الصوم المقدس ع2 – ق. باسيليوس الكبير – د. جورج عوض
العظة الثانية
الصوم سلاح روحى:
1ـ ” عزوا عزوا شعبى يقول إلهكم طيبو قلب أورشليم” (إش1:40 ـ2)
إن إلقاء الكلمات المُشجّعة تُشدّد العزائم وتشحذ الهمم، وتُحفّز الكسالى والمتوانين على العمل. ومن أجل هذا فإن العسكريين عندما يُعدّون الجيش لمعركة قادمة، فإنهم يشرعون في إلقاء الخطب الحماسية عن ضرورة القتال، ويقدّمون النصائح والوصايا التي لها من القوة أن تجعل الكثيرين في مرات عديدة أن يستهينوا بالموت. أيضًا عندما يقوم المدّربون، بقيادة الشباب الرياضيين في المباريات وهم داخل الاستاد، فإنهم يقدّمون نصائح كثيرة عما يجب أن يفعلوه وأنه ينبغى عليهم أن يبذلوا أقصى جهد لكى يفوزوا ويُتّوجوا، حتى أن الكثيرين عندما يقتنعون بأهمية وشرف الانتصار يستهينوا بالأتعاب الجسدية. وبناء عليه فإننى أُعِد جنودًا للمسيح من أجل الحرب ضد الأعداء غير المرئيين وأحث المجاهدين على التقوى وضبط النفس، لكى ينالوا تيجان البر، لذلك فهناك ضرورة لتقديم النصيحة والإرشاد.
ماذا أريد أن أقول أيها الاخوة؟ إن أولئك الذين يدرسون الأمور الخاصة برياضة المصارعة التي تُمارس في حلبة المصارعة، يعرفون أنه أمر طبيعى إذا حدث إسراف في الطعام فسيزداد وزن الرياضيين، حتى أنه يصعب عليهم المشاركة في المباريات. لكن أنتم لا تُصارعون مع لحم ودم، بل ” مع الرؤساء. مع السلاطين مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر مع أجناد الشر الروحية في السماويات” (أف12:6). إذًا في هذه الحرب من الضرورى ممارسة الصوم وضبط النفس لأن الدسم يُزيد وزن مَن يجاهد، بينما الصوم يقوي الإنسان التقى. حتى أنه على قدر ما يفقد الجسد هذه الزيادة، على قدر ما تشرق النفس بالبهاء الروحى. لأن الانتصار على الأعداء غير المرئيين لا يتحقق بالإمكانيات الجسدية، لكن بإصرار النفس وصبرها على الضيقات.
الصوم رفيق حسنٌ في الطريق:
2 ـ إذًا فالصوم ـ لأولئك الذين يعرفون قيمته ـ هو نافع ومفيد طول العام، لأن الحيّل الشيطانية لن تؤثر في الصائم، وبالأكثر فإن الملائكة الحارسون لحياتنا يظلوا إلى جوار أولئك الذين تنّقوا بالصوم، وبالأولى جدًا الآن حيث انتشرت البشارة في كل المسكونة ولا يوجد مكان في الأرض لم يسمع بالبشارة سواء كان جزيرة أم قارة أم مدينة أم أمة، أو أقصى الأرض. وأيضًا الجنود في معسكراتهم، والمسافرين والبحارة والتجّار، جميعهم قد سمعوا الدعوة المملوءة فرحًا وقبلوها. حتى أنه لا ينبغى لأحد أن يستثنى نفسه من قائمة الصائمين. وهذه القائمة تشتمل على كل الأجناس وكل الأعمار وكل المناصب. إن الذين يسجلون قائمة الصائمين في كل كنيسة هم الملائكة. فلتحذر ـ ربما بسبب شهوة عابرة للأكل ـ أن تفقد تسجيل اسمك، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى ستجعل نفسك في حكم الفارين من الجنديّة. إن الخطر الذي يتعرّض له شخص ترك درعه أثناء المعركة، يُعد أقل إذا ما قورن بترك سلاح الصوم.
