تفسير سفر الرؤيا 9 الأصحاح التاسع – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير سفر الرؤيا 9 الأصحاح التاسع – القمص تادرس يعقوب ملطي
الأصحاح التاسع: البوقان الخامس والسادس والتهيئة لضد المسيح وظهوره
في الأصحاح السابق رأينا الله ينذر البشريّة بطرق متنوعة عبر الأجيال وفى حياة كل إنسان لأجل توبته:
ففي البوق 1 كان الإنذار يمس موارد معيشته.
وفي البوق 2 كان الإنذار يخص أناسًا يذلونه.
وفي البوق 3 كان الإنذار عن طريق ظهور مبتدعين.
وفي البوق 4 كان الإنذار في غاية الشدة والضيق إذ تظلم الحياة في نظره.
وفى هذا الأصحاح يحدثنا عن البوقين الخامس والسادس:
-
البوق الخامس: التأديب خلال أفكار شيطانية 1 – 12.
-
البوق السادس: التأديب خلال حروب بشرية 13 – 21.
-
البوق الخامس: التأديب خلال أفكار شيطانية
الأبواق الأربعة السابقة تتحدث عن إنذارات عامة يوجهها الله للبشر في كل عصر، خاصة في فترة ما قبل ضد المسيح، لكن هذا البوق الخامس أو الويل الأول هو إنذار يخص فترة ما قبل ضد المسيح. فقبل أن يلبس إبليس كل سلطانه وطاقاته لإنسان يُنَصِّب نفسه إلهًا، ويدعو للتعبد للأصنام، ويجرف العالم نحو الدنس يطلب إبليس سماحًا لكي يبث أفكاره وميوله في البعض ليهيئهم لمعاونة ضد المسيح عند قيامه.
وهذا العمل الشيطاني الذي يسمح به الله هو نفسه سيكون فيه تعذيب وتأنيب وضيق ومرارة لمعتنقيه والمنادين به. وهكذا يحوِّل الله الشر إلى خير، إذ يخرج من الآكل أُكلاً، تاركًا للظلمة أن تشهد بنفسها عن ظلمتها.
يقول الرسول:
“ثم بوق الملاك الخامس،
فرأيت كوكبًا قد سقط من السماء إلى الأرض،
وأُعطى مفاتيح بئر الجحيم.
ففتح بئر الجحيم،
فصعد دخان من البئر كدخان أتون عظيم.
فاظلمَّت الشمس والجو من دخان البئر” [1-2].
يرى البعض أن سقوط كوكب من السماء إلى الأرض يكني عن حالة انتكاس تصيب إنساناً ذا مركز ديني كبير، على أثرها يعمل الشيطان في قلوب الكثيرين.
ويرى البعض أن إحدى الرئاسات المظلمة الشريرة التي تشتكي ضدنا أمام الله تأخذ سلطانًا لتفتح أبواب الجحيم وتملأ جو العالم بدخان الشياطين، أي أفكارهم. على أي حال فهي لغة استعارية تصَوريّة للكشف عن سيادة فكر مادي وإلحادي يملأ العالم شرقه وغربه، حتى ينحجب عن قلوب الكثيرين نور المعرفة السماوية، ويسود الجو ظلامًا وحيرة وقلقًا وشكوكًا مع جفاف روحي.
إنه يقصد التنين (إبليس) الذي يهيئ الجو لضد المسيح الآتي: لكن الله استخدم هذا العمل ذاته ليفضح إبليس نفسه بنفسه.
وفيما يلي مدى سلطان هذا العمل وآثاره.
-
ليس له سلطان على المؤمنين:
“ومن الدخان خرج جراد على الأرض،
فأعطى سلطانا كما لعقارب الأرض سلطان.
وقيل له أن لا يضر عشب الأرض،
ولا شيئاً أخضر،
ولا شجرة ما،
إلاّ الناس الذين ليس لهم ختم الله على جباههم” [3-4].
يذكِّرنا هذا بالجراد الوارد في سفر يوئيل، عمله التخريب الكامل لكل شيء أخضر إلى المنتهى. هذا المهلك أو المخرب ليس له سلطان أن يضر عشب الأرض ولا شيئًا أخضر ولا شجرة ما.
يا لعذوبة حنان الله الذي يترفق بالعشب الضعيف قبل الشيء الأخضر، وهذا قبل الشجر. إنه يحفظ الأطفال في الإيمان، ويهتم بالصغار، ويعتني بالنفوس الضعيفة، لأن هؤلاء أكثر احتياجًا للترفق والحنو.
لتطمئن كل نفس تمتعت بمياه الروح القدس، وتحيا نامية فيه، سواء كانت لا تزال عشبًا أخضر أو صارت نباتًا صغيرًا أو شجرة عالية، فقد وهبنا سلطانًا أن ندوس على الحيات والعقارب وكل قوة العدو. ولا يقدر ضد المسيح، ولا الأفكار المهينة له كالإلحاد والبدع التي بدأت تظهر في داخل الكنيسة الغربية[1] تحت ستار المسيحية أن يسيطروا عليها.
