شفاء مريض بركة بيت حسدا – ق. كيرلس الأسكندرى – د. نصحي عبد الشهيد
شفاء مريض بركة بيت حسدا
(المفلوج)
(الأحد الخامس من الصوم الكبير)
للقديس كيرلس الأسكندرى
(جزء من شرح الإصحاح الخامس من إنجيل يوحنا)
الأحد الخامس
شفاء مريض بركة بيت حسدا
(المفــلوج[1])
يو1:5ـ4 ” وبعد هذا كان عيد لليهود فصعد إلى أورشليم. وفي أورشليم عند باب الضأن بركة يُقال لها بالعبرانية بيت حسدا لها خمسة أروقة. في هذه كان مضطجعًا جمهور كثير من مرضى وعمي وعرج وعسم يتوقعون تحريك الماء. لأن ملاكًا كان ينزل أحيانًا في البركة ويحرك الماء فمن نزل أولاً بعد تحريك الماء كان يبرأ من أي مرض اعتراه “.
لم يكن بلا سبب أن يربط الإنجيلى المبارك مباشرة بين ما قيل وبين عودة المخلص إلى أورشليم. لكن ربما كانت غايته أن يوضح كم كان الغرباء متفوقين فى الطاعة على اليهود، كيف كان الفارق كبيرًا بينهم فى العادات والأخلاق، لأنه هكذا نتعلم نحن وليس من طريق آخر، أنه بواسطة حكم الله العادل الذى يربط كل الأشياء معًا ولا يحابى الوجوه، يسقط إسرائيل بحق عن الرجاء، ويدخل محله ملء الأمم. وليس من الصعب أن نصل إلى ذلك بمقارنة الإصحاحات. إذ كشف [الرب] أنه بمعجزة واحدة قد خلّص مدينة السامريين، كما بمعجزة شفاء ابن خادم الملك، نفع بشكل كبير كل الذين كانوا هناك آنذاك. وإذ يشهد الإنجيلى بتلك الأمور لمدى استعداد الغرباء للطاعة، فإنه يعود بصانع العجائب إلى أورشليم، ويقدمه لنا وقد أنجز عملاً من أعمال الله. لأنه يحرر المشلول بشكل عجيب من مرض عُضال يصعب شفاؤه، تمامًا كما أقام ابن خادم الملك من الموت. لكن بينما الواحد ” آمن هو وأهل بيته ” واعترف أن يسوع هو الله، نرى الآخرين والذين من المفروض أن يتعجبوا، نراهم يريدون قتله ويضطهدونه، الأمر الذى يثير دهشتنا، بل ويجدفون متعدين على المحسن إليهم، كما أنهم قد نطقوا فيما بينهم بإدانات أكثر خزيًا لهم، فُوجِدُوا وقد عجزوا عن بلوغ الفهم الذى كان عند الغرباء وميلهم نحو المسيح. وهذا ما قيل عنهم فى المزامير، ” لأنك تجعلهم كتفًا “[2] (مز12:21س). لأنهم إذ جلسوا فى المصاف الأولى بسبب اختيار الآباء، سوف يأتون إلى المرتبة الأخيرة بعد دعوة الأمم. لأنه ” إلى أن يدخل ملء الأمم ” (رو26،25:11).
يو5:5 ، 6 ” وكان هناك إنسان به مرض منذ ثمان وثلاثين سنة . هذا رآه يسوع مضطجعًا وعلم أن له زمانًا كثيرًا “.
إذ كان اليهود يحتفلون بعيدهم عيد الفطير، الذى من عادتهم فيه أن يذبحوا الخراف فى زمان الفصح، رحل المسيح من أورشليم واختلط بالسامريين والغرباء وعلَّم بينهم حزينًا على عناد اليهود. وإذ عاد أثناء عيد الخمسين المقدس، شفى عند مياه البركة ذلك المفلوج الذى كان قد مضى وقت طويل على مرضه، [إذ مضى عليه ثمان وثلاثين عامًا] لكنه لم يكن قد بلغ بعد العدد الكامل للناموس، أعنى أربعة أضعاف العشرة أى أربعين.