فإن كنت غنيًا لا تهين الصوم بأن تستنكف أن تُعِد مائدة تحوى أطعمة للصوم، ترى أنها لا تليق بك ولا ينبغى أن تُبعد هذه الأطعمة من بيتك، كأنها محتقرة بسبب أنها لا تحقق اللذة المرجوّة، حتى لا يُدينك مُشرِّع الأصوام وتعانى من تأديبات كثيرة، مثل أن يُحكم عليك بأمراض جسدية أو أى ظرف آخر مؤلم. وإن كنت فقيرًا، فصُم ولا تخشى سخرية البعض منك بقولهم إنك صائم دائمًا بسبب حالتك المادية. وأقول للمرأة أن تصوم، فالصوم لها مثل التنفس هو أمر طبيعى ومألوف، وللأولاد الذين هم مثل النباتات النضرة الخضراء، يرتون بماء الصوم. بالنسبة للكهنة فإن الألفة القديمة مع الصوم تجعل الأتعاب سهلة. لأن الأتعاب التي تأتى بعد عادات استقرت طويلاً لا تُثير آلام كثيرة عند المتمرنين عليها.
بالنسبة للذين يرتحلون كثيرًا، فإن الصوم هو رفيق حسن للطريق. فكما أن الأطعمة تؤدى بالضرورة إلى زيادة الوزن، هكذا فإن الصوم يجعلهم أقل وزنًا وأكثر حيوية وحركة. ثم أنه عندما يُنادى بحملة عسكرية خارج حدود الدولة، فإن الجنود يُزوّدون بالاحتياجات الضرورية وليست تلك التي تُثير المتع. أما من جهتنا نحن الذين نُحارب ضد الأعداء غير المرئيين، فإنه لا يليق بنا بالأكثر أن نُقبل على الأطعمة، بل يجب أن نكتفى بالاحتياجات الضرورية، كما لو كنا نتدرب في معسكرات. لأن هدفنا هو الانتصار عليهم والانتقال إلى الوطن السماوى.
الصوم وحياة التقوى:
3 ـ ” فاشترك أنت في احتمال المشقات كجندى صالح … وأيضًا إن كان أحد يجاهد لا يكلّل إن لم يجاهد قانونيًا” (2تى5:3). ينبغى علىّ ألاّ أتجاهل ما ورد بخاطرى الآن وهو ما أريد التحدث عنه، أن النصيب المُقَدّم من الأكل للجنود يزداد وفقًا للأتعاب لكن بالنسبة للجنود الروحيين فإن الجندى الذي له طعام أقل له رتبة أعلى. كما أن خوذتنا تختلف جوهريًا عن الخوذة الأخرى التي تتعرّض للتلف، لأن المادة التي تُصنع منها الخوذة هى النحاس، أما الأخرى فقد أُعدت وتثبتت برجاء الخلاص (انظر 1تس8:5). والدرع بالنسبة للجنود العالميين مصنوع من الخشب والجلد، أما بالنسبة لنا فهو ترس الإيمان وقد سُيّج حولنا بدرع البر والسيف الذي نستخدمه في الدفاع هو سيف الروح القدس (انظر أف16:6ـ17). لكننا نجد أن الآخرين يفضلّون السيف المصنوع من الحديد، وبالتالى فإن الطعام بحد ذاته لا يقويهم. لكن الذي يُقوينا نحن هو حياة التقوى، بينما مَن يشتهون الأكل فلهم احتياج لأن يملأوا بطونهم.
إن دوران الزمن يحمل لنا مرة أخرى تلك الأيام الجميلة، وعلينا أن نُقبِل على تعاليم الكنيسة بفرحٍ، كما يفرح الطفل بأمِهِ. لأنه بهذه التعاليم فإن الكنيسة تُطعمنا بالتقوى. إذًا متى صُمت لا تكن عابسًا مثل اليهودى، لكن اجعل ذاتك مُشرقة بالفرح (انظر مت16:6ـ17). بمعنى أنه لا ينبغى أن تحزن لأجل حرمان بطنك من الأطعمة، بل أن تفرح من كل نفسك من أجل المتع الروحية. لأنك تعلم جيدًا أن ” الجسد يشتهى ضد الروح. والروح تشتهى ضد الجسد” (غلا17:5). إذًا لأن كل منهما (أى الجسد والروح) يشتهى ضد الآخر، فلنقلّل من شهوة الجسد، ولنزيد من قوة النفس، لكى نلبس إكليل العفة، حيث إنه بالصوم نحصل على الغلبة ضد الشهوات.