هذا بالنسبة للذين لهم ختم الله الممسوحين بروح الرب على جباههم، أما بالنسبة للآخرين فيقول:
-
يعذبوا دون أن يقتلوا:
“وأعطى أن لا يقتلهم،
بل أن يتعذبوا خمسة أشهر،
وعذابه كعذاب عقرب إذا لدغ إنسانًا.
وفى تلك الأيام سيطلب الناس الموت ولا يجدونه،
ويرغبون أن يموتوا، فيهرب الموت منهم” [5-6].
يتعذب الذين قبلوا هذا الفكر، لأن ما ليس هو من الحق لا يمكن أن يهب سلامًا ولا سعادة. فيتعذب الأشرار بشرهم رغم انغماسهم فيه ومناداتهم به وإغوائهم الغير لارتكابه معهم، ولا يكون العذاب نابعًا من الخارج بل من داخل فكر الإنسان وتصرفاته. ومن فرط المرارة يشتهى الإنسان الموت، لكن الله لا يسمح لهم به حتى لا يموتوا في انحرافهم، بل يتركهم هكذا في ضجرهم وحيرتهم لعلهم يرجعون إلى الله، طالبين منه عونًا.
-
يُقاتلون ويُخادعون:
“وشكل الجراد شبه خيل مهيأة للحرب،
وعلى رؤوسها كأكاليل شبه ذهب ووجوهها كوجوه الناس.
وكان لها شعر كشعر النساء،
وكانت أسنانها كأسنان الأسود.
وكان لها دروع كدروع من حديد،
وصوت أجنحتها كصوت مركبات خيل كثيرة تجري إلى قتال.
ولها أذناب شِبه العقارب،
وكانت في أذنابها حمات،
وسلطانها تؤذى الناس خمسة أشهر.
ولها ملاك الجحيم ملكًا عليها اسمه بالعبرانيّة أبدون،
وله باليونانية اسم أبوليون [7-11].
أ. لا تكف عن القتال: إذ هي “شبه خيل مهيأة للحرب” عملها التخريب المستمر في القلب والعقل، وكما يقول النبي “قدامه نار تأكل، وخلفه لهيب يحرق. الأرض قدامه كجنة عدن، وخلفه قفر خرب… كمنظر الخيل منظره، ومثل الأفراس يركضون” (يؤ 2: 3-4).
فمتى هدأ الإنسان لنفسه وانحنت نفسه فيه أمام الله أدرك الإنسان المنخدع شدة الحرب التي فيه ومدى الدمار الذي حدث داخله.
ب. مخادعة: إذ تبدو لناظريها كملوك، لها “كأكاليل شبه الذهب“، لكنها ليست في حقيقتها أكاليل ولا هي ذهبيّة، بل تصنع لذاتها هالة من العظمة لتسيطر على القلب وتملك عليه، ويصير الإنسان عبدًا لها.
ج. لها مظهر التعقل والوداعة: إذ “وجوهها كوجوه الناس” لكن قلبها مفترس.
د. جميلة المنظر: “لها شعر كشعر النساء” لكنها تخفى أسنانًا كأسنان الأسود، تجذب بنعومتها ودلالها لكي تسفك وتفترس!
ه. لها دروع قوية: وصوت أجنحتها مفزع، يكنى عن عنف عملها وسرعة انتشارها.
و. مهلكة: كالعقارب تعذب ولكن إلى حين “خمسة أشهر!” وملكها اسمه “أبدون” أو “أبوليون” أي المخرب أو المهلك.
ويرى البعض أن هذه الأوصاف وتلك الآثار تنطبق على البدع والفلسفات الحديثة التي بدأت تنتشر في العالم تحت اسم “المسيحية أو الدين” بمقتضاها يتحول الدين إلى مجموعة من السلوك الخلقي والآداب الاجتماعيّة خارج الإيمان بالله والعمل الفدائي وانتظار الأبديّة. فينادون بعدم الحاجة إلى ذكر المعجزات في الكتاب المقدس أو التحدث عن الأبديّة أو الصليب والقيامة[2].
وقد صار لهذا الفكر الذي يأخذ أكثر من اسم مدافعون يلقبون أنفسهم مسيحيين وأيضًا غير مسيحيين. وهم يقدمون فلسفات منمقة وعبارات ناعمة وأسلوبًا عذبًا، هذا كله في حقيقته مؤذٍ للنفس. من عينات هؤلاء نسمع عن بعض القادة الدينيين (للأسف) يحاولون الرد على الملحدين بأن يثبتوا أن الله لا علاقة له بالإنسان وأن الإنسان إنما يعبد الله دون أن يتدخل الله في شئونه. وهكذا بعزل الله المحب عن الإنسان المحبوب فيسقط في إلحاد مستتر مرير.