هكذا ينتهى سير القصة، لكن واجبنا أن نحوّل الحرف إلى تفسيره الروحى. فكون يسوع يحزن ويرحل من أورشليم بعد ذبح الخراف، ويأتى إلى السامريين والجليليين، كارزًا وسطهم بكلمة الخلاص، فما معنى ذلك، سوى انسحابه الفعلى من بين اليهود، بعد ذبيحته وموته فى أورشليم على الصليب الثمين، حين بدأ فى النهاية يبذل ذاته بإرادته لأجل الأمم والغرباء، وراح يكشف عن ذلك لتلاميذه بعد القيامة، ” إنه سيسبقهم إلى الجليل” (مت28:7). لكن عودته مرة أخرى إلى أورشليم عند تمام أسابيع الخماسين المقدسة، إنما تشير كما فى رموز وغموض، إلى أن هناك ـ بسبب رحمة مخلصنا ومحبته ـ عودة له إلى اليهود فى أواخر عصور هذا العالم الحاضر، وحينئذٍ فإن الذين سيخلصون بالإيمان به، سيحتفلون بأعياد الآلام المخلّصة المقدسة جدًا. لكن كون المفلوج قد شُفى قبل تمام زمان الناموس، إنما يشير بالرمز، إلى أن إسرائيل وقد غضب وجدف على المسيح، سوف يصبح عاجزًا ومفلوجًا يقضى زمانًا طويلاً دون أن يفعل شيئًا ما، ومع هذا لن تكمل عليه العقوبة، بل سوف يتمتع ببعض الافتقاد من المخلص، وسوف يُشفى هو نفسه عند البركة بالطاعة والإيمان.
يو6:5 ” فقال له يسوع أتريد أن تبرا ؟ … ” .
كان الدليل الساطع على منتهى صلاح المسيح أنه لم يكن ينتظر توسّلاً من المرضى، بل كان يُلبى طلباتهم بحنوه ومحبته. لأنه، كما ترون، قد أسرع نحوه حيث يرقد، وتعاطف مع المُتعب. لكن سؤاله عمّا إذا كان المريض يريد شفاءًا، لم يكن من قبيل الجهل بشيء معروف وظاهر للعيان بل سؤال من يريد أن يُحرّك الرغبة الجادة فى الشفاء، ليثير فيه توسلاً باجتهاد أكثر. إن السؤال ما إذا كان المريض يريد أن ينال ما اشتاق إليه كان سؤالاً عظيمًا فى طرحه وقوة تعبيره، إذ للمسيح السلطان على إعطاء الشفاء، وها هوذا مستعد أن يقدم الشفاء، إنما ينتظر فقط طلبة الذى يريد أن ينال النعمة.
يو7:5 ” أجابه المريض يا سيد ليس لي إنسان يلقيني في البركة متى تحرك الماء بل بينما أنا آتٍ ينزل قدامي آخر “.
حوالى عيد الخمسين، كان الملائكة ينزلون من السماء ويحركون الماء فى البركة. وكانت حركة الماء تلك إعلانًا عن حضورهم. وكانت المياه تتقدس بواسطة الأرواح المقدسة، ومن ينزل أولاً من جموع المرضى هناك، كان يصعد وقد شُفى من مرضه الذى كان يزعجه، وكان الشفاء من نصيب واحد فقط، هو من يقتنص الفرصة أولاً، فتتحقق فيه قوة الشفاء. لكن ذلك أيضًا علامة على نفع الناموس بواسطة أيدى الملائكة الذى امتد إلى جنس اليهود وحدهم، ولم يخلّص أحدًا آخر سواهم. لأنه من “دان” وحتى “بئر سبع”، نُطِقَ بالوصايا التى أُعطيت بواسطة موسى، والتى خدمتها ملائكة على جبل سيناء فى تلك الأيام التى عُرفت بأنها الخمسون المقدسة. لهذا السبب فإن المياه أيضًا التى فى البركة والتى لم تكن تتحرك فى أى وقت آخر، كانت تشير إلى نزول الملائكة القديسين فى وقت ما، وإذ ليس للمفلوج أحد يلقيه فى الماء بسبب المرض الذى كان يقعده عن الحركة، كان يتوسل إلى من يشفيه، قائلاً: ليس لى أحد يلقينى فى المياه، لأنه كان يظن أن يسوع سيخبره وينصحه بذلك.
يو8:5، 9 ” قال له يسوع قم احمل سريرك وامشِ. فحالاً برئ الإنسان وحمل سريره ومشى وكان في ذلك اليوم سبت ” .