الصوم ونقاوة النفس:
4 ـ إذًا، فلتجعل نفسك مستحقة للتكريم عن طريق هذا الصوم المبارك، ولا تُفسد عفة وطهارة الغد، بسكر اليوم. واعلم أن القول بأنه يحق لنا بعد الصوم أن نغرق في السكر هو بمثابة فكر شرير وخبيث. فكما أنه لا يوجد أحد ـ عندما ينوى أن يتزوج من امرأة وقورة بحسب القوانين ـ يسمح بوجود زانية في بيته، لأن الزوجة الشرعيّة لا تقبل ولا تحتمل أن تسكن مع ساقطة. هكذا يجب عليك أنت أيضًا ألاّ تلجأ أولاً إلى السكر أو تلجأ جهارًا إلى الزنى، أى إلى مصدر الوقاحة وصنو الخداع، إلى الخبل، وإلى قبول كل فكرة مرذولة بكل سهولة، بينما تنتظر الصوم. إن النفس التي تلوثت بالسكر، لا يسكن فيها الصوم والصلاة[1]. إن السيد الرب يقبل في شركته ذلك الذي يصوم، بينما لا يقبل في شركته الدنس والنجس والمدمن. فلو أنك أتيت غدًا ورائحة الخمر تفوح منك، كيف أحسبك صائمًا وأنت في هذه الحالة من السكر الشديد؟ ولا تُقيم حساباتك على أنك مؤخرًا لم تشرب خمرًا بصورة كبيرة، لكن التقييم الحقيقى هو أنك لم تتنقى من إدمان الخمر بعد. في أى وضع يمكن أن أُصنفك؟ هل أضعك ضمن السكارى، أم من ضمن الصائمين؟ لأن حالة السكر السابقة تجذبك نحوها، بينما إتباع نظام التقليل في الطعام يؤكد الصوم. أنك مُستعبد للسكر وستظل محصورًا في ذاتك، لأنه إن كانت رائحة الخمر لازالت في الوعاء، فهذا يُعد دليلاً واضحًا على العبودية. وأقول لك بطريقة مباشرة وبلا مواربة إن أول يوم في الصوم سيكون بالنسبة لك بلا فائدة وغير مناسب، لأن بقايا السكر مازالت موجودة داخلك ” فلا سارقون ولا طماعون ولا سكيرون ولا شتامون ولا خاطفون يرثون ملكوت الله” (1كو1:6). فهؤلاء بدايتهم بل وكل مسيرتهم محتقرة، ومن الواضح أنهم مرذولون.
ما هو النفع لو أنك أقبلت على الصوم وأنت سكران؟ لأنه إن كان السُكر يُبعدك عن الملكوت، فكيف يكون الصوم نافعًا لك؟ ألا ترى كيف أن هؤلاء الأكثر خبرة في ترويض وإعداد الخيول قبل مباريات السباق، يُقلّلون طعام الخيول التي ستشارك في السباق؟ بينما أنت تسرف عمدًا في الشراهة. إنك تتجاوز الخيول بكثير من جهة النهم!. كما أنه ليس من الحكمة في شئ أن تكون البطن مملوءة وثقيلة، ليس لأن هذا غير مفيد في حالة السير فقط، بل ولا في حالة النوم أيضًا، لأن المعدة وهى متخمة لا يمكنها أن تهدأ، لكنك تضطر أن تنقلب مرة إلى هذه الناحية ومرة إلى الناحية الأخرى.
الصوم هو معلّم الهدوء:
5 ـ والصوم يحفظ الأطفال ويُهذب الشباب ويجعل الشيخ أكثر وقارًا. لأن الشيخوخة عندما تكون مُزينة بالصوم، تصير أكثر وقارًا. وهو للمرأة زينة لائقة ومناسبة، ولجام لكل من هم في حالة عنفوان كما يُمثل الصوم حفظًا للحياة الزوجية وغذاءً للبتولية. مثل هذه الأمور ينبغى أن تكون موضع اهتمام كل بيت.
