لقد كانت أروع لحظات الخلق التي خلق فيها الله الإنسان هي عندما ” ونفخ في انفه نسمة حياة ” (تكوين 2: 7). ويقول الله ” انظروا الآن أنا هو وليس اله معي ” (تثنية الاشتراع 32: 39).
إذا ما هو هدف الإنسان، وما غاية وجوده؟، هل يمكن ان يكون الهدف من خلق الإنسان ان يأكل ويشرب ويتناسل إلى أن يموت. أو هل يكون هدف الانسان من وجوده التمتع باللذات وطيبات الحياة، كما تقول إحدى الفلسفات القديمة لنأكل ونشرب فإننا غدا نموت. أو أن غاية الإنسان إنما هي العلم أو العمل. قال البعض إن غاية الانسان هي في احتقار الجسد وإخضاعه لسيطرة العقل وتعزيز الروح، واعتبارها القوة الكبرى للإنسان.
يقول القديس باسيليوس الكبير: ” أما نحن فالغاية التي نسعى إليها والتي تصبو إلى الوصول إليها بكل حرص واجتهاد هي الحياة السعيدة مع الله في السماء ولا شيء في الدنيا يوازي هذا السعي الحميد شرفا وعظمة للخليقة العاقلة ” (عظة على مزمور 48: 1).
إذا غاية الانسان تتعدى حياته كلها وتفوق على ذاته ووجوده لكي تصل إلى شيء أعظم من ذات الانسان إلى ذات بلا حدود التي خلق الانسان لأجلها فلا تكتمل سعادتها ولا معنى لوجودها إلا في هذه الذات، التي هي الله خالق الانسان. عبثا أن يعيش الانسان ويسعد، إن لم يكون الله هو غاية حياته وجهاده وأتعابه وآلامه.
لأجل هذه الغاية جاء المسيح ابن الله ” جئت لتكون لهم حياة “، ” وأما هذه فقد كتبت لتؤمنوا إن يسوع هو المسيح ابن الله،ولكي تكون لكم، إذا آمنتم حياة باسمه “ (يوحنا 20: 31). قال يسوع: ” لأنه كما أن الآب يقيم الأموات ويحي كذلك الابن أيضا يحيي من يشاء ” (يوحنا 5: 21)، وأيضا قال يسوع قبيل إحيائه لعازر من بين الأموات ” انا هو القيامة والحياة ” (يوحنا 11: 25) كما انه ذهب إلى حد قال معه بأنه معطي الحياة الأبدية: ” وانأ أعطيها حياة أبدية ولن تهلك إلى الأبد ولا يخطفها احد من يدي أنا والآب واحد ” (يوحنا 10 : 28 –30).
إذا فما هي الحياة الأبدية التي يمنحها المسيح؟. بما أن المسيح من حيث هو ” الكلمة “ الأزلي حاصل على الحياة منذ البدء. ومن حيث هو الكلمة المتجسد، هو ” كلمة الحياة “ (1 يوحنا 1: 1)، له التدبير في الحياة بملك سلطانه ” فكما أن الآب هو في ذاته مصدر الحياة فكذلك أعطى الابن ان يكون في ذاته مصدر الحياة ” ويفيضها بوفرة ضمن حيث هو نور الحياة (يوحنا 8: 10).
يعطي ماء حيا يصير فمن يقبله ” عين ماء يتفجر حياة أبدية “. ومن حيث هو ” خبز الحياة ” يعطي لمن يأكل جسده أن يحيا به كما هو يحيا بالآب.
هذه الشهادة، هي أن الله منحنا الحياة الأبدية، وان هذه الحياة هي ابنه ” من كان له الابن، كانت له الحياة ومن لم يكن له الابن، لم تكن له الحياة “. لذلك أوضح المسيح معنى الحياة الأبدية في احد مواقفه المحيية عندما كشف عن إمكانياته، إقامة الميت وإعطائه الحياة، وذلك عندما خاطب يسوع مرتا: ” قال يسوع سيقوم أخوك قالت له مرتا: انأ أعلم انه سيقوم في القيامة في اليوم الأخير. قال لها يسوع: أنا هو القيامة والحياة من آمان بي ولو مات فسيحيا، وكل من كان حيا وآمن بي فلن يموت إلى الأبد “.
