تفسير سفر الرؤيا 3 الأصحاح الثالث – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير سفر الرؤيا 3 الأصحاح الثالث – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير سفر الرؤيا 3 الأصحاح الثالث – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير سفر الرؤيا 3 الأصحاح الثالث – القمص تادرس يعقوب ملطي
الأصحاح الثالث : رسائل إلى ثلاث كنائس
في هذا الأصحاح يوجه رسائل:
- إلى ملاك كنيسة ساردس 1 – 6.
- إلى ملاك كنيسة فيلادلفيا 7 – 12.
- إلى ملاك كنيسة لاودكية 14 – 22.
5. إلى ملاك كنيسة ساردس
- من هو؟
“واكتب إلى ملاك الكنيسة التي في ساردس” [1]، يقال إنه القديس ميليتون.
- وصف الرب
“وهذا يقوله الرب الذي له سبعة أرواح الله والسبعة الكواكب” [1].
لما كان الرب يعالج في هذه الكنيسة خطية “الرياء” لهذا يقدم لها نفسه “له سبعة أرواح الله“، أي الروح القدس الكامل في أعماله هو روحه، كما يقدم نفسه أن “له… السبعة الكواكب“.
أ. هذا الروح يمسك بالإنسان فيبكته ويقدسه ويهيئه بإمكانيات إلهية للبلوغ به نحو العرس السماوي. به ننال التبني، وبه ننال الغفران. وبه نتمتع بالشركة مع الرب، وبه نتطعم في جسد الرب السري. وبه نوهب بركات تقوية من محبة وفرح وسلام ووداعة وتعفف (غل 5: 22). هذا كله يفسد الرياء، بجذب النفس لاختلاس المجد الخفي والعشرة السرية مع الله وحده.
ب. “له السبعة الكواكب“، أي “له كل الأساقفة” وكأنه يحرك في الأسقف هذا الشعور بملكية الله له ليقول هو أيضًا “الأساقفة كلهم لك. وأنت لنا يا الله”… “أنا لحبيبي وحبيبي لي”!
- حال الكنيسة
“أنا عارف أعمالك أن لك اسمًا أنك حي وأنت ميت” [1].
يا للخطورة! عندما يشهد الناس لكنيسة ما أنها حية ذات اسم وصيت لكنها في الحقيقة ميتة، لأنها تهتم بأمور كثيرة بعيدة كل البعد عن رسالتها، ألا وهي “تمتع أولادها بربنا يسوع”.
- العلاج
“كن ساهرًا وشدد ما بق]،
الذي هو عتيد أن يموت،
لأني لم أجد أعمالك كاملة أمام الله” [2].
يقول الأسقف فيكتورينوس: [إن الفئة الخامسة تمثل أناسًا مهملين يقومون بأعمال غير ما ينبغي القيام به. إنهم مسيحيون بالاسم، لهذا يحثهم بكل وسيلة أن يرتدوا عن أعمالهم لكي يخلصوا.] وكيف يتركون الإهمال؟
أ. بالسهر: فإذ ينتظر مجيء الرب لا يبالي بمديح الناس بل يسهر لملاقاته.
ب. “شدد ما بقى، الذي هو عتيد أن يموت“. فالرياء هو العدو المهلك للحياة الروحية، متى سرى في إنسان أفسد كل عبادته. لهذا يليق بالشخص أن يسرع لينقذ نفسه المحتضرة العتيدة أن تموت بأعمال البرّ الذاتي.. الأعمال الكاملة في نظر الناس لا الله.
ج. تذكر احسانات الله علينا: “وأذكر كيف أخذت وسمعت وأحفظ وتب”، حافظين له حقه، عالمين أن كل صلاح فينا ليس لنا فضل فيه، بل هو منه، تائبين عن حبنا لتكريم الناس لنا.