لله الأمر، وهو يملك أجلّ برهان على القوة والسلطان على الإنسان. لأن “يسوع” لا يصلى لأجل أن يتحرر المريض من سقمه، وإلاّ ظهر كأنه واحد من الأنبياء القديسين، بل هو كرب القوات يأمر بسلطان أن يكون هكذا. مخبرًا المريض أن يذهب إلى بيته متهللاً، وأن يحمل سريره على كتفه، لتتجلى أمام الناظرين قدرته التى شفت المريض. وهكذا فعل المريض ما أُمِر به، وبطاعة وإيمان ربح لنفسه النعمة التى اشتاق إليها طويلاً.
لكن مادمنا نسير قدما لنقدمه كصورة ورمز لجموع اليهود، الذين سينالون شفاءً فى أواخر الدهور: فلنفكر معًا فى شئ يتناسق مرة أخرى مع الأفكار المعروضةهنا، والمماثلة لتلك التى فحصناها من قبل.
فى يوم السبت يشفى المسيح الإنسان، وإذ يُشفى نرى [المسيح] يفرض على المريض أن يكسر الناموس، إذ يأمره أن يمشى يوم السبت، حاملاً سريره، بالرغم من أن الله يعلن بجلاء على فم أحد الأنبياء القديسين ” ولا تحملوا حملاً خارج بيوتكم يوم السبت” (إر22:17). وما من أحد بحسب ظنى يتمتع برجاحة العقل يقول إن المسيح كان محتقِرًا للوصايا الإلهية أو مستخفًا بها، لكن كما فى رمز، كان المسيح يريد أن يعرّف اليهود أنهم سيُشفون بالطاعة والإيمان فى الأزمنة الأخيرة لهذا العالم. لأن هذا بحسب ظنى هو ما يشير إليه “السبت”، إذ هو آخر أيام الأسبوع: وإذ ينالون الشفاء بالإيمان، وإذ تُعاد خلقتهم إلى جدة الحياة، كان من الضرورى أن يصير حرف الناموس القديم بلا تأثير، وأن العبادة الرمزية، كما كانت فى ظلال، والحفظ الباطل للعادات اليهودية، كل هذا لا بد من رفضه. لهذا ـ كما اعتقد ـ فإن الطوباوى بولس قد انتهز فرصة الحديث، فراح يكتب لأولئك بعد الإيمان كانوا يعودون ثانية إلى الناموس: ” أقول لكم إن اختتنتم لا ينفعكم المسيح شيئًا” (غل2:5) ومرة أخرى يقول ” قد تبطلتم عن المسيح، [انفصلتم] أيها الذين تتبررون بالناموس. سقطتم من النعمة” (غل4:5).
يو10:5 ” فقال اليهود للذي شُفي: إنه سبت لا يحل لك أن تحمل سريرك “.
اعتقد أنه من المناسب جدًا أن يصرخ النبى فيهم قائلاً: ” اسمع هذا الشعب الجاهل والعديم الفهم، الذين لهم أعين ولا يبصرون” (إر21:5).
لأنه أى شعب أكثر جهلاً من هذا الشعب؟ أو أشد بلادة منهم؟ لأنهم لم يتطرق إلى ذهنهم حتى مجرد التعجب بقوة الشافى: لكن إذ هم موبخون ويتسمون بالمرارة، وحاذقون فى ذلك وحده، فإنهم يُلقون باتهام كسر الناموس على الذى قد تعافى لتوه بصعوبة من مرض عُضال ظل معه طويلاً وبحماقة يأمرونه أن يقبع مكانه مرة أخرى، وكأن كرامة السبت تُحفظ بأن يبقى الإنسان مريضًا!.
يو11:5 ” أجابهم إن الذي أبرأني هو قال لي احمل سريرك وامشِ “.
تزخر العبارة بأعمق معنى، وتنفر من عناد اليهود. إذ بقولهم إنه ليس شرعيًا أن يحمل المرء سريره يوم السبت إلى بيته، مبتكرين اتهامًا بكسر الناموس ضد الذى شُفى، مما جعله يأتى أمامهم بدفاع أكثر إصرارًا، قائلاً إنه قد صدر له الأمر أن يمشى بواسطة ذاك، الذى استُعلن له بأنه واهب الصحة، وهو يذكر شيئًا من هذا القبيل، عن المستحق كل كرامة. وإنى أقول يا سادة إنه هو كذلك، حتى إن أمرنى أن أخالف السبت، فهو صاحب القوة العظيمة وصاحب النعمة، الذى خلّصنى من مرضى. لأنه إن كان الامتياز فى تلك الأمور لا يخص أى عابر بالصدفة بل يليق بالله الذى له القوة والقدرة، فكيف يخطئ فاعل تلك الأمور؟ أو إن الذى له القوة الإلهية، كيف يمكن أن يشير علىَّ بشيء لا يسر الله؟ إن للحديث فى ذاته معنى ما لاذعًا.
