جمعة ختام الصوم – ق. كيرلس الأسكندرى – د. نصحي عبد الشهيد
جمعة ختام الصوم
للقديس كيرلس الأسكندرى
(العظة 100 من تفسير إنجيل لوقا)
الرب يفضح الفريسيين
لوقا 30:13ـ35
” في ذلك اليوم تقدم بعض الفريسيين قائلين له ، أخرج وأذهب من ههنا لأن هيرودس يريد أن يقتلك ، فقال لهم امضوا وقولوا لهذا الثعلب ، هاأنا أخرج شياطين وأشفى اليوم وغدًا وفى اليوم الثالث أًكمَّل ، بل ينبغي أن أسير اليوم وغدًا وما يليه لأنه لا يمكن أن يهلك نبي خارجًا عن أورشليم . يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها ، كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا ، هوذا بيتكم يُترك لكم خرابًا ، والحق أقول لكم إنكم لا ترونني حتى يأتي وقت تقولون فيه مبارك الآتي باسم الرب ” .
إن جماعة الفريسيين كانوا أشرارًا ومصممين ومتلهفين إلى الخداع والغش، ويصرون بأسنانهم على المسيح وتشتعل قلوبهم بنيران الحسد حينما يرون الناس يبدون إعجابهم به، مع أن واجبهم كان بالأولى ـ بصفتهم قادة للشعب ويرأسون جموع العامة ـ هو أن يقودوهم إلى الاعتراف بمجد المسيح، لأن هذا كان هو الغرض من سن الشريعة وكرازة الأنبياء القديسين، ولكنهم في شرهم العظيم لم يتصرفوا هكذا، بل بالعكس فإنهم بكل طريقة، أثاروا سخطه باستمرار، ولذلك قال المسيح لهم: ” ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون لأنكم أخذتم مفتاح المعرفة، ما دخلتم أنتم والداخلون منعتموهم” (انظر لو52:11). لأنه يمكن للمرء أن يرى أنهم قد سقطوا في حالة الخبث هذه، وفى وضع مُضاد تمامًا لمحبة الله، حتى أنهم لم يكونوا يرغبون أن يقيم في أورشليم خوفًا من أن يفيد الناس، سواء بملئهم بالدهشة بسبب معجزاته الإلهية أو بإنارتهم بنور الرؤية الصحيحة لله بواسطة تعليم الحقائق التي هي أعلى من تعاليم الناموس. هذه هي الأفكار التي تقودنا إليها الدروس الموضوعة أمامنا الآن إذ يقول النص: ” في ذلك اليوم تقدم بعض الفريسيين قائلين له: اخرج واذهب من ههنا لأن هيرودس يريد أن يقتلك” .
تعالوا لنثبّت عين الذهن الفاحصة على ما قالوه هنا، لنفحص بتدقيق لكي نرى هل الذين قالوا هذا الكلام هم من بين الذين يحبونه أم هم ضمن من يقاومونه. ولكن كما هو واضح فمن السهل أن ندرك أنهم كانوا يقاومونه بشدة. فمثلاً أقام المسيح الميت من القبر مستخدمًا في ذلك قوة هي قوة الله، لأنه صرخ: ” لعازر هلم خارجًا” (يو43:11)، وقال لابن الأرملة: ” أيها الشاب لك أقول قم” (لو14:7)، أما هم فقد جعلوا المعجزة وقودًا لحسدهم، بل إنهم قالوا حين اجتمعوا معًا: ” ماذا نصنع فإن هذا الإنسان يعمل آيات كثيرة، إن تركناه هكذا يؤمن الجميع به فيأتي الرومانيون ويأخذون موضعنا وأمتنا. فقال لهم واحد وهو قيافا ـ الذي كان يخطط لقتله ـ أنتم لستم تعرفون شيئًا، ولا تفكرون أنه خيرٌ لنا أن يموت إنسان واحد ولا تهلك الأمة كلها ” (أنظر يو47:11ـ50).
