تفسير سفر الرؤيا 22 الأصحاح الثاني والعشرين – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير سفر الرؤيا 22 الأصحاح الثاني والعشرين – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير سفر الرؤيا 22 الأصحاح الثاني والعشرين – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير سفر الرؤيا 22 الأصحاح الثاني والعشرين – القمص تادرس يعقوب ملطي
الأصحاح الثانى والعشرين: تطويب الساكنين فيها
في هذا الأصحاح أيضًا يحدثنا عن أمجاد الكنيسة السماوية وتطويبها:
- شجرة الحياة 1 – 7.
- ختام 8 – 21.
- شجرة الحياة
“وأراني نهرًا صافيًا من ماء حياة، لامعًا كبلّور،
خارجًا من عرش الله والخروف.
في وسط سوقها (ساحتها) وعلى النهر من هنا ومن هناك
شجرة حياة تصنع إثنتى عشرة ثمرة، وتعطي كل شهر ثمرها.
وورق الشجرة لشفاء الأمم.
ولا تكون لعنة فيما بعد” [1-3].
يقول العلامة ترتليان إنه لا يمكننا تفسير هذا النص تفسيرًا حرفيًا. ففي الحياة الأبدية لا توجد أنهار ولا ساحات ولا أشجار. وتظهر رمزية هذه الأوصاف في حديثه عن شجرة الحياة أنها قائمة وسط ساحة المدينة، وفي نفس الوقت هي بذاتها قائمة على شاطئ النهر من الجانبين. فكيف يكون هذا لو كان ذلك بتفسير حرفي؟
أ. نهر الحياة
يرى العلامة ترتليان أن النهر هو شخص السيد المسيح الذي يروي كل نفس. وهو بنفسه الحمل الذي فدانا. وهو شجرة الحياة الذي يشبع أولاده. إنه كل شيء بالنسبة للمخلصين.
ويرى القديس إمبروسيوس[1] أنه الروح القدس الذي لا يشرب منه إلاّ الذي يؤمن بالسيد المسيح، القائل: “إن عطش أحد فليقبل إلي ويشرب. من آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حي“. قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه (يو 7: 37-39). هذا هو روح الآب والابن منبثق من الآب مستقر في الابن، أرسله الابن من عند الآب ليبكتنا ويقدسنا ويقودنا حتى نبلغ العرس السماوي. هذا هو النهر الخالد الذي روى ويروي العروس.
وهو أيضًا يشير إلى فيض نعم الله المبهجة في الأبدية، والتي هي في حقيقتها ليست شيئًا خارجًا عنه بل يعطينا ذاته ننعم به ونبتهج. وكما يقول المرتل: “نهر سواقيه تُفرح مدينة الله مقدس مساكن العلي. الله في وسطها فلن تتزعزع” (مز 64: 4-5).
يشير أيضًا إلى السلام الذي تنعم به أورشليم السماوية، إذ قيل: “هأنذا أدير عليها سلامًا كنهر… كإنسان تعزيه أمه هكذا أعزيكم أنا، وفي أورشليم تعزون، فترون وتفرح قلوبكم” (إش 66: 12-14).
- شجرة الحياة
يرى طيخون الأفريقي أن شجرة الحياة تشير إلى الصليب المقدس الذي إليه إمتدت أيدينا لتقتطف كل ثمر شهي. كثيرون مثل مار أفرام السرياني[2] يلقّبون الصليب بشجرة الحياة.
فبالصليب أمات الرب الموت وفتح لنا الفردوس، وأعطانا جسده ودمه المبذولين عنا، وجعلنا أبناء بركة ووارثين للحياة الأبدية. بالصليب يتمم الروح القدس الأسرار المقدسة على يدي الكهنة في الكنيسة، هذه الأسرار التي هي غذاء الكنيسة. والصليب كما نعلم امتد عمله ليقتطف رجال العهد الجديد منه كل يوم ثمارًا. ونبقى في الأبدية نتأمل جراحات الحمل القائم كأنه مذبوح لنجد فيها شبعًا.