د. تذكر يوم الدينونة: فمن لا ينجذب بتذكر بركات الرب الموهوبة له يرتدع بالتهديد “فإني إن لم تسهر أُقدم عليك كلصٍ، ولا تعلم أي ساعة أقدم عليك” [3].
وفي الوقت الذي فيه يقدم يوم الرب على المرائين كلصٍ، يكون بالنسبة لمن لم ينجسوا عواطفهم ومشاعرهم وحواسهم وغاياتهم بالرياء كيوم زفاف، إذ يقول له: “عندك أسماء في ساردس لم ينجسوا ثيابهم فسيمشون معي في ثياب بيض، لأنهم مستحقون. من يتب فذلك سيلبس ثيابًا بيضًا، ولن أمحو اسمه من سفر الحياة، وسأعترف باسمه أمام أبى وأمام ملائكته. من له أذن، فليسمع ما يقوله الروح للكنائس” [4-6].
إنه يعرفهم بأسمائهم، محفوظين في سفر الحياة.. يعترف بهم الرب أمام ملائكته. يلبسون ثيابًا بيضًا. أما يكفينا هذا كله لكي نرفض كل مجدٍ باطلٍ في هذا العالم!
6. إلى ملاك كنيسة فيلادلفيا
- من هو؟
“واكتب إلى ملاك الكنيسة التي في فيلادلفيا”، قيل إنه الأسقف كوذرانوس، غير أن القديس إيرونيموس يقول بأن هذا الأب كان أسقفًا على أثينا وليس على فيلادلفيا.
- وصف الرب
أ. إذ اتسمت هذه الكنيسة بالتراخي في العمل، لهذا يقدم الرب نفسه لها قائلاً: “هذا يقوله القدوس” [7]. وأنه يكفي للمخلوقات الحية الأربعة (رؤ 4) أن تدرك في الرب أنه قدوس لتسجد له على الدوام ليلاً ونهارًا بلا ملل. وما أن يسمع الأربعة والعشرون قسيسًا السمائيون الأربعة مخلوقات الحية يقولون “قدوس، قدوس، قدوس” حتى يقوموا من على كراسيهم ويخلعوا أكاليلهم، ويلقونها عند رجليه ساجدين. وهم يصنعون هذا منذ خلقتهم إلى يومنا هذا ويبقون هكذا إلى الأبد في شوق وهيام نحو هذا القدوس لا يعرفون ماذا يقدمون له.
هكذا عندما يدرك الإنسان حقيقة قداسة الله يلتهب بنيران الحب المتأججة نحو عبادة الرب والسجود له وخدمته بلا ملل!
ب. يقدم نفسه على أنه “الحق”، حتى تترك هذه الكنيسة تراخيها لتسلك طريق الحق.
ج. يقدم لها نفسه “الذي له مفتاح داود، الذي يفتح ولا أحد يغلق، ويغلق ولا أحد يفتح”. هذا الوصف الذي سبق أن أعلنه إشعياء في ألياقيم رمز المسيح (22: 21). وكأن الرب يشجع كنيسته قائلاً: لماذا تتراخين في العمل وأنا وحدي أفتح لكِ أبواب السماء، وأغلق عليكِ، فلا يقترب منك إبليس. أما المفتاح الذي به يفتح فهو:
أ. يرى القديسان كيرلس الكبير وإيرونيموس أنه سلطان الحل والربط الذي وهبه الرب لعروسه خلال تلاميذه (مت 16: 19).
ب. يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أنه الصليب الذي به يفتح لنا الرب باب الفردوس، ويدخلنا الملكوت كما يغلق به في وجوهنا الجحيم وجهنم.
ج. يرى القديس غريغوريوس صانع العجائب[1] أن هذا المفتاح هو فهم الكتاب المقدس وخاصة النبوات، لأن روح المسيح الذي كتب النبوات هو وحده القادر أن يوضحها ويكشفها.