ولنرى كيف تُمارس السياسة في حياتنا العامة؟ تمارس على النحو الذي فيه تصير الأمور مُنظمة ويهدأ الصياح وتنتفى المنازعات ويتوقف الكلام السيئ، يحدث هذا في المدينة كلها ومن نحو كل الشعب. وهل هناك معلّم مثل الصوم يستطيع بحضوره أن يعيد الهدوء لأولادنا الذين يثيرون الضوضاء؟ فهو أيضًا الذي يكبح اضطرابات المدينة عندما تثور ومَنْ مِن أولئك المشاركين في اللهو يستطيع أن يتقدم نحو الصوم؟ وأى رقص ماجن يمكن أن يتناسب مع الصوم؟ فالضحكات الناعمة، والأغانى الهابطة، والرقصات المثيرة للشهوة، هذه كلها ستُطرد خِفيةً من المدينة عندما يحل الصوم كما لو أنها قد هربت من أمام قاضٍ متشدّد.
فلو أن الجميع قبلوا الصوم كمرشد لن تحدث هذه الأفعال ولن يوجد أى شئ يمكن أن يُعيق سيادة السلام الكامل في كل المسكونة، طالما أن الأمم لن تثور الواحدة ضد الأخرى ولن تتصادم الجيوش فيما بينها. لو ساد الصوم، فلن تُصنّع الأسلحة ولن تُقام المحاكم ولن يُسجن البعض، وبصفة عامة لن يصير القفر مكان استضافة للمجرمين ولن تستضيف المدن أصحاب الدسائس ولا البحار ستصير ملجأ للقراصنة.
لو أن الجميع تتلمذوا على الصوم فلن يُسمع مُطلقًا بحسب ما كتب أيوب، صوت محصل الضرائب، وأيضًا لو أن الصوم ساد على حياتنا (أيوب18:3) فلن تصيبها الحسرة أو تصير مملوءة بالتجهم والعبوس لأنه من الواضح أن الصوم سوف يُعلّم الجميع ليس فقط العفة، لكن أيضًا الرحيل الكامل والتغرب عن البخل والطمع وعن كل شر. فلو أننا ازدرينا بهذه الأمور، فلن يكون هناك شيئًا يمكن أن يُعيقنا عن أن نتمتع بسلام عميق ونفس مملوءة بالهدوء.
ثمار الصوم:
6ـ لكن هؤلاء الذين يرفضون الصوم الآن هم من ناحية يسعون نحو الترف والتمتع كسعادة في هذه الحياة، ومن ناحية أخرى يجلبون الكثير من الشرور على أنفسهم وبالأكثر يدمرون أجسادهم. ولتلاحظ من فضلك الفروق بين هؤلاء الأشخاص الذين سيحضرون هذا المساء وأولئك الذين سيأتون في الغد. اليوم ستجدهم منتفخين ووجوههم حمراء جدًا، مُبللين بسبب العرق الكثيف، وعيون زائغة ومحرومة من الرؤية الدقيقة بسبب الظلام الداخلى، لكن غدًا سنجد أشخاص خجولين، وقورين، لونهم طبيعى، ومملؤين بالحكمة والأحاسيس الصادقة، طالما أنه لا يوجد أى علة داخلية يمكن أن تظلم حياتهم.