لهذا نجد الإثمار شهري ومستمر، إثمار جديد بالنسبة لنا نأكل منه فنشبع وفي نفس الوقت يلتهب القلب شوقًا إليه، فنعود لنأكل منه لنجد فيه ثمارًا جديدة بالنسبة لنا فنأكل ونشبع، ويصاحب الشبع زيادة في الجوع إليه. وهكذا كما يقول ابن سيراخ إن من يأكل منه يعود إليه جائعًا ومن يشرب منه يعود إليه ظمآنًا.
بهذا نقف دومًا أمام الشجرة في دهش وعجب بلا ملل! أما إثمارها إثنتى عشرة، فذلك لأن رقم 12 يشير إلى أبناء الملكوت، وكأن الثمر مخصص لهم، كل يجد فيه احتياجه وشبعه.
لقد أسهب الآباء الأولون مثل القديسين باسيليوس الكبير وأغسطينوس[3] والآب يوحنا الدمشقي في حالة الإزدهار التي تكون عليها الأبديّة، وحالة الشبع التي يكون فيها الإنسان. وقد أدرك النبي ذلك فقال: “أنا أؤمن أني أعاين خيرات الرب في أرض الأحياء” (مز 27: 13).
- سعادة دائمة
“ولا تكون لعنة فيما بعد”… لنا خبرة مرة تسلمناها من أبينا آدم الذي تنعم بفردوس أرضي ولكن إلى حين، إذ خرج مطرودًا يئن من ثقل اللعنة التي يحملها على كتفيه بعصيانه، لكن في الأبدية لا يكون للخطية والعصيان موضع، بل الكل يخدمون الله في طاعة كاملة إذ يقول:
“وعرش الله والخروف يكون فيها، وعبيده يخدمونه“[3].
يخدمونه في حب ويتوقون إلى رؤيته، ويفتخرون باسمه، إذ أنهم “سينظرون وجهه واسمه على جباهم” [4].
- نور دائم
“ولا يكون ليل هناك، ولا يحتاجون إلى سراج أو نور شمس،
لأن الرب الإله ينير عليهم،
وهم سيملكون إلى الأبد” [5].
ما أكثر العبارات التي جاء بها سفر الرؤيا المنير ليعلن لنا سرّ استضاءة أبناء الملكوت، ألا وهو وجود الله “شمس البِرّ” حولهم وفوقهم ومحيطًا بهم.
لقد اختبر الآباء نور الله المشرق عليهم وهم بعد هنا في الجسد الترابي[4]:
يقول الشيخ الروحاني: [مصباحًا واحدًا أنظر، وبنوره أستضيء، والآن أنا في ذهول؟ أبتهج روحيًا، إذ في داخلي ينبوع الحياة، ذاك الذي هو غاية العالم غير المحسوس!]
ويقول القديس أغسطينوس: [إلهي… أنت نوري، أفتح عيناي فتعاينا بهاءك الإلهي لأستطيع أن أسير في طريقي بغير تعثر في فخاخ العدو!
وما هو النور إلا أنت يا إلهي!
أنت هو النور لأولاد النور! نهارك لا يعرف الغروب! نهارك يضيء لأولادك حتى لا يتعثروا!
أما الذين هم خارجًا عنك، فإنهم يسلكون في الظلام ويعيشون فيه! إذن، لنلتصق بك يا من أنت هو نور العالم!
ما حاجتنا أن نجرب كل يوم الابتعاد عنك؟! لأن كل من يبتعد عنك أيها النور الحقيقي يتوغل في ظلام الخطية، وإذ تحيط به الظلمة لا يقدر أن يميز الفخاخ المنصوبة له على طول الطريق!]
أخيرًا اختتم وصفه للمجد الأبدي بالقول:
“ثم قال لي هذه الأقوال أمينة وصادقة،
والرب إله الأنبياء القديسين أرسل ملاكه،
ليُري عبيده ما ينبغي أن يكون سريعًا.
ها أنا آتي سريعًا.