- حال الكنيسة
“أنا عارف أعمالك،
وهأنذا قد جعلت أمامك بابًا مفتوحًا،
ولا يستطيع أحد أن يغلقه،
لأن لك قوة يسيرة،
وقد حفظت كلمتي ولم تنكر اسمي“ [8].
بالرغم مما اتسمت به هذه الكنيسة من تراخٍ في العمل، لكنه يعرف أعمالها القليلة ولا ينساها. إن كل صلاة مهما بدت فاترة، وكل صدقة، وكل مثابرة مهما بدت هينة لا يتجاهلها الله، جاعلاً باب الخلاص مفتوحًا أمامنا. من أجل القليل يقدم الله الكثير.
ولعل الباب المفتوح هنا هو باب الخدمة الفعال (1 كو 16: 9)، فإذ كانت له قوة يسيرة في الكرازة والرعاية يهبه الله قوة للخدمة غير ناسٍ أنه حفظ كلمته ولم ينكر اسمه، من أجل هذا يقول له:
“هنذا أجعل الذين من مجمع الشيطان،
من القائلين أنهم يهود وليسوا يهودًا، بل يكذبون.
هانذا أصيرهم يأتون ويسجدون أمام رجليكِ،
ويعرفون أني أنا أحببتك.
لأنك حفظت كلمة صبري،
أنا أيضًا سأحفظك من ساعة التجربة العتيدة أن تأتى على العالم كله
لتجرب الساكنين على الأرض [9-10].
بالرغم من ضعف الجهاد لكن الله لا ينسى هذا التعب. من أجل هذا يعطيه الرب نعمة فيحطم قوة الشيطان التي لبست مجمع اليهود كآلة في يده. وهنا يقدم لنا الرب مبدأين:
أ. المبدأ الأول أننا لسنا كفاة من أنفسنا للعبادة أو للخدمة لكن كفايتنا من الله (2 كو 3: 5). إننا بنعمة الله أكفاء وقادرون على تحطيم قوة الشر بكل شجاعة وثقة. نحن في ذواتنا “كأن لنا في أنفسنا حكم الموت لكي لا نكون متكلين على أنفسنا بل على الله الذي يقيم الأموات، لنا هذا الكنز في أوانٍ خزفيةٍ ليكون فضل القوة لله لا منا” (2 كو 1: 9؛ 4: 7).
ب. المبدأ الروحي الثاني أننا نكون أمناء فيما بين أيدينا يهبنا الله الأمانة فيما يفوق طبيعتنا. نتحفظ من الشر قدر استطاعتنا، فيحفظنا الرب مما هو ليس بإرادتنا. نعمل بأمانة الآن، فيهبنا الله الأمانة في أشد لحظات الظلمة المقبلة.
- العلاج والمكافأة
يتركز علاج التراخي في العمل في إدراك حقيقة مركز الإنسان وما أعده الله له في الحياة الأبدية بهذا يمتلئ رجاءً، فيعمل بفرح وثقة في غير يأس. لهذا يقول له الرب:
“ها أنا آتى سريعًا،
تمسك بما عندك،
لئلا يأخذ أحد إكليلك.
من يغلب فسأجعله عمودًا في هيكل إلهي،
ولا يعود يخرج إلى خارج،
وأكتب عليه اسم إلهي،
واسم مدينة إلهي، أورشليم الجديدة،
النازلة من السماء من عند إلهي، واسمي الجديد.
من له أذن فليسمع ما يقوله الروح للكنائس” [11-13].
بهذا الرجاء يحمس الرسول أولاده قائلاً “هكذا اركضوا لكي تنالوا، وكل من يجاهد يضبط نفسه في كل شيء. أما أولئك فلكي يأخذوا إكليلاً يفنى، وأما نحن فإكليلاً لا يفنى” (1 كو 9: 24-25).
إنه يعين رجاءنا بقوله: “ها أنا آتى سريعًا“. فيليق بنا أن نتمسك بما عندنا من البركات التي نلناها، سالكين كما يليق كأبناء الله بالمعمودية وكهياكل مقدسة للروح القدس.