الصوم هو تشبيه بالملائكة، رفيق الأبرار، حياة العفة. الصوم هو الذي جعل موسى مشرِّعًا. وصموئيل أيضًا هو ثمرة صوم حنة النبيّة التي صلّت إلى الله بعدما صامت قائلة: ” يارب الجنود إن نظرت نظرًا إلى مذلة أمتك وذكرتنى ولم تنسى أمتك بل أعطيت أمتك زرع بشر فإنى أعطيه للرب كل أيام حياته” (1صم11:1). ” وخمرًا ومسكرًا لا يشرب حتى يوم الموت” (انظر قض14:13). الصوم هو الذي أسس ونمّى شمشون العظيم. وحتى ذلك الحين الذي وقف معه آخرين ضد آلاف القتلة من الأعداء، هدم أبواب المدينة وحده والأسوار لم تتحمله بسبب قوة يديه (انظر قض6:14). لكن عندما وقع أسيرًا للسكر والزنا، وقع في أيدى الأعداء بعدما فقد بصره وصار لعبة في أيدى عبيد أمم غريبة (انظر قض12:6ـ25). وبصوم إيليا توقفت السماء عن أن تُعطى مطرًا ثلاث سنين وستة أشهر (انظر 1مل1:17). فقد دعته الضرورة أن يدعو المستمعين إليه إلى صوم انقطاعى عن الأكل بعدما رأى أنه بسبب شهوة الأكل ازداد الظلم والإهانة بين الشعب. بهذا الإجراء توقفت خطيتهم، لأن الصوم قد قطع الطريق نحو تفاقم الشر، كما لو أنه قد قُطع بمقطع حاد.
7 ـ هذا الصوم قد قبله الفقراء والساكنين معكم وشركاء المائدة الواحدة. إنه للعبيد راحة من عناء العمل، وهو للأغنياء شفاء من ضرر النهم، وفي هذا الإطار فإن الصوم يجعل الأمور التي كانت محتقرة قبلاً بحسب العادة، الآن أكثر متعة. والصوم للمرضى هو مصدر الصحة، وللأصحاء هو حفظًا للصحة الجيدة. فلتسأل الأطباء وسيُجيبونك بأن أكثر الأشياء خطرًا على صحة الإنسان هو امتلاء الجسم. من أجل هذا فإن الذين هم أكثر خبرة بالصوم، يتخلّصون من الدهون الزائدة حتى لا تُسحق عافيتهم تحت ثقل الجسم الممتلئ. لأن الحرمان من بعض الأطعمة عن قصد، يؤدى إلى اختفاء الترهل الناتج عن زيادة الوزن، ويمنح غذاء صحى ومريح ونسكى، وهكذا في كل عمل وكل عادة جسديّة يكون الصوم هو أمر مفيد وهو مناسب لكل الأشياء الأخرى. فهو لائق في البيوت وفي السوق، وهو مناسب في الليل وفي النهار، في المدينة والصحراء. إذًا فلنقبل على الصوم بكل الطرق فهو الذي يمنحنا كل الخيرات، ولنقبله بالفرح وفقًا لكلمة الله لكى لا نظهر عابسين، بل نُظهر فرح النفس بدون تكلّف (انظر مت16:6ـ17). ولا أتصور أن الحث على الصوم يحتاج إلى كل هذا الجهاد، إلاّ بسبب التحذير من أن يقع أحد اليوم في رذيلة السكر. لأن الكثيرين يقبلون على الصوم بسبب العادة وبسبب خجل الواحد من الآخر. لكننى أرتعب ممَن يسكرون، فالإسراف في شُرب الخمر هو مثل شئ يتوارثونه فيما بينهم. وهناك بعض الأغبياء الذين يسرفون في شرب الخمر قبل الصوم. ومثل هؤلاء الذين يقومون برحلات بعيدة، فإن البعض من الحمقى اليوم يسرفون في شرب الخمر وقتًا طويلاً قبل بداية الصوم. من ذا الذي يتسم بهذا القدر من الحماقة، حتى أنه قبل أن يشرب يسلك سلوك السكارى غير المتزن؟ لا يوجد. ألا تعلم أن البطن لا تدخر شيئًا؟ البطن هى الرفيق الذي لا يحظى بالثقة. هى الخزينة التي لا تُضبط، لأنه بينما تُملأ بأشياء كثيرة، لا تحتفظ بها وقتًا طويلاً ويصيبها الضرر. انتبه أنت أيضًا لئلا يصادفك ما سيُقال غدًا بشأن السكر، هذه التي قُرئت الآن ” أمثل هذا يكون صوم أختاره” (إش5:58). لماذا تخلط بين الأمور التي لا تقبل الاختلاط؟ وأى علاقة للصوم مع السكر؟ وأى علاقة للسكر مع العفة؟ ” وأية موافقة لهيكل الله مع الأوثان” (2كو16:6). لأن هيكل الله هم أولئك الذين يسكن فيهم روح الله (1كو16:3). بينما هيكل الأوثان هم أولئك الذين يقبلون شركة الرعاع السالكين في الفسق والفجور بسبب السكر.