وهم قاوموه أيضًا بطرق أخرى، أحيانًا بمعاملته بازدراء والاستهزاء بقوته المعجزية، بل والتجاسر على سلطانه الإلهي قائلين إن كل ما يعمله هو بواسطة بعلزبول، بل وسعوا في مرة أخرى إلى تسليمه إلى سلطات القيصر، فلكي يتهموه أنه يمنع الإسرائيليين من دفع الجزية لقيصر، اقتربوا منه بخبث ومكر قائلين: ” أيجوز أن تُعطى جزية لقيصر أم لا ؟” (لو22:20). فهل يمكن إذًا لكل من وضعوا له أنواع الفخاخ هذه، الذين في وقاحتهم وقساوتهم لم يتورعوا حتى عن القتل، الذين لكونهم بارعين في الشر، هاجموه بعنف شديد القسوة، ومارسوا باجتهاد كل هذه الحيل لأنهم يكرهونه كراهية مُطلقة، هل يمكن أن نعتبرهم ضمن من أحبوه ؟
فلماذا إذًا تقدموا إليه قائلين: ” اخرج واذهب من ههنا لأن هيرودس يريد أن يقتلك؟”، وما هو غرضهم من هذا الكلام ؟
إن البشير يخبرنا عن هذا بقوله: “ في ذلك اليوم (تلك الساعة) تقدم إليه“، وما معنى هذه اللهجة المدققة ؟ لماذا كان هذا الإتقان (في التحديد)؟ أو أي يوم (حرفيًا ساعة) يقصد أن الفريسيين قالوا فيه هذا الكلام ليسوع؟ كان يسوع مُنشغلاً في تعليم جموع اليهود، عندما سأله أحدهم إن كان كثيرون هم الذين يخلصون، ولكنه عبر على السؤال كأمر غير مفيد، واتجه إلى ما كان مناسبًا أن يخبرهم به إذ أخبرهم عن الطريق الذي ينبغي للناس أن يسيروا فيه ليصيروا ورثة لملكوت السموات إذ قال: ” اجتهدوا أن تدخلوا من الباب الضيق” وأخبرهم أنهم لو رفضوا أن يفعلوا هذا، فإنهم “سيرون إبراهيم واسحق ويعقوب وجميع الأنبياء في ملكوت الله وهم يُطرحون خارجًا” وأضاف بعد ذلك قوله: ” حيث إنهم كانوا أولين، فسيصيرون آخرين” بسبب دعوة الوثنيين .
أثارت هذه الملاحظات غضب الفريسيين إذ رأوا الجموع تتوب بالفعل، وتقبل الإيمان به بحماس، وأنهم لم يعودوا يحتاجون سوى قليل من التعليم أيضًا ليعرفوا مجده وعظمة سر تجسده الذيٍ يستحق السجود، لذلك إذ كان من المحتمل أن يفقد (الفريسيون) وظيفتهم كرؤساء للشعب، بل وإذ كانوا قد سقطوا بالفعل وطُردوا من سلطانهم على الشعب، وحُرموا من المنافع التي يجنونها منه، لأنهم كانوا محبين للمال وجشعين وباعوا أنفسهم للربح الحرام ـ نراهم وقد تظاهروا بالمحبة له، فتقدموا إليه قائلين: ” اخرج واذهب من ههنا لأن هيرودس يريد أن يقتلك” .
لكن أيها الفريسي صاحب القلب الحجري، لو كنت حكيمًا، لو كنت على دراية حسنة بشريعة موسى الحكيم جدًا، لو أنك ثبّت ذهنك على إعلانات الأنبياء القديسين، لمَا غاب عنك أنه مادام ذهنك مملوءًا مرارةً وحقدًا، فلابد أن تنكشف مشاعرك الكاذبة. إنه لم يكن مجرد إنسان وواحد من الذين يشبهوننا حتى يكون بذلك مُعرضًا للخداع، بل هو الله في شبهنا، هو الله الذي يفهم كل شئ، كما هو مكتوب: ” يعرف الأسرار وفاحص القلوب والكلى” (مز21:43س، مز 1:7)، وهو الذي ” كل شئ عريان ومكشوف له” (عب13:4)، والذي لا يُخفى عليه شئ، لكنك لم تعرف هذا السر الثمين والعظيم، وظننت أنه يُمكنك أن تخدع حتى ذلك الذي قال:” من الذي يُخفى عنى فكره ويُغلق على الكلمات في قلبه ويظن أنه أخفاها عنى؟” (أي 2:38س).
فكيف أجاب المسيح عن هذه الأشياء ؟
إنه أجابهم برفق وبمعنى خفي كما هي عادته، إذ قال: ” امضوا وقولوا لهذا الثعلب“.
أصغوا بانتباه إلى قوة التعبير، لأنه يبدو أن الكلمات المستخدمة كانت موجهة لشخص هيرودس، لكنها بالحرى تشير أيضًا إلى دهاء الفريسيين، لأنه بينما كان من الطبيعي أن يقول: ” قولوا لذلك الثعلب“، فإنه لم يفعل هكذا، بل استخدم بمهارة فائقة نوعًا وسيطًا من التعبير، وأشار إلى الفريسي الذي كان بالقرب منه وقال: ” هذا الثعلب“، وهو يقارن الإنسان بثعلب، لأنه من الثابت أنه حيوان ماكر جدًا، ولو كان لي أن أقول، فهو خبيث تمامًا كما كان الفريسيون، لكن ماذا أوصاهم أن يقولوا (لهيرودس)؟: ” هاأنا أخرج شياطين وأشفى اليوم وغدًا وفى اليوم الثالث أُكمَّل“. أنتم ترون أنه يُعلن قصده في أن يعمل ما يعرف أنه سيُحزن معشر الفريسيين، الذين يريدون طرده من أورشليم لئلا بعمل الآيات يربح كثيرين إلى الإيمان به، لكن حيث إن هدفهم هنا لم يُخفَ عليه لكونه الله، فإنه يعلن قصده في عمل ما يبغضونه ويقول إنه: ” سينتهر الأرواح النجسة ويخلص المرضى من أتعابهم وأنه سيُكمَّل، والتي تعنى أنه بمشيئته سوف يحتمل الآلام على الصليب لأجل خلاص العالم. لذلك كما يبدو، فإنه عرف كيف ومتى سيحتمل الموت بالجسد .