كما يحذرنا “لئلا يأخذ أحد إكليلك“، كما أخذ البشر إكليل الملائكة الساقطين، وأخذ يعقوب بركة عيسو (تك 25)، وأخذ يهوذا بركة رأوبين (تك 49)، وأخذ داود إكليل شاول، وأخذ متياس إكليل يهوذا، وأخذت الأمم البركة برفض اليهود.
وما هو إكليلنا أو رجاؤنا؟
أ. يصير الغالب “عمودًا في هيكل الآب“. والعجيب أنه يدعو الآب “إلهي” مكررًا ذلك أربع مرات، مبينًا علاقة المسيح بالمؤمن الغالب في أبهي صورها، مظهرًا وحدة الحب اللانهائي حتى يدعو أباه معنا قائلاً عنه “إلهي”. وهذا يكفي أن يكون إكليلنا. هذه الوحدة التي لا نستحقها ولا يقدر الفكر أن يتصورها!
ب. يقيمنا أعمدة حية في السماء، والأعمدة تشير إلى النصرة كما أقام المكابيون أعمدة على قبورهم وهم ينقشون عليها أسماءهم (1 مك 13: 29). ويرى الأسقف فيكتورينوس أن الأعمدة هي زينة البناء، لهذا يكون الرعاة الغالبون هم زينة المؤمنين في السماء في يوم الرب العظيم. وقد دعا الرسول بولس يعقوب ويوحنا وبطرس أعمدة الكنيسة (غلا 2: 9) ودعا “كنيسة الله الحي عمود الحق وقاعدته” (1 تي 3: 15).
ج. لا يعود يخرج إلى خارج. كالعمود الذي يرتكز عليه البناء، وكابن يبقى إلى الأبد (يو 8: 35)، هكذا يكون حال الغالبين في الأبدية.
وكما يقول القديس أغسطينوس: [من لا يشتاق إلى المدينة التي لا يخرج منها صديق ولا يدخلها عدو!]
د. ينقش على العمود ثلاثة أسماء هم المنتصرون المخفيون:
أولاً: اسم الآب، فإن كل نصرة تسندها محبة الله وتدبيره الخفي.
ثانيًا: اسم مدينة الله، أورشليم الجديدة النازلة من السماء. المدينة المنتصرة على كل قوى الشر، وهي تبقى منتصرة إلى الأبد لا تصيبها عوامل زمنية ولا يهاجمنا عدو بعد.
ثالثا: اسم السيد المسيح الجديد، وربما يكون الاسم “الحمل” إذ يتكرر في سفر الرؤيا حوالي 28 مرة، لكن على أي الأوضاع سيسجل على كل مؤمن اسم الرب، ليس بلغة بشرية، بل بالوحدة الخفية والرباط الأبدي بيننا وبينه كأعضاء في جسده.
ويبقى اسم الرب جديدًا في تذوقنا له في الأبدية، لا يشيخ ولا يمل المؤمن من التلذذ بنطقه والاستمتاع بحلاوة عذوبته.
7. إلى ملاك كنيسة لاودكية[2]
- من هو؟
“اكتب إلى ملاك كنيسة اللاودكيين” [14]، وهو أوريليوس أو الشهيد سفاريوس الذي امتدحه يوسابيوس[3].
- وصف الرب
“هذا يقوله الأمين الشاهد الأمين، الصادق، بداءة خليقة الله” [14]. يقدم الرب نفسه للكنيسة التي اتسمت بـ “الفتور الروحي” بهذه الصفات ليسندها:
أ. الآمين: وهي غير “الأمين”، وتعنى “الحق”، وقد وُصف الله بذلك كما في (إش 65: 16) إن في الرب يسوع “النعم، وفيه الآمين، لمجد الله بواسطتنا” (2 كو 1: 20)، لهذا فإن الكنيسة المتحدة بمسيحها تعمل به، فيكون فيها أيضًا النعم وفيها الآمين، أي متسمة بالحق، شاهدة له بلا فتور، لمجد الله.