طوبى لمن يحفظ أقوال نبوة هذا الكتاب” [6-7].
إنها أقوال صادقة يلزمنا أن نهتم بها، لأن مرسلها هو إله الأنبياء الذي سبق فأنبأنا بأمور كثيرة خاصة بخلاصنا وتحققت نبواتها، والآن ينبئنا بإرسال ملاكه ليُري عبيده ما سيكون سريعًا.
ربما يتساءل البعض: لماذا نقرأ هذه النبوة والوقت لا يزال متسعًا وبعيدًا؟ فيجيب “ها أنا آتي سريعًا. طوبى لمن يحفظ أقوال نبوة هذا الكتاب“.
إنه يحذرنا ألا نضيع الوقت في التشكك، إنما بإيمان نقبل النبوة ونحفظ أقوالها أي وصاياها ونسهر منتظرين مجيئه لهذا نصلي قائلين: [ها هوذا العريس يأتي في نصف الليل. طوبى للعبد الذي يجده مستيقظًا. أما الذي يجده متغافلاً فإنه غير مستحق المُضي معه. فانظري يا نفسي لئلا تثقلي نومًا، فتلقي خارج الملكوت بل إسهري وإصرخي قائلة: قدوس، قدوس، قدوس… اسهري متضرعة لكي تلتقى المسيح الرب بدهنٍ دسمٍ، وينعم لك بعرس مجده الإلهي الحقيقي[5].]
- ختام
“وأنا يوحنا الذي كان ينظر ويسمع هذا.
وحين سمعت ونظرت خررت لأسجد أمام رجلي الملاك الذي كان يريني هذا.
فقال لي أنظر لا تفعل.
لأني عبد معك ومع إخوتك الأنبياء والذين يحفظون أقوال هذا الكتاب.
اسجد لله” [8-9].
يؤكد لنا الرسول أن ما هو بين أيدينا قد رآه وسمعه بنفسه، لم يكتب شيئًا من عنده. وها هو يظهر لنا ضعفه، فإنه للمرة الثانية ينسى نفسه ويظن في الملاك المرافق له أنه المسيح وأراد أن يسجد له متعبدًا فرفض الملاك[6]. وإن ما كتبه أيضًا بأمر الله إذ يقول:
“وقال لي لا تختم على أقوال نبوة هذا الكتاب لأن الوقت قريب” [10].
لعل الذي حدَّثه هو نفس الملاك، وربما يكون شخص ربنا يسوع الذي سيكمل الحديث كما سنرى. على أي حال صدر له أمر سماوي ألا يختم ولا يخفي بل يكتب وينشر، لأن الوقت قد اقترب لتحقيقها، فيلزم أن ينتفع بها كل مؤمن. ولكن الله لا يلزم أحدًا بالسلوك حسب وصاياه النبوة إذ يقول:
“من يظلم فليُظلم بعد.
ومن هو نجس فليتنجس بعد.
ومن هو بار فليتبرر بعد.
ومن هو مقدس فليتقدس بعد” [11].
كأنه يخبرنا أن لكل إنسان أن يفعل ما يشاء بكامل حريته إلى أن يأتي يوم الرب العظيم. وكأنه يوبخنا قائلاً مع سليمان الحكيم: “افرح أيها الشاب في حداثتك، وليسرك قلبك في أيام شبابك، واسلك في طرق قلبك، وبمرأى عينيك، واعلم أن على هذه الأمور كلها يأتي بك الله إلى الدينونة” (جا 11: 9).
أو لعله يقصد ما قاله القديس مقاريوس الكبير[7] أن ما يقتنيه الإنسان هنا يبقى معه إلى الأبد في صورة أتم وأكمل. فمن يزرع فسادًا يرتمي حيث يوجد رئيس الفساد، ومن يجاهد في البرّ يجد نصيبه في الرب برّنا، إذ يجد عندئذ لذة فيه. فما يزرعه الإنسان إيّاه يحصد. وقد اقترب وقت الحصاد، إذ ينادي الرب قائلاً: “ها أنا آتي سريعًا، وأجرتي معي لأجازي كل واحد كما يكون عمله” [12].