هذا اليوم هو مدخل للأصوام وبالتأكيد فإن ذاك الذي تدنس عند المدخل لا يستحق أن يأتى إلى المقدسات. لا يوجد عبد يريد أن يكسب رضى سيده ثم يلجأ إلى عدوه باعتباره مدافعًا عنه وشفيعًا له.
السُكر هو عداوة لله لكن الصوم هو بداية التوبة. فلو أنك أردت أن تأتى إلى الله مرة أخرى عن طريق الاعتراف، فينبغى عليك أن تتجنب السُكر حتى لا تتغرب عن الله فيصير تجديدك أصعب. لكن لا يكفى فقط الابتعاد عن الأمور الدنسة ليُمتدح صومك، لكن ينبغى أن تصوم صومًا مقبولاً ومُرضِى أمام الله. الصوم الحقيقى هو في الابتعاد عن الشر وفي عفة الكلمة وفي البُعد عن الغضب وفي الانفصال عن الشهوة وعن التجديف وعن الكذب وعن حلف الزور. البُعد عن كل هذه الأمور، هو الصوم الحقيقى.
8 ـ فلنبتهج في الرب بدراسة كلمات الروح وقبول العادات المخلّصة وبكل تعليم يؤدى إلى تقويم أنفسنا. فلنحترس إذًا من الصوم الذي يسبّبه العوز أو الاحتياج. هذا الصوم لا يتمناه النبى القائل: ” الرب لا يُجيع نفس الصديق ولكنه يدفع هوى الأشرار” (أم3:10). وأيضًا ” لم أر صديقًا تخلى عنه ولا ذرية له تلتمس خبزًا” (مز25:37). لأن ذاك الذي يعرف أن أبناء أبينا يعقوب قد نزلوا مصر بسبب الاحتياج إلى الخبز، لا يمكنه أن يتكلم عن الخبز المادى المحسوس، لكنه يتكلم عن الطعام الروحى والذي به يصير إنساننا الداخلى كاملاً. نترجى ألا يأتى إلينا الصوم الذي هدَّد به الله اليهود ” هوذا أيام تأتى يقول السيد الرب أرسل جوعًا في الأرض. لا جوع للخبز ولا عطشًا للماء. بل لاستماع كلمات الرب” (عا11:8). وقد أثار هذا الجوع، القاضى العادل، لأنه رأى أن الإيمان الحقيقى في أذهان هؤلاء يتلوث بأمور هزيلة، وأن إنسان الخارج يزداد وزنه بصورة ملفتة للنظر ويصير كله جسد ضخم. إذًا كل الأيام القادمة سيُقدِّم لنا الروح القدس وجبة روحية مفرحة في الصباح والمساء[2]. لذلك لا ينبغى أن يتغيّب أحد بإرادته عن هذه البركة الروحية. فلنتناول جميعًا من الكأس الروحى النقى والذي قدمته لنا الحكمة، بعدما فرحنا معًا، لكى ينهل منه كل أحد على قدر ما يستطيع. لأن الحكمة “ ذبحت ذبحها مزجت خمرها” (أم2:9). أى أنه هذا هو طعام الكاملين الذين ” بسبب التمرن قد صارت لهم الحواس مدربة على التمييز بين الخير والشر” (عب14:5). إن الغِنى يتحقق بهذا، طالما أننا قد شبعنا به، ويا ليتنا نكون مستحقين لشركة الفرح ونُحسب ضمن قائمة العرس في شركة يسوع المسيح ربنا الذي له المجد والقوة إلى الأبد أمين.
[1] بحسب فكر آباء الكنيسة، فإن الصوم يصاحبه الصلاة ولا يمكن قبول الواحد دون الآخر.
[2] هذه إشارة إلى الكلمة التي ألقاها القديس باسيليوس، في صباح ومساء اليوم.