ب. الشاهد الأمين الصادق: وفي اليونانية تعنى “الشهيد”. وكما شهد الرب للآب شهادة صادقة أمينة عملية فشهد بالكلام إذ هو “المعلم الحقيقي“، وبالسلوك إذ هو “أبرع جمالاً من بنى البشر“، وبالحب إذ “بذل نفسه على الصليب“، هكذا أرسل تلاميذه قائلاً: “وتكونون لي شهودًا” (أع 1: 8). بنفس الشهادة الصادقة التي له.
والشاهد الأمين لا يدخر جهدًا في إبراز الحق وإعلان ما رآه وسمعه مهما كلفته شهادته.
ج. بداءة خليقة الله: والترجمة للكلمة اليونانية تعنى “رأس”، أي لها حق الإدارة والتدبير والعمل، فلا يكف عن الاهتمام بخليقته. إنها رئاسة حب عامل، إذ قيل عنه: “وإياه جعل رأسًا فوق كل شيء للكنيسة التي هي جسده، ملء الذي يملأ الكل في الكل” (أف 1: 22-23) يهَب لجسده نموًا في كل شيء. فكيف يعمل الرأس هذا كله ويبقى الجسد أو أحد أعضائه خاملاً! إذن كل فتور روحي هو إهانة موجهة للرأس مباشرة!
- حال الكنيسة
“أنا عارف أعمالك،
أنك لست باردًا ولا حارًا.
ليتك كنت باردًا أو حارٌا.
هكذا لأنك فاتر ولست باردًا ولا حارًا
أنا مزمع أن أتقيأك من فمي” [15-16].
وماذا يعنى بالبارد والحار والفاتر؟
الرأي الأول: البارد هو غير المؤمن الغارق في الشر، والحار هو المؤمن الملتهب بنيران محبة الله، وأما الفاتر فكما يقول الأسقف فيكتورينوس: [إنه ليس بغير مؤمن ولا مؤمن، بل هو كل شيء لكل أحد.] يحيا بلا مبدأ بارد مع الباردين، وحار مع الحارين.
الرأي الثاني: البارد هو من يمتنع عن الخطية بدافع الخوف من العقاب، والحار هو من يمتنع عنها من أجل محبته للرب، وأما الفاتر فهو خالٍ من الخوف ومن الحب.
الرأي الثالث: يرى كاسيان[4] أن الفاتر هو المتردد بين الفضيلة والرذيلة، يريد الفضيلة لكن يجبن عن الجهاد، ويكره التعب من أجلها.
الرأي الرابع: أن البارد هو من يدرك في أعماق نفسه ضعفه وسقطاته كالمرأة الزانية والعشار واللص وأنبا موسى الأسود ومريم المصرية. هذا سرعان ما يلتهب بالله “النار الآكلة“، ويصير إنسانًا حارًا بالروح. أما الفاتر فيغط في نوم عميق يظن في نفسه أنه بار وتلميذ للرب ومخلص ولا حاجة له بعد إلاّ أن يكرز ويبشر للآخرين دون أن ينحني ليسمع ويتعظ ويوبخ. يا له من مسكين لأنه مخدوع!
يقول يوحنا كاسيان: [رأينا كثيرين من الباردين رهبانًا وعلمانيين تحولوا إلى حرارة روحية، لكننا لم نرى فاترين صاروا حارين[5].]
ويقول أغسطينوس: [أنني أتجاسر فأقول أنه خير للمتكبرين أن يسقطوا في عصيان واضح مشهور حتى يحزنوا في نفوسهم لأن سقوطهم هو بسبب فرحهم بذواتهم. فبطرس كان في حال أفضل حين بكى وهو غير مكتفٍ بذاته عما كان عليه حين كان متجاسرًا معتدًا بذاته. هذا ما أكده المرتل الطوباوي بقوله: “املأ وجوههم خزيًا فيطلبون اسمك يا رب” (مز 83: 16)[6].]