يو12:5، 13 ” فسألوه من هو الإنسان الذي قال لك احمل سريرك وامش. أما الذي شُفي فلم يكن يعلم من هو لأن يسوع اعتزل إذ كان في الموضع جمع”
ذهن متعطش إلى سفك الدماء، هو ذهن اليهود. لأنهم راحوا يتقصون من ذا الذى أمر بذلك، فى تصميم أن يشركوه مع الذى شُفى إعجازيًا [إذ على ما يبدو، كان الرجل الذى تعافى على وشك أن يغيظهم بخصوص السبت، ذاك الذى قد تخلص الآن من أتعاب لا تُحتمل ومن فخاخ صعبة، ونجا من أبواب الموت] لكنه لم يستطع إخبار طبيبه، بالرغم من أنهم استفسروا باجتهاد، إذ كان المسيح قد دبر عن قصد أن يحجب نفسه، حتى يتجنب ثورة غضبهم، وليس كما لو كان يتحمل أى ألم اضطرارى، فلو لم يرد أن يتألم لكان قد هرب، ولكنه اعتزل لكى يقدم مثالاً لنا فى هذا الأمر أيضًا.
يو14:5 ” بعد ذلك وجده يسوع في الهيكل وقال له ها أنت قد برئت. فلا تخطئ أيضًا لئلا يكون لك أشر”.
وكما دبر اعتزاله فى بادئ الأمر، فإنه قد دبّر ظهوره أيضًا، إذ يحدد الزمن المناسب لكل من الأمرين. لأنه لا يليق بمن هو بلا خطية أن يفعل شيئًا دون أن يكون له سبب مناسب. إذن كان السبب فى حديثه إليه أن يقدم رسالة لشفاء نفسه، قائلاً إنه لا يليق به أن يخطئ مرة أخرى، وإلاّ تعذب عذابًا أشد بشرورٍ أعظم من الماضى. فهو هنا يعلّم أن الله ليس فقط يدخر تعديات الإنسان ليوم الدينونة (قابل رو5:2) بل بالأكثر ينذر الذين يعيشون فى الجسد، حتى ” قبل اليوم العظيم الشهير” (انظر أع20:2) يوم ذاك الذى سيدين الجميع. فنحن حينما نعثر ونحزن الله، فإننا كثيرًا ما نُصاب بأذى شديد، وهذا ما يشهد له الحكيم بولس صارخًا: ” من أجل هذا فيكم كثيرون ضعفاء ومرضى وكثيرون يرقدون. لأننا لو حكمنا على أنفسنا لما حُكم علينا ولكن إذ قد حُكم علينا نُؤدب من الرب لكى لا نُدان مع العالم ” (1كو30:11ـ31).
يو15:5 ” فمضى الإنسان وأخبر اليهود أن يسوع هو الذي أبرأه “.
ها هو الرجل يجعل يسوع معروفًا لليهود، لا لكى إذا فعلوا شيئًا ضده يُحسبون مجدفين، بل لكى إذا ما أرادوا هم أيضًا شفاءًا بواسطته أن يعرفوا هذا الطبيب العجيب. تأملوا كيف كان هذا هو هدفه. لأنه لم يأتِ كأحد الساعين لاصطياد خطأ، فراح يقول: ” إن يسوع هو الذى أمره أن يمشى يوم السبت”، بل قال ” هو الذى أبرأه“. لكن كان هذا جزءًا من عمل واحد، هو أن يعرّف الآخرون من هو طبيبه.
يو16:5 ” لهذا كان اليهود يطردون يسوع ويطلبون أن يقتلوه لأنه عمل هذا في سبت “.