لكن الفريسيين تخيلوا أن سلطان هيرودس سيرعبه، وسوف يخضعه للمخاوف رغم أنه رب القوات الذي يولد فينا شجاعة روحية بكلماته التي تقول:” لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها” (مت28:10)، وأوضح أنه لا يضع اعتبارًا لعنف الناس، بقوله: ” بل ينبغي أن أسير اليوم وغدًا وما يليه“. وبقوله: ” ينبغي لي” فإنه لا يعني بأنها ضرورة حتمية ـ قد وُضعت عليه، بل بالحرى تعنى أنه بسلطان مشيئته الخاصة، وبحرية وبدون تعرض للخطر فإنه سيمضى إلى حيث أراد أن يمضى ويجتاز اليهودية دون أن يقاومه أحد أو يتآمر ضده، إلى أن يقبل نهايته بإرادته الخاصة بالموت على الصليب الثمين.
لذلك فليمتنع قتلة الرب هؤلاء عن التباهي بأنفسهم أو أن يتشامخوا بعجرفة عليه. أنت أيها الفريسي، لم تحرز النصرة على شخص هارب من الألم، أنت لم تمسكه رغمًا عنه، ولم تبسط سيطرتك على من رفض أن يُضبط في شِباك مكرك، بل هو الذي بمحض إرادته ارتضى أن يتألم لأنه متيقن جدًا أنه بموت جسده سيلاشى الموت ويعود ثانية إلى الحياة، فإنه قام من الأموات وقد أقام معه الطبيعة الإنسانية كلها وأعاد صياغتها من جديد إلى حياة لا تفسد.
لكنه يُظهِر أن أورشليم ملوثة بدماء كثير من القديسين فيقول: ” لأنه لا يمكن أن يهلك نبي خارجًا عن أورشليم” وما الذي ينتج من هذا؟ ينتج من هذا أنهم كانوا على وشك أن يسقطوا من عضويتهم في عائلة الله الروحية، وأنهم كانوا على وشك أن يُرفضوا من رجاء القديسين ويُحرَموا تمامًا من ميراث تلك البركات المُذخرة لمن قد خَلصوا بالإيمان. أما عن كونهم كانوا ناسين تمامًا لعطايا الله وجامحين ومتكاسلين من جهة كل شئ يمكن أن ينفعهم، فهذا أظهره بقوله: “ يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها ، كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا، هوذا بيتكم يُترك لكم خرابًا” (لو34:13ـ35). لأن الله علّمهم بواسطة موسى الحكيم جدًا ورتب لهم ناموسًا ليوجههم في سلوكهم ويكون قائدهم ومرشدهم في حياة جديرة بالإعجاب، والذي رغم أنه ليس سوى ظلال لكنه كان يحوى رمز العبادة الحقيقية. فالله قد نصحهم بواسطة الأنبياء القديسين، وكان سيجعلهم تحت الحماية أي تحت سلطانه، لكنهم فقدوا هذه البركات الثمينة بكونهم أردياء في دوافعهم وغير شاكرين ومستهزئين.
ثم يقول الرب: ” إنكم لا ترونني حتى يأتي وقت تقولون فيه مبارك الآتي باسم الرب” (تابع لو35:13) .
فماذا يعنى هذا أيضًا ؟ الرب ينسحب من أورشليم، ويترك أولئك الذين قالوا له اخرج واذهب من ههنا، لأنهم غير مستحقين لحضوره بينهم. وبعد ذلك إذ اجتاز اليهودية وخلّص كثيرين، وأجرى معجزات كثيرة يعجز الكلام عن وصفها بدقة، عاد ثانية إلى أورشليم، هذا حدث عندما دخل جالسًا على أتان وجحش ابن أتان، بينما الجموع المحتشدة والأطفال يحملون في أيديهم سعف النخيل وساروا أمامه وهم يسبحونه قائلين: ” أوصانا لابن داود، مبارك الآتي باسم الرب” (مت9:21). لذلك إذ قد تركهم بسبب أنهم غير مستحقين، يقول إنهم لن يروه إلاّ حينما يكون وقت آلامه قد حل، لأنه مضى أيضًا إلى أورشليم ودخلها وسط التهليل، وفى تلك المرة ذاتها كابد آلامه المُخلِّصة نيابة عنا، لكي بالآلام يُخلص ويجدد ـ إلى عدم فساد ـ سكان الأرض. لأن الله قد خلصنا بالمسيح، الذي به وله مع الآب والروح القدس التسبيح والسلطان إلى دهر الدهور. آمين .