ويرى أغسطينوس أن الله سمح بفضيحة العذارى المؤمنات حين اقتحم البربر مدينة روما لأن هؤلاء كن قد أُصبن بالكبرياء فنزع الرب عنهن مديح الناس وسمح لهن بفقدان بتوليتهن لينحنين ويبكين فينزع عنهن فتورهن ويغتصبن المديح السماوي غير المنظور[7].
الرأي الخامس: وهو للأب دانيال وقد كتب مناظرته يوحنا كاسيان معالجًا موضوع “الفتور الروحي” من جميع نواحيه، موضحًا كيف أن الفتور يمكن أن يكون بسماح من الله لخيرنا، أو بسبب حرب شيطانية، أو بسبب إهمالنا التدريجي. كما عالج كل نوع على حدة، ومنعًا للتكرار أرجو الرجوع إليه[8].
أما عن خطورة الفتور فيظهر من قول الرب “أنا مزمع أن أتقيأك من فمي”. الإنسان الفاتر لا يستريح في فم الله، ولا يطيق أن يسمع كلمته، كما لا يطيق الله أن يرى أحدًا فاترًا.
لهذا يقول القديس إيرونيموس[9] أن المخلِّص لا يحب شيئًا بين بين (half and half).
كما يقول [بينما لا يشاء الله موت الخاطئ بل أن يتوب ويحيا فإنه يبغض الفاترين ويسببون له قيئًا سريعًا.]
ولماذا يتقيأ الله الفاترين؟ “لأنك تقول أني أنا غني وقد استغنيت، ولا حاجة لي إلى شيء، ولست تعلم أنك أنت الشقي والبائس وفقير وأعمى وعريان” [17].
- الشعور بالغنى وبالتالي الاستغناء عن الله. إذ لا يدرك الفاتر ضعفه فلا يشعر بحاجته إلى برّ الله ونعمته فيصير كالفريسي المتكبر لا يدرى ماذا يحتاج من الله!
- يظن أنه سعيد مع أنه خالٍ من الشركة السرية مع الله، وبالتالي فهو بائس إذ تزول يومًا ما كل عبادته المظهرية ويتكشف عريه وعماه وفقره وشقاؤه.
- العلاج والمكافأة
أولا: “أشير عليك أن تشتري مني ذهبًا مصفي بالنار لكي تستغني” [18].
لا علاج للفتور إلا بالعودة إلى الرب للشراء منه… أي ينتزع الإنسان من ذاته التي يدور حولها، ليركز نظراته وقلبه تجاه الله ليشترب منه احتياجاته. وصعوبة هذا العلاج أن يتخلى الإنسان عن ذاته ليتقدم كمحتاج إلى الرب. والصعوبة الثانية أن الشراء “بلا فضة وبلا ثمن” (أش 55: 1) “متبررين مجانًا بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح” (رو 3: 24).
وماذا يشتري؟
أ. يشتري الذهب المصفى بالنار، أي يقتني الإله المتجسد، ذاك الذي افتقر وهو غني لكي نستغني نحن به (2 كو 8: 9)، ذاك الذي احتمل نار الألم على الصليب ليغنينا بكل الفضائل الخفية.
ويرى ابن العسال أن الذهب هو الصبر المُقتنى بالآلام، كما أنه الحب الحقيقي الباذل الذي نناله بربنا يسوع.
ب. “وثيابًا بيضًا لكي تلبس، فلا يظهر خزي عريتك” [18]، ونحن في المعمودية لبسنا الرب يسوع. وهو وحده الذي ينزع عارنا ويسترنا ببره، إذ يهب الكنيسة “أن تلبس بزًا نقيًا لأن البز هو تبررات القديسين” التي هي من عمل نعمته.
