخرية والهزء اللذين يلازمانها. [
- “معلمات الصلاح” [3]: فلا تظن النساء العجائز أنهن بلا عمل ولا مسئولية، بل وإن كانت المرأة ممنوعة من التعليم في الكنيسة (1تي 2: 12) لكنها قادرة على تعليم بناتها والحدثات اللواتي تتقابل معهن. هنا نرى الرسول كعادته لا يقف عند الجانب السلبي، بل يستخدم هؤلاء العجائز اللواتي كثيرًا ما يكن سببًا في المشاكل بمجالسهن الثرثارة إلى طاقات للكرازة أو الشهادة للرب يسوع.
وبماذا يكرزن أو يعملن الحديثات؟
يقول الرسول:
“لكي ينصحن الحدثات أن يكن محبات لرجالهن،
ويحببن أولادهن،
متعقلات، عفيفات، ملازمات بيوتهن، صالحات،
خاضعات لرجالهن، لكي لا يُجدف على كلمة الله” [4-5].
الدرس الرئيسي في حياة المرأة أن تُعلم الحدثات أن يحببن رجالهن، إذ المرأة معين الرجل في خلاص نفسه كما سبق أن رأينا[1]، وأن تحب أولادها في الرب، وتكون متعقلة، عفيفة، ملازمة لبيتها، صالحة، خاضعة لرجلها في الرب، لكي لا يُجدف على كلمة الله بسببها.
ويتعجب القديس يوحنا الذهبي الفم كيف يركز الرسول بولس على اهتمام المرأة بشؤون بيتها فيقول:
]أرأيتم بولس الذي يبعدنا عن الاهتمام بالعالم كيف يعطي هنا أهمية للأمور العائلية، لأنها متى دُبرت حسنًا تفسح مجالاً للأمور الروحية وتنميها وتنشرها أيضًا، لأن من تلازم بيتها تكون متعقلة، مدبرة، مقتصدة، ليس لها ميل للترف بمصاريف غير عادية أو ما أشبه ذلك.
إنه يقول “لكي لا يُجدف على كلمة الله” فأنظر أن الاهتمام الأول هو الوعظ بالكلمة لا بالأمور العالمية، لذلك عندما كتب إلى تيموثاوس يقول “لكي نقضي حياة مطمئنة هادئة في كل تقوى ووقار، لكي لا يُجدف على كلمة الله والتعليم”.
ليت النساء المرتبطات برجال أشرار أو غير مؤمنين أن يقدمن رجالهن إلى حياة التقوى بمثالهن المملوء ورعًا وقدوتهن وأعمالهن![
3. نصائح للأحداث
“كذلك عظ الأحداث أن يكونوا متعقلين،
مقدمًا نفسك في كل شيء قدوة للأعمال الحسنة،
ومقدمًا في التعليم نقاوة ووقارًا وإخلاصًا،
وكلامًا صحيحًا غير ملوم،
لكي يخزى المضاد،
إذ ليس له شيء رديء يقوله عنهم” [6-8].
إنه كشاب يلزمه أن يكون قدوة للشبان، فيحدثهم بسلوكه قبل لسانه.
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: ]فليُعلم العجائز الحدثات، أما الأحداث فعظهم بنفسك ليكونوا متعقلين، لتجعل ضياء حياتك مدرسة عامة للتعليم وقدوة لفضيلة الجميع. [
بهذا يستطيع أن يقاوم المضاد، لا بالمناقشات، ولا بالإقناع العقلي، بل بالحياة التقوية والسلوك الروحي السليم.
4. تعاليم للعبيد
“والعبيد أن يخضعوا لسادتهم،
ويرضوهم في كل شيء غير مناقضين،
غير مختلسين،
بل مقدمين كل أمانة صالحة،
لكي يزينوا تعليم مخلصنا الله في كل شيء” [9-10].
كما تكسب العجائز الحدثات، والمرأة رجلها، والمعلم الأحداث هكذا يمكن للعبد أيضًا أن يكسب سيده بخضوعه له بأمانة في الرب، مرضيًا إياه في كل شيء منتظرًا الجزاء من الرب نفسه (كو 6: 22ـ23؛ أف 6: 5، 9). بهذا تتزين تعاليم الله مخلصنا في نظر السادة، حتى العنفاء الأشرار، فينحني السيد أمام عبده ليتعلم لاإراديًا.
وكما يقول القديس ذهبي الفم: ]إن يوسف العبد، بحياته المملوءة إيمانًا وأعمالاً صالحة – بالرغم من الظروف القاسية التي مرت به – فقد استطاع أن يأسر سيده فوطيفار، فلم يقتله عندما سمع بما اتهمته به زوجته، كما كسب حب رئيس السجانين مع أنه كان بالأولى أن يحابي فوطيفار وزوجته فيذله لإرضائهما، وأسر المسجونين قساة القلب.]