“الويل الواحد مضى، هوذا يأتي ويلان أيضًا بعد هذا” [12].
البوق السادس: التأديب خلال حروب بشريّة
“ثم بوَّق الملاك السادس،
فسمعت صوتًا واحدًا من أربعة قرون مذبح الذهب الذي أمام الله.
قائلاً للملاك السادس الذي معه البوق:
فك الأربعة الملائكة المقيدين عند النهر العظيم الفرات.
فأنفك الأربعة الملائكة المُعَدون للساعة واليوم والشهر والسنة
لكي يقتلوا ثلث الناس.
وعدد جيوش الفرسان مئتا ألف ألف،
وأنا سمعت عددهم” [13-16].
من قرون المذبح الذي قدم فيه “الملاك البخور الكثير” خرج الأمر بالسماح لقيام حرب عنيفة تحدث في أيام ضد المسيح. في ساعة محددة ويوم وشهر وسنة معينة. كل شيء بسماح من الله ضابط الكل يسمح بالحرب، ويسمح بعدد معين من المحاربين. وذلك كله لأجل تأديب الناس لعلهم يرجعون ويتوبون.
ستكون عند نهر الفرات حيث نذكر “الفردوس الضائع”، الذي فقده الإنسان بحسد إبليس، ونذكر بابل المتشامخة التي تشير دومًا إلى الكبرياء على الله والتشامخ عليه. هناك يكون مركز ضد المسيح حيث – كما يقول البعض- سيجدد بابل القديمة مرة أخرى على أن مركزه الروحي “الشيطاني” للأسف سيكون في مدينة أورشليم المقدسة كما سنرى.
وحينما يتكلم سفر الرؤيا عن هذه الحرب يتحدث لا عن منظرها الخارجي بل الدافع الخفي، فيقول “وهكذا رأيت الخيل في الرؤيا، والجالسين عليها لهم دروع ناريّة وأسمانجونيّة وكبريتيّة، ورؤوس الخيل كرؤوس الأسود، ومن أفواهها يخرج نار ودخان وكبريت. من هذه الثلاثة قتل ثلث الناس من النار والدخان والكبريت الخارجة من أفواهها. فإن سلطانها هو في أفواهها وفى أذنابها، لأن أذنابها شبه الحيات ولها رؤوس وبها تضر” [17-19].
يظهر من هذا الوصف التصوري الاستعاري أن الحرب تخفي أعمال شيطانية، فالمحاربون:
أ. لهم دروع نارية مرهبة يفترسون بقوة إبليسيّة.
ب. وأسمانجونيّة أي دروع تبدو كأنها سماويّة، وهى بسماح من الله.
ج. وكبريتيّة أي للانتقام والإهلاك.
وأما الخيل نفسها فهي:
-
لها رؤوس كرؤوس الأسد، لا تكف عن الافتراس.
-
من أفواهها يخرج نار ودخان وكبريت، غايتها الحرق والتبديد.
-
أذنابها شبه الحيات التي أفقدت الإنسان الأول كل ما له.
هذه الحروب يسمح بها الله ليقتل البعض لعل البقية تتوب لكن يقول الوحي:
“وأما بقية الناس الذين لم يُقتَلوا بهذه الضربات
فلم يتوبوا عن أعمال أيديهم
حتى لا يسجدوا للشياطين وأصنام الذهب والفضة والنحاس والحجر والخشب
التي لا تستطيع أن تبصر ولا تسمع ولا تمشى.
ولا تابوا عن قتلهم
ولا عن سحرهم
ولا عن زناهم ولا عن سرقتهم” [20-21].
هذه البقيّة من أتباع ضد المسيح الباقية بعد هلاك البعض في الحرب لم تتب عن:
-
عبادتهم للأصنام، إذ يقيم ضد المسيح لنفسه تمثالاً ويطلب العبادة له.
-
مناهضتهم للكنيسة بالقتل المستمر، ويتعقبونها حتى في البراري.
-
سحرهم: في صنع الأعاجيب للخداع، وهذا يكشف مدى انتزاع خوف الله من القلب وفقدانهم روح التوبة والانسحاق، فيستخدمون السحر في تحقيق مأربهم، منهمكين في الزنا وكل دنس سالبين الناس حياتهم.
[1] وهى البدع التي تطالب بمباديء أخلاقية إجتماعية خارج دائرة الإيمان، وسنتكلم عنها بمشيئة الرب.
[2] من أصحاب هذه البدع جماعة تسمى حاليًا “المسيحية العلمية” يطالبون بحذف كل ما في الكتاب المقدس من معجزات الخ.