تعافيت بك ف49 ج1 – رواية تعافيت بك PDF
الجزء الأول
الفصل التاسع والأربعون (العقارب على سمومها تقترب)
كل حنان العالم أجمع وجدته في عيناه…حتى قلبي الساكن لم يتحرك لـ سواه.
__________
الآن وبكل أسى الدنيا أخبركم أن أصعب ما يمر على المرء أن يفقد الشغف في منتصف الطريق تجاه الأشياء التي احترق شوقًا للحصول عليها، الآن وأنت تقف في المنتصف تائه لا تدري إلى أي طريق تخطو قدماك، هل تعود لنقطة البداية وتسير نفس الطريق المليء بالصعاب مرةً أخرىٰ، أم تُكمل سيرك نحو شيء مجهول الهوية؟ ولكن الأصعب من ذلك وذاك هو أنك أنت المسئول الوحيد عن النتيجة.
“أنا عاوزة أنسى…علشان خاطري خليها تسكت… عمالة تعيط في ودني يا وليد”
قالتها “خديجة” ببكاء وهي تتشبث بـ “وليد” كعادتها منذ صغرها، فدائمًا وأبدًا كان هو حصنها المنيع، تمسكت به أكثر وهي تبكِ بقوة، أما هو فنظر لـ “مشيرة” التي كانت تتابع ما حدث بأعين مندهشة.. أخرج هو زفيرًا قويًا ثم ربت عليها وهو يقول بهدوء كما لو أنه يهدهد طفلًا صغيرًا:
“خلاص يا خديجة، كل دا خلص ومش هيحصل تاني…أنتِ دلوقتي كبرتي وخفيتي واتجوزتي ياسين… متخافيش محدش هنا يقدر بقربلك وأنا موجود”
كانت “جميلة” تتابع الموقف بأعين دامعة، فهي حتى الآن لم تتصور كم المعاناة التي شعرت بها “خديجة” بسبب غيابها، أما “طارق” فزفر بضيق ثم نظر في وجه عمته بشررٍ يتطاير من عيناه، خرجت “خديجة” من حضن “وليد” تنظر له بشكٍ فوجدته يومأ لها بقوة، نظرت هي حولها من جديد بعدما مسحت دموعها، ثم خرجت من الغرفة، نظرت “زينب” في أثرها بحزن، ثم تبعتها إلى الخارج، بينما “وليد” قال بنبرة حادة بعض الشيء:
“أنا عمري ما أقدر أجبر إنسان يسامح في حقه، وعمري ما هقدر أخلي خديجة تنسى اللي عملتيه فيها…هي آه خفت بس منسيتش يا مشيرة، دلوقتي بس اتأكدتي إنك ظالمة؟”
نكست رأسها للأسفل من جديد ثم أجهشت في بكاء مرير، بينما “جميلة” وقفت أمامها تقول بنبرةٍ متهكمة حانقة على أفعال والدتها:
“عارفة أنا إيه اللي مخليني مش عارفة أسامحك؟ هو إنك غلطانة من بداية حياتك، واحدة زيك ارتبطت بواحد من غير أي علاقة شرعية بينهم طبيعي النهاية تكون مش مرضية..علشان اللي عملتيه كان حرام وميرضيش ربنا… بعدها ربنا كرمك وقفل باب مجدي في وشك..فضلتي تحاربي علشان الباب يتفتح…ربنا كرمك وعوضك بحسان وللأسف بيا…برضه شوفتي إن دي غلطة وإنك مش عاوزة تخلفي منه… وبعتي جواب لمديحة توصله لأخوها علشان تعرفيه إنك حامل وإنك هتكملي حياتك مع حسان بس غصب عنك…طبيعي إن تركيزك في النقم، يمنع عنك النعم..أنتِ لو كنتِ فرحتي بعوض ربنا لكِ، وبدأتي من جديد معاه…مكانش حصلك كدا، لكن أنتِ طماعة…وياريت بعد اللي حصل عرفتي تكوني حد تاني..لأ، سلمتي نفسك لشيطانك، وانتقمتي من عيلة صغيرة وأمها، بتاخدي حقك من ناس ملهاش ذنب، حتى لو طنط زينب عملت كدا فعلًا بس بنتها ملهاش دعوة..يا شيخة دا ربنا سبحانه وتعال قال:
قال تعالى:
{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ}
عارفة يعني إيه؟ يعني ربنا مبياخدش حد بذنب حد تاني، يعني محدش بيتحاسب على غلطات غيره…تقدري تقوليلي شكلها وهي بتعيط كدا ريحك؟ واحدة عاشت طفولتها ومراهقتها كلها مشوهة بسببك، أنا والله مش لاقية حاجة ابرر بيها عملتك دي، عمري ما كنت اتخيل إني أقابلك وأنتِ كدا، يا شيخة يارتني ما لقيتك”
أجهشت “مشيرة” في بكاء عنيف، أما “جميلة” فركضت من أمام الجميع خارج الغرفة، و”طارق” يتبعها، وجدت “خديجة” تبكِ على الأريكة بين ذراعي والدتها، نظرت لـ “طارق” ثم أعادت النظر إلى “خديجة”، أخذت نفسًا عميقًا، ثم جثيت على ركبتيها أمامها وهي تقول بنبرةٍ متأسفة:
“حقك عليا أنا…والله أنا عارفة إنها كلمة سخيفة…بس مش بإيدي حاجة تانية غيرها…بس لو عاوزاني أمشي من هنا علشان تحس بوجع القلب أنا ممكن أعمل كدا…أي حاجة تعوزيها ممكن أعملها بس مش عاوزة أشوفك كدا”
ابتعدت “خديجة” عن والدتها ثم مسحت وجهها بكفيها إثر دموعها المنسابة على وجنتيها، بعدها أمسكت “جميلة” من ذراعيها توقفها بهدوء وهي تقول بنبرة متحشرجة نتيجة بكائها:
“أنتِ ملكيش ذنب يا جميلة، أنتِ زيك زيي..ضحية برضه، وأنا الحمد لله اتغيرت كتير عن الأول…كل الحكاية بس أني مقدرتش أقول أني مسامحة…كأن خديجة التانية بتفكرني بطريقتها اللي حصل فيا، رغم والله أنا حاولت أنسى وأسامح…بس طلع غصب عني بجد”
في تلك اللحظة أتى “وليد” يقف مقابلًا لـها وهو يقول:
“و دا حقك يا خديجة، ماهو أنتِ برضه مش إنسان آلي، المهم إنك متفضليش زعلانة كتير، وافتكري إنك تعبتي مع ياسين علشان توصلي للي أنتِ فيه دا”
نزلت دموعها رغمًا عنها ثم قالت بنبرة مختنقة إثر البكاء:
“أنا عاوزة أطلع أرتاح شوية…عن إذنكم”
أومأ لها الجميع، فتركتهم هي بعدما طالعت “جميلة” بهدوء وكأنها تخبرها أن الأمر ليس من شأنها، نظرت “زينب” في أثرها بحزن ثم قالت:
“هي مش كانت زي الفل…حصلها إيه تاني بس؟ خديجة هتفضل طول عمرها موجوعة كدا يا وليد”
اقترب منها “وليد” يربت على ذراعها وهو يقول:
“خديجة كويسة وزي الفل…علشان لو خديجة لسه زي الأول كانت هتفضل تصرخ ومكانتش هتسمعني…خديجة اتغيرت أوي، هي بس هترتاح علشان اللي حصل…وأنا عارف إيه اللي هيريحها”
نظرت له “زينب” باستفسار فوجدته يغمز لها وهو يبتسم بخبثٍ، ابتسمت هي الأخرى حينما فهمت مقصده، بينما “طارق” قال بعدما حمحم بهدوء:
“طب والحل إيه يا وليد؟ حتى عمك طه رافض وجود مشيرة”
نظر “وليد” أمامه ثم قال بغموض دائمًا يليق بشخصيته:
“متقلقش أنا عارف الليلة دي آخرها إيه”
صعدت “خديجة” إلى غرفتها، تنهدت بعمقٍ حتى تُحد من قوة بكائها التي داهمتها بقوة، وكأن دموعها مثل الشلالات تود لو تنفجر في تلك اللحظة، ارتمت على الفراش بقوة ورغمًا عنها نزلت دموعها، بعدها غاصت في ثباتٍ عميق، كعادتها القديمة كلما حدث لها ما يحزنها.