وأخيرًا يقول: [أقول هذا لكي أبرهن أنه حتى إن كان الرجل الفاضل في عبوديةٍ أو في أسر أو في سجن أو حتى في أعماق الأرض فلا يقدر شيء على قهره. قلت هذا للخدم حتى يتعلموا أنه وإن كان لهم سادة وحوش أو عتاة… فمن الممكن أن يكسب ثقته ولو كان وثنيًا وذلك باللطف… لأنه ليس شيء يأسر النفس مثل الأخلاق الحسنة، إذ لا شيء محبوب ومفرح مثل الوداعة واللطف والطاعة، فمن كانت له هذه الصفات يكون محبوبًا من الجميع[.
هذه هي الكرازة المسيحية العملية، إذ يتجلى السيد المسيح في حياة حتى العبد ليلمسه السيد حتى وإن كان عنيفًا قاسي القلب.
هذا بالنسبة للعبيد، فكم بالأكثر يكون للسيد متى أدرك أهمية خلاص عبيده كنفوس مات المسيح من أجلها، إذ يقول القديس أغسطينوس: ]يضع التعليم الرسولي السيد فوق العبد، والعبد تحت السيد “إذ يليق بالخادم أو المرؤوس أن يحترم مخدومه ورئيسه”، لكن السيد المسيح أعطى ثمنًا واحدًا للاثنين. إذن لا تحتقر الذين هم أقل وهم تحت سلطانك بل تطلع إلى خلاص كل بيتك بكل احتراس[2].]
5. التعاليم وعمل النعمة
قد يسأل أحد: ومن أين لي أنا الضعيف أن أنفذ هذه التعاليم؟ كيف أطُالب بما هو فوق الحدود الطبيعية للبشرية؟ جيب الرسول:
“لأنه قد ظهرت نعمة الله المخلصة لجميع الناس” [11].
إذ تجسد الابن الكلمة مقدمًا نفسه لنا “نعمة” متجلية فينا، لنعيش به، لا بإمكانياتنا البشرية بل بإمكانيات الله القادر على كل شيء. هذا ما يشهد به الرب نفسه قائلاً: “من يؤمن بي فالأعمال التي أنا أعملها يعملها هو أيضًا، ويعمل أعظم منها.” (يو 14: 12). وقد اختبر الرسول ذلك فقال: “أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني”(فى 4: 13).
هكذا كان الآباء يتشبثون بالنعمة الإلهية الفياضة، إذ هي التي تهب الإنسان الإرادة الصالحة، وتهبه الإيمان وتنميه، وتعطيه قوة تنفيذ الوصايا، وتسكب عليه الحب لله والناس[3]. هذه النعمة عطية مجانية ظهرت مخلصة لجميع الناس، إذ جاء الابن الكلمة لخلاص العالم كله، “هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية”.
ظهر للجميع باسطًا يديه ليحمل رجال العهد القديم والعهد الجديد. وهكذا تمتع رجال العهد القديم بالنعمة، لكن من تحت برقع، خلال الرموز، وليس كرجال العهد الجديد الذين تجلت أمامهم، ويتمتعون بها إن أرادوا وتجاوبوا معها[4].
هذه النعمة مجانية ظهرت لجميع الناس، الشيوخ والعجائز، الأحداث والحدثات، السادة والعبيد، والكل يجدر بهم قبولها والتجاوب معها.
عمل النعمة
أولاً:”خلع أعمال الإنسان العتيق”:
يقول الرسول: “معلمة إيانا أن ننكر الفجور والشهوات العالمية“.
هذا هو عمل المسيح فينا، إنه النور المبدد للظلمة. فخلال موته وقيامته اللذان لنا حق الشركة معه فيها بالمعمودية يصير لنا الموت عن حياتنا القديمة والحياة بحسب الإنسان.
يقول القديس أغسطينوس: ]والآن يبدو واضحًا جدًا أنه يتمثل بسرّ موت المسيح وقيامته، موت حياتنا القديمة الآثمة، وقيام الحياة الجديدة، ويظهر هنا إبطال الإثم وتجديد البرّ[5].[
ولقد اختبر الرسول بولس عمل النعمة في حياته التي كانت كلها ضعفات، فلا عجب إن أطال الحديث عنها خاصة في رسالته إلى أهل رومية بل كان غالبًا ما يفتتح رسائله ويختمها بطلب ملازمة النعمة لأولاده[6].
