المسيحيون يؤمنون بالله الواحد، كيف؟
مع التمسك الكامل بالإيمان بالثالوث القدوس: الآب والابن والروح القدس.. لم يتخلَ المسيحيون أبدًا عن الإيمان بوحدانية الله.. أو بالإيمان بالله الواحد.. وهذه بعض شهادات آباء الكنيسة:
- العلامة ترتليان في رده على ماركيون (الذي يؤمن بإلهين) يقول له بعبارة مدوية: ”لايوجد إله إن لم يكن الله واحدً” (He is not, if He is not one). (ضد ماركيون 1: 3: 1).
- لاكتانتيوس الملقب بشيشرون المسيحية يحاجج بأن الله كامل، ولا يحتاج إلى شيء آخر يُضاف إليه، ثم يقول عبارة مدوية: “إذا كان (الله) كاملاً، فمن المستحيل ألا يكون إلا واحدًا” (المؤسسات 1: 1: 3).
- أثيناغوراس المدافع الشهير يحاجج بأن الله هو الذي يحوي كل شيء ولا يحويه شيء: ”فلو كان منذ البدء اثنان أو أكثر من الآلهة لصاروا إمّا في نفس المكان الواحد أو صار كل منهم منفصلاً في مكانه الخاص“.. هنا يتحدث أثيناغوراس عن مجال بسط سلطان الله وعنايته.. ويقول أيضًا لو كانوا اثنين أو أكثر لصاروا مختلفين، لأن المخلوقات هي التي تتبع نمط pattern معين فكلها متشابهة من جهة الطبيعة، الله سبحانه وتعالى ليس له نمط أو نموذج أصلي.. وبالتالي فهو فريد.. لذلك يقول أثيناغوراس عبارته المدوية: “الرب هو إلهنا ولا أحد يُعد بجانبه” (المرافعة 9).
- نفس الفكرة يقولها سمعان بن كليل في القرن (12): ”(الله) لا يحويه مكان ولا يحصره عصر ولا زمان. متوحد بجوهريته منفرد بوحدانيته“. ثم يقول إن الافتراض بوجود أكثر من إله هو خطأ.. لأن ذلك سيؤدي إلى إمكانية اعتزال الواحد عن الآخر وهذا يبطل الوحدانية. ”لأن اعتزال الواحد عن الآخر يوجب أن يكون كل واحد منهم محصورًا؛ وكل ما هو محصور يقع عليه التحديد؛ وكل ما هو محدود يجب عليه الحدوث؛ كل ما هو محدث، فيجب عليه أن يكون له بداية؛ وكل ما كان له بداية، فلابد أن يكون أيضًا له نهاية؛ وكل ما يكون له بداية ونهاية، فليس هو أزليًا؛ وكل ما كان غير أزلي لا يمكن أن يكون إلهًا“
وبهذا يكون اللاهوتيين المسيحيين قد وضعوا بذور ما يُسمى ببرهان “التضايف” الذي قال به المتكلمون والفلاسفة المسلمون. (ابحثوا عنه!)
نأتي لنقطة أخرى هل ولادة الابن مثلاً غيرت من وحدانية الله، لنسمع ق كيرلس وهو يتحدث عن ولادة الابن، ماذا يقول: “هو يأتي من جوهر الآب دون تغيير أو تجزئة، لأن مَن يُدخل تجزئة وتغيير في الطبيعة الإلهية فإنه يشكك في ولادة الابن” (الكنوز، المقالة الرابعة).
نأتي لنقطة أخرى، إذن لماذا نقول إن الابن هو “غير” الآب (وغير الروح القدس)، أليست كلمة “غير” تدل على آخر معدود بجوار الله وبالتالي يصبح الإيمان بأكثر من إله واحد؟
للإجابة على هذا السؤال نقول:
- هناك أشياء كثيرة في الله نقول إنها في الله وهي في نفس الوقت غير الله.. فكل صفات الله هو موجودة في الله لكنها بشكل ما “غير الله”. فالإمام أبو الحسن الأشعري، مؤسس المذهب الأشعري، يقول إن صفات الله ليست هي (يعني غير) ذات الله، وليست هي غير الذات، وهي بَيْن بَيْن. وهي صفات أزلية قائمة بذات الله.
- القرآن الكريم وصِف بأنه كلام الله.. وهو بالتأكيد “غير” الله، وإلا صار حتمًا أن نقول إمّا أن الله والقرآن متطابقان (وهذا غريب)، أو أن الله غير متكلم (حاشا!) غير أن العقيدة الإسلامية تؤكد أن كلام الله الأزلي “ليس بصوت ولا حرف” لأن الصوت شيء مخلوق يحتاج إلى الهواء كوسط ينتقل خلاله، فخارج الغلاف الجوي لا يسمع أحد شيئًا. وهذا ليس شيئًا غريبًا عن اللاهوت المسيحي، ق أثناسيوس يقول عن المسيح كلمة الله: “كلمة البشر تتكون من مقاطع، ولا تحيا، ولا تعمل شيئًا.. أما كلمة الله فهو ليس مجرد كلمة منطوقة.. ولا هو همس كلمات.. بل هو كإشعاع النور مولود كامل من كامل” (ضد الأريوسيين 2: 35).
- إذا رجعنا إلى الإمام أبو الحسن الأشعري مرة أخرى سنجد أنه يستخدم بعض الأفكار التي قالها اللاهوتيون المسيحيون عن المسيح كلمة الله الأزلي. فالأشعري يميز بين كلام الله (بالمعنى النفسي) وهو الأزلي القائم بذاته، وكلام الله المقروء والملفوظ في القرآن، وهو مخلوق. هذا الوصف المزدوج لكلام الله/القرآن هو ذات الوصف المزدوج الذي نطلقه على السيد المسيح، فهو كلمة الله الأزلي القائم بذات الله، وهو المتجسد المرئي والمخلوق بناسوته البشري من مريم العذراء.
في النقطة الأخيرة يلجأ اللاهوتيون المسيحيون والمتكلمون المسلمون لفكرة تقسيم اللوغوس في الفلسفة الرواقية إلى: اللوغوس الداخلي logos endiathetos أو اللوغوس الملفوظ logos prophorikos.
كلمة أخيرة، الكلام في الإلهيات ليس مجالاً للمكايدة والتحديات الحمقاء، الله سبحانه وتعالى لا يمكن إدراكه أو الإحاطة به علمًا، ولا يمكن سبر غوره بالاستنباط العقلي أو التحليل النظري. إن معرفتنا عن الله هي معرفة استعلانية بالوحي.. لم نصل إليها بجُهد بشري.. كما أن الكلام فيها دائمًا ما يحتاج إلى التقييد qualification نقول ابن وآب وولادة وخروج ونزول واتيان وتفكير.. ليس بالتطابق (أو التواطؤ) مثلما نقول عن البشر أو المخلوقات. إن ما يحدث على السوشيال ميديا من دفاعات ساذجة هو إهانة لذات الله العلي المبارك.. لأنها غير أمينة.. والله اسمه الحق.