لا تحوى الرواية هنا علاقتها البسيطة بجنون اليهود، لأن الإنجيلى لم يكشف فقط أنهم يضطهدونه، بل لماذا احمروا خجلاً لعدم إتمامهم هذا الفعل، قائلاً بتأكيد واضح جدًا ” لأنه كان قد عمل هذا فى سبت“، لأنهم اضطهدوه بحماقة وتجديف، وكأن الناموس حرَّم عمل الخير يوم السبت، وكأنه لم يكن من الناموس أن تعطف على المريض وترأف به، وكأنه تحتم أن تهمل شريعة المحبة والشفقة الأخوية الممدوحة، ونعمة اللطف بطرق شتى. وأى من الأعمال الأخرى الصالحة التى يمكن للمرء أن يبين كيف منعها اليهود بطرق شتى، غير عالمين بقصد واضع الناموس بخصوص السبت. جاعلين حفظه فارغًا للغاية؟ لأنه كما قال المسيح نفسه فى موضع آخر ” ألاّ يحل كل واحد منكم فى السبت ثوره أو حماره من المزود ويمضى به ويسقيه؟ ” (لو15:13). ” وفى السبت تختنون الإنسان، فإن كان الإنسان يقبل الختان فى السبت لئلا يُنقض ناموس موسى: أفتسخطون علىَّ لأننى شفيت إنسانًا كله فى السبت” (يو23:7). وهم بسبب شدة عنادهم وارتباك عاداتهم، يفضّلون البهيمة على الإنسان المخلوق على صورة الله ظانين أن على المرء أن يشفق على خروف يوم السبت، ولا يُلام إذ هو خلصه من جوع أو عطش، بينما يتهمون بتعدى الناموس إلى أقصى درجة، من كان وديعًا صانعًا خيرًا لجاره فى يوم السبت.
لكن لكى نرى أنهم فاقوا الحد فى انعدام الحس، حتى استحقوا بعدل سماع الصوت القائل: ” تخطئون إذ لا تعرفون الكتب ” (مت29:22) فلنفحص الأسفار الإلهية لنرى بوضوح، ان يسوع قد سبق التنبؤ عنه منذ زمان طويل كما فى مثال، أنه لا يحسب للسبت حسابًا. إذ أن الحكيم موسى [كما هو مكتوب] بعد أن طعن فى السن، قد رحل من بين البشر وانتقل إلى المساكن العلوية، بقضاء وحكم الله الذى يضبط الجميع، وورّث يشوع ابن نون أمر قيادة إسرائيل. ولما صنف (يشوع) جيشًا قويًا قوامه عشرة آلاف جندى حول أريحا، مخططًا أن يستولى على البلاد ويهزمها، فإنه قد رتب مع اللاويين (يشوع6) أن يطوفوا بالتابوت حول أريحا ستة أيام كاملة، لكن فى اليوم السابع، أى فى يوم السبت أمر حشود جيشه الكثيرة أن يضربوا بالبوق، فسقطت أسوار المدينة، واندفعوا إليها واقتحموها واستولوا عليها دون الالتفات إلى أمر الراحة يوم السبت، ولم يرفضوا قبول النصر آنذاك، بسبب منع الناموس لهم، بل ولم يرفضوا قيادة يشوع لهم، بل دون ملامة حفظوا أمر الإنسان. وها هو الرمز: أنه حين يأتى الحق، أى المسيح، الذى حطم وقهر الفساد الذى أحاق بطبيعة الإنسان بسبب الشيطان، وإذ يُرى وهو يفعل ذلك فى يوم سبت، كما فيما سبق من بدء الفعل، فى حالة المفلوج، فإنهم قد استاءوا لذلك، وأدانوا طاعة آبائهم، غير محتملين أن تنتصر الطبيعة يوم السبت رغم أنها قُهرت بالمرض، وإلى هذا الحد بلغت غيرتهم فى اضطهاد يسوع الذى كان يصنع خيرًا فى يوم سبت.
يو17:5 ” فأجابهم يسوع: أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل “.
يتحدث المسيح فى يوم سبت لأن معنى الكلمة حتى الآن تشير إلى ذلك، حتى يصبح لقوة الفكرة معناها اللائق، لكن اليهود غير المتعلمين، والذين لم يعرفوا من هو “الابن الوحيد” بالطبيعة، بل كانوا ينسبون إلى الله الآب وحده تسليم الناموس بموسى، مؤكدين أننا ينبغى أن نطيعه وحده، هؤلاء اليهود أراد أن يقنعهم بوضوح أنه يعمل كل الأشياء مع الآب وأن له، فى ذاته، طبيعة ذاك الذى ولده لأنه ليس مختلفًا عنه. وإذ أن له الجوهر نفسه، فإنه لن يفكر أبدًا إلاّ فيما يكون صالحًا لذلك الذى وَلَده. وإذ هو من ذات الجوهر فإنه يفعل الأشياء نفسها، إذ هو نفسه بالحرى مشورة الآب الحية وقوته، وهو مع الآب يعمل الكل فى الكل.