ثانيًا: التمتع بأعمال الإنسان الجديد:
يقول الرسول: “ونعيش بالتعقل والبر والتقوى في العالم الحاضر”. [12]
إذ تختبر الكنيسة عمل النعمة في غربتها هنا، تهبها فضائل عريسها وتزينها براحته الذكية: أي بأعمال التعقل والبرّ والتقوى، لهذا دعتها “الأغنية الجديدة” التي لا تكف عن التسبيح بها.
يقول القديس إكليمنضس السكندري عن النعمة:
]هذه هي الأغنية، الأغنية الجديدة: ظهور الكلمة الذي كان في البدء وقبل البدء! المخلص الذي كان موجودًا قبلاً ظهر في الأيام القريبة!
ذاك الذي يظهر فيه ما هو حق، لأن الكلمة “عند الله”، الذي به كان كل شيء، ظهر كمعلمٍ لنا… لقد تمم خلاصنا!
انظروا قدرة الأغنية الجديدة!
لقد خلقت من الحجارة أناسًا، ومن الوحوش بشرًا!
الذين كانوا أمواتًا، ليس لهم شركة في الحياة الحقيقية قد عادوا إلى الحياة مرة أخرى ببساطة بواسطة إنصاتهم إلى هذه الأغنية![7] [
ثالثًا: ترجي الحياة الأخرى:
عمل السيد المسيح، النعمة الحقيقي، فينا أن يبدد أعمال الظلمة، وينطلق بنا إلى أعماله، أعمال البر، ويتجلى في حياتن،ا فنعشق الراحة الأبدية في أحضانه، أو كما يقول الرسول:
“منتظرين الرجاء المبارك،
وظهور مجد الله العظيم، ومخلصنا يسوع المسيح،
الذي بذل نفسه لأجلنا لكي يفدينا من كل إثم،
ويظهر لنفسه شعبًا خاصًا غيورًا في أعمال حسنة” [13-14].
عمل النعمة أن ننتفع من مجيء المسيح الأول، فنحيا كما يليق شاكرين إياه على الفداء الذي تممه على الصليب، وأن ننتظر مجيئه الثاني متهيئين للقاءٍ أبديٍ معه وجهًا لوجه.
يقول القديس كيرلس الأورشليمي: ]بولس أيضًا عرف الميجئين (للرب) عندما كتب إلى تيطس… ها هو يتحدث عن المجيء الأول الذي من أجله نقدم تشكرات، وعن الثاني الذي نتطلع إليه “نترجاه”![8]]
مجيء المسيح الثاني الآتي يشوقنا لقبول الاتحاد والثبوت والنمو في الشركة مع المسيح المتألم، فنقبل تجسده وآلامه وصلبه وموته ودفنه وقيامته وصعوده في حياتنا.
ندرك أنه بتجسده قبل ما لي، وصار لي ما له في شخصه.
وبآلامه حمل آلامي، وصار لي أن أتألم آلام الحب فيه.
وبصليبه حمل آثامي، وصار لي برّ المسيح.
وبدفنه مات عني، لأدفن أنا أيضًا من أجله.
وبقيامته وُهب لي فيه قوة الحياة.
وبصعوده، أدرك أنني بالمسيح يسوع أجلس عن يمين الله.
بهذا كله تصير لي أعمال المسيح – أعمال البرّ – فأصير عضوًا في شعبٍ غيورٍ في أعمال حسنة، طاهرًا من كل إثم، مستعدًا للعرس السماوي!
وبهذا أترنم قائلاً: “منتظرين الرجاء المبارك، وظهور مجد الله العظيم، ومخلصنا يسوع المسيح” [15].
وهذه هي نفس العبارة التي نصلي بها في خاتمة قانون الإيمان، قائلين في كل مناسبة: “وننتظر قيامة الأموات وحياة الدهر الآتي أمين”.
[1] راجع تفسير 1 بط 3: 6، 9.
[2] St Augustine: Sermons on New Testament Lessons, 44.
[3] راجع كتيب “النعمة والإرادة الحرة” للقديس أغسطينوس طبعة 1969.
[4] راجع كتيب: “الروح والحرف” للقديس أغسطينوس، 27 (ترجمة الآنسة جوليت – تحت الطبع).
[5] راجع كتيب: “الروح والحرف” للقديس أغسطينوس، 10 (ترجمة الآنسة جوليت – تحت الطبع).
[6] راجع كتيب: “الروح والحرف” للقديس أغسطينوس، 12 (ترجمة الآنسة جوليت – تحت الطبع).
[7] St. Clement of Alexandria: Exhortation to the Heathen, 1.
[8] Cyril of Jerusalem: Lect. 15: 2.