هنا يتضح معنى أو مفهوم الحياة الأبدية إلى معنيين.اي إن الحياة الأبدية هي الحياة بعد الموت أو في القيامة في اليوم الأخير. أما المعنى الثاني فهو ان الذي يؤمن بالمسيح يدخل هذه الحياة الأبدية منذ الآن، بدون موت بحيث لا تتوقف هذه الحياة الأبدية بعد ذلك أبدا، لا بموت ولا بأي شيء آخر.
من هنا تظهر حقيقة المسيح بأنه حياة محيية في كل وقت وفي كل مكان. هذا يعني إن الذي يؤمن بالمسيح (معطي الحياة) لا يعود ينتظر القيامة في اليوم الأخير حتى يرى الحياة الأبدية، لذا قيامة لعازر من الموت وحياته الثانية لا قيمة لها في حد ذاتها، لان لعازر مات حتما بعد ذلك. القيمة كلها في الذي أمر فكان.
ما أعلنه كلمة الحياة هو ” الحياة الأبدية “ (1 يوحنا 2: 25) على أنها ” وعد ” أي واقع مستمر منذ الآن وذوو بعد نهائي واسكاتولوجي بعيد عن الموت، ولكن النصر على الموت قد بدأه ” لأننا نعلم إننا انتقلنا من الموت إلى الحياة لأننا نحب الإخوة “ (1 يوحنا 3: 14).
إذا ان الحياة الأبدية، الحياة الإلهية، هي حياة حب تقتل في الانسان الأول موت الأنانية لان من لا يحب يثبت في الموت.
هكذا فليست الحياة حياة حيوانية لما وراء الموت. الحياة الأبدية، يقول يسوع لأبيه وهو يتكلم علينا، هي ” أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي والذي أرسلته يسوع المسيح ” (يوحنا 17: 3).
هذا يعني إن ” الحياة الأبدية ” ” حياة العالم الآتي ” قد بدأت نحن أبناء الله منذ الآن. حياة الأبدية لا تعني (عتيدة) فلم نعط النعمة لزمن آت لا نعرفه بل أعطيناها لنولد من جديد لنولد من فوق هذه الولادة من الماء والروح، التي يتحدث عنها المسيح مع نيقوديموس (يوحنا 3: 3). الحياة الأبدية هي التي نتغذى بها من الافخارستيا: ” من يأكل جسدي ويشرب دمي له الحياة الأبدية “ (يوحنا 6: 54).
الحياة الأبدية لا تعني مطلقا حياة جامدة، الأبدية هي صفة حياة الله فهي حركة ديناميكية بدون حدود وفرح يتحرك منذ الأزل والى الأبد. وبتعبير أوضح الحياة الأبدية فينا هي علاقتنا التي لا تموت مع الإله الحي: ” في البدء كان الكلمة وكان الكلمة عند الله وكان الكلمة الله. فيه كانت الحياة.. ” (يوحنا 1: 1). هذا ما جعل القديس باسيليوس الكبير أن يقول: “… (الحياة الأبدية) هي عودة الصداقة وتثبيت العلاقة الحميمة بين الله والإنسان.. ” (عن الروح القدس 15: 35، 36).
إذا فحياة الله محبة، ومحبة الله حياة، هذه هي الأبدية، ونحن نعلم ما تتطلب منا على هذه الأرض من الحياة الأبدية من وداعة وصبرا واحتمالا وطهارة قلب وجسد وتجرد عن الغنى، وهكذا تتحقق على الأرض حياة القديسين في السماء (القديس باسيليوس الكبير).
” فكما لبسنا صورة الانسان الأرضي، يجب أن نلبس أيضا صورة الانسان السماوي ” يسوع المسيح (1 كورنثوس 15: 49) بمعنى أننا نقدر أن نقول مع بولس الإلهي: ” حياتي هي المسيح “.