إذن فلكى يطرح جانبًا ثرثرة اليهود الباطلة ولكى يخجل الذين يضطهدونه على هذه الأسس، ظانين أنهم فعلوا صالحًا إذ غضبوا، وكأنه قد ازدرى بكرامة السبت، لذا يقول لهم ” أبى يعمل حتى الآن وأنا أعمل” لأنه أراد تمامًا أن يشير إلى هذا الأمر: إن كنت تعتقد أيها الإنسان أن الله قد خلق كل الأشياء وضبطها بأمره ومشيئته ويأمر الخليقة يوم السبت أيضًا، إذ تشرق الشمس، وتتفجر الينابيع بالمطر، وتعطى الأرض ثمرها، فلا تأبى الإثمار بسبب السبت وتؤدى النيران دورها، وتخدم احتياجات الإنسان بلا مانع، معترفة ومُقرة أن الآب يعمل أعماله الإلهية فى يوم سبت أيضًا. [لهذا يقول لهم] لماذا إذن ودونما تأدب تتهمون الذى لا يزال الله الآب يعمل به كل الأشياء؟ لأن الله الآب لا يعمل بطريق آخر سوى بواسطة قوته وحكمته أى الابن: لهذا يقول ” وأنا أعمل” فهو إذن يخزى مجادلاتهم السخيفة الصادرة عن عقل مضطهديه الطائش، موضحًا أنهم لا يعارضونه هو نفسه هكذا بشدة، بل بالأحرى يتكلمون ضد الآب، الذى كانوا يغارون له وحده، بأن ينسبوا له كرامة الناموس، إذ لم يكونوا بعد يعرفون الابن الذى هو منه وبه بالطبيعة. لهذا السبب هو يدعو الله بشكل خاص أباه الذاتى، ليقودهم إلى هذا الدرس السامى والعظيم جدًا بمهارة فائقة.
يو18:5 ” فمن أجل هذا كان اليهود يطلبون أكثر أن يقتلوه لأنه لم ينقض السبت فقط بل قال أيضًا إن الله أبوه معادلاً نفسه بالله “.
إن ذهن اليهود مختوم عليه بالقساوة، لهذا احتاجوا إلى الشفاء، وهم مرضى جدًا، حتى يسمعوا بعدل الصوت القائل: ” كيف تقولون نحن حكماء” (إر8:8). لأنه كان يجب تلطيف ميولهم ليتحوّلوا بتعقل مناسب إلى التقوى، فإنهم رغم ذلك يخططون لقتل الذى يثبت بأعماله، أنه لم يتعدَ الناموس الإلهى أبدًا، بشفائه إنسانًا فى يوم السبت. واهتاجوا فى غضب بسبب السبت، ووصموه بتهمة التجديف، فأسقطوا أنفسهم فى شباك تعدياتهم ليقعوا فى الغضب الأبدى (قابل أم22:5). إذ كانوا يبدون أتقياء فى انزعاجهم من أنه وهو إنسان يقول إن الله أبوه. لأنهم لم يعرفوا أن الذى أخذ شكل العبد لأجلنا هو الله الكلمة، هو الحياة النابع من الله الآب، أى الابن الوحيد، الذى هو وحده ابن الآب بالطبيعة بحق وبعدل، أما بالنسبة لنا فهو ليس هكذا بأى حال لأننا نحن أبناءٌ بالتبنى. وقد أصعدنا إلى سمو فوق طبيعتنا بمشيئة ذلك الذى كرَّمنا. ونلنا لقب آلهة وأبناء بسبب المسيح الذى يسكن فينا بالروح القدس. وإذ حصروا نظرهم فى الجسد فقط ولم يعرفوا الله الساكن فى الجسد، لم يتحملوا أن تكون قامته فوق طبيعة الإنسان، بقوله إن الله أبوه [لأنه بقوله، أبى، (آية17)، قد أوحى بتلك الفكرة بشكلٍ معقول]، لكنهم يعرفون أن الذى يكون أبوه هو الله، لابد أن يكون معادلاً له بالطبيعة، وفى هذا وحده كان إدراكهم صائبًا: لأن الأمر هو كذلك وليس سواه. وحيث إن الكلمة تحمل هذا المعنى تمامًا، فإنهم يسمعون كلام الحق المستقيم وهم أشد غضبًا.
+++++++
1 من تفسير القديس كيرلس للإصحاح الخامس من الإنجيل حسب القديس يوحنا من آية 1 ـ 18.
2 أى تجعلهم يتولون أى يعطون القفا لا الوجه، فلا يبصرون.