ولئلا يضطرب المؤمنون خوفًا من الدينونة يقول:
“أنا الألف والياء، البداية والنهاية. الأول والآخر“[13]، أي محتضن الجميع ومهتم بالكل[8]، إننا نجد فيه رجاءنا فلا نخاف.
“طوبى للذين يصنعون وصاياه[9]“، فبالوصايا التي بين أيديهم يدخلون إلى الفرح الأبدي “لكي يكون سلطانهم على شجرة الحياة، ويدخلوا من الأبواب إلى المدينة” [14]. أما منكرو الإيمان وصانعو الشر، فيقول عنهم: “لأن خارجًا الكلاب والسحرة والزناة والقتلة وعبدة الأوثان، وكل من يحب ويصنع كذبًا” [15].
مناجاة بين العروسين:
لما كان هذا السفر هو سفر العُرس السماوي، لهذا يتقدم العريس ويكشف لعروسه عن شخصه قائلاً:
“أنا يسوع”، أي أنا مخلصك وفاديك المهتم بك على الدوام، وها أنا “أرسلت ملاكي، لأشهد لكم بهذه الأمور عن الكنائس”.
“أنا أصل وذرية داود”. إنني خالقه وقد صرت من ذريته حتى أصير واحدًا منكم ليس غريبًا عنكم.
“كوكب الصبح المنير” [16] لا تخافي من ظلمة الخطية، ولا من ليل ملذات العالم وضيقاته، ولا من هواجس الفكر الخفية، فإنني أشرق عليك فأنيرك.
وإذ تسمع الكنيسة صوت عريسها خلال الروح القدس تناجيه: “والروح والعروس يقولان تعال”. إننا خلال الكنيسة (العروس) نناجي المسيح، لأنه كما يقول القديس أغسطينوس والشهيد كبريانوس وغيرهما من الآباء إنه لا خلاص خارج الكنيسة.
“ومن يسمع فليقل تعال.
ومن يعطش فليأتِ،
ومن يرد فليأخذ ماء حياة مجانًا” [17].
إن الشركة مع الرب:
- تكون بالروح داخل الكنيسة.
- لسماع صوت الرب فنشتهي مجيئه.
- بالعطش إليه فنذهب أي نقترب إليه بالصلاة والسلوك في وصاياه.
- من يرد فليأخذ، أي لتكن إرادته عاملة لا خاملة.
تحذير:
“لأني أشهد لكل من يسمع أقوال نبوة هذا الكتاب،
إن كان أحد يزيد على هذا
يزيد الله عليه الضربات المكتوبة في هذا الكتاب.
وإن كان أحد يحذف من أقوال هذه النبوة
يحذف الله نصيبه من سفر الحياة
ومن المدينة المقدسة ومن المكتوب في هذا الكتاب” [18-19].
وأخيرًا يختتم السفر المبهج بمناجاة عذبة فيها يشتاق السيد المسيح إلى المجيء إلى عروسه سريعًا، قائلاً “يقول الشاهد بهذا نعم. أنا آتي سريعًا”.
وتترجاه العروس أيضًا أن يسرع في تحقيق وعده قائلة: “آمين تعال أيها الرب يسوع.
“نعمة ربنا يسوع المسيح مع جميعكم، آمين“ [20-21].
[1] The Holy Spirit 3: 21.
[2] ميامر الميلاد لمارأفرام السرياني.
[3] راجع في ذلك كتاب “التأملات” للقديس أغسطينوس فصل 26.
[4] . راجع للمؤلف: الحب الإلهي… الله نور النفس ص 63-78
[5] الأجبية – قطع تسبحة نصف الليل – الخدمة الأولى.
[6] راجع تفسير رؤ 19: 10.
[7] عظات القديس مقاريوس.
[8] راجع تفسير هذا النص في رؤيا 1: 17، 11.
[9] جاءت في بعض النسخ “طوبى للذين يغسلون ثيابهم بدم الحمل”.