ج. “وكحل عينيك بكحل لكي تبصر” [18]. وماذا يكون الكحل الذي يفتح العينين لترى أعماق كلمة الله وحكمته إلاّ الروح القدس الذي فتح أذهان التلاميذ ليفهموا الكتب! ويرى الأب غريغوريوس (الكبير)[10] أنه هو التأمل في الوصايا الإلهية التي تنير العينين.
ثانيا: “إني كل من أحبه أوبخه وأؤدبه، فكن غيورًا وتب” [19]. فالفاتر متى تقبل تأديبات الله وتوبيخاته ينسحق قلبه بالتوبة، وينفتح أمام الله الذي يرجو الدخول فيه، إذ يقول “هانذا واقف على الباب وأقرع. إن سمع أحد صوتي، وفتح الباب، أدخل وأتعشى معه وهو معي [20]. وكأن الفاتر في ليل مظلم يريد الله أن يدخل لينير قلبه ويجعله مثمرًا فيجد فيه ثمرًا نفيسًا (نش 4: 16).
إنه يقترب من القلب كما اقترب من تلميذي عمواس، فكان يحدثهما، وإذ ألزماه أن يمكث معهما لأن النهار قد مال اتكأ معهما وانفتحت أعينهما وعرفاه (لو 24).
يا لحب الله فإنه يختفي وراء باب وصيته حتى كل من يفتح قلبه للوصية يتجلى الرب فيه. وكما يقول القديس مرقس الناسك: [يختفي الرب في وصاياه فمن يطلبه يجده فيها[11].]
وكما يقول القديس أمبروسيوس: [السيد المسيح واقف على باب نفسك، اسمعه يتحدث مع الكنيسة[12].]
إنه يقول “افتحي لي يا أختي يا حبيبتي، يا كاملتي، لأن رأسي امتلأ من الطل، وقصصي من ندى الليل” (نش 5: 2). وهو لا يقف وحده بل تسبقه الملائكة تقول “ارفعوا الأبواب أيها الملوك” وأية أبواب؟ يقول في موضع آخر: “افتح لي أبواب البرّ” (مز 118: 19). لنفتح له أبواب البرّ، أبواب الطهارة، أبواب الشجاعة والحكمة.
وما هي مكافأة فتح الباب للرب؟
“من يغلب فسأعطيه أن يجلس معي في عرشي،
كما غلبت أنا أيضًا وجلست مع أبي في عرشه.
من له أذن فليسمع ما يقوله الروح للكنائس” [21-22].
وجلوس الابن في العرش الإلهي هو أمر طبيعي، أما جلوسنا نحن فمن أجل وحدتنا بالرب وارتباطنا به، إذ نلنا به كل ما يشتهي الآب أن يقدمه لنا.
نحن لا نقدر أن نحتمل هذا المجد، لكن الابن له هذا المجد. تخلى عنه ثم عاد فأخذه لكي ننال نحن به غاية المجد الذي لا تحتمله البشرية.
شكرًا للابن الذي ترك كل شيء وصار كواحدٍ منا، حارب إبليس وانتصر وتكلَّل وتَمجَّد لكي به يصير لنا هذا كله فيه.
[1] Oration and Panegyric addressed to Origen.
[2] شرق أفسس بحوالي 40 ميلاً، سميت باسم زوجة أنطيخوس الثاني الذي قام ببنائها. وتسمى حاليا بالتركية “اسكى حصار”.
[3] ك 5 ف 24.
[4] مذكرات عن الرهبان 4: 12، 19.
[5] المرجع السابق.
[6] مدينة اللَّه 14: 13.
[7] مدينة اللَّه 1: 28.
[8] المؤلف (ترجمة): مناظرات يوحنا كاسيان طبعة 1968 ص 107-122.
[9] رسالة 31.
[10] بابا روما بعد الانشقاق وقد رفض فكرة الباباوية الرومانيّة ورئاستها.
[11] المؤلف (ترجمة) الفيلوكاليا ص 130.
[12] Of the Christian Faith 14: 19.